الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿1﴾ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴿2﴾ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ﴿3﴾ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴿4﴾ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿1﴾ " أي تَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله ربّ العالمين الذي هو وحده لا غيره مالِك وخالِق الكوْن كله بما فيه وما بينه من خَلْقٍ المُتَصِرّف فيه بلا أيّ شريكٍ أو مُعَاوِنٍ أو مُمَانِع ، واسْتَحَقَّ بالتالي كلّ تعظيمٍ وتنزيه حيث لا يشبهه أيّ أحدٍ في ذلك ، فاطلبوا إذن بَرَكته وعَظّموه وابْعِدوه عن كلّ صفةٍ لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسني وهو القادر علي كلّ شيء وهو الذي قد زادَت بركاته وحَلّت أي زادت خيراته وأفضاله في كلّ شيءٍ علي كلّ خَلْقه وهي مستمرّة لهم ومُتَزَايِدَة دون انقطاع ، فهو تعالي إذن المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه ، فاعبدوه واشكروه والجأوا إليه لتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. " .. وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿1﴾ " أي ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد ، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك فهو حتما المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل)
ومعني " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴿2﴾ " أيْ ومن الدلالات التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ، أنه خَلَقَ الموت والحياة ، أيْ أوْجَدَ من عدمٍ الدنيا والآخرة ، أيْ خَلَقَ الدنيا التي فيها الموت وخَلَقَ الآخرة – بجَنَّاتها ونيرانها – التي هي الحياة الخالدة بلا موت ، خلقهما بكل ما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ وخيراتٍ وسعاداتٍ علي هذا النظام ليسعد بها خَلْقه وعلي رأسهم الإنسان الذي هو مُسَخَّر له من ربه جميع الخَلْق ليَنفعوه وليُسعدوه ، فكلّ حيٍّ هو بالحياة والروح التي خَلَقَها الله فيه بقُدْرته والتي لا يعلم سِرَّها إلا هو سبحانه وكل مَيِّت هو بالموت الذي خَلَقه الله حيث يَسْحَب منه روحه التي أعطاه إياها بتمام قُدْرته وكمال علمه (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) " .. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا .. " أيْ انْتَبِهُوا تماما أنه ليس خَلْق كلّ هذا هو لمجرد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد ودون أيّ حِكْمَة وأنَّ الحياة الدنيا ستَنتهي هكذا بكلّ عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جَدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم أيها الناس حينما ترجعون إلينا في الحياة الآخرة بعد بَعْثكم أيْ إحيائكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم ، فلا يُمكن أن يَفعل ذلك الله سبحانه الذي تعالَيَ وارتفعَ عن كل صفةٍ لا تَلِيق حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، وإنما خَلَقَ الموت والحياة بهذا النظام وأرسل لكم نظامه في الإسلام مع رسله ليُنَظّمها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ ليَبلوكم أيْ ليَختبركم ، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة أيضا الآية ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ من سورة العنكبوت " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ " ، " وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " .. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة﴾ .. " .. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴿2﴾ " أيْ وهو وحده لا غيره الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم ، وهو لا يُمَانَع فلن يَمنعه عمّا يريد فِعْله أيّ مانِع ، وهو مع ذلك الغفور أيْ الكثير المَغْفِرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، رحيم أي كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني " الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ﴿3﴾ " أي ومن بعض معجزاته ودلالاته أيضا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه أنه هو وحده لا غيره الذي أوْجَدَ من عدمٍ وعلي غير مثالٍ سابقٍ السماء مُكَوَّنَة من سبع سماوات علي هيئة طبقات بعضها فوق بعض وكل واحدة مُطابِقَة للأخري بغير أعمدةٍ مَرْئِيَّة بكل ما فيها من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِرات .. " .. مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ .. " أيْ لا يُمكن أبداً أن تَرَيَ فيها أيها النَّاظِر إليها – ولا في أي خَلْقٍ من خَلْقِ وصُنْع الرحمن سبحانه – أيَّ اختلافٍ أو اضطرابٍ أو خَلَلٍ أو عدمَ تَنَاسُقٍ وتَنَاسُبٍ بل في تمام الحُسْن والإبهار والإتقان والإحكام والنَّفْع .. هذا ، ولفظ الرحمن يُفيد أنَّ كل تلك المخلوقات فيها رحمات بالناس ونِعْمَات وخَيْرات وسعادات لا تُحْصَيَ .. " .. فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ﴿3﴾ " أيْ هذا نوعٌ من التَّحَدِّي والتَّعْجِيز ، أيْ فأَعِد النظر أيها الناظر إليها إعادة تَحَقّق وتأكُّد وتأمُّل هل تجد فيها أيّ شقوقٍ أو تَصَدُّعات ؟! إنه لا مَفَرّ لك إلا الاعتراف التامّ بأنه ليس هناك أيّ فطور !!
ومعني " ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴿4﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التَّحَدِّي والتَّعْجِيز ، أيْ ثم أَعِد النظر أيها الناظِر مرتين وأكثر لمزيدٍ من التأكّد والتَّفَحُّص ، فلعل المرة الأولي ليست كافية ! فلن تري حتما أيَّ فطور – والمراد بالكَرَّتيْن هنا إعادة النظر كثيرا وليس مرتين فقط – فالنتيجة قطعا التى لا مَفَرَّ لك منها أنَّ بصرك بعد طولِ نَظَرٍ وبحث يعود إليك خاسئا أيْ خائبا ذليلا بعيدا جدا عمَّا كان يريد ويعود وهو حَسِير أيْ كَلِيل مُتْعَب مُتَحَسِّر لأنه بعد كل هذا الجهد الذي بذله لن يجد أيَّ شيءٍ كان حريصا علي كشفه من فطور أو غيره !
ومعني " وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴿5﴾ " أيْ ومن بعض علامات قدْرتنا علي كلّ شيء ورحمتنا بكم وإسعادنا لكم ، أننا قد زَيَّنَّا أي حَسَّنَّا وجَمَّلنا السماء القريبة إليكم والتي ترونها في دنياكم بمصابيح هي النجوم بأحجامها المختلفة ، بحيث تنفعكم بأن تُضِيء لكم سُكُون الليالي بتَلألأها وبأن تُحَدِّد اتّجاهات الطرق البرية والبحرية التي تَسيرون فيها ، وتُسعدكم بكلّ ذلك وغيره من المنافع ، فتَصَوَّروا لو كانت السماء مُظلمة تماما كيف يكون حالكم ليلا ؟! إنها ستكون بالتأكيد مُخيفة مُتْعِسَة لكم !! .. " .. وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ .. " أيْ وأيضا من بعض علامات قدْرتنا علي كلّ شيءٍ ورحمتنا بكم وإسعادنا لكم ، أننا جعلنا بعض هذه النجوم وأجزاء منها تَرْجُم الشياطين أيْ تَقذفها وتَحرقها وتَقضي عليها – والرجُوم جَمْع رَجْم وهو ما يُرْجَم به – أيْ قد حفظنا تماما السماء بقدْرتنا وبجنودنا التي لا يعلمها إلا نحن مِن أيِّ عابثٍ أو مُخَرِّب يَظنّ مُتَوَهِّمَاً أنه يُمكنه العَبَثَ بأيّ ذرّة منها أو تخريب أيّ شيءٍ فيها ، سواء أكان هذا العابِث المُخَرِّب بَشَرَاً أم غيره من المخلوقات التي يعلمها خالقها وحده ، لأنّ معني شيطان في لغة العرب هو كلّ مُفْسِدٍ مُتَمَرِّدٍ علي الخير بعيدٍ عن الحقّ مِن أيِّ مخلوق .. " .. وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴿5﴾ " أيْ وأعْدَدنا وجَهَّزنا أيضا في الآخرة لأمثالهم عذاب النار الشديدة الاشتعال والذي لا يُقَارَن حتما بالعذاب والعقاب والذلّ الذي نالوه في دنياهم
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿6﴾ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ﴿7﴾ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴿8﴾ قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴿9﴾ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿10﴾ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿6﴾ " أيْ وكما أعْدَدنا وجَهَّزنا عذاب السعير لمَن ذُكِرَ في الآية السابقة ، كذلك أعددناه لجميع الذين كفروا بربهم أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خير وسعادة في دنياهم وأخراهم سواء أكانوا كافرين أيْ مُكَذّبين بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره أم مُشْرِكين أيْ عابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه وفَعَلوا لذلك الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا يُصَدِّقون بوجود حسابٍ أم مَن يَتَشَبَّه بهم .. " .. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿6﴾ " أيْ وما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يَصيرون إليه وهو النار
ومعني " إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ﴿7﴾ " أيْ عندما يُقْذَفون بواسطة الملائكة في جهنم بكل ذِلّة وإهانة يسمعون لنيرانها الشديدة الاشتعال صوتا مُخيفا مُرْعِبا مُزْعِجا شديدا لا يُحْتَمَل يُشبه الشهيق – وهو تَرَدّد النَّفَس فى الصدر بصعوبةٍ وبصوتٍ مرتفع – ولكن بدرجة لا تُقَارَن حتما ، وهي تُحْدِث هذه الأصوات المُخِيفَة أثناء فَوَرَان نيرانها أيْ غَلَيانها وهم بداخلها كالماء المَغْلِيّ الشديد الحرارة يَفور أيْ يَغْلِي بما فيه
ومعني " تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴿8﴾ " أيْ هي تَقترب أن تَتَقطّع وتَتَمَزَّق من شدّة الغضب عليهم – كالإنسان الذي يُحِسّ عند غيظه وكأنّ جسده يتمزّق – بحيث عندما يُلقون فيها وتتمكَّن منهم تُفْرِغ فيهم هذا الغيظ وتَنتقم بشدّة تعذيبهم بما يُناسبهم .. " .. كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴿8﴾ " أيْ في كل وقتٍ يُقْذَف فيها مجموعة منهم تسألهم خزنتها أي حُرَّاسها من الملائكة المُكَلّفة من الله تعالي بأمرها وبعذابهم ، علي سبيل التأنيب والذمّ الشديد ليكون مزيدا من الحسرة والندم والعذاب النفسيّ مع الجسديّ لأنهم يَعلمون ما يُسألون عنه ، هل لم يَحضر إليكم رسول نذير أيْ مُحَذّر يدعوكم لفِعْل الخير وتَرْك الشرِّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام حتي تسعدوا ولا تقعوا فيما أنتم فيه الآن من العذاب المُؤلم المُهين المُتعس ؟!
ومعني " قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴿9﴾ " أيْ قالوا مُجِيبين للملائكة مُعترفين مَذلولين نادِمين في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ أنْ قد حَضَرَ ووَصَلَ إلينا بالفِعْل بكل تأكيدٍ رسول كريم من عند الله مُنْذِر مُحَذّر مِمَّا نحن فيه ولكننا لم نُصَدِّقه بل وتَجاوَزنا ذلك بأن قلنا له على سبيل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة ما نَزَّلَ الله على أحدٍ من شيءٍ من الأشياء التى تَذْكرها لنا وتَدْعونا لاتِّباعها بل وزِدْنا الأمر سوءاً بأن قلنا لهم ما أنتم أيها الرسل الذين يَدَّعُون أنهم يُوحَيَ إليهم من الله تشريعات وأخلاقيات إلا في ضياع وانحرافٍ وابتعادٍ كبيرٍ عن الحقّ والعدل والخير !! .. هذا ، وقد يعني أيضا قوله تعالي " .. إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴿9﴾ " أن يكون من كلام الملائكة لهم رَدَّاً علي إجابتهم كمزيدٍ من الذمّ الشديد لهم ، أيْ تقول لهم ما أنتم يا أهل النار إلا في ضياعٍ كبيرٍ الآن وفي دنياكم بسبب ما فعلتموه من تكذيبٍ لرسلكم الكرام وعنادٍ واستكبار واستهزاءٍ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار
ومعني " وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿10﴾ " أيْ هذا بيانٌ لجانبٍ آخر من جَوَانِب شدّة حَسْرتهم ونَدَمهم وذَمّهم لأنفسهم وعذابهم النفسيّ مع الجسديّ حيث يَعترفون أيضا بأنهم لو كانوا يسمعون في دنياهم لِمَا كانوا يُدْعَوْنَ إليه من الخير سَمَاعَ مَن يَطلب الوصول للحقّ ويَتَعقّلون ويَتفكّرون ويَتدبّرون ويَتعمّقون فيه لكانوا آمنوا وسعدوا في الداريْن وما كانوا الآن في عِداد أهل النار المُعَذّبين فيها
ومعني " فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿11﴾ " أيْ فأقَرّوا بذنوبهم إذَن هم بأنفسهم والتي يَستحِقّون بها تماما عذاب السعير أي النار الشديدة الاشتعال ، وبما أنهم قد اعترفوا بما فعلوه من سوءٍ فبالتالي فأصحاب السعير هؤلاء استَحَقّوا أنْ أسْحَقَهم الله سُحْقَاً أيْ أبْعَدَهم بُعْدَاً شديداً مُهْلِكَاً عن رَحَماته وإكراماته وإسعاداته
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿12﴾ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿13﴾ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أي خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعمل علي خشية الناس ، فإياك أن تفعل شرّاً ما لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تترك خيراً ما لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك ، وإنما عليك التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنت مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة وبما يناسبهم ويناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿12﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ الذين في دنياهم يَخافون ربهم أي مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خير وسعادة في دنياهم وأخراهم ، بالغَيْب أيْ في سِرِّهم حيث لا يراهم أحدٌ إلا هو تعالي – فإن الخَشْيَة في تلك الحالة تدلّ على صِدْق الطاعة لله بحيث لا يرجو مدح أحدٍ ولا يَخاف عقاب أحد – وهم كذلك يخافون مقامه سبحانه دون أن يروه بل هم يُصَدِّقون بوجوده وهو غائب عنهم وبكل ما جاءهم منه من تشريعات من خلال كتبه ورسله .. والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله .. ولذلك فمِثْل هؤلاء يحيون حياتهم مُتَوَازِنين بين الخوف من الله والرجاء التامّ في رحمته (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ويَفعلون كلَّ خيرٍ ويَتركون كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ويُخْلِصون ويُحْسِنون في كلّ أقوالهم وأفعالهم (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان﴾ ، وبذلك فهُم في تمام السعادة في دنياهم ثم لهم في أخراهم حتما ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. إنَّ كل ذلك يُؤَدِّي بهم حتما ويُؤَهِّلهم ويكون سبباً إلي نَيْل مغفرته ورحمته فيعيشون في رحابها سعداء في الدنيا حيث سيكون لهم " .. مَّغْفِرَةٌ .. " أيْ عَفْوٌ عن ذنوبهم من ربهم فلا يُعاقِبهم عليها لكل مَن تاب منهم توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم فهم رحيم أي كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. " .. وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿12﴾ " أيْ وأيضا سيكون لهم أجر وعطاء عظيم ، في دنياهم أولا حيث كل الخير والسعادة ثم في أخراهم حيث ما هو أعظم خيرا وسعادة وأتمّ وأخلد فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. وفي هذا تشجيعٌ للجميع ليكونوا من الذين يَخْشَوْنَ ربهم بالغيب لنَيْل كل هذا الخير الكبير العظيم
ومعني " وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿13﴾ " أيْ وسواء أسْرَرْتم أقوالكم وأفعالكم أيها الناس أو أظهرتموها فالله تعالي حتما يعلمها في الحالتين بالتَّسَاوِي ، لأنه عليم بما بداخل العقول مِمَّا لم يُقَلْ أو يُفْعَلْ أصلا فكيف إذا قُلْتُمُوه أو فَعَلْتُمُوه ؟! فهو مِن تمام قُدْرته وعلمه يعلم كل شيءٍ ظاهِرٍ أو خَفِيٍّ عن كل مخلوقاته في كل كوْنه في أيِّ زمانٍ ومكانٍ وأيضا وحتما يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ما تُخفونه بداخل عقولكم مِن خيرٍ أو شرٍّ وما تَنْوُون فِعْله منهما ، وما تُظهرون من أقوالٍ وأعمال خيرية أو شَرِّيَّة سواء بمفردكم أم مع غيركم ، فلا يَخْفَيَ عليه قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقه ، وسيُحاسبكم علي كلّ هذا في الداريْن بالخير خيرا وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، فانتبهوا لذلك إذَن وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. هذا ، واستخدام لفظ " عليم " – والذي يُفيد المُبَالَغَة أيْ يعني كثير العلم التامّ الشامل – عند الحديث عمّا بداخل العقول هو ليكون الناس شديدي الحَذَر بأنْ يفعلوا كل خيرٍ ويتركوا كل شرٍّ لأنَّ حسابهم يوم القيامة سيكون بتمام العلم والدِّقّة والعدل حيث خالِقهم يعلم عنهم كلّ شيءٍ بكلّ تفاصيله
ومعني " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿14﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي شُمُول علمه تعالي لكل شيءٍ في كوْنه .. أيْ ألَيْسَ يعلم سبحانه شأنَ وسِرَّ خَلْقه الذين خَلَقهم ؟! علي اعتبار أنَّ لفظ " مَن " يعود علي المخلوق .. أو ألاَ يعلم السِّرَّ والعَلَن الله الذي خَلَقَ كل شيء ؟! علي اعتبار أنَّ لفظ " مَن " يعني الله تعالي .. أيْ لابُدَّ أنه حتما يعلم عن خَلْقه كل شيءٍ فكيف لا يعلم وهو المُتَّصِف بأنه " .. اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿14﴾ " أيْ وهو وحده لا غيره الذي يَدخل بخِفّة إلي دقائق الأمور ويَعْرفها بعلمه التامّ سبحانه ، وهو أيضا الخبير أيْ العليم بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول .. هذا ، ومن معاني " اللطيف " أيضا أنه يُوصِل خيراته وأفضاله وإحساناته التي يشاؤها لأهل الخير – بل ولكلّ خَلْقه – بكلّ لُطفٍ أيْ مِن حيث لا يشعرون دون ثِقَلٍ عليهم وبأسباب مُيَسَّرة كثيرة قد يُدْرِكُون بعضها أو لا يُدركون وقد يكون بعضها ظاهِره شرّ لكنّ باطنه خير كثير فهو يجعل من المِحْنَة مِنْحَة ومن الصعب سَهْلَاً ، وهو عزّ وجلّ اللطيف تمام اللطف أي الرقيق الرفيق تمام الرِّقّة والرفق
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴿15﴾ أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴿16﴾ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴿17﴾ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿18﴾ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴿19﴾ أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ﴿20﴾ أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴿21﴾ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿22﴾ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿23﴾ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴿15﴾ " أي الله تعالي الخالق الرحيم الكريم الوهَّاب الرزّاق وحده بلا أيّ شريكٍ ومِن تمام قدْرته وكمال علمه هو الذي ذَلّل وسَخَّر ويَسَّرَ لكم الأرض لكي تنتفعوا وتسعدوا بكل ما فيها من خيراتٍ وأرزاقٍ لا تُحْصَيَ حيث تستقرّون عليها وتمشون وتنتقلون وتَبْنُون وتزرعون وتصنعون وتُتاجرون فيها وتستخرجون كنوزها وتنتفعون بمائها وهوائها وطاقاتها ودوابّها ونحو ذلك مِمَّا يصعب حصره وكان من الممكن أن يكون كل ذلك صعبا شاقا عليكم مُتْعِبَاً مُتْعِسَاً لكم .. فهو سبحانه يُذَكِّر الناس بنعمٍ اعتادوا عليها حتي لا ينسوها ويشكروه ويعبدوه أي يطيعوه وحده ويُحسنوا استخدامها ليزيدها لهم فتزداد سعاداتهم في الداريْن .. " .. فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ .. " أيْ وما دام الأمر كذلك فامشوا بالتالي إذَن فى كل جوانبها وأنحائها وأطرافها سَاعِين بكل هِمَّةٍ لتحصيل رزقه الذي خَلَقه لكم من فضله وكرمه ورحمته والذي لا يُحْصَيَ وكلما أحسنتم اتِّخاذ الأسباب المُتَاحَة المُبَاحَة لذلك مُتوكّلين عليه سبحانه كلما يَسَّرَ لكم وأعانكم علي زيادة أرزاقكم لكنْ إنْ تَكَاسَلْتم فلن يساعدكم فتَقِلّ وتَضْعُف حتما حيث لا رزق بدون مَشْيٍ وسَعْيٍ له ولأسبابِ تحصيله .. " .. وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴿15﴾ " أيْ وإليه وحده لا إلي غيره البَعْث والنَّشْر – من الانتشار – يوم القيامة حيث يُحْيِيكم مرة أخري من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم بعد قضائكم فترة حياتكم علي هذه الأرض حيث يُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفو ، فانتبهوا إذَن لذلك جيدا وأحسِنوا الاستعداد بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
أمَّا معني " أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴿16﴾ " ، " أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴿17﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ من الله تعالي للناس لكي يعبدوه أيْ يُطيعوه وحده ليَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا في دنياهم وأخراهم ، وهو تهديدٌ شديدٌ للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين وتحذيرٌ لهم من نسيان عذابه لعلهم يستفيقون ويعودون له ولإسلامهم ليسعدوا هم أيضا في الداريْن وإلا تعسوا تماما فيهما لو استمرّوا مُصِرِّين علي ما هم فيه .. أيْ هل اطْمَأْنَنْتُم إلي أنَّ مَنْ في السماء وهو الله تعالي وتَعَاظَم في عُلُوِّه الموجود في كل مكان في كوْنه بكمال علمه وقُدْرته وسلطانه ونفوذه القويّ العزيز مالِك المُلك القادر علي كل شيءٍ لا يَخْسِف بكم الأرض بعد أن كانت ذَلولا مُسَخَّرة لكم أيْ لا يَشقّها لتَبتلعكم بممتلكاتكم فإذا هي تَمُور أيْ فتُفَاجِئكم وقت الخَسْف أنها تضطرب وتتزلزل وتَتَمَوَّج بكم اضطرابا وزلزالا وتَمَوُّجا شديدا فتَغيبون وتَضيعون فيها مُعَذّبين هالِكِين ؟! .. " أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴿17﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التذكير للناس ، ومزيدٌ من التهديد للمُكَذّبين بنوعٍ آخر من العذاب .. أي هل اطْمَأْنَنْتُم إلي ما سَبَقَ ذِكْرُه أم إلي أنَّ مَنْ في السماء وهو الله تعالي لا يَبْعَث عليكم حاصبا أيْ ريحا شديدا تحمل الحَصْباء أيْ الحَصَيَ الصغير تقذفكم وتهلككم ؟! فستعلمون حينها حتما عند مُعَايَنَتكم لهذا العذاب الدنيويّ – قبل الأخرويّ الأشدّ الذي لا يُقَارَن – كيف كان إنذارى لكم صادقا ومُتَحَقّقا وواقعا وكيف سوء نتيجة مَن كَذّبَ واستهانَ به ولن ينفعكم قطعا العلم هذا وقتها بأيِّ شيءٍ حيث لن يُنجيكم منه .. هذا ، والإجابة الحَتْمِيَّة علي هذين السؤالين أنَّ أحداً لا يَأْمَن ذلك بكل تأكيد ، فلماذا إذَن يُصِرّ المُكذّبون علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم ؟! .. لأنهم قطعا قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿18﴾ " أيْ وكما كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ أمثال هؤلاء الحالِيِّين فقد كذّبَ كثيرون قبلهم منذ أبيهم آدم ، فانظروا وتَدَبَّروا أيها العقلاء كيف كان إنكاري الشديد العجيب عليهم أي رفضي وغضبي لهذا المُنكر الذي فعلوه بأن عاقبتهم وعذبتهم وأهلكتهم بسببه بصور العذاب المختلفة كالزلازل والصواعق والفيضانات وغيرها ، ولم تنفعهم حينها أيٌّ مِن قوّتهم التي كانوا يمتلكونها (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ مِن الحياة﴾ ، فإذا كان هذا قد حَدَثَ لهؤلاء الأقوياء فما بالُكُم بمَن هم أضعف منهم الآن !! إنهم حتماً لن يَتحمّلوا عذابنا الدنيويّ والأخرويّ وسيهلكون بسببه تماما !! فليَحذروا ذلك إذَن وليَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا قبل فوات الأَوَان .. وفي هذه الآية الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشير للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
أما معني " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴿19﴾ " أي هذه دلالة من الدلالات التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه .. أيْ هل لم يَرَوا ويَتدبَّروا – أيْ هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن – في الطيور التي تطير فوقهم في الجَوِّ وهي صافّات أيْ باسِطات أجنحتها أحيانا في الهواء فيظهر حينها ريش الجناح مَصْفُوفا ثم وهي قابِضات لها أيْ تَضُمّها نحو جسدها أحيانا أخري حتي يمكنها الطيران ؟! .. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للمُكَذّبين ومَن يُشبههم ، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن .. " .. مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ .. " أيْ ما يحفظها في الجَوِّ في حالتيّ البَسْط والقَبْض أثناء الطيران ويمنعها من السقوط ويحفظها في كل حالٍ بل وما يحفظ الكوْن كله والخَلْق كلهم إلا الرحمن سبحانه بقُدْرته ورحمته التي وَسِعَت كل شيءٍ مِن بَشَرٍ وطيرٍ وغيره والذى أحْسَنَ كل شيءٍ خَلَقه وسَخَّرَ له وخَلَقَ فيه من رحماته كل ما يُعينه علي الانتفاع بحياته والسعادة فيها من إمكاناتٍ مُعْجِزَات .. " .. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴿19﴾ " أيْ إنه سبحانه بكل تأكيدٍ وبلا أيِّ شَكٍّ بصير علي الدوام بكل شيءٍ أيْ يراه ويعلمه بتمام الرؤية والعلم ومُدَبِّر لأمره على أكمل وأسعد وَجْه
أمَّا معني " أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ﴿20﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ من الله تعالي للناس لكي يعبدوه أيْ يُطيعوه وحده ليَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا في دنياهم وأخراهم ، وهو تهديدٌ شديدٌ للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين وتحذيرٌ لهم من نسيان عذابه لعلهم يستفيقون ويعودون له ولإسلامهم ليسعدوا هم أيضا في الداريْن وإلا تعسوا تماما فيهما لو استمرّوا مُصِرِّين علي ما هم فيه .. أيْ أَخْبِرُونى مَن هذا الضعيف الحَقِير الذي تَدَّعُون وَاهِمِين أنه هو قوة وحِزْب وجنود لكم يمكنه أن ينصركم في كل شئون حياتكم غير الرحمن سبحانه بما يُيَسِّره لكم مِن أسبابٍ ومعونات ؟! ومَن هو هذا الذي تَتَوَهَّمون يا مَن تُكَذّبون وتُعاندون وتَستكبرون وتَستهزؤن أنه يَنقذكم ويَمنعكم من عذابه تعالي إنْ أراده بكم في دنياكم وأخراكم ؟! والإجابة الحَتْمِيَّة أنه لا أحد قطعا !! .. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للمُكَذّبين ومَن يُشبههم ، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن .. " .. إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ﴿20﴾ " أيْ ليس الكافرون – وهم الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، ومَن يَتَشَبَّهَ بهم – إلاّ في خِداعٍ عظيمٍ بكل هذا الذي يَتَوَهَّمونه أنه لا إله ولا دين ولا آخرة ولا حساب ، سواء من خلال تفكيرهم الشرِّيّ أم مِمَّن حولهم الذين يأخذونهم للشرّ فيستجيبون لهم بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم أم نحو هذا ، وذلك لأنهم لا يُحسنون استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، لكنَّ المؤمنين المُحسنين لاستخدامها حتما لا يَتشبَّهون بهم أبداً ولا يَنخدعون بذلك مُطلقا
ومعني " أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴿21﴾ " أيْ هذا مزيدٌ مِن التذكير مِن الله تعالي للناس لكي يعبدوه أيْ يُطيعوه وحده ليَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا في دنياهم وأخراهم ، ومزيدٌ مِن التهديد الشديد للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين والتحذير لهم مِن نسيان عذابه لعلهم يستفيقون ويعودون له ولإسلامهم ليسعدوا هم أيضا في الداريْن وإلاّ تَعِسوا تماما فيهما لو استمرّوا مُصِرِّين علي ما هم فيه .. أيْ أَخْبِروني مَن هذا الضعيف الحَقِير الذي تَدَّعُون واهِمِين أنه هو الذي يَرزقكم إنْ مَنَعَ الله تعالي رزقه عنكم ؟! لعلهم بهذا التعجيز مع التأنيب يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ويعقلون مَن الذي يُسَبِّب لهم أسباب كل أنواع الأرزاق سواء أكانت هذه الأسباب مِن السماوات كالمطر والهواء والشمس والطاقة ونحو هذا ممّا يُعْلَم أو لا يُعْلَم أم كانت من الأرض مثل الأنهار والبحار والنباتات والثمار والحيوانات والطيور والأسماك والمعادن والخامات وغيرها ومثل العقل والصحة والقوة ونحوها ممّا يَنفعهم ويُسعدهم ؟!! .. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للمُكَذّبين ومَن يُشبههم ، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن .. والإجابة الحَتْمِيَّة أنه قطعا هو الله سبحانه وحده لا غيره ، ولن يَجرؤ أيّ أحدٍ أن يَدَّعِيَ أنه هو الذي يملك أسباب الرزق هذه وأصوله في السماوات أو الأرض ، فلماذا لا يؤمنون به إذَن ويعبدونه وحده بلا أيّ شريك ؟! .. " .. بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴿21﴾ " أيْ لكنهم رغم كلّ هذا لم يَتأثّروا ويَتَدَبَّروا ويَستجيبوا بل اسْتَمَرّوا وتَمَادوا مُعَانِدِين في عُتُوٍّ أيْ تَكَبُّرٍ وظلمٍ ومُخَالَفَةٍ للإسلام وعصيانٍ وتَرْكٍ له واستهانةٍ به وتَمَرُّدٍ عليه وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار ، واستمرّوا وتَمَادوا أيضا في حالةِ نفورٍ أي بُعْدٍ عن الحقّ والعدل والخير والسعادة وكراهيةٍ له واشْمِئْزَازٍ منه وعدمِ اتِّباعٍ له بل وزيادةِ قُرْبٍ وتَمَسُّكٍ بالباطل والضلال والضياع والظلم والشرّ والتعاسة !! أىْ أنهم استمرّوا في طريق الشَّرِّ إلي أقصي درجاته مُصِرِّين عليه تمام الإصرار ولم يَستمعوا ويَستجيبوا لأيِّ أحدٍ يَدعوهم لله وللإسلام
أما معني " أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿22﴾ " أيْ هذا مثالٌ يَذكره الله تعالي للناس ليُبَيِّنَ لهم حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم وهم المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يُشبههم وحال السعداء فيهما وهم المسلمون المتمسّكون بأخلاق إسلامهم ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ هل مَن يسير في طريق حياته الدنيا ، ثم في آخرته إلي جهنم ، مُكِبَّاً علي وجهه أيْ واقِعَاً ساقِطَاً عليه في الشرّ في كل وقتٍ لا يَدْري أين وكيف يذهب فهو تائه حائر ضائع مُعَذَّب تعيس بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه ، هل هذا يكون مُهْتَدِيَاً أيْ عارِفَاً بطريق الخير والسعادة واصِلَاً له مُنْتَفِعَاً سعيدا به أم مَن يمشي في دنياه وأخراه سَوِيَّاً أيْ مستقيما شديد الاستواء مُسْتَوِي القامَة شامِخَاً مُعْتَدِلَاً ناظِرا مُتَدَبِّرا مُتَعَقِّلَاً في كل ما حوله مُصِيبَاً في كل أقواله وأفعاله سالِمَاً من التَّخَبُّط والتَّعَثّر والتِّيِه والضياع والعذاب والتعاسة علي طريقٍ لا اعْوِجَاج فيه وهو الإسلام طريقِ تمامِ الاستقامة والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة بلا أيّ انحرافٍ عن ذلك ؟! .. إنَّ الإجابة الحَتْمِيَّة قطعا أنَّ الذي يمشي سَوِيَّاً علي صراط مستقيم في الداريْن هو أهدي وأسعد مِمَّن يمشي مُكِبَّاً علي وجهه ولا مُقَارَنَة بينهما مُطلقا
ومعني " قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿23﴾ " ، " قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾ " أي هذه دلالة من الدلالات التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه .. أيْ قل يا رسولنا الكريم ، وقولوا يا أيها المسلمون مِن بعده ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، أنه سبحانه وحده لا غيره هو الذي ابتدأ خَلْقكم وأوْجَدكم مِن عَدَمٍ وأعطاكم مُقَوِّمَاتٍ وإمكاناتٍ لتمام نفعكم وسعادتكم بحياتكم والتي منها وأهمها الآذان التي تسمعون بها والأبصار التي ترون بها والعقول التي تعقلون بها بما فيها من قُدْرة علي التفكير والإدراك والشعور فتُمَيِّزون بكل ذلك بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة فتتحقّق لكم السعادة الكاملة في دنياكم ثم أخراكم .. " .. قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿23﴾ " أيْ لكنْ رغم كل هذه النِّعَم الواضحة والتي لا يُمكن حَصْرها ، فإنكم تشكرون أيها البَشَر شكرا قليلا وفي أوقاتٍ قليلة ! بل بعضكم قد يكفر هذه النِّعَم أيْ لا يعترف بها بل وقد يَنْسِبها لغيره سبحانه ! بل والبعض قد يَكفر أيْ يُكَذّب بوجود الله أصلا !! فإيّاكم أن تكونوا كذلك ، بل كونوا دوْما شاكرين لنِعَمه تعالي ، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. " قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾ " أيْ اذْكُر أيضا وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، أنه سبحانه وحده لا غيره هو الذي خَلَقَكم ونَشَرَكم وكَثّرَكم في كل نَوَاحِي الأرض لتنتفعوا ولتسعدوا بكل خيراتها ، ثم بعد ذلك إليه وحده لا إلي غيره تُجْمَعون ليوم الحشر أيْ يوم القيامة حين يبعثكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم حيث يُثاب أهل الخير بكل خير وسعادة وأهل الشرّ بكل شرٍّ وتعاسة بما يستحِقّون بكل عدل ، فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد للقائه تعالي بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿25﴾ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿26﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿28﴾ قُلْ هُوَ الرَّحْمَٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿29﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ ﴿30﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! .. كذلك ستَسعد إذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿25﴾ " أي دائما يقول الذين يُكذبون بوجود الله وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، يقولون علي سبيل الاسْتِبْعَاد والتكذيب والاستهزاء والاسْتِعْلاء ، لا يُمكن أبداً بأيّ حالٍ من الأحوال أن يَحدث الوعْد الذي تَعِدُوننا به أيّها المسلمون بقيام الساعة ! أي تنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة حيث الحساب الختامِيّ لكلّ أقوال البَشَر وأفعالهم فيُجازون عليها بالخير كلّ خيرٍ وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة ، وإنما إذا متنا تأكل الأرض أجسامنا وينتهي الأمر عند ذلك ولا حياة أخري بعدما يحدث هذا !! مُتَجَاهِلِين تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادِر وأهْوَن عليه أن يُعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر ، وهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا ! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم عن تَدَبُّر أيّ مخلوقٍ من مخلوقات الله المعجزات والتي تُثبت كلها وجوده سبحانه ولم يُحسنوا استخدام هذه العقول ولم يَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿25﴾ " أي أخبرونا عنه إن كنتم صادقين يا مسلمين فيما تحدثوننا به وتدعوننا إليه من إسلام ، بل أنتم كاذبون !! .. كذلك من معاني الوعد في هذه الآية الكريمة نزول العذاب بهم ، أي يطلبون بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يُوعَدون به إن كان المسلمون صادقين فإن لم ينزل فهم إذَن كاذبون ! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامهم ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون منهم الهلاك لإثبات صِدْقِهم !! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا !! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم ! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك ؟! لقد كان من المُمْكِن حتي طَلَب عقوبةٍ خفيفةٍ كإثباتٍ علي صِدْقِ المسلمين بحيث لو تَحَقَّقَت يكون لهم فرصة للعودة فالعقل يقول ذلك !! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
ومعني " قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿26﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ، وقولوا يا أيها المسلمون مِن بعده ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، رُدُّوا علي أمثال هؤلاء بكل صبرٍ وحِكمة قائلين إنما العلم بوقت نزول العذاب بكم في الدنيا ووقت تحقيق نصرنا هو عند الله وحده لأنه تعالي العليم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ آخر كما أنه وحده الذي يعلم كل غيب فهو يعلم موعد الآخرة وقيام يوم القيامة وموعد موت كل مخلوق حيث هو موعد قيامته وليس لي علم بشيء من كل هذا ولا أملك الإتْيان به .. ".. وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿26﴾ " أيْ هذه فقط هي مهمّتي ومهمّة المسلمين مِن بَعْدي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة ، ومُنْذِرا أي مُحَذّرا الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم ، وليَتَحَمَّلوا إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم .. هذا ، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا حتما مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذّبين المُصِرِّين علي تكذيبهم
ومعني " فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ﴿27﴾ " أيْ فحينما رَأَوا وعَايَنوا واقِعِيَّاً العذاب الموعود ، رَأَوْه زلفة أيْ قريبا منهم واقِعَاً بهم ، ظَهَرَ السوء علي وجوه الذين كفروا أيْ كَذّبوا به وعلي وجوه كل مَن تَشَبَّهَ بهم مُتَمَثّلَاً في كل ذِلّةٍ وحسرةٍ وألمٍ وتعاسة ، وقيل لهم في الدنيا مِمَّن حولهم الذين نَصحوهم سابقا أو في خواطر عقولهم ، وفي الآخرة من الملائكة المُكَلّفة بعذابهم ، علي سبيل التأنيب والذمّ الشديد ليكون مزيدا من الحَسْرَة والندم والعذاب النفسيّ مع الجسديّ ، قيل لهم هذا هو العذاب الذى كنتم تَدَّعُون عدم وقوعه وتُكَذّبون به وتستعجلون وتطلبون حدوثه اسْتِبْعَادَاً له واستهتاراً به واستهزاءً بمَن يُحَذّركم منه قد وَقَعَ فِعْلِيَّاً
أما معني " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿28﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ، وقولوا يا أيها المسلمون مِن بعده ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، قولوا لأمثال هؤلاء بكل صبرٍ وحِكْمةٍ أخبرونى إنْ أماتَني الله والمسلمين جميعا – وإطلاق لفظ الهلاك علي الموت يناسب ما يَتمنّاه الكافرون مِن أنْ يهلك المسلمون تماما حتي يستريحوا منهم ومِن نُصحهم لهم ورَدّ اعتداءاتهم إذا اعتدوا فيَظلّوا علي ما هم فيه – أو رحمنا بفضله وإحسانه بأنْ رَزَقنا الحياة الطويلة الرحيمة المُريحة السعيدة التي فيها كل شيء يَسير مُريح سعيد والتي فيها النصر عليكم ومَن يُعينكم فأخبرونى فى تلك الحالة مَن يُمكنه أن يُجير الكافرين أمثالكم أيْ ينقذه ويحميه من عذابٍ من الله مؤلم مُوجع مُهين إذا أراد أن ينزله بكم في الدنيا والآخرة ؟! مِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ أحداً لن يستطيع أن يَمنع ذلك عنكم .. والمقصود أن انتبهوا لأنفسكم أنتم وانشغلوا بحالكم وأصلحوه ولا تنشغلوا بنا فسواء متْنا أم حَيينا فنحن دائما في الحالتين في رحمة الله وإسعاده أمَّا أنتم فدوْمَاً في عذابه وإتعاسه لكم حتي تؤمنوا ولن ينفعكم هلاكنا بأيِّ شيءٍ فاستفيقوا إذَن وعودوا إليه وأسلموا لتسعدوا مثلنا في الداريْن ولا تتعسوا فيهما ، فأنتم تَتمنّون لنا الهلاك وأنتم فى أمرٍ هو الهلاك ذاته الذى لا هلاك أشدّ منه ! .. إنهم بالفعل كما يثبت الواقع ذلك هم الذين يهلكون مع الوقت والإسلام والمسلمون باقون منتصرون أعزاء سعداء ليوم القيامة ! .. والاستفهام والسؤال في الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للمُكَذّبين ومَن يُشبههم ، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن
ومعني " قُلْ هُوَ الرَّحْمَٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿29﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ، وقولوا يا أيها المسلمون مِن بعده ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، قولوا لأمثال هؤلاء بكل صبرٍ وحِكْمةٍ أنَّ الإله الذي يَدعوكم ونَدعوكم لتعبدوه أيْ تُطيعوه وحده لا غيره هو الله الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه الرحمن أي الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء ، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يرشدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم .. " .. آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا .. " أيْ قد صَدَّقنا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره فعملنا بكل أخلاق إسلامنا وعليه وحده اعتمدنا فسعدنا في دنيانا وأخرانا ، بينما أنتم لم تؤمنوا بكل هذا ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار واعتمدتم علي غيره من مخلوقاته والتي لا تستطيع نَفْع نفسها ومَنْع ضررها فكيف تَنفعكم وتَضرّكم فتعستم فيهما .. " .. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿29﴾ " أيْ فبالتالي حين ينزل العذاب عليكم قريبا في الدنيا ثم في الآخرة فستَعلمون حينها وتُدْرِكون وتَتَأكّدون بتمام العلم والإدراك والتأكّد مَن مِنَّا هو في ضياعٍ واضحٍ وشرٍّ وتعاسة في دنياه وأخراه وهو أنتم قطعا ومَن هو الذي علي الحقّ والخير والسعادة فيهما وهو نحن حتما .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب والتعاسة فيهما
ومعني " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ ﴿30﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ، وقولوا يا أيها المسلمون مِن بعده ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، قولوا لأمثال هؤلاء بكل صبرٍ وحِكْمةٍ أخْبِرُونى إنْ صَارَ الماء الذي تَشربونه ويَشربه كلّ حيٍّ وكلّ زَرْع وبدونه لا حياة لكم غَوْرَاً أيْ غائراً في الأرض ذاهِبَاً عميقا لا يمكن الوصول إليه والحصول عليه بأيِّ وسيلة من الوسائل فمَن حينها غير الله تعالي الذي يُمكنه أن يَجيئكم بماءٍ مَعِين أيْ ظاهر للعين جارٍ علي سطح الأرض كثيرٍ يمكنكم تحصيله بسهولة ؟! .. هل أنتم الذين أنزلتموه من السحاب بعد تكوينه فيه ليصبح ماء نافعا ؟! لا بالقطع ، ولن يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يقول ذلك ! ولكنَّ الله تعالي بكمال قُدْرته وتمام عِلْمه هو الذي خَلَقه وصَنَعه وأنزله ، ولا شكّ أنكم تتأكّدون من ذلك بعقولكم بالفطرة التي بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وما دام الأمر كما تَعرفون ، فلماذا إذَن لا تُصَدِّقون بوجوده ولماذا عَبَدَ بعضكم غيره تعالى آلهة أخرى كصنمٍ أو حجر أو نجم أو غيره ؟! ولماذا لا تُصَدِّقون بالبَعْث إذَن ؟! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك !! .. والاستفهام للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك ، حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأنه تعالى وحده هو الذي يَخْلق الماء ويُنزله ، كما أنه للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء للمُكَذّبين ومَن يُشبههم ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن .. ألَاَ تشكرون ذلك وكل نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والتي سَخَّرَها كلها لمنفعتكم ولسعادتكم ؟! ألَاَ تَتَدَبَّرونه وتُصَدِّقون بعد كلّ هذا الإعجاز بوجود الله ؟! ألَاَ تُصدقون بالبعث وبالحساب والعقاب والجنة والنار ؟!
