الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ۚ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ﴿47﴾ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ﴿48﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وسَتسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ۚ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ﴿47﴾ " أيْ إلي الله تعالى وحده يُرْجَع عِلْم قيام الساعة ، أيْ ساعة حدوث يوم القيامة والتي هي حتما وبكل تأكيد قادمة يوما ما لا شكّ فيها ، حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها ، ولا يعلم موعدها إلا هو سبحانه ، وهذا الإخفاء لها هو من مصلحة الإنسان ، من أجل دَفْع كلّ عاقلٍ لاستمرار الحَذَر والاستعداد الدائم التامّ لها طوال حياته بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام فيَسعد بذلك ، لأنه لا يَعلم متي هي ولا متي موعد موته ، لأنه لو كان يَعلم موعدهما لكان من المحتمل أن يُؤَجِّل الاستعداد لها .. والحكمة في حَتْمِيَّة مَجِيء الساعة هي لكي يتحقّق العدل والحقّ بأن يأخذ كلٌّ حقه ، فمَن عمل خيرا فله كلّ خير وسعادة وزيادة ومَن عمل شرَّاً فليس له إلا كلّ شرٍّ وشقاء يناسب شرّه بكل عدل دون أيّ ظلم ، إذ ليس من المعقول أن تنتهي هذه الحياة وهذا الكوْن المُحْكَم وهذا الخَلْق الدقيق المُعْجِز وكلّ هذه المُعجزات وكل هذه الأحداث هكذا بصورة عَبَثِيَّة فَوْضَوِيَّة ! وإنما مِمَّا يُوافِق العقل والمَنْطِق والفطرة (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ أن يَتَناسَب الختام مع بدء الحياة واستمرارها فيكون في مُنتهي الحِكمة والدقّة والعدل أيضا كما كان الكوْن والخَلْق كذلك دائما من الخالق سبحانه .. " .. وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ .. " أيْ وما تخرج أيّ ثمراتٍ مِن أوعيتها وأغلفتها وقشورها التي هي بداخلها ، وما تحمل من أنثى بني آدم أو غيرهم من مخلوقات في بطنها مِن جنين يتشكّل وينمو فيها ولا تلده إلا بعلمه وإرادته وتيسيره وتوقيته تعالي ، فهو يعلم كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ، فكيف بالذين يعبدون أصناما ونحوها غيره سبحانه والذي له كلّ صفات الكمال الحُسني يُسَاوُون بينه وبين مَن لا علم عنده ولا قُدْرة علي أيّ شيء ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! ولكنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي .. ﴿47﴾ " أيْ يوم القيامة يُنادِي الله أو من خلال ملائكته علي المشركين أيْ الذين أشركوا معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجر ٍأو نجم أو غيره فعبدوها ولم يعبدوه ، فيقول لهم بصورة فيها لوْم شديد كنوع ٍمن التعذيب النفسيّ قبل التعذيب الجسديّ في النار سائلا إيّاهم أين الآلهة التي كنتم تعبدونها وتدَّعون كذبا وزورا أنها التي تستحقّ الطاعة وليس الله تعالي وتعتبرونها شركاء معه في العبادة ؟!! .. " .. قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ﴿47﴾ " أي قالوا علي سبيل الندم والحَسْرة والذلّة والتَّبَرُّؤ التامّ من هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها ياربنا آذَنَّاك أي نُعْلِمك ونُخْبرك بأنه مَا مِنَّا أحد يشهد بأنّ لك شريكا واعترفنا بأنك أنت الواحد القهار ، فكلنا الآن قد رجعنا عن عبادتها وتَبَرَّأنا منها .. هذا ، والنداء عليهم وسؤالهم هو لتَبْكِيتهم وذمّهم وإظهار كذبهم والسخرية منهم وإذلالهم وتعذيبهم نفسيا في هذا الموقف العصيب .. فليَتَّعِظ إذن مَن أراد الاتِّعاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَتعس مِثْل تعاساتهم في الداريْن
ومعني " وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ﴿48﴾ " أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يعبدون غير الله تعالي ما كانوا يعبدونه في دنياهم من أصنام وغيرها ، ولن تنفعهم قطعا بأيّ شيء ولن تنقذهم ممّا هم فيه ، ووقتها غَلَبَ علي ظنهم إلي درجة اليقين أيْ التأكّد دون أيّ شكّ أنهم ليس لهم أيّ مَحِيص أيْ مَهْرَب ومَلْجَأ ونجاة من عذاب النار
لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴿49﴾ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ۚ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴿50﴾ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴿51﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا .. وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وبأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خير بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا أحسنتَ طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴿49﴾ " أيْ لا يَملّ الإنسان دائما من طَلَب وسؤال كلّ أنواع الخير والسعي للحصول عليها ، كصحة أو أموال أو أولاد أو مناصب أو غيرها من خيرات الله في كوْنه ، فهذا من فطرته التي خلقه خالقه تعالي عليها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، فالمؤمن أيْ المُصَدِّق بوجود الله المتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه ما استطاع حين يطلب أيَّ خيرٍ فهو يُحسن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا فيسعد بذلك تمام السعادة فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، وإنْ أصابته فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صَبَرَ عليه واستعان بربه ولَجَأَ إليه ليخرج منه مستفيداً استفادات كثيرة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. أما الكافر ومَن يُشبهه فإنه يَطلب الخير بكلّ جَشَع ونَهَم ودون تَوَازُن ودون أن يَقتنع بالموجود ويُحقّقه بأيِّ وسيلةٍ شَرِّيَّة أم خَيْرِيَّة ويُسيء استخدامه غالبا حيث يستخدمه في الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا يؤمن بالله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره فيفعل ما يريد كأنه لا حساب ، ولا يَشكر ربه حتما عليه لأنه لا يؤمن بوجوده أصلا ، وإذا مَسَّه شَرٌّ ما ، حتي ولو مجرّد مَسّ ولَمْس خفيف أصابه من ضَرَرٍ ما لا يجد مَن يلجأ إليه ويستعين به ولذلك فهو يَئوس أي كثير اليأس أيْ انقطاع الأمل بعقله في الحصول علي أيِّ خيرٍ مستقبليّ يريده أو التخلّص من الشرّ الذي نَزَلَ به ، وأيضا قَنوط أيْ كثير القنوط أي يَظهر بكثرة أَثَر ذلك اليأس العقليّ الفكريّ على وجهه وهيئته بأن تَراه مُنْكَسِرَاً مُتَضَائلاً مَهموما ، واليأس والقنوط يدلّان علي شدّة حزنه وخوفه وفقدانه أيّ رجاء في رحمات الله وأفضاله بسبب أنه لا يؤمن به
ومعني " وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ۚ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴿50﴾ " أيْ وإذا رحمنا هذا الإنسان الكافر ﴿والذي ُذكِرَ في الآية السابقة ، برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ برحمتنا التي وَسِعَت كلّ شيء ، وأعطيناه خيراً ما ، بعد شرٍّ كان قد مسّه أيْ أصابه ، فإنه يقول علي سبيل الغرور والتكبّر وعدم الاعتراف بنِعَمنا التي لا تُحْصَيَ عليه وبَدَلَ أن يشكرنا ، أنَّ هذا الذي ُأعْطِيته هو حقّ لي أستحِقّه وقد جاءني بسبب جهدي وعلمي وفكري وتخطيطي !! فهو لا يعتبره من فضل الله الرزّاق الوهّاب وتيسيره لأسبابه وتوفيقه لها وعوْنه عليها !! وهذا هو حال مَن يكفر أي يُكذب بوجود خالق الخَلْق ومُدَبِّر أمورهم ومُعينهم ومُوَفقهم بما يُسعدهم !! وهذا هو حال المُغْتَرّ الفخور المُتَعالِي بما عنده ، والذي علي كل مسلم مُتمسّك عامِل بكلّ أخلاق إسلامه أن يتجنّبه تماما .. " .. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً .. " أيْ ويضيف إلي قوله السَّيِّء السابق قولا أشدّ سوءَاً وهو أنه مُتَشَكّك من قيام الساعة أيْ حدوث يوم القيامة والبعث بالأجساد والأرواح في الآخرة مُكَذّب بها مُستهزيء بما فيها من حسابٍ وعقاب وجنة ونار .. " .. وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ .. " أيْ ولو افتراضا كان هناك آخرة موجودة كما تَدَّعون أيها المؤمنون وعُدْتُ إلي ربي الذي تَدَّعونه باعتبار أنكم صادقون سيكون لي عنده حتما بالتأكيد الحالة الحَسَنَة وما هو أحسن وأفضل مِمّا أنا فيه مِن نِعَمٍ في الدنيا وذلك لكرامتي عليه إذ لوْلا مَكَانتي عنده ما أعطاني ما هو عندي حاليا فأنا مُسْتَحِقّ له وسيَبقي لي وأكثر منه في الآخرة التي تَدَّعونها !! إنه يَتَوَهَّم أنَّ إعطاء نِعَم الآخرة سيكون مثل إعطاء نِعَم الدنيا !! وهذا مِن شدّة جهله وتكبّره وغروره وجرأته علي ربه وقوله عليه بغير علم وتعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴿50﴾ " أي نُقْسِم أنّنا بكلّ تأكيدٍ سنُخْبِر وسنُعْلِم مثل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين بما عملوا من شرور ومَفاسد وأضرار يستحِقّون عليها بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم أن يذوقوا من كل أنواع العذاب الغليظ أي الفظيع الثقيل الشديد المُخيف المُهْلِك الذي لا يُمكن تَخَيّله ولا الهروب منه ، فهم إذن سيَرون عكس ما كانوا يَتَوَهَّمونه أنّ لهم الحُسني والكرامة حيث سيكون لهم كلّ المَذلّة والمَهَانَة !
ومعني " وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴿51﴾ " أيْ وهذه صفة سيِّئة أخري من صفات الإنسان الكافر إضافة إلي ما ُذكِرَ في الآيتين السابقتين (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ والتي علي كل مسلم أن يتجنّبها تماما ولا يتشبَّه به حتي لا يَتعس مثله تمام التعاسة في دنياه وأخراه ، وهي أنه إذا أنعمَ الله عليه بنِعَمِه المُتعدِّدة التي لا تُحْصَيَ فإنه بدلا أن يشكرها إذا به كلما جاءته نعمة كلما ازداد إعراضاً ونَأْيَاً بجانبه عن ربه ودين الإسلام حيث يري أنه في غِنَي عنهما ولا يحتاج لهما فلقد أخذ ما يريده وانتهي الأمر أي يُعطيهما ظهره ويَلتفت ويَنصرف ويَبْتَعِد عنهما ويَتركهما ويهملهما بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء !! .. وما فَعَل ذلك إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴿51﴾ " أيْ وإذا مَسَّه شَرٌّ ما ، حتي ولو مجرّد مَسّ ولَمْس خفيف أصابه من ضَرَرٍ ما فإنه يكون صاحب دعاء لله كثير جدًا ، فهو يَنسيَ كفره ويَصغر ويتضاءل ويلجأ فوريا بفطرته لربه ولا يلجأ لأحد غيره لأنّ الإنسان حينها لا يَخدع نفسه ، فإذا كَشَفه عنه برحمته عادَ مُسرعا لشَرِّه واستعلائه وعدم شكره !! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، فهو لا يعرف ربه إلا في الشدّة فقط ومضطرا !! لكنه في الرخاء يكفر به ولا يشكره !! .. أمّا المسلم الذي يجتهد في التمسّك بكل أخلاق إسلامه فحاله قطعا لابُدّ أن يكون علي العكس من ذلك تماما ، فهو دائم التواصُل مع ربه وإسلامه ليسعد تمام السعادة في دنياه حيث سيكون له بذلك كل الرعاية والأمن والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرضا والرزق والقوّة والنصر ثم له في أخراه أعلي درجات الجنات ، فهو كلما أنعمَ الله عليه بأيِّ نعمة ازداد شكرا له بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله بأن يستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك سيجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع ٍكما وعد سبحانه ووعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ ولم يَتكبَّر ويَتفاخَر أبدا على غيره ولم يَدَّع أنّ هذه النعمة من كسبه واجتهاده بل يَنسبها دوْما للمُنْعِم خالقه الكريم ، وإنْ أصابته فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صَبَرَ عليه واستعان بربه ولَجَأَ إليه ليخرج منه مستفيداً استفادات كثيرة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿52﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿52﴾ " أيْ قل يا محمد ﷺ ويا كل مسلم مِن بَعده لهؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله تعالى ، وهو قطعا كذلك ، ثم مع هذا كذّبتم به رغم الأدِلّة والبراهين القاطِعَة علي صِدْق ذلك ، والتي منها أنَّ الذي جاءكم به تعرفون صِدْقه تماما وتُسمّونه الصادق الأمين ﷺ ، وأنه مُوافِق للعقل المُنْصِف العادِل وللفطرة بداخل عقولكم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وأنه لم يستطع أيّ أحدٍ أن يأتي بمثله رغم تحديه لكم فهو إذن ليس من كلام البَشَر ولو كان من كلامهم لكنتم أنتم أول مَن يأتي بمثله لفصاحتكم وبلاغتكم ، وأنه لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، ولكنكم مع كل تلك الدلائل ووضوحها وقطعيتها كفرتم أيْ كذّبتم فإذن لا أحد أضلّ أيْ أكثر ضياعاً مِمَّن كان مثلكم هكذا يعيش في شقاقٍ بعيد أيْ في شِقٍّ أيْ جانبٍ بعيدٍ كلّ البُعْد عن جانب الحقّ والعدل والخير والسعادة .. وفي هذا تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿53﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿53﴾ " أيْ سنَستمِرّ زماناً بعد زمانٍ وساعة فساعة في أن نُطْلِع الناس على دلائل وحدانيتنا وقُدْرتنا وعِلْمنا في أقطار ونواحِي السموات والأرض فيما يرونه في كل لحظة من مُخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِرات ، وفي أنفسهم حيث وضعنا فيهم روحا وعقلا وحَوَاسَّاً وقوىً متنوِّعة مُبْهِرَة ، وفي عقاب المُكذبين المُعاندين ونصر الإسلام والمسلمين ، وفي كل ما يُفيد تدبير جميع شئون الكوْن والخَلْق علي أكمل وجهٍ بما لا يُمكن لأيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُكَذّبه .. ولقد صَدَقَ الله تعالى وعْده قطعا حيث في كل ساعةٍ يُرِي ويُطْلِع الناس على أسرار جديدة في هذا الكوْن الهائل وفي أنفسهم بما يكتشفونه بعقولهم بتيسيره سبحانه لهم والتي كلها توضح وتؤكّد لهم أنه الحقّ أيْ أنه تعالي هو الإله الواحد بلا أيّ شريكٍ وأنّ الرسول ﷺ حقّ أيْ صِدْق وجاء بالحقّ وهو القرآن بما فيه من الإسلام الذي كله حقّ حيث يُصلح البشرية كلها ويُكملها ويُسعدها حين تعمل بكلّ أخلاقه وأنّ البعث حقّ والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار كل ذلك صِدْق بلا أيّ شكّ .. " .. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿53﴾ " أيْ ألاَ يَكفي كلّ مسلم كفاية تامّة – ولا يحتاج أبدا لأيّ شهادة أخري مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أيْ الشاهد الذي يَشهد والحاكم الذي يَحكم بينه وبين المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ؟! فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك ، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم ، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به ، وسيُعْطِي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم ، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها ، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بينه وبينهم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أيّ خافية مِمَّا يقوله أو يفعله أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا ومِمَّا يفعله المؤمنون أهل الخير .. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم ، وتمام القَلَق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب والذمّ للمُكذبين ، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ۗ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴿54﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك !
هذا ، ومعني " أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ ۗ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴿54﴾ " أيْ إنَّ المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين هم في شكٍّ مِن لقاء الله تعالي يوم القيامة ، فهم يَستبعدون البَعْث بالأرواح والأجساد بعد موتها وكوْنها ترابا في قبورها ، ولذلك يفعلون في دنياهم ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار لتَوَهُّمهم أنْ لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، رغم أنّ كلّ الأدِلّة تُفيد أنّ اللقاء مؤكَّدٌ حتما لكلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل ! لكنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. والاستفتاح بلفظ " ألاَ " يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال .. " .. أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴿54﴾ " أي إنه سبحانه يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه ، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب ، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه ، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم ، فلا مَفَرّ إذن لهؤلاء المُكذبين ! .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأهل الشرّ أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم .. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.
حم ﴿1﴾ ، عسق ﴿2﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿3﴾ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴿4﴾ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ۚ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿3﴾ " أيْ كما أنزلَ الله إليك أيها الرسول الكريم هذا القرآن العظيم كذلك أنزلَ الكتب والصحف علي كل الرسل الكرام من قبلك وفيها نصائحه ووصاياه وتشريعاته التي تُصْلِح كل البشر بما يُناسِب كلّ عصر وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقها ، فالله تعالي هذه دائما طريقته وعادته فهو من عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة .. إنه كما أوْحَيَ إليهم كتبه منذ آدم ولم يتركهم ، كذلك لم يتركك والبشرية حتي يوم القيامة فأوْحَيَ إليك هذا القرآن الكريم وحَفظه حتي نهاية الدنيا ، وكما نَصَر سابقا المؤمنين المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم علي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين فسيَنصركم حتما أيها المسلمون ، فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا واسْعَدوا ، لأنّ الذي أوْحَيَ إليكم هذا القرآن والذي يدعوكم لخير وسعادة الإسلام والذي يعدكم بهذا النصر ثم أعلي درجات الجنات هو الله العزيز أيْ الغالِب الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويكرمهم ويرفعهم وينصرهم ويَقهر ويذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويخفضهم ويهزمهم ، وهو في كل أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يضع كل أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث .. ثم بناء علي كل ذلك عليكم أن تُحسنوا دعوة الآخرين وتصبروا علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ فهم يعلمون الإسلام من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وهاهو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) فلماذا إذن يكذبونك ويكذبونكم أيها المسلمون وأنتم لم تأتوهم بشيءٍ غريب عنهم لم يسمعوا عنه ولم يعرفوه ؟! ولكنّ سبب ذلك هو تعطيل مَن يُكَذّب لعقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴿4﴾ " أيْ ويؤكّد ما سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة من أنه تعالي هو العزيز الحكيم ، وإضافة إليه ، أنّ كل ما فيهما هو خَلْقه سبحانه وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادر عليه والعالم به وحده ليس معه أيّ شريك .. وكذلك هو العليّ أي المُتَعَالِي والمُتَرَفّع سبحانه عن أن يكون له مُمَاثِل لأنَّ له كلّ صفات العُلُوّ والرِّفْعَة والعظمة والنفوذ والمُلك والسلطان والكمال وهو العظيم أيْ أكبر وأعظم من أن يكون له شريك أو مُعِين أو صاحبة أو ولد .. فبالتالي فاعبدوه واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، وإياكم أن تعبدوا غيره وإلا تعستم تمام التعاسة فيهما (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
أما معني " تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ۚ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿5﴾ " أيْ ومِن مظاهر عُلُوّ شأنه وكمال عظمته تعالي أيضا إضافة إلي ما ُذكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ أنّ السماوات السبع تقترب وتُوشِك أن تتشقّق من فوق بعضها البعض ومن فوق الأرض وتقع عليها قِطَعَاً بسبب شدّة خشيتها من خالقها سبحانه وهيبته وعظمته ، وأنّ الملائكة هي دائمة الذكْر له مُنتظرة لأوامره جاهزة لتنفيذها في أيّ وقت ، وأفضل ذكرها تسبيحه سبحانه أي تنزيهه عن كل صفة لا تليق به وحمده علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي كل خَلْقه ، وهي من وظائفها أيضا – إضافة إلي نَفْع خَلْقه بخدمتهم بتجهيز حركة الكوْن وإمكاناته لهم بأمر الله والتي تُسعدهم في دنياهم وأخراهم – الاستغفار لمَن في الأرض من المؤمنين والدعاء لهم بكل خيرٍ وسعادة ، وأن يشملهم ربهم دائما برحماته وخيراته وتيسيراته التي شملت كلّ شيءٍ من خَلْقه في كوْنه ، وتستغفر حتي لغير المؤمنين مِمَّا يقولونه ويفعلونه بما لا يَليق بعظمة خالقهم تعالي ، لا ليستمرّوا علي كفرهم ! وإنما تطلب لهم الهداية لربهم ولإسلامهم ليسعدوا هم أيضا كالمؤمنين في الداريْن .. " .. أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿5﴾ " .. أيْ بكلّ تأكيدٍ هو الغفور أي الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتعلقا بهم ، الرحيم الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع من أي ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. هذا ، ولفظ " ألا " يُفيد جذب الانتباه ومزيدا من الاهتمام بما سيُقال .. وفي الآية الكريمة تذكير للمسلم ليتشبَّه ببقية خَلْق الله وكل كوْنه في أن يكون دائم الهيبة لربه مع حبه ورجائه وطلب مغفرته ورحمته بالاجتهاد دوْما في فِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة كيف يحيا المسلم مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام ، من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، مع حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴿6﴾ " أي الذين جعلوا لهم آلهة يعبدونها غير الله كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ، وجعلوها أولياء لهم أي أولياء لأمورهم يتوهَّمون أنها تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنع عنهم أيّ ضرر !! وهي لن تمنع قطعا أيّ ضرر عن أيّ أحد يعبدها ولن تحميه وتُطَمْئِنه بأيّ شيءٍ بل هي لا تستطيع حماية ذاتها فكيف بغيرها ؟! وبالقطع أيضا لن تنفع بأيّ شيء ! ألا يَرَوْن أنهم أقويَ منها ؟!! وكيف يكون المعبود أضعف من العابِد ؟!! وكيف يعبدون مخلوقات مثلهم ويتركون عبادة خالقها ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟!! .. " .. اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ .. " أيْ فمِثْل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين السفهاء حتما يَحفظ الله عليهم أعمالهم ويُراقبها ويَعلمها تماما ما ظَهَرَ منها وما خَفِيَ فيُجازيهم عليها بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ شرٍّ وتعاسة في دنياهم وأخراهم .. " .. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴿6﴾ " أيْ ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد ، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة ، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة " لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا ، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي ، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه ، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن ، طريق الهداية أو الضلال ، دون أيِّ إكراه ، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا
وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ومعني " وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴿7﴾ " أيْ وكما أنزلنا إلى الرسل الكرام قبلك نصائح تُصْلِح البَشَر وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن ، كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا (برجاء مراجعة الآية ﴿3﴾ من هذه السورة لتكتمل المعاني﴾ ، وسُمِّيَ قرآناً لأنه مَقْروء ، وَوُصِفَ بأنه عربيّ لأنه باللغة العربية ، لأنها أقوي لغة ، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني ، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر ، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة .. " .. لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴿7﴾ " أيْ لكي تُحَذّر أهل أمّ القري وهي مكة ، فتبدأ بهم حيث هم الأقرب لك ، ثم الأبْعَد فالأبعد مِمَّن حولها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لجميع الناس في كل مكان ، وسُمِّيَت أمّ القري لأنها قِبْلة كل البلاد وأعظمها وأعلاها شأنا وفي مقدمتها مَكانَةً لأنّ فيها بيت الله الحرام الذي يتَّجِه إليه جميع المسلمين .. تُحَذّرهم جميعا من يوم القيامة وهو يوم الجَمْع الذي لا شكّ فيه مُطلقا حيث يُجْمَع جميع الخَلْق للحساب الختاميّ لينال فريق أهل الخير ، وهم الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بربهم وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، الذين عملوا بأخلاق إسلامهم في دنياهم ، تمام السعادة في درجات الجنات علي قَدْر أعمالهم ، إضافة إلي ما نالوه من سعادةٍ في دنياهم بقُرْبهم من ربهم وعملهم بدينهم ، وينال أيضا فريق أهل الشرّ الذين ارتكبوا الشرور والمَفاسد والأضرار ما يُناسبهم مِن عقابٍ في درجات النيران بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، إضافة إلي ما كانوا فيه من تعاسةِ الدنيا بسبب بُعدهم عن ربهم ودينه الإسلام
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام ، فيَشاء الله لهم ذلك ويأذن ، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان ، والحِكمة في سبب الخِلْقَة ، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين ! وذلك في الآيات ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل .. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها .. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾ " ، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿8﴾ " أي أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أي أراده ، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ ، ولو شاءَ أن يَجعل الجميع مُهتدين علي طريق الخير لَفَعَلَ بكلّ تأكيد ! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه ! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة ما ُكتِبَ تحت عنوان : بعض الأخلاقيَّات التي تُسْتَفاد من هذه الآية الكريمة ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَلَٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿8﴾ " " أي ولكنْ لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين ، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر ، بينما مَن لم يشأها ، وهم الظالمون ، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن ، بأيّ نوع من أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير ، في أخراهم ، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها ، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير ، غير الله ، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتِّباع إسلامه .. هذا ، وفي الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا ، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي ، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه ، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن ، طريق الهداية أو الضلال ، دون أيِّ إكراه ، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا
أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا اتَّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ، أي وَلِيّا لأمرك ، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا ، فسيُوَفّر لك الرعاية كلها ، والأمن كله ، والعوْن كله ، والتوفيق والسداد كله ، والرزق كله ، والتيسير كله ، والسَّلاسَة كلها ، والقوة كلها ، والنصر كله ، والسعادة كلها .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم ، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام ، من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، مع حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿9﴾ " أيْ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن لم يتَّخِذوا الله وَلِيَّاً ، بل اتَّخذوا غيره أولياء حيث جعلوا لهم آلهة يعبدونها كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ، وجعلوها أولياء لهم أيْ أولياء لأمورهم يتوهَّمون أنها تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنع عنهم أيّ ضرر !! وهي لن تمنع قطعا أيّ ضرر عن أيّ أحد يعبدها ولن تحميه وتُطَمْئِنه بأيّ شيءٍ بل هي لا تستطيع حماية ذاتها فكيف بغيرها ؟! وبالقطع أيضا لن تنفع بأيّ شيء ! ألا يَرَوْن أنهم أقويَ منها ؟!! وكيف يكون المعبود أضعف من العابِد ؟!! وكيف يعبدون مخلوقات مثلهم ويتركون عبادة خالقها ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟!! فالاستفهام لنفي ذلك ورفضه والتعجب من قبح فعلهم ، هل اتخذوا أولياء غير خالقهم تعالي ؟! .. " .. فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿9﴾ " أيْ فالله وحده هو الوَلِى بحَقّ إنْ أرادوا اتِّخاذ ولياً ، لأنه هو الذي يَتَوَلّيَ ويُدير أمور كلّ خَلْقه وكوْنه علي أكمل وأسعد وجه ، وهو الذي يحيى الموتى من قبورها بعد كونها ترابا بأجسادها وأرواحها للبعث يوم القيامة للحساب الختاميّ كما يَخلق الأجِنَّة في بطون أمهاتها ، وبالجملة هو على كل شيء قدير بتمام قُدْرته وعلمه ولا يصعب عليه أيّ شيءٍ لأنه كامل الصفات ، فهل يَجْرُؤ أيُّ أحدٍ أنْ يَدَّعِيَ أنه يفعل شيئا من ذلك ؟! فمَن أحقّ بالعبادة إذن ؟!!
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴿10﴾ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿11﴾ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ومعني " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴿10﴾ " أيْ عليكم أيّها المسلمون إذا ما اختلفتم في أيِّ أمرٍ من الأمور ، فيما بينكم أو مع غيركم مِن غير المسلمين ، أن تحتكموا فيه إلي الله ، أي تكون مَرْجِعيتكم التي ترجعون إليها وتفكرون في إطارها ولا تخرجون عنها ولا تُخالفونها أبدا هي حُكْم الله أيْ تشريعاته ووصاياه وأخلاقيَّاته التي وَصَّاكم أنْ تعملوا بها في الإسلام .. هذا ، ومن هذه الأخلاق الشوري أيْ تَعَدُّد الآراء من المُتخصِّصين ما أمكن في كلّ موقفٍ لدراسته من كل الجوانب المُمْكِنَة لكي يُؤْخَذ منها بالأنْسَب الذي يُحقّق أفضل النتائج علي أن يتمّ ذلك في إطار نظام الإسلام دون مُخالَفته مع الأخوة والحبّ وصفاء النفوس والحرص التامّ علي تحقيق الأسْعَد للجميع في دنياهم وأخراهم .. هذا ، ويُؤْخَذ أيضا بآراء حتي غير المسلمين ما دام الرأي صوابا ومن صاحب خبرة ولا يُخالِف الإسلام فإنْ خالَفَه في أيِّ شيءٍ فلا يُؤْخَذ مُطلقا به .. كذلك سبحانه هو الذي سيَحْكُم بينكم بتمام عدله يوم القيامة فيما كنتم تختلفون فيه في حياتكم أي يُخالِف بعضكم بعضا فيه حيث يجازي مَن فَعَلَ الخير بكل خير وسعادة ومَن خَالَفَ وفَعَلَ الشرَّ بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب شروره ومَفاسده وأضراره فأحْسِنوا إذن الاستعداد بالاجتهاد في أن تكونوا دائما علي صوابِ وحقِّ وعدلِ وخيرِ الإسلام لا تنحرفوا أبداً عنه .. " .. ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴿10﴾ " أيْ ذلك الحاكم العادل الذي لا حاكم بحقٍّ غيره تعالي المُتَّصِف بكل صفات الكمال عظيم الشأن المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه بكل حِكمة دون أيّ عَبَث وبالتالي فحُكمه هو حتما ودوْما الصواب ويؤدّي بكم أيها البَشَر إلي كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – وليس قطعا آلهتكم التي تعبدونها غيره والتي لا تَقْدِر على شيء – هو ربِّي ليس لي ربّ غيره أيْ وحده الذي يُرَبِّيني وهو خالقي ورازقي وراعيني ومُساعِدي ومُرْشدي لكل خيرٍ وسعادة وعليه وحده لا علي غيره تَوَكَّلْت واعتمدت في جميع شئونى وإليه وحده أُنِيب أى أرجع في كل أمورى وأتوب إليه من أخطائي عائدا له ولإسلامي أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ لأزيل سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتي بتعاسة هذا الخطأ ، فأنا لا أحتاج لأيّ أحدٍ غيره ، وهو بالتالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وأنا أفتخر وأعْتَزّ وأطمئنّ وأسْعَد تماما بكلّ ذلك ، فافعلوا مثلي أيها الناس جميعا لتسعدوا كسعادتي في الداريْن
ومعني " فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿11﴾ " أيْ ومِمَّا يَدلّ أيضا علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة ووحده الحاكِم بينكم بشرعه الإسلام فيما تختلفون فيه ووحده الوليّ بحقّ وعليه التوكّل وإليه الإنابة كما ذُكِرَ في الآيتين السابقتين (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ ، أنه فاطر السماوات والأرض أي خالِقهما سبحانه ومُبْدِئهما – وكلّ الخَلْق فيهما – مِن عدمٍ وعلي غير مثالٍ سابقٍ أيْ لم يُقَلّد أحدا وإنما مِن إبداعه واختراعه تعالي ، فهو قادر علي كل شيء .. " .. جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا .. " أيْ ومِمَّا فَطَرَه فيهما ومِن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي ذلك ، أنه خلق لكم من أنفسكم أي من جنسكم أي إنسانا مثلكم وليس نوعا آخر لا يمكنكم التعايش معه ، وأيضا خَلَقه منكم أي مِن آدم لمزيدٍ مِن الاستشعار بأنَّ هذا المخلوق هو جزء منه مُكَمِّل له فيزداد حبا له وتمسّكا به ، خلق زوجات ، ليَسكن الزوج والزوجة كل منها إلي الآخر أي ليَستقرّ ويَأمن ويطمئنّ ويَهدأ إلي جواره ويَسعد به ويُكْمِل ويُعاوِن بعضهما بعضا في كل شئون الحياة ليسعدا تمام السعادة فيها – ثم في الآخرة – من خلال المودة أي المحبة والرحمة أي اللين والعطف والرأفة والشفقة التي جعلها سبحانه بينهما .. " .. وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا .. " أيْ وكما خَلَقَ لكم من أنفسكم أزواجا ، خلق أيضا للأنعام وهي الحيوانات من جنسها إناثا ، ليحصل التوالُد والتناسُل لتنتفعوا ولتسعدوا بها .. " .. يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ .. " أيْ يُكثركم ويُنمّيكم ويَنشركم ويَخلقكم في هذا الخَلْق باستمرار بسبب هذا التزاوُج الذي يحصل بين ذكوركم وإناثكم .. " .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿11﴾ " أيْ وبالتالي فهو ليس يُمَاثله تعالى شيء من مخلوقاته ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، لأنّ له كل صفات الكمال الحُسني ، وأفعاله أوجد بها هذه المخلوقات المعجزات المُبهرات بلا أيّ شريك .. " .. وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿11﴾ " أيْ ومن صفاته كمال السمع والبصر ، وليس سمعه وبصره محدودا كما خَلَق خَلْقه ، بل هو سبحانه السميع أي الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ والبصير أي الذي يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ ، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، وبالتالي أيضا فهو وحده تعالي المُسْتَحِقّ للعبادة ولإخلاصها له (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿12﴾ " أي هذا أيضا مزيد من البيان والتوضيح والتدْليل والتأكيد لِمَا في الآية السابقة من أنه سبحانه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة وللطاعة حيث له وحده مَقالِيد أيْ مَفاتيح خزائن كل ما في السموات والأرض التي فيها رحماته وخيراته وأرزاقه وتقديراته وتدبيراته وترتيباته للناس وللخَلْق جميعا في كوْنه من أجل منافعهم وسعاداتهم حيث هو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها ، وهو المُرَبِّي لهم والرازق والراعِي والمُعين والمُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال تشريعاته في قرآنه ، فليعبدوه إذن وحده وليتمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ .. " أي كما أنَّ الله تعالي هو وحده الخالِق للكوْن ، فهو أيضا وحده الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه ، إنه يُعِين بكل العَوْن مَن يستعين به ، ويُيَسِّر له الأسباب ، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقه يُعينوه علي ما يريد تحقيقه .. فلماذا إذن يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مما لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضررٍ كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها ؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! ولكنهم قد عَطَّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء ، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء ، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه ! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه ، حتي ولو كان مُشركا أو كافرا ! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه ! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات .. فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم ، ولذا قال : " .. إِنَّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿12﴾ " أيْ هو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته ، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا ، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله .. ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما ، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا ، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة ، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿26﴾ من سورة الرعد ، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل)
شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴿13﴾ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿14﴾ فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿15﴾ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها (برجاء مراجعة الآيات ﴿103﴾ حتي ﴿110﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴿13﴾ " أيْ لقد جَعَلَ الله لكم أيّها الناس وأيّها المسلمون وبَيَّنَ ووَضَّحَ وسَنَّ تشريعا من الدين الذي تدينون به أي تلتزمون ماهو مِثْل ما كان قد وَصَّيَ به كلّ الرسل الكرام قبل رسولكم الكريم محمد ﷺ وأوحاه إليهم ومنهم نوح وإبراهيم وموسي وعيسي ، وهو الإسلام ، والذي هو يشمل نصائحه ووصاياه وتشريعاته التي تُصْلِح كلّ البَشَر بما يُناسب كل عصر وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها ، فالله تعالي هذه دائما طريقته وعادته فهو مِن عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة .. إنه كما أوْحَيَ إليهم كتبه منذ آدم ولم يتركهم ، كذلك لم يترككم أيها المسلمون والبشريّة حتي يوم القيامة فأوْحَيَ إليكم من خلال رسوله ﷺ هذا القرآن العظيم وحَفظه حتي نهاية الدنيا ، وكما نَصَرَ سابقا المؤمنين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم علي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين فسيَنصركم حتما ، فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا واسْعَدوا ، لأنّ الذي أوْحَيَ إليكم هذا القرآن والذي يدعوكم لخير وسعادة الإسلام والذي يعدكم بهذا النصر ثم أعلي درجات الجنات هو الله العزيز أيْ الغالِب الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويكرمهم ويرفعهم وينصرهم ويَقهر ويذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويخفضهم ويهزمهم ، وهو في كل أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يضع كل أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث .. ثم بناء علي كل ذلك عليكم أن تُحسنوا دعوة الآخرين وتصبروا علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ فهم يعلمون الإسلام من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وهاهو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) فلماذا إذن يكذبونكم وأنتم لم تأتوهم بشيءٍ غريب عنهم لم يسمعوا عنه ولم يعرفوه ؟! ولكنّ سبب ذلك هو تعطيل مَن يُكَذّب لعقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ .. " أيْ وتفصيل وتوضيح ما شَرَعه لكم ولهم ولجميع الناس هو أن تُقيموا الدين أيْ أنْ تكونوا جميعا دائما قائمين واقِفَين مستقيمين علي دين الله ، أي دوْما مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يمينا أو يسارا مُسَدِّدِين علي الجهة التي وَجَّهكم نحوها ربكم واختارها لكم وأرشدكم إليها ، وهي جِهَة الدين ، دين الإسلام ، حتي تسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. وكونوا دائما حُنَفاء ، أي مائلين بعيدين عن كل باطل ، عن كل نظامٍ آخر مُخالِفٍ له مُضِرّ لكم يتعسكم فيهما ، فهو الدين الحنيف أي المائل عن أيّ باطل المُتَّجِه باستمرارٍ وثباتٍ نحو كل حقٍّ وعدل وخير وسعادة .. " .. وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ .. " أيْ وإيّاكم ثم إيّاكم أنْ تَتفرّقوا في شأنه وفي قواعده وأصوله وأنتم في إطاره وداخله مسلمين ، أن تختلفوا إلي فرق يُعادِي أو يَكره أو يُقاطِع أو يُقاتِل بعضها بعضا ، أو حتي تختلفوا كما اختلف السابقين قبلكم فتَصِلُوا إلي مرحلة أن يترك بعضكم الإسلام بالكُلّيَّة أو يعبد غير الله كصنمٍ أو حجر أو نحوه ! وإلا لو فعلتم ذلك لضعفتم وتَخلّفتم وانحططتم وذللتم وتعستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم ، بل احرصوا تماما كل الحرص علي الاتحاد والتعاون والإخاء والتحاور والتفاهم والتصافِي والتحابّ وغير ذلك من أخلاقه والتي هي أسباب القوة والرفعة والسعادة في الداريْن .. هذا ، وتَعَدُّد الآراء بما لا يُخالِف الإسلام من أجل الأخذ بالأنْسَب والأصْلَح منها لإسعاد جميع الخَلْق لا يُعَدُّ قطعا من التفرُّق في الدين الذي يُحذّر تعالي منه بل هو المطلوب (برجاء مراجعة الآية ﴿10﴾ من هذه السورة لتكتمل المعاني﴾ .. " .. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ .. " أيْ هو شيءٌ كبيرٌ وعظيم وثقيل وصعب علي عقول المشركين أيْ الذين يعبدون غير الله تعالي كأصنام أو غيرها أن يتركوا ما هم فيه من الشرك ومن أخلاقيّاتٍ فاسدة ضارّة ويتّبعوا الإسلام ورسوله الكريم محمد ﷺ ، لأنهم يعتبرون ذلك خسارة لهم حيث سيَتركون ما هم فيه من منصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره من أثمان الدنيا الرخيصة الدنيئة الزائلة يوما ما ويَتَسَاوَيَ مَن كان منهم سيدا مع عامّة الناس الذين يستعبدونهم وينهبون جهودهم وثرواتهم وخيراتهم !! لقد عَطّلوا بهذه الأغشية التي وضعوها علي عقولهم – وهي الحرص الشديد علي أثمان الدنيا هذه – حُسن التدبّر والتعقُّل في أنهم بإسلامهم سيَصلحون ويَكملون ويَسعدون تمام السعادة في الداريْن !! .. " .. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴿13﴾ " أي هذا إجابة علي سؤالٍ قد يخطر بعقل البعض وهو كيف كَبُر علي المشركين أن يُسْلِموا فيجيب سبحانه شارحا السبب وهو أنَّ مّن يشاء الهداية لله وللإسلام بكامل حرية إرادة عقله يشاؤها الله له أيْ يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه لها ويَجتبيه إليه أي يختاره نحوه وإلي الإيمان به وإلي اتِّباع دينه الإسلام مِن خلال إعطائه هذا العوْن منه والتيسير والتوفيق ، بينما مَن لم يشأها مثل هؤلاء المشركين ومَن يشبههم ، أيضا بكامل حرية إرادة عقله ، لم يُيَسِّرها له (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. وكذلك يَفعل سبحانه مع مَن يُنيب من غير المسلمين أيْ يَرْجِع إليه من غفلته وضلاله وضياعه ويَستفيق ويَستيقظ ويُحسن استخدام عقله ويعود لفطرته بداخل هذا العقل والتي هي مسلمة أصلا ، وأيضا يَفعله بالقطع ومن باب أوْلَيَ مع مَن يُنيب مِن المسلمين وهو الذي جَعَلَ دوْما مَرْجِعِيَّته هي الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) وكان دائما تائبا عائدا إليه وإلي إسلامه أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيل سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادته بتعاسة هذا الخطأ ، فمِثْل هذا يُيَسِّر له تعالي حتماً كلّ الأسباب لأنْ يَسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه .. هذا ، وفي الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا ، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي ، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه ، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن ، طريق الهداية أو الضلال ، دون أيِّ إكراه ، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا