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴿1﴾ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴿2﴾ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴿3﴾ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿4﴾ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴿5﴾ بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ ﴿6﴾ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿7﴾ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ﴿8﴾ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴿9﴾ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ ﴿10﴾ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴿11﴾ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴿13﴾ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴿14﴾ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴿15﴾ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأن فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " ن .. " أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه .. " .. وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴿1﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّ الرسول ﷺ ليس أبداً بمجنونٍ كما يَدَّعِي كذبا وزورا بعض السفهاء المُكَذّبين .. وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ كلّ قَلَم وكلّ ما يُكْتَب .. إنه يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض مُعجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، فهو سبحانه يُقْسِمُ بالقَلَم الذي يُكْتَب به وبما يَكْتُبون أيْ بني آدم مِن خيرٍ نافعٍ من علوم بكل أنواعها وحِكَمٍ ومصالح بكل أشكالها وما شابه هذا ، مُنَبِّهَاً بذلك لأهمية وكثرة منافع الكتابة والعلم والاهتمام بهما لأثرهما المُسْعِد في حياة الناس ومُذَكِّرَاً بشكره تعالي علي عظيم نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ومنها تعليم الكتابة والتفاهُم والتي سَهَّلها وسَخَّرَها لهم مع عقولهم وألسنتهم وأيديهم وأصابعهم ليَنتفعوا وليَسعدوا بها .. " مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴿2﴾ " أي هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ لستَ أبداً يا رسولنا الكريم ، وكذلك أنتم أيها المسلمون مِن بعده ، لستم بحمد الله ، ولستم بسبب نعمة القرآن والإسلام التي أعطاكم ربكم إيّاها وأرشدكم لاتِّباعها ، ولستم بسبب إنعام الله عليكم بالعقل وحُسن استخدامكم له وتمسّككم وعملكم بأخلاق إسلامكم ، لستم أبداً كما يَدَّعي المُكَذّبون كذبا وزُورا ، من المجانين لا عقل لكم وتقولون كلاما لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل ، بل أنتم بما معكم من قرآنٍ وإسلامٍ علي تمام الحقّ والصدق والصواب والخير والسعادة وهم يعلمون تماما ذلك داخل عقولهم .. هل لاحَظوا يوما علي الرسول الكريم ﷺ – وعليكم – والذي كان مِن بينهم ومُصَاحِب مُلازِم لهم ويَعلمون تماما حُسن خُلُقه منذ صغره وكانوا دائما يُسَمّونه هم بأنفسهم الصادق الأمين أيّ علامات جنون ؟! هل كلامه أو تصرّفاته فيها تخريف أو عدم إدراك أو ما شابه هذا كالمجنون ؟! وهل المجنون من المُمكن أن ينطق بمثل هذا القرآن العظيم ؟! إنه علي العكس تماما هو – وأنتم إذا تَشَبَّهتم تماما به – مثال تمام الخُلُق الحَسَن المُسْعِد في كل قوله وعمله ، والجميع يعلم ذلك !! .. ولكنَّ السبب في أقوالهم وأفعالهم هذه هو أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له لينالوا أجرهم العظيم وليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. " .. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴿3﴾ " أيْ وهذا أيضا مُقْسَم عليه لمزيدٍ من التأكيد والطمْأَنَة والتبشير للرسول ﷺ وللمسلمين جميعا المُتَشَبِّهين به ، وهو أنَّ له ولهم عطاءً عظيماً غير مقطوعٍ أبداً بل هو دائم مستمرّ في دنياهم وأخراهم حيث تمام الخير والأمن والسعادة بسبب فِعْلهم لكل خيرٍ وتَرْكهم لكل شَرٍّ من خلال تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ونَشرهم له بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حَسَنة وصبرهم علي أذيَ مَن يُؤذيهم ودفاعهم عنه ضدّ مَن يعتدي عليه .. " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿4﴾ " أيْ وهذا أيضا مُقْسَمٌ عليه لمزيدٍ من التأكيد والطمْأَنَة والتبشير والمَدْح العظيم الجميل الطيِّب للرسول ﷺ ، وللمسلمين جميعا المُتَشَبِّهين به ، لتشجيعهم علي الاستمرار علي حُسْن خُلُقهم .. أيْ ونُقْسِم أيضا إنك يا رسولنا الكريم بكل تأكيدٍ وبلا أيِّ شكٍّ على أدبٍ رفيعِ القَدْر سامِي المَقام في كل أقوالك وأفعالك وهو أدب القرآن الكريم وعلي دينٍ عظيمٍ فيه كل الأخلاق الحَسَنَة وهو دين الإسلام .. وهذا مزيدٌ من الردِّ علي السفهاء المُكَذّبين فهو ليس كما يَدَّعُون كذبا وزورا مجنونا قطعا وإنما هو صاحب خُلُقٍ عظيم ، وكذلك كلّ مَن تَشَبَّه به مِن المسلمين
أمَّا معني " فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴿5﴾ " ، " بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ ﴿6﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التَّسْلِيَة والطمْأَنَة والتَّبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له لينالوا أجرهم العظيم وليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. أيْ ما دام الأمر كما ذَكَرْنا لكم وطَمْأَنَّاكم يا رسولنا الكريم من أنك والمسلمين بعيدون تماما عَمَّا يَتَّهِمُكم به هؤلاء السفهاء المُكَذّبون بالجنون وأنَّ لكم عندنا الأجر الكبير وأنكم علي الخُلُق العظيم فبالتالي إذَن وبكل تأكيدٍ وبلا أيِّ شكٍّ ستُبْصِر أيْ سَتَرَىَ وسَتعلم ويُبْصِرون أيْ وسَيَرَىَ وسيَعلم هؤلاء المُكَذّبون قريبا في الدنيا – ثم في الآخرة – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ ﴿6﴾ " أيْ ستَرون أيها المسلمون الصالحون وأنتم أيها المُكَذّبون فى أىِّ فريقٍ منكم ستكون الإِصابة بالفتنة أيْ بالشَّرِّ وبالفساد الذي يؤدي إلي اختلال العقل واضطراب الحال والسوء والضياع والعذاب والهزيمة ؟! إنكم أيها المُكَذّبون حتما الذين ستُصَابون بالفتنة بسبب فِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار فمَن يزرع سوءاً لا يحصد حتما إلا السوء – والذي قد ينتهي ببعضكم إلي الجنون مثلما كنتم تَدَّعُون علي الرسول الكريم ﷺ والمسلمين – فإنكم حتما مُنهزمون في الداريْن وأنتم أيها المسلمون قطعا مُنتصرون في كل شئون حياتكم ثم في آخرتكم .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحُدوث العذاب
ومعني " إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿7﴾ " أيْ مَن يَبتعِد ويُعانِد ويُكابِر ويفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فليتحمَّل إذَن نتيجة سوء عمله ، لا يتحمله عنه الرسل الكرام ، ولا المسلمين الدعاة مَن بعدهم ، ما داموا قد أحسنوا دعوته بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنة ، فليطمئنوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعويهم حينما يُعرضون هم عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم ، ولا يلتفتوا لهم ولا يتأثّروا بتصرّفاتهم وليستمرّوا في تمسّكهم بإسلامهم وفي دعوتهم غيرهم لله وللإسلام ، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم ، فهو تعالي يعلم مَن سيشاء الهداية فيَشاءها له أيْ يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه ويُسَدِّده لها ويُعينه عليها ، ويعلم مَن لن يشاءها فلا يشاؤها له أيْ لا يُيَسِّر له أسبابها ولا يوفقه لها ما دام لم يُحسن هو استخدام عقله ويَتقدّم نحوها ولو بخطوةٍ حتي يعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا بقوله " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، ثم هو سبحانه الأعلم بأهل الهُدَيَ والخير وأهل الضلالة والشرّ وسيُجازي كلاّ بعمله ، بكل خير وسعادة أو كل شرّ وتعاسة ، في دنياهم قبل أخراهم ، بما يناسب قَدْر خيرهم أو شرّهم .. وفي هذا طَمْأَنَة للمسلمين وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم وتحفيز للاستمرار علي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم والصبر علي أذَيَ مَن يَدعونهم ، وتحذير شديد لمَن ضَلَّ عن سبيل الله أيْ طريقه وطريق الإسلام لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
أمّا معني " فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ﴿8﴾ " أيْ كما أنعمنا عليكم أيها المسلمون بأعظم نعمةٍ وهي الإسلام الذي يُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، وإذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم أنَّ ربكم لا يَخْفَىَ عليه أيَّ شيءٍ من أحوالكم وأحوال المُكَذّبين ، فبالتالي فاحذروا إذَن تمام الحذر أن يترك المسلم أيَّ خُلُقٍ من أخلاق إسلامه ويُطيع أيَّ مُكَذّبٍ بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره بأنْ يَتَّبِع تكذيبه أو أيَّ شَرٍّ من شروره ومَفاسده وأضراره ، بل يثبت علي أخلاق الإسلام كلها ، وإلا تَعِس في دنياه علي قَدْر ما تَرَكَ من أيِّ خيرٍ واستبدله بفِعْل أيّ شَرّ
ومعني " وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴿9﴾ " أيْ فاحْذَر تمام الحَذَر أيها المسلم أن تُطيع هؤلاء المُكَذّبين فى أيِّ شيءٍ من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، فإنهم أحَبُّوا ويَتَمَنّون دوْمَاً أن تَلِينَ لهم وتَتَسَاهَل بعض الشيء فيما يفعلونه فتَسْكُت عن نُصْحهم فيه ومَنْعهم عنه ما أمكن بكل حكمةٍ وموعظة حَسَنة أو حتي تفعل بعضه مثلهم فيَلِينُونَ لك في المُقابِل بالسكوت عن بعض ما يُؤْذونك به والتَّرْك له .. ولفظ " يُدْهِنُون " هو مِن المُدَاهَنَة أو الإدْهَان وهي دَهْن الجِلْد بدهانٍ مَا لتَلْيِينه ولإخفاء شيءٍ ما .. والمقصود أن ابتعدوا تماما أيها المسلمون عن المُداهَنَة وهي هنا تعني التَّهَاوُن والتَّرَاخِي في اتِّباع هذا القرآن العظيم وتَمَسَّكوا واعملوا بقوةٍ واهتمامٍ بكل أخلاقه لتتحقّق لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، وامتنعوا أيضا تماما عن إلاَنَة القول للمُكَذّبين وتَرْك العمل ببعض أخلاق الإسلام مُسَايَرَةً لهم ومُنَاصَرَةً ومُسَاعَدَةً علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ولتحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. أمَّا المُدَارَاة وهي بعض الكلام اللّيِّن غير المُضِرّ والتَّنازُل عن بعض الحقوق لهم أحيانا دون ضَرَرٍ ليُدَارِي ويُخْفِي مَن يَفعل ذلك في مُقابِلِه حفظ شيءٍ من الإسلام وتحقيق حُسْن دعوتهم له ، فهي مطلوبة ولها ثوابها العظيم
ومعني " وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ ﴿10﴾ " ، " هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴿11﴾ " ، " مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ " ، " عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴿13﴾ " أي هذا مزيدٌ من التأكيد علي عدم طاعة كلّ مَن يخالف الإسلام في الخُلُق الذي يُخَالِفه فيه .. أيْ اثْبت تماما علي ما أنت عليه مِن كلّ أخلاق إسلامك ولا تُطِع وتَتَّبِع أبداً كلّ إنسانٍ كثير الحَلِف بالكذب حقير خَسِيس ذليل وَضِيع مُهَان في كل أحواله بسبب كثرة شروره ومَفاسده وأضراره وأكاذيبه ، وإلاّ تَعِسْتَ مثل تعاساته في دنياك وأخراك .. " هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴿11﴾ " أيْ وكذلك لا تُطِعْ وتًتَّبِعْ أبداً كلّ هَمَّازٍ أيْ عَيَّاب يَعيب كثيرا الآخرين بصفاتٍ سَيِّئة للتقليل من شأنهم أو احتقارهم أو السخرية منهم أو نحو هذا ، ويَغتابهم بلسانه – أو حتي بإشاراته وحركاته – أيْ يتحدث عنهم بسوءٍ وهم غائبين ، ويَطْعَن في أشخاصهم بما يُسِيء ، من الهَمْز وهو الطعْن فى الشيء .. " .. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴿11﴾ " أيْ ولا تُطِع كل مَن يمشي كثيرا بالنميمة بين الآخرين والنميمة هي السَّعْي لنقل الحديث فيما بينهم بهدف الإفساد والوَقِيعة .. " مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ " أيْ ولا تُطِع كثير المَنْع لكلّ ما فيه خير بكل صوره ، سواء أكان مالاً يُنْفَق في خير ، أم عملاً صالحا ، أم حتي قولاً أو فكراً أو وقتاً خيريا ! ولا تُطِع كلّ مُعْتَدٍ أىْ كثير العدوان على الناس في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم بكل أنواع الاعتداء ، أثيم أيْ كثير فِعْل الآثام أيْ الذنوب أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار بكل أشكالها .. " عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴿13﴾ " أيْ ولا تُطِع أيضا كلّ عُتُلٍّ أيْ شديدٍ في كلّ شَرٍّ سريعٍ إليه فاحشٍ لا أَدَب له غليظٍ فظّ شَرَسٍ قاسٍ بلا مَشَاعِر وأحاسيس لا يستجيب للحقّ والخير .. " .. بَعْدَ ذَلِكَ .. " أيْ بعد ذلك كله الذي ذُكِرَ فيه سابقا من الصفات السيئة وإضافة إليه .. " .. زنيم .. " أيْ له زَنَمَة أيْ عَلامَة تدلّ علي أنه شِرِّير أيْ معروف بشَرِّه
أمَّا معني " أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴿14﴾ " ، " إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴿15﴾ " أيْ ولا تُطِع أبداً حتماً الذي لأنّه كان صاحب مالٍ كثير وبنين يَتَقَوَّيَ بغِنَاه هذا فيُكَذّب بآياتنا – سواء أكانت آياتٍ في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة المُبْهِرَة حوله أم آياته في كتبٍ تُتْلَيَ عليه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسله لتأكيد صِدْقهم – إذا تُتْلَيَ أيْ تُقْرَأ عليه وتُذْكَر أمامه ويسمعها ويَرُدّ رَدَّاً فيه تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وتَبَجُّح وعدم اتِّباع قائلا هذا كله أساطير السابقين أيْ قصصهم الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها !!
ومعني " سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ﴿16﴾ " أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طَمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة .. أيْ سنُعاقِبه في مُقابِل كل شروره هذه ومَفاسده وأضراره بأننا سَنُبَيِّن شَرَّه وفساده في الدنيا ونُوَضِّحه توضيحا يجعل الناس يعرفونه معرفة تامّة بلا أيِّ خَفاءٍ أو شكٍّ مِثْلَمَا لا يُمكن إخفاء الوَسْم أيْ العَلاَمَة التي لا يُمْحَيَ أثرها التي علي الخُرْطوم أيْ الأنف في الوجه والمقصود أننا سنُلْحِق به دَوْمَاً عاراً لا يُفارِقه يَظْهَر عليه دائما في صورةِ ذِلّةٍ وحَقَارَة وإهانة وتعاسة في أغلي شيءٍ مُكَرَّم عنده وهو الوجه ، ثم في الآخرة سنُعَلِّمه بعَلاَمَة يُشَوَّه بها لمزيدٍ من إذلاله وإهانته وتعذيبه وإتعاسه
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴿17﴾ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴿18﴾ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴿19﴾ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴿20﴾ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ﴿21﴾ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ ﴿22﴾ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴿23﴾ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ﴿24﴾ وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴿25﴾ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴿26﴾ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿27﴾ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴿28﴾ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿29﴾ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ﴿30﴾ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴿31﴾ عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴿32﴾ كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿33﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا أحسنتَ استخدام نِعَم الله تعالي عليك والتي لا يُمكن حَصْرها فكنتَ دوْماً من الشاكرين لها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستَجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. أمَّا إنْ أسأتَ التعامُل معها فاستخدمتها في الشرور والمَفاسد والأضرار وبما يُخالِف أخلاق الإسلام فسيَحْرمك سبحانه منها فوريا أو تدريجيا حسبما يراه مناسبا لعقوبتك لمصلحتك حتي تَستفيقَ وتعود له ولإسلامك فتُحْسِن استخدامها فتَسعد في الداريْن
هذا ، ومعني " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴿17﴾ " أيْ نحن اختبرنا السابقين – ونَختبركم وسنَختبركم دوْماً أيها الناس لتَخرجوا من هذه الاختبارات مُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ – باختباراتٍ متنوعة ، كالتي اختبرنا بها مثلا مُلَّاك الحديقة التي كانت كثيرة الثمر حين حَلَفوا أن يَقطعوا ويَحصدوا ثمارها مُبَكِّرين في الصباح قبل أن يعلم المساكين فيَحضروا ليأخذوا نصيبهم وحقّهم من زكاتها ، فلقد أعطيناهم خيرا كثيرا فأساءوا استخدامه فحَرمناهم منه واختبرناهم بالشرّ لفترةٍ بعدما كانوا فيه من خيرٍ ليستفيقوا وليعودوا إلينا وإلي إسلامهم ليعود إليهم الخير الكثير ليسعدوا في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿35﴾ من سورة الأنبياء " .. وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴿18﴾ " أىْ وأقسموا قَسَمَاً قاطِعَاً بكلِّ تصميمٍ وبلا أيّ استثناءٍ لاحتمالية التراجُع أو حدوث أيّ مانعٍ ألاَّ يتركوا أيَّ شيءٍ علي سبيل الاستثناء للمتحاجين ، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي أكل حقّهم ! وتَوَهّمهم أنهم واثقون تماما من حَتْمِيَّة تنفيذ ما يريدون دون أيّ عقبات !!
ومعني " فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴿19﴾ " ، " فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴿20﴾ " أيْ هذا بيانٌ للنتائج السيئة المُتْعِسَة في الداريْن للقَسَم وللقول وللفِعْل الذي يُراد به الشرّ لا الخير ، أيْ فنَزَلَ ودَارَ وسَارَ عليها وأحاطَ بها عذابٌ لا يمكن لأحدٍ أن يمنعه لأنه من ربك ، وكان ليلا أثناء نومهم قبل استيقاظهم لحصادها ، ولم يُحدِّد سبحانه شكل هذا الذي لَفَّ عليها للتهويل من شأنه ، فهو هلاك هائل أصابها فأتلفها .. " فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴿20﴾ " أيْ فصارَت كالليل الأسود أيْ محترقة سوداء لا شيء فيها ، أو كالزرع الصَّريم أيْ المَصْرُوم أيْ المقطوع والمَحصود الذي لم يَتَبَقَّ منه شيء
ومعني " فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ﴿21﴾ " ، " أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ ﴿22﴾ " أيْ فنادَيَ بعضهم بعضا عند الصباح الباكِر ، أن اذهبوا مُبَكِّرين إلى زرعكم حتي لا يَراكم أحدٌ إنْ كنتم فعلا قاطِعين حاصِدين له عازِمين مُصَمِّمِين علي ذلك جادِّين فيه
ومعني " فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴿23﴾ " ، " أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ﴿24﴾ " أيْ فانْدَفَعوا مُسْرِعين وهم يَتَهامَسُون يُسِرُّون الحديث فيما بينهم حتي لا يسمعهم أحدٌ فيُخْبِر المحتاجين ليَحضروا ، مُتَواصِين ألاّ تُمَكِّنوا اليوم أيِّ مِسْكينٍ من دخول حديقتكم ليأخذ نصيبه من زكاتها
ومعني " وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴿25﴾ " أيْ وساروا أول النهار مُبَكِّرين وحالهم أنهم علي حَرْدٍ أيْ قَصْدٍ سَيِّءٍ وهو مَنْع المساكين حقّهم في ثمار الحديقة ، وهم مُتَوَهِّمِين أنهم قادرون علي تنفيذ ذلك القَصْد
ومعني " فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴿26﴾ " ، " بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿27﴾ " أيْ فحين شاهدوا حديقتهم وهى على تلك الحال الشديدة السوء حيث هي محروقة مقطوعة الأشجار والثمار قال بعضهم لبعض مضطربين مُنْزَعِجين إنَّا لتائهون عن طريقها ، فهذه ليست هي ، لعلها غيرها ، فحديقتنا مملوءة بالثمار ! ثم اعترفوا بالحقيقة القاسية بعدما تأكدوا أنَّ ما أمامهم هى حديقتهم بالفِعْل فقالوا " بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴿27﴾ " أيْ لسنا بضَالِّين عن الطريق إليها ولكنَّ الحقيقة أنَّنا محرومون من خيراتها بسبب إصرارنا على السوء وهو أنْ نَحْرِم المساكين من حقوقهم فيها
ومعني " قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴿28﴾ " أيْ حينها قال لهم أعْدَلُهم وأخْيَرُهم وأمْثَلُهم رأياً وتَصَرُّفَاً لائِمَاً مُقَرِّرَاً لهم بالخطأ الذي وَقَعوا فيه من حِرْمان حقّ المحتاجين مُذَكِّرَاً إيَّاهم أنه قد قال لهم قبلها ونصحهم أنهم لو سَبَّحوا الله أيْ ذَكَروه واستغفروه ورجعوا عن السوء الذي يَنوون فِعْله وأعطوا أصحاب الحقوق حقوقهم وسَبَّحوه وحَمَدوه علي نِعَمه عليهم التي لا تُحْصَيَ لَعَفَا عنهم بعفوه ورحمته ولَنَجَّاهم مِمَّا وَقَع ولَزَادهم خيرا كثيرا .. ولكنكم لم تستجيبوا لِمَا ذَكَّرْتُكم به فحَدَثَ ما حَدَث .. هذا ، ولفظ لوْلَا في اللغة العربية مِن مَعانيه أنه يُفيد الحَثّ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده
ومعني " قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿29﴾ " أيْ قالوا بعد أن استفاقوا ورَجعوا إلي صَوَابهم تَنَزَّهَ وابْتَعَدَ وتعالَيَ ربنا عن كل صفةٍ لا تليق به وعن ظلمنا فيما أصابنا بل نحن كنا الظالمين لأنفسنا بما فعلنا وللمحتاجين حيث منعناهم حقّهم ونستغفره منه ونحمده كثيرا علي نِعَمه علينا التي لا تُحْصَيَ
ومعني " فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ﴿30﴾ " ، " قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴿31﴾ " أيْ فجاءَ وأخَذَ كل منهم يَلُوم الآخر ويُلْقِي عليه مسئولية ما حَدَثَ وأنه السبب فيه قائلين بعضهم لبعض فيما بينهم بكل ندمٍ وحَسْرةٍ يا ويلنا ، أيْ يا هَلَاكَنا ، أي لقد هَلَكنا حقا بكل تأكيدٍ ويا عذابنا عند الله إنْ لم نَتُبْ ، فقد كنّا مُتَجَاوِزين الحَدَّ في ظُلْمِنا
ومعني " عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴿32﴾ " أيْ لعلَّ ربنا أيْ مُرَبِّينا وخالقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا لكلّ خير وسعادة في دنيانا وأخرانا أن يعطينا أفضل من حديقتنا بسبب توبتنا واعترافنا بخطئنا ، فنحن راغبون إليه وحده لا إلي غيره أيْ راجُون وداعُون ومُتَوَسِّلون إيِّاه ، وراغبون في رحمته التي وَسِعَت كل شيءٍ وعطائه الذي لا يَنقطع وبغير حسابٍ في الدنيا والآخرة
أمَّا معني " كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿33﴾ " أيْ بمِثْل ذلك العقاب الذي عاقبنا به أصحاب الحديقة يكون عقابنا في الدنيا لكل مَن خالَف أخلاق الإسلام وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ، نُعاقبه في التوقيت وبالأسلوب الذي يُناسبه ويُحَقّق مصلحته لكي يَستفيق ويعود لربه ولإسلامه ، بقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة إن استمَرّ علي ما هو فيه دون عَوْدة عنه وتوبة منه سَيَجِد عذابا بالتأكيد هو أكبر وأشدّ ألما وأتمّ وأعظم .. " .. لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿33﴾ " أيْ لو كانوا يَعقلون ما فعلوا الذي فعلوه ، أي لو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم لَتَدَبَّرُوا في هذا واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، ولم يتصرَّفوا وكأنهم كالجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مُفيد ولا يعلمون أنَّ هذا هو حالهم ومَثَلهم ! وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فَلْيَتَّعِظ إذن مَن يريد الاتِّعاظ
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿34﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا ، ومعني " إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿34﴾ " أيْ حتماً للمُتَّقين أيْ للمُتَجَنِّبِين لكل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، هؤلاء لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ مُجَهَّز لهم عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم بساتين وقصور ليس فيها إلا النعيم التامّ الخالد حيث ما لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴿35﴾ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿36﴾ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ﴿37﴾ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ﴿38﴾ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴿39﴾ سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴿40﴾ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴿41﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴿35﴾ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿36﴾ " أيْ هل نَظلم في حُكْمِنا أيّها الناس فنَجعل المسلمين كالمجرمين وهم الذين يرتكبون الجرائم بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ؟! إنه لا يُمكن أبداً وهو أمرٌ مُستحيلٌ حتما أن يُساوي الله تعالي بينهما وهو الخالِق العادل الحكيم الرحيم ، إنه بلا أيّ شكّ وبكلّ تأكيد هناك فرق شاسِع بين الفريقين في الدنيا والآخرة ، فالفريق الأول ، المسلمون ، الذين صَدَّقوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم في كل أقوالهم وأعمالهم ، فهؤلاء في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياهم ثم لهم حتما في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد ، أمَّا الفريق الثاني ، فهم بالقطع في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظرهم قطعا في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم .. " مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿36﴾ " أيْ ماذا أصاب عقولكم يا مَن تُسَاوُون بينهم ؟! كيف تَحكمون بمِثْل هذا الحُكْم الظالم وما دليلكم عليه ؟!
ومعني " أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ﴿37﴾ " ، " إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ﴿38﴾ " ، " أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴿39﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من اللوْم والذمّ الشديد والتَّسْفِيه والتكذيب لمَن يُسَاوُون بين المسلمين والمجرمين والخير والشرّ والصواب والخطأ لعلهم يستفيقون ويعودون للحقّ والعدل ليسعدوا في الداريْن .. أيْ هل ذَهَبَت عقولكم فحَكَمْتم بأنَّ الفريقين متساويان أم حَكمتم بذلك بسبب أنَّ لديكم كتابا نَزَلَ عليكم من عندنا جاءكم به رسلنا تقرأون فيه بفهمٍ وتَدَبُّرٍ وتَتَدَارَسُون وتتعلمون هذا السوء ؟! .. " إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ﴿38﴾ " أيْ هل تَدَّعُون كذباً وزُوُرَاً أنَّ الأمر مُفَوَّضٌ لكم ومِن حَقِّكم في هذا الكتاب أن تختاروا ما تشاءون من أخلاق وتشريعات وأقوال وأفعال سواء أكانت خيرا أم شرَّاً صوابا أم خطأ ؟! إنه بالتأكيد ليس لكم هذا الكتاب ولم ننزله عليكم حتما ولا يُعْقَل مُطلقا مثل ذلك !! .. وفي هذا مزيدٌ من تكذيبهم وتَجْهِيلهم وتَسْفِيههم .. " أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴿39﴾ " أىْ : أم هل لكم عهود ومواثيق أخذتموها علينا واصِلَة أقْصَيَ مَدَاها في التوكيد حيث هي مُؤَكَّدَة بالأيْمَان المُشَدَّدَة وباقية إلي يوم القيامة لا نستطيع التَّحَلّل منها أنَّ الأمر مُفَوَّضٌ لكم ومِن حَقّكم هذا الذي تَحْكُمون به مِن سوءٍ وهو أنْ تُساووا بين المسلمين والمجرمين والخير والشرّ والصواب والخطأ وأنَّ مِن حَقّكم أن تختاروا ما تشاءون من أخلاق وتشريعات وأقوال وأفعال سواء أكانت خيرا أم شرَّاً صوابا أم خطأ ولن تُعَاقَبوا ؟! فإنْ كانت لكم علينا هذه الأيْمان فأظهروها إذَن وحينها يكون من حقّكم أن تَحكموا بما حَكَمْتم به ! .. إنهم حتما ليس لهم أيّ عهودٍ عند الله تعالي بهذا الذي يَدَّعُونه !! .. وفي هذا مزيدٌ من تكذيبهم وتَجْهِيلهم وتَسْفِيههم وبيان أنهم لا يستطيعون مُطلقا أن يأتوا بأيِّ إجابةٍ عن هذه الأسئلة يُثبتون بها صِحَّة ادِّعاءاتهم الكاذبة
أما معني " سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴿40﴾ " ، " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴿41﴾ " أيْ اسألهم يا رسولنا الكريم ، ويا كل مسلم مِن بَعْده ، اسأل أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ، علي سبيل اللوْم والذمّ الشديد والتَّسْفِيه والتكذيب لهم ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما ، أىّ واحدٍ منهم هذا الذي سيَقف أمام إرادة الله تعالي مالك الملك كله الذي يقول للشيء كن فيكون كما يريد وسيكون هو المُتَزَعِّم والمُتَعَهِّد والضَّامِن والمُتَكَفِّل بالدفاع عن هذا الحُكْم الذي حَكَموا به وإقامة الدليل عليه وتنفيذه وهو الحُكم الخارج عن العقل والمَنْطِق والصواب والذي هو المساواة بين المسلمين والمجرمين وعدم إعطاء كلٍّ بما يَسْتَحِقّه في دنياه وأخراه ؟! إنه لا يُمكن حتما لأيِّ أحدٍ أن يَتَصَدَّرَ لكي يكون زعيما لمِثْل هذا السَّفَه !! .. " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴿41﴾ " أيْ : أم هل لهم شركاء لنا فى الألوهِيَّة كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو نحوها أو شركاء مُعَاونون من الناس ، تَقْدِر علي تنفيذ الأحكام التي حَكَموا بها ؟! فلْيَجِيئوا إذَن بشركائهم إنْ كانوا صادقين في دعواهم أنَّ لهم شركاء يُشاركونهم في أحكامهم هذه ويوافقونهم عليها وقادِرين بالفعل علي عوْنهم لتنفيذها !! .. وفي هذا مزيدٌ من تكذيبهم وتَجْهِيلهم وتَسْفِيههم وتَعْجيزهم وبيان أنهم لا يستطيعون مُطلقا أن يأتوا بأيِّ إجابةٍ عن كل الأسئلة السابق ذِكْرها يُثبتون بها صِحَّة ادِّعاءاتهم الكاذبة هذه
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴿42﴾ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴿43﴾ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿44﴾ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴿45﴾ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴿46﴾ أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴿47﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾ .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴿42﴾ " ، " خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴿43﴾ " أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد ، اذكروا يوم القيامة ، يوم يُظْهَرُ ساق الأمر أيْ أصْله وجذوره وحقائقه – مثل ساق وجِذْر النبات – أيْ يَكْشِف الله تعالي للجميع شِدَّة وصعوبة أمر الآخرة علي المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يُشبههم حيث يُطْلَب منهم مِن خلال الملائكة بأمره سبحانه السجود له علي سبيل تعجيزهم وكشفِ سوءِ حالهم كبدايةٍ لبعض عذابهم النفسيّ قبل الجسديّ في النار فلا يُمكنهم ذلك كما كانوا مُمْتَنِعِين عنه مُتَعَالِين عليه في دنياهم بما يَفضحهم ويُخزيهم ويُرْعبهم لأنه يُؤَكِّد لهم أنهم من المُعَذّبين حتما .. " خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴿43﴾ " أيْ وحالهم حينها أنهم ذليلة مُنْكَسِرَة أبصارهم لا يرفعونها تُغَطّيهم ذِلّة مُرْهِقَة شديدة مِمَّا هم فيه من عذابٍ والسبب في هذا الحال هو أنهم حين كانوا في دنياهم يُدْعَوْن بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظة حسنة مِمَّن حولهم من المسلمين إلي السجود أيْ الخضوع لخالقهم ورازقهم ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتهم ليسعدوا بها ، وأيضا أن يسجدوا لله متواضعين خاشعين ساكنين علي جباههم في صلاتهم أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن ، وأن يكتسبوا من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا يَسْتَعْلوا عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما ، حينما كانوا يدعون لكل هذا كانوا يرفضونه ويتَعَالون عليه ولا يستجيبون له ويفعلون الشرّ رغم أنهم كانوا سالِمين مُعَافِين من كل عَيْبٍ أصِحَّاء قادرين تماما علي السجود وفِعْل الخير مُتَمَكِّنين منه أشدّ التَّمَكّن !! فبالتالي كان هذا هو حالهم الحَتْمِيّ
أمَّا معني " فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿44﴾ " ، " وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴿45﴾ " أيْ إذا كانت أحوال هؤلاء المُكَذّبين كما ذُكِرَ لكم يا رسولنا الكريم ويا كل المسلمين في الآيات السابقة ، فاتركني وإيَّاه هذا الذي يُكَذّب بهذا القرآن العظيم فلا يُصَدِّق بأنه وَحْيٌ من عندنا ولا يعمل بأخلاقه ويَفعل عكسها ويُقاوم نَشْرها ، اتركني مِنِّي له مباشرة ، فأنا لا غيري الذي سأتَكَفّل بعقابه وأنتقم لكم منه ، فسترون ماذا أصنع به فلا مُنْقِذ له مِن عذابي .. فالخالِق القويّ القاهِر يَنتقم من المخلوق الضعيف الذي لا يُذْكَر !! وهذا يدل علي شدّة غضبه سبحانه عليه .. فوَكِّلُوا الأمر إذَن لي ولا تنشغلوا بهم واستمرّوا متمسّكين بإسلامكم وحُسن دعوتكم له .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة .. " .. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴿44﴾ " أيْ سَنُقَرِّبهم من العذاب درجة بدرجة وخطوة بخطوة من الجهة التي لا يعلمون أنَّ العذاب سيأتيهم منها ، أي من حيث لا يشعرون أنه استدراج بل يَتَوَهَّمون أنّ ذلك تفضيل وتكريم لهم علي غيرهم مع أنه سبب هلاكهم ، وذلك من خلال أننا نَمُدّهم بالنِّعَم وأسباب الحياة المُرَفّهَة فيستخدمونها في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار التي تكون سببا لعذابهم ولهلاكهم ، وكذلك نُسَهِّل لهم أنْ يَتَصَرَّفوا تَصَرُّفاتٍ ويقولوا أقوالا يتوهّمون أنَّ فيها خيرا لهم فإذا بها تضرّهم وتُعذّبهم وتهلكهم ، وهذا لون من ألوان كَيْدِى القويّ لهم والذى لا يَتَنَبَّه له أمثال هؤلاء ، وذلك حتي لا يمكنهم الهروب منه عند حدوثه ولمزيدٍ من حسرتهم وألمهم والاستهزاء بهم وبكل ما يملكون من قُوَيَ ، فلا تَسْتَبْطِئوا إذَن الانتقام منهم فإنه سيَقع حتما فهو وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا ولكن في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُحَقِّقَاً لأفضل النتائج وأسعدها لكم يا أهل الخير .. وما يعلم جنود ربك إلا هو .. " وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴿45﴾ " أيْ أُمْهِل لهم ، أي أتركهم لفترةٍ كافية ، دون إهمالٍ حتما ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، رحمة بهم وشفقة عليهم ، فإذا لم يعودوا وأصَرّوا علي ما هم فيه ، سيكون هذا الإمْهال هو لزيادة شَرِّهم وبالتالي عقابهم في دنياهم وأخراهم ، فإنَّ ذلك هو كَيْدِي بهم أيْ تَدْبِيري ضِدَّهم واسْتِدَراجِي لهم فإنه حتما قويّ شديد لا يُطاق ولا يُمْنَع وهو مُمْلَيَ عليهم لا يستطيعون الفرار والإفلات منه مُطلقا ، بسبب سُوئِهم وإصرارهم عليه
ومعني " أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴿46﴾ " أيْ هل تَطلب منهم أجرا ماليا أو غيره في مُقابِل أنك تدعوهم لله وللإسلام وبالتالي فهم من هذه الغَرَامَة مُتْعَبُون مُرْهَقُون كأنَّ عليهم حِمْلا ثقيلا حيث لا يستطيعون دفع قيمتها حتي يُسْمَح لهم بالدخول في الإسلام وبالتالي فهم لم يُسلموا لهذا السبب كما أنهم أصبحوا يكرهونه ويتضايقون منه بسبب غراماته المُرْهِقَة الكثيرة المفروضة عليهم مَهْمُومِين مَشغولين بهمومها لا يمكنهم التفكير في الإسلام بتَعَمّق ليَقتنعوا به ليَدخلوا فيه ؟! بالقطع لا ، لم تَطلب منهم شيئا ، بل أنت والمسلمون معك تنفقون بلا أيّ مُقابِل من جهودكم وفكركم وأموالكم وأوقاتكم وغيرها لحُسن دعوتهم لإسعادهم في الداريْن بالإسلام .. فليس عليهم إذن أيّ ضَرَرٍ من أن يُسلموا بل سيكون لهم كلّ السعادة ولكنَّ السبب في امتناعهم هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴿47﴾ " أي وهل عندهم اللّوْح المحفوظ الذي في السماء والذي مكتوب فيه كلّ علم الله تعالي وفيه ما هو غائب عن الناس وما سيَحدث مستقبلا فهم يكتبون منه ما فيه ويُخبرونه لهم أنَّ ما يُخبرهم به الرسول ﷺ في القرآن العظيم من أمور البعث ويوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار هي كلها كذب وأنهم هم بعبادتهم للأصنام الذين علي الصواب بينما هو والمسلمون معه في ضلال ؟! بالقطع لا !! فلا أحد حتما له علم بكل ما غابَ عن الناس في الماضي والحاضر والمستقبل في السماوات والأرض والكوْن كله إلا الله تعالي وحده ، وعبادته أي طاعته هي فقط الصواب المُسْعِد في الداريْن وعبادة غيره هي قطعا الخطأ الفاحش المُتْعِس تمام التعاسة فيهما .. ولكنَّ السبب في حالهم السَّيِّء هذا هو كما ذُكِرَ في كلّ الآيات السابقة أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، والاستفهام أيضا كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التعجُّب من حالهم والاستهانة بهم وللرفض التامّ لأقوالهم ولذمّهم ذمَّا شديدا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴿48﴾ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴿49﴾ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ ﴿50﴾ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴿51﴾ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴿52﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا تَشبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴿48﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنَا لك أيها الرسول الكريم ولكم أيها المسلمون مِن أنّنا حتما سنَنصركم في الحياة الدنيا والآخرة وكما ذَكَرْنَا لكم مِن معاني طيِّبة في هذه السورة الكريمة فبالتالي فكونوا إذَن من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ وكونوا من الذين إنْ أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر ، وعلى ما يقوله هؤلاء المُكذّبون من أقوالٍ لا يؤيدها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت ، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن ، هو حقّ ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. لِحُكْمِ رَبِّكَ .. " أيْ علي ما حَكَمَ به ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ، أيْ خالقك ومُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشدك لكل خير وسعادة ، من تكريمكم وتشريفكم أيها المسلمون باختياركم لدعوة جميع الناس في كل الأرض لله وللإسلام لتكونوا رحمة لهم ليسعدوا مثلكم في الداريْن ، واصبروا إلي أن يَحكم الله بينكم وبين مَن يُؤذونكم قولاً وفِعْلاً ويَنصركم عليهم ويَنشر إسلامكم .. " .. وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴿48﴾ " أيْ ولا يَكُن حالك أيّها المسلم كحال الرسول الكريم يونس ﷺ – الذي يُسَمَّي صاحب الحوت لأنه ابتلعه وبقي في جوفه لفترةٍ والذي قد غادَرَ قومه وهم يحتاجونه لأنْ يدعوهم لله وللإسلام ولم يَصْبِر عليهم الصبر المطلوب (برجاء مراجعة تفصيل ذلك في الآية ﴿87﴾ من سورة الأنبياء﴾ – حين نادَيَ الله تعالي ودَعاه لإنقاذه مِمَّا هو فيه وحاله أنه مَكْتُومٌ مَمْلُوءٌ بغيظه وغضبه وألمه مَغْمُومٌ به بسبب ما حَدَثَ له مع قومه وما أصابه مِن مصيبةٍ وغَمٍّ وحزنٍ وهو فى بطن الحوت ، واحذر تماما أنك قد تُصَاب بما أُصِيبَ به لو فَعَلْتَ مثله
ومعني " لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴿49﴾ " ، " فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ ﴿50﴾ " أيْ ولولا أن تَدَارَكَته أيْ لَحِقَته نعمة من الله أيْ رحمة منه بقبول دعائه وعُذْره وتوبته وتوفيقه لها لكان حاله أن نُبِذَ بالعراء أيْ قُذِفَ من بطن الحوت وتُرِكَ بالأرض الفضاء الخالية من أيِّ نباتٍ أو عمران ليهلك فيها وهو مَذْمُوم أيْ في حالة ذمٍّ أيْ ذِكْرٍ بما هو سَيِّءٍ من أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة ومن فطرته بسبب ما فَعَل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) وهو مِنَّا مُعَاتَب مُلاَم مُعَاقَب علي ما حَدَثَ منه ، ولكن كل هذا قد تَوَقّف وامتنع بنعمتنا التي أدْرَكته .. " فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ ﴿50﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ وتفصيلٌ لنعمته تعالي عليه ، أىْ فتَدَارَكته النّعمة فاختاره ربه ونَقّاه من كل سوءٍ بسبب توبته حيث رَدَّ عليه الوَحْى بعد انقطاعه عنه لفترةٍ كعِتابٍ له علي ما فَعَل وأعانه علي أن يكون من الصالحين كامِلِي الصلاح والخير في نواياهم وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وتَمَّت له سعادته في دنياه وأخراه
أمَّا معني " وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴿51﴾ " ، " وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴿52﴾ " أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة كراهية الكافرين للقرآن وللإسلام والمسلمين وتَمَنِّي التخلّص منهم واتِّخاذهم ما استطاعوا من أسبابٍ لذلك مُتَوَهِّمِين أشدّ التَّوَهُّم نجاحهم فيها .. أيْ والحال أنَّ الذين كفروا يُقَارِبُون أن يُزْلِقوكم بأبصارهم أيها المسلمين أيْ يُزِيلُوكم من علي الأرض – من الزَّلَق أيْ الزَّلَل للقَدَم والسقوط علي الأرض بسبب نعومتها الزائدة – من شِدَّة نظراتهم الكارِهَة لكم والتي كأنها تُخْرِج سِهَامَاً مَسْمُومَة نحوكم تريد إهلاككم ، خاصة حين يسمعون القرآن الكريم ، لولا وقاية الله وحمايته وتأييده ونصره لكم .. " .. وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴿51﴾ " أيْ وأيضا مِن شِدَّة كراهيتهم لكم وسوء أخلاقهم يَطْعَنُون في الرسول الكريم ﷺ وفيكم محاولين يائسين تشويه صورته وصورة القرآن العظيم وصورتكم لتنفير الناس عنكم فلا يَقبلون منكم دين الإسلام بقولهم كذبا وزورا وسوء أدبٍ أنه وأنكم من المجانين أىْ المُخْتَلِطين في عقولهم لا يُدْرِكون ما يقولون بسبب ذِكْركم للقرآن وعملكم بأخلاقه !! .. وهم يعلمون تمام العلم أنه ﷺ هو الصادق الأمين كما كان يُطْلِقون عليه ذلك هم بأنفسهم وأنه هو أحسنهم خُلُقاً !! كما أنه بالقطع ليس مجنوناً لأنَّ للمجنون صفات يعرفها الجميع كالتخريف وعدم الإدراك وسوء التصرّف ونحو ذلك .. ولكنَّ السبب في أقوالهم وأفعالهم هذه هو أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴿52﴾ " أيْ وبالقطع ما هذا القرآن العظيم ، ولا رسوله الكريم ﷺ وسُنَّته ، إلاّ تذكير للناس جميعا بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة
الْحَاقَّةُ ﴿1﴾ مَا الْحَاقَّةُ ﴿2﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴿3﴾ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴿4﴾ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴿5﴾ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴿6﴾ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴿7﴾ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴿8﴾ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ﴿9﴾ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ﴿10﴾ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴿11﴾ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴿12﴾ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13﴾ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴿14﴾ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴿15﴾ وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴿16﴾ وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴿17﴾ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴿18﴾ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴿19﴾ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴿20﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴿21﴾ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴿22﴾ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴿23﴾ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴿24﴾ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴿25﴾ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴿26﴾ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴿27﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ﴿28﴾ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴿29﴾ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴿30﴾ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴿31﴾ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴿32﴾ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴿33﴾ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿34﴾ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ﴿35﴾ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ﴿36﴾ لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ﴿37﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستَسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه ، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به ، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين ، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " الْحَاقَّةُ ﴿1﴾ " ، " مَا الْحَاقَّةُ ﴿2﴾ " ، " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴿3﴾ " أيْ اذكروا أيّها الناس حينما تَحْدُث الحَاقّة ، وهي يوم القيامة ، والحاقة من أسمائه المتعدِّدة ، وسُمِّيَت بذلك لأنها واقِعَة حَقّاً حتماً بلا أيّ شكّ وقريبا حيث كل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد ولأنها تظهر فيها حقائق الأمور وأين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ولأنها يَأخذ فيها كل صاحب حقٍّ حقّه ويتحقّق فيها الوعد لأهل الخير من بَشائر وخيْرات وسعادات والتَّوَعُّد بالشَّرِّ لأهله من مصائب وشرور وعذابات وتعاسات .. وبالتالي فأحْسِنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. " مَا الْحَاقَّةُ ﴿2﴾ " أيْ ما هي ؟ أيّ شيءٍ هي ، في حالها وصِفَتها ؟ والاستفهام للتعظيم والتفخيم والتهويل .. أيْ فهي في غاية الخير واليُسْر والأمن والسعادة لأهل الحقّ والخير وغاية الشرّ والعُسْر والخوف والتعاسة لأهل الباطل والشرّ .. ولم يَذْكُر سبحانه تفصيل حالها واكتفي بلفظ " ما " الذي هو استفهام يُفيد التَّعَجُّب والتعظيم لشأنها ليَسبح الخيال العقليّ كيفما يشاء في الخير أو في الشرّ .. " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴿3﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هي الحَاقّة أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك بها علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينها واقعيا لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوها فهي أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيها من النعيم لأهله والعذاب لمَن يستحِقّه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
أمَّا معني " كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴿4﴾ " أيْ هذا بيانٌ لمَثَلَيْن مَشهوريْن يَتناقلهما الناس فيما بينهم من أمثلة الأمم المُكَذّبة يَذكرهما الله تعالي ليَعْتَبِر مَن أراد الاعتبار ولا يفعل مثلهما فيُعَذّب ويَتعس كحالهما تمام التعاسة في دنياه وأخراه .. أيْ لم تُصَدِّق ثمود وهم أمة الرسول الكريم صالح ﷺ ولا عاد وهم أمة الرسول الكريم هود ﷺ بالقارعة أيْ بيوم القيامة ، وهذا أيضا اسم من أسمائه لأنه يحدث في ساعةٍ تَقْرَع العقول والمشاعر والأجساد أيْ تَضربها وتَدُقّها وتَطرقها وتُزلزلها بل وتُزلزل الكون كله من شِدَّة أهوالها وصعوباتها
ومعني " فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴿5﴾ " أيْ أمَّا حال ثمود فقد أبِيدُوا بالفِعْلَة الطاغية أيْ بسبب الطغيان الذي كانوا فيه أي التجاوُز الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس ، وذلك بأن أخذتهم وعذّبتهم وأهلكتهم في المُقابِل الطاغية التي تُناسب طغيانهم أيْ الشديدة المُتجاوِزَة الحَدِّ في شِدَّتها وتعذيبها وإهلاكها لهم والتي كانت عبارة عن صَيْحَة ورَجْفَة وزَلْزَلَة وصاعِقَة عظيمة هائلة مُخِيفَة مُدَمِّرَة
ومعني " وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴿6﴾ " أيْ وأمَّا بالنسبة لحال عاد فقد أبِيدُوا وعُذّبُوا بريحٍ باردةٍ شديدة الصوت والهبوب .. والعاتِيَة من العُتُوّ بمعنى الشِّدَّة وتجاوُز الحَدّ
ومعني " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴿7﴾ " أيْ سَلّطَها الله تعالي عليهم لمدة سبع ليال وثمانية أيام حُسُومَاً جَمْع حَسْم أيْ قَطْع وإنهاء أي كانت قاطِعات حَسَمَت أمرهم وقَضَت عليهم ، فصار الناظر الذي ينظر إليهم يَراهم في هذه الليالي والأيام صَرْعَيَ جَمْع صَريع أيْ موتيَ هالِكين ، كأنهم مثل جذوع نخلٍ فارغة ليس في أجوافها شيء وقد قُطِعَت ورُمِيَت وذَبُلَت وهَلَكت .. فحالتهم حالة فظيعة مُخِيفة مُقَزِّزَة .. فلْيَسْتَفِق إذَن مَن يَتَشَبَّه بهم ولْيَعُد لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴿8﴾ " أيْ فهل ترى أيها المُسْتَمِع لهؤلاء القوم أيَّ مجموعةٍ أو نفسٍ واحدةٍ منهم باقية دون هلاك ؟! بالقطع لا أحد قد تَبَقَّيَ حيث هَلَكوا جميعا .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لمن يفعل مثلهم ويتشبه بهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
أمَّا معني " وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ﴿9﴾ " ، " فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ﴿10﴾ " أيْ هذا بيانٌ لأمثلة أخري مَشهورة يَتناقلها الناس فيما بينهم من الأمم المُكَذّبة يَذكرها الله تعالي ليَعْتَبِر بها أيضا مَن أراد الاعتبار ولا يفعل مثلهم فيُعَذّب ويَتعس كحالهم تمام التعاسة في دنياه وأخراه .. أيْ وجاء مِن بعد إهلاكنا لعَادٍ وثمود عصر فرعون الذي أرسل الله إليه موسي ﷺ ولكنه كَذّبَ واستكبرَ وقال أنا ربكم الأعلي ، وأيضا جاء زمن الذين سَبَقوه قَبْلَه من الأمم التي كذّبت رسلها ولم تؤمن بالله ولم تعمل بأخلاق الإسلام ، وكذلك المُؤْتَفِكَات وهي القُرَىَ المؤتفكات بأهلها أيْ المَقْلوبات بهم بحيث أصبح أعلاها أسفلها فهَلَكوا ، وهي قري قوم لوط ﷺ ، كل هؤلاء جاءوا بالأفعال الخاطِئَة أيْ فَعَلوها ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. " فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ﴿10﴾ " أيْ هذا توضيحٌ وتَبْيِينٌ لأفعالهم الخاطئة ، فهم قد عصوا رسول ربهم ، أىْ كل أمة من الأمم المُكَذّبة هذه عَصَت رسولها ولم تستجب له حين طَلَبَ منها لمصلحتها ولسعادتها في الداريْن فِعْلَ كلّ خيرٍ وتَرْكَ كلّ شرٍّ ، فكانت نتيجة إصرارهم على فِعْلِ الشرور والمَفاسد والأضرار أنْ أخذهم الله تعالى أيْ عذّبهم وأهلكهم أخْذَة رابية أىْ أخذة زائدة فى الشِّدَّة على الأَخْذَات التى أخَذَ بها غيرهم في مقابل زيادة قبائحهم عنهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. هذا ، ولفظ رابية مأخوذ من رَبَا الشيء إذا زادَ وتَضَاعَف
ومعني " إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴿11﴾ " ، " لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴿12﴾ " أي هذا بيانٌ لمَثَلٍ آخر مَشهور يَتناقله الناس فيما بينهم من الأمم المُكَذّبة يَذكره الله تعالي ليَعْتَبِر به أيضا مَن أراد الاعتبار ولا يفعل مثلهم فيُعَذّب ويَتعس كحالهم تمام التعاسة في دنياه وأخراه .. أيْ نحن حينما زادَ الماء وتجاوَزَ الحَدَّ المعروف وكان طُوفَانَاً في زمن رسولنا الكريم نوح ﷺ وعذّبنا به وأغرقنا وأهلكنا قومه بسبب تكذيبهم وإيذائهم له وإصرارهم علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار رغم حُسن دعوته لهم بكل الوسائل المُمْكِنَة بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة ولفتراتٍ طويلةٍ بَلَغَت ألف سنة إلا خمسين عاما ، لمَّا حَدَثَ هذا حملناكم أيها الناس أيْ حملنا أجدادكم – وأنتم بداخلهم كلٌّ منكم نُطْفَة – الذين آمنوا بنوح ﷺ فى السفينة الجارية في الماء التى صَنَعها بتعليمنا له وحفظناهم فيها بفضلنا ورحمتنا وتمام قُدْرتنا وعلمنا إلى أن أنهينا الطوفان وأهلكنا أعداءهم .. " لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴿12﴾ " أيْ وقد ذَكَرْنا تلك الواقعة لكي نجعلها لكم عِبْرَة وعِظَة ودَرْسَاً وتذكيراً بنِعَمِنا التي لا تُحْصَيَ عليكم ولكي تَعِيَها أيْ تحفظها جيدا ولا تنساها بعد أن تستوعبها وتفهمها وتتعلّمها كلّ أذن واعية أي حافِظَة تُحسن الاستماع للخير كله ولا تَنساه وتنقله للعقل فيَعقله ويَتدبّره ويَستوعبه ويَفهمه ويعلمه ويحفظه ولا ينساه ولا يهمله ويعمل به ويستفيد منه ، فيسعد بالتالي صاحب مِثْل هذه الأذن الواعية أيْ العقل الواعي في الداريْن
أمَّا معني " فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13﴾ " ، " وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴿14﴾ " ، " فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴿15﴾ " أيْ فعندما يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء أحداث يوم القيامة – ولا يَعلم كيفية حدوث النَّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلاّ بأمره – حينها يكون ذلك هو يوم انتهاء الحياة الدنيا بكل ما فيها وبدء البَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر من قبورهم بعد كوْنهم ترابا لبدء حسابهم .. " .. نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13﴾ " أيْ من عظيم وكمال قُدْرة الله تعالي وتمام علمه لا يحتاج كل هذا لأيِّ وقتٍ أو جهدٍ وإنما هي مجرّد نفخة لأنه هو الذي يقول للشيء كن فيكون كما يريد .. " وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴿14﴾ " أيْ وعندما تُرْفَع الأرض والجبال من أماكنها بسبب هذه النفخة الهائلة فتُدَكّ دَكَّة واحدة أيْ تُدَقّ وتُضْرَب دَقّة وضَرْبَة واحدة قوية عظيمة تُفَتِّتها تَفْتِيتا شديدا .. " فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴿15﴾ " أيْ فيَومها وحينها تكون الواقعة قد وَقَعَت أي حَدَثَت الحَادِثَة ونَزَلَت النازِلَة ، وهي حَادِثَة يوم القيامة ، والواقعة من أسمائه المتعدِّدة ، وسُمِّيَت بذلك لأنها واقِعَة حتما بلا أيّ شكّ وهي قريبة الوقوع حيث كل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد ولأنها يَقع فيها وَقائع كثيرة كلها مَصائب وشرور وتعاسات للمُسِيئين وبَشائر وخيْرات وسعادات للمُحسنين ، وبالتالي فأحْسِنوا الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴿16﴾ " أيْ وأيضا يومها ووقتها تَنْشَقّ السماء أيْ تظهر فيها التَّشَقّقات والتَّصَدُّعات والخُروقات والتَّمَزُّقات وتصير حينها في غاية الضعف من شدّة ما يحدث وهَوْله وفظاعته
ومعني " وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴿17﴾ " أيْ وأيضا حينها تكون الملائكة موجودة علي أرجاء السماء أيْ أطرافها وجوانبها تُنَفّذ أوامر الله تعالي المطلوبة منها وقتها ، وكذلك تحمل عَرْش الله يومها – والذي يُمَثّل سلطانه ومُلْكه والذي لا يعلم هيئته وحقيقته وعظمته وهيبته إلا هو سبحانه – فوق هذه الملائكة التي علي أرجائها أو فوق كل المخلوقات الحاضرة في يوم القيامة ، مجموعة من الملائكة عددها ثمانية أو عددها ثمانية صفوف في كل صفٍّ مجموعة لا يعلم مقدارها إلا خالقها سبحانه ، بما يدلّ علي هيبة الموقف
ومعني " يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴿18﴾ " أيْ يومها وحينها تُحْضَرُون أيها الناس للعَرْض علي خالقكم وتَظهرون وتَقفون أمامه لحسابكم الختاميّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وسعادة والشرّ شرَّاً وتعاسة لا يَخْفَيَ منكم عليه حتما أيّ سِرٍّ كنتم تكتمونه ولا أيّ شيءٍ من أقوالكم وأفعالكم في حياتكم الدنيا سواء أكانت مُخْفِيَّة أم مُعْلَنَة فكلها مُسَجَّلَة بكلّ دِقّة وتفصيلٍ وصدقٍ في كتاب أعمالكم ، فهو تعالي عالم بتمام العلم بكم ظاهرا وباطنا وبكل شيءٍ في كوْنه خَفِيَ أم ظَهَر
ومعني " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴿19﴾ " أيْ فأمَّا مَن أُعْطِيَ كتاب أعماله في يده اليُمْنَيَ – وهذا دلالة علي أنه من أهل اليمين أيْ أهل الجنة الذين هم كلهم يُمْن أيْ بركة وخير وسعادة بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم السعداء السعادة التامّة الخالدة – فيقول بما يدلّ علي شدّة سعادته مُعْلِنَاً سروره لكل مَن يَلقاه مِمَّن حوله وحبا في أن يَطّلِعوا علي ما أعطاه الله من رحماتٍ وكراماتٍ عظيمات بعدما ظهرت نتيجة فوزه ونجاحه في امتحان دنياه ، ها هو كتابي تعالوا خذوه فاقرأوا ما فيه فإنه يُبَشِّر بكل الخيرات والسعادات والتي هي مُنْتهَيَ آمالي التي كنت أتمناها وأريدها وأعمل لها طوال حياتي
ومعني " إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴿20﴾ " أيْ هذا سبب سعادتي التامّة ، أني عَلِمْت وتأكَّدت تماما بلا أيّ شكّ أثناء حياتي الدنيوية أني سَأَلْقَيَ حسابي وجزائي في هذا اليوم ، يوم القيامة ، عن كل أقوالي وأعمالي فيها ، ولذلك أعْدَدْتُ له بكل هِمَّةٍ وإحسانٍ بأنْ أحسنتُ طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، واستخدام لفظ " ظَنَنْت " سببه أنَّ حقيقة الظنّ في الأصل هي أنه عِلْمٌ لم يَتَحَقّق ويوم القيامة لم يكن قد وَقَعَ بالفِعْل بَعْدُ ولم يَخْرُج إلى عالَم الحِسِّ حينما قال المؤمن ذلك في دنياه ، وفي هذا تمام الدِّقّة .. كما أنه يعني أيضا أنَّ السعادة الغامِرَة التي أنا فيها الآن سببها أنّي ظننت أن يُؤاخذني الله بسيئاتي ويُعَذّبني ولكنه قد تَفَضَّلَ عليَّ بوَاسِع رحمته وعظيم عفوه فسامَحني ولم يُؤاخِذني بها لأدخل نعيم الجنة التامّ الخالد
ومعني " فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴿21﴾ " ، " فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴿22﴾ " ، " قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴿23﴾ " ، " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴿24﴾ " أيْ فهذا الذي أُوتِيَ كتابه بيمينه هو حتما في حياة كلها رضا غامِرٍ يُرْضِيه تماما حيث كل الأمن والنعيم والسعادة التامّة الخالدة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. " فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴿22﴾ " أيْ إنه في بساتين وقصور وخيرات وكرامات رفيعة عظيمة المَكَانَة والدرجات ، مرتفعة أيضا في بعض أماكنها وأبنيتها وأشجارها بما يُفيد فخامتها ، فهي لا تُقَارَن بشيء .. " قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴿23﴾ " أيْ ثمارها التي تُقْطَف من أشجارها ونباتاتها قريبة يَقطفها أيْ يَجمعها ويأخذها ويَجْنِيها بيده كلما أرادها بكل سهولةٍ ويُسْرٍ بلا أيِّ تَعَبٍ وهو في أيِّ وَضْعٍ سواء أكان قائما أم ماشيا أم جالسا أم مستلقيا .. " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴿24﴾ " أيْ يُقال لهم لتكريمهم وتشريفهم ، إضافة إلي كل الكرم والفضل السابق ذِكْره ، كلوا واشربوا كل ما تشتهونه هنيئا أيْ مُسْعِدَاً لكم مُسْتَسَاغَاً لذيذا طيبا مُفيدا لا ضارَّاً مُيَسَّرَاً بلا أيِّ مَشَقَّة .. " .. بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴿24﴾ " أيْ هذا هو سبب ما أنتم فيه الآن ، أيْ أُعْطِيتُم كلّ هذا الفضل العظيم بسبب ما قَدَّمتم سابقاً من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية من الدنيا التي قد خَلَت ومَضَت وذَهَبَت وانتهت ، أيْ بسبب أعمالكم وأقوالكم الحَسَنة في دنياكم واجتهادكم في تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم .. وفي هذا القول أيضا مزيد من التكريم والتشريف لهم
أمَّا معني " وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴿25﴾ " ، " وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴿26﴾ " ، " يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴿27﴾ " ، " مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ﴿28﴾ " ، " هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴿29﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وأمَّا مَن أُعْطِيَ كتاب أعماله في يده الشِّمَال – وهذا دلالة علي أنه من أهل الشِّمَال أيْ أهل النار الذين يَظهر عليهم تمام الشّؤْم أيْ الشرّ بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم التُّعَساء التعاسة التامّة – فيقول بما يَدلّ علي شِدَّة تعاسته وحَسْرته ونَدَمه وحُزْنه وذِلّته وعاره بعدما اطّلَعَ فيه علي سُوئه وما يَنتظره من عذابٍ لا يُتَصَوَّر وبعدما ظَهَرَت نتيجة عدم نجاحه وفشله في امتحان الدنيا بسبب عدم استجابته لأخلاق الإسلام وفِعْله الشرور والمَفاسد والأضرار ، يقول يا ليتني – أي يَتَمَنَّىَ في وقتٍ لا تنفع فيه الأمنيات فالوقت وقت حسابٍ لا تَمَنِّي وعَمَل – لم أُعْطَ كتابي ، ولم أعلم ما هو حسابي وجزائي .. " يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴿27﴾ " أيْ ويا لَيْتَ المَوْتَة التى مِتّها فى الدنيا كانت هى الموتة النهائية الفاصِلَة القاطِعَة التى لا حياة لى بعدها حتي لا أُبْعَث ولا أحاسَب ولا أعذّب حيث كَذّبت بكل هذا ولم أُحْسِن أبداً الاستعداد له ففَعَلْتُ كل شرّ .. " مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ﴿28﴾ " ، " هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴿29﴾ " أيْ ويَستمِرّ في تَحَسُّره ونَدَمه قائلا ما نَفَعنِي شيءٌ مَلَكْتُه في الدنيا بأيِّ نفعٍ الآن فينقذني ولو مِن لحظةِ عذاب .. " هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴿29﴾ " أيْ لقد زالَ عَنِّي وانتهي فى هذا اليوم ما كنت أتمتّع به فى الدنيا من سلطانٍ ونفوذٍ وقوةٍ وجاهٍ ومَنْصِبٍ وأعوانٍ وحتي حجَج أتحَجَّج وأعتذر بها الآن كما كنت أحْتَجّ وأُخَاصِم في حياتي المسلمين وأعتدي عليهم وغيرهم ، فليس معي منها حاليا أيّ شيءٍ وبَقِيتُ فقيراً ذليلاً بلا مُنْقِذٍ ولا مُعِين
أمّا معني " خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴿30﴾ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴿31﴾ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴿32﴾ " أيْ حينها يقول تعالي لملائكة العذاب الغِلاَظ الشِّدَاد خُذُوا هذا المُجرم فاربطوه وشدّوه بالأغلال أي القيود والسلاسل الحديدية رَبْطَاً وشَدَّاً شديداً في رقبته ويديه ورجليه وجُرُّوه وهو في مُنتهَيَ الذلّة والإهانة والاستسلام إلي حيث يُقْذَف في عذاب جهنم بكلّ أنواعه المختلفة المُخِيفة .. " ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴿31﴾ " أيْ ثم في النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل احرقوه واشْوُه .. " ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴿32﴾ " أيْ ثم في سلسلةٍ من حديدٍ طولها سبعون ذِراعاً فأدخلوه فيها ، والذراع هو وحدة معروفة من وحدات قياس الأطوال في الدنيا مُقَدَّرة بذراع الإنسان أمّا في الآخرة فلا يَعلم مِقْداره إلاّ الله تعالي ، والمقصود أنها بالِغَة الطول شديدة القوة بحيث يُحاط بها إحاطة تامَّة مُحْكَمَة مُؤْلِمَة فيُقْذَف فى الجحيم وهو مُقَيَّد مُهَان تماماً فيها لا يستطيع الإفلات
ومعني " إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴿33﴾ " ، " وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿34﴾ " أيْ هذا هو السبب الأساسي لِمَا هو فيه من عذاب ، أنه كان في دنياه لا يُصَدِّق بوجود الله العظيم ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففَعَلَ بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا يُؤْمِن بحساب ، وكان شديد البُخْل في فِعْل الخير بكلِّ صوره ولم يَحُضّ أيْ يَحُثّ ويُشَجِّع ويَدْفَع غيره عليه ، سواء أكان إطعاما للمساكين أم علما أو عملا نافعا قاصداً به الخير لذاته وللآخرين ، بل كان قاسي المشاعر نحوهم يمنع كثيرا عنهم أيَّ خيرٍ ونفعٍ وإحسانٍ وإسعاد
ومعني " فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ﴿35﴾ " ، " وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ﴿36﴾ " ، " لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ﴿37﴾ " أيْ فبالتالي وكنتيجة لكل ذلك فهو ليس له اليوم أيْ يوم القيامة هنا في الدار الآخرة وفي جهنم أيّ قريبٍ أو صَدِيقٍ يَدْفع عنه وينقذه مِمَّا هو فيه .. كذلك ليس له أيّ طعامٍ يأكله عند جُوعِه إلا الطعام الذي هو من غسلين أيْ من غُسَالَة أهل النار التي هي دم وقَيْح وصَديد وغيره مِمَّا يسيل من أجسادهم المحترقة بالنار والذي لا يعلم سوءه إلا الله تعالي ، فيُؤْمَر أن يَأكله قَهْرَاً عندما يجوع ، كنوعٍ من أنواع عذاب جهنم .. " لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ﴿37﴾ " أيْ وهو طعام شديد السوء لا يأكله أحدٌ كصورةٍ من صور التعذيب إلا الذين ارتكبوا الأخطاء في حياتهم أيْ فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها ويرجعوا عنها وأصَرّوا عليها حتي موتهم
فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ﴿38﴾ وَمَا لا تُبْصِرُونَ ﴿39﴾ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿40﴾ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ﴿41﴾ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴿42﴾ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿43﴾ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ﴿44﴾ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿45﴾ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿46﴾ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴿47﴾ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴿48﴾ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ﴿49﴾ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿50﴾ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴿51﴾ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿52﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ﴿38﴾ وَمَا لا تُبْصِرُونَ ﴿39﴾ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿40﴾ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ﴿41﴾ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴿42﴾ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿43﴾ " أيْ هذا تعبير في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً القَسَم ! وأنَّ المُقْسَم عليه هو أمر عظيم جدا وأوضح وأصدق من أنْ يحتاج إلي قَسَمٍ أصلا ! أيْ بعد كل ما ذُكِرَ سابقا من كلامٍ صادقٍ ومعجزاتٍ ورحماتٍ فلا داعي أنْ أقْسِم ! إنه لقول رسول كريم ! أيْ أقْسِم بما تُبْصِرون أيْ ترون حولكم من مخلوقاتنا المُعْجِزات المُبْهِرات في كل كوْننا كالسماء والأرض والجبال والبحار والبَشَر والنباتات والحيوانات والجمادات وغيرها ، وبما لا تُبصرون من مخلوقات أخري لا ترونها ولا يعلمها إلا نحن ، أنَّ القرآن بالتأكيد بلا أيِّ شكٍّ هو مِن عندنا يقوله ويُبَلّغه لكم رسول كريم أيْ نَفِيس في أخلاقه ومَكَانَته بين قومه وعندنا ! وهل هذا يحتاج إلي قَسَمٍ عند أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ؟! .. ولقد أقْسَمَ بها سبحانه للتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل .. إنَّ الله تعالي لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ ما تُبْصِرون وما لا تُبْصِرون .. إنه تعالي يُقْسِم بمُعجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، والمقصود التذكرة بتمام قُدْرته وتصرّفه في الكوْن والخَلْق وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ﴿41﴾ " ، " وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿42﴾ " أيْ وليس أبداً القرآن العظيم المُعْجِز حتماً هو مِن قول بَشَرٍ كشاعرٍ مثلا أو كاهن – وهو الذي يَدَّعِي أنه يعرف الأشياء الغَيْبِيَّة المستقبلية ويُخْبِر عنها – كما قد يَدَّعِي بعض المُكذبين المُعاندين المُستكبرين كذبا وزُورَاً وتخريفاً وسَفَاهَة وإنما هو بلا أيّ شكٍّ تنزيل من الله رب العالمين .. إنَّ الجميع يعلم أسلوب الشعر ويعلم أنَّ القرآن الكريم ليس بشعرٍ أبدا وأنَّ الرسول ﷺ الذي هم يُلَقِّبونه بالصادق الأمين ليس بشاعرٍ مُطلقا ولم يُنَظّم القرآن علي هيئة الشعر كذبا علي الله وإنما هو وَحْي أوْحاه إليه ليُبَلّغه للناس ليعملوا بأخلاقه كلها ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فبَلّغه بكلّ صِدقٍ وأمانة ، كما أنه بالقطع ليس سَجْعَاً وكلاماً سَفِيهَاً خياليّاً كالذي يقوله الكاهِن ! .. " .. قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ﴿41﴾ " ، " .. قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿42﴾ " أيْ لكنْ رغم كلّ ما ذُكِر إلاّ أنكم لا تؤمنون أيْ لا تُصَدِّقون بهذا ، فهذا تعبير في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً العَدَم ، كما يُقالُ مثلا هذه الأرض قليلا ما تُنْبِت يُراد أنها لا تنبت أصلا ، أو يُفيد أنهم صدّقوا بالفِعْل بأشياء قليلة لا بكل ما جاءهم به الإسلام كتصديقهم مثلا بأنَّ صِلَة الأرحام والعَفاف الذي كان يُوصيهم به الرسول ﷺ هو حقّ وصدق وصواب .. " .. قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿42﴾ " أيْ وأيضا لا تَتذكَّرون هذا كثيرا بل تتذكّرونه تَذَكّرا قليلا !! لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، ولا تتذكّرون ربكم وإسلامكم ، ولا تعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن ... ولكنَّ السبب في كل هذا الذي سَبَقَ ذِكْره في هذه الآيات الكريمة أنكم قد عَطّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿43﴾ " أيْ هذا القرآن الكريم هو مُنَزَّل مِن ربِّ العالمين – أي مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرشدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – لا مِن عند أحدٍ غيره كما يَدَّعِي المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ، وليس شِعْرَاً أو سِحْرَاً أو خُرافاتٍ أو كَتَبَه بَشَر أو ما شابه هذا من ادِّعاءاتهم الكاذبة ، بل فيه كلّ صدقٍ وخيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة لمَن يعمل بكل أخلاقه
أمَّا معني " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿44﴾ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿45﴾ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿46﴾ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴿47﴾ أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ القرآن العظيم هو من عند الله تعالي وحده وأنَّ أحداً مهما كان لا يمكنه أنْ يُغَيِّر فيه حرفا بزيادةٍ أو نقصانٍ وإلا هَلَك .. أيْ ولو فُرِضَ وادَّعَىَ علينا رسولنا الكريم شيئاً من الأقوال لم نَقُلْه كذبا وزُورَاً فزادَ أو نقص فيما أوحيناه إليه أو قال شيئا من عنده فنَسَبَه إلينا – وليس كذلك حتما – لأخذنا منه باليمين أيْ لكُنَّا أخذناه لعقابه وعذابه بالقوّة والقُدْرة والشِّدَّة التامّة حيث لفظ اليمين يرمز لهذه الأحوال والصفات كما أنَّ لفظ الأخْذ يُفيد السرعة وعدم التَّرْك لأيِّ فترةٍ إذ لا يمكن لله تعالي أن يترك تحريفاً مَا في شَرْعه يَضُرّ الناس ويتعسهم في الداريْن دون إزالته سريعا وعقاب فاعله .. " ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿46﴾ " أيْ ثم بعد هذا الأخْذ باليمين لَكُنَّا قطعنا منه الشريان المُتَّصِل بالقلب الذي يُغَذّي المُخّ بالدم فيَنقطع عنه فيموت فورا .. " فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴿47﴾ " أيْ فليس منكم أيّها الناس حينها أبداً أيّ أحدٍ مهما بَلَغَت قوّته بحاجِزٍ ومانِعٍ عنه عقابنا هذا .. والمقصود من هذه الآيات الكريمة تأكيد أنَّ الرسول الكريم ﷺ صادقٌ حتماً لأنَّ الله تعالي تاركه يُبَلّغ عنه القرآن والإسلام بل هو مُعِينه بالمُعْجِزات المُبْهِرات والدلالات القاطِعات وحافظه وناصره ومُعِزّه علي مَن يُعادِيِه ، ولو كان غير ذلك لكان مَنَعَه وأهلكه بالقطع !