ومعني " وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿14﴾ " أي كونوا أيها المسلمون حَذِرين أشدّ الحَذر من التفرّق في الإسلام ، أي أن تختلفوا إلي فِرَقٍ يُعادِي أو يَكره أو يُقاطِع أو يُقاتِل بعضها بعضا أو حتي تختلفوا كما اختلف بعض مَن قبلكم فتَصِلُوا إلي مرحلة أن يترك بعضكم الإسلام بالكُلّيَّة أو يعبد غير الله كصنمٍ أو حجر أو نحوه ! وسبب هذا التحذير والتنبيه الشديد من الله تعالي أنَّ السابقين لم يختلفوا إلا مِن بعد ما جاءهم العلم أي الإسلام عن طريق رسلهم وعَلِموا منه أنَّ الفُرْقَة ضلالٌ وضياع ومُعاقَبٌ عليها بالخسران في الدنيا والآخرة ومع ذلك تفرّقوا ، فهم لم يكونوا جهلاء بحيث يكون لهم حجّة يتحجّجوا بها أنهم تفرّقوا لأنهم لم يكونوا علي معرفة أنَّ الإسلام يمنعهم من التفرّق – وإنْ كانت حجّة غير مقبولة عند الله لأنّ عليهم التفكير بعقولهم وفطرتهم والبحث والسؤال ليعلموا أين الخير من الشرّ والصواب من الخطأ والسعادة من التعاسة – فليس تفرّقهم إذن بسبب قصورٍ في البيان لهم من ربهم ، وإنما كان السبب الأساسيّ هو البَغْي بينهم أي الظلم والاعتداء فيما بينهم علي بعضهم البعض من أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، ولذلك لم يكن الإسلام ليمنعهم من هذا التفرّق والاختلاف وهم مُصِرّون هكذا تماما عليه بكامل حرية إرادة عقولهم رغم معرفتهم التامّة بأضراره وتعاساته !! .. فإيّاكم ثم إياكم أن تتشبّهوا بهم أيها المسلمون وإلا لو فعلتم ذلك لضعفتم وتَخلّفتم وانحططتم وذَلَلْتم وتعستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم ، بل احرصوا تماما كل الحرص علي الاتحاد والتعاون والإخاء والتشاور والتحاور والتفاهم والتصافِي والتحابّ وغير ذلك من أخلاق إسلامكم والتي هي أسباب القوة والرفعة والسعادة في الداريْن .. " .. وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ .. " أي ولوْلاَ أنَّ الله تعالي قد خَلَقَ الحياة الدنيا والخَلْقَ عليها وجعل لها نظاما مُحَدَّدَاً وجعل لكلّ مخلوقٍ أجلا محددا وجعل الحساب الختاميّ في الآخرة حتي يُعطيه الفرصة ليعود للخير وللسعادة ويُصَوِّب أخطاءه ويترك شروره ، لكن مع بعض الحساب المَبْدَئِيّ في الدنيا بسبب سوء أفعاله فيجد حتما نتائج سيئة مُتْعِسَة من باب قانون الأسباب والنتائج الإلهيّ العادل " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، لوْلاَ كلّ هذا ، لولا هذا النظام الذي وضعه سبحانه للحياة ، وأنه لا يُحاسبهم أوَّلاً بأوَّل ، وأنّ رحمته سبقت غضبه ، وأنّ ذلك قد سَبَقَ في علمه وحُكْمه وحِكْمته قبل بَدْء الخَلِيقة في كلمةٍ من كلامه سبحانه في كتبه التي أرسلها للبَشَر من خلال رسله الكرام وآخرها القرآن العظيم أنَّ الحساب الختامِيّ لخَلْقه سيكون يوم القيامة كما يقول " .. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. " ﴿يونس : 93 ، الجاثية : 17﴾ ، لقَضَيَ تعالي بين الناس أيْ لَحَكمَ وفَصَلَ بينهم فوريا أيْ لَكَانَ في الحال عَذّبهم أو حتي أهلكهم لو كان ذنبهم كبيرا مع أول ما يفعلونه من شرور !! مِن شِدَّة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم علي ذواتهم ومَن حولهم بل وأحيانا علي الكوْن كله (برجاء مراجعة قصة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. أفلا يَتَّعِظ ويَتَدَبَّر أهل الشرّ بهذه الرحمات وبهذا الحلم والإمهال لفتراتٍ طويلة فيعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ؟! .. هذا ، ومعني " .. إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى .. " أيْ يتركهم سبحانه إلي وقت مُحَدَّدٍ وهو موعد نزول العذاب الدنيويّ والذي يكون بكلّ عدلٍ علي قدْر شرورهم سواء أكان بقَلَقٍ وتوَتّر وضيق واضطراب وصراع ونحوه أم باقتتال مع الآخرين أم بعقابٍ تامٍّ يُهلكهم ويَستأصلهم ، أو هو موعد بدء عذاب القبر عند موتهم وانتهاء أجلهم في الدنيا ، أو هو موعد يوم القيامة حيث عذاب جهنم بعد بَعْثهم .. " .. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿14﴾ " أي الذين ورثوا كُتب هؤلاء الذين تفرّقوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، كاليهود الذين جاءوا مِن بعد يهود زمن موسي ﷺ حيث ورثوا التوراة ، وكالنصاري الذين جاءوا من بعد فترة نصاري عيسي ﷺ وورثوا الإنجيل ، وغيرهم مِمَّن يشبههم وسبقوهم وتفرّقوا أيضا في دينهم واختلفوا علي أنبيائهم ولم يَتَّبعوهم ويُحسنوا وراثتهم بالتمسّك بأفضل ميراثٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ وَرَّثُوه لهم وهو الإسلام ، كلّ هؤلاء الوَرَثَة كانوا مثل آبائهم مُقَلّدين لهم في السوء بلا أيّ دليلٍ بل وأسوأ منهم حيث إنهم " .. لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿14﴾ " أي هذا وصفٌ للحال السَّيِّء التعيس الذي فيه مِثْل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أنهم دائما في شكٍّ من كتبه تعالي ومن هذا القرآن مُرِيب أيْ مُؤَدِّي إلي الرِّيبة أي إلي الشكّ ، أيْ شكّ يؤدّي إلي مزيدٍ من الشكّ ، لهم ولغيرهم ، أيْ شكّ كثير أكيد ، شكّ في وجود الله وفي صِدْق كتبه ورسله وصلاحية إسلامه لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها بكلّ مُتغيّراتها في دنياها وأخراها ، وشكّ في وجود آخرة وبَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر مرة أخري بعد موتهم ، وشكّ في وجود حسابٍ وعقاب وجنة ونار ، وما كلّ ذلك الشكّ إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وهذا دائما يجعلهم يعيشون في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كل ألم وكآبة وتعاسة ثم في الآخرة لهم ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. فليَعْتَبِر المسلمون إذن ولا يَتَشَبَّهوا بهم أبدا وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
ومعني " فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿15﴾ " أيْ فإلي ذلك الدين ، دين الإسلام ، الذي أوْحاه الله خالقكم إليكم جميعا أيّها البَشَر مِن خلال رسله وكتبه منذ آدم ويستمرّ بالقرآن حتي يوم القيامة كما ذُكِرَ في الآيتين السابقتين (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ ، والذي يدعو إلي تمام الخير والسعادة في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاقه ، فادْع أيْ فقُم أيها الرسول الكريم وقوموا كلكم أيها المسلمون بدعوة جميع الناس له بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، واستقم واستقيموا عليه كما أمركم ووَصَّاكم ربكم أيْ اجْمَعُوا بين القول والعمل فلا يُخالِف عملكم قولكم أيْ تمسّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم واستمرّوا واثبتوا عليها دون أيّ انحرافٍ عنها ، استمرّوا علي هذا الطريق المستقيم ، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب ، طريق الله والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن ، وكونوا دوْما مُخلصين مُحسنين في كل ذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، لأنّ استقامتكم على ما تدعون إليه أدْعَى إلى قبوله وتصديقكم والاستماع لكم والتأثير فيمَن تدعونهم كما يُثبت الواقع ذلك .. " .. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ .. " أيْ وإيّاكم أن تسيروا خلف شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتفعلوا مثلها سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشر أو صنم أو حجر أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا .. " .. وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ .. " أيْ واذكروا لهم أنكم مؤمنون بكل كتابٍ أنزله الله تعالي وآخرها القرآن الكريم وبما فيه كله وليس ببعضه دون بعض كما يفعل بعضكم لأنّها كلها مصدرها واحد وهو سبحانه ومضمونها واحد وهو الإسلام ، وفي هذا عِزَّة وقوة وثبات علي حقِّ وعدلِ الإسلام مع تأليفٍ لقلوب أهل أيّ كتاب لعل ذلك يُوقظهم من غفلتهم لأنهم إن كانوا مؤمنين حقا بديانتهم وبكتبهم وبرسلهم فعليهم إذن حتما أن يؤمنوا بالقرآن وبالرسول محمد ﷺ لأنّ المصدر واحد !! .. " .. وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ .. " أيْ والتزموا بأمر ووصية ربكم أن تكونوا عادلين صادقين مُحِقِّين تماما معهم ومع جميع الناس في كل أقوالكم وأعمالكم ، فليس لأنهم غير مسلمين أو مُعَادِين أن يكون ذلك سببا لظلمهم ، فالظلم ظلم ومُضِرّ ومُتْعِس حتي مع الدوابّ والجمادات ! وللظالم عقابه والمظلوم حتي ولو كان كافرا سيئا له حقه وتعويضه بصورةٍ ما من الله العادل في الدنيا ، ثم في الآخرة لمَن كان مؤمنا بها .. " .. اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ .. " أيْ وأمرنا أيضا أن نذكِّركم بمُلَخِّص ما في هذه الكتب أنَّ ربنا وربكم وربّ الخَلْق جميعا واحد سبحانه ولا ربّ غيره كما يَدَّعِي البعض منكم وغيركم أي هو خالقنا ومُرَبِّينا وراعِينا ورازقنا ومُرْشدنا لكلّ خيرٍ وسعادة حيث هو العالِم تمام العلم بنا وبما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا في دنيانا وأخرانا من خلال ما وَصَّانا به من الإسلام ، فلماذا إذن لا تُسلمون مثلنا فنكون جميعا مُتَّحِدين في عبادته تعالي كما أننا متحدين في أننا جميعا مخلوقاته وجميعا مُنتظرين أرزاقه ومعوناته وإرشاداته ؟! (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿64﴾ من سورة آل عمران " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، فإنْ أسلمتم سَعِدتم في الداريْن مثلنا وإلا تَعِستم فيهما ، فالله وحده هو المُستَحِقّ للعبادة بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. ثم انتبهوا واحذروا أنه هو الشهيد علينا وعليكم وسيُحاسبكم حيث كذّبتم كتاباً أنزله من عنده وهو القرآن الكريم .. " .. لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ .. " أي هذا شكلٌ مُؤَدَّب من أشكال الدعوة لله وللإسلام يعني أنَّ كلَّ فرد سيتحمَّل نتيجة عمله من خير أو شرٍّ في الداريْن لا يتحمّله عنه أحد غيره مع شموله ضِمْنا إبلاغهم بالترْك والابتعاد لفترةٍ وعدم الرضا عمَّا يقولون والتحذير منه والتهديد بسوء نتائجه ، ليس تَرَفّعا عليهم وتَرْكَاً لدعوتهم لأخلاق الإسلام وإنما لعل هذا الموقف يُوقظهم ويَردّهم لربهم ولإسلامهم فيسعد الجميع بذلك ، بانتشار الخير وإيقاف الشرّ وعدم التّمَادِي فيه .. " .. لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ .. " أيْ أحيانا وعندما يَتَّضِح بلا أيّ شكّ ويَغْلِب علي ظنّ الداعي لله وللإسلام أنّ الحقّ قد ظَهَرَ ووَصَلَ تماما لمَن يدعوهم وأنهم قد وَصَلُوا لمرحلة أنهم فقط يجادلون لا من أجل الوصول للحقّ بالتأكيد لأنهم قد عَرَفوه بالفعل ولكن من أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره حينها يمكنه أن يقول لهم لا حجّة بيننا وبينكم أي لا حوار الآن بالحجَج والأدِلّة فلم يَعُد لذلك فائدة وليس له مكان ومجال بعد كلّ هذا العِناد منكم وسأترككم لفترة تُراجعون أنفسكم وسأستمرّ في دعوتكم مستقبلا بما يُناسب ظروفكم وأحوالكم وأفكاركم فليس بيني وبينكم خصومة دائمة وسأصبر علي ما قد يصدر منكم من أذي ولي بالقطع أجري عند ربي في الداريْن سواء استجبتم أم لا .. " .. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿15﴾ " أي الله تعالى يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة وإليه وحده لا إلي غيره مصير الجميع أيْ مَرْجعهم ونهايتهم بعد موتهم وحينها ستعلمون واقعيا صدقنا وكذبكم ، وسيُجازِى كلّ فريقٍ منا ومنكم بما يستحِقّه من جزاء ، نحن بكل خيرٍ وسعادة في جناته وأنتم بكل شرٍّ وتعاسة في نيرانه بما يُناسب شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. وفي هذا ثقة تامّة بالبعث وبعدل الله وبأنّ الحُكْم سيكون حتما لصالح المسلمين كما أنه تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهم فيهما
أمّا معني " وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴿16﴾ " أيْ والذين يُجادِلون في دين الله ، في الإسلام ، بغير حقٍّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره ، كأنْ يُجادلوا مثلا في وجود الله سبحانه أو أنه ليس واحدا بل آلهة مُتَعَدِّدة أو في صِدْق رسله وكتبه وحدوث البعث بالأجساد والأرواح بعد الموت يوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار أو عدم صلاحية الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة أو ما شابه هذا من أنواع الجدال الذي يريدون به التشويش علي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدونهم ويَخدعونهم ويَنهبون جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم .. " .. مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ .. " أيْ مِن بعد أن استجاب لله ولرسوله الكريم ولدينه الإسلام كلّ أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة الذين أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) وتَدَبَّروا فيما بَيَّنَه لهم سبحانه في الآيات القاطِعَة في كتبه وآخرها القرآن وتَفَكَّروا هم في كلّ مخلوقاته المُعجزات المُبْهرات في كَوْنه .. " .. حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ .. " أيْ كلّ أدِلّتهم هي باطلة زائلة مَهزومة لا بقاء ولا قيمة لها أصلا ، وهي غير مقبولةٍ عند الله تعالى في أحكامه ووَصَاياه وتشريعاته ولا يَصِحّ أنْ يُلْتَفَت إليها أبداً من أيّ صاحبِ عقلٍ سليمٍ في مُقابِل حقِّ الإسلام وصَدْقه وقوة حجّته ، وهي لن تعوق مُطلقا انتشاره رغم كلّ محاولات مُعاداتهم ومُقاومتهم وإساءاتهم هذه له والتي ستَنتهي حتما بالفشل مع الوقت بانتباه المسلمين لها وعوْن ربهم لهم عليها .. " .. وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴿16﴾ " أي وهم بسبب أفعالهم وأقوالهم هذه مُحَاطون بغضبٍ عظيمٍ من الله نازلٍ باستمرارٍ عليهم ، الأمر الذي يُفْقِدهم كلّ عِزَّة منه سبحانه لهم ورِفْعَة ومَكَانَة وعوْن
وتوفيق وسَدَاد وحب ورضا ورعاية وأمن ورزق وقوة ونصر ، ولهم حتما عذاب شديد ، في دنياهم أولا بدرجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين ، وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في أخراهم لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد
اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴿17﴾ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين آيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم ، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام ، من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، مع حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴿17﴾ " أيْ يُبَيِّن سبحانه أنَّ بَعْث البَشَر أيْ إحيائهم بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا عند قيام الساعة أي ساعة يوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار كلّ ذلك حقّ وعدل بلا أيّ شكّ ، وكيف لا يكون حقاً وعدْلاً ومُؤَكَّداً والذي يقول ذلك ويَعِد به هو الله خالق الخَلْق والكوْن الذي لا شكّ فيه ومُنَزِّل الكتاب عليهم مِن خلال رسله أيْ كلّ كتبه وآخرها القرآن ، بالحقّ أيْ بها كلّ صِدْق ، وبها أيضا الميزان أي العدل ؟!! أيْ ستقوم الساعة حتما لكي يَجزيَ أي يُكافِيءَ ويُعطي ويُحاسب تعالي كل فرد بما يَستحقّ ، لكي يأخذ كلّ صاحب حقٍّ حقه والذي قد يكون فاته في الدنيا بظلم ظالمين له ، ويُعاقِبَ كلّ فاعلِ شَرٍّ علي شَرِّه ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم عند أعدل العادلين سبحانه ، فذلك هو تمام العدل ، فلا يُمْكِن ولا يُعْقَل أبدا أن يَنتهي نظام الحياة الدقيق هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر !! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. إنه مِن نِعَم الله علي خَلْقه والتي لا تُحْصَيَ وهو وحده لا غيره خالقهم ومُرَبِّيهم وراعِيهم ورازقهم ومُرْشدهم لكلّ خيرٍ وسعادة أنه لم يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة ، وإنما هو المُنْعِم الرحيم الذي أنزل عليهم منذ آدم كتبه التي كلها مملوءة مُمْتَزِجَة بالحقّ أي الصدق وفيها الميزان أي العدل وما يَزِنُون به كل أقوالهم وأفعالهم ليعرفوا بعقولهم المُنْصِفَة العادلة أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون حياتهم لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، لو عملوا بكل ما فيها من أخلاق ، وما كل ذلك إلا حبا لخَلْقه وحرصا علي إسعادهم فيهما ، فهم صَنْعته وكل صانع يحب لصنعته الأفضل دائما ، ولله المثل الأعلي .. وبسبب كل ذلك فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴿17﴾ " أي إنّ وقتها في علم الله تعالي وحده ، وحتي رسله الكرام لم يعلم أيّ أحدٍ منهم موعدها ، وهذا مِن رحمته سبحانه وحبّه لخَلْقه ، لكي يَتوَقّعوها في كلّ وقت فيُحسنوا الاستعداد الدائم لها بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ فيسعدوا بذلك ، ومَن يَدري ويعلم فلعل موعدها أو موعد ساعة السائل عنها قريب ، أي نهاية أجله في الحياة وموته قد اقترب ، ومَن ماتَ فقد جاءت ساعته وقامت قيامته ، حيث الموت يأتي فجأة وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتما حتي لو تُوُهِّمَ أنه بعيد .. ثم مِن رحمته كذلك بعدم إعلام أحدٍ بها أو بموعد موته أنه لو كان أحدٌ يعلم ما يَحدث في اللحظة المستقبلية لَفَقَدَ الإنسان هِمَّته ونشاطه ولَقَعَدَ يَنتظر ما يعلمه أنه سيَحدث له !! ولَفَقَدَ بالتالي مُتعة الحياة وتنافسها والانطلاق والسعي فيها واستكشافها والتمتُّع بخيراتها والسعادة بها هي والآخرة لمَن يؤمن بها ويعمل لها باستصحاب نوايا خيرٍ بعقله عند كل أقواله وأفعاله الدنيوية .. إنه مِن الحِكمة عدم السؤال عن توقيتها بل السؤال عن كيفية الاستعداد لها ، بالعمل بكلّ أخلاق الإسلام وبحُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، وفي الآية الكريمة أيضا تخويف وتحذير للمُكذبين المُعاندين المُستكبرين ومَن يشبههم الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان والمفاجأة بالساعة
ومعني " يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴿18﴾ " أي الذين لا يُصَدِّقون بحُدوثها يَطلبون مِن المسلمين بصورةٍ فيها تكذيب واستبعاد واستكثار علي الله واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة حدوثها إنْ كانوا صادقين فإن لم تحدث فهم إذن كاذبون ! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في أدِلّة وحتمية وقوعها ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيها ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا بها ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يستعجلون مجيئها ويطلبون رؤيتها لكي يُصَدِّقوها !! مُتَجَاهِلِين تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادِر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر ، وهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم عن تَدَبُّر أيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله المعجزات والتي تُثبت كلها وجوده سبحانه ولم يُحسنوا استخدام هذه العقول ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا .. " أي ولكنّ الذين صَدَّقوا بوجود الله وصَدَّقوا رسله وكتبه ووجود آخرة وحساب وعقاب وجنة ونار ليَأخذ كلّ ذي حقٍّ حقه حيث ليس من المعقول ولا من العدل أن تضيع الحقوق بين الخَلْق وخالقهم هو العدل ذاته ويتساوَيَ المُحْسِن مع المُسِيء فهذا لا يَتَمَاشَيَ مطلقا مع نظام هذا الكوْن الدقيق !! هؤلاء بالقطع مُشفقون منها أي خائفون مع حَذَرٍ وحُسنِ استعدادٍ لها وبالقطع مع حبٍّ لله وتقديرٍ لهيبته وعظمته وأملٍ كاملٍ في رحماته وأفضاله وأرزاقه ، وسبب إشفاقهم هو حَرَجهم من قِلّة أعمالهم الخيرية – رغم كل ما يقدّمونه من خير علي الدوام – بالنسبة لمقامه سبحانه حيث كان عليهم فِعْل المزيد من الخير وخوفهم من بعض تقصيرهم أو عدم إكمال وإحسان كلّ قولٍ وعملٍ ما أمكن وحَذَرهم من الوقوع في أيّ خطأٍ مستقبليٍّ وبالجملة هم دائما مُتواصلون مع ربهم ودينهم وأحاسيسهم مُرْهَفَة تتحرّك وتَتفاعَل بما يناسب الصورة التي يَذكرون الساعة عليها فيستجيبون إمّا بمشاعر حبّ أو هيبة أو حرج أو خوفٍ أو حذرٍ أو مراجعةٍ للذات أو تَدَبّرٍ أو توبة أو أمل أو استبشار أو إحسانِ أقوالٍ وأعمالٍ أو بكلّ ذلك ، وبهذا يحيون حياتهم في سعادة تامّة ويستبشرون بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في آخرتهم .. " .. وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ .. " أي ويفعلون كل ذلك لأنهم متأكدون وعلي علمٍ تام بلا أيّ شكّ من خلال تصديقهم لكتبهم ولرسلهم الكرام وما أبلغوهم به أنها صِدْق وآتية لا مَحَالَة ولذا فهم يُحسنون الاستعداد لها بحُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وفي هذا مدحٌ للمؤمنين وتشجيع لهم من ربهم علي الاستمرار بما هم فيه ليسعدوا في الداريْن .. " .. أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴿18﴾ " أي بينما الذين يُجادلون في الآخرة بالباطل أيْ بما هو كذب وبلا أيّ دليل عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره .. والجدال هو صورة سَيِّئَة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، ويزداد الجدال سوءَاً إذا كان بغير علم ، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم .. هذا ، ولفظ " ألاَ " في اللغة العربية يُفيد التنبيه للاهتمام بما سيُقال بعده .. لا شكّ مثل هؤلاء هم في ضلالٍ بعيد أي ضياع شديد حيث هم بعيدون كلّ البُعْد عن الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة لأنهم لو أحسنوا استخدام عقولهم لعلموا تماما أنّ الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة إلى أن بلغوا ما بلغوا قادر على أن يبعثهم بلا أيّ شكّ .. إنهم أيضا في ضلال بعيد لأنهم يفعلون كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنهم يَتَوَهَّمون أن لا حساب ! وبالتالي ستجدهم دائما وحتما في دنياهم في صورةٍ ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين ، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في أخراهم سيكون لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا عشتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ رعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ ، فكن حريصا دوْما عليها بفِعْل كلّ خيرٍ مجتهدا في ألاّ تخرج عنها أبدا بفِعْل أيّ شرّ ، وإنْ فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعمل وكسب وكرم وبرٍّ وَوُدٍّ وتعاون وغيره
هذا ، ومعني " اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿19﴾ " أي هو تعالي يُوصل خيراته وأفضاله وإحساناته التي يشاؤها لأهل الخير ولكلّ خَلْقه بكلّ لُطفٍ أيْ مِن حيث لا يشعرون دون ثِقَلٍ عليهم وبأسباب مُيَسَّرة كثيرة قد يُدْرِكُون بعضها أو لا يُدركون وقد يكون بعضها ظاهِره شرّ لكنّ باطنه خير كثير فهو يجعل من المِحْنَة مِنْحَة ومن الصعب سهلا ، وهو لطيف أي ليس ثقيلا وإنما يَدخل بخِفّة إلي دقائق الأمور ويَعْرفها بعلمه التامّ سبحانه ، وهو عزّ وجلّ اللطيف تمام اللطف أي الرقيق الرفيق تمام الرِّقّة والرفق .. " .. يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ .. " أيْ ومِن لطفه بهم رزقه لهم .. إنه كما أنَّ الله تعالي هو وحده الخالِق للكوْن ، فهو أيضا وحده الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه ، إنه يُعِين بكل العَوْن مَن يستعين به ، ويُيَسِّر له الأسباب ، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقه يُعينوه علي ما يريد تحقيقه .. فلماذا إذن يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مما لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضررٍ كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها ؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! ولكنهم قد عَطَّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء ، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء ، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه ! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه ، حتي ولو كان مُشركا أو كافرا ! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه ! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات .. فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم حيث هو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته ، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا ، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله .. ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما ، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا ، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة ، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿26﴾ من سورة الرعد ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. " .. وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿19﴾ " أيْ وهو يَفعل كلّ ذلك لأنه هو حتما له كل صفات الكمال الحُسني والتي منها أنه هو وحده القويّ أي العظيم الكامل القوة والتي لا تُقارنها أيّ قوة وما من قوة لأحدٍ أو لشيءٍ إلا مِن قوّته تعالي ، كما أنه هو العزيز أي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر .. واختيار هاتين الصفتين مناسب لختام الآية الكريمة حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ مثلا مِن المُكذبين ومَن يشبههم أنّ لطفه بعباده هو عن عجز أو ضعف فإنه في ذات الوقت قطعا قويّ عزيزٌ لا يَعجز ولا يضعف !! وهو حتما يُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا أحسنتَ طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴿20﴾ " أيْ مِن علامات لُطفه تعالي وحبّه لخَلْقه الذي ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ أنه يشجع الناس علي طَلَب الخير وفِعْله دائما وترْك الشرّ تماما ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، فيُوَضِّح لهم أنَّ هناك مزرعتين تحتاج كلّ منهما إلي حرثها وزرعها والعمل لها لكسب ثمارها والسعادة بنتائجها ، واحدة في الآخرة يوم القيامة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر وكلّ خيرها مُتَزَايِد مُتَجَدِّد مُبْهِر ، وهذه مَن كان يريدها أيْ يريد أجرها وثوابها ونعيمها وما فيها وصَدَّقَ بوجودها فليجتهد إذن في حرثها وزراعتها والعمل فيها بما هو مطلوب لها بأن يكون في حياته الدنيا مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقله في كلّ قولٍ وعملٍ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام ، ومِثْل هذا المجتهد وَعْدٌ علي الله تعالي الذي لا يُخلف وعْده مطلقا أن يزيد له في هذا الحرث الذي يحرثه أي يزيد في توفيقه وعوْنه وتسهيل طرق الخير له وفي ثماره ونتائجه المُسْعِدَة في دنياه ثم أيضا في أخراه يزيد ويُضاعف له قطعا في أجره حيث الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة من أفضاله ورحماته وخيراته سبحانه ، فمِثْله الذي يزرع في الدنيا للآخرة وهو دوْما مرتبط بها تجده بسبب ذلك دائما في ازديادٍ من كلّ هِمَّة ونشاط وقوة وعَزْم وخير وسعادة لتأكّده أنه كلما زاد من عمله الخيريّ كلما ازداد خيرا علي خير وسعادة علي سعادة في دنياه وكلما ازداد استبشارا بما ينتظره في أخراه ، وكل ذلك النجاح الدنيويّ والأخرويّ الذي يحققّه هو بسبب أنه متأكّد تماما من وَعْد ربه في قوله " .. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ .. " وقوله " وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى .. " ﴿محمد : 17﴾ ... وأما المزرعة الثانية فهي مزرعة الدنيا فقط دون ارتباطٍ بمزرعة الآخرة ، فالذي يزرع فيها وحدها ولا يريد الآخرة معها ولا يعمل لها سواء أكان كافرا أيْ غير مُصَدِّقٍ بها أصلا أم مسلما لكنه ناسيا لها بسبب ترْكه لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها أو مَن يشبههم ، فمِثْل هذا سيَأخذ منها علي قَدْر جهوده وقد يأخذ أقلّ أو أكثر بقَدْر ما يشاء الله له برحمته ولمصلحته ولمَن حوله لعله يستفيق ويعود إليه ثم مع الوقت وضعفه الجسديّ والعقليّ يَقِلّ ما يأخذه ويتناقص ثم ينعدم تماما بموته ثم ليس له في الآخرة أيّ نصيبٍ أيْ قَدْرٍ مِن ثوابٍ وخير وسعادة لأنه لم يعمل لها أصلا بل ويُحَاسَب علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم .. فأيّ المزرعتين إذن أفضل ؟! إنه لا مُقَارَنة بكل تأكيد !! إنَّ أيَّ صاحب عقل حتما سيُحسن الاختيار ويختار الأعظم والأدْوَم والأخلد بأنْ يُحسن طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد الله اللطيف سبحانه من عباده وكما يريده إسلامه منهم (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿21﴾ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿22﴾ ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴿23﴾ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿21﴾ " أيْ هل للذين يَعبدون غير الله تعالي آلهة كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها شرعوا لهم دين الشرك الذي هو عبادة وطاعة غيره سبحانه واتّباع نظام مُخالِف لنظامه الإسلام مُضِرّ مُتْعِس والذي قطعا لم يأمر ويَسمح به الله ولم يُوحِه لرسول منهم إليهم ؟! وإذا كان من المستحيل أن يُوصيهم الله به فمن أين إذن أتوا بهذا الدين الذي يدينون به ؟! هل مِن هذه الأصنام التي لا تعقل أيّ شيءٍ أم مِن بَشَرٍ يمرض ويضعف ويموت مثلهم ؟! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ليسعدوا ، إذ كيف يعبدون أصناما أو أحجارا أو نيرانا أو ما شابه هذا ممّا هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم !! فكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ .. " (برجاء مراجعة الآية ﴿14﴾ من هذه السورة " .. وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ .. " ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، ومعني " كَلِمَةُ الفَصْلِ " أي الكلمة الفاصِلَة القاطِعَة الحاسِمة النهائية الحقّ من الله تعالي والتي لا تَرَدُّد ولا تغيير فيها ولا تبديل لها .. " .. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿21﴾ " أي وحتما للظالمين بأيّ صورةٍ من صور الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، عذاب مُؤلِم مُوجِع شديد ، في دنياهم حيث درجة ما من درجاته تَتَمَثّل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين ، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في أخراهم سيكون لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم
ومعني " تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿22﴾ " أيْ في يوم القيامة ، وفي اليوم الذي يَنْزِل فيه بهم عقاب الله الذي يُحَدِّده لهم في الدنيا مُقابِل ظلمهم ، تُشاهد أيها المُشاهِد حين تَراهم تجدهم مُشفقين أي خائفين مَرْعوبين حَذِرين مُتَرَقّبين أشدّ الخوف والرعب والحذر والترقّب بسبب ما فعلوا من شرور ومَفاسد وأضرار يعلمونها جيدا ، والعذاب الذي يستحِقّونه بما يُناسِب أعمالهم هو حتما نازِلٌ بهم نازلٌ بكل تأكيد سواء خافوا أم لم يخافوا وليس لهم منه أيّ مَفَرّ ولا نجاة فلن ينفعهم إذن أيّ إشفاق .. " .. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ .. " أيْ أمَّا الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، وعملوا الصالحات أي تمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل ، فمِثْل هؤلاء بالقطع هم عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم في رَوْضاتِ الجنات جمع رَوْضَة وهي الحديقة المليئة بكل ما هو مُبْهِج من نباتات وزهور وزروع وأشجار وطيور وقصور وأنهار وينابيع ونحو ذلك يسعدون فيها سعادة غامِرَة ويُنَعَّمُون ويُكْرَمُون أعظم التَّنَعُّم والتكريم بما يَرونه ويَشاؤنه ويُريدونه بمجرّد تَمَنِّيه حتي دون طَلَبٍ مِن كلّ أنواع النعيم ممَّا لا عيْن رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر ، وكل ذلك بالقطع هو إضافة لأسعد حياة دنيوية كانوا فيها كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق : " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ﴿النحل : 97﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿22﴾ " أيْ هذا هو بحقٍّ وبكلّ تأكيدٍ العطاء العظيم الهائل الكامل المُتَضَاعِف المُتَزَايد الذي لا يمكن تَصَوّره ومعرفة قدْره لأنّ الخالق ذاته هو الذي وَصَفَه بالكبير .. إنه لهم في أخراهم بعد الذي كان لهم منه في دنياهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح حيث كانوا في تمام الخير والسعادة
ومعني " ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴿23﴾ " أيْ ذلك الفضل الكبير الأكيد هو ما يُبَشِّر الله به المؤمنين بربهم العامِلين بأخلاق إسلامهم ، هو الخَبَر السَّارَّ منه تعالي لهم ، لينتظروه دائما مُستبشرين مُتفائلين سعداء ويزدادوا به هِمَّة ونشاطا في التمسّك بدينهم ليزدادوا خيرا علي خيرٍ وسعادة علي سعادة في الداريْن .. " .. قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا .. " أيْ قل للناس جميعا يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلم مِن بعده – وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ مِن علامات صِدْقي أني لا أسألكم أيّ أجرٍ علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللقرآن وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم بأخلاقه !! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً ما كنت سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا !! .. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا ، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة .. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره ! .. " .. إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ .. " أيْ لا أسألكم أيَّ شيءٍ إلا طَلَباً واحدا وهو ليس بأجرٍ وهو لمصلحتكم ولسعادتكم حتما وهو مراعاة المَحَبَّة والوُدّ والتواصُل في حقِّ الأقارب لكم والمحيطين بكم ومَن يدعونكم للخير ومن أجلهم بأنْ تُحسنوا معاملتهم بسبب ما بينكم وبينهم مِن قَرابَة وصِلاَت وكذلك التّوَدُّد إلى الله فيما وبما يقرّبكم إليه بالإيمان به والتوكّل عليه والتمسّك بأخلاق دينه الإسلام ، لتسعدوا بكل ذلك تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، فلا أريد منكم شيئا غير ذلك .. " .. وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا .. " أي وأيضا من فضلنا الكبير وكرمنا وإنعامنا الذي لا يُحْصَيَ أنه مَن يَعمل ويَكسب ويَفعل أيَّ حسنةٍ أيْ فِعْلَة أو قَوْلَة حَسَنَة جميلة أيْ خيرٍ من أيّ نوع نَزِد ونُكْثِر في توفيقه وعوْنه وتسهيل طرق الخير لها ولغيرها من الحسنات وفي ثمارها ونتائجها المُسْعِدَة في دنياه ثم أيضا في أخراه نَزِد ونُضاعِف له قطعا في أجره حيث الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة .. " .. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴿23﴾ " أيْ هو تعالي يفعل كل ذلك لأنّه هو الذي له كل صفات الكمال والتي منها أنه غفور أي كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، ورحيم رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوْسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ ، وذلك لأنه أثناء تجارة عباده المؤمنين المُرْبِحَة معه تعالي بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام قد يَقعون في بعض الذنوب فهو يغفرها لهم .. وهو أيضا شكور أي كثير الشكر أي يَقبل القليل من عمل الخير ويُعطي عليه العظيم من العطاء من كل أنواع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة بما يُناسب كرمه وعظمته وبما يدلّ علي عظيم شكره الشديد لمَن يَفعل أيّ خيرٍ حتي ولو كان قليلا ليكون تشجيعا له علي الاستمرار فيه والزيادة منه فتزداد بذلك سعادة فاعله في الداريْن
أمّا معني " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿24﴾ " أي هل يُصَدِّق ويَعترف المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن بأنَّ هذا القرآن العظيم هو من عند الله تعالي بلا أيّ شكّ أم يقولون أنَّ الرسول ﷺ هو الذي افتراه علي الله أي اختلقه كذبا من عنده ثم ادَّعَيَ أنه منسوب إليه سبحانه ؟! إنه استفهام للتَّعَجُّب وللنفي الشديد لِمَا يقولون ، وهم يعلمون ويعترفون تماما أنه ﷺ هو الصادق الأمين !! فيَرُدّ عليهم سبحانه ، مُثْبِتَاً افترائهم هم أيْ كذبهم الشديد واستحالة تماما افترائه ﷺ ، بما هو عقليّ مَنْطِقِيّ فيقول : " .. فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ .. " أيْ هو قادرٌ حتما عندما يشاء علي هزيمة وفَضْح ومَنْع مَن يفعل ذلك – بما فيهم أنت يا رسولنا الكريم – بأنْ يُغْلِق عقله فيَنْسَيَ القرآن ولا يَقْدِر علي قوله والنطق به والاستمرار في الدعوة إليه لأنَّه تعالي لا يمكن قطعا أن يترك أحدا يَفتري عليه الكذب ويستمرّ في كذبه ويُؤيّده وينصره !! إنَّ هذا يَستحيل أن يقبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل !! .. " .. وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ .. " أيْ فالله تعالي مِن شأنه وعادته وطريقته أنه حتما يزيل الباطل وينصر الحقّ بكلماته أيْ بالقرآن وبتأييداته ومعوناته ومعجزاته في كوْنه ، بالتوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا ، حتي يسعد الناس بذلك في الداريْن ، وبما أنه لم يَختم سبحانه علي عقل الرسول ﷺ – ومَن يَتشبَّه به مِن المسلمين – بل علي العكس نَصَرَه وأيّده ونَشَرَ الإسلام علي يديه فهو إذن علي الحقّ بكل تأكيد !! وهذه أعظم شهادة منه تعالي له وللمسلمين أنهم علي الحقّ التامّ .. " .. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿24﴾ " أيْ وذلك الذي سَبَقَ ذِكْره لأنه لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة ، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يستحِقّونه من كل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴿25﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا ، ومعني " وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴿25﴾ " أيْ هو الخالق الغفور الرحيم الذي لا يرفض أبدا وبكل تأكيد التوبة مِمَّن يتوب إليه أيْ يرجع ويندم ويَعْزِم بعقله علي عدم العودة للشرّ ويستغفر ويَرُدّ الحقوق إلي أصحابها إنْ كان الذنب متعلقا بحقٍّ ما لأحد ، بل يقبلها ويرضيَ بها ويوافق عليها ويعفو عن كل السيئات السابقة أيْ الشرور والمَفاسد مهما كبرت وعظمت أيْ يُسقطها ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها ويُسامح فاعلها بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده .. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَقَنطَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير ! (برجاء أيضا مراجعة الآية " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " ﴿الزمر : 53﴾ ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴿25﴾ " أيْ هو عالمٌ حتما بجميع الذي تفعلونه وتقولونه أيها الناس مِن خيرٍ وشرٍّ فلا يَخفيَ عليه أيّ شيءٍ منه ومع هذا يتوب على مَن تاب إليه ، وفي هذا أيضا – إضافة إلي الرحمة الواسعة – تحذير من التّمَادِي في تأخير التوبة وارتكاب الشرور فكأنه تعالى يقول لقد فتحتُ لكم باب التوبة واسعا فسارعوا إليه وافعلوا الخير واتركوا الشرّ فإني عليم بما تفعلونه وسأجازِى كلّ إنسان بما يستحِقّه من ثوابٍ أو عقاب في دنياه وأخراه
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائمَ الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء مِن رعايةٍ وأمن وحب وعوْن وتوفيق وسداد ورزق فهو خالق كلّ شيءٍ ومالكه والقادر عليه
هذا ، ومعني " وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴿26﴾ " أيْ والذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، وعملوا الصالحات أي تمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كلّ أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل ، فمِثْل هؤلاء بالقطع يَستجيبون ويَنقادون لِمَا يدعوهم إليه ربهم من دوام التواصُل معه والدعاء له والتوبة والرجوع إليه والتمسّك والعمل بدينه ، لأنَّ ما معهم مِن الإيمان والعمل الصالح يَدفعهم لذلك ويُعينهم عليه ويُسَهِّله لهم ، لأنهم أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا وصَدَّقوا ما وَصَّاهم به ربهم أنهم سيسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم بإسلامهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. كذلك من معاني الآية الكريمة : ويَستجيبُ سبحانه مِن الذين آمنوا دعاءهم (برجاء مراجعة الآية " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ .. " ﴿غافر : 60﴾ ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ .. " أيْ وبما أنهم قد استجابوا له ، وهو الذي له كلّ الصفات الحسني والتي منها أنه الغفور الشكور ، فإنه يشكر لهم ذلك بأن يزيدهم من فضله وكرمه وحبه ورحمته توفيقا وعوْنا وهِمَّة ونشاطا وتسهيلا لطرق الخير وتكثيرا لثمارها ونتائجها المُسْعِدَة في دنياهم ، وكذلك يُعطيهم أكثر كثيرا مَمَّا يطلبوه في دعائهم وحتي ما لم يطلبوه ، ثم أيضا في أخراهم يزيدهم ويضاعِف لهم قطعا في أجورهم عمَّا تستحِقّه أعمالهم حيث الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة .. " .. وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴿26﴾ " أيْ وأمَّا الكافرون أي الذين لم يصَدّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولم يستجيبوا له ويعملوا الصالحات من أخلاق الإسلام بل فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا واستمرّوا عليها دون توبةٍ رغم فتح بابها واسعا ، فمِثْل هؤلاء ومَن يشبههم حتما لهم عذاب مُوجِع مُؤلِم شديد ، في دنياهم حيث درجة من درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين ، وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في أخراهم سيكون لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿27﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل) ، فأنت بذلك ستَضمن كل خيرٍ وسعادة ، ستضمن كل أنواع الرزق ، ستحيا في أمانٍ واستقرار دون أيّ قلقٍ أو توتّر أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين علي الأرزاق ، فقد تَكَفّل الخالق الرزّاق الوهّاب الكريم للجميع بأرزاقهم