ومعني " وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴿48﴾ " أيْ وإنَّ هذا القرآن العظيم هو بكل تأكيدٍ فيه كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة .. لكنَّ الذي يَنتفع ويَسعد به تمام الانتفاع والسعادة هم المُتَّقُون أي المُتَجَنِّبون لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. أمّا غيرهم من المكذبين المعاندين المستكبرين المستهزئين الفاعلين للشرور والمَفاسِد والأضرار فهم بالقطع محرومون من كل هذا ، بل لهم كل شرّ وتعاسة علي قَدْر جرائمهم في الداريْن
أمّا معني " وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ﴿49﴾ " أيْ ونحن حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ نعلم بتمام العلم أنَّ منكم مُكَذّبين أيّها الناس لا يَخْفَيَ بالقطع علينا أمرهم حيث هم رغم وضوح كل الأمور بأدِلّتها القاطِعَة لكل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ كما ذُكِرَ في الآيات السابقة لا يُصَدِّقون بوجود الله ولا كتبه ورسله وحسابه وعقابه وجنته وناره وبالتالي يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا يؤمنون بحساب ، فأمثال هؤلاء سنُعاقِبهم بما يُناسب تكذيبهم وأفعالهم في دنياهم وأخراهم ، ففي الدنيا لهم كل قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة ينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. وفي هذا ذمّ وتهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
ومعني " وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿50﴾ " أيْ هذا بيانٌ لِمَا يكون عليه الكافرون من حسرة بسبب هذا القرآن العظيم ، في دنياهم وأخراهم ، والحسرة هي الندم الشديد المُتَكَرِّر علي أمر نافع قد فات ولا يمكن تَدَاركه ، ففي الدنيا تصيبهم الحسرة حينما يَفضح أكاذيبهم ويُظْهِر سَفَهَهم وضعف عقولهم بما يعبدونه غير الله تعالي ويَجعلهم أذِلّة حقيرين بِشَرِّهم بجانب الصدق والعدل والخير الذي يُوصِي به وحينما لا يستطيعون حتما الإتيان ولو بآية مثله عندما يَتَحَدَّاهم ولا يمكنهم تغيير ولو حرف فيه وتزداد حسرتهم وذِلّتهم وتعاستهم حينما ينصر الله المسلمين عليهم بسبب تمسّكهم وعملهم بأخلاقه ويُعِزّهم ويُمَكِّن لهم في الأرض ويُسعدهم بخيراتها ، ثم في الآخرة يكون حسرة عليهم لا تُوصَف وذلك عندما يرون حُسن مصير المؤمنين بسبب هذا القرآن إذ قد صَدَّقوا بربهم وبه وتمسّكوا بأخلاق الإسلام التي فيه وأحسنوا دعوة غيرهم إليه ونشروه ودافعوا عنه فوجدوا كل الخير والسعادة في جنات الخلود بعدما كانوا فيه من سعادة دنياهم بسببه ، بينما يرون سوء مصيرهم هم بسبب عدم تصديقهم به واتِّباعهم إيّاه ومُعَادَاته ومحاولة منع نَشْره حيث كل شرّ وتعاسة خالدين في النار ، بعد تعاستهم التي كانوا فيها في دنياهم
ومعني " وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴿51﴾ " أيْ وإنَّ هذا القرآن العظيم بكلّ تأكيدٍ هو حقّ أيْ صِدْق ثابِت لا يَتَغَيَّر وهو يَقين أيْ مُؤَكَّد ليس فيه أيّ شكّ ، فهو الحقّ اليَقِينِيّ وهو اليَقِين الحقّ ، وكلّ من اللفظين – الحقّ واليَقين – معناهما مُتَقَارِب وجمعهما معا يُفيد مزيداً من التأكيد علي هاتين الصفتين العظيمتين للقرآن العظيم
ومعني " فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴿52﴾ " أيْ فبالتالي وبَعدَما سَبَقَ ذِكْره مِن دلائل ومُعجزات تدلّ علي تمام قُدْرته تعالي وكمال علمه وواسع رحمته وكرمه وفضله ، فسَبِّح إذَن يا كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ باسْم ربك أيْ مُرَبِّيك ورازقك وراعيك ومُرشدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك في دنياك وأخراك ، العظيم أيْ الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة ، فسَبِّحوه تعالي أيها الناس ، سَبَّحوه بكل أسمائه وصفاته ، أيْ نَزّهوه ، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به ، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴿1﴾ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴿2﴾ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴿3﴾ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴿4﴾ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴿5﴾ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ﴿6﴾ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴿7﴾ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴿8﴾ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴿9﴾ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴿10﴾ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴿11﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ﴿12﴾ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴿13﴾ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ﴿14﴾ كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ﴿15﴾ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴿16﴾ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ﴿17﴾ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُتَجَنِّباً تماما لعذاب الله في الدنيا والآخرة بالتمسّك والعمل علي الدوام بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، مع التوبة مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴿1﴾ " ، " لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴿2﴾ " ، " مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴿3﴾ " أيْ هناك مَن يسأل مِن المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ، يسأل المسلمين – أو يتساءلون فيما بينهم – بصورةٍ فيها تكذيب وعناد واستكبار واستهزاء واستهتار واستعجال واسْتِبْعاد للحُدُوث ، عن عذاب الله بهم الذي يَعِدُونهم به ، فإنْ لم يَنْزِل فهُم إذَن كاذبون ! رغم أنَّ العذاب هو واقع أيْ نازل حادث بهم بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لعقابهم ! في دنياهم حيث لهم كل قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم ينالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. إنهم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في الإسلام الذي يدعوهم المسلمون إليه ليسعدوا في الداريْن ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِهم !! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا !! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم ! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك ؟! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. " لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴿2﴾ " ، " مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴿3﴾ " أيْ هذا العذاب هو حتماً للكافرين – أيْ للذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففعلوا بالتالي الشرور والمفاسد والأضرار حيث لا يؤمنون بحساب – واقِع نازِل عليهم ليس له أيّ مانعٍ يَمنعه ويَرُدّه قبل نزوله أو يُخَفّفه أو يَرْفعه بعد حدوثه لأنه من الله تعالي ذي المعارج ، وهو اسم من أسمائه الحُسْنَىَ الكامِلَة يعني الذي يُعْرَج أي يُصْعَد إليه بأرواح وأعمال البَشَر ويعني أنه صاحب المعارج أيْ المَصَاعِد أيْ الدرجات العالِيَة التامَّة في العَظَمَة والهيبة والعُلُوّ والجلال والسلطان والنفوذ في كوْنه بأوامره التي تُنَظّمه علي أكمل وأسعد وجهٍ لخَلْقه وصاحب الدرجات التي تَصْعَد فيها الملائكة وهي السماوات المُرَتَّبَة بعضها فوق بعض لتنفيذ أوامره تعالي في الكوْن وصاحب النِّعَم التي لا تُحْصَيَ والتي يَرزق بها خَلْقه في دنياهم علي درجاتٍ مختلفة حسب جهودهم وصاحب درجات الجنة التي يُعطيها لأهلها الذين يستحِقّونها في أخراهم .. هذا ، وفى وَصْفه تعالي لذاته العَلِيَّة بذي المعارج بكل معانيه التي سَبَقَ ذِكْرها فيه مزيد من الرَّهْبَة والتهديد الشديد لهم بحَتْمِيَّة وقوع العذاب الذي ليس له دافع لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزوله بهم فيهما
ومعني " تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴿4﴾ " أيْ هو تعالي بعد أن خَلَقَ الكوْن كله بما فيه من مخلوقات ، يُسَيِّرُ كلّ أموره ، يُسَيِّرُها بكلّ دِقَّةٍ وإحكامٍ وانتظامٍ دون أيّ خَلَل ، لِنَفْع ولسعادة خَلْقه ، فأوامره سبحانه تنزل من السماء مع ملائكته لتُنَفّذها في المكان والتوقيت وبالأسلوب الذي يأمرهم به في الأرض وفي أي مكان من كوْنه ، ثم تَعْرُج إليه أي تصعد له ، أي تعود بعد التنفيذ ليُتابعها سبحانه – وكذلك تصعد الروح أيْ أرواح الخَلْق بعد موتها – وهذا يتمّ في لحظة أو لحظات يسيرة علي حسب الأمر ، حيث لفظ يوم عند العرب يعني أحيانا وقتا وليس عددا مُعَيَّنَاً من الساعات ، والأحداث والأفعال التي تقوم بها والمسافات التي تقطعها ذهابا وإيابا أثناء ذلك وما شابه هذا لو قام بها البَشَر لاحتاجوا ما يُعادِل خمسين ألف سنةٍ من سنواتهم التي يَحسبونها !! وهذا يدلّ علي عظيم مُلك الله تعالي واتِّسَاع كوْنه وعظيم علمه العالِم بكلّ شيءٍ وعظيم قدراته تعالي القادر علي كل شيء .. إنه تعالي يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا ويُقَرِّب المعاني لأفهامنا .. كما أنَّ الآية الكريمة تعني أيضا أنه بعد انتهاء أحداث الحياة الدنيا بكل ما فعله فيها مخلوقاتها والتي يُدَبِّرها كلها سبحانه ، تَصعد إليه نتائج كلّ هذا في يومٍ هو يوم القيامة ، والذي هو طويل جدا شاقّ بما فيه علي المُكذبين به كأنه خمسين ألف سنةٍ من سنوات البَشَر ، خفيف يسير علي المُصَدِّقين به المُسْتَعِدِّين له بالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم حيث يَمرّ عليهم كوقتِ صلاةٍ مِن الصلوات كما أخبر بذلك الرسول ﷺ ، فيُحاسِب يومها جميع البَشَر علي الخير بكل خيرٍ وسعادة وعلي الشرّ بكل شرٍ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، وقد ذُكِرَ في آية أخري أنَّ هذا اليوم مقداره ألف سنةٍ بما يُفيد أنَّ يوم القيامة يختلف طوله علي المُكَذّبين بحسب اختلاف شَدَّته حيث هو يعادل أحيانا ألف سنة من سنوات الدنيا وأحيانا أخري خمسين ألف سنة حينما تزداد أهواله عليهم ، وكذلك يختلف إحساس كل مُكَذّب بطوله علي حسب شروره ومفاسده وأضراره التي فعلها في دنياه
أمَّا معني " فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴿5﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما نَذْكُر لك دوْمَاً في القرآن العظيم أيها الرسول الكريم ولكم أيها المسلمون مِن أنّنا حتما سنَنصركم في الحياة الدنيا والآخرة وكما نذكر لكم مِن معاني طيِّبة فيه فبالتالي فكونوا إذَن من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ وكونوا من الذين إنْ أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر ، وعلى ما يقوله هؤلاء المُكذّبون من أقوالٍ لا يؤيدها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت ، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن ، هو حقّ ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. صَبْرًا جَمِيلًا ﴿5﴾ " أيْ يكون صبركم صبراً خاليا من أيِّ رفضٍ أو ضَجَرٍ أو سخط داخليّ أو شكوي لأحدٍ غير الله تعالي وإنما كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه والاستعانة به ودعائه فهو المُسْتَعَان به دائما في كل الأحوال خاصة عند الشدائد ، مع العمل قَدْر الاستطاعة علي محاولة التَّغَلّب علي الصعاب بكل إيجابية دون أيِّ سلبية بكل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة
ومعني " إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ﴿6﴾ " ، " وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴿7﴾ " أيْ إنَّ هؤلاء الكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم يَرَوْنَ في رأيهم الفاسِد السَّفِيه يوم القيامة ، وعذابهم فيه أو في دنياهم ، بعيدَ الحدوث أيْ مُسْتَبْعَدَاً مُستحيلاً لن يَحدث ، فهم لا يُصَدِّقون بقُدْرته تعالي علي ذلك ولا بالآخرة وبَعْثهم فيها بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا ليُحَاسَبوا ، وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴿7﴾ " أيْ ولكننا نحن ربّ العالمين – وكل المؤمنين بنا – نراه أيْ نعلمه واقعاً قريباً لأنه حادِثٌ كائِنٌ حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد وهو هَيِّن غير مُتَعَذّر علينا لتمام قُدْرتنا وكمال علمنا ويكون فى الوقت الذى حَدَّدناه بكل حكمةٍ بلا أيِّ عَبَثٍ والذي لا يعلمه غيرنا
ومعني " يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴿8﴾ " ، " وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴿9﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض أهوال وفظائع وأوصاف هذا اليوم ، أيْ يومها وحينها ، يوم القيامة ، تَتَغَيَّر هيئة السماء تماما حيث تذوب وتكون كالمُهْل أيْ كالنحاس والمعدن الساخن المُذاب .. " وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴿9﴾ " أيْ وأيضا تَتَغَيَّر هيئة الجبال تماما حيث تَتَفَتَّت وتكون كالعِهْن أيْ الصوف المَنْفُوش الذي تُطَيِّره الرياح
ومعني " وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴿10﴾ " أيْ ويومها وحينها أيضا لا يُمكِن أبداً أن يسأل قريبٌ أو صديقٌ قريباً أو صديقاً له أن ينصره أو يُعينه أو يُخَفّف أو يَمنع عنه ما هو فيه وينقذه منه لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم مشغول بهمومه مَذْهُول من فَظَاعَة الموقف
ومعني " يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴿11﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ﴿12﴾ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴿13﴾ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ﴿14﴾ كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ﴿15﴾ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴿16﴾ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ﴿17﴾ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴿18﴾ " أيْ يجعلهم الله يُبْصِر ويَرَيَ ويَعْرِف بعضهم بعضا ، أي يُعَرَّف كلّ حَمِيمٍ علي حَمِيمِه ، لكنه مع ذلك لا يستطيع مُطلقا أن يَطلب منه أيَّ عَوْنٍ لشِدَّة انشغاله بحاله وذهوله بالفظائع حوله ، فمعني يُبَصَّر بالشيء أي يُعَرَّف به ويُعْلَم بتفاصيله وأحواله .. " .. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴿11﴾ " أيْ يُحِبّ ويَتَمَنَّيَ المجرم بأقصَيَ درجة – وهو الذي ارتكب الجرائم بأنواعها المختلفة ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – لو يَفتدي نفسه أيْ يدفع فِدْيَة ، وهي ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن سوءٍ ما ، تنقذه وتُخَلّصه من عذاب يوم القيامة ، حتي ولو كان هذا الذي سيَدفعه في مُقابِل نَجَاته هو أعَزّ ما يملك وأقرب وأحبّ الناس إليه كأبنائه ، ولكن بالقطع لن يتحقّق له ما يَوَدّ بل سيُعَذّب حتما بما يناسب إجرامه حيث لا فداء يومها .. " وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ﴿12﴾ " أيْ ويَوَدّ أيضا لو يَفتدى نفسه بزوجته وبأخيه .. " وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴿13﴾ " أيْ ويَوَدّ كذلك لو يَفتدي نفسه بفصيلته أيْ قرابته التي انْفَصَلَ منها واسْتُخْرِجَ وهو مَنْسُوب إليها وتشمل الأب والأم والإخوان والأعمام والأخوال ونحوهم الذين كانوا في الدنيا يُؤْونه أيْ يَضُمّونه إليهم وهو فرد منهم ويدافعون عنه ويَحْمُونه وينصرونه وينفعونه ويساعدونه ، ولكن قطعا لن ينفعه أيّ أحدٍ منهم .. " وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ﴿14﴾ " أيْ وبالجُمْلَة يَوَدّ إن استطاع لو يَفتدي نفسه بأهل الأرض جميعا !! ثم يَتَمنَّيَ بعد كل ذلك الذي يُقَدِّمه من فداءٍ لو يُنْجِيه بأن يُقْبَلَ منه أن يَدْفَعه فيَنْجُو ، لكن يَستحيل هذا حتما ! فلفظ " ثم " يُفيد ضِمْنَاً هذه الاسْتِحَالَة وهذا الاسْتِبْعَاد لِمَا يَتَمَنَّاه .. " كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ﴿15﴾ " أيْ لا أيّها المجرم ليس الأمر كما تَوَدّ وتَتَمَنَّيَ فَارْتَدِعْ وتَرَاجَع وانْتَهِ عَمَّا تَتَمَنَّاه من الافتداء بأيِّ شيءٍ ولا يَرِد مُطلقا بفِكْرك ذلك لأنها لَظَيَ حَقّاً التي تنتظرك أيْ لَهَب خالِص أيْ نار شديدة الاشتعال تُعَذّبك علي قَدْر جرائمك .. " نَزَّاعَة لِلشَّوَيَ ﴿16﴾ " أيْ وهي من صفاتها أنها شديدة وكثيرة النَّزْع والقَلْع لأطراف الأجسام وللجلود وذلك من شِدَّة حرارتها .. والشَّوَيَ جمع شَوَاة وهي العضو غير الرأس مثل اليد والرجل وهي أيضا جِلْدَة الرأس .. " تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ﴿17﴾ " أيْ ومِن صفاتها أيضا أنها تُنادِي وتَعْرِف بالإسم وتَدعو لدخولها وعذابها وتَخْتَطِف وتَلْتَقِط كلّ مَن كان في دنياه قد أدْبَرَ أيْ أعْطَيَ دُبُرَه أيْ ظَهْره وتَوَلَّي أي ابْتَعَدَ ، أيْ كلّ مَن أعطي ظهره والتفتَ وانصرفَ وابْتَعَدَ عن الإسلام وتَرَكه وأهمله وخَالَفه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصراره التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار .. هذا ، واللفظان " أدْبَر " و " تَوَلّي " مُتَقَارِبان في مَعْنَيْهِما ومَجِيئهما معا للتأكيد علي سوء وفظاعة تصرّفه .. " وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴿18﴾ " أيْ وكان يجمع الأموال والممتلكات بعضها على بعض سواء من حلالٍ أم من حرامٍ فيجعلها في أوعيةٍ أيْ خزائن فيَكْنِزها ويَمنع زكاتها والإنفاق منها فيما يُفْرَض عليه الإنفاق فيه .. فلا يَتَشَبَّه أحدٌ به إذَن فيكون مصيره مثله
إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿19﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿20﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿21﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿22﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿23﴾ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿24﴾ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿25﴾ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿26﴾ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿27﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴿28﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿29﴾ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿30﴾ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿31﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿32﴾ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴿33﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿34﴾ أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴿35﴾ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴿36﴾ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ﴿37﴾ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ﴿38﴾ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ﴿40﴾ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿41﴾ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿42﴾ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴿43﴾ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿19﴾ " ، " إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿20﴾ " ، " وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿21﴾ " أيْ إنَّ الإنسان عموماً خَلَقَه خالِقه سبحانه بصفةٍ فيه من ضِمْن صفاته هي الاستعداد للهَلَع ، وهو سرعة وشدّة الخوف سواء في الخير أو في الشرّ بحيث إذا مَسَّه الشرّ أيْ أصابه حتي ولو كان قليلا خفيفا جَزعَ أيْ خافَ كثيرا واضطرب بشدّة وإذا جاءه خيرٌ حَرِصَ عليه فلم يُفَرِّط فيه .. والهَلَعُ من حيث الأصل هو صفة خيرٍ للإنسان ، فهو يُؤَهِّله لأنْ يكون دَوْمَاً خائفا عند فِعْلِ سوءٍ ما فيَعود عنه سريعا لربه ولإسلامه ، وكذلك يُؤَهِّله لأنْ يكون دوْماً حَذِرَاً مُتَوَازِنَاً بحيث أنه عند المُصيبة يصبر عليها فيَخرج منها مستفيدا استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ وبحيث أنه عند الخير يشكر رازقه سبحانه ويكون من المنفقين بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ من كل أرزاقه التي تأتيه منه في كل وجوه الخير ، فيحيا بالتالي حياته الدنيوية دائما في كل صوابٍ وأمنٍ وسعادةٍ ثم يَنال أعلي درجات الجنات في حياته الأخروية .. لكنْ إنْ أساءَ استخدام هذه الصفة بأنْ كان إذا مَسَّه الشرّ جَزُوعَاً أيْ كثير شديد الجَزَع أيْ الخوف والاضطراب مع قِلّة الصبر والاستعانة بالله تعالي والتوكّل عليه والسعي بإيجابية دون سلبية للتغلّب علي آثار ما أصابه بكل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة ، أو كان إذا مَسَّه الخير مَنُوعَاً أيْ كثير المَنْع له والحرص الشديد عليه والبُخْل به عن نفسه وغيره فلا ينتفع وينفع الآخرين ولم يُنفق منه فيما هو مَفروض عليه إنفاقه ، فليتحمّل إذَن نتيجة ذلك البُعْد عن ربه وإسلامه حيث كل تعاسة في دنياه ثم أخراه بما يُناسِب أفعاله السَّيِّئّة .. فالآية الكريمة لا تعني مُطلقا أنه سبحانه قد خَلَقَ الإنسان كذلك !! وهو الذي يقول " لَقَدْ خَلَقْنَاَ الإنْسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ " ﴿التين : 4﴾ (برجاء النظر لتفسيرها ، ثم مراجعة أيضا معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، ثم مراجعة الآية ﴿28﴾ من سورة النساء " .. وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفَاً " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولتكتمل المعاني﴾ ، ولكنَّ الإنسان قطعا هو الذي لم يُحْسِن استخدام عقله ويتعلّم الصبر والشكر ويتدرَّب عليه ويكتسبه تدريجيا مع الوقت كما يكتسب أيَّ أخلاقٍ ومَهَاراتٍ أخري يريدها
ومعني " إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿22﴾ " ، " الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿23﴾ " أيْ لكنْ حتماً يُسْتَثْنَيَ من ذلك السوء الذي سَبَقَ ذِكْره ويَنْجُو منه ويُعينه ربه علي النجاة ويُيَسِّر له أسبابها فلا يكون هَلُوعَا ، المؤمنون الذين آمنوا بربهم واجتهدوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم والاتِّصاف بصفاته الحَسَنَة الطيّبة المذكورة في هاتين الآيتين الكريمتين وما بعدهما من آيات والتي منها أنهم مُصَلّون يُؤَدّون صلاتهم الخَمْس المفروضة في أوقاتها علي أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ ما استطاعوا وهم دائمون مُواظِبون محافظون عليها مُوَاظَبَة تامَّة لا يتركونها في وقتٍ من الأوقات ولا يَشغلهم عن أدائها أيّ شاغِل
ومعني " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿24﴾ " ، " لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿25﴾ " أيْ ومن صِفاتهم الحَسَنة الطيّبة أيضا أنهم في أموالهم نصيب معيَّن فَرَضَه الله عليهم وهو الزكاة وغيرها مِمَّا يُفْرَض عليهم الإنفاق فيه حسبما تقتضيه الظروف والأحوال ، فهم دائما في كلّ أنواع أموالهم يجعلون نصيبا للمُحتاجين من الناس ، كما وَصَّاهم ربهم وإسلامهم ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بهذا التعاون والتكاتُف والتواصُل ، يُقَدِّمونه بكل حب وحرص وكرم وصِدْقٍ وتَشَوُّق وطَلَبَاً لعطاء الله لهم بمُقابِله في الداريْن ، يُعطونه للسائل منهم وهو الذي يحتاج مساعدةً ما فيسألهم فيُقَدِّمون له إيّاها ، والمَحروم وهو الذي حُرِمَ بعض الرزق لسببٍ ما كمرضٍ أو تَرْكٍ لعملٍ أو نحو هذا ولم يَسأل أحداً فحُرِمَ من العوْن وهذا يَعرفونه بدوام تواصُلهم مع مَن حولهم وسؤالهم عنهم فيكتشفون مثل هذه الحالات المُحتاجَة المُتَعَفّفة
ومعني " وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿26﴾ " أيْ ومن صفاتهم الحَسَنَة الطيّبة أيضا أنهم يتأكّدون تماما بلا أيِّ شكٍّ ولا يُكَذّبون بيوم الدِّين ، أيْ يوم الحساب والجزاء ، أيْ اليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن ، دين الإسلام ، لمَن كان عمل به ، فيُحْسِنون بالتالي الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ، فيَسعدون بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿27﴾ " ، " إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴿28﴾ " أيْ ومن صفاتهم الحَسَنَة الطيّبة أيضا أنهم في دنياهم مع أهلهم ومَن حولهم دائما في حالة إشفاقٍ من عذاب ربهم ، أيْ خوفٍ من الله ومِمَّا هم مُقْبِلُون عليه في الآخرة ، وكذلك مِمَّا يحدث لهم من بعض عذابه في الدنيا إنْ هم فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار فيُعَاقِبهم بما يُناسبها ليستفيقوا وليعودوا للخير ، لأنَّ عذابه غير مأمون الحُدُوث لمَن يَفعل ذلك ولا ينبغي لأحدٍ عاقلٍ أن يأمنه ويَطمئنّ أنه لن يَحدث ، وهو خوف الهيبة والعظمة مع الحب والرغبة في شفقته أيْ رأفته وعطفه وحنانه وحبه وتحصيل نِعَمه وخيراته وأفضاله ورحماته ، فعاشوا بالتالي حياتهم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف منه وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه ففَعَلوا كلَّ خيرٍ وتركوا كلّ شَرٍّ ما استطاعوا من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿29﴾ " ، " إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿30﴾ " ، " فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿31﴾ " أيْ ومن صفاتهم الحَسَنَة الطيّبة أيضا أنهم حافظون لفروجهم أيْ يمنعون العضو التناسليّ عن الزنا وهو الجِمَاع الجنسيّ بين رجل وغير زوجته وعن اللواط وهو جماع جنسيّ بين رجلٍ ورجلٍ وإدخال العضو في فتحة الشَّرَج وما شابه هذا ، فهم لا يُجَامِعُون إلا زوجاتهم – وكذلك النساء يحفظن فُرُوُجَهنّ فلا يُجَامِعْنَ إلا أزواجهنّ – أو ما مَلَكَت أيْمانهم أيْ اللاتي تَمْلِكه أيديهم والمقصود النساء اللاتي تَأْسِرهنّ الدولة المسلمة بعد الحروب ولا يَكُن لهنّ أزواج أو فقدنهن في الحرب ويَرْغَبْنَ في العيش في الدولة المسلمة مع البقاء علي دينهن فتقوم الدولة برعايتهن والإنفاق عليهن وإيجاد عمل لهن وتزويجهن حينما يُرِدْنَ الزواج ومِمَّن يريد الزواج منهن وهي صورة من صور حفظهن ورعايتهن وعيشهن بين المسلمين والمسلمات في المجتمع المسلم لعلهن يتعلمن الإسلام فيُصبحن مسلمات فيَسعد الجميع .. فإنهم في هذه الحالة غير مُؤَاخَذِين حتماً علي تَرْك الحِفْظ لأنه أمرٌ حَلالٌ أيْ مُفِيدٌ مُسْعِدٌ مِمَّا أحَلّه الله تعالي في الإسلام .. " فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿31﴾ " أيْ فمَن طَلَبَ وفَعَلَ غير ذلك ، أيْ يَزْنِي ، فقد اعتَدَيَ علي شرع الله ، علي الإسلام ، أيْ جاوَزَ الحلال وهو المُفِيد المُسْعِد في الداريْن ودَخَلَ في الحرام وهو المُضِرّ المُتْعِس فيهما
ومعني " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿32﴾ " أيْ ومِن صفاتهم الحَسَنَة الطيّبة أيضا أنهم دائما يَحفظون تماما ولا يَخونون ويَرُدّون كل ما تمَّ الائتمان عليه عندهم سواء أكان مالا أم شيئا عَيْنِيَّاً أم أسراراً قولية أم ما شابه هذا ، وأعظم هذه الأمانات التي يُراعونها وأوّلها وأهمّها حفظ أمانة الله ورسوله ﷺ وهي الإسلام من خلال التمسّك والعمل به والدعوة له بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضِدّ مَن يعتدي عليه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. ثم هم دوْماً يُراعُون ولا يَنقضون أبداً عهودهم وعقودهم ومواثيقهم ومعاهداتهم ووعودهم ومواعيدهم ونحو هذا ، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالعمل بكل أخلاق إسلامهم ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، فبانتشار رعاية الأمانات وهذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس علي أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتما فيهما
ومعني " وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴿33﴾ " أيْ ومِن صفاتهم الحَسَنَة الطيّبة أيضا أنهم دائما يقومون بشهاداتهم أي يؤدونها بكل عدلٍ وصدقٍ وأمانةٍ بلا أيّ كتمانٍ ولا زيادةٍ أو نقصانٍ وتكون نواياهم بداخل عقولهم خالصة لنَيْل ثواب الله تعالى وخيره في الداريْن في مُقابِل طاعته بالقيام بها ولا يُخالِفوا الحقيقة أبدا مُراعاة لقَرَابَةِ قريبٍ مثلا أو مَحَبَّة محبوب أو نحو هذا .. هذا ، وقد تمَّ تخصيص القيام بالشهادة بالذكْر رغم أنها من الأمانات التي سَبَقَ ذِكْرها في الآية السابقة وذلك لبيان عظيم أهميتها وفضل أدائها لأنها تحفظ حقوق الناس وتسعدهم في دنياهم وأخراهم وبدونها يُظلمون ويتعسون فيهما
ومعني " وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿34﴾ " أيْ ومِن صفاتهم الحَسَنَة الطيّبة أيضا أنهم دائما على صلاتهم يحافظون أيْ يُؤَدّونها على أكمل وأفضل وجه ، فالآية السابقة رقم ﴿23﴾ تُفيد أنهم يُداومون عليها فلا يتركون أيّ وقتٍ من أوقاتها الخمسة ولا ينشغلون عنها بأيِّ شاغِلٍ بينما في هذه الآية الكريمة هم يحافظون علي كيفية أدائها بكل إتقانٍ ليسعدوا بآثارها في دنياهم ثم أخراهم ، وكلٌّ من الآيتين معناهما مُتَقَارِب ويُكْمِل ويُؤَكِّد بعضه بعضا ويُنَبِّه لأهمية الصلاة ويَمدحهم علي عنايتهم التامّة بها ويُشجعهم علي الاستمرار فيما هم فيه من خيرٍ كثيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن
ومعني " أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴿35﴾ " أيْ هؤلاء المُتَّصِفُون بهذه الصفات الحَسَنَة الطيِّبَة الذين وُصِفُوا في الآيات السابقة هم حتما يوم القيامة في جناتٍ أيْ في بساتين وقصور ليس فيها إلا النعيم التامّ الخالد حيث ما لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر ، وهم مُكْرَمون فيها أيْ مع ما هم فيه من تمام التنعيم والترفيه يكونون أيضا في غاية التكريم أيْ التعظيم والتوقير والتشريف من الله تعالي ومِن خَدَمِهم مِن ملائكته الكرام بما يُحَقّق لهم تمام السعادة .. وكل هذا هو إضافة قطعا إلي سعادة الدنيا التي كانوا فيها وكأنها كالجنة بسبب تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
أمَّا معني " فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴿36﴾ " ، " عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ﴿37﴾ " أيْ فبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ هذا استفهام للتَّعَجُّب من حال هؤلاء الذين كفروا بالله ومن تصرّفاتهم التى تدلّ على شدّة إصرارهم علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء حيث بعضهم يَتَجَمَّع حول المسلمين من أجل سماع القرآن لا لأنْ ينتفعوا بأخلاقه ويعملوا بها فيسعدوا في دنياهم وأخراهم بل لكي يَستهزئوا بما يسمعون منه من وَعْد المؤمنين بالسعادة في الداريْن ووعدهم هم بالعذاب والتعاسة فيهما !! .. أيْ ما للذين كفروا ؟! ما لهم ؟! ماذا بهم ؟! ما بالهم أيْ ما شأنهم وحالهم ؟! أيّ شيءٍ حَدَثَ لعقولهم حتي يأتوا قِبَلَك أيْ نَحْوَكَ أيها الرسول الكريم وأنت أيها المسلم وأنتم أيها المسلمون مُهْطِعِين أيْ مُسرعين مَادِّين أعناقهم مُوَجِّهين أنظارهم لا يَلتفتون لشيءٍ آخر من أجل سماع القرآن والإسلام ثم لا ينتفعون بما يسمعون بل يُسارعون في أن يُكَذّبوا ويُعانِدوا ويستكبروا ويستهزؤا رغم كل ما يسمعونه من خير ؟!! إنهم لا يريدون الاهتداء بل يَبحثون واهِمين عَمَّا يُمَكِّنهم من المزيد من التكذيب والاستهزاء !! فهم يأتون إليكم مُسرعين يسمعون ثم يَفِرّون أيضا مُسرعين خائبين بلا فائدة ! لا في الهداية لله وللإسلام ولا في الحصول علي ثغرات في الإسلام يُسِيؤون بها إليه ! إنهم يأتونكم ويُسرعون فارِّين " عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ﴿37﴾ " أيْ من كل الأماكن والجِهات وهم عِزِين أيْ مجموعات جَمْع عِزَة وأصلها عِزْوَة وهي المجموعة القليلة .. وما كل ذلك السوء الذي هم فيه إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ﴿38﴾ " ، " كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾ " أيْ هل يَطمع أيْ يَأمل ويَحْرِص حرصاً شديداً ويَرْغَب رغبة كبيرة – واهِمَاً – كلّ واحدٍ من أمثال هؤلاء حين يسمع في القرآن والإسلام وَعْدَ الله للمؤمنين بدخول جنةٍ كلها نعيم تامّ دائم خالد يوم القيامة أن يُدْخَل معهم هو أيضا بدون أن يكون مؤمنا متمسّكا عامِلاً بأخلاق الإسلام مثلهم ؟! ما هذا السبب الوجيه المضمون الذي يجعلهم هكذا يطمعون في دخولها وهم لم يُقَدِّموا غير تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ؟! .. " كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾ " أيْ لا أيّها الكافر ليس الأمر كما تَطْمَع وتَتَمَنَّيَ فَارْتَدِعْ وتَرَاجَع وانْتَهِ عَمَّا تَطمع فيه ولا يَرِد مُطلقا بفِكْرك ذلك لأنها جهنم حَقّاً التي تَنتظرك في أخراك تُعَذّبك علي قَدْر شرورك ومَفاسِدك وأضرارك إضافة إلي ما ستُعَذّب به في دنياك بسبب هذه الأفعال .. " .. إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي لفظ " كلاَّ " وتوضيحٌ لسبب هذا المَنْع من الطمَع ، أيْ علي هؤلاء الكفار ومَن يَتَشَبَّه بهم ألاّ يطمعوا أبدا في دخول الجنة لأننا قد خلقناهم – كما كلّ البَشَر – مِمَّا يعلمونه وهو المَنِيّ ، الماء المَهِين الضعيف المَعلوم ، فكيف يدخلون الجنة المُكَرَّمة المُشَرَّفَة وهم مُسْتَقْذَرُون هكذا ولم يَتَطَهَّروا ويَرْتَقُوا بأنفسهم بإحسان استخدام عقولهم بالإيمان بربهم والعمل بأخلاق إسلامهم مثلما فَعَلَ المؤمنون الذين سَعِدوا بذلك في الداريْن ؟! بل لقد فَعَلوا ما لا يَلِيق بضعفهم وهو التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء فليتذكّروا إذَن إنْ كانوا عقلاء أصل خِلْقَتِهم ليتأكّدوا أننا قادرون تماما علي عذابهم وإهلاكهم في دنياهم ثم عدم إدخالهم جنة النعيم في أخراهم عندما نَبْعثهم ونُعيد خِلْقَتهم مرَّة أخري بعد موتهم وكوْنهم ترابا بقُدْرتنا كما خلقناهم المَرَّة الأولي مِمَّا يعلمون حيث الخِلْقَة الثانية أهْوَن من الأولي حتما لأنها أصبحت معروفة !! وكلاهما عند الله سهل ميسور فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون ولكنه يُخاطِب الناس بما تفهمه عقولهم
ومعني " فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ﴿40﴾ " ، " عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿41﴾ " أيْ هذا تعبير في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً القَسَم ! وأنَّ المُقْسَم عليه هو أمر عظيم جدا وأوضح وأصدق من أنْ يحتاج إلي قَسَمٍ أصلا ! أيْ بعد كل ما ذُكِرَ سابقا من كلامٍ صادقٍ ومعجزاتٍ ورحماتٍ فلا داعي أنْ أقْسِم ! أنَّنا قادرون ! وهل هذا يحتاج إلي قَسَمٍ عند أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ؟! .. أيْ أقْسِم بذاتِنَا العَلِيَّة ، أقْسِم بمَن خَلَق كلّ المَشارِق والمَغارِب – حيث بدوران الأرض وبحركة الشمس فإنها تُشرق في مكانٍ ثم آخر فلها إذَن مَشارق كثيرة يوميا وتَغْرُب في المقابِل في مَغارِب كثيرة – أننا قادرون علي كلّ شيء .. وهو سبحانه ربُّ كلّ ذلك أيْ مالِكه ومُدَبِّر كلّ شئونه ، وكلّ هذا النظام المُحْكَم الدقيق المُبْهِر هو من نِعَمه ورحماته التي لا تُحْصَيَ علي خَلْقه لنفعهم وسعادتهم والتي عليهم أن يتَذَكَّروها ويشكروها .. ولقد أقْسَمَ سبحانه بها للتنبيه بشأنها ولِمَا فيها من الدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل .. إنَّ الله تعالي لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. والمقصود التذكرة بتمام قُدْرة الله تعالي وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿41﴾ " أيْ إنّا قادرون حتماً بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ بتمام قُدْرتنا وكمال علمنا علي أن نستبدل أمثال هؤلاء الكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم بأقوامٍ أفضل وأطْوَع لنا منهم كما خَلَقَناهم هم ، إمَّا بإهلاكٍ سريع لهم واستئصالٍ تامٍّ من الحياة بزلازل وصواعق وفيضانات ونحوها إنْ كانت شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم تستحِقّ ذلك كما يَحدث أمامهم واقعيا كثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ، وإمَّا بأن يأتي تدريجيا مع الوقت مِن بعدهم مِن ذُرِّيَّاتهم وذُرِّيَّات غيرهم بأناسٍ لا يكونوا أمثالهم في سوئهم بل يكونوا صالحين عابدين لربهم وحده مُجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن .. كذلك من معاني الآية الكريمة أننا قادرون حتما يوم القيامة علي أن نبَدِّل ذواتهم خَلْقَاً خيراً من خَلْقهم الذي هم عليه في دنياهم بما يُناسِب عالَم الخلود الأخرويّ ، حيث يكون المؤمن علي أحسن حال ، حال الشباب والنضارة والتّمتّع والسعادة ، لكنَّ الكافر قطعا يكون علي أسوأ حال ، حال البؤس والذلّة والإهانة والرعب والتعاسة .. " .. وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿41﴾ " أيْ ولسنا بمَغْلوبين ، أيْ حتما لا يَغلبنا أيّ أحدٍ أو شيءٍ ويَسْبِقنا ويَفُوتنا ويَجعلنا عاجزين عن فِعْل أيِّ شيءٍ من ذلك .. هل يتوهَّمون مثلا أن يَسبقوا الله تعالي أيْ كأنهم يهربون منه وهو يُطارِدهم فيَسبقوه في الجَرْي أيْ يَفلتوا من عقابه ؟!! كلا بالقطع !! .. إنَّ كل هذا أمرٌ سهلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس عليه بعزيز أيْ صعب أو بعيد التحقّق .. وفي الآية الكريمة حثّ للناس علي الاجتهاد التامّ في العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا تماما فيهما ويُسْتَبْدَلوا بغيرهم ويُعَذّبوا ويُهْلَكوا بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ، كما أنها تحذيرٌ شديدٌ للكافرين ولكل مَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، وطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني " فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿42﴾ " أيْ فإذا أصَرَّ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُفْتَرون علي الله كل أنواع الكذب ، علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وافترائهم ، فذرْهم إذن ، أيْ اتركهم فيما هم فيه ، فلقد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة ، فاتركهم يخوضوا أي يَنْغَمِسوا ويَتَوَغّلوا ويسيروا ويزدادوا ويستمرّوا في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين ، حتي يحين الوقت الذي يُلاقون ويُقابلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وعدناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أفعالهم ومصيرهم ، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. وفي الآية الكريمة تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون ، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب .. كما أنَّ فيها تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني " يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴿43﴾ " أيْ هذا اليوم الذي يُوعَدون فيه بالعذاب الأخرويّ هو يوم القيامة يوم يَخرجون من القبور مُتَّجِهين إلي ربهم حيث يُحاسِبهم علي ما قدَّموا من أقوالٍ وأفعالٍ في حياتهم الدنيا مُسْرِعين في وقتٍ واحد ودون تأخير لمكان الحَشْر بأجسادهم وأرواحهم تلبية لقول كن فيكون مِن خالقهم القويّ القدير .. " كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴿43﴾ " أيْ كأنهم في إسراعهم يَسيرون إلى شيءٍ مَنْصُوبٍ كرَايَةٍ أو عَلَمٍ يُوفِضون إليه أيْ يَنطلقون ويُسرعون نحوه بصورةٍ فيها خوف شديد ودَفْع وتَدَافُع فيما بينهم وتَزَاحُم وتَخَبّط وعشوائية وذِلّة ومَهَانَة ، بسبب سوء أفعالهم في دنياهم
ومعني " خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿44﴾ " أيْ وحالهم حينها أنهم ذليلة مُنْكَسِرَة أبصارهم لا يرفعونها تُغَطّيهم ذِلّة مُرْهِقَة شديدة مِمَّا هم فيه من خِزْي وعارٍ وعذابٍ يَكْسر أعينهم ويَخفضها ويذلّها .. " .. ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿44﴾ " أيْ ذلك هو اليوم الذي وُعِدُوا به في الدنيا وهو يوم القيامة وكانوا يُكَذّبونه ويَسخرون منه فهَا هو قد وَقَعَ فِعْلِيَّاً فليَذوقوا إذَن ما يستحقونه من عذابٍ يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿1﴾ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿2﴾ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ﴿3﴾ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ﴿5﴾ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ﴿6﴾ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴿7﴾ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ﴿8﴾ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴿9﴾ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿10﴾ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴿11﴾ وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴿12﴾ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴿13﴾ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴿14﴾ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ﴿15﴾ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴿16﴾ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴿17﴾ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴿18﴾ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ﴿19﴾ لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴿20﴾ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴿21﴾ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ﴿22﴾ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴿23﴾ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴿24﴾ مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ﴿25﴾ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴿26﴾ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴿27﴾ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تسلية وطمأنة وتبشير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحق والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصة نوح ﷺ والتي ذكرت في آيات أخري متعددة في سورة الأعراف ويونس وهود والشعراء والعنكبوت ، وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعتها من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿1﴾ " أيْ نحن قد بعثنا رسولنا الكريم نوحا إلي مَن يُقيم فيهم ومَن حوله مِن الناس ليُبَلّغهم الإسلام ليسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وقلنا له أنْ حَذّرهم قبل أنْ ينزل بهم عذابٌ مُوجِعٌ مُتْعِسٌ فيهما إذا هم لم يستجيبوا
ومعني " قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿2﴾ " أيْ قال نوح مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي إني لكم نذيرٌ مُبِين أيْ مُبَيِّن أيْ مُوَضِّح لكل الناس حولي أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة ، ونذير أيْ مُنْذِر أي مُحَذّر الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم ، وليَتَحَمَّلوا إذَن نتيجة سوء أعمالهم .. هذا ، وكما أنه مُنْذِر فهو أيضا حتما مُبَشِّر بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآية السابقة يتكلم عن الإنذار لمَن لم يَسْتَجِب
ومعني " أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ﴿3﴾ " أيْ أوصِيكم وأقول لكم أن اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَاتَّقُوهُ .. " أيْ وكونوا دوْما من المُتَّقين له أيْ الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. " .. وَأَطِيعُونِ ﴿3﴾ " أيْ واستمعوا لكلامي واستجيبوا لِمَا أنصحكم به من خيرٍ ولما أمنعكم منه من شرٍّ لأنَّ طاعتي هي طاعة لله تعالي وأنا لا أوصيكم إلا بوصاياه والتي هي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ " أيْ فإنْ استجبتم لِمَا أدعوكم إليه من خيرٍ فإنَّ الله تعالي حتما يَعفو لكم عن ذنوبكم ويَغفرها أيْ يَسترها عليكم ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُحاسبكم عليها .. أيْ إنْ أطعتم فيما دَلَلْتكم عليه وأرشدتكم إليه فالنتيجة الحَتْمِيَّة المُسْعِدَة هي تمام السعادة في الدنيا والآخرة حيث في دنياكم تعيشون أسعد حياة بسبب إيمانكم بربكم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم بأن تكونوا في نور الإيمان ، نور القرآن ، نور الإسلام ، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسعادة ، وكل ذلك سيكون في إطار رحمته التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ خير وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ حيث سيَغفر لكم ذنوبكم بتوبتكم إليه بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لأنه تعالي غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، رحيم أي كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. هذا ، ولفظ " مِن " يُفيد حُسن التأدُّب في التعامُل مع الله تعالي حيث تَرْك مغفرة الذنوب له وهو أرحم الراحمين حسبما يراه برحمته التي وَسَعَت كلّ شيءٍ وتَسْبِق دائما غضبه فقد يَغفرها كلها أو يُحاسِب علي بعضها لأنه كان يَحتاج إلي توبةٍ ولم يُتَب منها ولم تُرَدّ الحقوق لأصحابها وما شابه ذلك .. " وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى .. " أيْ ويُطِيل آجالكم في دنياكم إلي أجلٍ مُسَمَّي أيْ إلي موعدٍ مُحَدَّدٍ مُعَيَّنٍ هو وقت موتكم بأنْ يُبَارِكَ لكم في أعماركم فيها بأن يجعلها كلها في خيرٍ وأمن وسعادة بأنْ يُيَسِّرَ لكم فِعْل أعمال خير مُسْعِدَةٍ كثيرةٍ في أوقات قليلة .. فبهذا تكون آجالهم كأنها قد طالَت حيث لا يزيد الله أحداً وقتاً عن الأجل الذي حَدَّده له في دنياه .. " .. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ .. " أيْ سارعوا بالاستجابة للإسلام قبل أن يأتي أجَلُ الله الذي لا يُمكن تأخيره أبداً ولو للحظة لأيِّ سبب ، سواء أكان هذا الأجل هو موعد نزول العذاب الدنيويّ بكم كعقابٍ لكم بسبب عدم استجابتكم وفِعْلكم الشرور والمَفاسد والأضرار ، أو الموت الذي يأتي فجأة فيُفاجئكم قبل أن تُؤمنوا فتَموتوا وأنتم علي الكفر ، أو يوم القيامة حيث عذاب النار إنْ مُتُّم علي ذلك .. " .. لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ " أيْ لو كنتم تعقلون ، أيْ لو كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به ، فلو كنتم كذلك لسَارَعْتم إذَن إلى الاستجابة لما أدعوكم إليه قبل مَجِيئه وبذلك تنجون من العقاب في الدنيا والآخرة وتسعدون تمام السعادة فيهما
ومعني " قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ﴿5﴾ " أيْ هذا بيانٌ لكل مسلم عن كيفية إحسان الدعوة لله وللإسلام بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة والصبر علي أذي المَدْعُوين والاستعانة بالله لتيسير أسبابها والتوفيق فيها والعَوْن عليها (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. أىْ قال نوح مُتَوَجِّهَاً إلى الله مُستعينا به سائلا إيّاه التيسير والنجاح يا رب إنك تعلم أننى لم أقَصِّر فى دعوة قومى والناس إليك وإلي الإسلام في أيِّ وقتٍ مناسبٍ سواء بالليل أو بالنهار بكل هِمَّة وحماسٍ وأملٍ وحِرْصٍ شديدٍ ومُوَاظَبَة تامّة وتَنَوّعٍ كبيرٍ في الوسائل من غير أيِّ مَلَلٍ أو ضعف أو تقصير أو تَهَاوُن أو يأس
ومعني " فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ﴿6﴾ " أيْ فلم يزدادوا بدعوتي لهم قُرْبَاً منك يا رب ومن الإسلام ومِنِّي ولكن ازدادوا هروبا مِنَّا وبُعْدَاً عنّا
ومعني " وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴿7﴾ " أيْ وهذا بيانٌ لمزيدٍ من الهروب والبُعْد عن الله والإسلام والإصرار علي ذلك .. أيْ وإني يا رب في كل وقت كلما دعوتهم لك وللإسلام ليُسْلِموا لكي يَحْيوا في إطار مغفرتك ورحمتك والتي تَتَمَثّل في كلّ خيرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ وَضَعوا أصابعهم في آذانهم لكي لا يستمعوا للخير وكذلك جعلوا ثيابهم كالغِشاء والغِطاء علي رؤوسهم وعيونهم حتي لا يروني ولا يفهموا مِنِّي شيئا مِمَّا أدعوهم إليه كراهية منهم فيمن يُذَكِّرهم بالخير واستَمَرّوا تماما دون أيّ تَرَاجُعٍ علي تكذيبهم وعِنادهم وشَرِّهم مع علمهم أنه شَرّ وتَعَالَوْا تَعَالِيَاً عظيما عن قبول الحقّ والعدل والخير الذي في الإسلام ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
ومعني " ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ﴿8﴾ " ، " ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴿9﴾ " أيْ ومع كل هذا التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء فقد استمرّ نوح ﷺ في دعوته لهم بكل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة بكل هِمَّة وحماسٍ وأملٍ وحِرْصٍ شديدٍ ومُوَاظَبَة تامّة وتَنَوّعٍ كبيرٍ في الوسائل من غير أيِّ مَلَلٍ أو ضعف أو تقصير أو تَهَاوُن أو يأس .. أيْ ثم إني بَعْدَ كلّ ذلك البُعْد قد دعوتهم لك وللإسلام بكل حكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة جِهَارَاً أيْ عَلَنَاً بين الناس وأمامهم جميعا في كل مكانٍ مُمكن مُجَاهِرَاً بالدعوة ظاهِراً بلا أيّ خَفَاء .. " ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴿9﴾ " أيْ وجَمَعْتُ لهم بين الدعوة العَلَنِيَّة أحيانا لبعضهم لظَنِّي أنَّ ذلك هو المناسب لهم – وهذا تأكيدٌ علي الجهر بالدعوة الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة – وبين الدعوة السِّرِّيَّة لبعضهم الآخر لكوْنها أنْسَب لهم فأسِرّ بها إسراراً خَفِيَّاً فيما بيني وبينهم ، وأحيانا أخري أجمع بين هذا وذاك ، فلم أدَّخِر جهدا ، ليكون الأمر أكثر تأثيرا وأتَمَكَّن من تحقيق أفضل النتائج والاستجابات
ومعني " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿10﴾ " أيْ فقلت لهم مِمَّا قلته أثناء دعوتي اسألوا ربكم مغفرة ذنوبكم وتوبوا إليه مَمَّا فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين ، يغفر لكم حتما لأنه كان غَفّاراً أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غَفّارا أيْ كثير عظيم كامل المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم ، وكان رحيما أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني " يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴿11﴾ " ، " وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴿12﴾ " أيْ وقلتُ لهم أيضا عَمَّا تَعِدُهم به من كل خيرٍ وسعادة في دنياهم قبل أخراهم أن تَمَسَّكوا واعمَلوا بكل أخلاق إسلامكم واستغفروا ربكم وتوبوا إليه فإنكم إنْ فَعَلْتم ذلك يُنزل عليكم بفضله ورحمته من السماء مطرا مِدْرَارَاً أيْ كثير الدُّرُور أيْ السَّيَلان أيْ غزيراً مُتَتَابِعَاً بلا أضرار لتنتفعوا ولتسعدوا بكل خيراته وأرزاقه من زروع وثمار وحيوانات وغير ذلك فى كل شئون حياتكم .. " وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴿12﴾ " أيْ وكذلك يُسعدكم بأن يُزَوِّدَكم بأموال وممتلكات بكل أنواعها ويكثركم من الأبناء ويجعل لكم حدائق تنتفعون بثمارها وجمالها ويجعل لكم الأنهار التي تسقون منها زروعكم وحيواناتكم
أمَّا معني " مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴿13﴾ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴿14﴾ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ﴿15﴾ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴿16﴾ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴿17﴾ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴿18﴾ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ﴿19﴾ لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴿20﴾ " أيْ مع ترغيبهم في كل خير وسعادة في الداريْن كما قال لهم في الآيات السابقة كان يُرهبهم ويُحَذّرهم من عذابه تعالي إذا خالَفوا الإسلام ولم يستجيبوا له وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك حتي يَتَوَازَنوا بين رجاء عطاء الله وخوف عذابه فيسعدوا في دنياهم وأخراهم .. أيْ عَجَبَاً لحالكم !! ما لكم هكذا تستكبرون عَمَّا أدعوكم إليه وتُكَذّبون وتستهزؤن به ؟! ماذا بكم ؟! ما بالكم أيْ ما شأنكم وحالكم ؟! ماذا حَدَثَ لعقولكم ؟؟ ما الذي جعلكم لا تَطلبون ولا تَعلمون ولا تَرون لله وقاراً أيْ تَوْقِيرَاً وعَظَمَة وقَدْرَاً أيْ جعلكم لا تخافون عظمته وقُدْرته علي عذابكم بمَخالفته ولا تَرجون خيره بطاعته ؟! .. " وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴿14﴾ " أيْ كيف يكون هذا والحال أنه سبحانه هو وحده لا غيره الذي قد أوْجَدكم من عدمٍ في أطوار ومراحل مُتَعَدِّدَة كنُطْفَةٍ هي المَنِيّ من الرجل يَدخل إلي رحم المرأة فيَنمو ويَتطَوَّر فيه إلى أن يُخرجكم من بطون أمهاتكم إنسانا مُعْجِزَاً في عقله وفكره وجسده يَتطَوَّر من طفلٍ إلي شاب إلي شيخ كما ترون أمامكم في أنفسكم أقرب شيء لكم ؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟!! .. ولكنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ﴿15﴾ " أيْ وأيضا هل لم تُشاهدوا وتَنظروا وتَتَدبَّروا وتعلموا كيف أنه هو وحده لا غيره الذي أوْجَدَ من عدمٍ وعلي غير مثالٍ سابقٍ السماء مُكَوَّنَة من سبع سماوات علي هيئة طبقات بعضها فوق بعض وكل واحدة مُطابِقَة للأخري بغير أعمدةٍ مَرْئِيَّة بكل ما فيها من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِرات ؟! .. هل بعض معجزاته ودلالاته هذه لا تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ؟! .. هذا ، والاستفهام في الآية الكريمة للتقرير ، أي لكي يُقِرّ به كل العاقلون المُنْصِفون العادلون حينما يُذَكَّرون به .. " وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴿16﴾ " أيْ وأيضا ألم تَرَوْا أنه جعل في هذه السماوات مخلوقات نافعة مُسْعِدَة لكم كالقمر الذي جعله نوراً للأرض ومَن فيها خافِتَاً هادئا مناسبا لسكون الليل وللراحة فيه وغَيَّرَ مواضعه وانعكاساته من وقتٍ لآخر ليكون هِلَالَاً ثم مستديرا ثم يعود هلالا وهكذا بما يُعين علي تحديد الأيام والأسابيع والشهور والأعوام والأعمار .. وكذلك جعل فيها الشمس مصباحًا مضيئًا للناس ليعلموا نهارهم من ليلهم ليسعوا في طلب أرزاقه وخيراته تعالي لينتفعوا وليسعدوا بها وبطاقاتها وحراراتها التي تُدفيء برودة الهواء كما أنَّ ضوءها وظِلّها يُعين علي تحديد الساعات والدقائق والأيام .. " وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴿17﴾ " أيْ والله تعالى وحده لا غيره هو الذى أوْجَدَ وأنْشَأَ أصْلَكم أباكم آدم من ترابِ الأرض إنشاءً مُعْجِزَاً مُبْهِرَاً وجعلكم فروعا عنه ورزقكم وأطعمكم منها ورَعَاكم ونَمَّاكم فيها كما يُنَمِّي النباتات وغيرها .. " ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴿18﴾ " أيْ ثم يُعيدكم في الأرض بعد موتكم لتكون قبوراً لكم ولتعودوا تراباً ثم يُخرجكم منها إخراجاً مُحَقّقَاً بلا أيِّ شكٍّ يوم القيامة حيث يَبعثكم بقُدْرته أيْ يُحييكم بأجسادكم وأرواحكم مرة أخري بعد كوْنكم ترابا ليحاسبكم علي الخير بكل خير وسعادة وعلي الشرّ بما يناسبه من شرٍّ وتعاسة .. " وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ﴿19﴾ " ، " لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴿20﴾ " أيْ والله تعالى وحده لا غيره هو الذى جعل لكم بقُدْرته وعلمه وفضله وكرمه ورحمته الأرض مَبْسُوطَة مُمَدَّدَة مُمَهَّدَة كالبساط ، وجعلها لكم كذلك لكى تتَّخِذوا منها لأنفسكم سُبُلاً أيْ طُرُقَاً فِجَاجَاً أيْ مُتَّسِعَة جَمْع فَجّ وهو الطريق الواسع ، وبذلك يمكنكم سهولة الحركة والانتقال والانتفاع بخيراتها التي لا تُحْصَيَ والسعادة بها ، فهي صالحة مُؤَهَّلَة للحياة المُمْتِعَة عليها وللاستقرار وللتَّنَقّل فيها ولو كانت غير ذلك لَمَا تَحَقَّق لكم هذا
أمَّا معني " قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴿21﴾ " أيْ قال نوح ﷺ شاكِيَاً حاله لله تعالي مُفَضْفِضَاً له عَمَّا هو فيه سائلاً صبره وتثبيته وعوْنه عارِضَاً وَضْعَه وهو سبحانه أعلم به وبهم يا ربّ رغم كل ما قُمْتُ به من حُسْن دعوتهم وتَنَوّع وسائلها وصبري علي أذاهم لفتراتٍ طويلة إلا إنهم خالَفُوني ولم يَتَّبِعوا الإسلام الذي دعوتهم إليه ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم ولم يَكْتَفُوا بذلك بل واتَّبَعوا أيضا مَن كان صاحب مالٍ وقوة والذي لم يَزِدْه ماله وولده وأعوانه وسلطانه ونفوذه إلا خساراً أيْ سوءاً وإضاعة للسعادة وهَلَاكَاً وتعاسة في دنياه وأخراه لأنه لم يستخدمه في خيرٍ بل في الشرور والمَفاسد والأضرار سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجودك أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيرك كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. فتَعِسُوا بالتالي جميعا تابعين ومَتْبُوعِين في الداريْن
ومعني " وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ﴿22﴾ " أيْ وهذه صفة أخرى من صفاتهم السَّيِّئة ، أي ولم يَكْتَفِ أصحاب الأموال والأولاد والأعوان والقُوَيَ والسلطان والنفوذ بشرورهم ومَفاسدهم في ذواتهم وفقط بل أيضا مَكَرُوا بي وبالإسلام والمسلمين مَكْرَاً كبيراً جداً لا يُوصَف قد وَصَلَ أقصَيَ درجات العِظَم في المَكْر – والمَكْر هو التدبير فى خفاءٍ لإنزال سوءٍ مَا بالمَمْكُور به – حيث استخدموا إمكاناتهم في إيذائنا إيذاء شديدا قوليا وفعليا وفي مَنْع الناس عن اتَّباع الإسلام بتشويه صورته وصورتنا وبنشرهم الشرور والمَفاسد والأضرار فاستجابوا لهم لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴿23﴾ " أيْ ومن صور مَكْرهم الكُبَّار أيضا أنهم قالوا للناس حولهم لا تتركوا عبادة آلهتكم وتعبدوا الله وحده كما يدعوكم نوح ولا تتركوا خاصة هذه الآلهة الخمسة ، هذه الأصنام الأكبر والأعظم من غيرها والتي أسماؤها وَدّ وسُوَاع ويَغُوث ويَعُوق ونَسْر
ومعني " وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴿24﴾ " أيْ ولقد أضَلَّ أصحاب الأموال والأولاد والأعوان والقُوَيَ والسلطان والنفوذ كثيرا من الناس بدعوتهم لعبادة هذه الأصنام بَدَلاً عن عبادتك يا ربّ وبنشر الكفر وبمحاربة الإسلام والمسلمين وإيذائهم وبنشر الشرور والمَفاسد والأضرار ونحو هذا .. " .. وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴿24﴾ " أيْ بعدما أوْحَيَ الله تعالي إليه في قوله " وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ .. " ﴿هود : 36﴾ وتَأَكَّدَ أنهم لن يؤمنوا باستثناء القِلّة القليلة التي أسلمت معه رغم حُسن دعوته لهم وتنويع أساليبها لفترات طويلة هي ألف سنة إلا خمسين عاما وصبره التامّ علي أذاهم ، دعا عليهم بزيادة الضلال أيْ العذاب والهلاك بما يُناسب شرورهم ليَستريح أهل الخير منهم ومن شَرِّهم وتعاساتهم لأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم وغيرهم فأتعسوها وأتعسوهم مُصِرِّين تماما علي كل أنواع الظلم دون أيِّ رجوعٍ عنه سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا .. كذلك من معاني الآية الكريمة الدعاء عليهم بألاّ يزيدهم الله إلاّ ضلالاً أي لا يزيد مَكْرهم أيْ كَيْدهم إلا ضياعا فيَفْسَد ويَضعف ولا يُؤَثّر في الإسلام والمسلمين
ومعني " مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ﴿25﴾ " أيْ مِن خطيئاتهم أيْ بسببها ، جَمْع خطيئة وهي ما عَظُمَ من الذنْب ، سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، أُغْرِقُوا بالطوفان ، فأدْخِلُوا مباشرة ناراً شديدة في قبورهم كمُقَدِّمَةٍ وجُزْءٍ من عذاب النار قبل عذابها الأشدّ والتامّ يوم القيامة ، أو أُدْخِلُوها حتي أثناء غَرَقهم بقُدْرة الله تعالي باشتعال نيرانٍ حولهم وفيهم بسبب رياحٍ حينها .. " .. فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ﴿25﴾ " أيْ وهم عندما نَزَلَ بهم الفيضان الذى أهلكهم وعندما يَنْزِل بهم عذاب نار الآخرة لم ولن يجدوا حتما أيَّ أحدٍ ينصرهم ويَدْفع ويَمْنع عنهم عذابه تعالي لا مِن الأصنام التى كانوا في دنياهم يَتَوَاصون فيما بينهم بعبادتها ولا مِن غيرها .. وهذه الآية الكريمة ليست علي لسان نوح ﷺ وإنما هي بيانٌ منه تعالي كطَمْأَنَةٍ للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ، كما أنها تحذيرٌ شديدٌ لمَن يَتَشَبَّه بأمثال هؤلاء لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهم فيهما
ومعني " وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴿26﴾ " ، " إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴿27﴾ " أيْ بعدما أوْحَيَ الله تعالي إليه في قوله " وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ .. " ﴿هود : 36﴾ وتَأَكَّدَ أنهم لن يؤمنوا باستثناء القِلّة القليلة التي أسلمت معه رغم حُسن دعوته لهم وتنويع أساليبها لفترات طويلة هي ألف سنة إلا خمسين عاما وصبره التامّ علي أذاهم ، وَاصَلَ دعاءه عليهم قائلا يا ربّ لا تترك علي الأرض من الكافرين ديَّارَاً أيْ إنساناً ساكِنَاً في ديارٍ فيها ويَدُور ويتحرّك عليها ذهابا وعودة ، أيْ أهلكهم جميعا واستأصلهم تماما من الحياة ولا تترك منهم أيَّ أحد (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. " إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴿27﴾ " أيْ لأنك إنْ تتركهم دون إهلاكٍ واستئصالٍ تامٍّ سيُضِلّوا الناس أيْ سيضيعوهم بإبعادهم ومَنْعهم عن اتِّباع الإسلام بكل وسيلةٍ ولن يؤمنوا مستقبلا ولا أبناؤهم كما أوحيتَ إليَّ فهُم لن يَلِدوا إلا فاجِرَاً أيْ فاعِلاً بشدّةٍ وبكثرةٍ وبدوامٍ للشرور والمَفاسد والأضرار بلا اهتمامٍ لشيء ، كفّارَاً أيْ شديد الكفر بك وبنِعَمِك لا يشكرها ولا يُحْسِن استخدامها بأنْ تكون في خير
ومعني " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴿28﴾ " أيْ هذا دعوة لكل المؤمنين بربهم المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم ليَتَشَبَّهوا جميعا برسلهم الكرام وبالمؤمنين الأوائل في الحب وسلامة الصدور والتعاون والكرم والعدل فيما بينهم ودعاء بعضهم لبعض بالخير حتي يوم القيامة ونحو هذا من الأخلاقيات الإسلامية الحَسَنَة التي تسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. إنهم مِن حبّهم لكلّ مَن يحب الله ورسوله وإسلامه ومِن صفاتهم الحسنة يَدْعون ربهم بالمغفرة وبكل خيرٍ لأنفسهم ، ولوالديهم ، ولكل مَن دَخَلَ بيوتهم ودينهم ودولهم ومساجدهم وأماكن تواجدهم وهو مؤمن مُحِبّ مُتَعَاوِن ، ولإخوانهم المؤمنين ولأخواتهم المؤمنات ، الحَالِيِّين والمُسْتَقْبَلِيِّين ، وأيضا السابقين لهم في العصور السابقة اعترافا بفضلهم لأنهم تمسّكوا بالإسلام وعملوا به وحافظوا عليه ودافعوا عنه بكل ما يملكونه وبما يحتاجه ونشروه ودعوا إليه بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة وحملوه للناس جميعا جيلاً بعد جيلٍ حتي وَصَلَ إليهم ، ويدعونه تعالي كذلك بأن يكونوا دائما سَلِيمِي الصدر نحو كل مؤمنٍ وكل البَشَر فيما عدا المُعتدين لا يحملون لأحدٍ غِلَّاً أيْ عداوةً وحقداً وكُرْهَاً أو غيره بل كل خير ، فيحيا الجميع بهذه الأخلاقيَّات في كل أمنٍ وسلام وخير وسعادة في الداريْن ، فكل الأمة الإسلامية من أولها لآخرها مُتَرَابِطَة قوية عزيزة مُتَطَوِّرَة سعيدة يجمعها رابط الإيمان والحب متجاوزا أيَّ حدودٍ مكانية أو زمانية أو بيئية أو عرقية أو قبلية أو عائلية أو غيرها إلي قيام الساعة ويَحسب فيها السابقون حساب اللاحقين ويسير هؤلاء علي الآثار الحسنة لسابقيهم صفا واحدا على مدار العصور واختلاف الأماكن تحت راية الله ورسله ودينه الإسلام .. إنهم يسألونه تعالي كل ذلك وهم متأكّدون من إجابته لدعائهم لأنه الأحقّ بذلك حتما والقادر عليه لأنه رؤوف رحيم بجميع خَلْقه أيْ كثير الرأفة والرحمة ، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها وهو سبحانه كثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيء والتي هي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. " .. وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴿28﴾ " أيْ وهم يَتَشَبَّهون بالرسل الكرام من نوح ﷺ حتي خاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ في حُسن دعوتهم للناس جميعا لله وللإسلام وصبرهم تماما علي أذاهم ، إلا إذا غَلَبَ علي ظنّهم أنَّ بعضهم قد وَصَلَ إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول ، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير ، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير !! بل بعضهم لم يعد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك !! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وغَلَبَ علي ظنّهم أيضا أنَّ ظلمهم وضَرَرهم قد أصبح واسعا مُتْعِسَاً حيث ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، فإنهم حينها يلجأون إلي الله ليُخَلّصهم منهم فيسألونه تعالي أنْ يُعَاقِب الظالمين بالتَّبَار أيْ الهلاك والاستئصال التامِّ من الحياة ليستريح الخَلْق كلهم والكوْن كله من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتعاساتهم وتعود السعادة للجميع في دنياهم ثم أخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة﴾
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴿1﴾ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴿2﴾ وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴿3﴾ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ﴿4﴾ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴿5﴾ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴿6﴾ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ﴿7﴾ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ﴿8﴾ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ﴿9﴾ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴿10﴾ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ﴿11﴾ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ﴿12﴾ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴿13﴾ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ﴿14﴾ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴿15﴾ وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ﴿16﴾ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴿1﴾ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴿2﴾ وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴿3﴾ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ﴿4﴾ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴿5﴾ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴿6﴾ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ﴿7﴾ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ﴿8﴾ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ﴿9﴾ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴿10﴾ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ﴿11﴾ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ﴿12﴾ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴿13﴾ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ﴿14﴾ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴿15﴾ وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ﴿16﴾ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴿17﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ، وقولوا يا أيها المسلمون مِن بعده ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، أنه سبحانه قد أَوْحَيَ إليك من خلال جبريل أنه قد استمع مجموعة من الجنّ للقرآن العظيم وأوْصَت بعضها بعضا بالإنصات أيْ الصمت والتدبّر ، والجنّ في لغة العرب كل مخلوق خفيّ لا تراه العين ، والمقصود أنّ هذا ذمّ شديدٌ للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أنّ الجنّ – وهي المخلوقات التي ليس لها عقول وإنما تُدْرِك فقط ما وَهَبَها الله إيّاه من الإدراك الذي يُعينها علي أداء مهمّتها في نَفْع الإنسان كما نبَّه لذلك القرآن في مواضع كثيرة مثل حديث هُدْهد سليمان والنمل وتسبيح الطير مع داود وغير ذلك من مخلوقاتٍ مَرْئيّة وغير مرئية لها لغتها وإدراكها ولا يعلمها إلا خالقها سبحانه " .. وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. " ﴿الإسراء : 44﴾ – تستمع للقرآن بإنصاتٍ فتُصَدِّق به أنه من عند الله ربها وأنه نَفْعٌ وسعادة لها وللخَلْق كله لو عمل به البَشَر حيث سيُحسنوا للجميع ، ولا تكتفي بذلك بل لمّا تنتهي قراءته تنتشر فيما بينها تُحَذّر بعضها بعضا بأن تؤدِّي مهامّها التي أمرها ربها بها علي أكمل وجه ولا تخالفها ، وفي هذا إنذارٌ للبَشَر علي ألسنة الجنّ يَذْكُرها القرآن لتحذيرهم من عذابِ وتعاسةِ الداريْن لمَن يُخالِف الله تعالي وقرآنه ودينه الإسلام ، لكنهم رغم أنهم هم أصحاب العقول يُصِرُّ بعضهم على تكذيبه والاستعلاء عليه وعدم الاستجابة له والعمل بأخلاقه !! أين العقول المُنْصِفة العادلة ؟! ألم يتدبَّروا فيه أنه يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم قبل أخراهم ؟!! .. " .. فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴿1﴾ " أيْ فقال بعضهم لبعضٍ مُتَعَجِّبِين مُنْبَهِرين لقد سمعنا قرآنا أيْ كلاماً مَقْرُوءَاً يُتَعَجَّب منه لأنه خارج عن عادة كلام الناس لعظيم وبَديع بلاغته وفَصَاحته وحِكَمه وأحكامه وأخباره وتوجيهاته ووَصَايَاه وإرشاداته .. " يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴿2﴾ " أيْ هذا القرآن العظيم يُوَجِّه ويَدْعُو إلي الصواب والخير والحقّ والعدل التامِّ والسعادة الكاملة فصَدَّقنا به وبما فيه وبمَن أنزله سبحانه مباشرة بمجرّد سماعه بلا أيّ تَرَدُّدٍ أو شَكّ ، ولن نشرك مع ربنا – أيْ مُرَبِّينا وخالقنا ورازقنا وراعِينا – في العبادة أحداً أبداً مهما كان بل نعبده وحده بلا أيِّ شريكٍ فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وفي الآية الكريمة تَوْصِيَة للبَشَر بعبادة الله تعالي وحده وبالتمسّك والعمل بكل آيات القرآن ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، يَذْكُرها لهم خالقهم الكريم علي لسان بعض خَلْقه وهي الجِنّ ، لأنه إذا كانت المخلوقات ذات الإدراك المحدود تَفعل هذا ، فالبَشَر إذَن أصحاب العقول أوْلَيَ ! فلا يُعْقَل إذَن أن يُعْبَدَ في الدنيا مخلوقٌ ضعيفٌ هو تحت تصرّف خالِقه تماما ويُتْرَك الخالِق سبحانه ! حيث البعض يعبدون مخلوقاتٍ غير خالِقهم كجَنٍّ أو أصنامٍ أو كواكب أو غيرها يُطيعونها ويَلجأون إليها ويسألونها وهي لا تملك لهم أيّ نفعٍ أو تمنع عنهم أيَّ ضَرَر ! تعالي الله عمَّا يفعلون ويقولون عُلُوَّاً كبيرا .. " وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴿3﴾ " أىْ وآمنا أيضا أنه قد ارتفع وعَظُمَ تماما جَدُّ أيْ قَدْر وشأن وقُدْرة وسلطان وغِنَيَ ربنا عن أن يتّخذ زوجة وولدا لأنه ليس كالبَشَر بحاجةٍ لهذا بل هو غَنِيّ مُطلقا عنه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو مُنَزَّه عن كلّ صفةٍ لا تَليق .. وفي هذا ردّ علي بعض السفهاء الذين يَدَّعون أنَّ الملائكة بناته سبحانه وُلِدَت له مِن زواجه بزوجةٍ منها كما قال تعالي عن كذبهم " وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً .. " ﴿الصافات : 158﴾ !! .. " وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ﴿4﴾ " أيْ وآمنا أيضا بعد سماعنا للقرآن العظيم بأنَّ بعض سفهائنا أيْ الجَهَلَة ضِعَاف الإدْرَاك مِنَّا كانت تقول علي الله قولاً شَطَطَاً أيْ بعيداً تماماً عن الحقّ والعدل والصدق والصواب حين يَدَّعُون كذبا وزورا أنَّ له تعالي صاحبة أو ولداً أو شريكاً في العبادة ، وأنه علينا أن نُنَزِّهه ونُبْعِده سبحانه عَمِّا تقوله مِمَّا لا يَليق به .. فلا يَتَشَبَّه بها إذَن أحدٌ من البَشَر وإلاّ كان سفيها هو أيضا وتَعِسَ في دنياه وأخراه .. " وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴿5﴾ " أيْ هذا اعتذارٌ من الجِنّ عن كُفْرها السابق ، ليكون كلّ بَشَر صاحب عقل كذلك يعود للحقّ بمجرّد سماعه والتأكّد منه ليَسعد في الداريْن وليَستوثق تماما مِمَّا يُقال له وحوله فليس كله صِدْق مُسْعِد ، فكأنها تقول بعد أن استمعت إلى القرآن وآمَنَت به وبالله تعالي وحده ونَزَّهَته عن كل صفةٍ لا تَليق به أنَّ سبب تصديقها لبعض السفهاء أنها لم تكن تظنّ وتَحسب وتَتَصَوَّر أبداً أنَّ أحداً من المخلوقات مهما كان من إنسانٍ أو جِنٍّ أو أيّ مخلوق يَصِل به السوء الشديد ليَتَجَرَّأَ علي فِعْل هذه الجريمة الشنيعة التي لا مثيل لها وهي الكذب والافتراء العظيم هكذا علي الله الخالق سبحانه بإدِّعاء أنَّ له زوجة أو ولداً أو شريكاً أو ما شابه هذا من تخريفٍ وسوء !! .. لقد كانت مُنْغَمِسَة بالكامل في حُسْن ظنّها بمَن ضَلّلها مُنْخَدِعَة به مُصَدِّقَة له لكنها اعترفت بأنها أخطأت تماما في ظنها وحسابها هذا لَمَّا علمت بالحقّ ، وهكذا يجب أن يكون كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴿6﴾ " أيْ هذا تكذيبٌ تامّ علي ألْسِنَة الجِنّ ذاتها لِمَا يَدَّعِيه كذباً وزُوراً وسَخَفَاً بعض السفهاء من الناس أنَّ الجنّ تستحقّ العبادة لِمَا لها مِن سلطانٍ ونفوذٍ عليهم حيث لها قُدْرَة خارقة علي نفعهم وضَرّهم !! .. أيْ وقالت الجنّ مُؤَكِّدَة أنها ليست لها أبداً أيّ قُدْرَة علي نفع أحدٍ أو ضَرّه بأيِّ شيءٍ أنه كان ولا يزال بعض رجالٍ من بني الإنسان يستعيذون ببعض رجال من الجنّ – ولفظ رجال يُفيد أنهم كانوا يستعيذون بقادتهم وأقويائهم وليس بأيّ جنّ من وجهة نظرهم ! – أيْ يلجأون إليها ويَطلبون التحصين والحماية والحفظ من ضَرَرها ومِن أيِّ ضَرَرٍ مِن أيِّ أحدٍ بَدَلاً من اللجوء لله تعالي النافع الضارّ الحافظ المُتَوَكَّل عليه وحده القادر علي كل شيء القويّ المتين مالِك المُلك كله ، فكان نتيجة ذلك الحَتْمِيَّة أن زادَ الجِنُّ هؤلاء الذين استعاذوا بهم رَهَقَاً أيْ إرهاقا وحيرة وقلقا واضطرابا وإرهابا وخوفا لأنهم استندوا لِمَا هو ضعيف لا يملك شيئا ولا يَقْدِر علي أيِّ شيءٍ من نفعهم أو ضرّهم غير مضمون مطلقا ولم يلجأوا إلي المكان الصحيح والحصن الحقيقي وهو الله تعالي ويفعلوا الخير فيرعاهم ويحفظهم ويزيدهم خيرا ويسعدهم ، بل هم يزدادون بلجوئهم لغيره مِمَّا لا ينفع ولا يضرّ إثما وفسادا لأنهم يَتَوَهَّمون العَوْن منه علي ما هم فيه والأمن من العقاب بتحصينه لهم فيفعلون مزيداً من الشرور والمفاسد والأضرار فيَخيبون أكثر ويخسرون ويُرْهَقون ويُعَذّبون ويَتعسون في دنياهم وأخراهم .. فلا يَفعل إذَن مُطلقا أحدٌ عاقلٌ فِعْلهم وإلا كان سفيها مثلهم وتعس مثل تعاساتهم في الداريْن .. " وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ﴿7﴾ " أىْ وأنَّ هؤلاء الرجال السفهاء من الإنس أيْ من بني الإنسان الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة الذين يَعوذون برجالٍ من الجِنّ والذين يقولون علي الله كذبا – لأنهم لم يُحسنوا استخدام عقولهم – حَسِبُوا وتَوَهَّموا كما تَوَهَّمتم أنتم يا بعض سفهاء الجنّ ألَّن يبعثَ الله أحداً من البَشَر يوم القيامة بجسده وروحه ليُحاسبه علي الخير خيرا وسعادة وعلي الشرّ شَرَّاً وتعاسة ، وتَوَهَّموا أيضا ألَّن يَبعث الله أحداً من الرسل وبالتالي فلا كتب وتشريعات من عنده تعالي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم وإنما هم يُشَرِّعون لأنفسهم ما يريدون من أنظمةٍ تُمَكِّنهم من فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار !! .. فلا يَفعل إذَن مُطلقا أحدٌ عاقلٌ فِعْلهم وإلا كان سفيهاً مثلهم وتَعِسَ مثل تعاساتهم في الداريْن .. هذا ، والآية الكريمة قد تكون علي ألْسِنَة الجِنّ ذاتها ليَتَّعِظ البَشَر لأنه إذا كانت هي ذات الإدراكات المحدودة قد أدْرَكَت هذا فمَن المُفْتَرَض أنْ يُدْرِكه بلا أيّ تَأَخّر أو تَرَدّد أو شَكّ الإنس أصحاب العقول !! أو قد تكون من كلام الله تعالي مباشرة للبَشَر وليس علي لسانها .. " وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ﴿8﴾ " ، " وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ﴿9﴾ " أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من الله تعالي علي ألْسِنَة الجِنّ ذات الإدراك المحدود للبَشَر ذوي العقول الذين هم حتما أوْلَيَ بالاتِّعاظ منها ألاّ يُفَكِّروا مُطلقا في أيّ إفسادٍ للكوْن أو أيِّ تغييرٍ لحرفٍ من القرآن العظيم أو أنها تنفعهم أو تضرّهم أو تعلم المستقبل أو نحو هذا من تخاريف لأنها مخلوق مثلهم لا تملك لهم أيّ نفعٍ أو تمنع عنهم أيَّ ضَرَر .. أيْ ونحن الجنّ قد تَلَمَّسْنَا وتَحَسَّسْنَا واسْتَخْبَرْنَا السماء أثناء تحرّكنا في جَوِّها فرأيناها وتأكَّدنا أنها قد مَلَأَها خالقها العظيم بحُرَّاس أشِدَّاء أقوياء من الملائكة وغيرها من القُوَيَ التي لا يعلمها إلاّ هو يحرسونها من كل سوءٍ وأيضا مُلِئَت بشُهُبٍ كثيرة جَمْع شِهَاب وهو الشحنة الكهربائية الحرارية النارية بين الكواكب والنجوم تَخْرق وتَحرِق وتهلك مَن يقترب يريد سوءاً مَا .. وإذا كنت تفكّر سابقا يا مَن تريد الإساءة للكوْن أو يا مَن تريد تغيير ولو حرف من القرآن العظيم فلا تفكر مطلقا الآن ومستقبلا في أيِّ شيءٍ من هذا فنحن ننصحك لأنَّ الكوْن كله والقرآن كله محفوظ حفظا تامَّاً من خالقه الحافظ القويّ المتين ، فلقد كنا نحاول أن نجلس ونتواجَد في بعض الأماكن للاستماع لبعض ما يحدث في هذا الكوْن لكننا تأكَّدنا أنَّ مَن يحاول معرفة ما يجري فيه لتخريب شيءٍ منه فإنه سيجد حتما شهابا رصدا أيْ مُتَرَصِّدَاً أيْ مُتَرَبِّصَاً مُتَرَقّبَاً مُنْتَظِرَاً مُعَدَّاً له يمنعه بكل قوة وحزم .. فالآيتين الكريمتين تَدُلاّن علي تمام حِفْظ الله تعالي لكوْنه ، لكي يَنْعَمَ ويَسعدَ بنِعَمِه كلّ الخَلْق ، فلا يُمكن لأيِّ عابِثٍ أو مُخَرِّبٍ يريد العَبَثَ بأيِّ ذرّةٍ منه أو تخريبِ أيِّ شيءٍ فيه – سواء أكان هذا العابِث المُخَرِّب بَشَرَاً أم غيره من المخلوقات التي يَعلمها خالقها وحده – حتي مُجَرَّد الاقتراب من هدفه الخبيث ذلك ، لأنه بمجرّد أن يحاول حتي الاستماع إلي بعض أسرار الملأ الأعلي أيْ ما يَدُور في السماوات العُلا من تحرّكات الملائكة والكواكب وغيرها من المخلوقات ، لكي يُجَهِّزَ لشَرِّه بالمعلومات التي يظنّ أنه سيَأخذها مِن استماعه هذا ، بأجهزةٍ حديثةٍ أو ما شابه هذا ، فإنَّ هذا العابِث المُخَرِّب يُقْذَف مِن كلّ مكانٍ أي يُصابُ بما يَمنعه من عَبَثه وتخريبه الذي يُريده .. هذا ، ومن معاني تمام حِفْظه تعالي لكوْنه ، حفظه أيضا التامّ لقرآنه الكريم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، كما قال تعالي " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " ﴿الحجر : 9﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني﴾ ، لأنه هو مَصْدَر إصلاح البَشَر وإكمالهم وإسعادهم في الداريْن وبدونه يَفسدون ويَنقصون ويَتعسون فيهما .. " وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴿10﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ألْسِنَة الجِنّ أنها لا تعلم أبداً أيَّ شيءٍ من المستقبل فلا يعلمه أحدٌ إلا الله تعالي فلا يَدَّعِي عاقلٌ من البَشَر مُطلقا اتصاله بها ومعرفته منها ما يَحدث مستقبلا وإلا كان حتما كاذبا وكان مُخَرِّفا هو ومَن يُصَدَّقه !! .. أيْ ونحن الجنّ لا نعلم بالمُطْلَق في اللحظة المُقْبِلَة في الحياة الدنيا علي الأرض ولكل فرد ما الذي سيَحْدُث له وهل هو رشد أيْ خير وصلاح وسعادة أم شرّ وتعاسة ؟! لا يعلم كل ذلك سواء ظَهَرَ أم خَفِيَ إلاّ عَلاّم الغيوب سبحانه .. " وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ﴿11﴾ " أيْ هذا إرشادٌ من الله تعالي علي ألْسِنَة الجِنّ ذات الإدراك المحدود للبَشَر ذوي العقول الذين هم حتما أوْلَيَ بالاتِّعاظ منها أن يكونوا من الصالحين صلاحا كاملا ما استطاعوا أيْ المُتَّبِعين لكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن ولا يكونوا دون ذلك أيْ أقلّ من هذا فتَقِلّ درجة سعادتهم فيهما علي قَدْر ما ابْتَعَدوا عن الصلاح الكامل ولا يَقِلّوا في الصلاح إلي درجة أن يتركوا الإسلام بعضه أو كله فيفعلوا فساداً وإلا تَعِسُوا فيهما علي قَدْر فسادهم وشرورهم وأضرارهم .. " .. كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ﴿11﴾ " أيْ فهناك طُرُق وفِرَق مُختلفة ، فكونوا إذَن أيها البَشَر مع الطريقة والفِرْقَة الأَصْلَح الأكْمَل ما استطعتم .. والطرائق جَمْع طريقة والقِدَد جمع قِدَّة أيْ قطعة وفِرْقَة من الناس مختلفة مُتَفَرِّقة الأفكار والتصرّفات .. " وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ﴿12﴾ " أيْ هذا تكذيبٌ تامّ آخر علي ألْسِنَة الجِنّ ذاتها لِمَا يَدَّعِيه كذباً وزُوراً وسَخَفَاً بعض السفهاء من الناس أنَّ الجنّ تستحقّ العبادة لِمَا لها مِن سلطانٍ ونفوذٍ عليهم حيث لها قُدْرَة خارقة علي نفعهم وضَرّهم !! وهو أيضا إرشادٌ من الله تعالي علي ألْسِنَة الجِنّ ذات الإدراك المحدود للبَشَر ذوي العقول الذين هم حتما أوْلَيَ بالاتِّعاظ منها أن يكونوا مِن المتأكِّدين بلا أيِّ شكٍّ بتمام قُدْرة الله وكمال علمه وسلطانه ونفوذه علي جميع خَلْقه وبالتالي فليعبدوه إذَن وحده وليلجأوا إليه وحده وليشكروه وحده ليسعدوا في الداريْن .. أيْ وقالت الجنّ مُؤَكِّدَة عَجْزها التامّ أمام قُدْرة خالقها أننا تأكَّدنا بلا أيِّ شكّ – ولفظ الظنّ في اللغة العربية قد يُفيد اليقين أيْ التأكّد بلا أيّ شكّ كما هو هنا إذا جاء بعده لفظ لن الذي يُفيد أبدية النفي وتأكيده لقُدْرتهم علي تعجيز الله تعالي عن شيءٍ يريده – أننا لا يمكن أبداً أن نُعْجِز الله أيْ نجعله عاجزاً عَمَّا يريد فِعْله فينا وفي كل خَلْقه أينما كنا في أيّ مكانٍ في الأرض وأننا لا يمكن أبداً أن نجعله عاجزا عَمَّا يريده بنا بالهروب منه ومنها إلي السماء ! فلا مَهْرَب إذَن منه تعالى لا في أرضه ولا في سمائه ولا في كوْنه كله ، فالجميع في مُلكه وتحت سلطانه ونفوذه ، وهو خالق كل شيءٍ وقادر تماما عليه ، ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيءٍ يريده ما استطعتم قطعا .. " وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴿13﴾ " أىْ ونحن عندما سمعنا القرآن العظيم الذي فيه كلّ الهُدَيَ لكل خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة صَدَّقْنا به وبما فيه وبأنه من عند ربنا بلا أيِّ تَرَدّدٍ أو شَكٍّ ، فأيّ أحدٍ يُصَدِّق بوجود ربه أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشده لتمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه فهو لا يخاف حتماً أبداً أيَّ بَخْسٍ أيْ نَقْصٍ في أجره من خيرِ الله وإسعاده له في الداريْن علي قَدْر تمسّكه وعمله بأخلاق الإسلام ولا يخاف أيَّ رَهَقٍ أيْ إرْهَاقٍ وذِلّة فيهما فالقويّ المَتِين سبحانه حافِظه ومُقَوِّيه ومُعِزّه ومُيَسِّر له حاله ومُسْعِده .. وهذا يعني ضِمْنَاً أنه مَن لا يؤمن فهو في خوفٍ حتما حيث هو مُعَرَّض لكل نقصانٍ من الخير والأمن والسعادة ولكل رَهَقٍ في الدنيا والآخرة .. وفي هذا ثقة تامّة من الجنّ في عدله التامّ سبحانه وفي تمام السعادة لمَن يتمسّك ويعمل بكل أخلاق القرآن ، فالبَشَر إذَن أصحاب العقول أوْلَيَ بذلك ! .. " وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ﴿14﴾ " ، " وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴿15﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ وتفصيلٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُه وهو مزيدٌ من الإرشاد من الله تعالي علي ألْسِنَة الجِنّ ذات الإدراك المحدود للبَشَر ذوي العقول الذين هم حتما أوْلَيَ بالاتِّعاظ منها أن يكونوا من المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن ولا يكونوا غير ذلك فتَقِلّ درجة سعادتهم فيهما علي قَدْر ما ابْتَعَدوا عنها .. أيْ وقالت الجنّ نحن بعد سماعنا القرآن العظيم صارَ مِنَّا المسلمون ومنا القاسطون أيْ الظالمون جَمْع قاسِط وهو الظالم الذي لم يَتَّبع الخير وأفسدَ بكل صور الظلم والفساد المختلفة ، أمّا المُقْسِط فهو العادل .. " .. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ﴿14﴾ " ، " وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴿15﴾ " أيْ فالذي أسلمَ أيْ عمل بأخلاق الإسلام من البَشَر – وهذا كلامٌ علي ألْسِنَة الجِنّ أو من كلام الله تعالي مباشرة للناس – فأولئك المسلمون هم قطعا الذين تَعَمَّدوا وقَصَدُوا الرشد وطلبوه باجتهادٍ وعِنَايَةٍ فحصلوا عليه ، والرشد هو الصواب والصلاح والحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. " وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴿15﴾ " أيْ وأمّا الظالمون في المُقابِل وهم كلّ مَن ظَلَمَ نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن ، بأيّ نوعٍ من أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، فهؤلاء قطعا لا ينالون فضل الله الذي يناله المسلمون إذ قد حَرَموا هم أنفسهم منه ، بل حتما يوم القيامة سيدخلون نار جهنم ويُعَذّبون فيها وتكون أجسامهم حَطَبَاً لها أيْ وقوداً تزداد اشتعالا بها .. إضافة أنَّ لهم بالقطع درجة ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب ظلمهم .. " وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ﴿16﴾ " أيْ ولو أنَّ الناس ومنهم هؤلاء القاسِطِين – وهذا ليس كلاماً علي ألْسِنَة الجنّ وإنما هو من كلام الله تعالي – ساروا مستقيمين بلا أيِّ انحرافٍ على الطريقة المثالية التى هى طريق الإِسلام أيْ تمسّكوا وعملوا بكل أخلاقه ، لو أنهم فَعَلوا ذلك ، لأنزلنا عليهم ماءً كثيرا نافعا ، أيْ لفتحنا عليهم بقُدْرتنا ورحمتنا وكرمنا كل أبواب الرزق ولأعطيناهم من كل الخيرات النافعة المُسْعِدَة ، حيث الماء هو أصلها كلها (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿97﴾ من سورة النحل " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴿17﴾ " أيْ لكي نَختبرهم في هذا الخير الكثير الذي نُعطيهم إيّاه ، أيْ انتبهوا أيها الناس تماما واحذروا ، فليس الأموال والأولاد وكل أحداث الحياة إلا اختبار لكم يحتاج إلي حُسن تعامُلٍ معه لِيَرَيَ ويُقَيِّم كلّ فردٍ ذاته هل اتَّبَعَ الإسلام في كل مواقف ولحظات حياته أم لا ؟ فإن اتَّبَعَه كله في كل مواقفها سَعِدَ تمام السعادة في دنياه ثم أخراه ، وليَحمد ربه ليُثيبه ويزيده ، وإنْ تَرَكَ بعضه أو كله تَعِسَ فيهما علي قَدْر ما يترك ، فليجتهد أن يَتَدَارَك حاله ويتمسّك ويعمل به كله لتتمّ سعادته فيهما .. هذا ، وإنْ كان الاختبار في صورةِ ضَرَرٍ مَا فلْيَصْبِر عليه ليَخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. " .. وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴿17﴾ " أيْ ومَن يَبْتَعِد عن قرآن ربه وإسلامه وأخلاقه ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار يُدْخِله الله في عذابٍ شاقّ شديدٍ مؤلمٍ ذا صَعَد أيْ يَصعد عليه ويَعْلُوه ويَغْلبه فلا يطيقه ولا يرتاح منه ، علي قَدْر ابتعاده عنه ، في دنياه وأخراه ، ففي الدنيا له حتما درجة ما من درجات العذاب بما يُناسب فِعْله كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة يَنال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن عُمَّار المساجد الذين يبنونها ويشاركون في بنائها ويُصَلِّون ويَذْكُرون ربهم فيها ويَتَعَلّمون العلم ويُعَلّمونه بها ويَخدمون عموم الناس من خلالها ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة
هذا ، ومعني " وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴿18﴾ " أيْ ومِمَّا أُوحِيَ إليَّ أيضا أيها الناس أنَّ المساجد وهي الأماكن التي يَسجد المسلمون فيها لله أيْ يُطيعوه ويُصَلّوا له ويَتَّصِلُوا به ويَسألوه من كل خير وسعادة – والأرض كلها مسجد لهم وكل أعمال الحياة بالنوايا الحَسَنَة هي سجود لله تعالي أيْ طاعة واستسلام واستجابة وذِكْر له (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن صور الذكر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ – هي خالصة لعبادة الله تعالي أيْ طاعته وحده ، فلا تدعو أيْ لا تعبدوا معه أحدا غيره ، لا فيها ولا خارجها حتما ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وكونوا دوْماً في عبادتكم له مُخلصين مُحسنين (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴿19﴾ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ﴿20﴾ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴿22﴾ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴿23﴾ حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ﴿24﴾ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ﴿25﴾ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ﴿26﴾ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴿27﴾ لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴿19﴾ " أيْ ومِمَّا أُوحِيَ إليَّ أيضا أيها الناس أنَّه عندما قام عبد الله ، أيْ قام رسول الله ﷺ ، وقام المسلمون معه ومِن بعده ، عباد الله ، أيْ اجتهدوا في أن يدعوا الله تعالي أيْ يَعبدوه أيْ يُطيعوه وحده وفي أن يتمسّكوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ويدعوا له بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ويدافعوا عنه ضدّ مَن يَعتدي كادَ أيْ قارَبَ أعداؤهم يكونون مُجتمعين عليهم وحولهم لِبَدَاً جمع لِبْدَة وهي المجموعة المُتَزَاحِمَة أيْ جماعات مُتَرَاكِمَة بعضها فوق بعض كالشيء الذي تَلَبَّدَ أيْ تَرَاكَمَ بعضه علي بعض والْتَصَقَ بعضه ببعض التصاقا شديدا وذلك من شدّة تَجَمّعهم وازدحامهم من أجل معاداتهم ومحاولاتهم منع نشرهم الإسلام للآخرين .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ الجنَّ تزاحَمَت حول الرسول الكريم ﷺ ، عبد الله ، عندما قام يعبد الله تعالي ويتلوا القرآن العظيم ، من أجل أن يستمعوا له وهو الذي وصفوه بقولهم " عَجَبَا " كما في الآية الأولي من السورة
ومعني " قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ﴿20﴾ " أيْ هذا إعلانٌ عام لجميع الناس عن خلاصة دعوة الإسلام منذ بَدْء الخَلْق وحتي يوم القيامة .. أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ، وقولوا للجميع يا كل المسلمين مِن بَعْده ، إنما ندعو أيْ نعبد ربنا وحده – أيْ مُرَبِّينا وخالقنا ورازقنا وراعينا ومُرْشِدنا لكل خير وسعادة في دنيانا وأخرانا – ولا نشرك معه أبدا أيَّ أحدٍ في العبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ولا نَتَوَجَّه إلا إليه وحده في الدعاء والسؤال والتوكّل والشكر
ومعني " قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ﴿21﴾ " أيْ وقولوا لهم أيضا أننا ليس لنا أيّ قُدْرَة ولا نمتلك وليس بيدنا مُطلقا ما يَضرّكم ويضِلّكم ولا ما يَدْفع عنكم ضَرَرَاً مَا يقع بكم ولا نمتلك لكم أيَّ نفعٍ وخير وصلاح وإنما الذى يملك كل أسباب النفع والضرّ والهداية والضلال هو الله تعالى وحده ولو مَنَعَ كل القُوَيَ والطاقات والإدراكات عن خَلْقه لتَوَقّفَت الحياة تماما وما نَفَعَ أحدٌ أحداً أبداً بخيرٍ مَا وما اهتدي لصوابٍ وما أضَرّ أحدٌ أحداً وما مَنَعَ عنه ضَرَرَاً مَا وَقَعَ به ، فهو سبحانه النافع الضارّ علي الحقيقة ومن حيث الأصل وما أعمال البَشَر إلا أسباب من أسبابه (برجاء مراجعة الآيات ﴿72﴾ حتي ﴿76﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾
ومعني " قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴿22﴾ " أي وقولوا لهم أيضا أننا ليس لنا أيّ قُدْرَةٍ ولا نمتلك وليس بيدنا مُطلقا أيّ شيءٍ لأنفسنا ذاتها لا لكم أنتم فقط ، فلن يُجيرنا أيْ ينقذنا من عذاب الله الدنيويّ والأخرويّ أيّ أحدٍ إنْ عصيناه وخالَفنا أخلاق الإسلام ولن نجد من غيره مَلْجَأ نلجأ ونفرّ إليه من عذابه حينها
ومعني " إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴿23﴾ " أيْ لا نَمْلك لكم ضَرَّاً ولا رَشَدَاً لكن ما نملكه فقط تبليغاً لكم مِن جهة الله تعالي ومِن رسالاته وتشريعاته وأخلاقيَّاته التي في الإسلام والتي بَعَثَها لنا من خلال وَحْيها إلي رسله الكرام وآخرهم رسولنا الكريم محمد ﷺ .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه لن يُجيرنا من الله أحدٌ ولن نجد من دونه مُلْتَحَدَاً إلاّ إذا بَلّغنا عنه تعالي الإسلام لكم فإنَّ هذا هو الذي يُجيرنا أيْ يُنْجِينا .. " .. وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ .. " أيْ وأيّ أحدٍ يُخالِف أوامر الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ في الإسلام ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فالنتيجة الحَتْمِيَّة أنَّ نصيبه وجزاءه نار جهنم يوم القيامة يُعَذّب فيها علي قَدْر ما فَعَل ولمُدَّةٍ تُناسِبه ، وذلك إضافة إلي نار التعاسة التي كان فيها في دنياه بسبب سُوُئِه .. " .. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴿23﴾ " أيْ باقِين فيها لا يخرجون منها أبداً إلي ما شاء الله وذلك إذا كانت معصيتهم كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أو كتبه أو رسله أو آخرته ، أو كانت شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نحوه ، أو كانت نفاقاً أي إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ وكان هذا الشرّ المَخْفِيّ كفراً أو شركا
ومعني " حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ﴿24﴾ " أي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحدوث العذاب ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة .. أيْ أنَّ المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لا يزالون مُستمرّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم حتي إذا شاهدوا واقعيا ما كانوا يوعدون به في القرآن الكريم ويُذَكِّرهم به المسلمون من عذابٍ مُوجِعٍ مُهينٍ مُتْعِسٍ في دنياهم مُناسبٍ لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ثم في أخراهم بما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأتعس فسيعلمون حينها حقّ العلم والمعرفة مَن الذي هو أضعف ناصراً أيْ ناصره ومُعينه أضعف أو أقوي هم أم المسلمون ؟! وسيعلمون أيضا مَن هو أقلّ عددا أيْ عدده أقلّ أو أكثر هم أم المسلمون ؟! حتما سيكون المسلمون في غاية النصر والقوة وهم في غاية الضعف والذلّة والإهانة لأنهم وقتها سيَفقدون أيَّ ناصرٍ لهم مِن خارجهم كما أنهم سيَفقدونه مِن داخل أنفسهم لأنهم مهما كثر عددهم فهم مَغلوبون بقُدْرة الله تعالي وبجنوده التي لا يعلمها إلا هو وبقُوَّته التي يَهِبها للمسلمين حينما يُحسنون اتِّخاذ كل أسباب النصر المُمْكِنَة ، ثم في الآخرة يكون المسلمون مُنتصرين فائزين مُكرمين بجنة الخلد بينما هم مَذلولين مُهانين مُستسلمين في العذاب المُهين