هذا ، ومعني " وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿27﴾ " أيْ ومِن مظاهر كمال صفاته الحُسني تعالي وتمام قُدْرته وعِلمه وحِكمته ورحمته بالناس ، وبما يدلّ علي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، أنه وهو الخالق الكريم الرزّاق الغنيّ مالك الملك والذي لا ينتهي رزقه ، يرزق كل عبدٍ من عباده بالمقدار وبالتوقيت المناسب له الذي يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه ، فلا يَبسط أيْ يُوَسِّع ويُكثر له الرزق علي الدوام أو بغير بَذْل جهدٍ وإلا قد يَبغِي أي يظلم بصورةٍ ما مِن صور الظلم ، كأنْ يَتَرَاخَيَ مثلا ويَتَكَاسَل ولا يسعي للرزق وللنماء وللتطوير ولنفع الآخرين فتتعطّل شئون الحياة ويتعس الناس وقد يَفسد من عدم العمل أو ينسيَ ربه والتوكّل عليه وشكره ويظلم غيره ويَتكبَّر عليه حيث قد يَري أنه دائما في ازديادٍ فيظنّ مُتَوَهِّمَاً كما حَدَثَ مع قارون ومَن يُشبهه أنَّ غِناه هو فقط بسبب علمه وفكره وجهده وتخطيطه وليس من توفيق الله وعوْنه وتيسيره لأسباب ذلك ، وما شابه هذا من صور البَغْي ، كذلك لا يُتَصَوَّر أنْ يكون الجميع أغنياء إذ غالبا أو كثيرا ما قد يُغريهم ذلك اعتداء بعضهم علي بعض لأنَّ الجميع يمتلك أسباب القوة كما أنَّ وجود اختلافٍ في الأرزاق يجعل الكلّ محتاجا للكلّ فيعيشون متعاونين متحابِّين سعداء فيما بينهم بينما لو كانوا جميعا مُستغنين لَمَا احتاجوا لبعضهم فتتقطع بينهم العلاقات ويتعسون بذلك ، وما شابه هذا من حِكَم ضَبْط الأرزاق .. إنه تعالي في وقتٍ ما يشاءُ أنْ يُقَلّل ووقتٍ آخر يَبسط ما يُنَزِّله علي عبده أي يُسَهِّله له من أسباب الرزق وذلك بتقديرٍ مضبوطٍ علي حسب المصلحة لهذا العبد ولمَن حوله – وليس كما يريد هو لأنه لا يعرف المستقبل بالقطع كما يعرفه خالقه – بحيث يجعله دائما مرتبطا بربه وبإسلامه ليسعد في الداريْن ولا يتجاوز حدودهما وينحرف فيتعس بالتالي فيهما .. إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويُكثره لِمَن يشاء ، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء ، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه ! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه ، حتي ولو كان مُشركا أو كافرا ! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه ! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات .. فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم ، لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته ، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا ، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله .. ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما ، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا ، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة ، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿26﴾ من سورة الرعد ، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل) .. " .. إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿27﴾ " أيْ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره هو لأنه تعالي عليم بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول وبما يُصلح عباده ويفسدهم من غِنَىً وفقرٍ وغير ذلك مِمَّا يُكملهم ويُسعدهم في الداريْن , وهو أيضا بصيرٌ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ وبالتالي سيُعطِي كلّ فردٍ ما يُناسبه من أرزاقٍ وسيُجازِي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم .. فانتبهوا إذن لكلّ ذلك وأحسِنوا التعامُل معه سبحانه ومع أرزاقه ومع دينه الإسلام ومع كل خَلْقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴿28﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴿28﴾ " أيْ وأيضا مِن مظاهر كمال صفاته الحُسني تعالي وتمام قُدْرته وعِلمه وحِكمته ورحمته بالناس ، وبما يدلّ علي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) أنه هو وحده سبحانه لا غيره الذي يُنَزِّل المطر عليهم من بعد أن انتظروه لفترةٍ ما حتى ظهرت عليهم علامات القنوط وهو أن يَظهر أَثَر اليأس العقليّ الفكريّ بداخلهم على وجوههم وهيئاتهم فيظهرون مُنْكَسِرين مُتَضَائلين مَهمومين بما يدلّ علي شدّة الحزن والخوف وفقدان الأمل ، فإنزال المطر بكميات ومقادير وفي أماكن وظروف محددة يَدلّ بلا أيّ شكّ علي تمام القُدْرة والعلم والحِكمة والرحمة ، فهو يمنعه أحيانا عن البعض ليُظهِر لمَن يعبد إلاهاً غيره سبحانه عجزه التامّ عن الإتيان ولو بقطرة ماء ! أو قد يكون لعقابهم علي شرورهم ليستفيقوا ويعودوا إليه أو نحو هذا ، ثم بعد ذلك التذكير ، ولرحمته بخَلْقه ، يغيثهم أيْ ينقذهم بأنْ يَنشر رحماته عليهم بإنزاله فتنتشر به الأرزاق والخيرات والبركات والسعادات ، فيُؤَثّر ذلك فيهم تأثيرا شديدا فيَسعدون ويزدادون تواصُلاً معه ومع إسلامهم وتوكّلاً عليه ، ولعلّ مَن كان منهم بعيدا عنهما يستفيق ويعود إليهما ليَسعد في الداريْن .. وفي هذا تذكيرٌ من الله تعالي لخِلْقه للتنبيه علي قيمة وعِظَم نِعَمه عليهم ليشكروها تمام الشكر ، بعقولهم باستشعارها وبألسنتهم بحمده سبحانه وبأعمالهم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ حتي يجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ كما وَعَدَ ووعْده الصدق : " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. " .. وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴿28﴾ " أيْ وهو أيضا سبحانه الوَلِيّ بحقٍّ لخَلْقه ولا وَلِيّ غيره أيْ الوَلِيّ لأمورهم يديرها لهم علي أكمل وأسعد وجهٍ في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿255﴾ من سورة البقرة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وإنْ اتّخذوا غيره وليّا فسيكون لهم حتما تمام التعاسة فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وهو أيضا الحميد أيْ المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون ، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا ، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات ، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد
ومعني " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴿29﴾ " أي ومن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، أنه خَلَق السموات والأرض وما نَشَرَ فيهما من دابَّة وهي كلّ مخلوق يَدبّ علي سطحٍ ما سواء الأرض أم السماء كالبشر والحيوان والطير وغيره مِمَّا لا يعلمه إلا هو سبحانه من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ومِن نِعَمٍ وخيراتٍ ومِن نظامٍ مُقَدَّرٍ بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل .. " .. وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴿29﴾ " أيْ أنَّ القادر على خَلْق كلّ هذا من عدمٍ قادر حتما عندما يشاء علي إعادة خَلْقهم وجمعهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا في ساعة يوم القيامة التي لا يعلمها إلا هو حيث يُحاسِب العقلاء منهم وهم البَشَر إذ الخِلْقَة الثانية لا شكّ أهْوَن لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة ، فالله يخاطبنا علي قَدْر ما تفهمه عقولنا حيث هو كله سهل عليه أولا وثانيا ، فكيف إذن مَن لا يُصَدِّق بالبَعْث أن يُكذّبه ويَستكثره ويَستصعبه علي هذا الخالق العظيم القدير ؟!! ولكنه قد عَطَّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلْيُحْسِن إذن كلّ عاقل الاستعداد ليوم الحساب هذا بفِعْل كلّ خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ليَسعد في دنياه وأخراه
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴿30﴾ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿31﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنت صالحا مُصْلِحا لا فاسدا مُفْسِدا في كل شئون حياتك ، فالصلاح ونشره يؤدي إلي كل خيرٍ وسعادة لك ولمَن حولك في دنياكم وأخراكم بينما الفساد ونشره يؤدي إلي كل شرٍّ وتعاسة لكم فيهما .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا اتَّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ، أي وَلِيّا لأمرك ، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا ، فسيُوَفّر لك الرعاية كلها ، والأمن كله ، والعوْن كله ، والتوفيق والسداد كله ، والرزق كله ، والتيسير كله ، والسَّلاسَة كلها ، والقوة كلها ، والنصر كله ، والسعادة كلها
هذا ، ومعني " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴿30﴾ " أيْ كلُّ ما يُصيبكم أيها الناس مِمَّا تكرهونه مِن سوءٍ وضَرَرٍ وتعاسةٍ – أو غالبه بدرجةٍ تَصِل إلي كُلّه – هو دائما أو غالبا بسبب شروركم ومفاسدكم وأضراركم التي فعلتموها وكَسَبْتموها وحَصَّلتموها بأيديكم وأرجلكم وعقولكم وسوء تصرّفاتكم ، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا ، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، ومع ذلك يعفو سبحانه عن كثير من هذه الشرور والأضرار التي ارتكبتموها فلا يحاسبكم عليها كلها في دنياكم ، رغم استحقاقكم لعقوبةٍ مناسبةٍ لها ، رحمة منه بكم ليُعطيكم الفُرَصَ الكثيرة لتتوبوا منها لتسعدوا ، ولولا هذه الرحمات لَعُوقِبَ الجميع كثيرا ! .. هذا ، وما يُصابُ به المسلم من مصائب في مقابل سُوئه هو تكفيرٌ من ذنوبه ورفعٌ لدرجاته يوم القيامة ، وعليه حين تنزل به مصيبة ما أن يُسارع في مراجعة ذاته وتصويبها باتّباع أخلاق الإسلام حيث سيكون الأمر في الغالب بسبب سوء أقواله وأفعاله وتصرّفاته وتقديراته أو مَن حوله ، فإن لم يجد سببا – وهذا نادر – فليتأكد أنَّ الحَدَثَ هو اختبار من الله لمصلحةٍ ما له ولغيره ، فليصبر عليه إذن حتي يَخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
ومعني " وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿31﴾ " أيْ ولا يَتَوَهَّم أيُّ أحدٍ مُخْطِئاً أنَّ الله تعالي يعفو عن كثيرٍ من سيئاتكم كما جاء في الآية السابقة عن عَجْز !! بل عن رحمة وكرم وتَفَضُّل مع تمام القُدْرة علي العقاب .. فليس أيّ أحدٍ مِنكم سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا ، أم حتي مؤمنا ، أم أيّ مخلوق ، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه ! فهو مُلكه ! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه ! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا ، كل الخلق في الأرض ، وكل الخلق في السماء ، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا ! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك ! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه ! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء ! .. وفي هذا تحذيرٌ من عقابه تعالي ليَتَّعِظ مَن أراد الاتِّعاظ ويفعل كلَّ خيرٍ ويترك كل شرّ .. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) – هي أنّه ليس لكم غير الله تعالي وَلِيَّا ، أيْ وليّا لأموركم يديرها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿255﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل) ، وإن اتخذتم غيره وليّا فلكم تمام التعاسة فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل) ، وكذلك ليس لكم أيّ نصيرٍ ينصركم ويعزّكم ويرفعكم إذا ابتعدتم عنه ولجأتم لغيره ، ستنهزمون في الدنيا ، ثم في الآخرة لن ينصركم أيْ ينقذكم أيّ أحدٍ مِن عذابه لمَن يستحقّه منكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سينصرهم الله في كل شئون حياتهم ، ثم الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ من سورة آل عمران أيضا ، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده﴾ ، فمَن يريد إذن ولاية الله المُسْعِدَة ونصره المُسْعِد ، في دنياه وأخراه ، فليتّخذ أسباب ذلك بأن يؤمن بربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴿32﴾ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿33﴾ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴿34﴾ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴿32﴾ " أي ومن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، أنه جَعَلَ مِن نِعَمه عليكم والتي لا تُحْصَيَ نعمة سَيْر وجَرَيان الجَوَارِي أي السفن والمراكب التي تجري في مياه البحار والأنهار كالأعلام جمع علم وهو كل شيء مرتفع يُرَيَ مِن بُعْد كالعلم المرفوع وكالجبل العالي وما شابه ذلك ، بخواصّ الهواء الفيزيائية وبقوة رفع الماء ونحو هذا ، مع تيسير الله للعقل لأسباب صناعتها ، لتطلبوا بها من أرزاقه تعالي لكم حيث تنقلكم وتجاراتكم من مكان لآخر لتنتفعوا ولتسعدوا بكل رحمات الله هذه في دنياكم ثم أخراكم لو أحسنتم استخدامها في كل خيرٍ مُسْعِد
ومعني " إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿33﴾ " أيْ ومِن نِعَمه عليكم التي لا تُحْصَيَ ومن تمام رحماته بكم وكمال قُدْراته عليكم وعلي كل شيء أنه مِن المُمكن حين يشاء أن يُوقِف سَيْر الرياح وكلّ القوي التي تحرّك السفن وتحملها وتُسَيِّرها فتَبْقَيَ راكِدَة مُتَوَقّفَة ساكنة ثابتة علي ظهر الماء بلا حركة فتتعطّل منافعكم ، ولكنه لا يفعل ذلك رحمة بكم وحبا فيكم وحرصا علي منفعتكم وسعادتكم .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿33﴾ " أي هذه كلها دلالات قاطعات حاسمات علي وجوده تعالي لكنّ الذي ينتفع بها ويزداد تأكّدا بربه وتمسّكا بدينه الإسلام وتوكلا عليه فيسعد بذلك تمام السعادة في دنياه وأخراه هو كل صبّار شكور والمقصود كل مؤمنٍ عاقلٍ أحسنَ استخدام عقله لأنّ من أهم صفاته أنه كثير الصبر كثير الشكر ، أي هو دوْما من الصابرين أي من الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّةٍ علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وهو أيضا دوْماً من الشاكرين لربه علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله بأن يستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك سيجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾
ومعني " أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴿34﴾ " أيْ أو مِن المُمكن أيضا لو أراد أن يُهلكهنّ هذه السفن ومَن عليها وما فيها بريح أو موج شديد أو نحوه بسبب شرور راكبيها ومَفاسدهم وأضرارهم التي فَعَلوها وكَسَبوها وحَصَّلوها بأيديهم وأرجلهم وعقولهم وسوء تصرّفاتهم ، ولكنه مع ذلك يعفو سبحانه عن كثير من هذه الشرور والأضرار التي ارتكبوها فلا يحاسبهم عليها كلها في دنياهم ، رغم استحقاقهم لعقوبةٍ مناسبةٍ لها ، رحمة منه بهم ليُعطيهم الفُرَصَ الكثيرة ليتوبوا منها ليسعدوا ، ولولا هذه الرحمات لَعُوقِبَ الجميع كثيرا بكثير من أنواع العقوبات
أمّا معني " وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ﴿35﴾ " أيْ حين يَفعل الله تعالي ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ فهو لِيُعاقِبهم ولِيَعلم حينها هؤلاء الذين يُجادلون في آيات الله أنهم ليس لهم أيّ مَحِيص أيْ مَهْرَب ومَلْجَأ ونجاة من هذا العذاب النازِل بهم ، فهم في تمام قبضته سبحانه وتحت كمال سلطانه ، وذلك بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، فهم ينالون ما يَسْتَحِقّون .. هذا ، والذين يُجادلون في آيات الله وهي الدَّلاَلاَت والمخلوقات في كوْنه التي تدلّ على أنه إلهٌ واحد بلا أيّ شريك وعلى كمال صفاته وقدْراته ، والمُعجزات التي تدلّ على صِدْق أنبيائه ، وآياته في كُتبه التي تحمل التشريعات والأخلاقيّات التي تُسعد الناس في الداريْن تمام السعادة ، يُجادلون بغير سلطانٍ أيْ دليل جاءهم من عند الله تعالي عن طريق رسله ، وبالتالي فهم كاذبون مُعانِدون مُستكبرون مُرَاوِغون ، مِثْل هؤلاء لا يُجادلون إلا بسبب أنَّ في عقولهم كِبْراً أيْ تَعَالِيَاً وتَعَاظُماً علي الله وعلي اتّباع الإسلام حتي لا يفقدوا مَكانتهم بين الناس ويَتَسَاوُوا بهم لو عملوا بأخلاق الإسلام ولا يُمكنهم حينها استغلال جهودهم وثرواتهم ونَهْبها ، فهم إذن لا يُجادلون لأنّ معهم الحقّ فهم متأكّدون من كذبهم أو لأنهم يكذبون بالله أو بالرسل أو بالإسلام لأنهم يعلمون صِدْق كلّ هذا وأنه لا يمكن لأيّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يكذبه أو يُجادل فيه .. والجدال هو صورة سَيِّئَة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، ويزداد الجدال سوءَاً إذا كان بغير علم ، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم ، وكان لا يستند لأيّ هُدي أي دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع
فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿36﴾ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴿37﴾ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴿39﴾ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ﴿41﴾ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿42﴾ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿43﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا .. وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وبأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا أحسنتَ طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا أقمتَ الصلاة ، أيْ قُمْتَ بها علي أَقْوَم وجْهٍ ، أيْ أحسنتها وأتقنتها ، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالك الملك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَار يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن .. وإذا كنتَ دوْما ما أمكن مُتَشاوِراً مُتَحَاورا مُنتفعا بخبرات مَن حولك مِن أصحاب الخِبْرة والتَّخَصُّص لأنَّ هذا حتما يُقَوِّي ويُسْعِد المُتشاوِرين المُتحاوِرين المُتبادِلين للخبرات في إطار الحب والتآلُف والتآخِي والتسامُح والتصافِي حيث يُصَوِّب آراءهم ويُقَلّل أخطاءهم ويُحَقّق أهدافهم ويُسَهِّل حياتهم .. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ مع القوة مُتَسامِحَا ذا فضلٍ وإحسانٍ من غير ضعفٍ ولا ذِلّة فتعفو عَمَّن أساء إليك بقولٍ أو عملٍ وتصبر عليه ، وذلك بأن تكون قويّ الإرادة بعقلك ، فالمُتسامِح هو الأقوي والأعزّ والأعلي والأحسن والمُنْتَصِر والأصْفَيَ ذِهْنَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي والأعظم ثوابا قطعا في الآخرة .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿36﴾ " أي ما مِن شيءٍ من أرزاق الله وخيراته تُعْطَوْنه إلا وهو مِمّا يُتَمَتّع به في الحياة ويُتزَيَّن أي يُتَجَمَّل ويُتَحَسَّن به وكلها ليست دائمة وإنما تزول إما بإنتهاء المتعة أو بانتهاء أجل المُتَمَتّع وهو الإنسان بمجيء أجله بالموت فلا تنخدعوا بهذا المتاع مهما حصَّلتم منه وأحسنوا التعامُل معه باستخدامه في كل خير دون أيّ شرّ ولا تنسوا استحضار نوايا الخير في عقولكم أثناء ذلك أنكم تفعلون هذا طلبا لحب ربكم واستجابة لما طلبه منكم بفعل ذلك وطلبا لثوابه العظيم في الآخرة لمن يستجيب لهذا وبذلك تكونوا قد أحسنتم بالفِعْل طَلَبَ الدنيا والآخرة معا ، " .. وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ .. " أي لا وَجْه للمُقارَنَة مُطلَقا بين مُتَع الدنيا مهما كانت عظيمة وبين ما عند الله تعالي في الآخرة من نعيمٍ عظيم في جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بَشَر والذي هو بالقطع أعظم خيرا وأبقي وأدْوَم وأخلد إلي ما لا نهاية من نعيم هذه الحياة الدنيا مهما كان عظيما والذي هو أقل خيرا حتما والذي هو من صفاته أنه دوما يزول بعد فترة أو يزول عنه مالكه بموته .. ألاَ يَعْقِل هذا الذي لا يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا ويَنسيَ آخرته أو حتي لا يُصدِّق بوجودها فيفعل في دنياه كل شرّ مُضِرّ مُتعِس له ولمَن حوله ؟!! إنَّ العاقل ولا شكّ هو الذي يُحسن استخدام عقله فيُحسن طلبهما معا كما وصَّيَ بذلك ربه ودينه الإسلام .. " .. لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿36﴾ " أيْ هذا الذي هو عند الله تعالي والذي هو خير وأبقي ولا يُقارَن بأيّ متاع في الحياة الدنيا هو للذين يَتَّصِفون بالصفات الآتية : أنهم آمنوا إيمانا حقا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، وتَرْجَمُوا هذا الإيمان حقيقة علي أرض الواقع بأن تمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم فكانت كلّ أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل .. وأنهم يتوكّلون أي يعتمدون دوْما على ربهم وحده لا على غيره (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴿37﴾ " أيْ ومِن صِفاتهم الحَسَنة أيضا أنهم يَتَجَنَّبون أيْ يَبتعدون تماما عن فِعْل كبائر الإثم أيْ الآثام الكبيرة التي يَكْبُر ويَعْظُم ويَشْتَدّ عقابها في الدنيا والآخرة لضَرَرها الشديد علي النفس والغير كالقتل وشرب الخمر والشرك أيْ عبادة غير الله تعالي ونحو هذا وكذلك الفَوَاحِش وهي الشرور الفاحِشة أيْ المُضِرّة أيضا ضَرَرَاً شديدا بالذات وبالغير ولكنها مع كِبَر عقابها فإنَّ فيها قُبْحَاً كاللواط والزنا وقَذْف المحصنات وما شابه هذا .. هذا ، وعند كثير من العلماء كبائر الإثم والفواحش هما بمعني واحد وذِكْرها معا هو لمزيدٍ من الاهتمام والتأكيد علي التنفير منها وتمام الابتعاد عنها والترْك لها وكلّ أنواع الآثام صغرت أم كبرت لِمَا فيها من التعاسات لفاعلها ومَن حوله في دنياه وأخراه بينما تاركها له تمام السعادة فيهما .. " .. وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴿37﴾ " أيْ ومِن صفاتهم الحسنة أيضا أنهم إذا أغضبهم أحدٌ بقولٍ أو فِعْلٍ ما مُسِيءٍ كَتَموا ذلك الغضب فلم يُخرجوه في صورةِ سوءٍ مثله وقابَلوا هذا المُسِيء بالعفو والصفح والإحسان الأمر الذي يُؤدّي إلي كثير من المصالح والسعادات ومنع كثير من المفاسد والتعاسات لهم ولمَن حولهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿34﴾ من سورة فُصِّلَت " وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿38﴾ " أيْ ومِن صِفاتهم الحَسَنة أيضا أنهم انْقَادُوا لِمَا يَدْعوهم إليه ربهم وأطاعوه في دوام التواصُل معه والدعاء له والتوبة والرجوع إليه والتمسّك والعمل بدينه الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. وأنهم يُقيمون الصلاة أيْ يقومون بها علي أَقْوَم وجْهٍ أيْ يُحسنونها ويُتقنونها لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالك الملك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَار يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن .. وأنهم أمرهم شُورَيَ بينهم أيْ دوْما ما أمكن يَتشاورون ويَتحاورون وينتفعون بخبرات مَن حولهم مِن أصحاب الخِبْرَة والتَّخَصُّص لأنَّ هذا حتما يُقَوِّي ويُسْعِد المُتشاوِرين المُتحاوِرين المُتبادِلين للخبرات في إطار الحبّ والتآلُف والتآخِي والتسامُح والتصافِي حيث يُصَوِّب آراءهم ويُقَلّل أخطاءهم ويُحَقّق أهدافهم ويُسَهِّل حياتهم .. وأنهم يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
ومعني " وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴿39﴾ " أيْ ومِن صفاتهم الحسنة أيضا أنهم أقوياء لهم كل أنواع القوّة المُمْكِنَة الإيمانية منها والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والعسكرية وغيرها بحيث إذا نالهم ظلمٌ مِن ظالمٍ أو اعْتَدَىَ مُعْتَدٍ ما عليهم أو على الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير فإنهم لا يستسلمون لظلمه واعتدائه ولا يَخضعون ولا يَذِلّون له وإنما هم ينتصرون لدينهم ولكلّ حقّ بأن يَتناصروا عليه فيَجتمعوا ضده ويُقابلوا بَغْيَه وظلمه وعدوانه بما استطاعوا وأمكنهم وبما يرونه مناسبا مِن قوَيَ يمتلكونها بما يجعله يخشى إصابتهم والتّجَرُّؤ عليهم بأذَىَ .. إنهم ينتقمون مِمَّن ظلمهم بمِثْل ظلمه بنفس القَدْر دون زيادة كما يقول تعالي في الآية القادمة " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا .. " (برجاء النظر لتفسيرها لتكتمل المعاني﴾ .. وخلاصة القول في هذا الأمر للجَمْع بين ما يَحُثّ عليه الإسلام من العفو وما يحث عليه من الانتصار من المُعتدِي الظالم أنه يُنْظَر في الأمر فإذا كان الذي ظَلَمَ واعتدَيَ يعلن ظلمه ويتفاخر به ويكرّره ويَتَمَادَيَ فيه بوقاحة بين الناس دون خوفٍ مِن عقابٍ فيكون الانتقام منه بمثل ظلمه أفضل لكي يمتنع ولا يتجرّأ علي فِعْل ذلك مستقبلا ولمنع غيره أن يفعل مثله ، وإن كان الاعتداء لا يتكرر بل مرّة وفَلْتَة وزَلَّة ولم يكن شديداً أو يقع مِمَّن يعترف بالزَّلّة ويسأل المغفرة أو ماشابه هذا ، فالعفو في مثل هذه الأحوال أفضل .. وكل ذلك من أجل حرص الإسلام علي أن يعود للناس أمانهم وتعود لهم سعادتهم في دنياهم ثم أخراهم
ومعني " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾ " أيْ وعقوبة أيّ سيئة تكون بسيئة مثلها بدون أيّ زيادةٍ عليها وإلا كان ذلك أيضا اعتداء من المظلوم علي مَن ظَلَمه – لأنَّ حبّ الانتقام في هذا الوقت قد يسيطر علي العقل – وذلك إذا أردتم الانتصار لأنفسكم مِمَّن ظَلَمكم كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، فهذا هو العدل الذي يريح العقول ويحفظ الحقوق ويمنع الثأر بما هو أكثر مِمَّا يَضرّ ويُتعس الجميع في الداريْن ، كأنْ يعتدي مثلا أحدٌ علي أحدٍ اعتداءً خفيفا يمكن رَدّه فَوْرِيَّاً دون حدوث ضَرَرٍ أكبر كضربة أو لَكْمَة أو نحوها فيمكن الردّ مباشرة بالمِثْل تقريبا مع مراعاة تقوي الله وعدم الزيادة أمّا إنْ زادَ أمر الاعتداء فأصبح جروحا ودماء وأموالا وأعراضا ونحوها – أو كان سَبَّاً أو افتراءً وكذبا ونحوه مِمَّا يُخالِف أخلاق الإسلام – فلا يُقَابَل بمثله ولكن حينها يُلْجَأ إلي التحكيم بواسطة شخصيات عادلة أو القضاء بواسطة القضاة لتحقيق القصاص العادل بما يُناسب كل إساءة .. ثم بعد درجة العدل هذه في العقوبة ، هناك درجة يشجع عليها الإسلام وأجرها علي الله بما يعني عِظَم هذا الأجر الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه ، وهي مقابلة المُسِيء بالعفو والصفح والإحسان والإصلاح ما بين المظلوم والظالم بهذا العفو وبعده فلا يُعَاقِبه وهو قادر علي عقوبته بل يُسامحه من غير ضعفٍ ولا ذِلّةٍ طَلَبَاً لثواب الله مع الإصلاح عموما في القول والعمل لكلّ الناس الأمر الذي يُؤدّي إلي كثيرٍ من المصالح والسعادات ومنع كثير من المَفاسد والتعاسات لمَن يعفو هو ومَن حوله (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿34﴾ من سورة فُصِّلَت " وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. هذا ، ويُنْظَر في أيّ الأمرين سيؤدّي إلي المصلحة والسعادة وصفاء المشاعر للجميع ، العقاب بالمِثْل أم العفو ، فيُأخذ بأيّهما أصلح وأنْسَب وأسعد كما في الآية السابقة ﴿39﴾ من هذه السورة (برجاء مراجعتها مرة أخري لتكتمل المعاني﴾ .. " .. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾ " أيْ وكلّ ظلمٍ مِن أيّ نوع هو ممنوع منعا باتا سواء مِمَّن يبدأه أو ممّن يُعَاقِبُ بزيادةٍ عمَّا تَمَّ ظُلْمه فيه ، ويَكرهه الله تعالي ويُحاسِب عليه ، لأضراره وتعاساته علي الجميع في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ﴿41﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ علي مَدْح دَفْع الظالم بما أمكن ومقاومته وعدم الخضوع له ، كما أنه عُذْرٌ لِمَن لم يُسامح بل انتقمَ مِن ظالمه بمِثْل ما فَعَلَ فيه تماما دون أن يزيد ، أي أنَّ مَن انتصرَ لنفسه ورَدَّ الظلم بعد ظُلْم ظالمٍ له فأولئك الذين يَفعلون ذلك ما عليهم مِن سبيلٍ أيْ أيّ حَرَج وشِدَّةٍ وضيقٍ بسبب لَوْمٍ أو مُؤَاخَذَةٍ أو عقابٍ مِن أحدٍ ، ولا إثم في الآخرة ، لأنهم قد مَارَسُوا حقّهم الذي أعطاهم الله إيّاه في شرعه الإسلام وهو مُقَابَلَة السيئة بمِثْلها بغير أيّ زيادة عليها
ومعني " إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿42﴾ " أيْ لكنَّ الحَرَجَ والشدّة والضيق واللّوْم والمُؤَاخَذَة والعقاب كلّ ذلك يكون قطعا علي الذين يظلمون الناس بأيّ صورةٍ من صور الظلم بالأقوال أو الأفعال في أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم أو دمائهم أو غيرها ، ويَبْغون في الأرض أي يَطلبون فيها الفساد والشرّ والضَرَر والتعاسة ويَتعالون ويَعتدون علي غيرهم وكلّ ذلك هو غير الحقّ بالتأكيد لأنّ الحقّ هو الخير والعدل والنفع والسعادة وهو كلّ أخلاق الإسلام .. " .. أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿42﴾ " أيْ مِثْل هؤلاء حتما لهم عذاب مُوجِع مُؤلم شديد ، علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، في دنياهم أولا بدرجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم في أخراهم لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم
ومعني " وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿43﴾ " أيْ ومَن يَصبر على أذىَ مَن يُؤذيه وكذلك يُسامحه فلا يَصبر فقط علي أذاه ويظلّ حاملا للأسَيَ منه ، فإنّ ذلك بكل تأكيد دليل علي قوة عزيمته وإرادته العقلية وعُلُوّ هِمَّته في أموره لأنّ الصبر والتسامُح من الأمور التي تحتاج إلي ذلك ولهذا فلها الثواب العظيم المُضَاعَف حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن وفاعلها سيكون حتما هو الأقوي والأعزّ والأعلي والأحسن والمُنْتَصِر والأصْفَيَ ذِهْنَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي والأعظم ثوابا قطعا في الآخرة .. هذا ، ويُرَاعَيَ أنه في بعض الأحوال قد يكون عدم العفو عن الظالم ومحاسبته ومعاقبته هو الأنْسَب والأصلح والأسْعَد للجميع كما ذُكِرَ في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. وعموما ، فمَن كان مِن الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صَبَروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، سيكون له بالقطع سعادتي الدنيا والآخرة .. " .. إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿43﴾ " أيْ ذلك الذي ذُكِرَ مِن الصبر بكل صوره والعفو هو بكل تأكيد من الأمور الهامّة العظيمة الكريمة في الإسلام والتي يُعزَم لها أيْ تَحتاج إلي عقدِ وتجهيزِ عزيمةٍ أيْ إرادة عقلية قوية للقيام بها علي أكمل وجهٍ ولا يُوَفّق لها ويُيَسَّر له أسبابها من الله إلا أصحاب العَزْم أي الإرادة القوية الصادقة الذين يَبدأون بهذا الخير فيُسَاعَدون من ربهم عليه ، وفي هذا تشجيع ودفع وتحفيز للجميع ليكونوا كلهم كذلك أصحاب إراداتٍ عقلية قويّة وهِمَّة عالية متمسّكين بكل أخلاق الإسلام ما استطاعوا ليسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴿44﴾ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴿45﴾ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ﴿46﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام ، فيَشاء الله لهم ذلك ويأذن ، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان ، والحِكمة في سبب الخِلْقَة ، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين ! وذلك في الآيات ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل .. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها .. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾ " ، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴿44﴾ " أي ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ ، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه ، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله ؟ إنه حتما لن يكون له مِن بعد الله تعالي أيْ غيره أيّ وَلِيّ أيْ مَن يَتَوَلّي أمره ويُصلحه ويرشده لكل خير وسعادة (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام فيما كُتِبَ تحت عنوان : بعض الأخلاقيّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة ، لتكتمل المعاني﴾ .. " .. وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴿44﴾ " أيْ وفي يوم القيامة حيث عذاب الله الشديد بما يُناسب شرور هؤلاء الظالمين ومَفاسدهم وأضرارهم ، وهم الذين في حياتهم الدنيا قد ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم بكل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، تُشاهِد أيها المُشاهِد حين تَراهم تجدهم خائفين مَرْعوبين حَذِرين مُتَرَقّبين أشدّ الخوف والرعب والحذر والترقّب بسبب ما فعلوا من شرور ومَفاسد وأضرار يعلمونها جيدا ، ويقولون نادِمين مَذْلولِين هل هناك أيّ سبيلٍ أيْ طريقٍ للرَّدِّ أيْ الرجوع للدنيا لنعمل بالإسلام ، وبالقطع لا يُجَابُون لطَلَبهم فالعذاب الذي يستحِقّونه هو حتما نازِلٌ بهم بكل تأكيدٍ وليس لهم منه أيّ مَفَرّ ولا نجاة فالوقت وقت حساب لا عمل
ومعني " وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴿45﴾ " أيْ وأيضا تُشاهِدهم حين يَمرّون علي النار ليدخلوها مُنْكَسِرين مُتَضَائلين مُستسلمين مِن شدّة الذلّ يَسرقون النظر ولا يستطيعون المواجهة بعيونهم لأنّ ما هم فيه من خِزْي وعارٍ يكسر أعينهم ويخفضها .. " .. وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. " أيْ ويقول المؤمنون في الجنة علي سبيل التحَدُّث بنِعَم الله عليهم والتي لا تُحْصَيَ ولَمَّا رَأوا ما نَزَلَ بهؤلاء الظالمين ، إنّ الخسران الحقيقي الذي ليس بعده خسارة أشدّ منه هو ما صاروا إليه لأنهم خسروا وفَقَدوا دنياهم فتعسوا فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدهم عن ربهم وإسلامهم تَمَثّلَت في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وخسروا حتما أخراهم الآن يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بل وقطعا سيَخسرون وسيَفقدون أيضا أهلهم وأحبابهم والذين كانوا سيَسعدون بصحبتهم لو كانوا دخلوا الجنة فهم إذا استجابوا لهم فقد دَخَلوا معهم عذاب جهنم فلن يَرَوْهم وإن لم يستجيبوا وأسلموا وأحسنوا فهم في نعيم الجنة ولن يروهم كذلك أبدا .. " .. أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴿45﴾ " أيْ دائم مستمرّ لا ينقطع ، وهذا من بقية قول الذين آمنوا أو من قول الله تعالي .. ولفظ " ألا " يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
ومعني " وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ﴿46﴾ " أيْ ولن يكون حتما لهؤلاء الظالمين أيّ نُصَرَاء وأعوان يمنعونهم من عذاب الله تعالي الذي أعَدَّه لهم بسبب ظلمهم .. وبالقطع مَن يُضلله الله فليس له إذن أيّ طريقٍ يَصِل به إلى الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا ثم إلي الجنة في الآخرة لأنه قد أُغْلِقَت أمامه تماما كلّ طرق ذلك بسبب ضلاله (برجاء مراجعة الآية ﴿44﴾ من هذه السورة " وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ .. " ، للشرح والتفصيل)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ﴿47﴾ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ ﴿48﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم ، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام ، من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، مع حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا كنتَ مُتَوَاضِعا أي لا تَتَعَالَيَ علي الآخرين وتُحْسِن التعامُل معهم ولا تحتقرهم وتحفظ حقوقهم فبذلك يَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بعكسه يَتعسون فيهما .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ﴿47﴾ " أيْ هذه دعوة كريمة رحيمة من الخالق الكريم الرحيم للناس جميعا أنْ سارعوا بالإجابة وبالانقياد وبالطاعة إلى ما يدعوكم إليه ربكم – أي مُرَبِّيكم وراعِيكم ورازقكم ومُرْشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة حيث هو العالِم تمام العلم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – مِن الإيمان به أي التصديق بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ومِن التمسّك بكلّ أخلاق إسلامه ، ولتكن استجابتكم عاجلة بلا تأخير مِن قبل أن يأتى يوم القيامة أو يوم الموت الذي لن يستطيع أيُّ أحدٍ أن يَرُدَّه أو يمنعه بعد أنْ حَكَمَ سبحانه بمَجيئه وجعل له موعدا مُحَدَّدا لا يُمكن مطلقا أن يَتأخَّر عنه وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد .. " .. مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ .. " أيْ يومها لن يكون لكم أيّ مَلْجَأ تَلجأون إليه أيْ مَخْبَأ تَحتمون به وتَهربون فيه ليمنعكم من الرجوع لخالقكم لحسابكم فيُعطي أهل الخير منكم كل خير وسعادة ويُعاقِب أهل الشرّ بما يُناسِب من كل شرّ وتعاسة بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم .. " .. وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ﴿47﴾ " أيْ وكذلك حينها لن تجدوا أيَّ مُنْكِرٍ يستطيع أن يَتَجَرَّأ ويُنْكِر لكم أي يرفض ما ينزل بكم من العذاب يا مَن تستحِقّونه ، ولن يكون لكم أيّ قُدْرة على إنكار شيءٍ مِمَّا فعلتموه مِن شرٍّ في الدنيا لأنه كله مُسَجَّل عليكم بكلّ دِقّةٍ وتفصيل وعدل .. وفي الآية الكريمة تشجيع علي المسارعة بكلّ خيرٍ وعدم تأخيره أو تأخير التوبة من أيّ ذنبٍ أوّلاً بأوّل لأنه لا أحد يعلم موعد موته أو يومَ عقابٍ دنيويٍّ لا يُرَدّ لأنّ الله أراده له في مُقابِل بعض شروره – قبل العقاب الأخروي – والذي قد يَتَمَثّل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في ألمٍ أو كآبةٍ أو تعاسة
ومعني " فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ ﴿48﴾ " أيْ إنْ أعْرَضَ بعض الناس الذين تدعوهم للإيمان بالله والتمسّك بأخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن عن دعوتك الطيبة المُسْعِدة لهم أيْ أعطوها ظهورهم والتفتوا وانصرفوا وابتعدوا عنها وتركوها وأهملوها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء !! فلا تحزن أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب ، فليس المطلوب أبدا مِن أيّ مسلم أن يكون عليهم حفيظا أيْ حافظا لأعمالهم مُراقِبا لها حتى يُحاسبهم عليها مُوَكَّلاً بهم لا يُفارقهم دون أن يؤمنوا ! فليس له إكراههم على الإيمان (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿41﴾ من سورة الزمر " .. وَمَا أنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ .. " أي ما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين ، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه ، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة ، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وليتحمَّل المُكذبون إذن نتيجة تكذيبهم ، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بعدهم ، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم ، ولا يتأثروا بهم ، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم ، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. " .. وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ ﴿48﴾ " أيْ الإنسان البعيد عن ربه وإسلامه بدرجةٍ من الدرجات ، حتي ولو كانوا مسلما ، وكذلك المشرك بالله الذين يعبد غيره كأصنامٍ ونحوها ومَن يُشبهه ، حينما يرزقه ربه من رحماته وأفضاله من بعض رزقه إذا هو يفرح فرحا سيئا وهو السرور الذي يؤدي إلي التفاخُر والتباهِي والتكبّر والتعالِي علي الناس وإذلالهم والاستهزاء بهم وعدم الاعتراف بحقوقهم بل وبإنسانيتهم والاعتداء عليهم وسرقة جهودهم وثرواتهم وما شابه هذا – أمّا المؤمنون بربهم المتمسّكون بكل أخلاق إسلامهم ففرحهم وسعادتهم بهذه الرحمات والخيرات يكون عبارة عن شكر ربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وحُسن استخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ لذواتهم ولِمَن حولهم بحيث يُجَهِّزون لأعلي درجات الجنة حتي يزيدهم سبحانه من كل خيرٍ في الداريْن وهو الذي وَعَدَ بذلك ووَعْده الصدق بقوله : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ – وإذا ما أصاب مثل هؤلاء أيّ سوء أيْ شرٍّ حتي ولو كان بسيطا ، وهو دائما أو غالبا بسبب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم التي فعلوها بأيديهم وأرجلهم وعقولهم وسوء تصرّفاتهم ، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا ، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، فإنَّ مِثْل هذا الصنف من الإنسان يكون كفورا أيْ كثير الكفر لِنِعَم الله وعدم الاعتراف بها بل قد يكفر بوجود الله أصلا ، ويكون أيضا كثير اليأس ويظن أنَّ الحياة قد انتهت علي هذا وليس هناك مِن خَلاصٍ مِمَّا هو فيه ولا يحاول الاستفادة ممَّا حَدَثَ له بتصحيح حاله وعلاج أخطائه بل البعض قد ينتحر وينهي حياته ! وذلك لأنهم بعيدون عن ربهم الذي بيده كل شيء وقادر عليه وهو الذي يُنجيهم ممّا هم فيه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَا لهم ولمَن حولهم بأن يُيَسِّر لهم أسباب النجاة إمِّا لهم مباشرة وإما بتسخير مَن يعاونهم علي الخروج مِن مأزقهم ، وذلك لو عادوا إليه وإلي إسلامهم ولجأوا له واستعانوا به .. فإيّاكم ثم إياكم أن تَتَشَبَّهوا بمِثل هؤلاء وإلا تعستم مثل تعاساتهم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم .. إنه لو أحسنَ الذين يُصابون بالسوء بسبب ما قدَّمته أيديهم والذين هم ييأسون بسبب ذلك ، لو أحسنوا اتّخاذ الأسباب عند المأزق الذي هم فيه – كما يُحسنون اتخاذ أسباب أرزاقهم – وأحسنوا علاج أخطائهم بالعودة لربهم والاستعانة به وطاعته بالتمسُّك بكل أخلاق إسلامهم التي تُيَسِّر لهم كل شئون حياتهم وتسعدهم فيها تمام السعادة ، لو فعلوا ذلك لأمكنهم التخلّص من مأزقهم الذي هم فيه ومن غيره وخرجوا منه مستفيدين خبرات كثيرة مفيدة مُسْعِدَة (برجاء مرة أخري مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿49﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿50﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ راضياً تماما بما أعطاه الله لك مِن أيّ نِعَم – مع حُسْن اتّخاذ الأسباب الحَسَنَة المُمْكِنَة لتحصيلها – حيث هو يُعْطِى لحِكْمَةٍ ويمنع لحِكْمة هدفها بالتأكيد مصلحتك وسعادتك أنت وغيرك مِن خَلْقه لأنه ما خَلَقهم إلا ليُسعدهم ، ومِن السَّفَه والتعاسة الاعتراض على حُكْمِه والذي حتماً لن يُغَيِّر أيَّ شيءٍ مِمَّا يُريده سبحانه
هذا ، ومعني " للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿49﴾ " ، " أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿50﴾ " أيْ هو تعالي وحده له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك ، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء ، ولذا فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه ، ومَن يفعل ذلك يَسعد في الداريْن .. " .. يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ .. " أي وهو وحده الذي يخلق ما يشاء من كل مخلوقات هذا الكوْن العظيم المُعْجِز بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد وغيره ممَّا لا يعلمه إلا هو سبحانه ، وهو الذي يختار لكلّ مخلوق ما يُناسبه من وظائف ويعطيه إمكانات ذلك ليقوم بها علي أكمل وجه ، وليس لأيّ أحدٍ أيّ وصاية عليه بل هو يفعل ما يشاء كيفما شاء ووقتما شاء ولا يَعجز عن أيّ شيء ولا يَستعصي عليه أي أمر .. " .. يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿49﴾ " ، " أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿50﴾ " أيْ ومِمَّا يدلّ عمليا واقعيا ويراه الجميع علي قدرته التامّة علي كلّ شيءٍ وتَمَلّكه وتَصَرّفه التامّ فيه وعلمه الكامل به أنه يُعطي مَن يشاء مِن الآباء أبناءً إناثا فقط ومَن يشاء أبناءً من الذكور فقط أو يعطي بعضهم الإناث والذكور معا أو يجعل بعضهم عقيما أي لا يُنْجِب ولا تكون له ذريّة ، وذلك حسبما يراه مُصْلِحَاً لهم ولمَن حولهم ومُسْعِدَاً للجميع ، فالعطاء والمنع لأيّ خيرٍ هو بيده تعالي وحده وما يُعطيه البَشَر بعضهم لبعض هو من فيض عطائه وكرمه وخيره ورحمته .. " .. إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿50﴾ " أيْ كلّ ما سَبَقَ ذِكْره وغيره هو ناتج عن أنه تعالي عليمٌ بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبالتالي فهو يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث بما يحقق المصلحة والسعادة لخَلْقه ، وهو القادر بتمام القُدْرَة علي ذلك وعلي كل شيء .. فعلي المسلم إذن لكي يَسعد في الداريْن أن يُسلم لربه تماما فيما وهبه وأعطاه مِن أيّ نِعَم – مع حُسن اتّخاذ الأسباب الحَسَنة المُمْكِنَة لتحصيلها – إذ هو يُعطى لحِكْمَة ويمنع لحكمة ومن السَّفَه والتعاسة الاعتراض على حُكْم الله والذي حتما لن يُغَيِّر اعتراضه أيّ شيءٍ مِمَّا يريده سبحانه .. هذا ، ومَن رضي فإنه تعالي مِن رحمته يُعَوِّضه أكثر خيرا وسعادة ممّا افتقده بأن يعطيه مثلا أزواجا لبناته أفضل من الأبناء ويعطي للذكور زوجات فضليات ومَن ليس له أبناء يجعل أبناء أقاربه وأصدقائه وجيرانه وزملائه كأبناء له وقد يكون نَجَّاه من أبناء ذكور أو إناث قد يتعسونه ، وما شابه هذا مِن خيرات ورحمات وسعادات