ومعني " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ﴿25﴾ " أيْ قل يا رسولنا الكريم ، وقولوا يا أيها المسلمون مِن بعده ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، قل لا أعرف ولا أعلم تحديداً ولا أحد يعلم مُطلقا الذي تُوعَدون به أيها المُكَذّبون من العذاب والهزيمة والتعاسة ومن النصر والسعادة للمسلمين في الدنيا ثم في الآخرة يوم القيامة هل هو قريب أم يجعل الله له وقتاً قد يكون بعيدا يأتي فيه ؟! المهم أنه آتٍ بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي لو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد ، وتحديد هذا التوقيت مَرْجِعه لله تعالي وحده لا يعلمه أيّ أحدٍ إلا هو سبحانه .. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد للمُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحدوث العذاب ، كما أنه مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني " عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ﴿26﴾ " ، " إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴿27﴾ " أيْ والسبب أني لا أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمَدَاً هو أنه وحده سبحانه عالمٌ بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم ، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل ، وهو لا يُطْلِع علي الغيب والعلم الذي يَملكه ويَعلمه هو وحده أحداً من خَلْقه .. " إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴿27﴾ " أيْ لكن يُسْتَثْنَيَ مِن ذلك مَن رَضِيَه وقَبِلَه سبحانه واختاره مِن خَلْقه أن يكون رسوله للناس ليبلغهم الإسلام سواء مِن البَشَر أو الملائكة كجبريل فإنه يُطْلِعه مِن خلال الوَحْي إليه علي بعض الغيب والعلم مثل كتبه وآخرها القرآن العظيم وبعض ما يَحدث في المستقبل ليكون ذلك مُعجزة له تدلّ علي صِدْقه عند المُرْسَل إليهم فيؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا به ويَتَّبِعوا الإسلام الذي جاء به ليسعدوا في الداريْن .. " .. فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴿27﴾ " أيْ فإنه سبحانه في هذه الحالة يجعل له بقُدْرته وجنوده التي لا يعلمها إلا هو من أمامه ومن خَلْفِه أيْ من كل جانب رَصَدَاً جَمْع رَاصِد أيْ مُرَاقِب وحافِظ يحفظونه من كلّ سوءٍ حتي يقوم بتوصيل هذا الغيب وهذا الوَحْي وهذا الإسلام للناس
ومعني " لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴿28﴾ " أيْ ليَعلمَ كلّ رسولٍ وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ أنَّ الرسل قَبْلَه قد أبلغوا رسالات ربهم كما يُبَلِّغ هو وكانوا مَحفوظين من كل سوءٍ بالحَفَظَة من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو سبحانه فيزيده ذلك اطمئنانا وانطلاقا وحماسا واهتماما وحرصا علي عدم التقصير وصبرا في تبليغها حيث معه ربه دوْماً يحفظه ويُؤَيّده بجنوده إلي أن يؤدي الأمانة التي معه وهي الإسلام تامّة للناس كما أدَّاها الرسل الكرام قَبْلَه ليَنال مثل ثوابهم .. " .. وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴿28﴾ " أيْ وليعلم الجميع أنه تعالى قد أحاطَ عِلْمُه إحاطة كاملة من كل الجوانب فلا يَخْفَيَ عليه شيءٌ بكلّ ما عند الرسل وغيرهم من كل الخَلْق من أقوالٍ وأفعالٍ وأحوالٍ وتصرّفات وأفكار وقد أحْصَىَ كل شيء فى هذا الكوْن وعَدَّه بإحصاءٍ وبعِلْمٍ وبِعَدٍّ تامٍّ دقيقٍ تفصيليٍّ لا إجماليّ .. فليعبدوه إذَن فهو المُستحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريك وليتوكّلوا عليه وحده وليشكروه وحده وليُحسنوا أقوالهم وأفعالهم لأنه يُحصيها عليهم بكل دِقّة وسيُحاسبهم عليها يوم القيامة بكل عدلٍ علي الخير خيراً وسعادة والشرّ شرَّاً وتعاسة .. فمَن يَفعل ذلك يَضْمَن حتماً تمام السعادة في دنياه وأخراه
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴿1﴾ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴿5﴾ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴿6﴾ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴿7﴾ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴿8﴾ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد ، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم ، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴿1﴾ " ، " قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ " ، " نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾ " ، " أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾ " أيْ هذا نداءُ حبٍّ وتكريمٍ من الخالق الرحيم الودود لرسوله الكريم محمد ﷺ ، ولكلّ مَن تَشَبَّهَ به في حُسْنِ وكمال خُلُقه ، لأنه في اللغة العربية حينما يُنَادَيَ أحدٌ بحاله الذي هو عليه بَدَلاً من اسمه فهذا يُفيد التلَطّف معه والحبّ والقُرْب والتكريم له ، ليكون ذلك من الله له زيادة لنشاطه في تمسّكه وعمله بالإسلام ودعوته له ودفاعه عنه وصبره علي أذَيَ مَن يُؤذيه .. أيْ يا أيّها الذي يَحْمِل الإسلام للناس ، مِن زَمَلَ الشيء أيْ حَمَلَه ، ويا أيّها المُتَغَطّي المُتَلَفّف بغطائه وبثيابه النائم بالليل ، من زَمَّلَ الشيء أي لَفّه وأخْفَاه .. هذا ، وافتتاح الكلام بالنداء هو للتنبيه على أهمية ما سَيُلْقَىَ بعده للاهتمام والعمل به .. " قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ " أيْ قُمْ للعبادة لله كل الليل وفي أوقاته ، لطاعته ، لأيِّ طاعةٍ ما ، لصلاةٍ ، لذكرٍ (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة .. ثم مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، لعلمٍ نافع ، لعملٍ مُفيد ، لدعوةٍ للآخرين لله وللإسلام ، ولِمَا شَابَهَ هذا من خيرٍ مُسْعِدٍ للنفس وللغير في الداريْن .. إلا قليلا منه ، على قَدْر ما تأخذ من راحةٍ ضروريةٍ لبدنك ولعقلك بالنوم وتكون أيضا راحتك هذه عبادة لله ما دامت مصحوبة بنوايا حَسَنَة بالعقل أن تكون استعداداً للقيام بنشاطٍ لطاعةٍ بعد الراحة .. فالطاعة بالليل إضافة للنهار تدلّ علي شدّة الحرص علي دوام التواصُل مع الله وتمام الهِمَّة والاجتهاد في العمل بكل أخلاق الإسلام ، ثم هي تدريب علي أن يكون المسلم دوْما صاحب هِمَمٍ عالية وإراداتٍ قوية في كل أوقاته في كل شئون حياته فيسعد بذلك تمام السعادة في دنياه ثم أخراه .. هذا ، ومَن يدرك وقت السَّحَر ويستيقظ فيه وهو وقت الثلث الأخير من الليل قبل طلوع الفجر ، فلْيُحْسِن استغلاله بالدعاء والذكر والصلاة وغير ذلك من الخير ، لِيَنالَ وَعْدَه سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا في حديث رسوله الكريم ﷺ : " يَنْزِل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا فيقول : " مَن يدعوني فأستجيبَ له ؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له ؟ مَن يسألني فأعْطِيَه ؟ " ﴿أخرجه البخاري ومسلم﴾ ، وذلك حيث السُّكُون والتفرُّغ التامّ والتركيز العالي والتواصُل الراقي الصافي مع الله الخالق الكريم فيَطلب منه ما يُريد ويَستغفر مِمَّا قد يكون حَدَث منه من تقصيرٍ أثناء يومه ويَدعو من أجل التجهيز لليوم التالي وحُسْن الاستعداد له وطَلَب التيسير والتوفيق والرعاية والأمن والرزق والسعادة فيه فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن ، ثم كلّ الأيام ، ثم بالتالي كلّ الحياة .. " نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾ " ، " أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾ " أىْ قُمْ نصف الليل واجعل النصف الآخر منه لراحتك ونومك ، أو انقص من هذا النصف الذي تقومه قليلا بما قد يَصِل إلي نحو الثلث ، أو زِدْ علي هذا النصف بما قد يَصِل إلي الثلثين تقريبا ، أيْ كُن حول هذا المقدار ليتحقّق الانتفاع والإسعاد .. " .. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾ " أيْ واقرأ القرآن العظيم حين تقرأه في أيِّ وقتٍ بترتيله ترتيلاً جميلاً حَسَنَاً ، والتَّرْتِيل هو جَعْل الشيء مُرَتَّلاً أىْ مُنَسَّقَاً مُنَظّمَاً ، أيْ اقرأ القرآن بتَمَهُّلٍ وتَأَنٍّ وعدمِ عجلةٍ وحُسْنِ أداءٍ وصوتٍ وتجويدٍ وتبيينٍ للحروف والوقفات ونحو هذا مِمَّا يُعين علي أن يُعْقَلَ ويُتَدَبَّرَ ويُنْتَفَعَ به ويُرْجَعَ إليه في كلّ حَدَثٍ من أحداث الحياة فيَتَّضِح للناس أصول وقواعد التعامُل معها علي أكمل وجهٍ فيَصلحوا بهذا ويَكملوا ويَسعدوا تماما في الدارين
أمَّا معني " إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴿5﴾ " أيْ انْتَبِه واسْتَعِدّ يا رسولنا الكريم ، وانتبهوا واستَعِدّوا أيها المسلمون والناس عموما ، نحن سنُنزل عليك ونُوحِي إليك ويَصِلُكم قولا ثقيلا ، وهو القرآن العظيم ، فهو ثقيل أيْ ليس بالخفيف السَّطْحِيّ بل هو رَزِين مُتَّزِن عميق كريم نَفيس ذو شأنٍ وقَدْر ولا يُقَارَن لأنه كلام الخالق سبحانه لا المخلوق ، وهو ثقيل أيْ ثابت في إعجازه كثبوت الشيء الثقيل في مكانه لا يزول إعجازه أبدا لفصاحته وبلاغته وعلومه النافعة وإرشاداته وأخلاقِيَّاته ووَصَاياه وحِكَمه التي تُناسب كل البشريّة بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، وهو ثقيل بتأثيره الثقيل الهائل في العقول المُنْصِفَة العادلة بكمال صِدْقه وإقناعه ، وهو ثقيل لا يمكن لعقل واحد إدراك كل معانيه ومقاصده وإنما تجتمع عليه العقول ليكتمل استخراج فوائده ، وهو ثقيل علي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لأنه يَفضح زَيْفهم ويُظهر سَفَههم وضعفهم وضلالهم ويُخيفهم بالعذاب المُحَقَّق إن لم يَنتهوا عَمَّا هم فيه ، وهو ثقيل يُثْقِل ميزان الحسنات يوم الحساب لمَن يَعمل به .. فاهتمّوا إذَن به كل الاهتمام من خلال التمسّك والعمل التامّ بكل أخلاقه لتَكملوا وتَصلحوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني " إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴿6﴾ " أيْ هذا بيانٌ لحِكْمته تعالي في دعوته للمسلمين للقيام للطاعة في الليل كما قال " قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ " (برجاء مراجعة الآية الكريمة لتكتمل المعاني﴾ .. أيْ إنَّ الطاعة النَّاشِئَة المُقَامَة الحَادِثَة في الليل ، حيث السُّكُون والتفرُّغ التامّ والتركيز العالي والتواصُل الراقي الصافي مع الله الخالق الكريم ومع تلاوة قرآنه العظيم وتَدَبّره ومع حُسْن ذِكْره سبحانه ، هي أشدّ وَطْئاً أيْ أقويَ وَقْعَاً وتأثيراً في العقل والمشاعِر بداخله وأعظم في التَّوَاطُؤ أي التَّوَافق بين ما يُقال باللسان وما يَدور في الفكر بصورةٍ أكثر كثيرا من أثناء النهار بسبب هدوء الليل وسكونه ، فتجد المسلم بعد تواصُله مع ربه تعالي في هذا الوقت الطيِّب المُبَارَك فيه قد أصبح مَشحونا بتمام الهِمَّة والقوة والنشاط لفِعْل كلّ خيرٍ في يومه المُقْبِل وأيضا تجده أقوْم قِيلاً أيْ أصْوَب قَوْلاً أيْ أصْوَب قراءة للقرآن حيث الهدوء والتركيز يساعد علي صواب القراءة وتَدَبّرها ثم أصْوَب قولاً وأنفع أثناء يومه في كل شئون حياته بسبب طاعته الليلية حيث تكون كل أقواله وأفكاره وأفعاله سديدة صائبة رابحة نافعة فيحيا يومه هذا في تمام النجاح والفوز والسعادة ، ولو فَعَلَ هذا كلّ ليلةٍ لكانت حتما كل حياته الدنيوية ثم الأخروية كاملة السعادة
ومعني " إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴿7﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من البيان لحِكْمته تعالي في دعوته للمسلمين للقيام للطاعة في الليل ومزيدٌ من التأكيد علي أهميته .. أيْ إنَّ لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في نهارك فراغا ووقتا وتَحَرُّكاً وتَصَرُّفَاً – مثل السابِح في الماء يتحرّك كما شاء – طويلا كبيرا واسعا لكل شئون حياتك ولدعوتك لله وللإسلام بما قد يشغلك عن صفاء وسعادة التواصُل مع ربك فلذلك فاحرص علي طاعةٍ ما بالليل ليتحقّق لك ذلك
ومعني " وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴿8﴾ " ، " رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴿9﴾ " أيْ ودَاوِم يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم على ذِكْر الله تعالى وتَعَبَّد له تَعَبُّدَاً كاملاً مُخْلصاً مُحْسناً بلا أيِّ شركاء ، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة .. ثم مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معاني الإحسان والإخلاص في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء أيضا ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. فرَبّك هو " رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ .. " أىْ دَاوِم علي ذِكْر الله وعبادته وحده لأنه هو ربّ جِهَتَىّ الشروق والغروب للشمس أيْ ربّ كلّ جِهات الأرض وكل الكوْن أيْ مالِكه ومُدَبِّر كل شئونه .. " .. لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ .. " أيْ لا مَعْبُودَ يَستحِقّ العبادة والطاعة لنظامه وهو الإسلام إلا هو سبحانه .. " .. فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴿9﴾ " أيْ وما دامَ الأمر كذلك فاجْعَل منه تعالي وكيلاً لك تعتمد عليه وتترك له كل أمورك وتلجأ إليه فى كل أحوالك ، إذ الوكيل هو الذى تُوكَل إليه الأمور ويُتْرَك له التَّكَفّل بها والتصرّف فيها لتمام الثقة فيه .. وكونوا جميعا أيها المسلمون دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، واطمئنوا اطمئنانا كاملا واستبشروا وانتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياكم ثم أخراكم ، فهو حتما سيكفيكم كفاية تامّة ولن تحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقكم القوي المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لكم الرحيم بكم هو وكيلكم ، أيْ الحافظ لكم المُدافِع عنكم المُتَكَفّل بكل شئونكم ، فهل تحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك ؟!!
وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴿10﴾ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴿11﴾ إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا ﴿12﴾ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ﴿13﴾ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴿10﴾ " أيْ وكن يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلمون من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ وكونوا من الذين إنْ أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر ، وعلى ما يقوله هؤلاء المُكذّبون من أقوالٍ لا يؤيدها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ تُسِيء إليكم وإلي ربكم ورسولكم وإسلامكم ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت ، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن ، هو حقّ ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴿10﴾ " أيْ واتْرُكهم تَرْكَاً جميلاً أيْ حَسَنَا ، والتَّرْك الجميل الحَسَن هو الابتعاد عنهم بلا إساءةٍ أو إيذاءٍ لهم مع مُخَالَفَة أفعالهم وأقوالهم فلا يُفْعَل أبدا مثلها بل كل التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام مع حُسْن دعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين ، فلعل هذا التَّرْك والابتعاد لفترةٍ يُشعرهم بخطئهم ويُوقظهم ويُعينهم علي مراجعة ذواتهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب .. هذا ، ومع الهجر الجميل يُرَاعَيَ أن يكون الصبر أيضا جميلا أيْ يكون صبراً خاليا من أيِّ رفضٍ أو ضَجَرٍ أو سخط داخليّ أو شكوي لأحدٍ غير الله تعالي وإنما كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه والاستعانة به ودعائه فهو المُسْتَعَان به دائما في كل الأحوال خاصة عند الشدائد ، مع العمل قَدْر الاستطاعة علي محاولة التَّغَلّب علي الصعاب بكل إيجابية دون أيِّ سلبية بكل الوسائل المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة
ومعني " وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴿11﴾ " أيْ واتْرُكْنِي وإيَّاهم هؤلاء الذين يُكَذّبون بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وبعقابه وجنته وناره فيفعلون لذلك الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب عندهم ، هؤلاء أولي النَّعْمَة أيْ أصحاب النعيم والتَّنَعّم بكل أنواع النِّعَم والغِنَيَ الذين لم يُحسنوا استخدامها في الخير بل في كل شرّ وتَوَهَّمُوا أنهم بها يمكنهم الوقاية من عذابنا حين ينزل بهم ومُعَاداتنا والمسلمين والإسلام ومَنْع نَشْره ، اتركني مِنِّي لهم مباشرة ، فأنا لا غيري الذي سأتَكَفّل بعقابهم وأنتقم لكم منهم ، فسترون ماذا أصنع بهم فلا مُنْقِذ لهم مِن عذابي .. فالخالِق القويّ القاهِر يَنتقم من المخلوق الضعيف الذي لا يُذْكَر !! وهذا يدلّ علي شدّة غضبه سبحانه عليهم .. فوَكِّلُوا الأمر إذَن لي ولا تنشغلوا بهم واستمرّوا متمسّكين بإسلامكم وحُسن دعوتكم لله وللإسلام .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة .. " .. وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴿11﴾ " أيْ واتْرُكهم وقتا قليلا وستَرَىَ بعده حتما النتيجة السيئة لتكذيبهم حين ينزل بهم ما يُناسبهم من عذابٍ دنيويّ قبل الأخرويّ في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُؤلِمَاً مُهيناً مُتْعِسَاً لهم
ومعني " إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا ﴿12﴾ " أيْ إنَّ عندنا مِن بعض ما هو مُجَهَّز لعذاب هؤلاء المُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّهَ بهم أنكالا أيْ قيوداً ثقيلة وجحيما أيْ ناراً شديدة الاشتعال يُحْرَقون ويُعَذّبون بها في أخراهم ، إضافة حتما إلي ما يُصيبهم في دنياهم مِن تقييدٍ لمُتَعِهم وجَعْلٍ لحياتهم جحيماً وعذاباً بأمراض وكوارث وصراعات وما شابه هذا
ومعني " وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ﴿13﴾ " أيْ وإنَّ عندنا لهم كذلك في الآخرة طعاماً له غُصَّة أيْ يَلْتَصِق بالحَلْق فلا هو يُبْلَع ولا هو يُلْفَظ ويُخْرَج منه وذلك لمرارته ونَتَانَة طَعْمه ورائحته – وقد يَحدث لهم هذا أيضا في الدنيا كعذابٍ بسبب مرضٍ أو نحوه – وإنَّ لدينا لهم فوق كل ذلك عذابا متنوّعا مُوجِعَاً لا يُطاق
ومعني " يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ﴿14﴾ " أيْ ذلك يَحدث لهم يوم القيامة يوم تتزلزل الأرض والجبال وصارت الجبال كَثِيبَاً أي تَلَّاً من الرمل مَهِيلاً أيْ مُتَنَاثِرا بعد أن كانت أحجاراً صلبة شديدة مُتَمَاسِكَة .. وفي هذا تخويفٌ لهم لعلهم به يستفيقون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ﴿15﴾ فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ﴿16﴾ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ﴿17﴾ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ﴿18﴾ إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يُحْسِنون دعوة الآخرين لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا " ، " فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ﴿16﴾ " أيْ نحن بَعَثْنا إليكم أيها الناس جميعا مَبْعُوثاً مِنَّا هو خاتم الرسل رسولنا الكريم محمد ﷺ شاهداً عليكم أي قائداً مُعَلِّما مُعِينَاً مُقَوِّمَاً مُصَحِّحَاً لكم من خلال تعليمكم أخلاق الإسلام ، كالشاهِد في المحكمة يُعين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَحكم فيها حُكْما صحيحا عادلا .. فكونوا كذلك جميعا أيها المسلمون ، كونوا شاهِدين مثل قدوتكم ﷺ ، أي كونوا دعاةً هُدَاةً للعالَمين ، تدعونهم لعبادة ربهم وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وتدعونهم للتمسّك بإسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ليَسعد الجميع بذلك في دنياهم وأخراهم ، تدعونهم بكلّ حِكمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الداريْن﴾ .. ثم يوم القيامة ستكونون في أعلي مَكَانَة مع رسولكم الكريم ﷺ ومع كلّ الرسل ، ستكونون شاهِدين علي مَن آمنَ بربه مثلكم أيْ صدَّق به وبآخرته وعمل بأخلاق إسلامه فسَعِد في دنياه ثم سيَسعد أكثر وأعظم في أخراه ، وعلي مَن كَذّبَ وتَرَكَ إسلامه كله أو بعضه فتَعِس في دنياه أشدّ التعاسة ثم سيَتعس أكثر وأعظم في أخراه ، وذلك لِصِدْقكم ولمَكَانتكم عند ربكم وثقته بكم وحبّه وتكريمه لكم .. " .. كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ﴿15﴾ " أيْ بَعثناه كما بَعثنا مِن قَبْل إلي فرعون رسولا كريما هو موسي ﷺ كان شاهداً أيضا عليه وعلي الناس في زمنه ، فهذا هو حالنا دائما مع البَشَر منذ آدم وحتي يوم القيامة ، لا نتركهم بلا تشريعٍ فيتعسون في دنياهم وأخراهم بل نُرْسِل لهم كل فترةٍ مَن يُعَلّمهم الإسلام لكي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم فيهما .. " فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ﴿16﴾ " أيْ لكنَّ فرعون خَالَفَ الرسول ولم يَتَّبِع الإسلام وكَذّب وعانَدَ واستكبر واستهزأ وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أخذناه أخذا وبيلا أيْ عذّبناه عذابا شديدا .. وكذلك سيكون حال كل مَن كان مثله ، فلا يَتَشَبَّه به إذَن أيّ أحدٍ عاقل ، وإلا كان له درجة من درجات العذاب في دنياه علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره يَتَمَثّل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراه يَنال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة
ومعني " فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ﴿17﴾ " ، " السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ﴿18﴾ " أىْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم بوقوع العذاب الدنيويّ والأخرويّ للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الذين يَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار فكيف إذن ستَحْمُون أنفسكم – إذا ظللتم على كفركم أيْ تكذيبكم وما أنتم عليه من سوء – من عذابِ يومٍ فظيعٍ شديدٍ قد كفرتم أيْ لم تُصَدِّقوا به من صفاته أنه يَجعل الصبيان لفظاعته وشدّة أهواله وعذاباته شُيوخَاً ضِعَافاً ذوي شَعْرٍ أبيض ؟! .. إنَّ كلَّ عاقلٍ عليه إذَن أنْ يُحْسِن الاستعداد ويَتَّقِي أيْ يَتَجَنّب ذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. " السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ﴿18﴾ " أيْ ومن صفات هذا اليوم أيضا أنه لشدّة فظاعته تَصِير السماء – رغم قوَّتها وإحكامها – شيئاً مُنْفَطِرَاً به أىْ مُتَشَقِّقَاً فيه أيْ في هذا اليوم الشديد وبسببه .. " .. كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ﴿18﴾ " أيْ كان وَعْد الله بحُدوث ذلك اليوم واقِعَاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ لأنه سبحانه لا يُخْلِف وَعْده مُطلقا وقادر علي كلّ شيءٍ بتمام القُدْرة وكمال العلم
ومعني " إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿19﴾ " أيْ هذه السورة وهذه الآيات كلها في القرآن العظيم كله هي تذكرة أيْ بكل تأكيدٍ فيها كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيها الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة .. " .. فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿19﴾ " أيْ فمَن أراد تمام الانتفاع والسعادة بها في دنياه وأخراه والنجاة من التعاسة فيهما فعليه أن يكون عاقلا ويُحسن استخدام عقله ويأخذ إلي ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشده لتمام الخير والسعادة في الدارين – طريقاً يَصِل به إلي حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وذلك من خلال طريق العمل بهذه التذكرة كلها ، أيْ بكل أخلاق آيات القرآن وما فيها من أخلاق الإسلام .. إنه مَن كان يريد بحقٍّ أن يَتَّخِذَ إلى ربه سبيلا فالأمر سَهْل مَيْسُور مُسْتَطَاع فلْيَفْعَله إذَن لأنه قد تَهَيَّأ له تماما اتخاذه بهذه التذكرة ، فلم يَتَبَقّ لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْر
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿20﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتشجيع والمَدْح علي القيام لطاعةٍ ما بالليل حسبما تَيَسَّر وقَدْر الاستطاعة ليتحقّق كل خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة ، إضافة لما ذُكِرَ سابقا من التنبيه عليه والدعوة له في الآية ﴿2﴾ " قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ " (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. أيْ إنَّ ربك أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعِيك ومُرْشدك لتمام الخير والسعادة في الداريْن حتما يعلم أنك يا رسولنا الكريم ومعك كثير من المؤمنين تقومون للطاعة بالليل قَدْر استطاعتكم وحسب ظروفكم وأحوالكم والتي تختلف من وقتٍ لغيره ومن شخصٍ لآخر ، تقومون بأقل من ثُلُثَيّ الليل أو بنصفه أو بثلثه أو بأقل من ذلك .. هذا ، وتذكير المسلمين بعِلْمه لِمَا يقولون ويفعلون وهم يعلمون تماما علمه بهم في كل أحوالهم هو لمزيدٍ من تذكرتهم بحبه لهم وقُرْبه منهم وتيسيره لكل شئونهم فيكون ذلك تشجيعا لهم علي الاستمرار فيما هم عليه من خير مُسْعِدٍ في الداريْن وعلي المزيد من الإحسان والإتقان فيه .. " .. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ .. " أيْ هذا تيسيرٌ ورحمة منه للمسلمين ، أيْ وهو وحده سبحانه الذي يعلم تماما وبكلّ دِقّةٍ مقادير الليل والنهار لأنه هو لا غيره الذي يُقَدِّرها ويَضبطها لمصلحة ولنفع خَلْقه من زمنٍ لآخر فلا تُرْهِقوا أنفسكم أنتم بمحاولة الاحتياط بزيادة قيامكم حتي تطمئنوا لتحقيق قيام الثلثين أو النصف أو الثلث بالضبط تماما وإنما عليكم بما تَيَسَّر وتستطيعونه وتَقْدِروا عليه ، وهو حتما يعلم تماما قَدْر الذي تقومونه من الليل وقَدْر جهودكم ويُقَدِّر لكم أجرها الدنيويّ والأخرويّ من فضله وكرمه والذي هو بغير حساب .. " .. عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ .. " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من رحمته تعالي وتيسيره ، أيْ هو سبحانه يعلم أنه لن تُقِيمُوه كله أيْ لن تُطِيقوا ولا يمكنكم قيام الليل كله والمُداوَمَة علي هذا إلا بتعبٍ شديدٍ فخفَّف عليكم وغفر لكم ذلك ووَصَّاكم بالقيام بالمِقدار الذى تستطيعون قيامه منه ، فاقرؤوا بالتالي بالليل في الصلاة أو خارجها ما تَيَسَّر لكم قراءته من القرآن الكريم من غير تحديدٍ لوقتٍ أو مقدارٍ مُعَيَّن .. " .. عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ .. " أيْ وأيضا خَفَّفَ عنكم لعِلْمه قطعا بأحوالكم حيث سيكون منكم أصحاب أعذارٍ مِن مرضي يَمنعهم مرضهم عن قيام الليل ومِمَّن يَتنقَّلون في الأرض للتجارة والعمل والعلم ونحوه يَطلبون من رزق الله الحلال ومِمَّن يُجاهدون في سبيل الله لنشر الإسلام والدفاع عنه حتي بالقتال أحيانا ضدّ مَن يَعتدي عليه بالقتال ، ومَن يُشْبِه هؤلاء ، وإذا كان الأمر كذلك فاقرؤوا بالتالي بالليل في صلاتكم وخارجها ما تَيَسَّر لكم من القرآن ، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي التيسير .. " .. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ .. " أيْ ووَاظِبُوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليكم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن .. " .. وَآتُوا الزَّكَاةَ .. " أيْ وأعْطُوا الزكاة المفروضة عليكم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كنتم مِن أصحاب الأموال .. " .. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا .. " أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع والتأكيد علي الإنفاق حيث يَصِف تعالي ما يُنفقونه وكأنه قَرْضٌ حَسَنٌ له ! أيْ وأعطوا مِمَّا تَملكونه من أموالٍ وأرزاقٍ وجهودٍ ونحوها لله بأن تُنفقوها في سبيله أيْ في كلِّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة لكم ولغيركم ، حرصاً ورَجَاءً أنْ يُعَوِّضكم بأكثر مِمَّا أنفقتموه ، فكأنهم يُقْرِضونه سبحانه ويَنتظرون منه أن يَرُدَّ لهم ما أقرضوه إيّاه ! والقَرْض الحَسَن هو ما كان حلالا أيْ نافعا مُسْعِدَاً لا حراما أيْ مُضِرَّاً مُتْعِسَاً ويكون بحبٍّ ورضا لا بِكُرْهٍ وإجبارٍ ويَتَّصِف بالإخلاص والإحسان (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ويكون بِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما يُناسب الحال من حيث المقدار والجودة فلا يُؤْخَذ الرديء ليُنْفَق ويُوَجَّه إلي أفضل الوِجْهَات حسبما تقتضيه الظروف والأحوال ولا يُتْبَع بأذيً مَا قوليٍّ أو فِعْلِيٍّ ونحو هذا من صفاتٍ حَسَنَة يَطلبها الإسلام .. هذا ، ومِن كَرَم الله تعالى أنْ سَمَّيَ الإنفاق قَرْضَاً وأعطي أجورا مُضَاعَفَة عليه رغم أنَّ الأموال والأرزاق بكل أنواعها هي أمواله وأرزاقه والجميع عباده سبحانه الكريم الوَهَّاب ! وهذا تكريمٌ للإنسان ورَفْعٌ لشأنه حيث جَعَله من أصحاب العِزَّة والكَرَم واليد العُليا وتشجيعٌ له وزيادةٌ لهِمَّته ليُنْفِق أكثر وأكثر ليُعَوَّض من أفضال الله ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ بما هو أعظم في دنياه وأخراه .. وهذا خطابٌ للناس علي قَدْر عقولهم بما يَفهمونه .. " .. وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا .. " أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ عموماً بعد كل الخير الذي سَبَقَ ذِكْره ، أيْ وما تفعلوا في دنياكم من أيِّ خيرٍ في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ فأنتم تُقَدِّموه في حقيقة الأمر لأنفسكم حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عند الله تعالي بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به ، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم ، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ﴿النحل : 97﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا .. " .. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿20﴾ " أيْ واسألوا الله مَغْفِرَة ذنوبكم وتوبوا إليه مَمَّا فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين ، يَغفر لكم حتماً لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴿1﴾ قُمْ فَأَنذِرْ ﴿2﴾ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴿3﴾ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴿4﴾ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴿5﴾ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴿6﴾ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُتَطَهِّرين الذين يَتَنَزَّهون عن فِعْل الأخلاق السَّيِّئة ويُطَهِّرون أنفسهم منها أوَّلاً بأوّل إضافة بالقطع لطهارتهم الظاهرية من نظافةٍ في أجسادهم وملابسهم وروائحهم ونحو ذلك .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴿1﴾ قُمْ فَأَنذِرْ ﴿2﴾ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴿3﴾ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴿4﴾ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴿5﴾ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴿6﴾ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴿7﴾ " أي هذا نداءُ حبٍّ وتكريمٍ من الخالق الرحيم الودود لرسوله الكريم محمد ﷺ ، ولكلّ مَن تَشَبَّهَ به في حُسْنِ وكمال خُلُقه ، لأنه في اللغة العربية حينما يُنَادَيَ أحدٌ بحاله الذي هو عليه بَدَلاً من اسمه فهذا يُفيد التلَطّف معه والحبّ والقُرْب والتكريم له ، ليكون ذلك من الله له زيادة لنشاطه في تمسّكه وعمله بالإسلام ودعوته له ودفاعه عنه وصبره علي أذَيَ مَن يُؤذيه .. أيْ يا أيها المُدَّثّر أيْ المُتَغَطّي المُتَلَفّف بالإسلام – من دَثّرَ بدِثَار أيْ غَطّيَ بغِطَاء أو ثوب – بكل أثواب أخلاقه العظيمة ورحماته الكاملة ، ويا أيّها المُتَغَطّي المُتَلَفّف بثيابه وبغِطائه النائم أو القاعد .. هذا ، وافتتاح الكلام بالنداء هو للتنبيه على أهمية ما سَيُلْقَىَ بعده للاهتمام والعمل به .. " قُمْ فَأَنذِرْ ﴿2﴾ " أيْ انْهَض من مكانك بكل هِمَّةٍ ونشاطٍ فسَارِع قَدْر استطاعتك بأنْ تُحَذّر الناس جميعاً من كل شرٍّ وتعاسة في دنياهم وأخراهم إنْ لم يُسلموا ، وذلك بكلّ قُدْوةٍ وحِكْمة وموعظة حَسَنة وفي كل وقتٍ ومكانٍ مُمْكِنٍ مُناسِب .. هذا ، وكما أنه ﷺ – وكذلك كل مسلم – مُنْذِر فهو أيضا حتما مُبَشِّر بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات القادمة يتكلم عن مَن لم يَسْتَجِب .. " وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴿3﴾ " أيْ وأيضا ربك وحده عَظّم – أي خالقك ومُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشدك لكل خير وسعادة في دنياك وأخراك – بأنْ تعبده بلا أيِّ شركاء ، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وبأنْ تَتَّبِع نظامه وحده وهو الإسلام بلا أيِّ نظامٍ آخر مُخَالِفٍ له .. هذا ، ومن التعظيم قطعا قول الله أكبر حيث هو تعالي أكبر وأعظم من أيِّ كبيرٍ وعظيم ، وذِكْره بكل صفةٍ تليق به فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، وتنزيهه أيْ إبعاده سبحانه عن كل وَصْفٍ لا يَليق .. " وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴿4﴾ " أيْ وأيضا ذاتك طَهِّرها من كل سوءٍ في الأقوال والأفعال فكن دوْماً طاهر القول والفِعْل بفِعْل الخير وتَرْك الشرّ من خلال العمل بكل أخلاق إسلامك لتسعد في دنياك وأخراك ، لأنَّ العرب في بعض حديثهم يُطْلِقون لفظ الثياب يَقْصِدون الذات ، كذلك طَهِّر ثيابك من كل نجاسةٍ وقَذَارَةٍ واجعلها دائما نظيفة أنيقة جميلة ذات رائحة طيبة كما يطلب الإسلام .. " وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴿5﴾ " أيْ وأيضا الذنب والقَذَر والعذاب فاتْرُك وابْعِد تماما ، أيْ واظِب دائما أيها المسلم علي هَجْر ما يُؤَدِّي بك إلي السوء والفساد والعذاب والشقاء الدنيويّ والأخرويّ النفسيّ والجسديّ ، كعبادة غير الله تعالي وكفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار .. " وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴿6﴾ " أيْ وأيضا لا تَمُنّ علي الناس مُسْتَكْثِرَاً لِمَا أعطيتهم من خيرٍ مَا في شأنٍ من شئون حياتهم أو لدعوتك لهم لله وللإسلام ، والمَنّ هو عَدّ وحساب الفضل علي الآخرين بصورةٍ مُؤْذِيَة لهم وتذكيرهم بذلك كثيرا أو أحيانا تَفَاخُرَاً وتَعَالِيَاً عليهم أو لطَلَبِ شكرٍ أو مدح أو لتحقيق غرضٍ دنيويّ رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره أو ما شابه هذا من أسباب المَنِّ المُضِرِّ المُؤْذِي المُتْعِس في الداريْن ، بل اطلب من الله تعالي وحده أجرك الدنيويّ والأخرويّ من كل خيرٍ وسعادة .. كذلك لا تَمُنّ حتماً علي الله مُستكثراً عملك الخيريّ مُعْجَبَاً به فيُضعفك ويُقعدك ذلك الاستكثار والإعجاب عن فِعْل مزيدٍ من الخير فتَخسر مزيداً من السعادة في دنياك وأخراك ، ولكن تَذَكَّر دائما أنه بتيسير وتوفيق الله فاشكره ليَزيدك ولا يَحرمك منه .. إنَّ عَلَيَ كل مسلمٍ أنْ يتجنَّب تماما مثل هذا المَنِّ علي غيره وإلا كان سَيِّءَ الخُلُق تعيساً بسوء علاقاته مع مَن حوله وبالتالي سيتعس قطعا في دنياه وأخراه .. " وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴿7﴾ " أيْ لِرِضَا ولثواب ربك فاصبر ، أيْ من أجل الحصول علي رضاه وحبه وعوْنه وتوفيقه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته وثوابه في الآخرة فبالتالي فاصبر .. كذلك لربك وحده لا لغيره ولا لهدفٍ آخر كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نحوه فاصبر أيْ كُن مُخلصا مُحْسِنا في صبرك (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، كن من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وكذلك لِحُكْمِ ربك فاصبر أيْ علي ما حَكَمَ به ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ، من تكريمكم وتشريفكم أيها المسلمون باختياركم لدعوة جميع الناس في كل الأرض لله وللإسلام لتكونوا رحمة لهم ليسعدوا مثلكم في الداريْن ، واصبروا إلي أن يَحكم الله بينكم وبين مَن يُؤذونكم قولاً وفِعْلاً ويَنصركم عليهم ويَنشر إسلامكم
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ﴿8﴾ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴿9﴾ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴿10﴾ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴿11﴾ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ﴿12﴾ وَبَنِينَ شُهُودًا ﴿13﴾ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ﴿14﴾ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴿15﴾ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴿16﴾ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴿17﴾ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿18﴾ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿20﴾ ثُمَّ نَظَرَ ﴿21﴾ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿22﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴿23﴾ فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿24﴾ إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿25﴾ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴿26﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴿27﴾ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ﴿28﴾ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴿29﴾ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴿30﴾ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴿31﴾ كَلَّا وَالْقَمَرِ ﴿32﴾ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴿33﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ﴿34﴾ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ﴿35﴾ نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ ﴿36﴾ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴿37﴾ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴿38﴾ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ﴿39﴾ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿40﴾ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ﴿41﴾ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴿42﴾ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴿43﴾ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴿44﴾ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴿45﴾ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿46﴾ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴿47﴾ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴿48﴾ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴿49﴾ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴿50﴾ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴿51﴾ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ﴿52﴾ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ﴿53﴾ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴿54﴾ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴿55﴾ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴿56﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنتَ مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ﴿8﴾ " ، " فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴿9﴾ " ، " عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴿10﴾ " أيْ فإذا صُوِّتَ في الآلة التي تُخْرِج الصوت ، من النَّقْر وهو الصوت ، أيْ إذا نُفِخَ في الصُّوُر ، أيْ فعندما يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء أحداث يوم القيامة – ولا يَعلم كيفية حدوث النَّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلاّ بأمره – حينها يكون ذلك هو يوم انتهاء الحياة الدنيا بكل ما فيها وبَدْء البَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر من قبورهم بعد كوْنهم ترابا لبَدْء حسابهم ، فذلك الوقت يومها شديد صعب علي الكافرين – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ففَعَلوا بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب عندهم – غير سَهْلٍ عليهم أن يَتَخَلّصوا مِمَّا هم فيه من عذابٍ مُتنوّع كانوا لا يُصَدِّقون به ويَستبعدون تماما حدوثه ، ولفظ " .. غَيْرُ يَسِير .. " يُفيد مزيداً من التأكيد علي شدّته التي لا تُوصَف ، مثلما يُقال عاجلٌ غير آجلٍ كمزيدٍ من تأكيد سرعة المَجِيء والحُدوث دون تأجيل ، كما يُفيد أنه غير يسيرٍ عليهم كما هو يسير علي المؤمنين أي المُصَدِّقين به المُسْتَعِدِّين له بالتمسّك بكل أخلاق إسلامهم حيث يَمرّ عليهم كوقتِ صلاةٍ مِن الصلوات كما أخبر بذلك الرسول ﷺ
أمَّا معني " ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴿11﴾ " ، " وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ﴿12﴾ " ، " وَبَنِينَ شُهُودًا ﴿13﴾ " ، " وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ﴿14﴾ " أي اتركني مع مَن خَلَقْته وحيداً مُنْفَرِدَاً في بطن أمه وأخرجته للحياة لا شيء له يملكه ونَمَّيته وراعَيْته ورزقته من فضلي وكرمي أثناء حياته من كل أنواع الأرزاق فلم يُحسن استخدامها في الخير بل استخدمها في الشرّ حيث جعلت له مالا كثيرا من كل الأنواع يَمُدّ ويَزيد بعضه بعضا ، وأيضا جعلت له أولادا كثيرين شاهدين أي حاضرين دائما عنده لا يبتعدون عنه يَتمتّع بهم وينفعونه وينصرونه ويشهدون معه كل تحركاته ليكونوا عوْنا له ، وكذلك مَهَّدت له تمهيدا أيْ هَيَّأت له الرئاسة والنفوذ ومُتَع الحياة تَهْيَأَة حَسَنَة .. والمقصود أنْ ذَرْنِي أي اتْرُكْنِي وإيَّاه هذا الذي يُكَذّب بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وبعقابه وجنته وناره فيَفعل لذلك الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب عنده ، هذا الذي يَتَوَّهَم أنه بما رزقته من قوَي مختلفة يمكنه الوقاية من عذابنا حين ينزل به ويمكنه مُعَاداتنا والمسلمين والإسلام ومَنْع نَشْره ، اتركني مِنِّي له مباشرة ، فأنا لا غيري الذي سأتَكَفّل بعقابه وأنتقم منه ، فسترون ماذا أصنع به فلا مُنْقِذ له مِن عذابي .. فالخالِق القويّ القاهِر يَنتقم من المخلوق الضعيف الذي لا يُذْكَر !! وهذا يدلّ علي شدّة غضبه سبحانه عليه .. فوَكِّلُوا الأمر إذَن لي أيها المسلمون ولا تَنشغلوا به وبمَن يُشْبِهه واستمرّوا متمسّكين بإسلامكم وحُسن دعوتكم لله وللإسلام .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ له ولأمثاله لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
أما معني " ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴿15﴾ " ، " كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴿16﴾ " أيْ وأعظم من ذلك أنه بعد كل هذا العطاء هو يأمل ويرجو ويحرص حرصا شديدا بِشَرَهٍ وجَشَعٍ أن أزيده على ما أعطيته وهو كافر لا يشكر ! كيف يكون ذلك ؟! وفي هذا تَعَجّب من حاله وذمّ له وتهوين من شأنه واسْتِبْعاد لحدوث مثل هذا .. كلا ! أي لن يكون ذلك أبدا مع كفره ! فلن أزيده شيئا ، وقد تناقَصَت نِعَمه تدريجيا مع الزمن حتي هَلَك .. وكذلك سيكون حال كل مَن تَشَبَّهَ به .. " كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴿16﴾ " أيْ لا ، ليس الأمر كما يَوَدّ ويَتَمَنَّيَ مثل هذا المُجْرِم فَلْيَرْتَدِعْ ويَتَرَاجَع ويَنْتَهِ عَمَّا يَطمع فيه من الزيادة بأيِّ شيءٍ ولا يَرِد مُطلقا بفِكْره ذلك بل سيَجد كل شقاءٍ ونقصانٍ وهلاكٍ لأنه كان لآياتنا عنيداً أيْ شديدَ المخالَفَةِ لها وهو عارِف بصِدْقها مُكَذّبا بها مُتَعَالِيَاً عليها غيرَ مُستجيبٍ إليها مُقاوِمَاً لها محاولا مَنْع غيره من اتِّباعها والعمل بها .. والمقصود بآياتنا أيْ دلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك ، سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حوله أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ علي الناس وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم
ومعني " سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴿17﴾ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿18﴾ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿20﴾ ثُمَّ نَظَرَ ﴿21﴾ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿22﴾ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴿23﴾ فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿24﴾ إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿25﴾ " أيْ سأكَلّفه بما يُرْهقه ولا يُطيقه ويُتْعِبه ويُحَيِّره ويقْلِقه ويُرْهِبه ، أيْ سأذيقه عذاباً صَعُودا – والصَّعُود هو الأمر الشاقّ – أي شاقّاً شديداً مؤلما صاعدا يَصعد عليه ويَعْلُوه ويَغْلبه فلا يطيقه ولا يرتاح منه ، علي قَدْر ابتعاده عن القرآن والإسلام وفِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار ، في دنياه وأخراه ، ففي الدنيا له حتما درجة ما من درجات العذاب بما يُناسب فِعْله كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في الآخرة يَنال ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة .. " إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿18﴾ " أيْ والسبب في هذا العذاب ، ومِن صُوَر عِناده ، أنه قام بالتفكير والتقدير والتجهيز داخل عقله لِمَا سيقوله من سوءٍ في حقّ القرآن العظيم والإسلام والرسول الكريم ﷺ .. بَدَلاً أن يفكر فيما فيه من خير وسعادة في الداريْن فينتفع به !! .. " فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾ " أيْ فَلُعِن ، أيْ فاسْتَحَقّ بذلك الهلاك ، أي قَتَلَ الله هذا العَنِيد المُكَذّب إذا استمرّ علي تكذيبه وعِناده دون عودة لربه ولإسلامه ، أيْ سيَقتله عاجلا أم آجلا حيث يَرَيَ أنْسَبَ توقيتٍ لذلك أيْ سيُعذّبه وسيهلكه وسيَلعنه أيْ سيَطرده من رحمته في دنياه قبل أخراه بسبب شروره ومَفاسده وأضراره ، فهذه هي النتيجة الحَتْمِيَّة لسوء أقواله وأعماله ، ولذا فهو في تمام التعاسة في الدنيا والآخرة ، فلا يَتَشَبَّه أبدا به أيّ أحدٍ حتي لا يكون مصيره مثله .. " .. كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾ " أيْ كيف أعَدَّ في فِكْره هذا القول السَّيِّء في حقِّ القرآن العظيم والإسلام والرسول الكريم ﷺ ؟! والاستفهام يُفيد التَّعَجُّب من حاله القبيح والذمّ الشديد لعقله ولأسلوب تفكيره ولتقديره .. " ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿20﴾ " أيْ فلُعِنَ ثم لُعِن ، أيْ عُوقِبَ أكثر من مرة ، كلما أساء ، أيْ ثم اسْتَحَقّ مزيداً من اللعن والعذاب والهلاك لأنه أعَدَّ هذا القول السَّيِّء القبيح ، كيف وَصَلَ إلي هذا الحدّ ؟! .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ يُفيد التأكيد علي المعني ، مع المُبَالَغَة ، أيْ أنَّ عقابه سيكون شديداً في الداريْن ، أيْ سيُقْتَل ويُعذّب ويهلك بنوعٍ مَا من القتل والعذاب والهلاك لا بل بأشدّ أنواعهم .. " ثُمَّ نَظَرَ ﴿21﴾ " أي ثم تأمَّل في القرآن العظيم وفيما قَدَّرَ وأعَدَّ وهيَّأ بداخل عقله من القول السَّيِّء القبيح الذي سيقوله في حقّه والإسلام والرسول الكريم ﷺ ، وكذلك نَظَرَ في وجوه مَن حوله وكأنه سيقول لهم شيئا هاما ! وفي هذا استهزاء به وتهوين من شأنه .. " ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿22﴾ " أيْ ثم قَرَّبَ بين حَاجِبَيْه وكَشَّرَ جَبِينه إظهارا لعدم رضاه ، وبَسَر أيْ زادَ في عُبُوسِه وأظهره وتَغَيَّر لون وجهه ، وكل ذلك بسبب ضيقه وحزنه وكآبته لأنه لم يجد شيئا أبداً يمكنه أن يُسِيء به إلي القرآن الكريم .. " ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ﴿23﴾ " أيْ ثم بعد ذلك أعْطَيَ دُبُرَه أيْ ظَهْره والتفتَ وانصرفَ وابْتَعَدَ عن القرآن والإسلام وتَرَكه وأهمله وخَالَفه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصراره التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار .. " فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴿24﴾ " ، " إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴿25﴾ " أيْ فقال مُكَذّبا مُعانِدا مُستكبرا مُستهزئا ما هذا القرآن إلا سحر يُؤْخَذ كأثَرٍ من آثار أقوال السابقين مَوْرُوث مَنْقُول عنهم يَسْحِر عقول الناس بأوهام وتَخَيّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل ! وما هذا القرآن إلا كلام البَشَر وليس من كلام الله تعالي يُوحَيَ لمحمد ﷺ كما يَدَّعِي !
أمَّا معني " سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴿26﴾ " وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴿27﴾ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ﴿28﴾ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴿29﴾ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴿30﴾ " أيْ سأَحْرِقه وأشْوِي جسده بنار جهنم يوم القيامة ، وسقر هي اسم من أسمائها .. " وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴿27﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هي سقر أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك بها علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينها واقعيا لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوها فهي أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيها من العذاب الذي لا يُوصَف لمَن يستحِقّه .. " لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ﴿28﴾ " أيْ لا تُبْقِى لَحْمَاً ولا تَتْرك عَظْماً ولا شيئاً إلا أحرقته وهي لا تُبْقِي مَن فيها حيَّاً ولا تتركه ميتاً بل تَحْرِقه وتُعَذّبه ثم يُعاد إلي الحياة مرة أخري بأمر الله لتُعيد عذابه ، وهكذا ، كما يقول تعالي : " .. كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ .. " ﴿النساء : 56﴾ .. " لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴿29﴾ " أيْ ومن صفاتها أيضا أنها تَلُوح تماما للناس برهبتها حتى يروها جميعا بأعينهم ، مِن لاحَ أيْ ظَهَرَ ، كما أنها حَرَّاقَة مُغَيِّرَة مُسَوِّدَة للبَشْرَة وهي ظاهر جِلْد الإنسان حتي يَلُوحَ أيْ يَظْهَر عَظْمُه وذلك قبل أن تهلكه ، والبَشَر جَمْع بَشْرَة ، لأنَّ من معاني لاحَ أي غَيَّرَ وأحرقَ وسَوَّدَ ، ولَوَّحَته الشمس أيْ غَيَّرَته حيث تَلْفَح حرارتها جلده فتُغَيِّره للسَّوَاد .. " عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴿30﴾ " أيْ وكذلك من الأوصاف المُرْعِبَة لها والتي لا يُمكن وصفها – لكي يَدْفَع هذا كل عاقلٍ لمزيدٍ من الاجتهاد في الوقاية منها – أنها يقوم عليها وعلي حراستها وإدارة شئونها وعلي تنفيذ أوامر الله بعذاب من يستحِقّها ودرجة وصورة عذابه تسعة عشر مَلَكَا أو صَفّا أو صِنْفَا من الملائكة قاسية لا رحمة لها قوية في معاملاتها بحيث لا يَفْلِت منها أحدٌ وهي لا تُخالِف الله تعالي أبداً في أيِّ أمرٍ من أموره وتُنَفّذ كل ما تُؤْمَر به منه تماما بلا أيِّ تغييرٍ أو تأخير
أمّا معني " وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴿31﴾ " أيْ هذا ردّ من الله تعالي علي بعض السفهاء من المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الذين تَوَهَّموا أنَّ عَدَدَ حُرَّاس النار بما أنه تسعة عشر كما ذُكِرَ في الآية السابقة ولم يَذْكُر سبحانه مِن أيِّ صنفٍ مِن الخَلْق فَهُم من الرجال مثلهم فيُمكن إذَن باجتماع مجموعاتٍ مِن المُعَذّبين في النار التَّصارُع معهم وهزيمتهم والهروب من العذاب مثلما تَوَهَّم ذلك بعضهم أيام الرسول ﷺ !! .. أيْ ولم نجعل أصحاب النار أيْ خَزَنَتها أيْ الذين يقومون عليها وعلي حراستها وإدارة شئونها وعلي تنفيذ أوامر الله بعذاب مَن يستحِقّها لم نَجعلهم مثلا بَشَرَاً أو مخلوقاتٍ ضعيفة يمكن الإفلات منها أو لا يمكنها تنفيذ مهامّها وإنما جعلناهم ملائكة قاسية لا رحمة لها قوية في معاملاتها بحيث لا يَفْلِت منها أحدٌ وهي لا تُخالِف الله تعالي أبداً في أيِّ أمرٍ من أموره وتُنَفّذ كل ما تُؤْمَر به منه تماما بلا أيِّ تغييرٍ أو تأخير .. " .. وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا .. " أيْ وما جعلنا عَدَدَ الملائكة هذا العَدَد وهو تسعة عشر – إذ كان مِن المُمْكِن عدم تحديده وينتهي الأمر – إلاّ اختباراً للذين كفروا ليَظْهَر للناس تكذيبهم وسفههم لأنه بأشباه هذه الاختبارات يَنكشف أمرهم أكثر وينكشف تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ويعرفهم غيرهم أكثر ويَحْذرونهم أكثر ، ويَعرف الناس أيضا المسلمين المُصَدِّقين تماما بكلام الله تعالي فيَقتدون بهم حيث هم يُصَدِّقون كل كلامه في القرآن العظيم بلا أيِّ شكٍّ ويَتركون الأعداد ومثل هذه الأمور لخالِقهم سبحانه ولِحِكَمِه التي لا يَعلمها إلاّ هو والتي هي حتما لغايةٍ ولمصلحةٍ مَا ، قد يُدْرِكون حِكْمَتها عاجلاً أو آجِلاً أو لا يُدْرِكون .. " .. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا .. " أيْ وأيضا ما جَعلنا عِدَّتهم بهذا العَدَد إلاّ لكي يَتَيَقَّن أيْ يَتَأَكَّد بقوة وتماما وبلا أيِّ شكٍّ الذين أوتوا الكتاب – أيْ اليهود والنصارى الذين أعطوا الكتاب وهو التوراة والإنجيل قبل نزول القرآن – أنَّ الرسول ﷺ صادق فيما يُبَلّغه عن ربه حيث كُتُبُهم قد ذَكَرَت هذا العَدَد كما ذَكَره القرآن الكريم وبالتالي يَسهل عليهم الإيمان به ويُسْلِموا .. وإلاّ لكي يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم أيْ تصديقاً علي تصديقهم حينما يُصَدِّقون بهذا العدد أيضا كما صَدَّقوا ببقية آيات القرآن فيكون تصديقهم قد ازداد تصديقا إضافيا لأنهم مؤمنون مُصَدِّقون أصلا بكل ما فيه وبما جاءهم به رسولهم الكريم ﷺ .. " .. وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ .. " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَق ، أيْ ولكي لا يَشُكّ مُطلقا الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون في صِدْق القرآن والرسول ﷺ وتَزول أيْ شُبْهَةِ شكٍّ قد تَمُرّ بخاطرهم يوما ما ، والمقصود من إعادة الكلام إفادة حصول اليقين التامّ عندهم بحيث لا يَحْدُث بعده أيّ شكٍّ أبداً مع أيِّ حَدَثٍ أو حَديث .. " .. وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا .. " أىْ وأيضا ما جعلنا عِدَّتهم كذلك إلاّ ليَظْهَر للناس مَن هم الذين في قلوبهم أيْ عقولهم مرضٌ مَا كالشكّ مثلا في وجود الله أو الترَدّد بين الإيمان والكفر به سبحانه أو عدم التمسّك بأخلاق الإسلام بعضها أو كلها وتفضيل غيرها عليها ممّا يَضرّ ويُتْعِس أو كالرياء أي ليسوا مُخلِصين صادقين في قولهم أو عملهم مِن أجل الخير وإنما فقط يُحبون أن يَراهم الناس فيمدحوهم علي فِعْلهم (برجاء مراجعة معاني الإخلاص في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، أو ما شابه هذا من التفكير المَرَضِيّ غير السَّوِيّ ، وبالجملة الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم فيُعَطّلونها بسبب الأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، حيث يقولون هم والكافرون المُصِرّون على التكذيب ما الأمر الذى أراده الله بهذا المَثَل وهو جَعْل خَزَنَة سَقَر تسعة عشر وهو عدد مُسْتَغْرَب استغراب الأمثال ؟ أيْ ما الفائدة أن تكون عِدَّتهم هكذا وليس أكثر أو أقل ؟! والمقصود من سؤالهم هو التكذيب والاستهزاء ونفي أن يكون هذا من كلام الله ومحاولة يائسة لإثبات أنه ادعاءٌ من الرسول ﷺ !! .. " .. كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ .. " أي هكذا دائما لا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لمَن يَشاء الضلالة ولم يَشأ الهداية لله وللإسلام ، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقله وبالتالي فلم يَشَأ الله له الهداية وتَرَكَه فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ ، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّه لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكه سبحانه ولم يُعِنْه .. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذن ، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ، فهو قد اختار هذا الطريق أولا ، بأن أحْسَن استخدام عقله ، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ .. " أيْ وما يعلم عَدَدَ جنود ربك – وهم مخلوقاته التي تُنَفّذ أوامره تماما بلا أيِّ تأخير كجنود الجيوش – ولا قُوَّتهم وكثرتهم وإمكاناتهم وكيفية عملهم وغير ذلك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم إلاّ هو وحده سبحانه ، وما هذا العدد الذى ذكرناه إلا جزء من جنودنا ، فلا يَتَوَهَّم مُتَوَهِّم مثلا أنهم تسعة عشر فقط ! وإذا كنتم أيها الناس لا تعلمون جنوده وأخبركم بها ربكم العليم الخبير فعليكم إذَن أن تُصَدِّقوا خَبَره بلا أيّ شكّ ! .. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة ، كما أنه تحذير شديد للمُعاندين لله ولإسلامه بعقابهم بجنوده التي لا تُحْصَيَ ولا تُعْلَم لعلهم يستيقظون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن ، حيث لا مُقَارَنَة حتما بين كمال قوة وقُدْرة وعلم الخالق وبين قُدْرَات المخلوق ! .. " .. وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴿31﴾ " أيْ وما هذه الموعظة وما آيات القرآن العظيم كلها وما هذه الدلالات والحجَج وما سَقَر التى ذُكِرَت لكم إلاّ تَذْكِرَة وعِظَة للبَشَر لأنَّ أيّ عاقل يَتذكّر لهيبها وشدّة وتنوّع عذابها لا بُدّ حتما أن يُحسن الاستعداد للنجاة منها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق القرآن ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه وإلاّ تَعِس فيهما علي قَدْر ما يَترك من أخلاقه
ومعني " كَلَّا وَالْقَمَرِ ﴿32﴾ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴿33﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ﴿34﴾ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ﴿35﴾ نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ ﴿36﴾ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴿37﴾ " أيْ كلا ، أيْ لا ، ليس الأمر كما يُكَذّب هؤلاء الكافرون بحدوث الآخرة وبأنْ تكون عِدَّة الملائكة التي على سَقَر تسعة عشر وبتعذيبهم فيها ، فَلْيَرْتَدِعوا ويَتَرَاجَعوا ويَنْتَهوا عن كل ذلك ولا يَرِد مُطلقا بفِكْرهم هذا بل سيَجِدُونها وسيَجدون فيها كل شقاءٍ وهلاك .. " .. وَالْقَمَرِ ﴿32﴾ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴿33﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ﴿34﴾ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ﴿35﴾ " أيْ كلا ليس الأمر كذلك ، وأُقْسِم بالقمر وبالليل وقت ذهابه إذا ذَهَبَ وبالصبْح إذا ظَهَرَ وأشْرَقَ وأضاءَ ، أُقْسِم إنها لأحدي الكُبَر – جَمْع كُبْرَيَ وهذا هو المُقْسَم عليه – أيْ أُقْسِم بهذه الثلاثة إنَّ سَقَرَ والآخرة التي يُكَذّب ويَستهزيء بها المُكَذّبون لَهِيَ بكل تأكيدٍ إحدي الأمور الكبيرة العظيمة التي لا مَثِيل لها .. هذا ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ القمر والليل والصُّبْح .. إنه تعالي يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض مُعْجِزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، والمقصود التذكرة بتمام قُدْرة الله تعالي وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة لا غيره حيث البعض قد يَعبد النجوم والكواكب وغيرها وهي لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه ! .. " نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ ﴿36﴾ " أيْ إنها لإِحدى الكُبَر جعلناها تحذيرا للناس ومَنْعَاً لهم عن فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنَّ أيّ عاقلٍ يَتذكّرها لا بُدّ حتما أن يُحسن الاستعداد للنجاة منها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق القرآن ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه وإلاّ تَعِس فيهما علي قَدْر ما يَترك من أخلاقه .. " لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴿37﴾ " أيْ سَقَر والآخرة هى خيرُ نذيرٍ لمَن أراد منكم أيها الناس أن يتقدَّم نحو تحقيق تمام السعادة في الداريْن حيث هي تَدْفع حتما كل مُصَدِّقٍ بها عاقلٍ لأن يُحسن اتِّخاذ أسباب ذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام .. أمَّا مَن أراد أن يتأخَّر ويَتَخَلّف عن السعادة ويَتَّجِه نحو التعاسة فيهما ولا يكون عاقلا بل سفيها فلا يهتمّ بإنذار سَقَر إذَن ولْيَفعل الشر ولْيَترك الخير ! فالأمر إذَن اختياريّ لا إكراه فيه ! فلْيَخْتَر كلّ إنسانٍ ما شاء بكامل حرية إرادة عقله ولْيَتأكَّد أنه سيَتَحَمَّل قطعا نتيجة اختياره فإنْ اختار خيراً فله كل تَقَدُّم وخير وسعادة في دنياه وأخراه وإنْ اختار شرَّاً فله كل تأخّر وشرّ وتعاسة فيهما
أمَّا معني " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴿38﴾ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ﴿39﴾ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿40﴾ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ﴿41﴾ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴿42﴾ " أي كل نفس إنسانية ، كلّ إنسانٍ هو مَرْهُون – كالرَّهْن الذي يُعْطَيَ في مُقابِل دَيْنٍ مَا ولا يُسْتَرَدّ حتي يُسَدَّد – عند الله تعالي بما كَسَبه أيْ فَعَلَه من عملٍ في دنياه ولن يستطيع أن يَفكَّ ويَسْتَرِدَّ نفسه المَرْهُونَة هذه ويَنطلق من مَحْبَسه هذا عند الله إلا بعد أنْ يُسَدِّدَ دَيْنَه بمعني أن يُحَاسَب علي عمله ، فإنْ كان خيرا انْفَكَّ مِن أسْرِه ونَالَ كلَّ خيرٍ وسعادةٍ في درجات الجنات ولم يُنْقَص من ثوابه ولو حَسَنة وإنْ كان شرَّاً بَقِيَ رهينا أسيرا في العذاب بما يُسَاوِي شروره .. وأيضا كلّ إنسان مَرْهُون بعمله لا يُؤَاخَذ به غيره أيْ لا يَحمل أحدٌ إثم أحدٍ آخر وإلا كان ذلك مُخَالِفَاً لعَدْله تعالي ، فكلُّ فردٍ يَتحمَّل نتيجة عمله وحده .. " إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ﴿39﴾ " أيْ إلا المسلمين الذين فَكّوا رَهْنَهم بما فعلوه في دنياهم من خيرٍ فانْطَلَقوا وسَعِدوا .. وأصحاب اليمين هم الذين يُؤْخَذ بهم للتَّوَجُّه ناحية اليمين ويَأخذون بأيديهم اليُمني الكتب المُسَجَّل فيها أعمالهم وكلهم يُمْن أيْ بركة وخير وسعادة بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم السعداء السعادة التامّة الخالدة وهم أهل الجنة .. " فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿40﴾ ، " عَنِ الْمُجْرِمِينَ ﴿41﴾ " ، " مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴿42﴾ " أيْ هم مُستَقِرّون في جناتٍ لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر يسأل بعضهم بعضا أثناء بعض حديثهم فيما بينهم عن أحوال المجرمين وهم الذين ارتكبوا الجرائم بأنواعها المختلفة ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، ويسألونهم إذا رأوهم علي سبيل الذمّ الشديد وزيادة الحَسْرَة لهم ما أدْخَلكم في سَقَر ؟
ومعني " قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴿43﴾ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴿44﴾ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴿45﴾ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿46﴾ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴿47﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض أسباب دخولهم النار حتي لا يفعلها عاقل فيكون مصيره مثلهم ، أيْ فأجابوهم قائلين أننا فى الدنيا لم نَقُم بأداء الصلاة المفروضة ، ولم نُعْطِ المحتاج ما يستحِقّه من عطاءٍ بل حرمناه حقوقه ، وكنا كذلك نَنْغَمِس ونندفع مع المُنْغَمِسِين المُنْدَفِعِين فى الأقوال والأفعال السيئة ففعلنا الشرور والمَفاسد والأضرار ، وكنا أيضا لا نُصَدِّق بحُدوث يوم الدين أيْ يوم الحساب والجزاء ، أيْ اليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن ، دين الإسلام ، لمَن كان عمل به ، وبَقِينا مُسْتَمِرِّين مُصِرِّين علي ذلك السوء الذي كنا فيه طوال حياتنا حتي جاءنا الموت ورأينا بأعيننا صِدْق ما كنا نُكَذّب به والذي كان يَقِينيَّاً مُؤَكَّدَا
ومعني " فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴿48﴾ " أيْ فلا تُفيدهم يومها شفاعة أيّ شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عند الله لكي يعفو عنهم وينقذهم مِمَّا هم فيه ، مِمَّن يَأذن لهم الله في الشفاعة للآخرين لتكريمهم ولمَكانتهم عنده كالنبيين والشهداء والصالحين ، والمقصود أنهم لا أمل لهم في أيِّ نجاة ، وذلك لو فُرِضَ وتَقَدَّم أحدٌ للشفاعة لهم حيث لن يتقدّم أحد أصلا لأنَّ الشفاعة هي بإذنه سبحانه ولا تكون إلا للمسلمين فقط
ومعني " فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴿49﴾ " ، " كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴿50﴾ " ، " فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴿51﴾ " أيْ ما بهم ؟! ما شأنهم ؟! ما الذي حَدَثَ لعقول هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين وأيّ شيءٍ أصابها حتي يُعْرِضوا عن التذكير بالقرآن العظيم والذي هو تذكرة فيه بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن ؟!! .. والإعراض هو أن يُعطوا ظهورهم ويَلتفتوا ويَنصرفوا ويَبْتَعِدوا عنه ويَتركوه ويهملوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء .. والاستفهام هو للتعجّب من سوء حالهم وإصرارهم التامّ عليه وللذمّ الشديد له .. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴿50﴾ " ، " فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴿51﴾ " أيْ كأنهم في إعراضهم عن القرآن العظيم مثل حُمُر – جَمْع حِمار – مُستنفرة أيْ اجتهدت بشدّة في نِفَارها أيْ ابتعادها عمَّا يُخيفها وقد فَرَّت أيْ هَرَبَت بسرعة من قسورة أيْ من مُطارديها ، وقسورة قد تعني أسد أو صيَّاد لأنه يَقْسر أيْ يَقْهَر غيره .. وفي تشبيههم بالحمير ذمّ شديد لهم حتما علي ضعف عقولهم وبَلادتهم
أمَّا معني " بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ﴿52﴾ " أيْ هذه صِفَة أخري من صفاتهم السَّيِّئة وصورة من صور تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغَتهم حيث هم لا يَكتفون بالقرآن الكريم ولا يَرضون به بل يريد كل واحد منهم أن يُعْطَيَ هو خِصِّيصَاً ويُوحَيَ إليه كأنه مِن رُسُل الله صحائف مثل صُحُف القرآن مُنَشَّرَة أيْ مفتوحة وليست مَطْوِيَّة لا يُعْلَم ما كُتِبَ بها بحيث تُنْشَر ويَطّلِع عليها الجميع مكتوب فيها وصايا الله له وأن يؤمن بمحمد ﷺ فإنْ حَدَثَ ذلك صَدَّقوا بوجود الله وبأنَّ القرآن وَحْيٌ من عنده وبصِدْق الرسول ﷺ وأسْلَمُوا !! بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه لأنهم متأكِّدون أنَّ هذا سَفَهٌ ولن يَحدث !!
ومعني " كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ﴿53﴾ " أيْ لا أيّها المُكَذّبون ليس الأمر كما تَوَدّون وتَتَمَنّون فَارْتَدِعوا وتَرَاجَعوا وانْتَهوا عَمَّا تَتَمَنّوه أن يُؤْتَيَ كلّ امريءٍ منكم صُحُفَاً مُنَشَّرَة ولا يَرِد مُطلقا بفِكْركم ذلك .. أيْ كلا ليس الأمر كما ادَّعوا أنَّ السبب في أنهم لم يؤمنوا لأنهم لم يُؤْتوا صُحُفَاً مُنَشَّرَة ولو أُعْطُوها لآمَنوا ولكنَّ السبب الحقيقي هو أنهم لا يخافون الآخرة ولذلك فهم يطلبون مثل هذه الطلبات السفيهة التي لن تتحقق ولذلك أيضا هم عن التذكرة بالقرآن العظيم مُعْرِضين حيث لا حساب وعقاب وجنة ونار من وجهة نظرهم ولو كانوا يخافونها لَمَا فَعَلُوا ما فَعَلوا
ومعني " كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴿54﴾ " ، " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴿55﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي رَدْعِهم عن أمنِيَّاتهم أنْ يُؤْتَيَ كلّ امريءٍ منهم صُحُفَاً مُنَشَّرَة ، أىْ كلاّ ثم كلاّ ، لن نُمَكِّنهم مِمَّا يريدون ولن نستجيب أبداً حتماً لطلباتهم السفيهة ، لأنَّ القرآن الكريم فيه التذكير والوعظ التامّ الكافِي الشافِي لمَن يريد التَّذَكّر والاتِّعَاظ .. كذلك من المعاني أنْ كلاّ ليس الأمر كما يَدَّعون كذبا وزُورا علي القرآن العظيم أنه سِحْرٌ يُؤْثَر أو أنه قول البَشَر أو غير ذلك من التخريف ولكنه تذكرة ، وأيضا من معاني كلاّ هنا أيْ حقَّاً إنه تذكرة ، وذلك لأن فيه بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن .. " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴿55﴾ " أيْ فمَن أراد تمام الانتفاع والسعادة به في دنياه وأخراه والنجاة من التعاسة فيهما فعليه أن يكون عاقلا ويُحسن استخدام عقله ويتذَكّره ويقرأه ويتذاكره ويتدارسه بكل تَدَبّر وتَعَقّل وتَعَمّق ويعمل بكل أخلاقه ليَصلح ويَكمل ويَسعد تمام السعادة في الداريْن حيث ينال حب ربه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة .. إنه مَن كان يريد ذلك بحقٍّ فالأمر سَهْل مَيْسُور مُسْتَطَاع فلْيَفْعَله إذَن بلا إبْطاءٍ أو تَرَدّد لأنه قد تَهَيَّأ له تماما فِعْله بهذه التذكرة ، بتَذَكّر هذا القرآن العظيم ، فلم يَتَبَقّ لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْر .. ومَن لم يَشَأ فلْيَتَحَمَّل نتيجة اختياره وسيَنال حتما كل تعاسة في الدنيا والآخرة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره
ومعني " وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴿56﴾ " أيْ ولكنَّ هذا التَّذَكّر والاتِّعاظ لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئتكم وإنما يَتِمّ بعد إرادة الله تعالي وإذنه ومَشيئته لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يمكن مُطلقا أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه ، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم ، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه ، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه .. فمَن يَشاء التذكّر بالقرآن العظيم والهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فإنَّ الله يَشاء له ذلك ويَأذن ، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ، فهو قد اختار هذا الطريق أولا ، بأن أحْسَن استخدام عقله ، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴿56﴾ " أيْ هو الحَقِيق الأحَقّ وحده بأن يُتَّقَىَ بحقٍّ ويُخَاف من عذابه ، فكونوا دوْمَاً أيها الناس من المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم ، وذلك لأنه هو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وهو وحده الحَقِيق الأحَقّ بأن يغفر لذنوب التائبين مِمَّن يؤمن به ويطيعه ويَتَّقِيه لأنه هو الغفور أيْ الكثير المَغْفِرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، الرحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿1﴾ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴿2﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴿3﴾ بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴿4﴾ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴿5﴾ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴿6﴾ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ﴿7﴾ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴿8﴾ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴿9﴾ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴿10﴾ كَلَّا لَا وَزَرَ ﴿11﴾ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴿12﴾ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿13﴾ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿14﴾ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ﴿15﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿1﴾ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴿2﴾ " أي هذا تعبير في اللغة العربية يُفيد ضِمْنَاً القَسَم ! وأنَّ المُقْسَم عليه هو أمر عظيم جدا وأوضح وأصْدَق من أنْ يحتاج إلي قَسَمٍ أصلا ! أيْ بعد كل ما ذُكِرَ في القرآن العظيم من كلامٍ صادقٍ ومعجزاتٍ ورحماتٍ لا داعي أنْ أقْسِم ! أنَّ بَعْثَ البَشَر يوم القيامة بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كوْنهم تراباً لحسابهم هو حقّ ! وهل هذا يحتاج إلي قَسَمٍ عند أيِّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ؟! أيْ أقْسِم بيوم القيامة وأقْسِم بالنفس اللّوَّامَة أنَّ البعث حقّ ، والنفس اللوامة هي النفس البشرية صاحبة العقل المستقيم المتمسّك العامل بكل أخلاق الإسلام الذي هو في دنياه يَلوم ويحاسب ذاته كثيرا ودوْمَاً علي تقصيرٍ وشَرٍّ فَعَلَه لِمَ وكيف فَعَلَه ويَندم ويَعْزِم علي عدم فِعْلِه مستقبلا ويلوم ذاته أيضا علي خيرٍ مَا قد فَعَلَه لماذا لم يُكْثِر منه ويَعزم علي الإكثار في المستقبل ؟ .. ولقد أقْسَمَ سبحانه بهذا القسم للتنبيه علي شأن يوم القيامة وشأن النفس اللوامة والتكريم لها وللدلالة على أنَّ لهذا الكوْن خالقا قادرا حكيما يُسَيِّر نظامه بكلِّ دِقّةٍ وحكمةٍ بلا أيّ عَبَث ولا خَلَل .. إنَّ الله تعالي لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ يوم القيامة ورب النفس اللّوَّامَة .. إنه تعالي يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض مُعجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ ، والمقصود التذكرة بتمام قُدْرة الله تعالي وتصرّفه في كوْنه وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة لا غيره
ومعني " أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴿3﴾ " ، " بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴿4﴾ " أيْ هل يَتَوَهَّم الإنسان الكافر أيْ المُكَذّب بوجود الله وبكتبه ورسله والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار أنْ لن نَقْدِر علي جَمْع عظامه بعد كوْنها ترابا لنَبْعثه بجسده وروحه يوم القيامة لنحاسبه بما يستحِقّه ونحن الذين خلقناه قبل ذلك من عدم ؟! والسؤال هو للذمّ الشديد له لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن قبل فوات الأوان .. أليست الخِلْقَة الثانية لا شكّ أهْوَن لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة كما يُثبت الواقع ذلك ؟! فالله تعالي يُخاطِبنا علي قَدْر ما تفهمه عقولنا حيث هو كله سَهْل عليه أولا وثانيا ، فكيف إذَن مَن لا يُصَدِّق بالبَعْث أن يُكذّبه ويَستكثره ويَستصعبه علي هذا الخالق العظيم القدير ؟!! .. إضافة إلي أنَّ شهادة أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بأنه لابُدّ من الجزاء وإلاّ كان إنشاء الخَلْق عَبَثَا أصلا ! ولكنَّ المُكَذّب قد عَطَّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلْيُحْسِن إذن كلّ عاقلٍ الاستعداد ليوم الحساب هذا بفِعْل كلّ خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليَسعد في دنياه وأخراه .. " بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴿4﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تمام قُدْرته وكمال علمه سبحانه .. أيْ ليس الأمر كما يَتَوَهَّم مثل هذا الإنسان ، لا بل نحن قادرون بتمام القُدْرة والعلم علي أن نجمع عظامه وعلى ما هو أعظم وأكثر في الدِقّة والإعجاز والإبْهَار من جَمْعها وهو تسوية بنانه – جمع بَنَانَة وهي أصبع اليد – أيْ جَعْل أصابعه بما فيها من بَصَمَاتٍ والتي لا يتساوَيَ فيها بَشَر بالآخر رغم أعدادهم الهائلة مُستوية مُتْقَنَة لا خَلَل فيها
ومعني " بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴿5﴾ " أيْ لا يَجهل مِثْل هذا الإِنسان قُدْرة خالقه العظيم على إعادة خَلْقِه يوم القيامة وذلك إذا أحسن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ولكنه يريد بتكذيبه للبعث وللآخرة ليُوَاصِل فُجُوره مستقبله كله ويَمْضِي قُدُمَاً أمامه في ذلك مُصِرَّاً تماما عليه بلا توبةٍ من ذنوبه وعودةٍ لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن لأنه لا حساب من وجهة نظره .. والفُجُور هو الفِعْل بشدّةٍ وبكثرةٍ وبدوامٍ للشرور والمَفاسد والأضرار بلا اهتمامٍ لشيء
ومعني " يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴿6﴾ " أيْ يتساءل دوْمَاً مثل هذا الإنسان الكافر بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واسْتِبْعاد وشكّ واستحالة واستهزاء واسْتِخْفاف عن أيِّ وقتٍ يكون يوم القيامة هذا الذى تتحدثون عنه أيها المسلمون وتخافونه وتستعدون للحساب فيه علي أقوالكم وأعمالكم حيث تَدَّعون أنكم تُبْعثون بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا ؟! .. ولفظ " أيَّان " يُفيد الاستفهام للزمان البعيد بما يدلّ علي استبعاده التامّ لحدوثه وإصراره الشديد علي استمراره في فُجُوره
ومعني " فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ﴿7﴾ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴿8﴾ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴿9﴾ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴿10﴾ " أي هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد ، وذلك لِيَتَّعِظ مَن أراد الاتِّعاظ فيُحسن الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. أيْ فإذا تَحَيَّر النظر ودُهِشَ ولَمَعَ خوفاً وذُهولاً مِمَّا يري من فظائع ذلك اليوم .. " وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴿8﴾ " أيْ وإذا أظلمَ القمر واختفي وانْطَمَسَ ضوءه .. " وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴿9﴾ " أيْ وإذا اختلّ نظام الكوْن وجَمَعَ سبحانه بينهما ككتلةٍ واحدة يُفَجِّرها أو يَقذفها في جهنم أو نحو هذا مِمَّا يُخِيف ويُرْعِب .. " يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴿10﴾ " أيْ فإذا حَدَثَ كل ذلك يقول الإِنسان الكافر يومها ووقتها مَذْعُورَاً يائِسَاً أين الفرار والهروب من هذا العذاب المؤكَّد ؟ .. والسؤال يُفيد تَمَنِّيه لذلك لكن لا فرار حتماً له ولا تحقّق أبداً لأمانيه المستحيلة !!