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿51﴾ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿52﴾ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴿53﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿51﴾ " أيْ هذا رَدّ من الله تعالي علي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الذين يطلبون لكي يؤمنوا بوجوده أن يكلمهم سبحانه أو يَروه أو ما شابه هذا ، فيُبَيِّن لهم وللجميع أنه خَلَقَ البَشَرَ غير مُجَهَّزين مطلقا لرؤيته في الدنيا – أمّا في الآخرة فيكون مِن نِعَمه علي أهل الجنة أن يَروه ويُكلّموه ويُكلّمهم – ليَتَبَيَّن المُصَدِّق مِن المُكَذّب ، وأنه لو ظَهَرَ لهم لَمَا تَحَمَّلوا رؤيته ولَهَلَكُوا ، وكذلك يُبَيِّن لهم أنّ تَوَاصُله مع خَلْقه يكون من خلال كتبه التي فيها تشريعاته التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن والتي أوْحاها إلي البعض منهم الذين اختارهم لحُسن ولكمال أخلاقهم ليكونوا رسله إليهم يبلغونهم دينه الإسلام ، وبالتالي فلا يمكن أبدا لبَشَرٍ مهما كان أن يكلّمه الله إلا من خلال هذه الطرق الثلاث التي ذكرها تعالي عند التعامُل مع الرسل الكرام وهي إمّا وَحْيَاً أيْ إلهاما بالإلقاء في العقل ، أو مِن خَلْف حجابٍ أيْ حاجز ومانع بإسماع الكلام الإلهىّ دون أن يرى السامع مَن يُكَلّمه ، أو بإرسال مَلَكٍ يَرَى صورته ويسمع صوته ، فيُوحِي ذلك المَلَك إلى الرسول من البَشَر بأمر الله وتيسيره ما يشاء الله أن يُوحِي إليه لتوصيله للناس من وصايا وأخلاقيّات الإسلام ، وذلك من رحمته بهم وحبه لهم وحرصه علي إسعادهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿51﴾ " أي هو أعلي وأعظم وأكبر من أيّ شيءٍ ، وهو وحده صاحب العُلُوّ والعظمة والمُلْك والسلطان والنفوذ كله ، قد غَلَبَ كلّ شيء وخضعت له كل المخلوقات ولا يمنعه مانع من فِعْل ما يريد ، وهو مُتَعالِي عن صفات المخلوقين ولا مُقَارَنَة حتما بينه تعالى وبينهم وأعلي من أن يخاطبهم مباشرة ولن يتحمّلوا ذلك ، وهو حكيم يَضَع كل أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث ، فيدير شئون خَلْقه علي أكمل وأسعد وجه ، وهو له صفات الكمال كلها دون أيّ صفات نقص ، فاعبدوه واشكروه وتوكّلوا عليه وحده إذن لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني " وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿52﴾ " أيْ وكالذي أوْحَينا إلى الأنبياء مِن قبلك أوحينا إليك رُوحا أيْ وَحْيَا ، أيْ ومِن أعظم نِعَمه ورحماته تعالي التي لا تُحْصَيَ علي البَشَر أنه يُنَزِّل لهم الوحْي بأوامره علي مَن يختاره منهم وهم رسله الكرام الذين اختارهم لحُسن أخلاقهم وكمالها ، وقد سَمَّيَ سبحانه وَحْيَه رُوحا ، وخاتمه القرآن العظيم ، لأنه كالروح بالنسبة للجسد ، فهو الذي يُحي البَشَر ، فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها ، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة ، الحياة الحقيقية ، الحياة السعيدة السعادة التامّة في الدنيا والتي ستؤدي إلي الحياة الأتمّ والأخلد سعادة في الآخرة ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ، برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿24﴾ من سورة الأنفال " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ .. "﴾ .. " .. مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ .. " أيْ كَانَ ﷺ أُمِّيَّاً لا يقرأ ولا يكتب بما يدلّ قطعيا علي أنّ هذا القرآن العظيم ليس مِن عنده لأنه لم يكن يَدري ويَعلم عنه شيئا – وهذا فخرٌ له أنه لم يُعَلّمه أحد وإنما عَلَّمه الله وحده العليم الحكيم الخبير فهو إذن في أعظم مَكانَة – لأنه لو كان يقرأ ويكتب إذاً لَاَسْتَغَلَّ ذلك بعض المُكذبين المُعاندين المُستكبرين في أن يَتَشَكَّكوا ويَنشروا شَكَّهم في أنَّ هذا القرآن ليس وَحْياً من عند الله وإنما هو ﷺ الذي كَتَبَه ونَقَلَه عمَّا كان يقرؤه ويتعلّمه من كتب السابقين !! كما أنه لم يكن يعلم تفاصيل الإيمان وهي كل أخلاق الإسلام وكيفية الدعوة له ، فهذا من أعظم نِعَمه علي خَلْقه ولهذا قال " .. وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا .. " أيْ ما كنتَ تَدْرِي قبل الوَحْي ما هو هذا القرآن ولكن هو نور جعلناه سَبَبَاً لهداية البَشَر ، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة ، بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة ، ولولا هذه الإنارة لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام " أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، والذي يَهتدي به هو مَن يشاء الهداية لله وللإسلام بكامل حرية اختيار إرادة عقله ليَسعد في الداريْن فنشاء له ذلك أيْ نُيَسِّر له أسبابه ونُوَفّقه له ونُسَدِّد خُطاه نحوه ، وهذا الذي اهْتَدَيَ بهذا النور هو الذي أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، ومَن لم يشأ الهداية ، لم يشأها الله له أيْ لا يُيَسِّر له أسبابها ولا يُوَفّقه لها ، وهو الذي لم يُحْسِن استخدام عقله ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿52﴾ " أيْ وبالتأكيد أنت بهذا القرآن تُرْشِد وتَدُلّ وتَدعو إلي صراطٍ مستقيم أيْ طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيح صواب مُتَّجِهٍ دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ ، إنه طريق الله والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة
ومعني " صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴿53﴾ " أيْ هذا تفسيرٌ وتوضيحٌ لهذا الصراط المستقيم الذي ذُكِرَ في الآية السابقة ، إنه طريق الله خالق الخَلْق الذي وحده له كلّ ما في الكوْن وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك والذي إليه تصير كلّ الأمور أي هي كلها بيده وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها بما يُصلح ويُكْمِل ويُسْعِد خَلْقه ، ولِمَن اتَّبَعَ طريقه أسعد حياة في الدنيا ثم سيكون له بالقطع في الآخرة ما هو أعظم نهاية وأسعد وأتمّ وأخلد ، ومَن لم يَتَّبعه وكان مِن أهل الشرّ المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الظالمين الفاسدين فله حتما كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، ولفظ " ألاَ " يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال .. ونِسْبَة الطريق إلي هذا الإله العظيم يعني حتما تمام التكريم والتشريف لمَن يَسير فيه ويَتَّبعه والثقة الكاملة في أنه لابُدَّ يُوصله إلي تمام السعادة في الدنيا والآخرة
حم ﴿1﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
وَالْكِتَابِ الْمُبِين ﴿2﴾ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿3﴾ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿4﴾ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالْكِتَابِ الْمُبِين ﴿2﴾ " أي يُقْسِم الله تعالي بهذا الكتاب وهو القرآن العظيم والذي صِفته أنه المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد تمام السعادة لِمَن يعمل بكلّ ما فيه في الدنيا والآخرة ، يُقْسِم به عليه كله دون تحديدٍ لشيءٍ مُعَيَّنٍ فيه ليُفيد ذلك عِظَم وقِيمة ووضوح كلّ ما فيه من أخلاقيَّات ليَدْفع الناس لتَدَبُّره والتمسّك والعمل به كله ، وهو سبحانه لا يحتاج ولا قرآنه المجيد حتما إلي قَسَم ! فكلامه قطعا مُقَدَّس مُعَظَّم مُصَدَّق ! ولكنه لإضفاء مزيدٍ من الهيبة والتعظيم والتصديق له وللرسول الكريم ﷺ ولدينه الإسلام
ومعني " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿3﴾ " أي جعلناه قرآنا أيْ كتاباً مقروءاً عربيا ، أي باللغة العربية ، لأنها أقوي لغة ، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني ، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر ، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة .. " .. لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿3﴾ " أيْ لعلكم أيها الناس تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَدَبَّرون فيه فتَعملوا بكلّ أخلاقه فتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَدَبِّرين له عامِلين به
ومعني " وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿4﴾ " أيْ هذا مدح ومقام عالي آخر لهذا القرآن العظيم لمزيدٍ مِن الدَّفْع لتعظيمه ولطاعته وللتمسّك به والعمل بكل ما فيه ، فإضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره مِن كَوْنه مُبِين وعَقْلانِيّ ، فهو في أمّ الكتاب أيْ في علمه التامّ سبحانه وفي الأصل الذي يخرج منه كتبه كلها للبَشَر في أعلي المراتب وأفضلها عند الله تعالي وبالتالي فهذا يعني ضِمْنَاً أنه محفوظ تمام الحفظ مِن أيّ تغييرٍ أو تحريفٍ وقد تَكَفّلَ بحفظه بذاته العَلِيَّة ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله ، وهو عَلِيّ أيْ رفيع الشأن عظيم القَدْر ، وهو حكيم أيْ كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث ، وهو مُحْكَم أيْ كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف ، وهو حاكِم أي مَرْجِع شامل يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها
ومعني " أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ ﴿5﴾ " أيْ هل نَمنع عنكم – مِن الإضراب أي الامتناع – القرآن والذي فيه كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم صافِحين أيْ مُعرضين وتاركِين لكم بسبب أنكم كنتم مُبالِغين في البُعْد عنّا وعن دينكم الإسلام وفي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكل أنواعها ، يا مَن تَبتعدون عنّا وعن ديننا ؟! لا لن يحدث هذا مطلقا ، رحمة منا بكم وحبا فيكم وحرصا علي أن تَصلحوا وتَكملوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، فأنتم خِلْقَتنا وصَنْعتنا وكلّ صانع يحب لصنعته أفضل حال ، ثم مَن استجاب له فله كلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن ومَن لم يستجب فليتحمّل إذن كلّ شرّ وتعاسة فيهما بقَدْر عدم استجابته وبسببها .. هذا ، ومِن معاني الآية الكريمة أيضا أنْ هل تَحسبون وتَتَوَهَّمون أننا نمنع عنكم الذكر أيْ التذكرة بالعذاب وتنفيذه بالفعل عليكم يا مَن تستحِقّونه ونصفح عنكم أيْ نُسامحكم وأنتم مُسرفون هكذا في شروركم ومَفاسدكم وأضراركم وتعاساتكم ؟! بل لابُدَّ مِن عِقابِ مَن يَستحِقّ العقاب بدرجةٍ ما مِن درجاته بما يُناسب شروره لكي يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن ، فهذا أيضا رحمة منا بكم
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ﴿6﴾ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿7﴾ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا تَشبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ مُوقِنا أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ﴿6﴾ " أيْ وما أكثر الرسل الكرام الذين بعثناهم في السابقين مِن البَشَر منذ آدم لهدايتهم للإسلام ليسعدوا في الداريْن .. وفي هذا تأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة مِن أنَّ الله تعالي لا يَترك خَلْقه يَتيهون في الشرور فيَتعسون بذلك في دنياهم ثم أخراهم بل يُرْسِل لهم دوْما مَن يُرشدهم إلي كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم فيهما ، كما أنّ في الآية الكريمة تسلية للرسول ﷺ وللمسلمين مِن بعده الذين يدعون الناس لله وللإسلام لكي يقتدوا بالرسل الكرام قبلهم فيُحسنوا دعوة غيرهم ويصبروا علي أذاهم مثلهم ليَنالوا مثل أجورهم في الداريْن
ومعني " وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿7﴾ " أيْ هؤلاء السابقين ما جاءهم أيّ نبيٍّ من الأنبياء لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن إلا كان منهم مَن يستجيبون له فيَسعدون ومنهم الذين يَسخرون منه ومِن دينه الإسلام ومن المسلمين ويُكذّبونهم ويُعاندونهم ويَستكبرون عليهم مثلما يحدث معكم الآن أيها المسلمون ، فهذا أمرٌ ليس بجديدٍ ولابُدّ من حدوثه ، فاصبروا فإنّ الله تعالي سيَنصركم حتما كما نصرهم وسيَهزمهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُصْلِحاً مُسْعِدَاً لكم وللناس جميعا وسينشر الإسلام كما نشره سابقا وستسعدون في دنياكم وأخراكم
ومعني " فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴿8﴾ " أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لهؤلاء الأوّلين السابقين المُستهزئين المُكذبين المُستكبرين المُعاندين ومَن يشبههم أننا أهلكناهم بأنْ استأصلناهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال﴾ .. ولقد كانوا أشدّ قوة مِمَّن حولكم الآن أيها المسلمون حيث كان لهم من كل أنواع القوَيَ الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية وغيرها ، فمَن كان أضعف منهم فليكن إذن أكثر حَذَرَاً فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب ويكون مصيره مثل مصيرهم فيتعس مثلهم في دنياه وأخراه !! .. " .. وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴿8﴾ " أيْ وقد سَبَقَ صِفَة وخَبَر هلاك السابقين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم مِمَّن يعرفونهم ويتناقلون تاريخهم وأخبارهم ، ولقد عرفوا أنه قد مَضَيَ أيْ نَفَذَ عقاب الله فيهم ، فهذه هي طريقة الله تعالي وأسلوبه وعادته دائما في كلّ أمثالهم الذين مضوا وذهبوا وانتهوا قبل ذلك ، ولن تَتَغَيَّر مطلقا في أيّ زمانٍ ومكان إلي يوم القيامة .. فأمثال هؤلاء هم عِبْرة لغيرهم ، فاعتبروا إذن أيها المُكذبون وخذوا الدروس مِمَّا حَدَثَ لهم واستجيبوا لربكم ولإسلامكم لتسعدوا في الداريْن
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴿9﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿10﴾ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ﴿11﴾ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴿12﴾ لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴿13﴾ وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! .. وإذا كنت دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴿9﴾ " أي لو سُئِلَ أيّ أحدٍ مِن المشركين بالله ، أي الذين يعبدون غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه ، مَن الذي خلق السموات والأرض وكل ما فيهما من مخلوقات وسخرّها كلها لمنفعة خَلْقه كالشمس والقمر وغيرهما ، لم يكن لهم أيّ إجابة إلا أنَّ الخالق هو الله وحده !! لأنه لم يستطع ولم يَجْرُؤ ولا يوجد أيّ أحدٍ ادَّعَيَ أنه هو الذي خَلَقها ! فليس لهم إذن إلا هذه الإجابة ! فهم مُجْبَرون عليها ومُقِرُّون تماما بها ! وهذه هي إجابة المشركين ، فهم يعترفون لله بأنه وحده الخالق لكنهم لا يعترفون له بأنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة !! .. أمّا الكافرون وهم الذين يكفرون بوجود الله أصلا ، والكفر في أصله من الناحية اللغوية هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ، فإنهم لا يُعلنون ولا يَنطقون بأنَّ الله تعالي هو الخالق ولكنهم إمَّا يَنطقون بمعاني أخري للإله مُلْتَوِيَة مُرَاوِغَة كالطبيعة مثلا والقوّة الخَفِيَّة وما شابه هذا من سَفَهٍ وتخريفٍ وإمَّا يصمتون ، ولكنَّ فطرتهم بداخلهم بالقطع تنطق بالحقّ بأنَّ الله هو الذي خَلَق كلّ الخَلْق (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. فكيف يكون منهم هذا الكذب الواضح السخيف ؟! هذا الانصراف عن الحقّ بكل هذا التَّبَجُّح وبلا أيّ حياءٍ أو تَعَقُّل ! .. ولماذا إذن بعد أن اعترف المشركون بأن الله وحده هو الخالِق يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مِمَّا لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضرر كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها ؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد ! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة ؟! .. إنَّ كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ومعني " .. الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴿9﴾ " أي هو الغالِب الذي لا يُغلَب الذي يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالك الملك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين ، وهو العليم ، أي بكلّ شيءٍ ، بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ آخر ، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه .. وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿112﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. إنَّ اختيارهم لهاتيْن الصِّفَتيْن من صفات الله تعالي وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسني يدلّ بلا أيّ شكّ علي أنهم يعلمون بعقولهم ومن خلال فطرتهم أين الحقّ ، ولكنهم مُعانِدون !! ولذلك ستكون حتما عقوبتهم في دنياهم ثم أخراهم بالتالي شديدة لو استمرّوا علي ما هم فيه ، ففي الدنيا لهم درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة لهم كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم ينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
ومعني " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿10﴾ " أي وأيضا ومِن بعض مُعجزاته ودَلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وشَكَرَه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ، أنه جَعَلَ الأرض كالفراش المُمَهَّد المُيَسَّر الذي يَستقِرّ ويستريح عليه مَن جلس فوقه حيث جعلها مَبْسُوطَة صالحة للسَّيْر عليها ولإنبات الزروع بها وجعل فِيها سُبُلا أىْ طُرُقا مُتَعَدَّدَة لكي يَصِل بواسطتها الناس من مكانٍ لآخر لقضاء حوائجهم ولتحقيق ما لا يُمكن حَصْره من المنافع والسعادات .. " .. لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿10﴾ " أيْ لكي تَصِلُوا إلى مصالحكم وأغراضكم ، وتَصِلوا أيضا إلي الهداية لله وللإسلام إذا أحسنتم استخدام عقولكم فتعملوا بكلّ أخلاقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك مُهْتَدِين لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني " وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ﴿11﴾ " أيْ وأيضا ومِن بعض مُعجزاته ودَلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وشَكَرَه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ، أنه مِن تمام قدْرته وعِلْمه يُنَزِّل الماء من السماء بمقدار مُحَدَّد مفيد لا هو بالغزير الذي يُغْرِق ولا بالشَّحِيح الذي لا يَرْوِي فيَنْشر به البلاد الميتة – من الانتشار – أي يُحْي كلّ حيّ فيها ويُنبِت لها ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات النافعة بعد أن كانت مَلْساء لا شيء ولا حياة بها .. " .. كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ﴿11﴾ " أي كما أحيا الأرض بعد موتها فكذلك أيضا سيُحييكم ويُخرجكم من قبوركم بعد موتكم وكوْنكم ترابا ويبعثكم بأجسادكم وأرواحكم يوم القيامة من أجل الحساب الختاميّ لينال أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ كلّ شرّ وتعاسة بما يناسب شرورهم بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم ، فالقادر علي هذا قادر علي ذلك حتما !! وكل العقول المُنْصِفَة العادلة متأكدة منه ، فأحسنوا إذن الاستعداد بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴿12﴾ " أيْ وأيضا ومِن بعض مُعجزاته ودَلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وشَكَرَه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ، أنه خَلَقَ أيْ أوْجَدَ مِن عدمٍ الأزواج كلها أي الأصناف والأنواع كلها مِن كلّ المخلوقات والتي بعضها ممَّا تُنبت الأرض أي ممّا تخرجه من نباتات وزروع وأشجار وغيرها ، وبعضها من أنفس البَشَر وغيرهم من الأحياء حيث الذكور من الإناث والإناث من الذكور وهكذا ، وبعضها ظواهر وجمادات كالليل والنهار والحرّ والبَرْد ونحوه ، وبعضها لا يعلمه أحدٌ ولا يَعلم ممّا خُلِق وإنما يَعلمه فقط خالقه سبحانه .. " .. وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴿12﴾ " أي ومِن نِعَمه عليكم كذلك والتي لا تُحْصَيَ نعمة سَيْر وجَرَيان السفن والمراكب في البحار ، بخواصّ الهواء الفيزيائية وبقوة رفع الماء ونحو هذا ، مع تيسير الله للعقل لأسباب صناعتها ، لتركبوها ولتطلبوا بها من أرزاقه تعالي لكم حيث تنقلكم وتجاراتكم من مكان لآخر لتنتفعوا ولتسعدوا بكل رحماته هذه في دنياكم ثم أخراكم لو أحسنتم استخدامها في كل خيرٍ مُسْعِد .. وكذلك قد خَلَقَ لكم بقدْرته وعلمه لمنفعتكم ولسعادتكم أنعاما كثيرة أيْ حيوانات والتي هي نِعَم لكم كالإبل والبقر وغيرها تَتَمَلّكونها وتنتفعون تماما بكل منافعها المختلفة وجعلها مُسَخَّرَة تماما مُنْقَادَة طائِعَة لكم لصغيركم وكبيركم فيكون منها ما تركبونه لتنتقلوا من مكان لآخر ومنها ما تأكلون لحومه فتنتفعون وتسعدون بكل ذلك ، ولقد كان من المُمكن جَعْلها كلها مُفْتَرِسَة كما هي بعضها لا تَقْدِرون عليها ولا تنتفعون بأيٍّ مِن منافعها
ومعني " لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴿13﴾ " أي لقد سَخَّرْناها لكم لكي تستقرّوا علي سطوحها فتستشعروا بعقولكم بعد هذا حينها نِعَمه عليكم التي لا تُحْصَيَ فتشكروه بالتالي عليها لأنَّ ذِكْر النعمة وقت الانتفاع بمنافعها يكون أكثر تأثيرا في مشاعر العقل وأدْعَىَ لشكرها وعدم الذهول عنها ، وكذلك تسبحوه أي تُنَزِّهوه أي تُبْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به فله كل صفات الكمال ، وتعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴿13﴾ " أيْ ولوْلا أنه سَخَّرَها وذَلّلها بأفضاله ورحماته لكم ما كنتم أبدا لها مُقْرِنين أيْ مُقْتَدِرين عليها .. فإنْ أحسنتم شكر كلّ نِعَمه ، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبعملكم بأن تستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، ستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدَ ووَعْده الصدق " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
ومعني " وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴿14﴾ " أيْ وكلنا حتما بالتأكيد راجعون إلي ربنا خالقنا يوم القيامة ليُحاسبنا ، فلنُحسن إذن الاستعداد لهذا الحساب الختاميّ ، بإحسان استخدام كلّ هذه النِعَم في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ مِن خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ، وبإحسان طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ﴿16﴾ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴿17﴾ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴿18﴾ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴿19﴾ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿20﴾ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴿21﴾ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴿22﴾ وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴿23﴾ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿24﴾ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿25﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ " أي هذا تكذيبٌ وتسفيهٌ وتجهيلٌ وإظهارٌ للتناقُض من الله تعالي للمشركين لعلهم يستفيقون ويعبدونه وهم الذين يعبدون غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو بَشَر أو نحوه والذين يعترفون بأنه سبحانه خالق السماوات والأرض كما أقرّوا بذلك في الآية ﴿9﴾ من هذه السورة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ثم مع ذلك يَدَّعُون أنَّ له جزءا منه ومُنْتَسِبا إليه أي له ولد من زوجة تزوجها !! كما فَعَلَ مثلا بعض النصاري حيث قالوا عن المسيح عيسي عليه السلام أنه ابن الله فعبدوه لأنه جزءٌ من الله ! .. أو اعترف بعضهم بوجود ملائكة ولكنهم ادَّعوا أنها بنات الله أنجبها مِن زوجاتٍ مِن مثلها فعبدوها ! .. أو ادَّعوا أنَّ له جزءا بمعني شريك ومُعِين في تدبير شئون الكوْن وبالتالي من الممكن أن يعبدوه أيضا !! أو ما شابه هذا من افتراءات وتخاريف .. تعالي عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا .. " .. إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ " أي هذا الإنسان الذي يفعل ذلك هو حتما بالتأكيد شديد الكفر مُصِرّ عليه مُتَمَادِي فيه مُبِين أيْ مُبَيِّن مُظْهِر لكفره بالأقوال والأفعال ، فهو لم يَكْتَفِ بكفره وتَكَتَّم عليه وإنما يُظهره ويَنشره !! .. فإيّاكم ثم إياكم أيها المسلمون أن تتشبّهوا بأمثال هؤلاء حتي لا تتعسوا مثل تعاساتهم في الدنيا والآخرة
ومعني " أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ﴿16﴾ " أيْ هذا سؤالٌ لمزيدٍ من التّسْفِيه والذمّ الشديد لهم والرفض التامّ لِمَا يَدَّعونه لعلهم يستفيقون ويعبدونه سبحانه ، فهو تعالي يسأل مُتَعَجِّبا من سوء حالهم وإغلاق عقولهم وسوء أخلاقهم وجرأتهم وتَعَدّيهم علي خالقهم أنه علي فَرْض جَوَاز نسبة الولد إليه تعالي كما يَدَّعون ألَاَ يَسْتَحُون أن يَنسبوا له البنات الذين هم الأقل والأسوأ من وجهة نظرهم وينسبوا لأنفسهم الأفضل وهم البنين ؟! هذه ليست قِسْمَة عادلة !! .. إنهم بعد أن جعلوا لله شركاء يعبدونهم غيره ظلما وزورا يجعلون كذلك له أولادً من زوجةٍ تزوجها وأنْجَبَ منها ؟!! وحتي هذه المواليد هي من البنات التي يَتَحَرَّجُون هم من إنجابها ويَحتقرونها فينسبونها له سبحانه وهم يُنْجِبون البنين الذين يفتخرون بهم كمصدر قوة وعِزّة لهم !! .. أي حتي في ظُلمهم وكذبهم وزُورهم يأخذون لأنفسهم النفيس ويتركون لله ما هو خسيس !! .. وهل من المعقول وهو الخالق للسماوات والأرض وكل المخلوقات وللذكور وللإناث وقد اعترفوا بذلك كما في الآية ﴿9﴾ من هذه السورة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ وعلي فَرْض أنه سيَتَّخِذ لنفسه ولدا ليُعينه علي إدارة الكوْن فهل من العقل والحكمة أن أصفاكم أي اختاركم وفَضَّلكم بالبنين الذين هم أفضل من وجهة نظركم واختار لذاته العَلِيَّة الأسوأ وهم البنات حيث زعمتم أنَّ الملائكة بناته ؟! إنه كان من الحكمة إذن أن يختار لنفسه مِمَّا يخلق ابناً يكون من الأفضل وهم الذكور وليس الإناث !! (برجاء مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن أنَّ الذكور والإناث في الأصل متساوون﴾ .. وكل هذا هو من باب مُجَاراتهم في ادِّعاءاتهم لبيان ما فيها من تخريفٍ وسَفَهٍ وكذبٍ شديد ، وإلاّ فالأمر كله مُسْتَنْكَر من الأساس !!
ومعني " وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴿17﴾ " أيْ ومِمَّا يدلّ تماما علي افترائهم وجرأتهم علي الله تعالي ولمزيدٍ من التّسْفِيه والذمّ الشديد لهم والرفض التامّ لِمَا يَدَّعونه لعلهم يستفيقون ويعبدونه سبحانه أنَّ حالهم حين يُبَشَّر أيّ أحدٍ منهم بأنه قد وُلدت له بنت ، وهو الوصف والتشبيه الذي كان قد جعله لله الرحمن الرحيم الحليم وَوَصَفه به أنَّ له بنات ، بَدَلاً أن يسعد ويستبشر بهذه النعمة الكبيرة وهذا الخير الكثير إذا به يَظهر ويَصير علي وجهه سواد الكآبة ويَبقيَ ويَظلّ علي ذلك ! ويَكظم ويَكتم غَيْظه وحزنه وعاره ويَختفي عَمَّن حوله ! فهم لا يَرضون مُطلقا لأنفسهم هذا العار والذلّ – من وجهة نظرهم – فلماذا إذن يرضونه لخالقهم ؟! ولكنه الافتراء والجرأة عليه سبحانه وهو الرحمن بهم وبكل خَلْقه الذي يَرْجو بعبادتهم إيّاه وباتّباعهم إسلامه صلاحهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم كما سَعِدَ الذين عَبَدوه واتّبعوا إسلامهم
ومعني " أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴿18﴾ " أيْ هذا سؤالٌ لمزيدٍ من التّسْفِيه والذمّ الشديد لهم والرفض التامّ لِمَا يَدَّعونه لعلهم يستفيقون ويعبدونه سبحانه ، فهو تعالي يسأل مُتَعَجِّبا من سوء حالهم وإغلاق عقولهم وسوء أخلاقهم وجرأتهم وتَعَدّيهم علي خالقهم عن أنهم هل يَتَجَرَّأون – زيادة علي التَّجَرُّؤ بجعلهم لله أبناء أصلا – ويَنسبون له هذه الأبناء مِمَّن يَتَرَبَّيَ منذ صغره في الحِلْيَة وهو ما يُتَحَلَّيَ ويُتَجَمَّل به كالذهب والفضة والمصوغات والأحجار الكريمة والثياب الجميلة وغيرها ، وهم الإناث ، واللاتي خَلَقَهُنَّ الله متساوين مع الرجال في العقل إلا في صفةِ زيادة العاطفة والرِّقَّة وحب الزينة والجمال لتُكْمِل بذلك الرجل الذي تزداد عنده صفة القوة والتحمّل والحماية ليُكْمِل بعضهم بعضا ولا يُمكنه الاستغناء عنه فتَسعد الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿228﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن أنَّ الذكور والإناث في الأصل متساوون﴾ ، وبالتالي فمعظمهنّ أيضا لا يُحْسِنُ التنازُع والتصادُم إذا احتاج الأمر لذلك لتحقيق مصلحةٍ وحقٍّ ما ولا يُحْسِنَّ الجرأة في تبيين رأيهنّ وإزالة الشبهات عنهنّ وإقامة الحجج لتأييدهنّ ونحو ذلك عند الاحتياج لهذا لأنّ ذلك لا يُناسب ما خَلَقَهُنَّ الله عليه وما خلقهنّ لأجله وما نَشَأْنَ فيه من النعومة والرِّقّة الجسدية والعاطفية فهُنَّ غالبا لا يُحْسِنَّ إذن الجدال أو القتال أو ما شابه هذا .. والخلاصة أنهم يَنسبون لله الأضعف والأهْوَن من وجهة نظرهم وهم الإناث استهزاءً واستخفافا بربهم بينما ينسبون إلى أنفسهم الأقوي والأفخم وهم الذكور الذين يَستقوون بهم علي شئون الحياة والذين يتناسبون مع قوتهم وفخامتهم !!
ومعني " وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴿19﴾ " أيْ هذا سؤالٌ لمزيدٍ من التّسْفِيه والذمّ الشديد لهم والرفض التامّ لِمَا يَدَّعونه لعلهم يستفيقون ويعبدونه سبحانه ، فهو تعالي يسأل مُتَعَجِّبا من سوء حالهم وإغلاق عقولهم وسوء أخلاقهم وجرأتهم وتَعَدّيهم علي خالقهم عن أنهم قد اعتبروا الملائكة إناثا وحَكَموا عليها بذلك وهي مخلوقات غير البَشَر وهي عابِدَة أيْ طائعة تمام الطاعة للرحمن تُنَفّذ كل ما يأمرها به في تصريف شئون الكوْن ، بل واعتبروها بناته وجزءا منه ، بل وبعضهم قد عبدوها ولم يعبدوه تعالي كما ذُكِرَ في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، فهل شهدوا خَلْقها ؟!! أيْ هل كانوا حاضِرين معه سبحانه حينما خَلَقَها ورأوها وتأكدوا أنها إناثا ؟!! بالقطع لا حيث هي مخلوقة قبلهم !! .. " .. سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴿19﴾ " أيْ ستُسَجَّل عليهم كل افتراءاتهم وأكاذيبهم وأقوالهم ، وشهاداتهم عليها لتأكيدها ، وسيُسْأَلون عنها ويُحاسَبون عليها كلها يوم القيامة .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب والتعاسات فيهما
ومعني " وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿20﴾ " أيْ هذا نوعٌ من التّسَتّر وراء الأعذار الكاذبة السفيهة التي لا قيمة لها ، فالمشركون وهم الذين يعبدون غير الله تعالي كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو نيران أو ملائكة أو غيرها ، ومَن يشبههم ، يَتَحَجَّجون لمَن يدعوهم لعبادة الله وحده بأنه هو الذي أراد لنا هذا وبالتالي فهو راضٍ عنه ولو كان لا يرضاه ويريد مَنْعنا لَمَنَعَنا بأيّ أسلوبٍ ولَعَجَّلَ بعقوبتنا وما دام لم يَفعل أيَّاً مِن هذا فهو إذن يَرْضَيَ فِعْلنا !! .. هذا ، وقد يَحمل كلامهم ذلك معني الاستهزاء والسخرية والمُرَاوَغَة بمَن يَتَحَدَّثون معه ، إضافة إلي أنهم مُكذبون مُعاندون مُستكبرون مُجادِلون لا يريدون الاستجابة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿20﴾ " أيْ هذا رَدّ منه سبحانه علي أكاذيبهم هذه بما يخْرِس ألسنتهم ويَنْسِف أعذارهم ويفضحها بأنهم ما لهم بذلك الذي يقولونه أيّ علمٍ صحيح أو دليل موثوق يستندون إليه جاءهم مِن رسولٍ أو كتاب من الله ولذا فهو قول في منتهي الجهل وهم يَخْرصون أي يقولون كلاما جُزافِيَّاً كاذبا تَخْمِينيَّاً ظَنِّيَّاً ، وذلك لأنَّ مشيئة الله لا يعلمها أحدٌ غيره ! ولأنه سبحانه قد أعطي كل إنسان العقل وتَرَكه يختار بكامل حرية إرادته إمّا طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة أو طريق الباطل والشرّ والتعاسة دون أيّ إكراهٍ مِن أيّ أحد ، وهو تعالي قطعا لا يريد الشرك لأحدٍ ولا يأمر به ولا يحبه !! وهم قد اختاروا طريق الباطل بكامل حرية إرادة عقولهم ، رغم ما أرسله إليهم من رسل وكتب فيها الإسلام الذي كل فيه خيرٍ وسعادة لهم في الداريْن ، ولذلك فما قالوه ما هو إلا نوع من أنواع خَرْصهم أيْ تَخْمِينهم وكذبهم وظنونهم وأوهامهم الفاسدة بلا أيّ تَحَقّق (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
ومعني " أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴿21﴾ " أي هل ماهم فيه مِن الشرك أو الكفر أو غيره مِن شرّ بسبب أننا أعطيناهم وأنزلنا عليهم كتابا مثلا كالقرآن الكريم مِن قَبْل هذا القرآن ينطق لهم ويؤيِّدهم بحجج قاطعة فيما يشركون به من آلهة مع الله تعالي كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره أنهم علي حقٍّ ولذلك فهم إذن مُتَشَبِّثون عاملون به محافظون مستمرّون ثابتون عليه بكل قوة ؟!! أم بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ؟!! وهو استفهام للسخرية ولِلَّوْم الشديد علي ما هم فيه وللنفي التامّ له لعلهم يستفيقون فيعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴿22﴾ " أيْ ليس لهم أصلا أيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ ولا لهم كتاب من الله يستندون إليه علي ما هم فيه مِن شركٍ وكفرٍ وشرٍّ وغيره ، ولكنَّ دليلهم الوحيد هو تقليدهم الأعمي دون أيّ تَعَقّل لآبائهم فى جهلهم وسَفَههم وشِرْكهم وكفرهم وشرّهم حيث قالوا لمَن يدعوهم لعبادة الله وحده إنا وجدنا آباءنا على أمَّةٍ أىْ على دينٍ وطريقةٍ تُؤَمّ وتُقْصَد وهى عبادة هذه الآلهة كالأصنام وغيرها ، وإنّا على آثارهم مُهتدون أي علي طريقهم وأسلوبهم وطريقتهم سائرون خَلْفهم مُسْتَرْشِدون بهم .. هكذا بدون أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر أو حجّة أو دليل !! .. إنهم كقطيع الحيوان الذى يسير وراء مَن يقوده دون أن يعرف إلى أىّ طريق هو ذاهِب !!
ومعني " وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴿23﴾ " أيْ وهكذا هو حال السابقين قبلك أيها الرسول الكريم ، ما جاءهم أيّ رسول من الرسل لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن وإنذارهم بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما إذا لم يستجيبوا لله وللإسلام إلا كان منهم مَن يستجيبون له فيَسعدون ومنهم الذين يَسخرون منه ومِن دينه الإسلام ومن المسلمين ويُكذّبونهم ويُعاندونهم ويَستكبرون عليهم مثلما يحدث معكم الآن أيها المسلمون ، فهذا أمرٌ ليس بجديدٍ ولابُدّ من حدوثه ، فاصبروا فإنّ الله تعالي سيَنصركم حتما كما نصر الرسل السابقين والمؤمنين معه وسيَهزمهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُصْلِحاً مُسْعِدَاً لكم وللناس جميعا وسينشر الإسلام كما نشره سابقا وستسعدون في دنياكم وأخراكم .. إنَّ الذين يفعلون ذلك هم في الغالب المُتْرَفون أي المُنْغَمِسون في كلّ تَرَفٍ أيْ في كلّ نعيمٍ زائدٍ يغلب عليه الفساد والشرّ والاستكبار الأمر الذي يكون كالأغشية علي عقولهم فلا يُحسنون استخدامها بسبب حرصهم الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنهم يقولون تماما مثل قول أشباههم من الأمم والقري السابقة لمَن يَدْعوهم لعبادة الله وحده لقد وجدنا آباءنا علي أمَّةٍ أيْ على دينٍ وطريقةٍ تُؤَمّ وتُقْصَد وهى عبادة هذه الآلهة كالأصنام وغيرها ، وإنّا على آثارهم مُقْتَدُون أيْ اتّخذناهم قدوة لنا نتّبعها فنحن علي طريقهم وأسلوبهم وطريقتهم سائرون خَلْفهم مُسْتَرْشِدون بهم .. هكذا بدون أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر أو حجّة أو دليل !! .. إنهم كقطيع الحيوان الذى يسير وراء مَن يقوده دون أن يعرف إلى أىّ طريقٍ هو ذاهِب !!
أما معني " قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿24﴾ " أيْ قال الرسول الكريم ، وقال المسلمون مِن بَعْده ، لأقوامهم الذين أصَرُّوا على تقليد آبائهم في الشرك والكفر والضلال تقليداً أعمي بلا أيّ تفكير ، كما ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، هل تتّبعون آباءكم وتقتدون بهم في كفرهم حتى ولو جئناكم بدينٍ أهْدَىَ وأصْوَبَ مِمَّا وجدتموهم عليه ؟!! وهو بالقطع أهدي بلا مُقَارَنَة !! ولكن هذا نوعٌ رائع راقي حكيم لطيف مُؤَدَّب من أنواع الحوار والدعوة لله وللإسلام يُعَلّمه الإسلام للمسلمين حيث لا داعِيَ لأن يقول الداعي لمَن يحاوره ويدعوه أنك كاذب أو مُخطيء مباشرة لأنَّ هذا غالبا سيَقفل باب الحوار معه وقد يَدفعه لمزيدٍ من التكذيب والعِناد والاستكبار حتي لا يَظهر أنه قد انهزم ومن أجل الدفاع عن ذاته ، بينما ذِكْر أنَّ الطرفين كلٌّ منهما يُحْتَمَل أن يكون معه الهُدَيَ وهو علي صوابٍ أو علي خطأ فهذا يَجعل احتمالية مراجعة المُخطيء لذاته عالية كما أنه سيكون من تمام العدل والإنصاف حيث سيُعطيه الفرصة كاملة للتفكّر والتدبُّر والمراجعة لعله يعود للصواب وللخير فيَسعد في الداريْن إنْ كان صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. " .. قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿24﴾ " أيْ قالوا رَدَّاً عليهم بما يَدلّ علي تمام إصرارهم علي ما هم فيه إنهم بكل ما أُرْسِلَ به الرسل من إسلامٍ كافرون أي مُكَذّبون !!
ومعني " فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿25﴾ " أيْ فكذّبوا وعانَدوا واستكبروا واستهزؤا فانتقمنا منهم ومن أمثالهم أيْ عاقبناهم وعذّبناهم وأهلكناهم ، عاقبنا كلاًّ بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ في أخراه ، ففي الدنيا كان له درجة ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة له كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة ينال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. " .. فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿25﴾ " أي فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخذوا الدروس والعِبَر من نهاية المُكَذّبين هذه وهم الذين يُكذّبون بوجود الله وبرسله وبكتبه وخاتمها القرآن وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، فلا يكن أحدٌ أبدا مثلهم وإلا نالَ مصيرهم وتعس تمام التعاسة كتعاستهم في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ﴿26﴾ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴿27﴾ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿28﴾ بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ﴿29﴾ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴿30﴾ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴿31﴾ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ﴿26﴾ " أي واذْكُر لهم وذَكِّرْهم أيها الرسول الكريم ، وتَذَكَّر يا كلّ مسلم ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس ما حَدَثَ للآخرين لكي يَتَّعِظ فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه ، واذكر لمَن حولك مِمَّن يُقَلّدون آباءهم في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء بلا أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر وذَكِّرهم حين قال إبراهيم لأبيه وقومه أنه بريء تماما ﴿وبَراء تُفيد المُبالَغَة في التَّبَرُّؤ﴾ مِمَّا يعبدون مِن آلهةٍ غير الله تعالي كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو نيران أو غيرها ، أي لا يعبدها ويرفضها ويكرهها ولا يعترف بها ولا صِلَة له بها ويُعاديها ، فهذا أعظم مِثَال يَفضح تكذيبهم ومُرَاوَغتهم ، فإبراهيم ﷺ هو مَثَلٌ عظيم علي عدم اتّباع الإنسان لآبائه وقومه – وحتي لأبيه أقرب الناس إليه – في ضلالهم وعدم تقليده إيّاهم تقليداً أعمي حيث أحسن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، فلماذا إذن لا يَتَّبعونه وهو أيضا من آبائهم وهم كلهم يعرفونه جيدا بل ويفتخرون بالانتساب إليه لأنه هو الذي بني الكعبة المُشَرَّفَة ؟!! لماذا لا يَتَّبعون الإسلام مثله ؟!! لماذا لا يَتَّبعون إلا الآباء الضالّين ؟!! فهذا دليلٌ قاطع علي أنهم يعلمون تماما أين الحقّ ولكنهم مُرَاوِغون مُكذبون مُعاندون مُستكبرون ! وما ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴿27﴾ " أيْ أنا بريءٌ تماما من عبادة آلهة غير الله تعالي ولا أعبد مطلقا إلا هو وحده لأنه هو الذي خلقني وأوجدني مِن عَدَمٍ بقدرته وعلمه وربّاني ورَعاني ورزقني ، فهو أحقّ بعبادتى مِمَّا لم يخلقني ولم يَخْلق شيئا بل هو مخلوق أيضا مثلي فكيف أعبده ؟! وكيف يُصْلِح حالي مَن لم يخلقني وهو لا يعرف عن خِلْقتي شيئا ؟! لكنّ الله خالقي الذي كما خلقني وربّاني ورعَاني ورزقني فإنه لن يتركني أضيع في الحياة وأضلّ وأتعس فيها وإنما أثق وأتأكّد حتما أنه دائما سيُصْلِح فكري وحالي فهو وحده الأعلم والأخْبَر بذلك والأقْدَر عليه بأن يُرشدني ويُوفّقني لكل ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني في دنياي وأخراي ويُيَسِّر لي ذلك ، بشرعه ونظامه هو وحده وليس بأيّ شرع ونظام آخر مُخالِف له ، فهو سيزيدني هُدَيً وتمسّكا وعملا بكلّ خيرٍ وسيُثَبّتني عليه وسيجعل هذا الهدي دوْما يصاحبني في كل أوقات حياتي ، فالسين هنا للتأكيد والمضارع يُفيد الاستمرارية في المستقبل أيضا ، وذلك من تمام ثقته بخالقه سبحانه
ومعني " وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿28﴾ " أيْ وجَعَلَ الله تعالى برحمته وفضله وكرمه وحبه لخَلْقه وحرصه علي ألاّ يَضِيعوا في الحياة الدنيا ثم في الآخرة فيتعسوا فيها بل يَسعدوا فيهما تمام السعادة ، جَعَلَ كلمة التوحيد أي كلمة لا إله إلا الله البريئة الخالِصَة تماما مِن الشّرْك أيْ مِن عبادة غيره ، والتي هي كلمة الإسلام ، جَعَلَها مستمرّة دائمة في عَقِب ابراهيم أيْ فيمَن يأتي مِن بَعده بأنْ جَعَلَ مِن ذرّيته الأنبياء والصالحين ويَسَّر لهم أن يتمسّكوا ويعملوا بها وبكل أخلاق الإسلام ويُوصِي ويدعو بعضهم بعضا بذلك في كلّ زمان ومكان ، كما جَعَلَ ذلك سبحانه منذ آدم عليه السلام وسيَجعله حتي يوم القيامة بعد الرسول الكريم محمد ﷺ .. وكذلك جَعَلها إبراهيم ﷺ باقية دائمة في ذرّيته بأنْ وَصَّاهم بالتمسّك والعمل الدائم بها والدعوة إليها بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة .. " .. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿28﴾ " أيْ لكي تكون المَرْجِع الثابت الذي لا يَتَغّير أبداً لكي يعودوا إليها دوْما كلما غفلوا ونسوا وتركوا عبادة ربهم بعوامل الشرّ والفساد المختلفة فيَتذكّرونها ويتوبون إليه سبحانه فيعبدونه وحده حينما يدعوهم إليها دعاة الخير فتعود إليهم سعادتهم التامّة في دنياهم ، ثم في أخراهم .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعاً وتشجيعاً لكلّ البَشَر ليكونوا كذلك دائما عابدين لربهم متمسّكين بإسلامهم فاعلينَ للخير تاركين للشرّ مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين باستمرارٍ لِمَا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن
أمّا معني " بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ﴿29﴾ " أيْ رغم وجود كلمة التوحيد وهي كلمة لا إله إلا الله ووجود الإسلام في الأرض إلاّ أنَّ هناك مَن لم يؤمنوا وعَبَدوا آلهة أخري غيره تعالي كأصنامٍ وغيرها ومع ذلك لم أُعَجِّل لهم العقوبة وأجَّلْتها بل مِن رحمتي بهم لعلهم يَستفيقون ويعودون لي ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن مَتَّعتهم كما كنتُ أُمَتِّع آباءهم أيْ تَمَتَّعوا منذ نشأتهم لفتراتٍ طويلة بكل أنواع مُتَع الحياة المختلفة ولم أمنعها عنهم فكان مِن المَفروض أن يشكروني ويعبدوني وحدي ولكنهم انشغلوا بهذه النِعَم عن عبادتي بل واغترّوا وانْخَدَعوا بهذا الإمهال والإنعام واستخدموه في مزيدٍ من الاستمرار علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم إلي أنْ جاءهم الحقّ وهو القرآن الكريم يحمل الإسلام وجاءهم الرسول الكريم محمد ﷺ المُبَيِّن المُوَضِّح لهم بكل وضوح ودليل ودون أيّ غموضٍ قد يَمنع مِن اتّباعه كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وكان من المُفْتَرَض أيضا وبعد أن انتهت حجّتهم بأنهم نَسوا ما تَرَكهم لهم إبراهيم ﷺ وليس عندهم كتاب من الله أن يؤمنوا بهذا القرآن وهذا الرسول ﷺ ويتّبعوه ويتمسّكوا ويعملوا بكل أخلاقه ولكنهم ظلّوا كما هم بما يدلّ علي تمام الإصرار علي التكذيب ، وكل ذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. ففي الآية الكريمة ذمّ شديد لأمثال هؤلاء فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ وإلا تعس مثل تعاساتهم في الداريْن
ومعني " وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴿30﴾ " أيْ وعندما جاءهم وَوَصَلَ إليهم الحقّ وهو القرآن العظيم بواسطة الحقّ وهو الرسول الكريم ﷺ ليُسعدهم في الداريْن ، لم يَكتفوا بعدم اتِّباعه بل أساءوا إليه أشدّ إساءة وافتروا عليه أعظم الكذب بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء من أجل أثمان الدنيا الرخيصة حيث قالوا عنه أنه سحر يَسحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلات ليست حقيقية كما يَفعل السحر بالعقل ! وهو ليس بوَحْي من الله وأنَّ الرسول ﷺ ما هو إلا ساحر ويكذب علي ربه فلم يُوحَ إليه شيء !! ثم يؤكدون تماما أنهم به كافرون أي مُكذبون سواء أكان سحرا أم غيره فهم لن يؤمنوا مهما كان !! .. إنهم حتما كاذبون مُعانِدون ، لأنَّ الرسول ﷺ لو كان ساحرا فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليؤمنوا كما سَحَر المؤمنين به ؟!! .. وفي الآية الكريمة تَعَجُّب من سوء حالهم وذمّ شديد له وتنفير مِن أن يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه
ومعني " وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴿31﴾ " أيْ وهذا أيضا نوع آخر من أنواع مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ، حيث قالوا استخفافا بالرسول الكريم محمد ﷺ وبالقرآن ذاته لأنَّ لفظ " هذا " قد يحمل معني الاستهانة واستكثارا أن يُنَزَّل عليه القرآن العظيم وكأنهم يعترضون علي الله لأنه اختاره ﷺ ! وكل ذلك من أجل تشويه صورة القرآن والرسول ﷺ والتشكيك فيهما والتنفير من الإسلام حتي لا يَتِّبعه الناس ، قالوا لو كان هذا القرآن هو من عند الله حقا لكان نَزَّله علي رجل عظيمٍ مِنّا ومِن بلادنا يَلِيق به لأنه مِن المُفْتَرَض أنَّ رسالة الله للبَشَر عظيمة ولا يَستحِقّها إلا عظيم مثلها وليس هذا اليتيم الأبوين الذي لا هو بزعيمِ قبيلةٍ مثلا ولا الأكثر مالا أو منصبا أو جاها أو نحو هذا مِمَّا يُؤَهِّله لحَمْلها !! فهم يعتبرون من وجهة نظرهم السطحية ومن مقاييسهم الخاطئة أنَّ المال والسلطان هو أول مُقَوِّمات النبوة والرسالة وليس حُسن الخُلُق أولا ثم بقية المُوَاصَفات !! والرسول ﷺ كان نَسَبه في القِمَّة من الشرف والسّمُوّ بين قومه وكانوا يُلَقِّبونه بالصادق الأمين وهو أكمل الرجال خُلُقَاً وعقلا ورأيا وعَزْما وحَزْما ورحمة وشفقة وتقوي ولا يُقارَن قطعا بمَن يَدَّعِي أنه عظيم غنيّ وهو سَفِيه يعبد صَنَمَاً لا يَسمع ولا يُبصر ولا يَنفع ولا يَضرّ ! إلاّ أنه ﷺ لم يكن أكثرهم مالا وسلطانا وهم يريدون أن تكون النبوة في زعيمٍ من زعمائهم أو غنيّ من أغنيائهم ! .. إنَّ هذا يعني ضِمْنَاً تصديقهم بداخل عقولهم بالقرآن وعظمته لأنهم يعترفون أنه لو نُزِّلَ كما هو علي عظيمٍ منهم لَصَدَّقوا به ولَعَمِلوا بما فيه ولكنَّ مشكلتهم مع مَن جاء به وهو الرسول ﷺ !! بما يُؤكّد تماما أنَّ الأمر منهم ما هو إلا عِناد واستكبار ومُرَاوَغَة !!
ومعني " أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿32﴾ " أيْ هل هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون هم الذين يُوَزِّعون رحمة الله علي مَن يَشاءون ؟! إنه تعالي هو الذي يفعل ما يشاء وقتما يشاء فالكوْن كله ملْكه وهو خالقه يُدَبِّره كيف يشاء بما فيه مصلحة وسعادة خَلْقه ، ورحمة الله هي اختيار الرسل وآخرهم محمد ﷺ وإنزال الكتب وآخرها القرآن وفيها الإسلام الذي يَرْحَم البَشَر بأنْ يُبَيِّن لهم مِن خلال رسله الذين اختارهم لحُسن خُلُقهم كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. إنه إذا كنا نحن الذين نُقَسِّم بينهم معيشتهم علي حسب ما يُحْسِنون مِن اتِّخاذ أسبابها فنُيَسِّرها لهم فنُغْنِي هذا ونُفْقِر هذا ونُمَلِّك هذا ونَعْزِل هذا ونزيد هذا درجات في القوة والأموال وغيرها فوق هذا الذي يكون قد نَمَّيَ عنده درجة أخري في الفكر والعمل وما يشبه ذلك مِن تَنَوُّع حتي يكون بعضهم مُسَخَّرا مُعَاوِنَاً لبعض ويُيَسِّر له الأعمال والاحتياجات فيتعاونون فيسعدون ولو كانوا كلهم في ذات الدرجة والمستوي لَمَا احتاجوا لبعضهم ولَتَقَطّعت روابطهم وتَعَطَّلت الحياة وتعسوا ، فإذا كنا نفعل هذا فكيف بالنّبُوَّة وهي أعظم وأغلى قطعا بلا مُقارَنَة من الأكل والشرب وغيره من الرزق لأنها هي التي تُحْسِن توجيهه نحو كلّ خيرٍ وسعادة دون أيّ شرّ وتعاسة ؟! فنحن إذن حتما الأحَقّ والأعلم والأخْبَر بها منهم فنجعل مَن نشاء رسولا ونُنَزِّل ما نشاء مِن تشريع بما يحقّق للبَشَر الذين هم خِلْقتنا وصَنْعتنا ونحن الأعلم بهم كلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن ، فهل نهتمّ بالأقل وهو تربية أجسامهم ونترك الأعظم والأهمّ وهو توجيه وإرشاد عقولهم لِمَا يُسعدهم في حياتهم ثم آخرتهم عن طريق دين الإسلام ؟! هل يُعْقَل هذا ؟! وهل العاجز حتى عن إطعام نفسه وسقيها وكسوتها مثلكم أيها البَشَر لولا عوْن الله وتوفيره لأسباب الرزق ، له أن يَعترض بلا أيّ خَجَل هكذا على الله في اختياره مَن هو أهل لنُبُوِّته ورسالته مثل اعتراض هؤلاء المُكذبين ؟! فكيف تتوهَّمون أن تختاروا أنتم الرسل والتشريع وأنتم لا تقدرون حتي على قِسْمَة أبسط الأشياء وهي الطعام والشراب ؟! إنه لو تُرِكَ أمر تدبير الحياة للبَشَر وهو الأقل أهمية لاخْتَلّت ولَهَلَكوا فكيف بتدبير ما هو أعظم وأخطر أهمية وهو أمر الدين أي الشرع والنظام والأخلاق لهذه الحياة ؟! إنه لابُدّ حتما أن يكون لله وحده العليم الحكيم الخبير .. هذا ، والسؤال في الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء الذي هم فيه ولمحاولة إيقاظهم ولتحذيرهم ليعودوا لربهم ليَسعدوا .. " .. وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿32﴾ " أيْ والقرآن والإسلام هو أعظم رحمةٍ مِن الله علي الناس ومَن تَمَسَّكَ وعمل به كله فقد تمسّك بسبب السعادة الغامرة في الداريْن والذي لا سبب غيره ولا قبله ولا بعده ، إنه سيَحْيَا حياته في سعادةٍ حقيقية تامّةٍ كلها خير علي خيرٍ في كل شئونه الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والعملية والإنتاجية والربحية والمالية والنفسية والفكرية والصحية والترويحية وغيرها ثم سيكون مُسْتَبْشِراً دائما بانتظاره للآخرة التي هي الأعظم والأتمّ والأخلد سعادة ، وهذا الخير الذي هو فيه لا يُقارَن مطلقا بما يجمعه الآخرون غير المُتواصلين مع ربهم وسيرة رسولهم وقرآنهم وإسلامهم ، سواء أكانوا مسلمين تاركين لبعض إسلامهم أو كله أم كانوا كافرين أم مشركين أم منافقين أم ظالمين أم فاسدين أم مَن شابههم ، إنَّ ما يجمعونه من أموال أو أعوان أو مناصب أو ألقاب أو غيرها كلها سعاداتها وهمية لا حقيقية سطحية لا مُتَعَمِّقَة مؤقتة لا دائمة وكثيرا ما تكون مَصحوبة أو مَتبوعة بعذابات ومرارات وتعاسات كما يُثبت الواقع ذلك ويراه كل عاقل مُنْصِف عادل بصير لأنها غالبا أو دائما يصاحبها شرّ مُضِرّ مُتْعِس ولا تَخلو مِن صراع أو حتي اقتتال للحصول عليها مع قَلَقٍ وتوتّر وضيق واضطراب وكآبة من أجل حمايتها ، وكل ذلك في دنياهم ثم لهم في أخراهم تعاسة أتمّ وأعظم علي قدْر شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿55﴾ من سورة التوبة " .. فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴿33﴾ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴿34﴾ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وبأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا أحسنتَ طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴿33﴾ " أيْ ولوْلا أن يُفْتَن الناس فتنة شديدة أي يُخْتَبَروا اختباراً صعباً قد لا يَنجحون في المرور منه فيكونوا بعده أمة واحدة أيْ مُجتمعين جميعهم أو غالبهم أو كثير منهم علي الكفر بالله وعدم اتِّباع الإسلام ، وذلك الاختبار هو أن نجعل الكفار في الدنيا في أحسن حالٍ مِن رفاهية العيش وسعة الرزق ، فحينما يري غيرهم هذا يكفرون مثلهم ليكونوا بمِثْل حالهم مُتَوَهِّمين أنَّ كفرهم سبب رفاهيتهم ! ونحن الرحمن الذي رحمتنا وَسِعت كل شيء ولا نَرْضَيَ أن نُوقِعَ الناس في مثل هذا حبا لهم وشفقة منا عليهم وحرصا علي تمام سعادتهم في دنياهم وأخراهم وألاّ نُشَدِّد عليهم ونُتْعِس بل نُيَسِّر ونُسْعِد ، لوْلا ذلك لَكُنّا أعطينا كل كافر لا يُصَدِّق بوجود الله وهو أكره الخَلْق عندنا كل وسائل التَّنَعُّم كقصرٍ فخم عظيم التأثيث سقفه ومعارجه أيْ سلالمه كلها من فضة يظهرون عليها أي يَصعدون وغيرها من علامات الثراء والفخامة ، وذلك لشدّة هوان شأن الدنيا عندنا .. وفي الآية الكريمة والآيتين بعدها تذكرة لكل مسلم بأن يُحْسِن طلب الدنيا والآخرة معا ولا ينشغل بالخسيس وهو الدنيا ويَنْسَيَ النفيس وهو الآخرة (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. كما أنَّ فيها إرشادا لعدم النظر لأحوال الكفار فكأنَّ الله تعالي يُهَوِّن من أمر تنعُّم الكافرين حتى لا ينخدع به المسلمون فيتمنّوا ما هم فيه مِن نعيمٍ وهو حتما زائل زائف (برجاء مراجعة الآية ﴿55﴾ من سورة التوبة " .. فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴿34﴾ " أيْ وكنا جعلنا كذلك لبيوتهم أبوابا جميلة وأيضا أَسِرَّة فخمة ثمينة وكلها من الفضة وغيرها من أنواع الزينات يكونون فيها في تَمَتّع ونعيم حيث في بعض أحوالهم يَتَّكِئون عليها أيْ يجلسون جلسةً وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم والتي تُفيد الاسْتِرْخاء علي أثاثات مُزَيَّنَة بأفخم الزينة والمفروشات
ومعني " وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴿35﴾ " أيْ وكنا جعلنا لهم كذلك زُخْرُفا أيْ زينة من ذهب وغيره مِمَّا يُتَزَيَّنُ به في كل شئون حياتهم .. وما كلّ ذلك الذي ذُكِرَ سابقا في هذه الآيات الكريمة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ إلاّ متاع الحياة الدنيا الذي يَتَمَتَّع به الناس والذي هو زائل حتما غير دائم حيث يزول بزوال المُتعة أو بزوالهم بموتهم أو بانتهاء الحياة والذي هو قليل جدا ولا يُقارَن مطلقا بمتاع الآخرة الموجود في الجنات المُدَّخَر عند الله تعالي الدائم الخالد المُتَزَايِد الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر والذي هو خالص تماما للمتقين – دون أيّ مشاركةٍ مِن الكافرين – أيْ المُتَجَنِّبين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴿36﴾ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴿37﴾ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴿38﴾ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴿39﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما حَذِرَاً من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذته علي الدوام عدوا ، أي لم تتّبع خطواته وقاومتها ولم تستجب لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك التي كلها خير وسعادة ، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه ، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾ .. وستَسعد كذلك إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴿36﴾ " أيْ ومَن يَتَعَامَيَ فلا يُريد أنْ يَرَيَ ويُغْلِق عقله فلا يريد أن يَعْقِل ويُفكر ويَتدبّر ، عن ذكر الرحمن أي القرآن والإسلام ، واختيار اسم الرحمن ليُفيد إنزاله رحمة للعالمين حيث يُرشدهم لتمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم ، سواء أكان هذا المُتَعَامِي الأعْشَيَ – أيْ ضعيف البصيرة أيْ العقل فلا يُحسن استخدامه – كافرا أي مُكذبا بوجود الله أم مُشركا أي عابدا لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أم منافقا أي مُظْهِرَاً للخير ومُخْفِيَاً للشَرّ أم مُعتديا ظالما غير عادلٍ أم فاسدا وناشرا له أم ما شابه ذلك ، فمثل هذا نُقَيِّض له أيْ نُسَهِّل له شيطانا فهو له قرين أيْ مُلاَزِم ، والشيطان هو كل مُتَمَرّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، وهو رمز لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، أيْ نُيَسِّر له صاحب وزميل بل أصحابَ وزملاءَ سوءٍ فاسدين مُلازِمِين له ، إضافة إلي تفكيره الشَّرِّيّ داخل عقله والمُلازِم دوْما معه ، فيقومون بتزيين أيْ تحسين دنياه له فيحب ويفعل الشرور والمَفاسد والأضرار ، ويُحَسِّنون له أيضا ما يَنتظره في آخرته حيث يُوهِمُوه بأنه لا آخرة ولا بَعْث بعد الموت ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ليَفعل ما أراد من شرّ ، ويختار هو ذلك بكامل حرية إرادة عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. ولم يساعده الله تعالي علي مقاومة قُرَناء السوء لأنه لم يبدأ هو بهذه المقاومة وقد نَبَّه لذلك بقوله : " إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ وكيف يُعينه وهو مُصِرّ إصرارا تامَّا علي اتِّباعهم ؟! .. وذلك علي عكس المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم بالقطع ، حيث لهم أيضا تفكير شَرِّيّ بعقولهم وقُرَناء سوءٍ حولهم ، ولكنهم يمنعونه ويمنعونهم ويفكرون في كل خيرٍ مُسْعِدٍ ، ويستعينون بربهم ويتمسّكون بقرآنهم وبإسلامهم ويعملون به ، فيُحَصِّنُون ذواتهم ضِدَّ كلّ هذا ، فيُعينهم ربهم ويُيَسِّر لهم أسباب كل خيرٍ ويَعصمهم من الوقوع في أيّ شرّ ، ولو وَقَعوا استيقظوا سريعا بالتوبة فيأخذ بأيديهم سبحانه لتعود لهم سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ ، ﴿100﴾ من سورة النحل " إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿99﴾ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴿100﴾ " ، ثم مراجعة الآية ﴿42﴾ من سورة الحِجْر ، ثم الآية ﴿65﴾ من سورة الإسراء ، لتكتمل المعاني ولمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴿37﴾ " أيْ وإنَّ قُرَنَاء السُّوء الذين ذُكِرُوا في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ يقومون تماما بوظيفتهم بأن يَصُدُّوا أيْ يَمنعوا هؤلاء الذين عَشُوا عن ذِكْر الرحمن عن السبيل ، أي عن الطريق الحقّ العدل المستقيم وهو طريقه سبحانه طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. " .. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴿37﴾ " أيْ وهؤلاء العاشُون ، وكذلك القُرَناء الذين يَصُدّونهم ، قد وَصَلَ بعضهم لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن فِعْل الشرّ والتفكير فيه والتخطيط له في عقولهم بحيث نَسوا شيئا اسمه الخير !! نسوا أيَّ خيرٍ مهما كان صغيرا أو نادرا !! بل وصلوا لمرحلةِ ألاّ يعلموا ما هو الخير وما هو الشرّ !! لا يُفَرِّقون بينهما !! بل أحيانا من شدّة سَكْرتهم ونسيانهم وتِيهِهم وخَبَلهم يفعلون الشرّ والقُبْح ويَتَوَهَّمون أنه الخير والحُسْن !! وسيَظلّون كذلك ما لم يَستفيقوا ويُحْسِنوا استخدام عقولهم ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تَعِسوا تماما فيهما
ومعني " حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴿38﴾ " أيْ يَستمرّ هذا الذي عَشي عن ذِكْر الرحمن فيما هو فيه من شرور ومَفاسِد وأضرار دون أيّ عودةٍ لربه ولإسلامه حتي يموت علي ذلك وحتي يأتينا يوم القيامة للحساب فيُقابِل قرينه أيْ صاحبه وزميله الذي كان يَصُدّه أيْ يمنعه عن طريق الله والإسلام فيقول له بكلّ حسرةٍ ونَدَامَة وحزن وغيظ وتَبَرُّؤ في وقت لم يَعُد ينفع فيه كلّ هذا كنت أتمني ألاّ رأيتك أبدا في الدنيا ولا الآن في الآخرة ففارقني وابتعد عني فأنت سبب ما أنا فيه حيث قد منعتني عن الخير وأخذتني للشرّ في حياتي واستجبتُ أنا لك بكامل إرادة عقلي وكنت أتمني أن تكون بيني وبينك أبْعَد مسافة مُمْكِنَة كما بين المشرقين أيْ بين المَشْرِق والمغرب – فالمغرب يُسَمَّي أيضا مَشْرِقَاً لأنّ المشرق في مكانٍ ما هو أيضا في ذات الوقت المغرب لآخرين ، وكلفظ الأبوين مثلا يشمل الأب والأم معا – فبئس القَرين أنت ، أيْ ما أسْوَأكَ فقد كنتَ أسوأَ صاحبٍ وزميل !! وهي كلمة تُفيد شدّة الذمّ والكراهية والغيظ والندم .. فلا يَتشبّه أحدٌ مطلقا بمِثْل هؤلاء حتي لا يقع في مثل تعاساتهم في الداريْن
ومعني " وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴿39﴾ " أيْ يُقَالُ لهؤلاء العَاشِين عن ذِكْر الرحمن في الدنيا وقُرَنائهم الذين كانوا يُضِلّونهم ، علي سبيل التأنيب والذمّ الشديد وكنوع من التعذيب النفسيّ قبل الجسديّ في النار ، أنه لن ينفعكم الآن في يوم القيامة ، بعد أن تَبَيَّن لكم أنكم كنتم ظالمين في دنياكم بكل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا ، لن ينفعكم أبدا تَمَنِّي بُعْدَ المَشْرقيْن بينكم أو الكراهية والغيظ والتَّبَرُّؤ من بعضكم والندم والحَسْرة والحزن ونحو هذا ، كذلك لن ينفعكم اشتراككم أي اجتماعكم بأن تَتَوَهَّموا مثلا أنَّ هذا التَّجَمُّع والتشارُك يُسَلِّي عنكم ويُخَفّف بعضكم عن بعض العذاب كما كان يُسَلِّي الناس بعضهم بعضا عند المآسِي في الدنيا حيث لكلٍّ منكم نصيبه من العذاب علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره ولن يُخَفِّف عذابُ فريقٍ العذابَ عن فريقٍ آخر ، وذلك لأنكم مشتركون جميعا في العذاب كما كنتم مشتركين في دنياكم في الشرور والمَفاسد والأضرار ، فبالتالي لن ينفع أحدٌ أحداً مطلقا
أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿40﴾ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ﴿41﴾ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ﴿42﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ مُوقِنا أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿40﴾ " أي هل تستطيع أنت أيها الرسول الكريم وأيها المسلم مِن بَعده – وكلّ مسلمٍ هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ مِن الصور بما يستطيع – أن تُسْمِع الصُّمَّ دعوتك لله وللإسلام وهم الذين لا يسمعون أو أن تَهدى أي تُرْشِد العُمْيَ الذين أَغْلَقوا بصائرهم أي عقولهم أو أن تُخْرِج مَن كان في ضلالٍ مُبِينٍ أي في ضياع واضح ومُصِرّ علي الاستمرار فيه ، إلى طريق الله والإسلام طريق الحقّ والعدل والصواب وتمام الخير والسعادة ؟! إنك حتما لن تستطيع ذلك .. إنه لا يُمكِن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه ، لكنه لا يُمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، حتي ولو كان أحبّ الناس وأقربهم إليه ، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه ، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية مِن خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها ، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك ، ولم يُيَسِّر له أسبابه ، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال ، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما ، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خلقه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها ، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. فلا تَحزن أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يَدْعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب ، فليس المطلوب أبدا مِن أيّ مسلم أن يكون عليهم حفيظا أيْ حافظا لأعمالهم مُراقِبا لها حتى يُحاسبهم عليها مُوَكَّلاً بهم لا يُفارقهم دون أن يؤمنوا ! فليس له إكراههم على الإيمان (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿41﴾ من سورة الزمر " .. وَمَا أنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل " ، ثم الآية ﴿48﴾ من سورة الشوري " .. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين ، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه ، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة ، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده هذا فقد أدّوا ما عليهم مِن حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وليتحمَّل المُكذبون إذن نتيجة تكذيبهم ، فالمشكلة فيهم لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بعدهم ، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم ، ولا يتأثروا بهم ، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم ، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. فلا تَحزن وتتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام ، فهم لا يَستحِقّون مثل هذه الحَسَرات ، جمع حَسْرَة ، فكن مثل رسولك الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن ، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين ، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة ، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر ، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه .. ولا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام ، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن ، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس ، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا ، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا ، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، فانْطَلِقوا إذن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم ، وانطلقوا في دعوتكم لهما ، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن ، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما .. هذا ، وقد سَمَّاهم سبحانه صُمَّاً وعُمْيَاً مع أنهم يَسمعون ويُبصرون لأنهم بمنزلة الصُّمّ والعُمْى في عدم انتفاعهم بالهُدَىَ والرشاد الذي جاءهم به القرآن والإسلام والرسول ﷺ .. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ﴿41﴾ " ، " أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ﴿42﴾ " أي هذا مزيدٌ مِن تسليةِ وتثبيتِ وتَبْشيرِ الرسول ﷺ والمسلمين ، إضافة إلي ما ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، أي فإنْ نُرِك أيها الرسول الكريم ويا كلّ مسلم مِن بَعده بعض الذي نَعِدُهم به هؤلاء الصُّمّ العُمْي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين من الانتقام أي العذاب الدنيويّ بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في أثناء حياتك ليشْفِي ذلك الانتقام منهم بعض ما في صدرك من ضيق ولتسعد بالنصر والتمكين في الأرض ، فهذا سيكون خيرا وبها ونِعْمَت ، ونحن مُقْتَدِرُون تمام القدْرة حتما علي ذلك مُتَمَكِّنون تمام التَّمَكُّن منه ولن يَفْلِتَ أحدٌ مِنَّا ، وإنْ لم يتحقّق فسيتحقّق لغيرك من المسلمين بعد أن نذهب بك إلي رحمتنا أي نَتَوَفّاك ، فقُم بتأدية ما عليك ولك أجرك العظيم علي كلّ الأحوال واتْرُك التوقيت والأسلوب له سبحانه فسيأتي به في أفضل وأنْسَب وقتٍ يُحقّق لكم تمام السعادة في الداريْن ، ولو فُرِضَ ولم يتمّ عذابهم في الدنيا بصورةٍ مِن الصور كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة بدرجةٍ ما مِن درجات التعاسة فمِن المؤكَّد أنَّ الجميع سيَرْجِع إلينا في الآخرة حيث العذاب الأكيد لهم ولأمثالهم بما هو أتمّ تعاسة وأعظم ، فليس لهم أيّ مَفَرٍّ إذن ! فهم مُعَاقَبُون مُعَذّبُون قطعا سواء رأيتم ذلك في حياتكم أم لم تَرَوْه .. فاستمِرّوا في تمسّككم بإسلامكم وعملكم بكلّ أخلاقه وحُسن دعوتكم لغيركم واصبروا علي أذاهم لتسعدوا بذلك في دنياكم وأخراكم
إنَّ علي المسلم أن يكون هكذا دائما في كلّ شئون حياته متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ نتائج أيّ سببٍ سيتّخذه مِن أجل أيّ خيرٍ لابُدَّ حتما ستتحقّق يوما ما ، إنْ عاجلا أو آجلا ، إمّا فوريا أو بعد فترة قصيرة أو متوسطة أو طويلة ، وعلي حسب نوع الخير ومقداره وحالته ، وسواء رَأَيَ هذه النتائج السعيدة للخير في أول حياته أو وسطها أو آخرها ، أو حتي لم يَرَها مطلقا فيها ! فإنها ستتحقّق حتما ! فما مِن خيرٍ إلا ويؤدّي إلي خيرٍ بكلّ تأكيد ، فهذا هو وعْد الله تعالي الذي لا يُخلف وعْده مُطلقا لأنه قادر علي كل شيء كما يقول : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ .. وللمسلم أجره وثوابه في الدنيا ، حيث سيَسعد بأنه دائما في كل خير ، وإنْ لم يتحقّق خيرٌ ما فسيتحقّق حتما له ولغيره خيرٌ غيره وخيرٌ آخر وخيرات كثيرات من الكريم الرزّاق ، ثم له بالقطع أجره العظيم في أخراه علي كلّ ذلك في أعلي درجات الجنات .. فالمهم أن يستمرّ دوْماً علي الخير ويحيا مِن خيرٍ إلي خير ، أمّا موعد النتائج وكيفية وأساليب تحقيقها فهذا متروك للخالق الحكيم مُدَبِّر أمور الخَلْق والكوْن علي أكمل وجه ، حيث سيختار له ولمَن حوله أفضل وأسعد الأوقات التي يُحَقّق لهم فيها نتائج أسباب الخير التي اتّخذوها سابقا ، وقد يُحقّقها بالشكل الذي كانوا يريدون أو بأشكال أخري أكثر خيرا وسعادة للجميع .. فاستمرّ أيها المسلم في تمسّكك وعملك بالإسلام ، واستمرّ في عمل كلّ خير ، واستمرّ في دعوة غيرك له ، وسيتحقّق انتشار الإسلام وانتصاره ، وستكون كلمته هي العليا أيْ سيَتّخذه الناس مَرْجعا لهم ليسعدوا ، وسيَنهزم وسيَهلك أعداؤه وكلّ مُكذب مُعانِد مُكابِر مُسْتَهْزِيء سواء أكان كافرا أم مشركا أم منافقا أم ظالما أم فاسدا أم غيره .. وذلك في التوقيت الذي يراه مالِك المُلك الكريم الغفور الرحيم العزيز الحكيم الخبير صالحا مُسعدا للجميع .. فالنصر من عند الله تعالي وحده ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن حَتْمِيَّة تَحَقّق نصر الله للمسلمين ، برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا﴾ .. وهذا في الدنيا .. ثم في الآخرة يَرْجِع كلّ الخَلْق إليه سبحانه وهو شاهِد عليم بكلّ ما يفعله كلٌّ مِن أهل الخير وأهل الشرّ ، فيُجازي كلاًّ بما يستحقّ مِن خيرٍ وجنان وسعادات أو شرّ ونيران وتعاسات
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿43﴾ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿43﴾ " أيْ تَمَسَّكَ يا رسولنا الكريم – ويا كلّ مسلم – بكلّ قوة بالقرآن والإسلام الذي أوحيناه إليك واعمل بكل أخلاقه واثبت عليها مهما كذّبَ به مَن كذّبَ وتَرَكه مَن تَرَك ، لأنه صراط مستقيم ، ولأنك أنت وأنتم أيها المسلمون الذين علي الصراط المستقيم أي الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ ، طريق تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن ، بينما المُكذّبون به التاركون له هم الذين في طريق الضياع والشرّ والتعاسة التامّة فيهما .. وفي هذا تثبيت وتشجيع للمسلمين للاستمرار علي التمسّك القويّ التامّ بخير القرآن والإسلام الذي هم فيه ولا ينحرفون عنه بأيّ انحراف ، وأيضا مدح لهم علي تمام تمسّكهم به وعدم تشبّههم بأيّ تاركٍ له مُنْحَرِفٍ عنه بعضه أو كله
ومعني " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴿44﴾ " أيْ وإنَّ هذا القرآن العظيم هو بكل تأكيدٍ فيه كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة .. " .. وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴿44﴾ " أيْ وستُسْأَلون يوم القيامة جميعا أيها الناس عنه هل عملتم بكلّ أخلاقه أم تركتم بعضها أم كلها أم كذّب به بعضكم وهل شكرتم هذه النعمة العظيمة بالتمسّك والعمل بها والمحافظة عليها والدعوة إليها ونشرها للجميع والدفاع عنها .. إنكم حتما ستُسألون عن كل أقوالكم وأفعالكم .. فالعاقل منكم قطعا سيُحْسِن الاستعداد للإجابة بالتمسّك به كله .. إنَّ هذا تحذير شديد للمُكذبين به المُعاندين له المُستكبرين عليه التاركِين له لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم وله ليسعدوا في الداريْن
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴿45﴾ " أيْ وانْظُر وافْحَص أيها الرسول الكريم – وأيها المسلم – في شرائع مَن أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا هل جاءت فيها أبداً دعوة الناس إلى عبادة غير الله الرحمن ؟! لم يَحدث ذلك قطعا ! فإنَّ جميع الرسل دَعَوْا دعوة واحدة ثابتة وهي ما تدعو إليه من عبادة الله وحده بلا أيّ شريكٍ ونهَوْا عن العبادة لغيره سبحانه .. فالعابدون غيره إذَن كصنمٍ أو حجرٍ أو كوكبٍ أو نحوه مُتَوَغّلون تماما في الضلال لأنهم يعلمون الإسلام لله وحده من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وهاهو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو دين الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، فلماذا إذن يكذبونكم أيها المسلمون وأنتم لم تأتوهم بشيءٍ غريب عنهم لم يسمعوا عنه ولم يعرفوه ؟! ولكنّ سبب ذلك هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿46﴾ فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴿47﴾ وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿48﴾ وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ﴿49﴾ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴿50﴾ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿51﴾ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴿52﴾ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴿53﴾ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿54﴾ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿55﴾ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ ﴿56﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت دائما من المتوكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه ، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير وتَثْبيت للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي ﷺ وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته في سورة البقرة والأعراف وطه والشعراء وغيرها ، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿46﴾ " أيْ ولقد بعثنا موسى ﷺ للناس حوله بمُعجزاتٍ باهِراتٍ مِن فضلنا وقدْرتنا ، وأهمها تحوّل العصي عند رميها إلي ثعبان وإخراج اليد من جَيْبه بيضاء تماما ، بعثناه إلي فرعون ملك مصر الظالم المُتَكَبِّر الذي قال أنا ربكم الأعلي وإلي مَلَئِه وهم وزرائه ومُستشاريه ومُعاونيه وموظفيه وسادة القوم ومَن شابههم ، فأخبرهم ناصحا ومُرْشِدا ومُحِبَّاً لهم أنه مَبْعُوث إليهم من الله تعالي ربّ العالمين أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم وراعيهم ورازقهم ومُرْشدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم ، لكي يدعوهم لعبادته وحده ويُبعدهم عن عبادة غيره وليَعملوا بدينه الإسلام ليَسعدوا في الداريْن
ومعني " فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴿47﴾ " أيْ فحينما وَصَلَ إليهم موسي ﷺ ومعه مُعجزاتنا قابَلوه وفاجَأوه بأن سارَعوا إلي الضحك والسُّخرية منها والاستهزاء والاستخفاف بها والاستكبار عليها وتكذيبها مع أنه مِن المُفْتَرَض أنْ تَلْفِتَ نَظَرَ صاحب أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يَتَدَبَّر ويَتَعَمَّق فيها مِن شدّة عظمتها وإبهارها ، ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿48﴾ " أيْ وكلّ مُعجزة نُظهرها لهم هي كبيرة عظيمة مُبْهِرَة في ذاتها بحيث إذا نَظَرَ إليها الناظِر ظنّها أكبر من بقية المعجزات الأخري لأنها وهي مُنْفَرِدَة تكون كاملة العَظَمَة وتُحقّق الهدف الذي جاءت من أجله وهو عوْنهم علي تصديقهم لرسولنا الكريم ، بل هي مِن شِدَّة إبْهَارها وعَظَمتها تكاد تُنْسِيهم أختها ومَثِيلتها الآية السابقة ! وهي حتما تُقَوِّيها وتُؤَيِّدها وتزيدها تكبيرا ووضوحا وتأكيدا وعَظَمَة وإبْهارا وقيمة ودلالة تامّة علي صِدْق موسي ﷺ .. ومع كل ذلك لم يُحسنوا استخدام عقولهم ويُصَدِّقوه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بل أغلقوها واستمرّوا في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم !! .. " .. وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿48﴾ " أيْ وبالتالي وبسبب ذلك أصَبْنَاهم بالعذاب الدنيويّ ، بدرجةٍ مِن درجاته ، كنقصِ الثمار وانتشار الجراد والقُمَّل وحدوث الطوفان ووجود الضفادع والدم في الماء وما شابه هذا مِن ضيق العيش ، رحمة مِنّا لمصلحتهم فنحن في غِنَيً قطعا عن تعذيبهم وإنما لعلهم بهذا يستيقظون ويستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليزول عنهم عذابهم ويسعدوا في الداريْن .. ولكنهم أيضا لم يَرْجِعوا فهم مُصِرُّون إذَن تمام الإصرار !! (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يَصِل الأمر للعذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
ومعني " وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ﴿49﴾ " أيْ لقد اسْتَمَرّوا في شدّة استهزائهم واستكبارهم وتكذيبهم وسوء أخلاقهم حيث كلّما نَزَلَ بهم عذابٌ مَا مِمَّا ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ سارَعوا باللجوء إلي موسي ﷺ مُسْتَنْجِدِين به قائلين له ساخِرين منه مُكذبين به إنْ كان عندك كما تَدَّعِي عَهْد مِن ربك – وليس ربنا فربنا فرعون !! – أيْ عندك نُبُوَّة وقد خَصَّكَ بعلمه دون غيرك مِمَّا استطعت به أن تأتي بخوارق العادة ، أيْ يُوحَيَ إليك منه وَوَعَدَكَ باستجابة دعائك ﴿وسُمِّيَت النّبُوَّة عهدا لأنّ الله تعالى عاهَدَ نَبِيَّه وَوَعَده أن يُكرمه ويَرفع شأنه ويُسعده والناسَ بها ولأنَّ لها حقوقا تُحْفَظ ويُلْتَزَم بها منهم كما يُحْفَظ العَهْد والميثاق ويُلْتَزَم به﴾ ، فأَرِنا ذلك إذَن فادعوه ليَكشف عنّا ما نحن فيه فإنْ كَشَفَه فسَنُصَدِّقك فيما جئتنا به وسنهتدي لعبادة هذا الربّ ولاتّباع دينه الإسلام !! .. هذا ، وعند كثير من العلماء أنَّ طلبهم من موسي ﷺ كان جادَّاً لا سُخرية فيه لأنهم في حالة استغاثة حقيقية به ولفظ الساحر يعني عندهم وقتها العالِم القادر علي أشياء عظيمة تعظيماً له وليس انتقاصاً منه ، وقالوا مُتَذَلّلِين له مُتَلَطّفِين معه ادْع لنا ربك بحقِّ عهده إليك بالنّبُوَّة ، لئن كَشَفَ عنّا ربك هذا العذاب الذي نَزَلَ بنا إننا لمُهْتدون أىْ سَنُصَدِّقك وسنُؤمِن بربك وسَنَتَّبعك في كل ما تأمرنا به وتنهانا عنه وسنَتّبع دينك الإسلام
ومعني " فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴿50﴾ " أيْ فبمُجَرَّد أن أزَلْنا عنهم العذاب الذي أنزلناه بهم ليستفيقوا به وليعودوا إلينا ، استجابة لدعاء موسي ﷺ ، غَدَروا ولم يَفُوا بعهدهم فلم يؤمنوا واستمرّوا في عبادتهم لغيرنا وفي شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ! وذلك يحدث منهم في كل مرة يكشف الله عنهم عذابهم !! مِن شدّة تكذيبهم وغدرهم ومُرَاوَغتهم ونقضهم لوعودهم !!
أمّا معني " وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿51﴾ " أيْ جَمَعَ فرعون قومه بعدما خشي أن يقتنعوا بموسي ﷺ ويُصَدِّقوه بعد هذه المُعجزات التي جاء بها وبعد أن استجاب الله لدعائه وكَشَفَ عنهم عذابهم فقال لهم – بنفسه أو من خلال مُنادِين يَنتشرون بينهم – بما يدلّ علي تمام تكذيبه وعِناده وتَكَبّره وافتخاره وتَوَهّمه بعظمته مُحاوِلاً نِسْبَة العَظَمَة والكمال والقوة والملك والسلطان والهيبة له بينما موسي لا شيء له من هذا فلْيُطيعوه هو إذن !! قال لهم هل أنا أم غيري المالِك المُتَحَكّم المُتَصَرِّف بلا أيّ مُنازِع في مُلك مصر وخيراتها وثرواتها ؟! فأنا إذن الذي سأنفعكم لا موسي !! .. " .. أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿51﴾ " أي هل عَمِيتم وأغلقتم عقولكم عن مشاهدة وتَدَبّر عظمتي وقوتي وثرائي وانحطاط شأن موسي وضعفه وفقره ؟! فموسى لو كان علي حقّ لَأَكْسَبَ نفسه مِن المُلك مثل الذي أنا فيه !! وكل ذلك محاولات منه لتثبيتهم علي طاعته وتنفيرهم من اتِّباع الإسلام الذي يدعوهم إليه موسي ﷺ !! وهذا يدلّ علي بدء اهتزاز موقفه أمام الحقّ الذي يُواجهه
ومعني " أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴿52﴾ " أيْ هذا أيضا مزيد من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ومزيد من محاولات تشويه صورة موسي ﷺ من أجل اجتذاب الناس له وإبعادهم عنه بتعظيم شأن نفسه وتحقيره ﷺ حيث أجْرَيَ مُقَارَنَة كاذِبة بينهما فقال لهم هل أنا خير بما لي من مُلكٍ وسلطان أم هو هذا – ولفظ هذا هنا يُفيد التحقير – الذي هو مَهِين أيْ ذليل حقير ضعيف لأنه ليس له مال ولا نفوذ وهو أيضا حتي لا يستطيع تَبْيين وتوضيح ما يريد قوله ؟!! إنه حتما أنا الذي هو خير أليس كذلك ؟! وهو بالقطع كذب واضح علي الناس مُسْتَغِلَّاً خوفهم منه وإغلاقهم عقولهم حيث موسي ﷺ بما أيّده الله به من مُعجزاتٍ له هيبته وعظمته وتقديره عندهم – فليس المقياس هو مقياسه الماليّ فقط كما يَدَّعِي – وبما أعطاه سبحانه من حجج وأدِلّة وبراهين قد حاوره وأخْرَسَه بها رغم طغيانه وجبروته ولولا شعوره ببداية هزيمته لَمَا قال ذلك فقوله دَلاَلَة علي اهتزازه وضعفه لا ثباته وقوّته !!
ومعني " فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴿53﴾ " أيْ هذا أيضا استمرار منه في مزيدٍ من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ومزيدٍ من محاولات تشويه صورة موسي ﷺ من أجل اجتذاب الناس له وإبعادهم عنه بتعظيم شأن نفسه وتحقيره ﷺ ، حيث قال لهم : فَلَوْ كان أنزَلَ ربّ موسي الذي يَدَّعِي أنه يُوحِي إليه عليه وأعطاه وألبسه أساور من ذهب توضع في يديه كدَلاَلةٍ علي أنه ملك وعظيم – حيث كان هذا في زمنهم هو المُتَعَارَف عليه من زِيِّ الملوك والعظماء – أو كان أرسل معه الملائكة تكون مرتبطة به مُتَرَافِقَة معه مُصاحِبَة مُلاَزِمَة له تخدمه وتُؤيّده وتنصره وتشهد له بصِدْق ما يقول ، لكُنَّا صَدَّقناه ، ولكنه لم يفعل له شيئا من هذا فهو إذَن كاذب !! إنَّ هذه هي الصورة المادِّيَّة التي يحاول فرعون أن يُصَوِّرها للناس عن صفات الرسول ، وليس الخُلُق الحَسَن والإرشاد للخير بالوَحِي والتأييد الإلهيّ بالمُعجزات ، وذلك كمحاولةٍ منه لكي يَخدعهم بها ويُثْبِت كذب موسي وأنه ليس برسول !! هذا وفرعون يُكَذّب وجود الله والملائكة أصلا ولكنه يقول ذلك مُجَارَاة لِمَا كان يقوله موسي ﷺ ليُحاول إثبات كذبه
ومعني " فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿54﴾ " أيْ فاسْتَهَانَ بعقول قومه بهذا الكلام السفيه التخريفيّ الذي يقوله حيث وجدهم خِفَاف ضِعَاف طائشِي العقول سَطْحِيِّين مُتَعَجِّلِين فدعاهم إلي سَفَهه وتخريفه فاستجابوا له في خِفّة وسرعة دون تَأَنِّي وتَعَقّل وتَدَبُّر وأطاعوه فيما يطلبه منهم من عبادته هو وتكذيب موسي ﷺ وعدم عبادة الله رب العالمين ! وما كل ذلك إلا بسبب أنهم أصلا كانوا فاسقين أي خارجين عن طاعة الله وأخلاق دينه الإسلام ، أي يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار ، ولَوْلاَ ذلك لَمَا استطاع أبدا أيّ أحدٍ أن يَسْتَخِفَّ ويَتَلاَعَب بعقولهم ويَخدعهم بأيّ شيء ، فَفِعْل الشرور والمفاسد حتما يُعَطّل العقول ، إضافة إلي أنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنَّ هذا هو دائما حال مَن يُعَطّل عقله ، يَسْتَخِفّ ويَتَلاَعَب به ويَخْدعه أيّ سَفِيه !! فلا تكن كذلك أبدا أيها المسلم وإلاّ تَعِسْتَ تماما في الداريْن
ومعني " فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿55﴾ " أيْ فحينما أغضبونا غَضَبَاً شديداً ، فرعون وقومه – وحيث أنه سبحانه لا يُمكن إغضابه وليس غضبه كغضب البَشَر قطعا فالمقصود إذن أنه كلّ مَن يفعل ما يُغْضِب رسوله ﷺ ويُحزنه مِن قولٍ أو فعلٍ كترْكٍ لبعض الإسلام أو كله أو سَبٍّ لله أو له أو للإسلام والمسلمين أو ما شابه هذا من إيذاءٍ فإنه يُؤذِي الله تعالي أي يُغضبه ويُعَاقِب عليه لمكانته ﷺ وتكريما وتعظيما له وللمسلمين معه وبَعْده – وذلك بسبب إصرارهم تمام الإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وخِفَّة العقول وفِعْل الشرور والمَفاسِد والأضرار دون أيّ خطوةٍ نحو العودة للخير رغم إمهالهم وتركهم وإعطائهم الفُرَصَ بَعْدَ الأخري وتحريك عقولهم بالمُعجزات المُبْهِرات ليعودوا لربهم ولدينه الإسلام ليسعدوا في الداريْن لكن مع كل ذلك ظَلّوا مُصِرِّين علي ما هم فيه ، فلابُدَّ إذن من التخلّص منهم لإرَاحَة الخَلْق من شرورهم وتعاساتهم ، فانتقمنا منهم أي عاقبناهم وعذبناهم عذابا شديدا حيث أغرقناهم جميعا في ماء البحر ، وذلك في الدنيا قبل عذاب الآخرة الأشدّ والأتمّ والأخلد (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
ومعني " فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ ﴿56﴾ " أيْ وجعلناهم سابِقين ومُتَقَدِّمِين وقُدْوَة يُنْظَر إليها في العذاب – والسَّلَف جمع سَالِف وهو السَّابِق والمُتَقَدِّم – وحديثاً عجيباً كالأمثال ، ليكونوا دَرْسا وعِبْرَة ليَتَّعِظ بهم جميع الناس الذين سيأتون مُتَأَخِّرين بَعدهم إلي يوم القيامة من أجل ألا يُقْدِمُوا أبدا علي مِثْل فِعْلهم وإلا اسْتَحَقّوا مِثْل عقابهم بل يكونوا صالحين ليسعدوا في الداريْن
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴿57﴾ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴿58﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿59﴾ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴿60﴾ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿61﴾ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿62﴾ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿63﴾ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿64﴾ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿65﴾ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿66﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة ، للساعة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! .. وإذا كنتَ دوْما حَذِرَاً من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذته علي الدوام عدوا ، أي لم تتّبع خطواته وقاومتها ولم تستجب لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسكتَ بكل أخلاق إسلامك التي كلها خير وسعادة ، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل ، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه ، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾
هذا ، ومعني " وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴿57﴾ " أيْ وحينما يُذْكَر مَثَلُ عيسي ابن مريم أنه خَلَقه سبحانه القادر علي كل شيءٍ من أمٍّ فقط من غير أبٍ كما خَلَقَ آدم من تراب بلا أب ولا أمّ أصلا ، والذي يَقْدِر علي الأعلي يقدر حتما علي الأقلّ بكل تأكيدٍ مِن باب أوْلَيَ ، وأنه هو إذَن بَشَر عَبْد لله مخلوق من مخلوقاته مُنْعَم عليه بالنّبُوَّة ولا يُمكن عبادته من دون الله ، إذا بكَ تَجِد يارسولنا الكريم ويا أيها المسلم مِمَّن حولك مَن يَسْتَكْثِرون ذلك ويَستبعدونه عليه سبحانه العليم القدير ويَصدّون عنه أيْ يُعْرِضون أيْ يُعطونه ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون ويَتركونه ويهملونه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء !!
ومعني " وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴿58﴾ " أيْ وقال بعض المشركين الذين كانوا يعبدون غير الله تعالي كالملائكة والكواكب وغيرها هل آلهتنا التي نعبدها أفضل أم هو أيْ عيسي الذي يَعبده بعض النصاري ؟! إننا نحن الأفضل بكل تأكيدٍ لأننا عبدنا شيئا مَنْسُوبَاً لله وهي الملائكة بينما هم عَبَدوا بَشَراً مثلهم !! فهم يُفاضِلون بين ضلالٍ وضلال ، بين شرٍّ وشرّ !! فما أخْبَلهم وأسْفَهَهم وأسوأهم وما أشدّ مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم !! .. " .. مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴿58﴾ " أيْ ما ذَكَرُوا لك هذا القول لطَلَب الحقّ وللوصول إليه لاتِّباعه وللعمل به ليَسعدوا وإنما لمُجرّد الجدال بغير أيّ وَجْه حقٍّ حيث هم يعلمون تماما بداخل عقولهم وفي فطرتهم بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) أنَّ الله هو الخالق كما اعترفوا هم بأنفسهم بذلك في الآيات السابقة (برجاء مراجعة الآية ﴿9﴾ من هذه السورة لتكتمل المعاني﴾ ولو أحسنوا استخدام عقولهم لَعَلِموا ولَتَأكَّدوا أنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ، ولكنهم يُجادلون لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فهم قوم خَصِمُون أيْ مُتَعَمِّقون مُبالِغون ماهرون شديدون في الخِصام والجِدال بدون أيّ وَجْه حقّ !! .. والجدال هو صورة سيئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، ويزداد الجدال سوءا إذا كان بغير علم ، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم ، وكان لا يستند لأيّ هُدي أي دليل عقليّ منطقيّ مُقْنِع ، ولا لأيّ كتاب منير أي وَحْي من الله واضح كالقرآن أو ما نَزَلَ قبله ولم يصبه تحريف ، فهذا هو أصدق مَرْجع ، ولكنه يعتمد أساسا وفقط علي تخاريف وتفاهات وسخافات وتشويهات لله وللرسل وللقرآن وللإسلام وللمسلمين ، وهي غير مقبولة حتما من الفطرة ولا من أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. فلا تَهْتَمّوا ولا تَتأثّروا إذَن أيها المسلمون بمِثْل هذا واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم لتسعدوا في الداريْن
ومعني " إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿59﴾ " أيْ ما عيسي ابن مريم إلاّ عَبْد قد خلقناه ورزقناه ورَبَّيناه وراعيناه كما نفعل مع كل عبادنا وخَلْقِنا قد أنعمنا عليه باختياره لحُسْنِ خُلُقِه ليكون رسولا لنا يُبَلّغ الناس دينهم الذي هو أصله الإسلام ليَعملوا به ليَسعدوا تمام السعادة في الداريْن وقد جعلناه عِبْرَة عجيبة يُتَحَدَّث بها كالمَثَل لبني إسرائيل ليَستدِلّوا بها علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا فيعبدونا وحدنا بلا أيّ شريكٍ حيث خلقناه مِن أمٍ فقط بلا أب وقلنا له كن فكان ، فهو إذَن ليس إله وبالتالي فلا يُمكن مطلقا لأحدٍ أن يعبده لأنه مخلوق بَشَر مثلكم من مخلوقاتنا يُصيبه ما يصيبكم من مرض وفقر وغيره ، وإنما المُسْتَحِقّ وحده للعبادة هو الله الخالق الكريم القادر علي كل شيءٍ العالِم تمام العلم به الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ
ومعني " وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴿60﴾ " أيْ ومن علامات كمال قُدْرتنا وعِلْمنا كذلك أننا لو أردنا لَوَلَدْنا منكم يا بَشَر ملائكة – كما خَلَقْنا عيسي من غير أب – يَخْلفونكم في الأرض كما يَخْلفكم أولادكم ويفعلون مثل أفعالكم من أكل وشرب وتَنَاسُل وغيره فتعلمون وتتأكّدون أنها مخلوقات مثلكم ، فكيف يعبدها بعضكم إذَن ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! كما أننا قادرون تماما علي أن نهلك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين منكم ونجعل بدلا منهم ملائكة يَخلفونهم أيْ يَأتون خَلْفهم وبَعْدهم ويَخْلف بعضهم بعضاً بالتناسُل يُطيعوننا في الأرض ولا يكونوا مثلهم ! فكلّ الخَلْق تحت سلطاننا وقُدْراتنا وكلّ شيءٍ مُعْجِزٍ هو سَهْل مَيْسُور عندنا بمجرّد قول كُن فيكون كما نريد ، وفي هذا تهديد شديد لهم ولِمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿61﴾ " أيْ وإنَّ خَلْق عيسي ﷺ هو بالتأكيد إعلام يُعْلَم به مَجِيء الساعة أي يوم القيامة ودليل يُسْتَدَلّ به علي أنها حقّ أيْ صِدْق ، وذلك للإعجاز في خَلْقِه بغير أب بقول كُن فكان وإحيائه للموتي بأمر الله ، فالقادر سبحانه علي فِعْل ذلك وغيره من مُعجزات هو قادر حتما علي بَعْث الموتي من قبورها بعد كوْنها ترابا أيْ إحيائها في الآخرة بأجسادها وأرواحها حيث الخِلْقَة الثانية أهْوَن لأنها أصبحت معروفة ليكون الحساب الختاميّ لينال أهل الخير كل خير وسعادة وأهل الشرّ كل شرٍّ وتعاسة بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم .. وكذلك إنَّ هذا القرآن العظيم هو أيضا عِلْم يُعْلَم به أحوال الآخرة حيث يُخْبِر عنها وكيفية إحسان الاستعداد لها بالتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام .. وكذلك إنَّ إرسال الرسول محمد ﷺ هو أيضا علامة علي قُرْب الساعة لقوله ﷺ " بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتيْن " وضَمَّ السَّبَّابَة والوُسْطَىَ ﴿أخرجه البخاري ومسلم﴾ .. " .. فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ .. " أيْ فلا تَشُكّوا أو تُجادلوا فيها ، أي الساعة ، فهي حقّ بكل تأكيد عند كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل وبالتالي فاتبعونِ أيْ فاتّبعوا أيها البَشَر هُداي وشرعي ورسولي ، واتّبعوني أنا رسول خالقكم بأنْ تَتَّبِعوا ما يَدْعوكم إليه قرآنكم وإسلامكم ورسولكم ودُعاتكم لتسعدوا بهذا الاتّباع تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿61﴾ " أيْ هذا الذي تُدْعَوْن لاتِّباعه هو حتما طريقٌ مُعْتَدِل صحيح صواب مُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن .. إنه طريق الله والإسلام
ومعني " وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿62﴾ " أيْ وإيّاكم واحْذَروا تماما أن يمنعكم الشيطان عن اتِّباع هذا الصراط المستقيم لأنه لكم عدو واضح أي ضِدّكم يريد إضلالكم أي إبعادكم عن كلّ خيرٍ وسعادة في دنياكم وأخراكم ، والشيطان هو كل مُتَمَرّد علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه ، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾ .. فالعاقل لا يَستجيب حتما لعدوه ! بل يتّخذه هو أيضا عدوا ويَظلّ حَذِرَاً منه علي الدوام ويقاومه ويجتهد في هزيمته لكي ينجو من شروره ومَفاسده وأضراره وتعاساته فيَسعد في دنياه وأخراه
ومعني " وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿63﴾ " أيْ وحينما أرْسَلَ الله تعالي عيسي ﷺ لبني إسرائيل وللناس حوله بعد وفاة موسي ﷺ بفترةٍ وجاءهم بالبيّنات أي بالمُعجزات التي أيَّده سبحانه بها والتي تدلّ علي صِدْقه أنه يُوحَيَ إليه منه كإحياء الموتي وإشفاء المرضي ونحو هذا ، قال لهم ناصحا مُرْشِدا لقد أُرْسِلْتُ لكم بالحكمة أيْ بالإنجيل الذي أصله الإسلام والذي فيه كل ما يدعو إلي الحكمة أيْ إلي كل جميل بلا أيّ قبيح وإلي كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ وإلي وضع كل أمرٍ في مكانه الصحيح بكل حكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث وإلي كلّ ما يُناسب زمنكم من أخلاقيّات تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ .. " أيْ وأيضا أُرْسِلتُ إليكم لكي أوضِّح وأصَحِّح لكم من خلال هذا الإنجيل بعض الأمور التي اختلفتم فيها في التوراة بعد وفاة موسي ﷺ من حيث فهمها وتفسيرها وتطبيقها أو بسبب تحريفها من بعض الفاسدين ، لكي تجتمعوا بهذا التبيين والتوضيح والتصحيح علي الحقّ والعدل والصواب ، علي خير وسعادة الإسلام .. " .. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿63﴾ " أي وبالتالي فكونوا من المُتَّقِين لله أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدكم ولو للحظة عن حبّ ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُوا أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعوا لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم .. وكونوا مِن المُطيعين أيْ المُستجيبن لي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله وحده بلا أيّ شريكٍ ومن التمسّك بكل أخلاق الإسلام لتسعدوا في الداريْن
ومعني " إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿64﴾ " أيْ إنَّ الله تعالي وحده لا غيره حتما هو ربّي وربّ جميع الناس وكلّ الخَلْق أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء أيضا ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، وقد ابتدأ بنفسه أنَّ الله هو ربه لكي يقطع أيَّ طريقٍ علي مَن قد يَدَّعون كذبا أنه ابن الله لأنه وُلِدَ مِن غير أبٍ أو أنه شريك هو وأمه مع الله ليكون المعبود ثلاثة أو ما شابه هذا مِن تخريفاتٍ تعالي سبحانه عنها عُلُوَّاً كبيرا .. " .. هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿64﴾ " أي هذا الذي أدعوكم إليه هو حتما طريقٌ مُعْتَدِل صحيح صواب مُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن .. إنه طريق الله والإسلام
ومعني " فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿65﴾ " أيْ فلمَّا جاء عيسي ﷺ لمَن حوله مِن اليهود وغيرهم بهذا ، اختلفوا فيما بينهم ، وتَحَزَّبوا أحزابا ، والحزب هو مجموعة من الناس ، فمنهم مَن آمن بالله وبرسوله وبإسلامه ، فسَعِدَ في الداريْن ، ومنهم مَن كفر أي لم يُصَدَّق بهذا ، ومنهم مَن ادَّعَيَ كذبا وظلما وزورا وعِنادً أنَّ عيسي إلهٌ أو ابن إلهٍ لأنه وُلِدَ مِن غير أبٍ أو أنه شريك هو وأمه مع الله ليكون المعبود ثلاثة أو أمه مريم العفيفة قد ارتكبت الفاحشة فأنجبته أو ما شابه هذا من خرافات وأكاذيب ، وكل هؤلاء قد تَعِسوا وتَعَذّبوا في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، تَعِسُوا بقَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ عذابٍ وألمٍ وكآبة وتعاسة .. " .. فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿65﴾ " أيْ فبالتالي سيكون لكل هؤلاء الذين ظلموا ومَن تَشَبَّه بهم ، أيْ ظَلَموا ذواتهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم ، بأيّ صورةٍ مِن صور الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، سيكون لهم الوَيْل أيْ الهلاك بسبب عذابِ يومٍ مُؤلمٍ مُوجع هو يوم القيامة بكل أنواع عذاباته في نار جهنم حيث ما هو أتمّ عذابا وتعاسة وأعظم وأشدّ وأدْوَم
ومعني " هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿66﴾ " أيْ هل وَصَلَ إصرار المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين واستمرارهم علي ما هم فيه مِن تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاءٍ ونسيانِ الاستعداد للآخرة واللاّمُبَالاة بها إلي درجةِ أنهم لم يعودوا ينتظرون أيَّ تغييرٍ مِن أنفسهم وعودةٍ نحو الخير بل ينتظرون فقط نهايتهم بموتهم أو بقيام الساعة أي يوم القيامة والتي يُكذّبون بها أصلا الأمر الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم ولامُبَالاتهم وغفلتهم ؟!! هل وَصَلوا إلي هذا الحَدّ ؟!! .. إنّهم إذا كانوا هكذا فلن يَنتَظِروا إذَن وقتاً طويلا حتي يَتَحَقّقَ ما يَستعجلونه من نزولِ العذاب بهم بدرجاته وصوره المختلفة والذي لا يُصَدِّقونه ! وإنما هي أوقات قليلة ثم تأتي ساعة ولحظات عذابهم الدنيويّ أو موتهم وعذاب هذا الموت وعذاب قبورهم أو لحظة قيام الساعة حيث نهاية الحياة الدنيا وبداية الحياة الآخرة ، وكلّ ذلك سيأتي حتماً وبكلّ تأكيدٍ وفجأةً وبسرعةٍ خاطِفَةٍ ليَأخذهم أي يُعَذّبهم ويهلكهم ولا يحتاج لكثيرِ وقتٍ أو جهدٍ فالله تعالي قادرٌ علي كل شيء ، وسيأتي وهم لا يُحِسُّون بمَجيئه ولا يعلمون متي حدوثه وبالتالي فلا يمكنهم الاستعداد له فيكون الندم حينها أشدّ لأنه لن يفيد بأيّ شيءٍ فليس لهم أيّ فرصة للتصويب وللعودة للخير بل ينتظرهم أمامهم فقط العذاب ، وهو سيَحدث لهم وهم علي أحوالهم التي اعتادوا عليها وانشَغلوا وتَلّهوا بها دوْما في حياتهم الدنيا من الخِصام والتشاجُر والتنازُع والجدال في عدم البعْث وغيره من التكذيب والحوار مع الآخرين في أعمالهم وأسواقهم وغيرها .. وفي هذا استهزاءٌ وإنذارٌ وتهديدٌ شديدٌ لهم ونُصْحٌ أيضا ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان ، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها ؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته !! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴿67﴾ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿68﴾ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴿69﴾ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴿70﴾ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿71﴾ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿72﴾ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿73﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المتقين لله في كل قولٍ وعمل لأنه يعلم كل ما يُخفيه الإنسان وما يُعلنه ، أي كنت دائما من المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) أي مُصَدِّقا بوجود الله وبجنته وناره وحسابه وعقابه في الآخرة يوم القيامة حين يبعث الناس إليه بعد موتهم .. وإذا كنتَ دائما تعمل الصالحات أيْ متمسِّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴿67﴾ " أيْ الأصدقاء والأصحاب ، جمع خليل وهو الصديق والصاحب الذي يَتَخَلّل حبه في الآخر ، والذين كانوا يجتمعون ويتعاونون علي التكذيب والعِناد والاستكبار علي الله ورسوله والإسلام والمسلمين ، والذين كانوا يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، هؤلاء يومئذ ، يوم القيامة ، سيُصبح بعضهم لبعض عدوّا ، أيْ ضِدَّاً وكارهاً ، أيْ تَنقلب تماما صداقتهم ومَحبَّتهم إلي عداوة وكراهية حيث سيَنكشف هذا الحُبّ الزائف المُضِرّ المُنافِق وسيَتبرّأ ويَتخلّص ويَبتعد ويُكَذّب ويَسُبّ بعضهم بعضا ، بل وسيَدْعُون علي أنفسهم باللعنة أي الإبعاد عن كلّ خيرٍ ورحمة ، لأنَّ كلاّ منهم كان مِن ضِمْن أسباب ما هم فيه يومها مِن عذاب ، ولن يكون لهم حينها حتما أيّ مأوي ومصير ومستقرّ إلا النار ينالون فيها ما يستحقّون من عذاب الله ، ولن يكون لهم هناك وقتها أيّ ناصر ينصرهم أيْ ينقذهم منها كما كانوا يتناصرون في الدنيا .. فاستفيقوا يا أمثال هؤلاء قبل فوات الأوان ، وعودوا لربكم ودينكم الإسلام لتسعدوا في الداريْن .. " .. إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴿67﴾ " أي لكنَّ المتقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، والذين كانوا أخِلّاء علي التقوي ، علي الإسلام ، لن يَحدث لهم ذلك قطعا ، بل صداقتهم في دنياهم تنفعهم في أخراهم حيث هم تزداد أُخُوَّتهم وتَتَلاحَم وتتراحَم كثيرا عمَّا كانت بينهم في الدنيا بفضل ربهم وينعمون ويسعدون بخيراتها خالدين بلا نهاية في رحماته سبحانه في أعلي درجات جناته .. والآية الكريمة هي تحذيرٌ شديدٌ للمُكذّبين المُفسدين ومَن يشبههم ليستفيقوا ، وتبشير عظيم للمتقين ليستمرّوا علي ما هم فيه ويزدادوا منه
ومعني " يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿68﴾ " أيْ يُبَشِّرهم ويُسعدهم ويُطَمْئِنهم ويُشَرِّفهم ويُكرمهم سبحانه يوم القيامة بأعظم بُشرَيَ فيها تمام السعادة والاطمئنان والتي لا يَتْبعها أيّ تعاسة أو خوف أو حزن أبدا حيث يُناديهم بذاته العَلِيَّة قائلا يا عبادِ الذين شَرَّفتهم بنِسْبَتِهم إليّ والذين أطاعوني في دنياهم لا خوف عليكم اليوم من أيّ شيءٍ يُخيفكم فلقد أُبْعِدَ ومُنِعَ عنكم أيّ نوع من أنواع الخوف فأنتم لا يُصيبكم مثلما يُصيب الآخرين الذين ارتكبوا الشرور والمَفاسد والأضرار من آلام انتظار الحساب وابتدائه واستمراره والعقاب والعذاب بعده ونحو هذا ، كما أنكم لا تَحزنون لأيّ خيرٍ تفقدونه في الجنة أو كنتم لم تُحَصِّلُوه في الدنيا لأنكم في الخير التامّ المُتَزَايد والسعادة اللانهائيَّة
ومعني " الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴿69﴾ " أيْ هذا هو وَصْفهم وحالهم الطيّب والذي استحَقّوا به تمام الخير والأمن والسعادة ، أنهم صَدَّقوا بعقولهم في دنياهم بآياتنا في كتبنا وآخرها القرآن العظيم وبدلائلنا علي وجودنا ومُعجزاتنا في كل مخلوقاتنا في كَوْننا وبكلّ المُعجزات التي أيّدنا بها رسلنا ، وصَدَّقوا بجَنّتنا ونارنا وحسابنا وعقابنا في الآخرة يوم القيامة حين نبعث الناس إلينا بعد موتهم ، وكانوا عابدين طائعين لنا وحدنا بلا أيّ شريكٍ مُجتهدين بعد تصديقهم العقليّ في التمسّك عمليا في واقع حياتهم بكلّ أخلاق دينهم الإسلام الذي بَلّغهم به رسلهم ليُكملهم ويُصلحهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، فسعدوا بذلك حقا فيهما
ومعني " ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴿70﴾ " أيْ هذا هو جزاؤهم العظيم حيث يُقال لهم ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم أيْ أمثالكم في عمل الخير من زوجاتٍ وآباءٍ وأبناءٍ وأقارب وأصحاب وغيرهم لِتَتِمّ سعادتكم بهذا الجَمْع الطيِّب المُبارَك ، حيث تُحْبَرُون فيها أي تُسعَدون سعادة غامِرَة وتُسَرُّون سرورا شديدا وتُنَعَّمُون وتُكْرَمُون أعظم التَّنَعُّم والتكريم بما ترونه من كل أنواع النعيم ممَّا لا عيْن رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني " يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿71﴾ " أيْ ومِمَّا يُكْرَمُون ويُنَعَّمون ويُسْعَدُون به أنهم وهم في الجنة تُمَرَّر عليهم بواسطة خَدَمهم صِحاف من ذهب أيْ أواني كبيرة ذهبيّة فَخْمَة وأكواب نَفيسة ، وفيها أي في الجنة – وأيضا في هذه الصحاف والأكواب – كل ما تتمنّاه وتَسعد به النفوس وتحب أن تراه وتتمتع به العيون من أفخم أنواع المُشتهيات المختلفة حسبما يريدونه فيرونه أمامهم بمجرّد تَمَنِّيه مِمَّا لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر .. " .. وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿71﴾ " أيْ ويُقال لهم استكمالا لتمام الأمان والسعادة وأنتم يا أهل الجنة في مُتعها هذه المُتَزَايِدة دائمون بلا أيّ انقطاع أو نقصانٍ أو نهايةٍ ولا تُخْرَجُون منها أبدا
ومعني " وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿72﴾ " أيْ ويُقال لهم استكمالا لتمام التكريم والتشريف أنَّ هذه الجنة التي تَرونها والتي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين هي التي سَمعتم بها ووُعدتم بدخولها في دنياكم وهي التي أُعْطِيتم ومُلِّكْتُم إيَّاها الآن كما يَمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا ، من عظيم فضل الله ورحمته عليكم ، بسبب الذي كنتم تعملونه من خيرٍ وَصَّاكم به ربكم وإسلامكم في حياتكم الدنيا
ومعني " لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿73﴾ " أيْ لكم فيها – إضافة إلي ألَذّ الأطعمة والمشروبات المختلفة – فواكه كثيرة متنوّعة لذيذة مِمَّا تشتهونه وتتمنّونه تأكلون منها هنيئا كيفما تريدون وحسبما تختارون .. والفاكهة بعد الطعام دلالة علي تمام الفخامة والرفاهية والنعيم
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿74﴾ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴿75﴾ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴿76﴾ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ﴿77﴾ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴿78﴾ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴿79﴾ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴿80﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسِّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا لم تكن مِن المجرمين وهم الذين يرتكبون الجرائم أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار بأنواعها المختلفة
هذا ، ومعني " إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿74﴾ " أيْ لمَّا ذَكَرَ تعالي حال السعداء في الآيات السابقة يذكر حال التعساء ليُقارِن صاحب كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ فيُحسن الاختيار باتِّباع الإسلام ليَسعد في دنياه وأخراه ، فيقول سبحانه مؤكِّدا علي أنَّ المجرمين هم حتما في عذاب النار مُقيمون دائمون فيها علي حسب درجة إجرامهم ، وهم الذين ارتكبوا الجرائم بكل أنواعها سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا .. إنَّ الكافرين والمشركين من هؤلاء المجرمين خالدون في عذاب جهنم بلا نهاية إلي ما شاء الله ، أمّا غيرهم فينالون منه ما يناسب جرائمهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ثم يخرجون إلي أقل درجات الجنة بعد قضاء فترة عقوبتهم
ومعني " لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴿75﴾ " أيْ لا يُخَفّف عنهم عذابهم ولو للحظة وهم فيه يائسون مِن أيِّ أملٍ في تخفيفه أو انتهائه فهم مُستسلمون تماما له وقد تَجَمّع عليهم كلّ الألم واليأس والحَسْرَة والذلّة والتعاسة
ومعني " وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴿76﴾ " أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم ، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره ، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما ، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم ، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم ! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة ، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ﴿77﴾ " أيْ ومن شدّة عذاب هؤلاء الظالمين المجرمين وما هم فيه من ألمٍ وذِلّة وحَسْرة وتعاسة يَصِل بهم الحدّ إلي أن يتمنوا الموت لعلهم يستريحون به فيُنادوا علي المَلَك خازِن النار المُشرِف علي تعذيبهم بأمر الله يقولون له بكل استعطافٍ وذلٍّ يا مالِك – أو يا مَلَك – اطلب من ربك أن يَقضي علينا أيْ يُميتنا حتي نستريح مِمَّا نحن فيه فيَردّ عليهم قاطعا أيَّ أملٍ لهم في أيِّ تَغَيُّرٍ أو نهاية إنكم مُقيمون مُستمرّون في عذابكم إلي ما شاء الله دون موتٍ بل هذه هي حياتكم فيَزداد ألمهم وهَمّهم وتزداد حَسْرتهم وكآبتهم وتعاستهم
ومعني " لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴿78﴾ " أيْ هذا رَدٌّ من الله تعالي عليهم ، أو من المَلَك ، لمزيدٍ مِن تأنيبهم وذمّهم ذمّا شديدا ، ألاّ تلوموا إلاّ ذواتكم فأنتم السبب فمهما ندمتم فلن ينفعكم الآن أيّ ندم ، فسبب عذابكم وأنكم ماكثون فيه تعرفونه جيدا أننا قد أرسلنا إليكم في دنياكم رسلنا بالحقّ أي بالإسلام وأحسنوا دعوتكم إليه ووَضّحوه لكم ولكنكم كرهتموه ولم تحبّوه أي لم تَتّبعوه واخترتم بكامل حرية إرادة عقولكم فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بأنواعها المختلفة لأنكم قد عطّلتم هذه العقول بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ولفظ " أكثركم " يُفيد تمام الدِّقة والإنصاف حيث بعضهم لم يكن كارها للإسلام بل فَعَلَ السيئات انسياقا وراءها ومُجاراةً وتقليدا لغيره من أجل أثمان الدنيا الرخيصة
أمّا معني " أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴿79﴾ " أيْ هل أحْكَمُوا واتفقوا وجَمَعُوا وعَقَدوا وقرَّروا فيما بينهم هؤلاء المُجرمون كَيْدَاً شَرِّيَّاً مَا ضِدَّ الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين ؟! إنْ كانوا يَتَوَهَّمون إمكانِيَّة فِعْل ذلك فنحن قطعا نعلمه تمام العلم وإننا في المُقابِل أيضا نُحْكِم ونُدَبِّر أمراً كَيْدِيَّاً مُضادَّاً لكَيْدهم ولا مُقَارَنَة حتما بين كَيْد الله الخالق القويّ العزيز وبين كَيْد خَلْقه !! فماذا يُساوِي كَيْدهم الهزيل أمام تدبير مالِك المُلك الذي له جنود الكوْن كله والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه ؟! إنَّ نتائج تدبيره تعالي ونصره ستظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يشعرون ببداياتها فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومتها أو الفرار منها ! وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم واستهزاءٌ كبيرٌ بهم وتهوينٌ من شأن مَكائدهم ، وفيه أيضا طَمْأنَة وتَسْلِيَة وتثبيتٌ وتبشيرٌ للرسول ﷺ والمسلمين مِن بعده .. وهكذا هي دائما رعاية الله تعالى تَرْعَيَ وتَحْرُس الصالحين ، فأهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
ومعني " أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴿80﴾ " أيْ هل يَتَوَهَّم أمثال هؤلاء المجرمين أننا ونحن الذين خلقناهم لا نسمع ونعلم تماما ما يتحدثون به سِرَّاً مع أنفسهم داخل عقولهم وما يَتَناجَوْن أي يتكلمون به مع غيرهم بصوتٍ خافِتٍ في تَسَتّر حتي لا يسمعهم أحد عمَّا يُبْرِمُونه أيْ يُحْكِمُونه ويَعقدونه ويُقَرِّرُونه من مَكائد ضِدّ الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين وما يَفعلونه من شرور ومَفاسد وأضرار وبالتالي فلن نُحاسبهم عليها لخفائها عنا ؟!! كلا بل قطعا نحن نعلم كلّ هذا وما هو أخْفَيَ منه ، وليس ذلك فقط بل أيضا عندهم رُسُل مِن طرفنا وهي ملائكتنا الكرام التي بأمرنا تُسَجِّل وتَكتب وتُحْصِي عليهم كلّ أقوالهم وأفعالهم والتي حتما سيُحاسَبون عليها فلا مَفَرَّ لهم إذن .. وفي هذا ذمّ آخر وتهديد شديد لأمثالهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم ويَفعل مثلهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان
قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴿81﴾ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿82﴾ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿83﴾ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴿84﴾ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿85﴾ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿86﴾ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴿87﴾ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿88﴾ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿89﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴿81﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن يَدَّعِي كذبا وزورا أنَّ للرحمن ولدا ، إنْ كان ذلك في ادِّعائكم فأنا أول الرافضين النافِين لهذا لأنني أول السابقين المُسارعين العابدين له سبحانه لأنه هو الواحد بلا أيّ شريك ، وأنا أول وأسبق وأسرع مَن يعمل ويقول ويشهد بهذا ، ومَن عَبَدَه وحده فهو ينفي عمليا ومطلقا هذا الكذب والتخريف ، فما كان له أبدا واستحالة مِن ولد ، تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا ، فقولوا ما شئتم إذن فلا قيمة له عند أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل
ومعني " سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿82﴾ " أيْ سَبِّحوه تعالي ، أي نَزّهوه ، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به مِمَّا يصفونه بها أيّ سَفِيه ، فله كلّ صفات الكمال ، وهو ربّ الكون كله أيْ خالِقه وراعِيه ، وهو ربّ العَرْش أيْ هو تعالي الذي قد تَمَلّكَ المُلْك كله لأنه هو الذي خَلَقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصْلِحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه ، فلا حاجة له إذن لولدٍ أو وزيرٍ أو غيره يُعينه كما يحتاج البَشَر لأنَّ له تمام الغِنَيَ عن كلّ ذلك !
ومعني " فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿83﴾ " أيْ فإذا أصَرَّ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُفْتَرون علي الله كل أنواع الكذب ، علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وافترائهم ، فذرْهم إذن ، أيْ اتركهم فيما هم فيه ، فلقد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، فاتركهم يخوضوا أي يَنْغَمِسوا ويَتَوَغّلوا ويسيروا ويزدادوا ويستمرّوا في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين ، حتي يحين الوقت الذي يُلاقون ويُقابلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وعدناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أفعالهم ومصيرهم ، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. وفي الآية الكريمة تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون ، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب .. كما أنَّ فيها تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني " وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴿84﴾ " أيْ هذا تكذيبٌ لكلّ سَفِيهٍ يَدَّعِي كذباً وزُورَاً أنَّ لله شريكاً في مُلْكِه أو ولدا أو مُعِيناً أو نحوه ، أيْ هو وحده لا غيره المُسْتَحِقّ للعبادة في أيّ مكانٍ بالكوْن بلا أيّ شريكٍ لا في السماء كما يَعبد البعض الكواكب والملائكة وغيرها ولا في الأرض كالأصنام والنيران ونحوها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴿84﴾ " أيْ ومِمَّا يَدلّ علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة أنه هو وحده لا غيره تعالي المُتَّصِف بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه الحكيم أي الذي يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ والذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث ، العليم ، أيْ بكلّ شيءٍ ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر ، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه ، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿85﴾ " أيْ وتَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله ربّ العالمين الذي هو مالِك وخالِق الكوْن كله بما فيه وما بينه من خَلْقٍ المُتَصِرّف فيه بلا أيّ شريكٍ أو مُعَاوِنٍ أو مُمَانِع ، واسْتَحَقَّ بالتالي كلّ تعظيمٍ وتنزيه حيث لا يشبهه أيّ أحدٍ في ذلك ، فاطلبوا إذن بَرَكته وعَظّموه وابْعِدوه عن كلّ صفةٍ لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسني وهو القادر علي كلّ شيء وهو الذي قد زادَت بركاته وحَلّت أي زادت خيراته وأفضاله في كلّ شيءٍ علي كلّ خَلْقه وهي مستمرّة لهم ومُتَزَايِدَة دون انقطاع ، فهو تعالي إذن المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه ، فاعبدوه واشكروه والجأوا إليه لتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .. " أيْ وأيضا عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام الساعة ، أيْ ساعة إقامة يوم القيامة ، حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها .. " .. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿85﴾ " أي وحينها جميعكم ستُرْجَعون إليه لا إلي غيره حيث يَبعثكم من قبوركم أي يُحييكم ثانية أجسادا وأرواحا ليكون هو الحاكم بينكم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلْتم فيكون للمُحسن كل زيادة من إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسِده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. فلْيُحْسِن إذَن كل عاقل الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام ليسعد تماما في الداريْن
وأمَّا معني " وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿86﴾ " أيْ عند الله تعالي يوم القيامة لا يمتلك قطعا كل الآلهة الذين كان هؤلاء المشركون في الدنيا يعبدون غيره سبحانه كالأصنام والكواكب وغيرها مِن مَعبودات ، أيَّ شفاعةٍ – أيْ وَسَاطَةِ – لأيّ أحدٍ لكي يَعفو الله عنه ، لأنها كلها حتما معبودات زائفة لا قيمة لها ولا تملك منع الضَرَر عن ذاتها فكيف بغيرها ؟! فكيف يعبدونها من دون الله وهي ليست لها أيّ صفة من صفات الكمال التي هي للإله الخالق بل هي مخلوقة ضعيفة مثلهم ؟! فهل يُعْقَل أن يكون المَعْبُود أضعف من العابِد ؟! أين العقول المُنْصِفة العادلة ؟! .. " .. إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿86﴾ " أيْ لكنَّ الذي مِن المُمْكِن أن يُمَلِّكه الله حقَّ الشفاعة ويُكرمه ويَأذن له بها هو كلّ مَن كان في دنياه قد شهد بالحقّ أيْ بلا إله إلا الله واتَّبَعوا الإسلام وتَمسّكوا وعملوا بكل أخلاقه وهم يعلمون أيْ عن بصيرةٍ وعلمٍ وتَعَقّل وتَدَبّر وتَأكّد بلا أيّ شكّ أنَّ هذا هو وحده طريق الحقّ والخير والسعادة في الداريْن ، فهؤلاء يمتلكون إمكانيّة الشفاعة لغيرهم لمَكانتهم عند الله إذا سَمَحَ لهم بذلك – ويُشْفَع لهم هم أيضا من الأنبياء والشهداء والصالحين – تكريما لهم ولأنَّه سبحانه يعلم أنَّ الذي سيَشفعون له يَستحقّ الشفاعة حيث كان مسلما لكنه كان مُقَصِّرَاً في بعض الأمور أو وَقَعَ في بعض الشرور أو نحو هذا ، أمّا المُكذبين فلن تَنفعهم بالقطع أيُّ شفاعةٍ عنده تعالي ولن يكون لهم أيّ أملٍ في أيّ شيءٍ منها لأنهم كانوا لا يُصَدِّقُون بوجود الله والآخرة أصلا !
ومعني " وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴿87﴾ " أي لو سُئِلَ أيّ أحدٍ مِن المشركين بالله ، أي الذين يعبدون غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه ، مَن الذي خَلَقهم علي صورتهم المُعْجِزَة هذه – وكذلك كلّ المخلوقات المُعْجِزات في الكوْن كله – لم يكن لهم أيّ إجابة إلا أنَّ الخالق هو الله وحده !! لأنه لم يستطع ولم يَجْرُؤ ولا يوجد أيّ أحدٍ ادَّعَيَ أنه هو الذي خَلَقها ! فليس لهم إذن إلا هذه الإجابة ! فهم مُجْبَرون عليها ومُقِرُّون تماما بها ! وهذه هي إجابة المشركين ، فهم يعترفون لله بأنه وحده الخالق لكنهم لا يعترفون له بأنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة !! .. أمّا الكافرون وهم الذين يكفرون بوجود الله أصلا ، والكفر في أصله من الناحية اللغوية هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ، فإنهم لا يُعلنون ولا يَنطقون بأنَّ الله تعالي هو الخالق ولكنهم إمَّا يَنطقون بمعاني أخري للإله مُلْتَوِيَة مُرَاوِغَة كالطبيعة مثلا والقوّة الخَفِيَّة وما شابه هذا من سَفَهٍ وتخريفٍ وإمَّا يصمتون ، ولكنَّ فطرتهم بداخلهم بالقطع تنطق بالحقّ بأنَّ الله هو الذي خَلَق كلّ الخَلْق (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. " .. فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴿87﴾ " أيْ فكيف يكون منهم هذا الإفْك ؟! فكيف يكون منهم هذا الكذب الواضح السخيف ؟! هذا الانصراف عن الحقّ بكل هذا التَّبَجُّح وبلا أيّ حياءٍ أو تَعَقُّل ! ولماذا إذن بعد أن اعترف المشركون بأن الله وحده هو الخالِق يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مِمَّا لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضرر كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها ؟! فهل يُعْقَل أن يكون المَعْبُود أضعف من العابِد ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة ؟! .. إنَّ كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿88﴾ " أيْ وعنده سبحانه علم الساعةِ وعلم كل شيءٍ وعلم قِيلِه أيْ قوله – أي الرسول الكريم وكل مَن يشتكي إلي ربه ويطلب عوْنه – حين قال داعيا شاكيا مُستعينا مُتوكّلا يارب ، يا خالقي وتُرَبِّيني ويا رازقي وراعِيني ومُعِيني ومُرْشدي لكل خير وسعادة ، إنَّ هؤلاء الذين أدعوهم لا يُصَدِّقون ما أدعوهم إليه مِن عبادتك وحدك والعمل بأخلاق إسلامك ليسعدوا بذلك في دنياهم وأخراهم ، فأنا أتوكّل عليك فأعِنِّي وأرشدني ويَسِّر لي الأمور .. وفي هذا طَمْأَنَة وتَبْشِير لكلّ مُشْتَكِي أنَّ ربه معه مُؤَيِّده وناصره في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً له ولمَن حوله
ومعني " فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿89﴾ " أيْ هذا إرشاد من الله تعالي للبَشَر إلى ما يُنمّى روح المَحَبَّة بينهم خاصة بين الداعي إلي الله والإسلام ومَن يَدْعوهم .. أيْ يأيها الرسول الكريم ويا كل مسلم اُعْف عن الذين يُسيئون إليك بالقول أو بالفعل وسامحهم مُسَامَحَة تامّة صافية من أيّ شرّ بداخل العقل ولا تُقابل إساءاتهم القولية والفعلية بمِثْلها ولكن قابِلها بكلّ سلامٍ وأمن وإسعاد لهم في كل قولك وعملك ، فإنّ هذا حتما سيُعينهم أو يُعين كثيراً منهم علي أن يُراجِعوا ذواتهم ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا هم كذلك مِثْلك في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿34﴾ من سورة فُصِّلَت " وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه أحيانا ولمصلحتهم علي الداعي أنْ يصفح عمَّن يَدْعوهم وكانوا مُصِرِّين علي عدم الاستجابة بمعني أن يُعْرِضَ عنهم أيْ يتركهم لفترةٍ ما يُقَدِّرها علي حسب تقديره والظروف والأحوال ويقول لهم تاركا إيّاهم سلاما عليكم لعلهم بهذا الإعراض والتّرْك قد يَستشعرون خَطَأهم ويُراجعون ذواتهم ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن .. " .. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴿89﴾ " أي الذين لا يستجيبون ولا يعودون لربهم ولإسلامهم فسوف يعلمون النتائج السيِّئة لعدم استجابتهم وسيعلمون صِدْق تحذيركم لهم ، في دنياهم ، حيث سيُصَابون بدرجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
حم ﴿1﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
وَالْكِتَابِ الْمُبِين ﴿2﴾ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴿3﴾ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴿4﴾ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴿5﴾ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿6﴾ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴿7﴾ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿8﴾ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ﴿9﴾ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴿10﴾ يَغْشَى النَّاسَ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿11﴾ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ﴿12﴾ أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ﴿13﴾ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ﴿14﴾ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ﴿15﴾ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالْكِتَابِ الْمُبِين ﴿2﴾ " أي يُقْسِم الله تعالي بهذا الكتاب وهو القرآن العظيم والذي صِفته أنه المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد تمام السعادة لِمَن يعمل بكلّ ما فيه في الدنيا والآخرة ، يُقْسِم به عليه كله دون تحديدٍ لشيءٍ مُعَيَّنٍ فيه ليُفيد ذلك عِظَم وقِيمة ووضوح كلّ ما فيه من أخلاقيَّات ليَدْفع الناس لتَدَبُّره والتمسّك والعمل به كله ، وهو سبحانه لا يحتاج ولا قرآنه المجيد حتما إلي قَسَم ! فكلامه قطعا مُقَدَّس مُعَظَّم مُصَدَّق ! ولكنه لإضفاء مزيدٍ من الهيبة والتعظيم والتصديق له وللرسول الكريم ﷺ ولدينه الإسلام
ومعني " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴿3﴾ " أيْ نحن بدأنا إنزال هذا الكتاب المُبِين ، هذا القرآن العظيم ، علي رسولنا الكريم ، ليُبَلِّغه للناس ليُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، في ليلة القَدْر ، وهي بسبب نزوله فيها ليلة مُبارَكة لأننا نزيد فيها خيرنا ورزقنا وتوفيقنا وتيسيرنا وعوْننا وفضلنا وإسعادنا الدنيويّ ثم ثوابنا الأخرويّ لخَلْقنا أكثر مِمَّا هم فيه إكراما لها لأنها ذِكْرَيَ بَدْء نزوله وهي تُذَكِّر بقيمته وعظمته ونَفْعه .. " .. إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴿3﴾ " أي هذا هو حالنا دائما مع الناس منذ آدم لا نتركهم في حياتهم تائهين حائرين غافِلين دون إرشادٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة ، وإنما نُنَزِّل لهم كتبنا وآخرها القرآن مع رسلنا وآخرهم محمد ﷺ فيها وصايانا وتشريعاتنا لنُنْذِرَ ونُحَذّر كلّ مَن يَبتعد عن العمل بها بتمام التعاسة في الداريْن لعله بهذا الإنذار يستفيق ويعود إليها وإلي ربه وإسلامه ليسعد تماما فيهما مثل العاملين بما فيها ، وإلاّ فلن يكون له إذَن أيّ حجّة أو عُذْر عندما يُصيبه في دنياه وأخراه ما يُناسِب سوء أفعاله من نتائج مُتْعِسَة قد حَذّرناه من الوقوع فيها حيث كنّا مُنْذِرين مُحَذّرين له قبل هذا لكنه لم يَستجب
ومعني " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴿4﴾ " أيْ في هذه الليلة ، ليلة القدر ، التي بَدَأ فيها نزول القرآن العظيم بدأ يُفْرَق أيْ يُبَيَّن ويُوَضَّح كلّ أمرٍ مِن الحِكْمة أنْ يَتِمَّ توضيحه وتَكْتَمِل به الكتب السابقة قبله والتي كانت تُناسِب عصرها .. فيها بَدَأ تفصيل كلّ أمرٍ ذي حِكْمة عظيمة أيْ كله صواب حيث هو موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث مِمَّا يحتاجه البَشَر إلي يوم القيامة من تشريعات وأخلاقيات ووصايا في كلّ شئون حياتهم ليسعدوا تمام السعادة فيها .. وهي كلها صادرة عن الله تعالي الحكيم العليم فهي إذن أمور مُحْكَمَة أيْ كلها إحكام وإتقان وانضباط وتَنَاسُق وليس فيها أيّ عَبَث أو تناقُض أو خَلَل ولا يمكن تغيير أو تبديل أو تحريف أو منع أيّ شيء منها .. وهي وحدها التي يُحْتَكَم إليها دائما لأنَّ فيها أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها
ومعني " أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴿5﴾ " أيْ كلّ أمرٍ حكيمٍ نَزَلَ في هذا القرآن العظيم الحكيم كان إنزاله أمرا صادرا من عندنا وبإرادتنا وبإذننا وبعِلْمنا وبوَحْيِنا ، وفي هذا مزيدٌ من التشريف والتعظيم والتقديس له والدفع للبَشَر لمزيدٍ من الاهتمام والتمسّك والعمل به لأنه منسوب للخالق الحكيم العليم الذي له كل صفات الكمال المُنَزَّه عن الأخطاء وبالتالي يكون كذلك قرآنه الكريم .. " .. إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴿5﴾ " أيْ هذا هو حالنا دائما مع الناس منذ آدم لا نتركهم في حياتهم تائهين حائرين غافِلين دون إرشادٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ، وإنما لِحُبِّنا لهم وحِرْصنا عليهم كنا مُرْسِلِين إليهم رسلنا كلّ فترةٍ وآخرهم محمد ﷺ ومُنْزِلِين معهم لهم كتبنا وآخرها القرآن فيها وصايانا وتشريعاتنا ليسعدوا بها تمام السعادة في الداريْن
ومعني " رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿6﴾ " أيْ أرسلنا إلي الناس رسلنا الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد وأنزلنا معهم كتبنا وآخرها هذا القرآن الحكيم ليكون ذلك رحمة لهم من ربهم أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن ليسعدوا بذلك فيهما ، لأنه هو وحده السميع بتمام السمع لكلّ أقوالهم وأدعيتهم وغيرها العليم بتمام العلم بكل أحوالهم واحتياجاتهم فيُلَبِّيها لهم عن سمع وعلمٍ تامّ حيث هم خَلْقه وصَنْعته وكلّ صانع يحب لصنعته أفضل الأحوال .. فاحمدوه إذن أيها الناس واشكروه واعبدوه وحده ربكم الرحيم هذا
ومعني " رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴿7﴾ " ، " لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿8﴾ " أي الذي أنـزل هذا القرآن العظيم رحمة وإسعادا للعالمين هو خالق ومالِك وراعي ومُدَبِّر أمر السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من المخلوقات المُعجزات كلها ، فإنْ أحسنتم استخدام عقولكم وكنتم مُوقِنين بهذا أيْ متأكِّدين تماما بلا أيِّ شكّ لَعَلِمتم إذن وحتما أنه لا إله يستحِقّ العبادة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له ، فاعبدوه بالتالي ولا تعبدوا غيره واتَّبِعوا قرآنه ولا تَتَّبعوا غيره ، فهو وحده القادر بتمام قدْرته وعلمه علي الإحياء والإماتة لكلّ شيءٍ وسيَجمعكم بالقطع بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إنْ خيرا فخير وإنْ شرَّاً فَشَرّ ، وهو ربّكم وربّ آبائكم السابقين منذ آدم أيْ خالقكم جميعا ومُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرشدكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم ، فلا تعبدوا آلهة غيره لا تَقْدِر على شيءٍ من هذا ولا تَتَّبِعوا نظاما مُخالِفا لقرآنه ولإسلامه وإلاّ تعستم تمام التعاسة في الداريْن .. إنَّ كلَّ مَن يَدَّعِي أنه إله الآن هو حتما كاذب لأنه مخلوق ولم يَخْلق قطعا آباءه الذين سَبَقوه !! وكلّ مَن يَدَّعِي أنه يَتَّبع الآباء الأولين في عبادتهم لآلهةٍ غير الله سبحانه كأصنام وكواكب ونحوها فهو أيضا كاذب قطعا لأنه لو كان صادقا في أنه يَقتدي فعلاً بالآباء لسَار على دين أبيه الأقْدَم آدم عليه السلام وهو الإسلام لكنه انحرف وعَبَدَ غير ربِّه
أمَّا معني " بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ﴿9﴾ " أيْ لكنَّ هؤلاء المشركين أي الذين يعبدون آلهة غير الله تعالي كأصنام وكواكب وغيرها ، وكذلك الكافرين الذين لا يُصَدِّقون بوجوده أصلا ، ومَن يُشبههم ، في شكٍّ مِن هذا الحقّ وهو أنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، لأنهم لم يحسنوا استخدام عقولهم فلم يُوقنوا به ، وبسبب هذا الشكّ هم في لعبٍ أيْ في لَهْوٍ فيما لا يُفيد بل يَضُرّ أي تائهين غافلين مُنْغَمِسين في الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وفي الاستهزاء والسخرية والتشكيك بكلّ حقٍّ أي بالله وبالقرآن وبالإسلام دون أيّ حرصٍ علي الوصول له وللخير وللسعادة في الداريْن .. وكلّ ذلك بسبب أنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴿10﴾ " أيْ هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم .. أيْ ما داموا كذلك مُصِرِّين علي ما هم فيه فبالتالي فانتظر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يوم تأتيهم السماء بعذابٍ واضح يشعرون به تماما في صورة غبار وريح من كل اتِّجاهٍ ومكانٍ يُؤذيهم أشدّ الإيذاء في دنياهم – أو أيّ شكلٍ آخر من أشكال العذاب يصيب كلّ فرد منهم بما يُناسب شروره كمرض أو فقر أو نحوه حيث العرب يُسَمّون كلّ شرٍّ مُؤْذٍ بالدخان – ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أعظم عذابا وتعاسة وأتمّ وأخلد حيث بدايات وعلامات يوم القيامة تبدأ بدخان وغبار وسُحُب ورياح وأبخرة ونحو هذا من عذاباتٍ لأمثالهم قبل حسابهم واستقرارهم في درجةِ عذابهم في جهنم
ومعني " يَغْشَى النَّاسَ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿11﴾ " أيْ ومِن صفات هذا العذاب كذلك أنه يحيط تماما من كلّ جانبٍ بلا أيّ مَفَرّ أو مَهْرَب بكل فرد من الناس أمثالهم المُصِرِّين علي ما هم فيه من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ، وهو عذاب مؤلم مُوجع حتما مناسب لكل منهم علي قدْر شروره وحينما ينزل بهم في دنياهم يجعلهم يستغيثون قائلين هذا عذاب أليم ، كما أنَّ هذا القول هو الذي سيُقال لهم أيضا يوم القيامة من الملائكة حينما يُعَذّبونهم في النار ، والذي سيقولونه هم كذلك فيما بينهم ، علي سبيل الذمّ والتأنيب الشديد لمزيدٍ من عذابهم النفسيّ إضافة للجسديّ
ومعني " رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ﴿12﴾ " أيْ يَعود إلي فطرته ويَدعو كلّ فردٍ من الناس الذين استَحَقّوا نزول العذاب بهم بسبب تكذيبهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، يَدعون ربهم خالقهم فليس لهم غيره حينها ولن يَخدعوا ذواتهم باللجوء لغيره ، مُستغيثين به مُتَوَسِّلِين إليه حينما يَنزل بهم عذابهم بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كغبار أو مرض أو فقر أو نحوه ، أن يكشفه ويرفعه عنهم ، فإنْ كَشَفَه فسيُؤمنون به بعد كفرهم وسيَتَّبعون دينه الإسلام بعد تَرْكِهم له .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ هذا الدعاء المُسْتَغِيث منهم يكون يوم القيامة حيث يتمنّون نادِمين مَذْلولين كشف العذاب عنهم والعودة للدنيا فيكونوا فيها مؤمنين صالحين لكن لن ينفعهم قطعا أيّ ندمٍ حيث الوقت وقت حسابٍ بعد أن انتهي وقت العمل
ومعني " أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ﴿13﴾ " ، " ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ﴿14﴾ " أيْ رَدَّ الله تعالى تعليقا على تَوَسّلهم هذا أنْ كيف يَحْدُث لهم التذَكّر والاتِّعاظ عند حدوث العذاب الدنيويّ أو عند كَشْفه وهم قد جاءهم ما هو أكثر إقناعاً من ذلك وهو رسولٌ مُبِينٌ أيْ مُوَضِّحٌ لهم تماما كلّ أبواب الخير والسعادة وقد دعاهم إليها بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة لكنهم بعد كلّ ذلك تَوَلّوا عنه أيْ أعْرَضوا أيْ أعطوه ظهرهم والتفتوا وانصرفوا وابتعدوا عن دعوته للإسلام وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء بل وآذوه وقاوموه !! .. ولم يَكتفوا بذلك التّوَلِّي والإعراض بل طَعَنوا فيه محاولين يائسين تشويه صورته لتنفير الناس عنه فلا يَقبلوا منه دين الإسلام بقولهم كذبا وزورا وسوءَ أدبٍ أنه مُعَلَّم أيْ يُعَلِّمه غيره من البَشَر ولا يُوحَيَ إليه شيءٌ من الله وأنه مجنونٌ أىْ مُخْتَلِط في عقله لا يُدْرِك ما يقول !! .. فكيف تكون لهم الذكْرَيَ إذَن بمجرّد نزول العذاب أو كَشْفه ؟! وكيف يُتَوَقّع مِمَّن هذه صفاتهم أن يتأثروا بالموعظة والتذكير ؟! إنه أمرٌ مُسْتَبْعَدٌ علي أمثال هؤلاء المُصِرِّين علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ، لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا كما في الآية السابقة أنَّ هذا يُقال لهم يوم القيامة لقطع أيّ أملٍ لهم في نجاتهم من عذابهم الأخرويّ
ومعني " إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ﴿15﴾ " أيْ سَنَرْفع العذاب الدنيويّ الذي ينزل بكلٍّ منكم لفترةٍ قليلة ، من رحمتنا بكم وفضلنا عليكم فأنتم من خَلْقِنا ، لإعطائكم فُرْصَة لعلكم تَستفيقون بذلك وتُحسنون استخدام عقولكم وتُراجعون أحوالكم وتعودون إلينا وإلي إسلامكم لتسعدوا في الداريْن ، ولكنكم ستَنكشفون عند كَشْفه حيث سيَظهر كذبكم في وَعْدكم بالإيمان وسيَكتشف هذا الكذب مَن حولكم وقد يَنفر بعضهم عنكم ويعودون إلينا ، لأنكم بمجرّد رَفْعِه ستعودون لِمَا أنتم عليه من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والشرور والمَفاسد والأضرار ، لأنكم مُصِرُّون علي ما أنتم فيه لأنكم قد عَطّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا كما في الآية السابقة أنَّ هذا يُقال لهم يوم القيامة أننا لو فُرِضَ ورفعنا عنكم عذاب النار لفترة وأعدناكم إلي الدنيا لَعُدتم حتما لِمَا كنتم عليه لأنّ المشكلة فيكم أنتم !! فاستَمِرّوا إذَن في عذابكم كما كنتم مُستمرِّين في تكذيبكم فلا أمل لكم للنجاة منه
ومعني " يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴿16﴾ " أيْ هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم .. أيْ ما داموا كذلك مُصِرِّين علي ما هم فيه فبالتالي فانتظر وحَذّرهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يوم سنَبْطِش بهم بَطْشا كبيرا شديدا أيْ سنُعذّبهم بشدّة وقوة حيث سنَنتقم منهم أشدّ الانتقام بما يُؤلمهم ويُذلهم ويُتعسهم أيْ سنُعاقبهم في مقابل تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومَفاسدهم وأضرارهم وبما يُناسب ذلك ، وهذا البَطْش الشديد مِنّا لهم سيكون جزءا منه في الدنيا يَتَمَثّل في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴿17﴾ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿18﴾ وَأَن لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿19﴾ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ﴿20﴾ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴿21﴾ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ﴿22﴾ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴿23﴾ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴿24﴾ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿25﴾ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿26﴾ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ﴿27﴾ كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴿28﴾ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ﴿29﴾ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿30﴾ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ﴿31﴾ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿32﴾ وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ ﴿33﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي عليه السلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته ﷺ في سورة البقرة والأعراف وطه والشعراء وغيرها ، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴿17﴾ " أيْ ولقد اختبرنا فرعون وقومه قبل هؤلاء المُكذّبين حولك أيها الرسول الكريم وحولكم أيها المسلمون ، وكان اختبارنا وامتحاننا لهم عن طريق إرسال رسولنا موسى إليهم بالإسلام ليَتَّبِعوه ليَسعدوا في الداريْن وهو الكريم النفيس في أخلاقه ومكانته بين قومه وعندنا حيث هو الوحيد الذي كلّمناه مباشرة دون حاجز لأنه سيقوم بمهمّة عظيمة وهي مقاومة أظلم حاكم علي وجه الأرض والذي قد ادَّعَيَ أنه الربّ الأعلي ، ولقد اختبرناهم أيضا في حياتهم بالخير والشرّ لفتراتٍ لعلهم يستيقظون بهذه الاختبارات ويرجعون إلينا ولإسلامهم ولكنهم لم يرجعوا فعاقبناهم بأنْ عذبناهم بنقص الثمار والخيرات وانتشار الجراد والضفادع وظهور الدم في الماء ونحو ذلك ثم لمَّا أصرّوا علي التكذيب والعِناد أهلكناهم واستأصلناهم تماما من الحياة بالغرق .. فالآية الكريمة تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيها تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني " أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿18﴾ " أيْ قال لهم ناصحاً مُرْشِدَاً أن اعطوني حقّ خالقكم عليكم والذي هو لمصلحتكم وهو عبادته وحده وطاعته باتِّباع إسلامه لتسعدوا في دنياكم وأخراكم يا عباد الله ويا خَلْقه فأنتم أحرار ولستم عبيدا لأحدٍ كفرعون أو غيره فكلّ الخَلْق مُتساوون وأنا رسولٌ منه لكم لأبلّغكم بهذا بكل أمانةٍ وصدقٍ دون أيّ خيانةٍ أو كذبٍ أو تغيير أو نقصان فيما طلبه مِنّي بإرساله وتوصيله إليكم فاتبعونِ مُطمئنّين .. كذلك من معاني الآية الكريمة أن اعطوني يا قوم فرعون عباد الله الذين هم أهلي بني إسرائيل المؤمنين بينكم ولا تضطهدوهم وتُعذّبوهم وتستعبدوهم واتركوهم أحرارا ليَعبدوا ربهم ويعملوا بإسلامهم ولأهاجر بهم بعيدا عنكم لننشر دعوة الإسلام لغيركم
ومعني " وَأَن لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿19﴾ " أيْ وقال لهم أيضا أنِ احذروا أنْ تتكبَّروا وتتعالوا علي طاعة الله ورسوله واتِّباع إسلامه فتكفروا به وتعصوه وتفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وتظلموا وتستعبدوا خَلْقه فتتعسوا في دنياكم وأخراكم ، لأني مُعْطِيكم ومُحْضِر لكم من عنده تعالى دليلا واضحا لا يُمكن إنكاره يَشهد بصِدْقى وأمانتى وهو المُعجزات التي ترونها أمامكم كتَحَوّل العَصَيَ لثعبان حقيقي ، فليس لكم أيّ حجّة أو عُذر إذَن في ألاّ تؤمنوا فأنتم حينها تُعَادون الله ربكم فانتبهوا !!
ومعني " وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ﴿20﴾ " أيْ وإنى قد تَحَصَّنت بربّي وربّكم خالقي وخالقكم ومُرَبِّينا وراعِينا ورازقنا والمُقْتَدِر علينا جميعا مِن أن تَرْجُمونى بالحجارة فتقتلوني أو مِن أن تُلْحِقوا بي ما يُؤذيني من قولٍ أو فعل ، وهذا الاعتصام به تعالى يجعلني لا أخافكم ولا أتراجَع عن تبليغكم وغيركم دعوة الإسلام بأيِّ حالٍ من الأحوال .. وفي هذا تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ لهم مِن أنهم إذا آذوه فقد آذوا ربهم خالقهم القادر عليهم الذي سيَنتقم له منهم حتما
ومعني " وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴿21﴾ " أيْ وقال لهم أيضا في ختام نُصْحه لهم أنّى لن أتراجَع عن دعوتكم وغيركم إلى ربكم وإسلامكم مهما وضعتم في طريقي مِن عقباتٍ وعليكم أن تؤمنوا بي أيْ تُصَدِّقوني لتسعدوا في الداريْن فإن لم تؤمنوا فلا أقلّ مِن أنْ تكونوا بمَعْزِلٍ عنّى بحيث تتركونى وشأنى بلا اعتراضٍ حتى أبَلِّغ الإسلام لغيركم ولغير المُعانِدين منكم وحتي يَفصل الله بيننا بحُكْمه العادل فإنه لا صِلَة بيني وبينكم وسأترككم في حالكم مادُمْتُم مُصِرِّين على ما أنتم عليه فلعلّ في هذا التَّرْك لكم ما يجعلكم تراجعون ذواتكم لتعودوا للخير لتسعدوا
أمّا معني " فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ﴿22﴾ " أيْ فأصَرّوا علي ما هم فيه من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفَعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فدعا موسي ﷺ ربه شاكيا إيّاهم له قائلا يارب إنَّ هؤلاء قومٌ مُجرمون أيْ ارتكبوا الجرائم التي تَستحِقّ العقاب ، بأنواعها المختلفة ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ كفرعون أو نحو هذا أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه ذلك ، فافْصِل بيننا وبينهم بحُكْمك العادل وعاملهم بما يستحِقّونه فقد دعوتُهم بكلّ قدوةٍ وحِكْمة وموعظة حسنة وصَبَرْتُ علي أذاهم ولكنهم أصَرّوا تمام الإصرار علي الاستمرار في حالهم
ومعني " فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴿23﴾ " أيْ فاستجبنا لدعائه فأوحينا إليه وأرشدناه أن يسير أثناء الليل بعبادي الذين صَدَّقوه وآمنوا بي وهم قومه بنو إسرائيل وغيرهم من بعض أهل مصر ونَبَّهْناه وحَذّرناه ومَن معه حتي لا يُفاجَأوا وليأخذوا حِذْرهم ويُحسِنوا التصرّف ولا يَتَلَكَّأوا ويَصِلُوا لشاطيء البحر في أقلّ وقتٍ مُمْكِن أنَّ فرعون وجنوده سيَتَّبِعونهم يريدون اللّحاق بهم وإيذاءهم
ومعني " وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴿24﴾ " أيْ ثم دَعْ البحر يا موسي كما هو علي حاله رَهْوَاً أيْ ساكِناً مفتوحا فيه طُرُقات بعد أن تَمُرّوا منها ناجين بفضل الله ورحمته ولا تغلقها بضربه بالعصَيَ مرة أخري واطمئنّ واسْتَبْشِر ولا تقلق فإنهم لن يَلحقوا بكم بل سيكون ذلك استدراجا وإغراءً لفرعون وجنوده ليَمرّوا هم أيضا بها مثلكم ليَلحقوا بكم ولا يعودوا ثم بمجرّد مرورهم فيها سنُطْبِق الماء عليهم ليَغرقوا ويَهلكوا
أمَّا معني " كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿25﴾ " ، " وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿26﴾ " ، " وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ﴿27﴾ " أيْ ما أكثر ما تَرَكَ هؤلاء المُغْرَقُون المُهْلَكُون خَلْفهم من بساتين وحدائق مُخْضَرَّة كثيرة الثمرات والخيرات وعيون وينابيع يخرج منها الماء العذب الجاري الوفير ، ومن كل أنواع الزراعات المُثْمِرَة المُفيدة المُتنوّعة ، ومن مقامٍ كريمٍ أي أماكن القيام والتجمّع والتسوّق والتسامُر والاحتفال والمنازل والمساكن التي يُقيمون فيها وكانت كريمة نفيسة فخمة أنيقة مُزَيَّنَة بالزينات والزخارف .. وتركوا أيضا نَعْمَة أيْ تَنَعّم ورفاهية عيش كانوا فيها فاكهين أيْ مُتَنَعِّمِين مُتَلَذّذين لاعبين فَرِحين مُتكبِّرين فاسدين .. لقد تَحَوَّلَ حالهم بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم إلي أسوأ حال .. فليَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يتشبّه بهم وإلاّ تَعِسَ مثل تعاساتهم في الدنيا والآخرة
ومعني " كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴿28﴾ " أيْ هكذا دائما وبمِثْل ذلك العقاب وما يُشبهه وبدرجاتٍ مُتعدِّدة وبصُورٍ مختلفة يُعاقِب الله كلّ مَن كذَّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وأصَرَّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يُحسن استخدام نِعَمه في الخير بل استخدمها في كلّ شرّ ، هكذا يُعاقبهم بما يُناسب وعلي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، وهكذا يُوَرِّث ويُحَوِّل ما كانوا فيه مِن نِعَمٍ إلي غيرهم مِمَّن يستحِقّونها مِن العابدين له وحده بلا أيّ شريكٍ المتمسّكين بأخلاق إسلامهم ليتصرّفوا فيها بالخير كما يشاؤون كالميراث الخالص لهم .. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أراد الاتِّعاظ ولا يتشبّه بهم حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه
أمَّا معني " فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ﴿29﴾ " أيْ فما حَزنَ علي هؤلاء المُجرمين بعد عذابهم وهلاكهم أحدٌ مِن مخلوقات السماء أو مِن أهل الأرض مِن الناس وغيرهم مِن خَلْق الله وما كانوا مُنْظَرِين أي مُتْرَكِين لفترةٍ أيْ لم يُؤَخَّر عنهم عذابهم لوقتٍ آخر في الدنيا ثم في الآخرة بل يَنزِل بهم ما يستحِقّونه منه وعلي قَدْرِ وبما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وفي التوقيت وبالأسلوب الذي يُحَقّق أقصَيَ عذاب وتعاسة لهم بلا أيّ تأخيرٍ عن موعده لأنهم قد استَحَقّوه تماما بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ حيث تَمَّ إعطاؤهم فُرَصَاً كثيرة للعودة للخير ولكنهم كانوا مُصِرِّين تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن شَرٍّ ، والمقصود بيان هَوَان مَنْزِلتهم وتفاهة شأنهم وعدم تَأَسّف أيّ أحدٍ على عذابهم وهلاكهم لأنهم كانوا مَكْروهين مِن كلّ عاقلٍ فاستراح جميع الخَلْق منهم وفرحوا ، حتي مَن لا عقل له كالجمادات !! لأنّ العرب كانوا عند موت صاحب الشأن يقولون علي سبيل المُبَالَغَة والتشبيه أنَّ الجميع قد حَزنَ وبَكَيَ عليه حتي السماء والأرض وما فيهما بينما السفيه الوضيع لا يتأثّر أحدٌ بما يَحدث له .. هذا ، وقد يكون بكاء السماء والأرض حقيقيا لأنَّ الخالق سبحانه قد أعطي لكل خَلْقٍ نسبة من الشعور والإحساس بما يُناسب مهامّه ليَدُلّ علي أنَّ الكوْن كله مُتَجَانِس مُتَوَافِق مُتَنَاغِم مُتَجَاوِب مُيَسَّر مع الإنسان المسلم إذا كان دوْما مع خالقه سبحانه ومع دينه الإسلام فيحيا بذلك في تمام الأمن والسَّلاسَة والخير والسعادة في دنياه قبل أخراه
ومعني " وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿30﴾ " ، " مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ﴿31﴾ " أيْ لقد نَجَّيْنا بفضلنا ورحمتنا بنى إسرائيل قوم موسي الذين آمنوا به من العذاب المُذِلّ ، من عذاب فرعون الذي كان يُعَذّبهم به كقتل الذكور واستبقاء الإناث للخدمة واستعباد الجميع واستغلالهم في الأعمال الشاقة ونَهْب جهودهم وخيراتهم وما شابه هذا حيث كان عاليا أيْ مُتَكَبِّراً علي عبادة الله وحده واتِّباع إسلامه وعلي خَلْقه مُعتديا ظالما بكلّ أنواع الظلم مِن المُسرفين أيْ المُبَالِغين في فِعْل كل الشرور والمَفاسد والأضرار .. وفي الآية الكريمة تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني " وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿32﴾ " أيْ لقد اخترنا وانتقينا بني إسرائيل للتكريم بأن يكون منهم ولهم كثير من الرسل لينالوا شرف حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة للناس وهدايتهم لربهم ، وأسعدناهم بالتوفيق لاتِّباع أخلاقه وبالنصر علي أعدائهم وإهلاكهم وبالتمكين في الأرض وبالرعاية والعوْن والأمن وبالاستخلاف فيها يُحسنون إدارتها بالخير نيابة عنّا وبعَوْننا وينتفعون ويسعدون بكل خيراتها وأرزاقها ، وكان هذا الاختيار لكل هذه الامتيازات والمَكَانات علي علمٍ تامٍّ منّا باستحقاقهم لها لتَمَيُّزهم علي بقية العالَمِين أيْ بقية الناس في زمانهم لأنهم كانوا هم الأمّة الوحيدة وقتها التي آمنت بالله تعالي وحده ولم تعبد إلا هو بلا أيّ شريكٍ بينما غيرهم من الأمم الأخري كانوا يعبدون آلهة أخري كأصنامٍ أو كواكب أو ما شابه ذلك .. هذا ، ولكنْ لمَّا ابتعدَ بنو إسرائيل عن ربهم ودينهم وكذّب بعضهم بالرسل بعد رسولهم موسي كعيسي ومحمد صلي الله عليهم أجمعين أصابهم من الله ما أصاب الأمم الأخري المُكذّبة مِن الذلّة والضعف والتشتّت والقَلَق والاضطراب والصراع والاقتتال والعذاب والتعاسة ، فقانون الله العادل في الأرض ثابت لا يتغيّر ويَسْرِي علي الجميع وهو " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ .. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتِّعاظ وليتمسّك بكل أخلاق الإسلام ليكون مُؤَهَّلاً لكي يختاره الله للتوفيق والتيسير والعوْن والرعاية والرزق والمَكَانَة والنصر والسعادة التامة في الدنيا والآخرة
ومعني " وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ ﴿33﴾ " أيْ وكذلك مِن فضلنا وكرمنا عليهم ورحمتنا بهم أن أعطيناهم كثيرا من المُعجزات التي فيها عوْنهم علي الإيمان بنا وبرسلنا والتمسّك بإسلامنا لأنها دَلّت علي صِدْق رسلهم كعصَيَ موسي ﷺ وإنجائهم من أعدائهم وكإحياء الموتي لعيسي ﷺ ، ولقد كان في هذه الآيات اختبار وخير واضح لهم ولمَن حولهم مِن الناس ليَظهر ويَتَمَيَّز للجميع مَن يُحسن استخدام عقله فيستجيب لربه ولإسلامه فيستحِقّ السعادة منه في دنياه وأخراه ومَن لا يستجيب فيستحق التعاسة فيهما .. كذلك اختبرناهم كما نختبر جميع خَلْقنا بالخير والشرّ عموما ليَخرجوا من هذه الاختبارات مُستفيدين في حياتهم استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أراد الاتِّعاظ فيُحْسِن الاختيار والعمل بكل أخلاق الإسلام
إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ﴿34﴾ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴿35﴾ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿36﴾ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴿37﴾ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿38﴾ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿40﴾ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿41﴾ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿42﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة ، للساعة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا ومعني " إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ﴿34﴾ " ، " إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴿35﴾ " أيْ يقول تعالي ذامَّاً ذَمَّاً شديداً قول هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتشبَّه بهم الذين لا يُصَدِّقون بوجود حياةٍ آخرة بعد الموت وحسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ لعلهم بهذا الذمّ يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهم الدنيويّ والأخرويّ حيث يقولون أنه ما هي إلا موتتنا الأولي فقط التي نموتها هذه في حياتنا الدنيا وهي المَوْتَة النهائية الوحيدة الأولي والأخيرة والتي تنتهي بها الحياة وينتهي كلّ شيءٍ إلي ترابٍ وليس هناك أيّ حياة بعدها أبدا !! إنها فقط الموتة الأولي أي السابقة المُتقدِّمة على موعد البعث الذي تعدوننا كذبا به أيها المسلمون ولا شيء يطرأ بعدها عليها !! وهو أسلوب يدلّ ضِمْنَاً علي شدّة التكذيب بالبعث وغَلْق العقل عن الحديث والتفكير فيه والاستبعاد التامّ له والاستكثار علي الله سبحانه القدْرة عليه !! ولسنا بمُنْشَرين أيْ مَبْعُوثين بأرواحنا وأجسادنا من قبورنا بعد موتنا وكوْننا ترابا ثم نُنْشَر – من الانتشار – لنُحَاسَب ونُعَاقَب علي الخير والشرّ بجنةٍ أو نارٍ ونحيا حياة أخري فيهما ، فكلّ هذه أمور لا يُمكن تصديقها ومُسْتَبْعَدَة تماما !!
ومعني " فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿36﴾ " أيْ ويقولون أيضا مُسْتَدِلّين علي أنه ليس هناك إلا هذه المَوْتَة في الحياة الدنيا وينتهي الأمر إلي تراب ولا بَعْث بعد الموت بالأجساد والأرواح ليوم القيامة ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار بأنَّ آباءهم الذين ماتوا هذه الموتة لم يُبْعَث أيّ أحدٍ منهم حَيَّاً للدنيا مرة أخري ! فإن كنتم صادقين أيها المسلمون فيما تَدَّعونه كذبا وزورا فأحضروهم لنا إذن أحياء بدعائكم لربكم حتي نراهم فيكون ذلك دليلا علي صِدْقكم فنُصَدِّقكم !! وهي حجّة سفيهة لا قيمة لها ، لأنّ الوعد بالبعث ، بكل بساطةٍ وعمُقْ ، هو في الآخرة بعد انتهاء الدنيا وليس فيها ويكون للحساب لا للعمل !! كما أنه لا بُدَّ أن يكون أمرا غَيْبِيَّاً ليكون مِن علامات الإيمان لمَن يُصَدِّق به !! وإلا لو كان حاضرا مَرْئيَّاً للجميع في دنياهم فكيف يُعْرَف المُصَدِّق مِن المُكَذّب ؟!! ثم هو لكي يتحقّق العدل به إذ هل يُعْقَل ألاّ يُعطِي الخالق العادل للمظلوم حقّه مِن ظالمه ولم يستطع أخذه منه في دنياه ؟! وهل يُعقل أن ينتهي كل هذا الكوْن المُعْجِز الدقيق الحكيم ونظام الحياة المُحْكَم هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يَصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر دون نهايةٍ دقيقة مثله بحسابٍ دقيق علي كل الأقوال والأفعال والمُجازاة عليها بالخير خيرا وبالشرّ شرَّا ؟! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. إنَّ هدفهم مِن طَلَبهم هذا هو مجرّد المُرَاوَغَة للاستمرار في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ، وحتي لو فُرِضَ وأحيا الله لهم آباءهم كما يَطلبون لم يؤمنوا ! لأنهم مُصِرّون علي ما هم فيه لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴿37﴾ " أيْ هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم .. أيْ هل هم أكثر خيرا مِن قوم تُبَّع – وهم من اليمن وكانوا مُكذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي الشرور والمَفاسد والأضرار – أي أكثر نعمة وأموالا وعَدَدَاً وعَتَادَاً ومُلْكَاً ونفوذا وقوّة وعِزَّة وشِدَّة منهم ؟! .. لقد أهلكناهم وأمثالهم مِمَّن كانوا قبلهم الذين يعرفونهم جيدا ويَتَناقَلون أخبارهم والدروس مِن عذابهم وإهلاكهم كقوم نوح وعادٍ وثمود وغيرهم ، وسنُعَذّب حتماً في الدنيا بدرجات العذاب المختلفة وسنُهْلِك كلّ مَن يَتَشَبَّه بهم حاليا ، لأنهم كانوا مُجرمين ، أيْ مُرْتَكِبين فاعِلين للجرائم ، بأنواعها المختلفة ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. فلْيَحْذَر إذَن مَن كان مِثْلهم ، خاصة إذا كان أقلّ قوة منهم !! وعليه أن يَستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد قبل فوات الأوان ونزول العذاب الدنيويّ قبل الأخرويّ
أمَّا معني " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿38﴾ " ، " مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾ " أيْ ما خلقنا بقدْرتنا التامّة السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها ، ما خلقنا كلّ ذلك لاعبين أيْ عَبَثَاً ولَعِبَاً ولَهْوَاً بلا حِكْمَة ! وإنّما خَلَقْناه لِحِكَم ومنافع كثيرة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. لقد خَلَقْنَاه بالحقّ والذي هو عكس الباطل أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ولكي يَسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنّ خالقها هو الحقّ ، تعالي عمَّا يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون عُلُوَّاً كبيرا .. فهل يَتَوَهَّم أمثال هؤلاء أنّ حياتهم ستنتهي هكذا بكل عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلوا حينما يرجعون إليه في الحياة الآخرة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بعد موتهم ؟! تعالي سبحانه عن هذا اللعب وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو الذي وجوده حقّ أيْ صِدْق وقدْرته التامَّة وعلمه الكامل حقّ وكتبه ورسله حقّ ووعده حقّ وهو الخالق الحقّ وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾ " أيْ ولكنَّ كثيرا مِن هؤلاء وأشباههم لا يعلمون أي لا يعقلون أي لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون في هذا ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ويتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علم نافع مفيد ، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ولفظ " أكْثَرهم " يفيد تمام الدِّقّة والإنْصاف لأنَّ هناك مَن قد أحسن استخدام عقله وعاد لربه ولإسلامه فسَعِدَ في الداريْن
أما معني " إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿40﴾ " أيْ بالتأكيد إنّ يوم القيامة ، يوم الفصل ، هو آتٍ قطعا بلا أيّ شكّ ، وليس كما يَدّعِي المُكذبون عدم حدوثه ، وهو وقت اجتماع الجميع وحسابهم دون تَخَلّفٍ لأيّ أحد ، بمَن فيهم حتما هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُفسدين ، وهو اليوم الذي بالقطع سيَفصل ويَحكم فيه الله تعالي الخالق العادل الرحيم الكريم بين المُحسن والمُسِيء في الدنيا ليُعطِي لكل صاحبِ حقٍّ حقّه فيكون لأهل الخير كل خير وسعادة في درجات الجنات علي حسب أعمالهم ولأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة في النيران بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين لينتظروا دائما كل الخير والأمن والسعادة في دنياهم ثم أخراهم
ومعني " يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿41﴾ " أيْ في هذا اليوم ، يوم الفصل ، لا يمكن أبدا لأيّ مولي أيْ قريب أو صديق أو مُحِبّ أو ناصر أو حَليف أو نحوه مهما كان شأنه أن يفيد وينفع قريبه أو صديقه أو مُحِبّه أو حَليفه بأيِّ شيءٍ من النفع كما كانوا يفعلون في الدنيا ، ولا يمكنهم ولا غيرهم نصر بعضهم بعضا بدفع أيّ عذاب عن أنفسهم يستحِقّونه من ربهم ، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيد خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه ، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كل أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ ، فهذا هو تمام العدل ، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام
ومعني " إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿42﴾ " أيْ لا يَنفع أحدٌ أحداً أبداً إلا الذي يريد الله تعالي رحمته لعِلمه بأنّه يستحِقّها لأنه قد أحسن في دنياه وعمل بكل أخلاق إسلامه وقد رحمه فيها بتيسير ذلك له فهذا لا يحتاج لنفع ولشفاعة أحد لأنه مَرْحُوم مَغفور له ، ولو احتاج فإنه سبحانه سيَأذن للذي سيَشفع فيه من الأنبياء أو الشهداء والصالحين من أقربائه وأصدقائه ونحوهم ليشفعوا له فيَقبل منهم لمزيدٍ من رحمته ورفع درجاته .. " .. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿42﴾ " أيْ هو بكل تأكيدٍ الغالِب الذي لا يُغْلَب المُنتقِم من أعدائه الذي لا يُكرهه أيّ أحدٍ علي العدول عَمَّا يريد الذي يُعِزّ المؤمنين به المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم أهل الحقّ والخير ويُكرمهم ويَرفعهم وينصرهم ، الرحيم الذي يَرحم ضعفهم وتقصيرهم ويَجْبُره ويَغفر لهم ويُعينهم وينزل نصره عليهم ، الذي يَغفر لكل مَن يعود إليه وإلي إسلامه ويُسعده في الداريْن
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ﴿43﴾ طَعَامُ الْأَثِيمِ ﴿44﴾ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ﴿45﴾ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ﴿46﴾ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴿47﴾ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ﴿48﴾ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴿49﴾ إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ ﴿50﴾ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴿51﴾ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿52﴾ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿53﴾ كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴿54﴾ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ﴿55﴾ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿56﴾ فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿57﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ﴿43﴾ " ، " طَعَامُ الْأَثِيمِ ﴿44﴾ " ، " كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ﴿45﴾ " ، " كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ﴿46﴾ " أيْ إنّ شجرة الزقوم هي طعام كلّ أثيمٍ في النار كنوع من عذابه فيها ، والأثيم هو الكثير الفعل للآثام ، أيْ للذنوب ، أيْ للشرور والمَفاسد والأضرار ، بكلّ أنواعها ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. والزّقّوم هو كلّ طعامٍ قاتلٍ كريهِ الطعم والرائحة ، وشجرة الزّقّوم هي التي تُنْبِته في النار ليكون نوعاً مِن طعام أهلها لتعذيبهم .. فينزل في بطون المُعَذّبين كأنه المُهْل أي النحاس الحارّ المُذاب فيغلي فيها كغَلْي الحميم أي الماء البالغ نهاية الحرارة والغَلَيان
أمَّا معني " خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴿47﴾ " ، " ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ﴿48﴾ " ، " ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴿49﴾ " ، " إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ ﴿50﴾ " أيْ يقول تعالي لملائكة العذاب التي تُعَذّب هذا الأثيم ، لمزيدٍ من إهانته وإذلاله وإرهابه وتعذيبه نفسيا قبل جسديا ، أنْ خُذوه فَجُرُّوه وسُوقُوه وادْفَعُوه بكلّ شِدَّة وعُنْف إِلى وسط الجحيم بحيث تُحِيطه النار مِن كل جانبٍ ويكون في أشدِّها وأحَرِّها .. ثم بعد ذلك عَذّبوه بأنْ تَصُبُّوا فوق رأسه وجسده وتفيضوا وتُنْزِلوا عليه على سبيل التحقير والإذلال والإيلام له ما يَتَعَذّب به من الحميم وهو الماء البالغ نهاية الحرارة والغَلَيان .. وقولوا له أثناء هذا من أجل الاستهزاء والاستخفاف به والإنقاص من شأنه وذِلّته أنْ تَذَوَّق شِدَّة هذا العذاب فإنك كنتَ تَدَّعِي في الدنيا أنك أنت العزيز الذي لا يُغْلَب الكريم النفيس الفَخْم العالِي الرَّاقِي !! فكيف تَرَيَ نفسك الآن هل ما زِلْتَ كذلك ؟!! إنك أنت اليوم حقا لست بعزيزٍ ولا كريمٍ بل أنت ذليل مُهَان !! وهل يمكنك أن تمنع عنك العذاب بهذه العِزّة ؟!! .. وقولوا لكلّ أثيمٍ لمزيدٍ مِن التنْديم والتأنيب أنّ هذا العذاب الذي نزَلَ بكم هو ما كنتم بشأنه تَمْتَرون أيْ تُجادلون وتَتَشَكّون فيه في الدنيا أيها المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ، وكنتم تَستهينون به وتَنْسونه ، وتَشَبَّهَ بكم بعض المسلمين المُسِيئِين ، فها أنتم الآن أيها الآثمون جميعا ترونه حقيقيا واقعيا ينزل علي رؤوسكم ويَحُوطكم بلا أيّ مُهْرَبٍ منه
أمَّا معني " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴿51﴾ " ، " فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿52﴾ " ، " يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿53﴾ " ، " كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴿54﴾ " ، " يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ﴿55﴾ " ، " لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿56﴾ " ، " فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿57﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، هؤلاء بكل تأكيدٍ في مقامٍ أمين أيْ في أماكن قيام وتجمّع وتسامُر واحتفال وطعامٍ وشرابٍ ومنازل ومساكن يُقيمون فيها فخمة أنيقة مُزَيَّنَة بالزينات والزخارف وكلّ هذا المقام أمين أيْ آمِن تمام الأمن ليس فيه أيّ خوف أو حزن أو تَعَب أو مرض أو تَغَيّر أو نقصان أو موت أو انتهاء بل خلود بلا نهاية فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر .. " فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿52﴾ " أيْ إنهم في مقامٍ أمينٍ كريمٍ هو بساتين وحدائق مُخْضَرَّة مُبْهِجَة كثيرة الثمرات والخيرات والقصور وبها عيون وينابيع يخرج منها الماء العَذْب الجاري الوفير المُبْهِج .. " يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿53﴾ " أيْ وهم فيها يَلبسون أفخم الثياب بكل أشكالها وأنواعها المُسْعِدَة التي تَدلّ علي رفاهيتهم التامّة حيث هي مِن سُندسٍ أيْ حريرٍ رقيقٍ وإستبرقٍ أيْ حرير سميكٍ ونحو هذا ، وهم فيها مُتقابلين أي ويُقابِل ويُجالِس بعضهم بعضا وجها لوجهٍ بكلّ حبٍّ وإذا أراد أحدٌ مُقابَلَة آخر وزيارته يجده في مُقَابَلَتِه وأمامه ، والمقصود أنه لا يوجد أيّ تَعَبٍ في الانتقال والزيارة وعقد المُقابَلات والحفلات للتّسامُر ولتمام السعادة .. " كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴿54﴾ " أيْ وأيضا كما أكرمناهم بكلّ النعيم السابق أنعمنا عليهم كذلك بأنْ زوَّجناهم بحورٍ ، جَمْع حَوْراء أيْ بَيْضاء ، عِينٍ ، جمع عَيْناء أي واسعة العين ، والمقصود أنَّ أهل الجنة من الرجال والنساء سيكونون في أعلي درجات الجمال في كلّ شيءٍ والتّمَتّع مِن كلّ شيء .. " يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ﴿55﴾ " أيْ يَطْلبون في الجنة مِن خَدَمِهم أن يأتوهم بكل أنواع الفواكه الكثيرة المتنوِّعة المُسْعِدَة التي يتمنّونها وهم يحضرونها لهم بمجرّد تَمنّيها في ذهنهم دون أيّ تَعَبٍ ويكونون آمنين أمنا تامَّاً من أضرارها أو انقطاعها أو تَلَفِها أو نحو هذا مِمَّا هو معروف حدوثه في الدنيا .. " لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿56﴾ " أيْ لا يموتون أبداً في الجنة مَرَّة ثانية إلا فقط المَوْتَة الأولى أيْ السابقة التي ذاقوها عند نهاية آجالهم في دنياهم بل هم خالدون فيها ونعيمها التامّ بلا نهايةٍ من فضل ربهم وكرمه عليهم ، وهم بدخلوهم الجنة فهم قطعا قد وَقاهم الله تعالي عذاب النار .. فالنعيم إذَن مَرَّتان مرّة لأنهم في نعيم الجنة أصلا ومرة لأنهم قد وَقاهم ربهم عذاب الجحيم حيث كلما رأوا مصير الذين فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها يزداد شكرهم له تعالي لأنهم لم يتوَرَّطوا فيها وتمسّكوا بإسلامهم ويَسَّرَ لهم ذلك أو تابوا منها لَمَّا فعلوها وتَقَبَّلَ توبتهم فنَجوا وتضاعَفَت حسناتهم وسعاداتهم .. هذا ، وقد يدخل المسلم الجنة بعد قضاء فترةِ عقوبةٍ كان يستحِقّها في النار مُقابِل شروره ومَفاسده وأضراره لكنَّ المتقين التائبين لا يدخلوها حتما أبدا .. " فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿57﴾ " أيْ حصول كل هذا النعيم المُبْهِر المُسْعِد والوقاية من أيّ عذابٍ هو حتما من فضل الله عليهم وعطائه الزائد لهم وكرمه بهم حيث هو تعالى الذي خلقهم أصلا لهذه السعادة ولهذا النعيم الذي هو خالقه أيضا وهو الذي شَرَعَ لهم أخلاق الإسلام وأعطاهم العقول فأحسنوا استخدامها فاختاروا اتِّباعه فيَسَّرَ لهم ذلك ووَفّقهم إليه وتَقَبَّل توبتهم إذا أخطأوا وبذلك نالوا تمام سعادتهم في دنياهم وأخراهم وأعطاهم فيهما من كلِّ خيرٍ وسعادةٍ ما هو أكثر كثيرا وكثيرا مِمَّا تستحِقّه أعمالهم الحَسَنَة .. هذا ، والعمل الصالح في الدنيا ليس ثمناً للجنة قطعا ولكنه سببٌ فقط لدخولها في درجاتها لأنَّ لحظة نعيمٍ واحدة فيها تُساوي كل عمل الدنيا الصالح ثم بقية نعيمها والخلود فيها هو حتما فضل عظيم وزيادة هائلة من الخالق الوهّاب الكريم الرحيم والذي لم ينتفع بالقطع بأيِّ شيءٍ في مُقابل إعطائهم هذا لأنه الغَنِيّ عن كلّ شيءٍ وإنما النفع كله لهم .. " .. ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿57﴾ " أيْ ذلك كله الذي أعطيناهم إيَّاه هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿58﴾ فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ ﴿59﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿58﴾ " أيْ لقد جعلنا القرآن – والإسلام – يَسْهل فهمه وحتي حِفظه لكلّ مَن يُحسن استخدام عقله بإنصافٍ وعدلٍ ويَتَدَبَّر فيه ، كما يَسهل العمل به والدعوة له لمَن أراد بصِدْقٍ أن يَتَّبعه أيْ سيُيَسِّر ربه له ذلك حتما ، لأنه يُوافِق العقل والفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. ومعني " .. بِلِسَانِكَ .. " أيْ باللغة العربية التي يتكلمها لسانك ولسان مَن حولك ، لأنها أقوي لغة ، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني ، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر ، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة .. والهدف الأسْمَيَ مِن هذا التيسير " .. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿58﴾ " أيْ لعلّهم يتذكّرون هذا ، أيْ لكي يتذكّروه ، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا ، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه ، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصدق ، وعليهم أن يحذروا بشدة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تَرَكوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في الدنيا والآخرة .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
أما معني " فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ ﴿59﴾ " أيْ هذا تهديدٌ شديدٌ للمُكذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم .. أيْ فانتَظِر يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلمٍ كلّ خيرٍ وسعادةٍ ونصرٍ في الدنيا والآخرة ، فإنهم مُنْتَظِرون لمَا يُصيبكم من سوءٍ ولكنهم واهِمون لأنهم في حقيقة الأمر مُنتظرون لِمَا يُصيبهم هم من كلّ شرٍّ وتعاسةٍ وهزيمةٍ في الداريْن ، وسيَرَوْن ذلك حتما يوما ما .. وفَرْقٌ شاسِعٌ قطعا بين الانتظاريْن ! فهذا للسخرية منهم بعد تهديدهم !
حم ﴿1﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾ " أي هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم ، فهو كتابٌ أنزله الله تعالي العزيز الحكيم ، ولذا فهو يَتَّصِفُ بصفةِ مَن أنزله سبحانه ، فهو كتابٌ كله عِزَّة وحِكْمَة لمَن يَتَّبعه ويتمسّك بكلّ أخلاقه التي فيه ، هو كتابٌ عزيزٌ حكيمٌ ، أيْ غالِبٌ لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَتَدَبَّره ويعمل به كله ويَلجأ إلي مُنزله تعالي ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالِك المُلْك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعانِدين المُستكبرين ، وهو حكيمٌ أيْ كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث ، وهو أيضا مُحْكَم أيْ كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل ، وهو كذلك حاكِم أي مَرْجِع شامل يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها .. هذا ، وفي الآية الكريمة تأكيدٌ علي أنَّ هذا القرآن العظيم المُعْجِز هو ليس مِن قول بَشَرٍ كشاعرٍ أو عالم أو غيره كما قد يَدَّعِي بعض المُكذبين المُعاندين المُستكبرين كذبا وزُورَاً وتخريفاً وسَفَاهَة وإنما هو بلا أيّ شكٍّ تنزيل من الله العزيز الحكيم
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿3﴾ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿4﴾ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿5﴾ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿7﴾ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿8﴾ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿9﴾ مِّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿3﴾ " أيْ إنَّ في خَلْق السماوات والأرض بما فيهما مِن مخلوقات مُعْجِزة لا يعلمها إلا هو تعالي كالشمس والقمر والكواكب والنجوم والمَجَرَّات والأفلاك والسحب والأمطار والرياح والهواء وتغيُّر الليل والنهار والصيف والشتاء ونحو ذلك من النِعَم التي لا تُحْصَيَ والتي كلها مُسَخَّرَة لمنفعة ولسعادة الإنسان والذي هو خَلْقه قطعا مُعْجِز لِمَا له مِن عقلٍ وأجهزةٍ دقيقةٍ مُبْهِرَة ، كل ذلك وغيره فيه بالتأكيد بعض آياته تعالي أيْ مُعْجِزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) .. ومعني " .. لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿3﴾ " " أيْ هي آيات لتزيد بكلّ تأكيدٍ المؤمنين أي المُصَدِّقين تأكّدا بوجود ربهم وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن ، وتزيدهم تأكّدا بأنه هو وحده المستحِقّ للعبادة ، تزيدهم هذا هُم أولا لأنهم الذين أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ثم يُقنعون بها غيرهم ويَدعونهم إليها بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة ليسعدوا مثلهم في الداريْن .. إنها آيات للمؤمنين فقط يَنتفعون ويَسعدون بها بينما لا أثر لها في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿4﴾ " أيْ وأيضا ومِن بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، أنه خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم أيها الناس مِن نُطْفَةٍ فعَلَقَةٍ فمُضْغَةٍ إلى أن أخرجكم من بطون أمهاتكم إنسانا مُعْجِزَاً في عقله وفكره وجسده كما ترون أمامكم في أنفسكم أقرب شيء لكم ، وكذلك خَلَقَ ما يَبُثّه أيْ يَنْشُره ويُكْثِره ويُوجده مِن دَوَابّ لا تُعَدّ ولا تُحْصَىَ في الأرض وعليها لمنفعتكم ولسعادتكم .. " .. آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿4﴾ " أيْ كلّ ذلك وغيره مُعجزات ودلالات هي بالتأكيد لتزيد المُوقِنين أيْ المُتأكّدين بلا أيّ شكّ بوجود ربهم والذين يَسْتَيْقِنونَ ويَسْتَوْثِقون في كلّ أمورهم بالتَّعَقّل والتَّدَبُّر والتَّفَكّر والتَّعَمُّق ، تزيدهم تأكّدا بوجوده وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن ، وتزيدهم تأكّدا بأنه هو وحده المستحِقّ للعبادة ، تزيدهم هذا هُم أولا لأنهم الذين أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ثم يُقنعون بها غيرهم ويَدعونهم إليها بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة ليسعدوا مثلهم في الداريْن .. إنها آيات للمُوقنين فقط يَنتفعون ويَسعدون بها بينما لا أثرَ لها في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿5﴾ " أيْ وأيضا ومِن بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، اختلاف الليل والنهار طولاً وقِصَراً وشكلاً ومهمّة وفائدةً وتتابعهما دون أن يسبق أحدهما الآخر والذي يدلّ بكلّ تأكيدٍ علي عظيم قدْرته ودَقّة نظامه حيث لا يُمكن أبدا ولا يَحدث أنَّ الشمس تُزَاحِم الليلَ في غير وقت طلوعها وفي زمن وجوده ولكن كلاّ منهما له فَلَكه ومَدَاره الذي يَسبح ويسير ويدور فيه بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَلٍ بحيث يظهر في الوقت والمكان الذي حَدَّدَه خالقه له دون أيّ تَعَارُضٍ أو تَصَادُمٍ بينهما بل كلٌّ منهما يُكمل الآخر لنَفْع الخَلْق وإسعادهم سواء للكسب والحركة أو للراحة والهدوء والنوم أو نحو هذا .. " .. وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .. " أيْ وأيضا من الآيات الدالّة على قدْرته التامَّة وكمال علمه سبحانه إنزاله المطر من السحاب في السماء فيَنزل على الأرض فتُنْبِت نباتاتها وثمارها المتنوّعة المُفيدة المُسْعِدَة بعد أن كانت ميتة أيْ مَلْساء لا شيء فيها ، وسُمِّيَ المطر رزقا لأنه سببٌ لأرزاق الناس والمخلوقات .. " .. وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ .. " أيْ وأيضا من الآيات الدالّة على قدْرته التامَّة وكمال علمه سبحانه تقليب الرياح في الجهات المختلفة ونقلها حسبما يريد هو وحده لا غيره من مكانٍ لآخر وتغيير سرعتها وقوَّتها وحرارتها ووقتها ونحو هذا بما يَنفع الناس ويُسعدهم أو يُعاقبهم إنْ أساءوا .. " .. آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿5﴾ " أيْ وفي كلّ ذلك الذي بَيَّنَّاه لكم دلالات واضحات على تمام قدْرتنا وعلمنا ولكنْ لا يُدْرِك أهميتها ولا يَنتفع ويَسعد بها إلا القوم الذين يعقلون أيْ أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أيْ الذين يُحسنون استخدامها فيتدبَّرون فيما حولهم من آياتٍ فيَزداد بسببها تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَسعدون في دنياهم وأخراهم ولا يتعسون فيهما مثل الذين يُعَطّلون عقولهم ولا يَتَّبعون إسلامهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني " تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾ " أيْ هذه هي دَلائل الله تعالي علي وجوده ومُعجزاته في كل مخلوقاته في كَوْنه نَذكرها لك ونُخبرك ونُذَكِّرك بها ونُرشدك إليها بالصِّدْق لا بالكذب أيها الرسول الكريم وأيها المسلم والتي كلها صِدْق والتي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الحق والصدق وهو بحقٍّ الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) .. ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ هذه هي آيات القرآن العظيم نقرؤها عليك بالحقّ أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم ، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا القرآن لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا .. " .. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾ " أيْ إذا لم يُؤمن المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يشبههم بحديث الخالق العظيم ورسوله الصادق الأمين وبمِثْل هذه الآيات الكوْنية والقرآنية علي أنَّ الله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فبأيّ كلامٍ ودليلٍ يُصَدِّقون به بعد ذلك إذَن ؟!! لا شيء قطعا لأنه لا بَيان وتوضيح حتما أكثر من هذا البيان !! لأنَّ المشكلة بكل وضوح فيهم وليست في الأدِلَّة حيث هم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿7﴾ " أيْ شرّ وعذابٌ شديدٌ وهلاكٌ لكلِّ كذّابٍ كثيرِ الكذبِ في أقواله بأقبح أشكاله وأسوئها ، أثيم أيْ كثير الفِعْل للآثام ، أيْ للذنوب ، أيْ للشرور والمَفاسد والأضرار ، بكلّ أنواعها ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. وعذابه هذا يكون في دنياه بدرجة من درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراه سيَنال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني " يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿8﴾ " أيْ هذا الأفّاك الأثيم ومَن يشبهه قد وَصَلَ لمرحلة شديدةٍ مِن السوء حيث يسمع آيات الله تُتْلَى وتُقرأ عليه بين الحين والحين ناطقة بكلّ حقٍّ وصِدْقٍ ، سواء في القرآن الكريم أو مِن معجزاته تعالي في كوْنه ، ورغم كل ذلك يُصِرّ أيْ يَستمرّ ويَشْتَدّ أكثر في استكباره وعِناده واستهزائه وتكذيبه بالله تعالي وعدم اتِّباع دينه الإسلام ، وعلي شروره ومَفاسده وأضراره ، ولا يَنتفع بأيّ شيءٍ منها كأنه لم يسمعها أصلا أو كأنه أَصَمّ لا يسمع !! إنَّ أمره عجيب وتَصَرّفه مُسْتَبْعَد إذ ليس مِن المُفْتَرَض لأيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يفعل هذا !! ولكنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿8﴾ " أي اعطوا أمثال هؤلاء بشارة هامّة وأمل ! ليس كأيّ بُشْرَيَ تكون خير وإنما هي كل شرّ ! وهذا سخرية منهم وتهديد شديد لهم – لعلهم بهذا يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن – أنهم سيكون لهم كلّ عذاب أليم ، في الدنيا بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب يَتمَثّل في كلّ قَلَقٍ وتوَتّرٍ وضيق واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين ، ثم في الآخرة حتما لهم من العذاب ما هو أشدّ وأعظم وأتمّ وأخلد بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني " وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿9﴾ " أيْ ومن صفات هذا الأفّاك الأثيم أيضا أنه لو استمعَ لشيءٍ من آيات القرآن العظيم أو أُخْبِرَ به ووَصَلَ لعِلْمه وفِكْره وأدركه ورَأَيَ أنه يُمكن أن يَجِد له مدْخَلاً فاسداً يَصِل به – مُتَوَهَّمَاً – إلي الإساءة إليه بشكلٍ من الأشكال سارَعَ في السخرية منه ، أيْ لا يَتَلَقَّيَ شيئا من القرآن إلا لكي يجعله سَبَبَاً لأنْ يَستهزيء به ، بل ويسخر من الآيات كلها ويجعلها مجالا للاستهزاء بها وهو لا يَعلم عنها شيئا أصلا !! ولفظ " وَإذَا عَلِمَ " يُفيد ضِمْنَاً تمام جَهْله بربه وبدينه ، وأيضا تمام عِناده إذ بلا أيِّ عِلْمٍ وتَعَمّقٍ وتَدَبّرٍ يبدأ في السخرية !! فمِثْل هؤلاء حتما لهم عذاب سيُهينهم ويُذِلّهم في مُقابل محاولاتهم اليائسة إهانتهم لربهم ولآياته ولرسوله ولدينه الإسلام ، في دنياهم حيث درجةٍ ما مِن درجات العذاب يَتمَثّل في كلّ قَلَقٍ وتوَتّرٍ وضيق واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين ، ثم في أخراهم لهم حتما من العذاب ما هو أشدّ إهانة وأعظم وأتمّ وأخلد بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني " مِّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿10﴾ " أيْ تَنتظرهم أمثال هؤلاء نار جهنم يوم القيامة ، وحينها لا ينفعهم ولا يَدْفع عنهم ما كسبوه في الدنيا من أموال وأعوان ومناصب ومناصرين وغير ذلك أيَّ شيءٍ ولو يَسير مِن العذاب المُجَهَّز لهم ، وأيضا لن ينفعهم وينقذهم حتما ما اتّخذوه من أولياء أيْ ما عبدوه في دنياهم مِن آلهةٍ مَزْعُومةٍ غير الله تعالي كأصنام وأحجار وكواكب وغيرها وكذلك مَن أطاعوهم في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والذين سيُعَذّبون هم أيضا معهم بما يُناسِب أفعالهم ، وسيكون لهم قطعا عذاب هائل شديد مؤلم مُوجع لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه
هَٰذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " هَٰذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴿11﴾ " أيْ هذا القرآن العظيم هو إرشاد ودليل لتمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يعمل بأخلاق الإسلام التي فيه كلها .. والذين كفروا بآيات ربهم ، أي الذين لم يُصَدِّقوا بهذه الآيات التي فيه ولم يعملوا بها وقاوموها وعانَدوها واستهزأوا بها واستكبروا علي اتِّباعها وحاولوا مَنْع نشرها ونحو هذا ، ولم يُصَدِّقوا بالمُعجزات التي في الكوْن وأنَّ الله سبحانه هو خالقها وأنه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، أي الذين يُغَطّون الحقائق ويُخفونها لأنَّ الكفر في الأصل يعني في اللغة العربية التغطية ، أي الذين قد غَطَّوا وأخْفوا حقيقة وجود الله وصلاحية شَرْعه الإسلام لإسعاد البشرية كلها في كل زمانٍ ومكان وهي الحقيقة الموجودة في فطرتهم التي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولهم (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وذلك لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم له عذاب مِن رجز أليم أيْ من أشدّ أنواع العذاب المُوجع ، في دنياهم حيث درجةٍ ما مِن درجاته تَتمَثّل في كلّ قَلَقٍ وتوَتّرٍ وضيق واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين ، ثم في أخراهم لهم حتما من العذاب ما هو أشدّ ألماً وإهانة وأعظم وأتمّ وأخلد بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿12﴾ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿13﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾
هذا ، ومعني " اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿12﴾ " ، " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿13﴾ " أي الله تعالي الخالق الرحيم الكريم الوهَّاب الرزّاق وحده بلا أيّ شريك ومِن تمام قدْرته وكمال علمه هو الذي ذَلّل ويَسَّرَ لكم البحر ليَحمل السفن وتتحرّك وتجري فيه بإذنه من خلال خواصِّه الفيزيائية التي خَلَقها في مياهه وخواصّ الهواء الذي يُحرّكها ونحو هذا وبواسطة توفيقه وتيسيره لعقولكم والتي هو خالقها لصناعتها بكل أنواعها ، وذلك لتُحقّقوا بها احتياجاتكم التي تَنفعكم وتُسعدكم كنقل البضائع والسفر والسياحة وما شابه هذا ، ولتَطلبوا ما فيه من خيراته سبحانه باستخراج كنوزه ومأكولاته ونحوها وبالانتقال بواسطته للتجارة وغيرها ، وكلّ ذلك بتيسيره وفضله الزائد ورحمته بكم لتسعدوا بكل رحماته هذه في دنياكم ثم أخراكم لو أحسنتم استخدامها في كل خيرٍ مُسْعِد .. وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿12﴾ " أيْ ولعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها ، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا .. أيْ ولكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها ، وبألسنتكم بحمده ، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور ، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه بكلّ إسلامه .. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه .. لكي تشكروا .. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم .. " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿13﴾ " أيْ ولم يُسَخِّر سبحانه لكم ما سَبَقَ ذِكْره مِن نِعَمٍ فقط ، فهذا جزء مِن كلّ ، ولكنه قد يَسَّرَ لكم الانتفاع والسعادة بكلّ ما في السموات وما في الأرض مِن نِعَمٍ لا تُعَدّ ولا تُحْصَىَ، وكلها منه تعالى وحده لا مِن أحد غيره .. " .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿13﴾ " أيْ إنَّ في كلّ ذلك الذي ذُكِرَ لكم حتماً وبكلّ تأكيدٍ آيات أي دلالات واضحات قاطعات علي وجوده سبحانه وتمام قدْرته وكمال علمه وأنه هو وحده الخالق الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيّ شريك ، ولكنَّ الذي يُدْرِك هذا ويَنتفع ويَسعد به تمام السعادة في الداريْن هم فقط الذين يَتَفَكَّرون أيْ يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعمَّقون في الأمور فيَصِلون حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فيَسعدون بذلك تماما في دنياهم وأخراهم ، بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا الدنيا والآخرة في تمام التعاسة
قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴿15﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُتَسامِحَا ذا فضلٍ وإحسانٍ من غير ضعفٍ ولا ذِلّة فتعفو عَمَّن أساء إليك بقولٍ أو عملٍ وتصبر عليه ، وذلك بأن تكون قويّ الإرادة بعقلك ، فالمُتسامِح هو الأقوي والأعزّ والأعلي والأحسن والمُنْتَصِر والأصْفَيَ ذِهْنَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي والأعظم ثوابا قطعا في الآخرة .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما تعمل الصالحات أي متمسِّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ " أيْ هذا توجيهٌ حكيمٌ كريمٌ من الله تعالي من خلال رسوله الكريم ﷺ للذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره واجتهدوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم أن يُسامحوا ويَعفوا عن الذين لا يَرجون أيام الله أي الذين لا يَتَوَقّعون ولا يَنتظرون ولا يُبالون ولا يَطلبون ولا يَعتبرون وبعضهم لا يُصَدِّقون الأيام التي يَأتي فيها خير الله وسعاداته في الدنيا قبل الآخرة لأهل الخير والأيام التي يَنْزِلُ بها فيهما الشرّ والتعاسات للذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار بما يُناسب أفعالهم ، وذلك لأنهم غافلون تائهون في حياتهم لا يَتَوَاصَلُون مع ربهم ودينهم الإسلام وقد يُؤذون المؤمنين بقولٍ أو فِعْلٍ سَيِّئٍ ما ، فمِثْل هؤلاء مرضي تعساء يحتاجون أشدّ الاحتياج لمَن يَصبر علي أذاهم ويُحسن دعوتهم بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة حتي يشفوا من أمراضهم ويَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ويَستشعروا خيرَ الله وثوابه فيَطلبوه وعقابه فيَحذروه بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرّ ليسعدوا في الداريْن (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿89﴾ من سورة الزخرف " فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ " أيْ لكي يَتَبَيَّنَ لكم بهذا العفو مَن الذي يَستحِقّ الخير والسعادة في دنياه وأخراه فيُعطيه الله تعالى ذلك مُقابل ما كَسَبَه من عملِ خيرٍ بتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه وبحُسن دعوته للآخرين وبصَبْره علي أذاهم ، ومَن الذي يَستحقّ الشرّ والتعاسة في الداريْن بما يُناسب شروره ومَفاسده وأضراره ولا يكون له أيّ عُذر عند عقابه لإصراره علي السوء رغم معرفته بالخير مِمَّن أوْصَلوه إليه من أهل الخير .. فاتركوا الأمر لي إذن أيها المؤمنون فأنا الذي سأحاسب مثل هؤلاء .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ للمُصِرِّين علي سُوئهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴿15﴾ " أي مَن اجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خير وسعادة لنفسه أولا ثم لكلّ مَن حوله بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن ، في حياته وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادهم جميعا في دوام ارتباطهم بربهم واستغفارهم من ذنوبهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ، ثم في آخرتهم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالهم وأقوالهم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ﴿لمزيد من الشرح والتفصيل ، برجاء مراجعة الآية ﴿97﴾ من سورة النحل " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ، ثم الآية ﴿55﴾ من سورة النور " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. "﴾ .. " .. وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا .. " أيْ والعكس صحيح قطعا ، فمَن تَرَكَ العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود علي نفسه أولا ثم علي كل مَن حوله بل وعلي كل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب سوء أقواله وأفعاله ، في حياته الدنيا حيث غضب الله وعدم عوْنه وتوفيقه وحبه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره بسبب بُعده عن ربه وإسلامه ، لأنَّ مَن يَزرع سوءاً لابُدّ أنْ يحصد سوءاً كما هو القانون الإلهيّ العادل الذي نَبَّهنا له ربنا بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، ويَتَمَثّل ذلك في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم سيكون له في حياته الآخرة حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد .. " .. ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴿15﴾ " أيْ ثم جميعا أيها الناس ستُرْجَعون إلي ربكم خالقكم لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة حين يَبعثكم من قبوركم أي يُحييكم ثانية أجسادا وأرواحا ، ولن يتأخَّر أو يَختَفِي أو يَفِرّ قطعا أيُّ أحد !! ليكون هو الحاكم بينكم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتم فيكون للمُحسن كل زيادة من إحسان وخير وسعادة ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقاب علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم .. فلْيُحْسِن إذَن كل عاقل الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد تماما في الداريْن
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿16﴾ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هاتين الآيتين الكريمتين هما تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿16﴾ " أيْ لقد أعطينا بني إسرائيل ، وهم قوم موسي ﷺ ، الكتاب الذي أوحيناه إليه لهم أيْ التوراة التي فيها قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسبة لعَصْرِهم لكي تُصلحهم ومَن حولهم وتُكملهم وتُسعدهم في حياتهم .. وأعطيناهم أيضا الحُكْم أيْ المُلْك والفقه والفهم والعلم للأحكام حتى يتمكنوا من القضاء العادل بين الناس وإدارة كل شئونهم علي أكمل وجه ، وأعطيناهم كذلك النّبُوَّة وكَرَّمناهم بها بأن يكون منهم ولهم كثير من الأنبياء لينالوا شرف حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة للناس وهدايتهم لربهم ، ورزقناهم من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب الطيِّبات المُسْعِدات ، وفضَّلناهم علي العالمين أي اخترناهم وانتقيناهم ومَيَّزْناهم فكَرَّمناهم وأسعدناهم بالتوفيق لاتِّباع أخلاق الإسلام في التوراة وبالنصر علي أعدائهم وإهلاكهم وبالتمكين في الأرض وبالرعاية والعوْن والأمن وبالاسْتِخْلاف فيها يُحسنون إدارتها بالخير نيابة عنّا وبعَوْننا وينتفعون ويسعدون بكل خيراتها وأرزاقها ، وكان هذا الاختيار والتفضيل والتصعيد لكل هذه الامتيازات والمَكَانات علي علمٍ تامٍّ منّا باستحقاقهم لها لتَمَيُّزهم علي بقية العالَمِين أيْ بقية الناس في زمانهم لأنهم كانوا هم الأمّة الوحيدة وقتها التي آمنت بالله تعالي وحده ولم تعبد إلا هو بلا أيّ شريكٍ بينما غيرهم من الأمم الأخري كانوا يعبدون آلهة أخري كأصنامٍ أو كواكب أو ما شابه ذلك .. هذا ، ولكنْ لمَّا ابتعدَ بنو إسرائيل عن ربهم ودينهم وكذّب بعضهم بالرسل بعد رسولهم موسي كعيسي ومحمد صلي الله عليهم أجمعين أصابهم من الله ما أصاب الأمم الأخري المُكذّبة مِن الذلّة والضعف والتشتّت والقَلَق والاضطراب والصراع والاقتتال والعذاب والتعاسة ، فقانون الله العادل في الأرض ثابت لا يتغيّر ويَسْرِي علي الجميع وهو " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ .. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتِّعاظ وليتمسّك بكل أخلاق الإسلام ليكون مُؤَهَّلاً لكي يختاره الله للتوفيق والتيسير والعوْن والرعاية والرزق والمَكَانَة والنصر والسعادة التامة في الدنيا والآخرة
ومعني " وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿17﴾ " أيْ ومِن نِعَمِنا التي لا تُحْصَيَ عليهم أيضا أننا أعطيناهم تَبْيِينات وتفصيلات واضحات مُيَسَّرات في أمر دينهم الإسلام الذي في التوراة – إضافة إلي المُعجزات المُبْهِرات القاطِعات التي أيَّدْنا بها رسولهم موسي ﷺ كالعصي وغيرها لمزيدٍ من تصديقه – بأنْ فَصَّلنا لهم فيها من تشريعاتٍ وتَوْصِيَّاتٍ وأخلاقيَّاتٍ تشمل كلَّ الحلال والحرام والنافع والضارّ والحَسَن والقبيح والخطأ والصواب والحقّ والباطل والمُسْعِد والمُتْعِس ، فصاروا بذلك على علمٍ تامٍّ بشريعتهم بحيث لا يَخْفَىَ عليهم أيّ شيءٍ مِمَّا اشتملت عليه ، أيْ أنه تعالى قد أعطاهم شريعة سهلة واضحة لا غموض فيها ولا التباس ولا انحراف بحيث يعلمها الجميع مهما تَعَدَّدَت إدراكاتهم ولا يمكن أن يَختلف أيّ أحدٍ عليها لوضوحها التامّ والعلم الكامل للجميع بها ، بل إنَّ شريعتهم قد أخبرتهم عن طريق رسلهم بمَبْعَث الرسول محمد ﷺ وبوجوب إيمانهم به عند ظهوره .. " .. فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ .. " أيْ فهذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجه وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها ، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما حيث اختلفوا فيما أمروا بالاجتماع عليه ، أيْ فما اختلفوا إلا عن علمٍ لا عن جهل ، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ مقبول في الخلاف ، بل خلافهم بعد علمهم هو حتما أشدّ قبْحا لأنّ حصول العلم يوجب بالعقل وبالمِنْطِق مَنْع الخلاف ولكنهم جعلوا مَجِيء العلم سببا لحدوثه ولِتَفَرّقهم !! وهذا تَعَجّب من حالهم وتقبيح لسوء فِعْلهم وذمّ شديد له ، ولكن ينتهي التعَجّب بمعرفة أنَّ خلافهم لم يكن من أجل الوصول للحقّ وليس شَكَّاً فيما معهم منه ولكنه بسبب البَغْي فيما بينهم ، أيْ الظلم والاعتداء والحقد ونحو هذا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات بين بعضهم البعض مِن أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿17﴾ " أيْ إنَّ ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم يَحْكُم بين هؤلاء المُختلفين يوم القيامة بحُكْمه العادل بأنْ يُنْزِلَ بهم العقاب الذي يستحِقّونه بسبب ما كانوا يختلفون فيه من أمر الإسلام الذي جعل الله أحكامه واضحة لهم ولا تحتمل أيّ اختلافٍ أو تنازع وبسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التي كانوا يفعلونها .. وسيُعْطِي حتما المُحسنين منهم الذين لم يختلفوا وتمسّكوا بإسلامهم كلّ خيرٍ وسعادة في أخراهم بعدما سَعِدوا به في دنياهم .. وفي هذا تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ لمَن يَتَشَبَّه بهم ألاّ يفعل مثلهم وإلا تَعِسَ مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿18﴾ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴿19﴾ هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿20﴾ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿21﴾ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿22﴾ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿23﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿18﴾ " أيْ وبعدَ الذي شَرَعْناه للأمم السابقة قبلك شَرَعْنا لك أيها الرسول الكريم وللناس حتي يوم القيامة شريعة فيها من الأمر بالخير كله والنهي عن الشرّ كله ، أي طريقة يسيرون عليها ، أي دين الإسلام يَدينون ويَلتزمون ويَتمسّكون به كأمانةٍ عندهم لا يُضَيِّعُونها ، ونظام فيه تشريعات وتَوْصِيَّات وأخلاقيَّات تشمل كلَّ خير وسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يعمل بها كلها ، إنها مجموعة من النُظُمٍ المُتكَامِلَة التي تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي قيام الساعة .. " .. فَاتَّبِعْهَا .. " أيْ سِرْ خَلْفها تماما أيها المسلم واعمل بما فيها كاملا ودَوْماً وباستمرار ولا تبتعد عنها أيّ ابتعاد .. " .. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿18﴾ " أيْ وإيّاك ثم إيّاك أن تَسير خَلْف شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات الذين لا يعلمون طريق الخير وإلاّ تَعِسْتَ مثل تعاساتهم في الداريْن ، أي الذين لا يعقلون ، أي لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون في هذا ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ويتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علم نافع مفيد ، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أمَّا معني " إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴿19﴾ " أيْ والسبب في نَهْيِنا ومَنْعِنا لك أيها المسلم عن اتِّباع أهواء الذين لا يعلمون أنك لو اتَّبَعْتَ أهواءهم وخالَفْتَ شريعة الإسلام ، أي لو اتبعت شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، أصبحتَ مُسْتَحِقّاً لعقاب الله علي قدْر شرورك ومَفاسدك وأضرارك ، ولن يستطيع هؤلاء أن يدفعوا عنك حينها شيئا من هذا العذاب ولا أن ينفعوك بأيّ شيء ، لا في دنياك حيث ستُصاب حتما بدرجةٍ من درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ولا في أخراك حيث ستَنال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. " .. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ .. " أيْ وسببٌ آخر لنَهْيَكَ عن اتِّباعهم أنه لا يُمكن مُطلقا أن تُواليهم فإنك وإيّاهم مختلفون تماما ! لأنهم من الظالمين ! أيْ مِن الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم بمخالفتهم للإسلام بصورةٍ ما من صور الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، وأنتَ لستَ كذلك ظالما منهم ومثلهم فكيف تُواليهم إذَن ؟! فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل أن تَتَّبعهم في شيءٍ وإنما يَتَّبعهم مَن هم أولياؤهم أيْ الذين بعضهم نُصَرَاء وأحِبَّاء وأصدقاء وأعوان بعضٍ في الدنيا علي طريق الظلم والذين هم في الآخرة ستَنْقلب حتما ولايتهم هذه أيْ نُصرتهم ومَحَبّتهم وصداقتهم إلى عداوة لأنهم تَشَارَكوا وتَسَبَّبوا بدرجاتٍ مختلفة فيما هم فيه .. " .. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴿19﴾ " أيْ وفي المُقابِل ، الله خالق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك الذي له كل صفات الكمال الحُسني هو وليُّ المتقين أيْ وَلِيّ أمرهم يديره لهم علي أكمل وجهٍ فيُعينهم ويُؤيِّدهم وينصرهم ويرعاهم ويُوَفّقهم ويُؤَمِّنهم ويُسعدهم ، والمُتَّقون هم المُتَجَنِّبون لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، فمَن إذن الأكثر قوة وعِزَّة وتوفيقا وأمنا ونصرا وسعادة في دنياهم ثم أخراهم ؟! إنهم حتما بلا أيّ شكّ المتقون الذين وَلِيّهم الله تعالي !! فهذه الفقرة مِن الآية الكريمة هي مِن المُقابِلات التي تزيد المعنى وضوحاً .. فاثبت بالتالي على شريعة الإسلام أيها المسلم واجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاقه وكن دوْما من المتقين لتنالَ شرف وثمار أن يكون الله دائما وَلِيّ أمرك
ومعني " هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿20﴾ " أيْ هذا القرآن العظيم هو بصائر للناس ، جَمْع بَصيرة أي إدراك العقل ، أي لكي يتبَصَّروا به أي يَروا ويُدركوا ويَتدبَّروا بعقولهم ويُنير لهم طريقهم في حياتهم ويكون لهم هديً أيْ إرشاداً فيعرفوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وبالتالي تتحقق لهم الرحمة أي السعادة التامّة في الدنيا والآخرة .. " .. لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿20﴾ " أيْ هو بصائر للمُوقنين فقط أيْ المتأكّدين بلا أيّ شكّ بوجود ربهم وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وبأنه من عنده وبصدق رسوله الكريم ﷺ الذي جاء به وبصلاحيته الكاملة بما فيه من أخلاق الإسلام لإسعاد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة وذلك إذا عملوا بها كلها ، هؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَسعدون بالقرآن بينما لا أثرَ له في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿21﴾ " أي هل يظنّ مَن يكتسبون ويعملون السيئات ، أي الشرور والمَفاسِد والأضرار ، سواء أكانت هذه الشرور في صورة كفرٍ أيْ تكذيبٍ بوجود الله أم شِرْكٍ أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقٍ أي إظهار للخير وإخفاء للشرّ أم ظلم واعتداء وعدم عدل أم فساد ونشر له أم ما شابه هذا ، هل يتوهَّمون أن نجعلهم متساوين مع الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات في حياتهم الدنيا أو أثناء وبعد موتهم في الآخرة ؟! كلا بالقطع فليس هذا عَدْلنا !! إنهم حتما لا يستوون فيهما ، فإنَّ الذين آمنوا بربهم وبآخرته وبكتبه وعملوا الصالحات أي اجتهدوا في فِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال اجتهادهم في التمسّك بكل أخلاق إسلامهم يحيون في دنياهم حياة كلها خير وسعادة ثم في آخرتهم لهم ما هو أكثر خيرا وسعادة في درجات جنات ربهم علي حسب أعمالهم حيث ما لا عين رَأَتَ ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر ، بينما الذين اجترحوا السيئات هم في كل شرٍّ وتعاسة في الداريْن علي قدْر شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم التي فعلوها .. " .. سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿21﴾ " أيْ ما أسوأ هذا الحُكْم علي الأمور الذي يحكمونه ، ما أسوأ هذا الظنّ والتّوهُّم ، ما أسوأ هذا التفكير السَّفِيه السَّطحِيّ الخاطيء المُضِرّ المُتْعِس ! أنهم متساوون في الخير والسعادة في الدنيا والآخرة مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات ! .. إنهم بكل تأكيد سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم ، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم .. فالآية الكريمة فيها ذمّ شديدٌ لهم على أحكامهم وأفكارهم الفاسدة التي تُخالِف كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُخالِف ما جاءت به كتب الله كلها وآخرها هذا القرآن العظيم ، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً وإسعادً للمسلمين
ومعني " وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿22﴾ " أيْ ومِمَّا يُؤكّد تماما أنه لا يُمكن أبدا أن يَتَسَاوَيَ الذين يكتسبون ويعملون السيئات مع الذين آمنوا ويعملون الصالحات في شَكْلِ حياتهم ومَمَاتهم وآخرتهم لمُخالَفَة ذلك لقواعد العدل أنّ الله تعالي الخالق العادل الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ قد خَلَقَ أيْ أوْجَدَ السماوات والأرض بكلّ ما فيهما مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَةٍ مُبْهِرَةٍ بالحقّ ، أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته وعلمه سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ولكي تسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنَّ خالقها هو الحقّ ، كل ذلك الحقّ هو لكي تَظهرَ قدْرته التامّة وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ولكي يتحقّق العدل التامّ بين الجميع بأن تُعْطَيَ كلّ نفس في مُقابِل ما كَسَبَته أيْ فَعَلَته ما تستحِقّه من خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن إنْ فَعَلَتْ خيرا ومن شرٍّ وتعاسة فيهما إنْ فَعَلَتْ شرَّاً بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. فكيف إذَن يَتَوَهَّمون أن يَظْلِم سبحانه فيُسَاوِي بين الفريقين ؟! تعالي الله عمَّا يظنون به سوءا عُلُوَّاً كبيرا
أمَّا معني " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿23﴾ " أيْ هل نظرتَ وتأمَّلتَ فرأيتَ وعلمتَ أيها الرسول الكريم وأيها المسلم مَن جَعَلَ إلهه هواه أيْ جعل ما يهواه ويحبه ويميل إليه من شرور ومَفاسد وأضرار هي إلهه أي هي ما يُطيعه طاعة كاملة كما يُطيع العابد مَعْبوده ؟! هل يُعْقَل ويَصِحّ هذا عند أيّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ؟! إنه أمر عجيب حقا أن يَتَّبع دون أيّ تَفَكّر وتَدَبّر وتَعَقّل ما سيُؤَدِّي به إلي تمام تعاسته في دنياه وأخراه !! ولكنّ السبب هو أنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ .. " أي واختار هو بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلم يَمنعه الله وشاء له هذه الضلالة أي تَرَكه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ ، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، وقد اختار الضلال وهو علي علمٍ تامّ بأنه ضلال وشرّ وأنّ هناك طريقا آخر هو طريق الرشاد والخير والسعادة وهو طريق الله والإسلام ولكنه لم يَخْتَره !! .. " .. وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً .. " أي وقد وَصَلَ إلي مرحلة الخَتْم والغَلْق علي السمع والعقل والبصر ، أي مِن شِدَّة عِناده واستكباره وإصراره علي فِعْل الشرّ ، واعتياده علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير ، قد وَصَلَ لمرحلة مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقله أيّ مساحةٍ لاستقبال أيّ خير أو حتي مجرّد التفكير فيه وأصبحَ كالأصَمّ الذي لا يسمع شيئا مِن أيِّ خيرٍ بسبب إغلاقه هو لسمعه وكالأعمي الذي لا يراه مُطلقا بسبب الغشاء الذي وضعه هو علي عينه حتي لا يَرَيَ !! بل بعض هؤلاء لم يعد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك !! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ .. " أي فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وهو في هذه الحالة بعد أن تَرَكه الله لضلاله ؟! لا أحد حتما غير الله تعالي خالقه الغفور الرحيم ولكنْ بعد أنْ يتوبَ ويعودَ إليه وإلي إسلامه فيبدأ في توفيقه لكل خيرٍ وتيسير أسبابه له .. " .. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿23﴾ " أيْ هل لا تَتَّعظون أيها الناس بمِثْل هذه الحالات فتفعلون مثلهم ؟! فإيّاكم أن تَتَشَبَّهوا بهم مُطلقا وإلا تعستم مثل تعاساتهم في دنياكم وأخراكم ؟!
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿24﴾ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿25﴾ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ﴿27﴾ وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿28﴾ هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿29﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴿30﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ﴿31﴾ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴿32﴾ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿33﴾ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿34﴾ ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة ، للساعة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما تعمل الصالحات أي متمسِّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿24﴾ " أيْ وقال المُكَذّبون للبَعْث ، أيْ لإحياء الموتي بأجسادهم وأرواحهم بعد موتهم ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلوا ، ولم يُصَدِّقوا بالجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ، قالوا على سبيل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحيا فيها وليس هناك حياة أخري بعد موتنا كما تَدَّعون أيها المسلمون ، فنحن نموت ثم يحيا أولادنا من بعدنا ويموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن مُعَيَّن ، وَما يُهلكنا عند انتهاء آجالنا إلا الدَّهْر أيْ إلا مرور الزمن والأيام والسنين والعُمْر ومَجِيء الموت ، وهم بذلك يُكَذّبون وجود ربٍّ لهم يَخلقهم ويرعاهم ويرزقهم ويُرشدهم بشرعه الإسلام لكل خير وسعادة ويُميتهم ويَبعثهم ويُحاسبهم .. " .. وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿24﴾ " أيْ وليس لهم أيّ علم بذلك الذي ذَكَرُوه كذبا وزُورَاً مِن إنكارهم للبعث وللآخرة يكون مُسْتَنِدَاً إلى أيِّ دليلٍ عقليٍّ مَنْطِقِيٍّ موثوقٍ فيه ، ولكنهم فقط يظنّون أيْ يتوهَّمون ويتخيّلون ويتكلمون بالظنّ والتخمين والتخريف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يقينيّ ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد
ومعني " وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿25﴾ " أيْ وحينما تُقْرَأ عليهم وتُذْكَر لهم آيات القرآن واضحاتٍ مُبَيِّناتٍ قاطعاتِ الدلالة على أنّ البَعْث صِدْقٌ وأكيدٌ وليس فيه أيّ شكّ ، ما كان لهم مُطلقا وما وَجدوا أيّ حُجَّة حقيقية لها قيمة أمام مَن يُذَكِّرهم بالبعث إلا حجّة سفيهة سَطحيّة مُضْحِكَة لا تَسْتَنِد لأيّ دليلٍ علميٍّ مَنْطِقِيٍّ معقول مقبول حيث يقولون مُسْتَدِلّين علي أنه ليس هناك إلا هذه المَوْتَة في الحياة الدنيا وينتهي الأمر إلي تراب ولا بَعْث بعد الموت بالأجساد والأرواح ليوم القيامة ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار بأنَّ آباءهم الذين ماتوا هذه الموتة لم يُبْعَث أيّ أحدٍ منهم حَيَّاً للدنيا مرة أخري ! فإن كنتم صادقين أيها المسلمون فيما تَدَّعونه كذبا وزورا فأحضروهم لنا إذن أحياء بدعائكم لربكم حتي نراهم فيكون ذلك دليلا علي صِدْقكم فنُصَدِّقكم !! وهي حجّة سفيهة لا قيمة لها ، لأنّ الوعد بالبعث ، بكل بساطةٍ وعمُقْ ، هو في الآخرة بعد انتهاء الدنيا وليس فيها ويكون للحساب لا للعمل !! كما أنه لا بُدَّ أن يكون أمرا غَيْبِيَّاً ليكون مِن علامات الإيمان لمَن يُصَدِّق به !! وإلا لو كان حاضرا مَرْئيَّاً للجميع في دنياهم فكيف يُعْرَف المُصَدِّق مِن المُكَذّب ؟!! ثم هو لكي يتحقّق العدل به إذ هل يُعْقَل ألاّ يُعطِي الخالق العادل للمظلوم حقّه مِن ظالمه ولم يستطع أخذه منه في دنياه ؟! وهل يُعقل أن ينتهي كل هذا الكوْن المُعْجِز الدقيق الحكيم ونظام الحياة المُحْكَم هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يَصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر دون نهايةٍ دقيقة مثله بحسابٍ دقيق علي كل الأقوال والأفعال والمُجازاة عليها بالخير خيرا وبالشرّ شرَّا ؟! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. إنَّ هدفهم مِن طَلَبهم هذا هو مجرّد المُرَاوَغَة للاستمرار في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ، وحتي لو فُرِضَ وأحيا الله لهم آباءهم كما يَطلبون لم يؤمنوا ! لأنهم مُصِرّون علي ما هم فيه لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ " أيْ قل لهم يا أيها الرسول الكريم ويا كلّ مسلم لماذا تطلبون إحياء آبائكم بعد موتهم ؟! هل لكي تقتنعوا بقُدْرة الله تعالي على إحياء الموتى ؟! عَجَبَاً كل العَجَب من طَلَبكم هذا !! أليس الله أحياكم وخلقكم وأنشأكم في بطون أمهاتكم وهو يُنْشِئ الحياة أمام أعينكم إنشاءً مُعْجِزَاً مُبْهِرَاً في المواليد التي تُولَد لكم كلّ لحظة ؟! ثم كذلك يُميتكم عند نهاية آجالكم في دنياكم دون اختياركم كما ترون أمواتا منكم يَقبض أرواحهم أيضا في كل لحظة ، فلا عَجَب إذن في أن يُحيي الناس ويَجمعهم إلى يوم القيامة لحسابهم ولا سبب يدعو إلى الرَّيْبِ أيْ الشكّ في هذا الأمر مُطلقا لكل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي تشهدون مثله لحظيا ! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. فمَن خَلَقهم أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدهم مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! .. " .. وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ " أيْ فقط المؤمنون بربهم المتمسّكون بكل أخلاق إسلامهم هم الذين يعلمون أي يعقلون ويَتدبَّرون ذلك ويَثقون تمام الثقة فيه ، أما أكثر الناس الكافرون أي الذين يُكذبون بوجود الله ، وأكثر الناس المشركون أي الذين يعبدون آلهة غير الله كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها – ولفظ أكثر يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأن قِلَّة مِن هؤلاء الكافرين والمشركين يعلمون الحقّ ويُسْلِمُون في كل زمن – لا يعلمون ذلك ، أي لا يعقلونه ، أي لو كان هؤلاء الذين يُكذبون ويُعَانِدون ويَستكبرون يُحسنون استخدام عقولهم فيَتدبَّرون في هذا ، ولا يتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد ، لَعَلِمُوا حقّ العلم صِدْقَ ما يُتْلَيَ عليهم ولَتَأَكّدوا منه تمام التأكّد .. ولكنهم عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾
ومعني " وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ﴿27﴾ " أيْ هو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك ، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة ، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد ، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء ، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام الساعة ، أيْ ساعة إقامة يوم القيامة ، حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها ، ويومها سيَخْسَر حتما المُبْطِلون الذين كانوا لا يُصَدِّقون بحدوثها ، أي المُتَعَمِّقون في الباطل أيْ في كلّ ما هو ضدّ الحقّ أي في كلّ كذبٍ وضلالٍ وشرٍّ وضياعٍ والذين هم كل أقوالهم وأفعالهم واضحة البُطْلان ، أيْ أهل الباطل المُتمسّكون العاملون به ، أيْ أهل الشرّ والفساد الذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزؤن ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، ففي ذلك الوقت قطعا سيَخْسَرون تماما ، حيث سيكون لهم تمام العذاب والتعاسة بما يُناسِب أفعالهم .. وسيَظهر تماما أيضا في المُقابِل مَكْسَب أهل الحقّ حيث تمام الخير والسعادة
ومعني " وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿28﴾ " أيْ هذا مَشْهَد مِن مَشَاهِد يوم القيامة والذي يكون شديدا صعبا طويلا مُرْعِبا علي المُكذبين خفيفا سهلا قصيرا مُبَشِّرا بكل خير وسعادة للمؤمنين الذين أحسنوا الاستعداد له بالعمل بأخلاق إسلامهم في دنياهم حيث هو يوم جائزتهم التي وعدهم بها خالقهم الكريم الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا .. أيْ وتَرَيَ أيها المُشَاهِد كل مجموعة من الناس في زمنهم الذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزؤن ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، تراها جاثية أيْ جالسة علي رُكَبها بتَحَفّز وخوف وانتظار لما هو مَكروه مُسيء مُخيف مُؤلم .. " .. كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا .. " أيْ وتُسْتَدْعَيَ وتُطْلَب حينها ليَأخذ كل فرد منها كتابه المُسَجَّل فيه كل أقواله وأعماله من خيرٍ أو شرّ ، وأيضا تُستدعي إلي كتابها الذي أرسله الله إليها مع رسولها وفيه الإسلام الذي يُناسب عصرها ليُسْأَل كلّ واحدٍ منها بمفرده هل عمل به فيُثاب أم لا فيُعاقَب .. " .. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿28﴾ " أي يُقالُ للجميع حينها مؤمنين ومُكذبين اليوم تُعطون جزاء أعمالكم التي كنتم تعملونها في دنياكم ، للخير كلّ خيرٍ وسعادة ، وللشرّ كل شرٍّ وتعاسة ، بما يُناسِب ، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿29﴾ " أيْ ويُقالُ لهم أيضا ، من الله تعالي أو من ملائكته الكرام ، هذا كتابنا الذي سَجَّلَته الملائكة لأعمالكم يَشْهَد عليكم بالصدق لأنه لا زيادة ولا نقصان فيه بل مكتوب بكل دِقّة كأنه يَنطق ويتكلّم ، وقد يكون النُّطْق من الكتاب حقيقيا بقُدْرة الله تعالي القادر علي كلّ شيء ، والسبب في صِدْقه تمام الصدق أننا نحن بعِلْمِنا التامّ الذين كنا نأمر ونَطلب من ملائكتنا نَسْخَ أعمالكم أىْ كتابتها وإثباتها بخيرها وشرّها كما هي في كتاب أعمالِ كلِّ منكم لحسابكم عليها ، فلا يُمكن لأحدٍ أن يُكذّب ما فيه أو يَتَهرَّب منه قطعا ، ولن يُظْلَم أحد ولو بمقدار ذرّة أو أقلّ ، فلن يَجِدَ مثلا حَسَنة فَعَلها ولم تُسَجَّل أو سَيِّئَة لم يَفعلها ومُسَجَّلَة عليه
ومعني " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴿30﴾ " أيْ هذا تفصيل لأحوال الناس يوم القيامة ، فالذين آمنوا منهم أي صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، وعملوا الصالحات أي تمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل ، فمِثْل هؤلاء بالقطع سيُدخلهم الله تعالي في رحمته أيْ في جنته ورضوانه في درجاتها علي حسب أعمالهم حيث ما لا عين رَأَتَ ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر ، وذلك بعد أن كانوا في دنياهم في تمام رحمته أيْ خيره وأمنه ورعايته ورضاه ورزقه ونصره وسعادته بسبب إيمانهم به وتمسّكهم بإسلامهم ، وذلك بالقطع هو الفوز والنجاح المُبِين أي الظاهِر الواضِح الذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه يُمكن تحقيقه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة ، إضافة إلي ما نالوه مِن أعظم فوزٍ في دنياهم تَمَثّل في سعادتهم التامّة بتواصُلهم الدائم مع ربهم ودينهم
ومعني " وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ﴿31﴾ " أيْ وفي المُقابِل وعلي العكس تماما من حال الذين آمنوا يكون حال الذين كفروا ، أيْ الذين يُغَطّون الحقائق ويُخفونها لأنَّ الكفر في الأصل يعني في اللغة العربية التغطية ، أيْ الذين قد غَطَّوا وأخْفوا حقيقة وجود الله وصلاحية شَرْعه الإسلام لإسعاد البشرية كلها في كل زمانٍ ومكانٍ وهي الحقيقة الموجودة في فطرتهم التي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، ولم يُصَدِّقوا برسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، وذلك لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم يُقالُ لهم على سبيل الذمِّ الشديد واللّوْم والتأنيب كعذابٍ نفسيّ قبل الجسديّ هل لم تكن آياتي تُتْلَىَ عليكم أي هل لم تأتكم رسلي تُذَكّركم بآياتى في كُتُبي وفي كوْني مع مُعْجِزاتي التي أيَّدتهم بها الدَّالَّة على أني المُسْتَحِقّ وحدي للعبادة وعلى صِدْقهم فيما يُبَلّغونه عنّى لكم أن اتَّبعوا دين الإسلام الذي شرعته لمصلحتكم ولسعادتكم ؟! لقد جاؤكم بهذا فتَعَالَيْتُم علي الاستماع إليهم والاستجابة لهم ورفضتم اتّباع ما نصحوكم به وتعاليتم علي الله ودينه وخَلْقه وظلمتموهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة وكنتم قوما مُجرمين أيْ ارتكبتم الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. فليس لكم أيّ عُذْرٍ إذَن وستُدْخَلون درجات النار علي حسب شروركم ومَفَاسِدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، ليس لكم إلا هذا المصير
ومعني " وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴿32﴾ " أيْ ويُقالُ لهم أيضا على سبيل الذمِّ الشديد واللّوْم والتأنيب كعذابٍ نفسيّ قبل الجسديّ أنكم كنتم في دنياكم إذا قيلَ لكم مِن المسلمين إنَّ وَعْد الله الذي يعدكم به مِن البَعْث أيْ إحيائكم مِن قبوركم بأجسادكم وأرواحكم للحياة الآخرة والحساب العادل والعقاب والجنة والنار هو صِدْق ، وأنَّ الساعة أيْ ساعة إقامة يوم القيامة والذي سيَحدث فيه كلّ هذا لا شكّ فيها أبدا ، رَدَدْتُم عليهم بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء واسْتِبْعادٍ لذلك قائلين ما نعرف ما هي الساعة وما حقيقتها ولا ندري أيَّ شيءٍ عنها وهل حدوثها صِدْق أم كذب ، وقلتم أيضا إنْ نحن إلا كنّا نظنّ ظناً أيْ كنّا فقط في دنيانا نَتَوَهَّم ونَتَخَيَّل تَوَهُّماً وتَخَيُّلاً مَا أنَّ هناك شيئاً اسمه الساعة يُمكن أنْ يَحدث ، وما نحن بمُستقينين أيْ وما كنّا مُتأكّدين تماما مِن حدوثها بل كنا نشكّ في ذلك شكَّاً كبيرا
ومعني " وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿33﴾ " أيْ وظَهَرَ لهم النتائج السَّيِّئات أي العقوبات والجزاءات لِمَا كانوا يعملونه في دنياهم مِن أعمال سَيِّئَة أي شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات ، وحاقَ أيْ أحاطَ بهم مِن كلّ جانبٍ العذاب المُوجِع المُهين المُستمرّ المُتَنَوِّع الذي كانوا في حياتهم الدنيا يَسخرون منه ومِمَّن يُحَذّرهم مِن حدوثه وشِدّته
ومعني " وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿34﴾ " أيْ ويُقالُ لهم لتَيْئِيسِهم مِن أيّ أملٍ في الخروج مِن عذاب النار لتعذيبهم نفسيا إضافة للعذاب الجسديّ اليوم ننساكم والله تعالي لا يَنْسَيَ فالمعني إذَن نُهملكم ونَترككم فيها كما نَسِيتم أنتم في الدنيا وكذّبتم لقاء يومكم هذا وهو يوم القيامة ولم تستعدوا له بفِعْل الخير وترْك الشرّ ، فهذا هو سبب النسيان لكم ، ومَسْكنكم ومَقَرّكم الذي تأوون إليه وتَستقرّون فيه هو النار فما أسوأ هذا المَأوي الذي ليس هناك أسوأ منه ، وليس لكم أيّ ناصرين يَنصرونكم ويَنقذونكم مِن هذا العذاب أو حتي يخففوه عنكم
ومعني " ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴿35﴾ " أيْ ذلكم العذاب الشديد الكثير المُتَنَوِّع المُستمرّ هو بسبب أنكم في حياتكم الدنيا استهزأتم بآيات الله في كتبه وآخرها القرآن العظيم وسَخرتم منها وكذّبتم بها وبمُعجزاته التي أيَّدَ بها رسله لتُصَدِّقوهم .. " .. وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا .. " أيْ وخَدَعَتْكُم فلم تُحسنوا طَلَبَها مع طَلَب الحياة الآخرة كما نصحكم الله والإسلام بل فعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء مراجعة كيفية إحسان طلب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. " .. فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴿35﴾ " أيْ في هذا اليوم ، يوم القيامة ، لا يُمكن مُطلقا لمِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّهَ بهم أن يُخْرَجُوا مِن النار وعذاباتها وعقوباتهم فيها ، ولا يمكن كذلك أن يُسْتَعْتَبُوا أيْ لا يُجاب لطَلَبِهم لو طَلَبوا إزالة العِتاب من الله لهم ، والاسْتِعْتَاب هو طلب العُتْبَيَ وهي طَلَب الرضا بعد الغضب أي طلب أن يَرْضَيَ عنهم الله بعد غضبه عليهم ، فإنهم لا يُجَابُون بالقطع لأنه قد فات أَوَان ذلك ، أي انتهي وقت التوبة والرجوع لله ، والوقت الآن هو وقت الحساب والجزاء والعذاب لا وقت العمل والأداء ، ولهذا فحينما يَرَيَ كلُّ مَن ظلم بصورةٍ ما من صور الظلم درجة العذاب الذي سيَناله ، لن تنفعه أيّ مُطَالَبات بالتخفيف أو الإمهال أي الترْك والإعادة للدنيا لفترةٍ لتصحيح أمره بتوبته مِمَّا فَعَل .. هذا ، وتغيير الخطاب مِن المُباشِر لهم إلي غير المباشر يُفيد التحقير لشأنهم ، وهم حين يُقالُ أمامهم ذلك يزداد ألمهم ونَدَمهم ويَأسهم مِن أيّ خروج منها
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿36﴾ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿37﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة بالآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿36﴾ " أي هذا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ ، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولا وقوة وصحة وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها وبَيَّنَ لهم في الإسلام أين النور والخير والسعادة وأين الظلام والشرّ والتعاسة ليتمسّكوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿36﴾ " أي هو خالقهما وما فيهما وما بينهما من مخلوقاتٍ مَرْئِيَّةٍ وغير مرئية .. وهو سبحانه ربُّ كلّ ذلك أي مالِكه ومُدَبِّر كلّ شئونه .. وهو ربُّ كلّ الخَلْق والناس جميعا أيْ مُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم حيث هو مُنَزِّل عليهم هذا القرآن العظيم ومُوصيهم بالالتزام والعمل به كله لأنَّ فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن فهو لا يُمكن أبدا أن يَتركهم أو يهملهم فيهما .. ولذلك كله فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه بلا أيّ شريكٍ معه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ ، وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وهو المُسْتَحِقّ لأن تُخْلِصوا وتُحْسِنوا له (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. لتسعدوا بكل ذلك تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. هذا ، وتكرار لفظ " رَبّ " هو لمزيدٍ من التأكيد والتذكير
ومعني " وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿37﴾ " أيْ وهذا أيضا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من المُكَبِّرين أيْ المُعَظّمِين له ، حيث له وحده الكبرياء كله في السماوات والأرض أي العَظَمَة والجلال والسُّلْطان والقُدْرة والكمال فيهما ، فهو أكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ فيهما مُنْقَاد له مُحتاج إليه تحت نفوذه وحُكْمه وتَصَرّفه وتَدبيره ، وسلطانه مَبْنِيّ علي كلّ عِزَّة وحِكْمَة حيث هو العزيز الحكيم أي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ولا يمنعه أحدٌ مِمَّا يريده في إدارة شئون كوْنه وخَلْقه علي أكمل وأسعد وجه ، وهو في كلّ أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة وعِلم والذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث .. وبالتالي ، وبالإضافة وبالتأكيد للآية السابقة ، فهو وحده سبحانه المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريك ، لِتَتِمّ السعادة في الدنيا والآخرة.