ومعني " كَلَّا لَا وَزَرَ ﴿11﴾ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴿12﴾ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿13﴾ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿14﴾ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ﴿15﴾ " أيْ لا أيّها الإنسان الكافر ليس الأمر كما تَوَدّ وتَتَمَنَّيَ فَارْتَدِعْ وتَرَاجَع وانْتَهِ عَمَّا تَتَمَنَّاه من الفرار ولا يَرِد مُطلقا بفِكْرك ذلك لأنه لا وَزَر أيْ لا مَلْجَأ ولا حِصْن لك تفرّ إليه وتتحصَّن وتحتمي به من العذاب .. " إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴿12﴾ " أيْ لا مَلْجَأ لك يومها ، إلى ربك وحده لا غيره الاستقرار والانتهاء والرجوع والمصير لكل الناس إمّا إلي جنةٍ أو نارٍ بعد حسابهم علي كل أقوالهم وأعمالهم بكل عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم فيُعطون ما يستحِقّونه علي الخير كل خيرٍ وسعادة وعلي الشرّ كل شرٍّ وتعاسة .. " يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿13﴾ " أيْ يُخْبَر ويُعْلَم كلّ إنسان يومها – من خلال كتاب أعماله المُسَجَّلَة فيه – بكل أقواله وأفعاله صغيرها وكبيرها من خيرٍ وشَرٍّ في كل حياته الدنيا ، ما قَدَّمه منها في أوّلها وما كان في آخرها ، وكذلك يُخْبَر بما قَدَّمَ فيها وبما أخَّرَ بعد موته مِن سُنَّةٍ حَسَنَةٍ سَنّها أو سَيِّئة عملها فعمل بها آخرون اقتداءً به وتَعَلّموها منه فله أجره أو عقابه عليها أيضا ، بكل تمامٍ دون نقصانٍ وبكل دِقّةٍ وتفصيل .. " بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿14﴾ " ، " وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ﴿15﴾ " أيْ أنَّ كل إنسان علي ذاته حجَّة عليها ، علي كل ما فَعَلَته وما قالته وهو يَعلمه وبَصير به تماما وشاهِد عليه ولا يُمكنه إنكاره – والتاء المربوطة في لفظ " بَصِيرة " تُفيد المُبَالَغَة ، كما يُقالُ مثلا عَلَّامَة للعالم كثير العلم ، أيْ الإنسان يومها يكون كثير قويّ تامّ العلم والإدراك بنفسه – لأنَّ جوارحه شاهدة وحجَّة عليه يُنْطِقها خالقها سبحانه بكل ما قال وفَعَل ، فهو لن يستطيع أن يهرب من نتائج عمله مهما حاول ذلك ، فكل الأمور واضحة تماما مُسَجَّلَة عليه كما قالها وفعلها والشهود من أعضائه هو ذاته لا من خارجه وهذا حتما كافي وحاسِم ، وحتي لو أدْلَيَ بأيِّ أعذارٍ يَعْتَذِر بها لم ينفعه ذلك ، وأعذاره لن تُقْبَل لأنها في غير وقتها حيث الوقت وقت حسابٍ وانتهي وقت العمل والتصويب للأخطاء والاعتذار عنها
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿16﴾ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴿17﴾ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴿18﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿16﴾ " أيْ هذا توجيه وإرشاد لكيفية تَلَقِّي المسلم للقرآن العظيم فيكون بكل حرصٍ وحب وتَلَهّفٍ وتَشوّقٍ وجدِّية واجتهاد ودوام تَوَاصُل وتَعَقّل وتَعَمّق وتَدَبّر وإنْصَات وتركيز ومُذاكَرَة ومُدَارَسَة ومُبَادَرَة ومُسَارَعَة دون تَأَخّر من أجل العمل التامّ بكل أخلاقه التي تُصْلِح وتُكْمِل وتُسْعِد تمام السعادة في الدنيا والآخرة كل مَن يعمل بها كاملة ، مع الحرص التامّ علي حُسن دعوة الناس جميعا له بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة ليتحقّق لهم ذلك ، كما كان يفعل الرسول الكريم ﷺ حيث كان يُحَرِّك لسانه مع جبريل عليه السلام وهو يقرأه عليه عن الله تعالي ليُبَلِّغه للعالمين مُتَعَجِّلاً بقراءته وحِفْظه معه مُحْتَاطَاً ومُتَخَوِّفَاً وحَذِرَاً أن يَتَفَلّت ويَفقد ويَنْسَيَ منه أيّ شيءٍ وذلك من حرصه الشديد ﷺ على تمام حفظ وصيانة وتبليغ كل ما أنزل إليه بتمام حروفه وكلماته ونصوصه .. هذا ، ويُفْهَم من الآية الكريمة عدم التَّعَجّل عند قراءة القرآن الكريم والتعامُل معه بل التَّمَهّل والتَّأَنِّي حتي يمكن تَدَبّر معانيه والعمل بكل نصائحه المُسْعِدَة ، مع الازدياد دوْمَاً من العلم بعلومه المختلفة حتي تتمّ السعادة الكاملة به في الداريْن
ومعني " إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴿17﴾ " أيْ هذا طَمْأَنَة للمسلمين أنَّ الله تعالي بذاته العَلِيَّة هو الذي يَتَكَفّل بجَمْع القرآن العظيم أيْ حِفْظه في الحياة عموما لإسعادها وفي عقولهم ، ويُيَسِّر لهم قرآنه أيْ قراءته وتَدَبّره وفهمه لمَن اجتهد في ذلك وحَرِص عليه فلا داعي إذَن للقلق والاضطراب والخوف من غيابه أو ضياعه أو نسيانه أو تغيير أيِّ حرفٍ فيه أو ما شابه هذا من مَخاوِف (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿9﴾ من سورة الحجر " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " ، والآية ﴿17﴾ من سورة القمر " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني " فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴿18﴾ " أيْ وما دام الأمر كذلك فإذا قرأناه عليك يارسولنا الكريم وإذا قُرِيءَ عليك وقرأته يا كل مسلم ويا كل عاقل فاتَّبِع قرآنه أيْ قراءته أيْ فاستمع وأنْصِت بتَدَبّرٍ له وسِرْ خَلْفه عامِلاً بكلّ أخلاقه
ومعني " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴿19﴾ " أيْ وبعد حِفْظه وإضافة لذلك نحن بكمال قُدْرتنا وعلمنا بالتأكيد الذي علينا أن نُبَيِّنه ونُوَضِّحه ونُفَصِّل لكم فيه الطاعة والمعصية والخير والشرّ والصواب والخطأ والوصايا والتشريعات ليُمكنكم العمل بها والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في الداريْن (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿17﴾ من سورة القمر " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ " ، والآية ﴿3﴾ من سورة فُصِّلَت " كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴿20﴾ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ﴿21﴾ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴿22﴾ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴿23﴾ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴿24﴾ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴿25﴾ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي ﴿26﴾ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴿27﴾ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴿28﴾ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴿29﴾ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴿30﴾ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ﴿31﴾ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴿32﴾ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴿33﴾ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿34﴾ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿35﴾ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴿36﴾ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ﴿37﴾ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴿38﴾ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴿39﴾ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴿40﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وستسعد كثيرا إذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني العبادة﴾
هذا ، ومعني " كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴿20﴾ " ، " وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ﴿21﴾ " أيْ لا أيّها الناس ليس العقل والرشد والخير في أنْ تُحِبّوا الدنيا العاجلة وتعملوا لتحصيل خيراتها هي فقط وهي المحدودة المُتَغَيِّرَة الزائلة يوماً مَا وتتركون الآخرة بنعيمها الذي لا يُوصَف ولا يُقارَن الدائم المُتَزَايد الخالد ، فَارْتَدِعوا وتَرَاجَعوا وانْتَهوا عن ذلك ، ولكنَّ العقل والرشد والخير والنجاح والسرور كله يكون في حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة .. ثم مراجعة الآية ﴿77﴾ من سورة القصص " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .. " ، للشرح والتفصيل)
ومعني " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴿22﴾ " ، إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴿23﴾ " أيْ وجوه أهل السعادة ، أهل الجنة ، المؤمنون المتمسّكون العاملون بأخلاق إسلامهم في دنياهم ، يومها ، يوم القيامة ، تكون حَسَنَة ناعمة جميلة مُشْرِقَة مُضِيئة مَسرورة من عِظَمِ النعيم ، تَرَى ربها أيْ خالقها ومُرَبِّيها ورازقها وراعيها ومُرْشدها لكل خيرٍ وسعادة ، فتتمتّع وتَسعد بذلك أعظم متعة وسعادة لا تُوصَف ، برؤيته ولقائه وجواره وتكريمه وتشريفه ورحماته وخيراته وسعاداته ونِعَمه وأفضاله وعطاءاته التي بلا حساب
ومعني " وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴿24﴾ " ، " تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴿25﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وأمّا وجوه أهل التعاسة ، أهل النار ، المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن الذين فعلوا الشرور والمفاسد والأضرار في دنياهم ، ومَن تَشَبَّه بهم ، يومها ، يوم القيامة ، تكون باسرة أيْ شديدة العُبُوس أيْ التّكْشِير والتَّغَيّر في اللون إلي السَّواد بسبب ضيقها وحزنها وذِلّتها وذُعْرها وكآبتها .. " تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴿25﴾ " أيْ تَتَوَقّع في كل وقتٍ أن يُفْعَل بها مصيبة عظيمة تَكْسِر فَقَرات الظَّهْر من شِدّتها وقسوتها
أمّا معني " كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي ﴿26﴾ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴿27﴾ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴿28﴾ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴿29﴾ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴿30﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي طَلَب الله تعالي من الناس الارتداع والتَّرَاجُع والانتهاء عن حب الدنيا العاجلة الزائلة وحدها وترك حب الآخرة الخالدة وعدم حُسن طلبهما معا – إضافة إلي الرَّدْع الذي في الآيتين ﴿20﴾ ، ﴿21﴾ (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ لأنَّ كلمة " كَلّا " تُفيد الردع والمَنْع والاستنكار – مع الانتباه لِمَا يرونه كل وقتٍ من الموت والاتِّعاظ به والذي عنده تنتهي دنياهم وينتقلون إلي أخراهم وذلك إذا بلغت التراقي أيْ وَصَلَت أرواحهم للتَّرَاقِي جَمْع تُرْقُوَة وهي عَظْمَة يمين وأخري يسار النَّحْر الذي هو التجويف أسفل الرقبة ، أيْ وَصَلَت الروح للحَلْق استعداداً لخروجها وعودتها لخالقها ، وبالتالي فكل عاقل عليه أن يُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. " وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴿27﴾ " أيْ وقال بعض الحاضرين حول الذي حان موعد موته هل مِن راقٍ يَرْقيه أيْ يدعو له ببعض الأدعية لكي يشفي مِمَّا هو فيه ؟ ولكنَّ أحداً حتما لن يستطيع أن يمنع أمر الله بخروج الروح في ميقاتها المُحَدَّد مهما كان من دعاءٍ وطبٍّ وغيره ! .. " وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴿28﴾ " أيْ وأيْقَنَ حينها أنَّ الذي نَزَلَ به هو مُفَارَقَة الدنيا لمشاهدته ملائكة الموت ، والظنّ هنا بمعنى اليقين أو العلم المُقَارِب جدا لليقين لأنه لم يتحقّق بَعْدُ فِعْلِيَّاً خروج روحه ، وفي هذا تمام الدِّقّة في استخدام القرآن الكريم لألفاظه .. " وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴿29﴾ " أيْ والْتَقَتْ والْتَصَقَتْ حينها إحدى ساقيه بالأخرى ، وكذلك اتَّصَلَت الشِّدَّة بالشدّة أيْ شدّة فِراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة وما فيها من أهوالٍ إنْ كان عمله سَيِّئا حيث في اللغة العربية يُعَبَّر بالساق عن الشدّة والأمر العظيم أيْ عن أصْله وجذوره وحقائقه التي تَتَكَشَّف وذلك مأخوذ من ساقِ وجِذْرِ النبات .. " إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴿30﴾ " أيْ إذا خَرَجَت الروح من جسدها تُسَاقُ إلى ربها وخالقها ليحاسبها ، فمَسَاق الناس جميعا أيْ مُرْجِعهم – مِن سَاقَ الشيء أيْ جعله يسير أمامه إلي حيث يريد – هو إلي ربهم وحده لا إلي غيره ليُحاسبهم يوم القيامة ثم هم إمّا إلي جنة أو إلي نار علي حسب أعمالهم في دنياهم ، فإن كانت خيرا فلهم كل خير وسعادة وإنْ شَرَّاً فلهم كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
أمّا معني " فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ﴿31﴾ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴿32﴾ أيْ هذا بيانٌ لأهم أسباب سوء الحال والتعاسة في الدنيا والآخرة ليَتَّعِظَ بها مَن أراد الاتِّعاظ فلا يفعلها مُطلقا ليَسعد فيهما .. أيْ لم يُصَدِّق بعض الناس بوجود الله ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولم يُصَلِّ أيْ لم يعبد الله تعالي أيْ يطيعه ويعمل بأخلاق شرعه الإسلام والذي من أعمدته وأسُسِه الصلاة ، ولكنّه كَذّب بكل ذلك وتَوَلّيَ أيْ أعطي ظهره له والْتَفَت وانصرف وابتعد عنه وتركه وأهمله بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وفَعَلَ الشرور والمفاسد والأضرار لأنه لا بَعْث ولا حساب من وجهة نظره
ومعني " ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴿33﴾ " أيْ ثم بعد كل ذلك السوء الذي هو فيه لم يَكْتَفِ به بل كان في كل تحرّكاته وتصرّفاته في حياته يَتَمَطّيَ أيْ يَمدّ ظهره وخطواته يَتَبَخْتَر في مَشْيِهِ إعجابا وافتخارا بذلك الشرّ الذي يفعله !! .. كذلك من معاني يتمطّي أيْ يَتَمَدَّد مِن كَسَلِه وتثاقله والمقصود أنه في أفعاله وأقواله يُهْمِل ولا يَهتمّ مطلقا بالاستجابة لأخلاق الإسلام
ومعني " أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿34﴾ " ، " ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴿35﴾ " أيْ العذاب والنار أَوْلَىَ لك ، ولأمثالك ، أَيْ أنت أحَقّ وأجْدَر به وأهْل له ، لا تستحِقّ إلا ذلك إذَن في مُقابِل أفعالك السيئة .. أيْ وَيْلٌ لك وويل لك ، ثم ويل لك وويل لك ، أيٍ هلاكٌ لك وهلاك ثم هلاك لك وهلاك ، أيْ ستُعَاقَب كثيرا كلما أسأتَ وأنت تستحِقّ المزيد من العذاب والهلاك ، في الدنيا ثم في الآخرة .. واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي عذابه وهلاكه وتعاسته في الداريْن ، فهو تهديدٌ فوق تهديدٍ فظيع مُرْعِب لعله ومَن مثله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليَسعد في دنياه وأخراه قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
أمّا معني " أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴿36﴾ " أيْ هل يَتَوَهَّم الإِنسان أن نتركه في حياته مُهْمَلاً لا راعي له ولا مُرْشِد لتمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه عن طريق إرسال الإسلام له من خلال الرسل الكرام وتوصيته بالتمسّك والعمل بكل أخلاقه أو يتوّهم أن نتركه بعد موته هكذا تنتهي حياته بصورة عَبَثِيَّة ويذهب مع التراب دون بَعْثه بجسده وروحه يوم القيامة لنحاسبه بما يستحِقّه ليتحقّق العدل الكامل ونحن الذين خَلَقناه قبل ذلك من عدم ؟! إنْ كان يَحْسَب ذلك فهو حتما فى وَهْمٍ كبير ، لأنّ العدل يتطلّب أن نُكرم المُحسنين ونُعاقِب المُسيئين (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿115﴾ من سورة " المؤمنون " " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. والسؤال هو للذمّ الشديد له لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن قبل فوات الأوان .. أليست الخِلْقَة الثانية لا شكّ أهْوَن لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة كما يُثبت الواقع ذلك ؟! فالله تعالي يُخاطِبنا علي قَدْر ما تفهمه عقولنا حيث هو كله سَهْل عليه أولا وثانيا ، فكيف إذَن مَن لا يُصَدِّق بالبَعْث أن يُكذّبه ويَستكثره ويَستصعبه علي هذا الخالق العظيم القدير ؟!! .. إضافة إلي أنَّ شهادة أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بأنه لابُدّ من الجزاء وإلاّ كان إنشاء الخَلْق عَبَثَا أصلا ! ولكنَّ المُكَذّب قد عَطَّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلْيُحْسِن إذن كلّ عاقلٍ الاستعداد ليوم الحساب هذا بفِعْل كلّ خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليَسعد في دنياه وأخراه
ومعني " أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ﴿37﴾ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ﴿37﴾ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴿38﴾ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴿39﴾ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴿40﴾ " أيْ كيف يَحْسَب الإِنسان أنه سيُتْرَك سُدَى بلا بَعْث للحساب ويَعتبر ذلك مستحيلا ؟! ألسنا نحن مَن بدأنا خَلْقه مِن عَدَمٍ ؟! ألم يكن فى الأصل نُطْفَة أيْ حيوانا مَنَوِيَّاً ضعيفا مَهِينَاً مِن مَنِيِّ رَجُلٍ يُمْنَيَ منه أي يُدْفَع ويُقْذَف إلي رَحِم أنثي ليتَّحِدَ مع بُوَيْضَة مِن مِبْيَضها ؟ لقد كان كذلك ويعلمه الجميع حتما بلا أيِّ إنكار ! ثم كان بعد ذلك عَلَقَة أيْ مجموعة خلايا دقيقة تتعلّق بجدار الرحم الداخليّ فخَلَقَه الله تعالى في أطوارٍ مُتَعَدِّدَةٍ بقُدْرته وسَوَّاه كإنسانٍ فى أحسنِ صورةٍ يمتلك من كل القُوَيَ الجسدية والعقلية وغيرها ، فجعل منه الصنْفيْن الذكر والأنثي كما جعل منه أولاداً له من الذكور والإناث , فماذا يُعْجِزنا ويَمنعنا إذَن أن نُعيد خَلْقه كذلك مرة ثانية وهي أسهل من الأولي ؟! .. والاستفهام للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّ الناس هم بذلك ، حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأنه تعالى وحده هو الذي خَلَق الإنسان فى جميع أطواره .. " أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴿40﴾ " أيْ هل ذلك الإله العظيم الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ الذى فَعَلَ كل ذلك وأحسن كل شيءٍ خَلَقه خالِق كل المخلوقات المُعجزات المُبْهِرات وخالق الإِنسان فى تلك الأطوار المُتَعَدِّدَة المُعجزة المُبْهِرَة ليس بقادرٍ علي أن يُعيد إحياء الموتي والإعادة أَهْوَن من البَدْء حتما ؟! بالتأكيد قادر بتمام القُدْرة وكمال العلم سبحانه فهو علي كل شيء قدير بمجرد أن يقول له كن فيكون كما يريد
هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴿1﴾ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿2﴾ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿3﴾ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ﴿4﴾ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴿5﴾ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴿6﴾ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴿7﴾ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿8﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴿9﴾ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴿10﴾ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴿11﴾ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴿12﴾ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ﴿13﴾ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ﴿14﴾ وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴿15﴾ قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴿16﴾ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ﴿17﴾ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ﴿18﴾ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ﴿19﴾ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴿20﴾ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴿21﴾ إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ﴿22﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لما فعلتَ ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال ، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾ ، ﴿8﴾ من سورة يونس ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴿1﴾ " أيْ لقد جاء ومَرَّ على كلّ إنسانٍ وقت من الزمان فى هذه الحياة الدنيا لم يكن فيه شيئا مذكورا بين الناس وإنما كان شيئا غير موجود إلا فى علم الله تعالى ثم أوجده سبحانه بعد ذلك من نُطْفة فرَعَاه ونَمَّاه في رَحِم أمه وأخرجه بعد ذلك علي أحسن الصور التي هو عليها فتبارك الله أحسن الخالقين .. والمقصود بيان تمام قُدْرة الله تعالي وكمال علمه وأنه هو وحده المستحِقّ للعبادة أيْ الطاعة حيث أوْجَدَ الإنسان مِن لا شيء ومَن كان قادرا علي ذلك فهو قادر حتما علي أن يُعيد إحيائه بعد موته وبعثه يوم القيامة لحسابه حيث الإعادة أَهْوَن من البَدْء بالقطع .. إضافة إلي إظهار نِعَمه علي بني آدم حيث أوجدهم من عدمٍ وكرَّمهم وشَرَّفهم بأنْ سَخَّر لهم الكوْن كله لينتفعوا وليسعدوا به فليشكروه بالتالي وحده ويعبدوه وحده ويتوكّلوا عليه وحده .. إضافة إلي تَذْكِرتهم بأن يكونوا من المُتواضعين المتعاونين فيما بينهم ليسعدوا في الداريْن لا المُتكبّرين الذين يعتدي بعضهم علي بعض لقوّته فيتعسوا فيهما وذلك حينما يتذكّرون أنهم لم يكونوا شيئا أصلا ثم أعطاهم ربهم من كل القُوَيَ فليُحسنوا استخدامها وإلا حَرَمَهم منها لعدم استحقاقهم لها لسوء استعمالها .. والاستفهام في الآية الكريمة هو للتقرير أيْ لكي يُقِرّ الناس هم بكل ذلك حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف به ، فلفظ " هل " هنا يكون بمعني " قد " لأنه كأنه يُقالُ لهم هل حَدَثَ هذا أم لا فلا يكون هناك إجابة منهم إلا نعم قد حَدَث .. فليسأل كل إنسان ذاته هذا السؤال ليَتَّعِظ بما في الإجابة عليه من العِبَر التي سَبَقَ ذكرها
ومعني " إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿2﴾ " أيْ إنّا أوْجَدنا الإنسان بتمام قُدْرتنا وكمال علمنا من نُطْفَة – أيْ حيوانٍ مَنَوِيٍّ ضعيفٍ مَهِينٍ مِن مَنِيِّ رَجُلٍ يُمْنَيَ منه أي يُدْفَع ويُقْذَف إلي رَحِم أنثي ليتَّحِدَ مع بُوَيْضَة مِن مِبْيَضها – أمشاجٍ أيْ أخلاطٍ ، مِن مَشَجَ أيْ خَلَطَ ، أيْ مِن نطفة مَخْلوطة حيث ماء الرجل يختلط تماما بماء المرأة لتبدأ أطوار خَلْقه ونموها .. " نَّبْتَلِيهِ .. " أيْ وحاله أننا في حياته نختبره حينما يكون مُؤَهَّلَاً للاختبار عندما يبلغ سِنَّ البلوغ ويَنضج عقله وإدْراكه ، أيْ انْتَبِه أيها الإنسان تماما أنه ليس خَلْق كلّ هذا الكوْن بما فيه من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ هو لمجرد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد ودون أيّ حِكْمَة وأنَّ الحياة الدنيا ستَنتهي هكذا بكلّ عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جَدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم أيها الناس حينما ترجعون إلينا في الحياة الآخرة بعد بَعْثكم أيْ إحيائكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم ، فلا يُمكن أن يَفعل ذلك الله سبحانه الذي تعالَيَ وارتفعَ عن كل صفةٍ لا تَلِيق حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، وإنما خَلَقَه بهذا النظام وأرسل لكم نظامه في الإسلام مع رسله ليُنَظّمه لكم علي أكمل وأسعد وجه ، فانْتَبِهوا وابْقوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة أيضا الآية ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ من سورة العنكبوت " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ " ، " وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " .. ثم مراجعة كيفية حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة﴾ .. " .. فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿2﴾ " أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي جعلنا الإنسان برحمتنا وكرمنا مُؤَهَّلَاً للاختبار بتزويده بكل الإمكانات التي تُؤَهِّله للنجاح في هذه الاختبارات ليَسعد في الداريْن وأهمها السمع والبصر الذي يجعله يَسمع ويُبْصِر كل خيرٍ فيَعْقِله بعقله فيَتَّبِعه ويَدعو له ويَنشره وكل شَرٍّ فيَتركه ويُقاومه ويَمنعه بما يستطيع
ومعني " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿3﴾ " أيْ نحن عَرَّفْناه الطريق وبَيَّنَّاه له وأرْشَدناه إليه ودَلَلْنَاه عليه برحمتنا وكَرَمنا ، طريق الله ، طريق الجنة ، طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة في دنياه وأخراه ، من خلال إرسال الرسل ومعهم الكتب التي فيها الإسلام الذي يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة فيهما ، ومن خلال عقله الذي خَلَقناه به ليُعِينه علي التمييز تماما بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة ويُعينه علي التَّعَرّف علي آياتنا أيْ دلالاتنا علي تمام قُدْرتنا وعلمنا وأننا المُسْتَحِقّون وحدنا للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريك سواء أكانت آياتنا في الكوْن في كل مخلوقاتنا المُعْجِزَة المُبْهِرَة حوله أم آياتنا في كتبٍ تُتْلَيَ عليه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم .. وأيضا هديناه السبيل من خلال فطرته التي فيه والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. " .. إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿3﴾ " أيْ ثم بعد هذه الهداية للسبيل هو الذي سيَختار بكامل حرية إرادة عقله ، فإمَّا أنْ يكون شاكرا أيْ عابدا لله تعالي أي طائعا له عاملا بأخلاق إسلامه شاكرا لنِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليه فيَسعد في الداريْن ، وإمَّا العكس ، يكون كفورا أيْ يختار أن يكون كافرا شديد الكفر لا يُصَدِّق بوجود الله تعالي ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره فيَفعل بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره ويَكفر بشدّة وتماما بنِعَمه سبحانه عليه أيْ يُنكرها فلا يشكرها ويُسيء استخدامها فيستخدمها في الشرّ لا في الخير ، فيَتعس بالتالي في دنياه وأخراه
ومعني " إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ﴿4﴾ " أيْ نحن أعْدَدْنا وجَهَّزْنا يوم القيامة للكافرين الذين اختاروا في دنياهم طريق الكفر سلاسل حديدية وقيودا يُقَيَّدون بها في رقابهم وأيديهم وأرجلهم وأجسامهم ويُجَرُّون بها وهم في مُنتهَيَ الذلّة والإهانة والاستسلام ، وأعتدنا لهم كذلك سعيرا أيْ نارا شديدة الاشتعال لا تُقَارَن حتما بنار الدنيا يُقْذَفُون في عذابها بكل أنواعه المختلفة المُخِيفَة
ومعني " إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴿5﴾ " ، " عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴿6﴾ " أي بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ الأبرار – جمع بَارّ وهو المُكْثِر من البِرّ أي فِعْل الخير – أيْ المؤمنين الخَيِّرِين الصادِقين الطائعين الصالحين الشاكرين المُخلصين المُحسنين (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) وبالجملة المتمسّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم ، يَنعمون يوم القيامة في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر حيث هم من بعض نعيمهم الذي لا يُوصَف أنهم يشربون من كأسٍ فيها من كل ما يَشتهونه من المشروبات الطيبة التي مِزاجها أيْ خليطها من الكافور وهو سائل مُنْعِش طيّب الرائحة جميل اللون والشكل والطعم .. " عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴿6﴾ " أيْ هذه المشروبات المَخْلوطة بالكافور هي عَيْن يشرب منها عباد الله وهم الأبرار – وسَمَّاهم سبحانه عباده ونَسَبَهم إليه زيادة في تكريمهم وتشريفهم – يُسيلونها ويُجْرونها سَيَلاَنَاً وإجراءً سهلاً غزيراً ويَتصرّفون فيها حيثما وأينما ووقتما شاؤوا ، فهي لا تنقص ولا تنتهي ولا تمتنع عنهم أو تصعب عليهم بل هي دائمة مُتَزَايدة غَزِيرة سَهْلَة مَيْسُورَة
ومعني " يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴿7﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض أسباب ما هم فيه من النعيم الذي لا يُوصَف ، لِيَفْعَلَ مِثْلهم مَن أراد أن ينال مِثْل سعادتهم الدنيوية والأخروية ، فهم كانوا في دنياهم يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم والتي منها أنهم يُوفون بالنذر دائماً أيْ يُؤَدّونه ولا يُخْلِفون وَعْدهم مع ربهم بعدم أدائه ، والنذر هو وَعْدٌ مستقبليّ بإنفاقٍ مُحَدَّدٍ يشترطه المسلم علي ذاته كنوعٍ من الإلزام والتدريب علي الإنفاق – من مالٍ أو جهدٍ أو فكرٍ أو غيره – خوفا من التقصير .. كما أنهم من صفاتهم أيضا أنهم كانوا دوْمَاً يخافون يوما عظيما هو يوم القيامة والذي ضَرَره وعذابه مُستطير أيْ مُنْتَشِر مُمْتَدّ علي المُكَذّبين غاية الانتشار ، فلذلك أحسنوا الاستعداد له تمام الإحسان بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿8﴾ " أيْ ومن الصفات الحسنة أيضا لهؤلاء الأبرار أنهم كانوا في دنياهم يُطْعِمون الطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه ومع حبهم لله تعالي يريدون حبه وعَوْنه وتوفيقه وإسعاده لهم في الداريْن ، يُطعمون فقيراً عاجزا عن الكسب لا يملك شيئا أو يملك القليل الذي لا يكفي احتياجاته ، وطفلا مات أبوه ولا مال له ، ومَأْسُوراً مَسجونا مَحبوسا لا يملك أمر ذاته وأمره بيد غيره سواء أكان مسلما أم غير مسلم ، ومَن شابه هؤلاء ، فهم كرماء متعاونون ينشرون العوْن والخير والسعادة علي الجميع
ومعني " إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴿9﴾ " أيْ ويقولون عند الإطعام داخل عقولهم ، أو لمَن يُطعمونهم لزيادة الحب والألفة بينهم ولمَنْع أيّ انكسارٍ لمشاعرهم بسبب إطعامهم ، إنما نُطعمكم لطَلَب ثواب الله ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن وحبا لكم كما يَطلب سبحانه والإسلام مِنّا ذلك ، لا نَطلب منكم عوضاً ومُقَابِلاً لهذا لا مادِّيَّاً ولا معنوياً كمدحٍ أو نحوه ولا غير ذلك ، وإنما جميعا نحن وأنتم نشكر الله علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ .. وهذا بيانٌ لتمام إخلاصهم لله وإحسانهم في أقوالهم وأعمالهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وفي هذا مَدْحٌ منه سبحانه لهم لِيَفْعَلَ مِثْلهم مَن أراد أن يَنال مِثْل سعادتهم الدنيوية والأخروية
ومعني " إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴿10﴾ " أيْ ويقولون أيضا ، داخل عقولهم أو لهم ، إننا نفعل الخير لطَلَب ثواب الله ولأننا نرجو رحمته حيث نخاف منه لو خالَفنا أخلاق الإسلام يوماً عَبُوسَاً أيْ عذابَ يومٍ عَبُوسٍ أيْ شديد العَبْس أيْ الشرّ والضيق علي المُسيئين لأنه تَعْبَس فيه وجوههم أيْ تَتَكَشَّر وتَنْقَبِض وتتغيّر ألوانها نحو السواد بسبب ذُعْرهم وذِلّتهم وإهانتهم وضيقهم وحزنهم وكآبتهم من فظاعة أهواله وعذاباته ، وهو يوم قَمْطَرِير أيْ شديد في كلّ شيء
ومعني " فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴿11﴾ " أيْ فتَرَتَّب علي كل ما سَبَقَ ذِكْره من عملهم بأخلاق إسلامهم وإخلاصهم ووفائهم بما يَعِدُون به وكَرَمهم وطَلَبهم لخير الله في دنياهم وأخراهم وخوفهم من عذابه فيهما أنْ وَقَاهم أيْ صَانَهم وحَفِظهم ونَجَّاهم من شَرِّ هذا اليوم الشديد وليس ذلك فقط بل وأعطاهم نضرة في وجوههم أي جعلها حَسَنَة ناعمة جميلة مُشْرِقَة مُضِيئة مَسرورة من عِظَمِ النعيم ، وكذلك أعطاهم سعادة غامِرَة تامَّة في مشاعرهم ، في مُقَابِل العُبُوس والضِّيق الذي فيه المُسيئون
ومعني " وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴿12﴾ " أيْ وأيضا أعطاهم بسبب صبرهم في دنياهم ، أيْ ثَباتهم واستمرارهم بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم حيث فعلوا كل خيرٍ وتركوا كل شرّ وكانوا إن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صَبَروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، أعطاهم جنة من بساتين وقصور فيها النعيم التامّ الخالد حيث ما لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر – إضافة قطعا إلي سعادة الدنيا التي كانوا فيها وكأنها كالجنة بسبب خَيْرهم – وأعطاهم أفخم وأجمل الملابس والمفروشات من الحرير وغيره يَتَزَيَّنون بها ويسعدون
ومعني " مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ﴿13﴾ " أيْ هذا حالهم السعيد المُريح فيها ، جالسين جلسةً وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم وهي تُفيد تمام التَّمَتّع بالراحة والاسترخاء ، علي الأرائك جَمْع أَرِيكَة وهي ما يُجْلَس عليه كالسرير وما يشبهه ، مفروشة بمفروشاتٍ مُريحات نَفِيسات مُزَيَّنات بكلّ زينةٍ فَخْمَة مُسْعِدَة .. " .. لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ﴿13﴾ " أيْ لا يجدون فيها إلا كلّ نَسِيمٍ معتدل طيّب مُنْعِشٍ جميل فلا يرون فيها شمسا شديدة الحرارة تُؤذيهم ولا يرون كذلك زمهريراً أيْ برداً شديداً يضرّهم
ومعني " وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ﴿14﴾ " أيْ وقريبة منهم ظِلال أشجارها مُظَلِّلة عليهم لمزيدٍ من تلطيف الأجواء حولهم وتَنْعِيمهم وتكريمهم ، وكذلك قطوفها أيْ ثمارها التي تُقْطَف من أشجارها ونباتاتها سُخِّرَت لهم تَسْخِيرَاً تامَّاً بحيث يَسهل عليهم أن يقطفوها أيْ يَجمعوها ويأخذوها ويَجْنوها بأيديهم كلما أرادوها بكل سهولةٍ ويُسْرٍ بلا أيِّ تَعَبٍ وهم في أيِّ وَضْعٍ سواء أكانوا قائمين أم ماشين أم جالسين أم مُسْتَلْقِين ، لمزيدٍ من راحتهم وإسعادهم
ومعني " وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴿15﴾ " ، " قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴿16﴾ " أيْ ويَدُور عليهم خَدَمهم بآنيةٍ جَمْع إناء أيْ بأوانٍ أيْ بأوعيةٍ وبأكوابٍ مَليئةٍ بكلّ أنواع المأكولات والمشروبات الكثيرة المُتَنَوِّعة الفَخْمة اللذيذة المُمْتعة المُسْعِدة الحاضِرة المُتَوَفّرة بكثرة وعند الطَلَب وحسب المطلوب وبلا أيّ جهد ولا تنتهي ، وهذه الأواني والأكواب مصنوعة من فضة كانت قواريرا جَمْع قَارُورَة أيْ إناء زجاجي أيْ هي من فضة لها فخامة وجمال الفضة وفي ذات الوقت شَفّافَة لها بَرِيق وصفاء الزجاج الفخم الرقيق اللامع بحيث يظهر ما بالداخل من كل أنواع الأكل والشرب فيكون الحال أكثر فخامة وتكريما وتشريفا وتشويقا وإسعادا .. " قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴿16﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذكره أنها ليست كالأواني والأكواب الدنيوية العادية وأنَّ الفضة المصنوعة منها ليست كفضة الدنيا بل هي تشبه الزجاج في لمعانها وشفافيتها وصفائها ، فسبحان الخالق الكريم .. " .. قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴿16﴾ " أيْ إنَّ خَدَمهم الطائفين عليهم بهذه الأواني والأكواب قد قَدَّروا تقديراً تامَّاً ما يَطلبه ويشتهيه كل فرد من الأطعمة والمشروبات من حيث الكميات والأَطْعُم والأشكال ونحو هذا بما يُحَقّق تمام التَّمَتّع والسعادة
ومعني " وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ﴿17﴾ " ، " عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ﴿18﴾ " أيْ ومِن بعض نعيمهم الذي لا يُوصَف أنهم يشربون من كأسٍ فيها من كل ما يَشتهونه من المشروبات الطيّبة التي مِزاجها أيْ خليطها من الزنجبيل – وأحيانا أخري تُخلط بالكافور أو غيره كما سَبَقَ ذِكْره في الآية ﴿5﴾ – وهو نبات له رائحة عِطْرية طيّبة مُنْعِشَة جميلة يَجعل المشروب الذي يُضاف إليه أكثر لذّة ومُتْعَة .. " عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ﴿18﴾ " أيْ هذه المشروبات المَخْلوطة بالزنجبيل هي عَيْن في الجنة يشرب منها أهلها تُسَمَّىَ سلسبيلا وذلك لأنها تَتَّصِف بسلاسة انحدار وجَرَيان مياهها وسوائلها ولذّتها وعذوبتها ووفرتها وسهولة نزولها للحَلْق عند شربها ويُسْر الحصول عليها والتصرّف فيها حيثما وأينما ووقتما شاء مَن يريدها
ومعني " وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ﴿19﴾ " أيْ ويَمُرّ ويَدُور عليهم خَدَم آخرون مُخَصَّصُون لخدمتهم في كل وقتٍ ومكانٍ هم شباب في سنِّ القوة والحركة مُخَلّدون أيْ دائمون بلا نهايةٍ علي الطواف عليهم وبصفةٍ واحدة بلا أيِّ تغييرٍ فلا يَشِيخُون ولا يَضعفون بل هم دوْما في سنِّ قوةٍ وحركةٍ وفي حُسْنِ مَظْهَرٍ وجودةِ وتمامِ خدمةٍ بحيث إذا نظرت إليهم أيها الناظر ظننتهم كأنهم في صفائهم ونقائهم وحُسن منظرهم كاللؤلؤ في تمام اللّمَعان والجمال والمنظر البَهيج المُسعد ، المنثور أيْ المُنْتَشِر ، لانتشارهم لخدمتهم في كل الأماكن .. هذا ، وليس في الجنة قطعا تَعَب ولا حاجة لخدمة لأنّ المطلوب من أيّ نعيمٍ يتحقّق بمجرّد تَمَنِّيه ولكنَّ وجود الخدم يدلّ على تكريمهم وتشريفهم وكمال راحتهم وكثرة نعيمهم وتمامه
ومعني " وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴿20﴾ " أيْ وإذا نظرتَ هناك في الجنة في أيِّ مكانٍ فيها رأيتَ أيها الناظر حتما نعيما عظيما وملكا واسعا هائلا لا نهاية له ولا يُقارَن ولا يُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
ومعني " عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴿21﴾ " أيْ يَعْلُوهم ويُزَيِّن أجسادهم ويَلبسون الثياب الخضراء اللون الفَخْمَة المُريحَة المُبْهِجَة بكل أشكالها وأنواعها المُسْعِدَة التي تَدلّ علي رفاهيتهم التامّة حيث هي مِن سُندسٍ أيْ حريرٍ رقيق ، وإستبرق أيْ حرير سميك ، ونحو هذا .. " .. وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ .. " أيْ وزُيِّنوا بما يُحَلِّيهم ويُسعدهم كأساور الفضة ، وأحيانا بأساور الذهب وغيره كما ذُكِرَ في بعض آياتٍ أخري ، أو بهما معا ، مِمَّا يطلبونه ويشتهونه .. " .. وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴿21﴾ " أيْ ويُشْرِبهم الله تعالي دوْمَاً مشروباتٍ طاهرة نظيفة تماما في ذاتها عظيمة التطهير والتنظيف لصحة أجسامهم ، وهكذا هي كل مشروبات الجنة وأنهارها وعيونها لا يمكن مطلقا أن يصيبها أيّ نجاسة أو قذارة تجعلها مكروهة أو مُضِرَّة بل كلها تُعْطِي تمام الصحة والقوة والنشاط والانتعاش والسعادة الجسدية والعقلية
ومعني " إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ﴿22﴾ " أيْ يُقال لهم ، من الله تعالي أو من ملائكته الكرام ، لمزيدٍ من تشريفهم وتكريمهم وحبهم وإسعادهم ، إنَّ كل هذا النعيم الذي لا يُوصَف والذي أنتم فيه الآن – إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام السعادة في دنياهم حيث كانت كالجنة بسبب إيمانهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم – كان لكم أجرا عظيما في مُقابِل ما قدَّمتموه من عمل خيرٍ في حياتكم الدنيا .. " .. وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ﴿22﴾ " أيْ وقد شَكَرَ الله لكم سَعْيكم في دنياكم شكرا كثيرا ، وشُكْر الخالق الكريم الودود لخَلْقه هو أن يعطيهم في مُقابِل أعمالهم الخيرية مهما كانت قليلة أجورا عظيمة ، في دنياهم حيث السعادة التامّة ثم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. هذا ، والسَّعْي هو التحرّك السريع نحو الله ودينه وآخرته ونعيمه بكل هِمَّةٍ وقوةٍ وعزمٍ ونشاط بالتمسّك والعمل تماما بكل أخلاق الإسلام ونشرها بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنها عند أيّ اعتداء
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ﴿23﴾ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴿24﴾ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿25﴾ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴿26﴾ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴿27﴾ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ﴿28﴾ إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿29﴾ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿30﴾ يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿31﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهُدَيَ كله ، والتذكرة كلها ، والمَوَاعِظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمَكَانَة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ﴿23﴾ " أيْ نحن وحدنا لا غيرنا ، بتمام قُدْرتنا وكمال علمنا وحِكْمتنا ورحمتنا وكرمنا ، الذين أنزلنا عليك وأوحينا إليك يا رسولنا الكريم ، هذا القرآن العظيم بما فيه مِن نُظُمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد كل مَن يعمل به كله في كل لحظات الحياة الدنيا بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، لتُبَلّغه وتُبَلّغوه أيها المسلمون للناس جميعا لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. فهو بكل تأكيد وَحْي من عندنا وليس اختلاقا منك كما يدَّعي المُكَذّبون كذبا وزوراً أنه مثلا شعر أو سحر أو غيره .. أنزلناه تنزيلا مُحْكَمَاً أيْ بكلّ إحكامٍ وحسابٍ وتمامٍ وكمالٍ واتِّزانٍ وحِكْمَة .. أنزلناه تنزيلا حقّاً أيْ بالحقّ ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم ، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا القرآن لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ ، تعالي عَمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا .. ونحن الذين نحفظه وندافع عنه وننشره ونُيَسِّره للذكر وللعمل به حتي نهاية الحياة الدنيا ونحن الذين نُؤَيِّدكم ونُعينكم ونُوفقكم وننصركم ونسعدكم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿17﴾ من سورة القمر " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ " ، والآية ﴿9﴾ من سورة الحجر " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " ، لتكتمل المعاني﴾
ومعني " فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴿24﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنَا لك أيها الرسول الكريم ولكم أيها المسلمون في الآية السابقة وفي القرآن العظيم كله فبالتالي فكونوا إذَن من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ وكونوا من الذين إنْ أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر ، وعلى ما يقوله المُكذّبون من أقوالٍ لا يؤيدها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت ، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن ، هو حقّ ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. لِحُكْمِ رَبِّكَ .. " أيْ علي ما حَكَمَ به ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ، أيْ خالقك ومُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشدك لكل خير وسعادة ، من تكريمكم وتشريفكم أيها المسلمون باختياركم لدعوة جميع الناس في كل الأرض لله وللإسلام لتكونوا رحمة لهم ليسعدوا مثلكم في الداريْن ، واصبروا إلي أن يَحكم الله بينكم وبين مَن يُؤذونكم قولاً وفِعْلاً ويَنصركم عليهم ويَنشر إسلامكم .. " .. وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴿24﴾ " أي هذا مزيدٌ من التأكيد علي عدم طاعة كلّ مَن يُخالف الإسلام في الخُلُق الذي يُخَالِفه فيه .. أيْ اثْبت تماما علي ما أنت عليه مِن كلّ أخلاق إسلامك ولا تُطِع وتَتَّبِع أبداً منهم أيْ مِمَّن حولكم من المُكَذّبين وغيرهم أحدا آثما أيْ فاعلا إثما أيْ ذنبا أيْ يفعل الشرور والمَفاسد والأضرار بكل أشكالها أو أحدا كفورا أيْ يختار أن يكون كافرا شديد الكفر لا يُصَدِّق بوجود الله تعالي ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره فيَفعل بالتالي الشرّ لأنه لا حساب من وجهة نظره ويَكفر بشدّة وتماما بنِعَمه سبحانه عليه أيْ يُنكرها فلا يشكرها ويُسيء استخدامها فيستخدمها في كل شرٍّ لا في الخير ، وإلاّ تَعِسْتَ مثل تعاساته في دنياك وأخراك
ومعني " وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿25﴾ " أيْ ودَاوِم يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم على ذِكْر الله تعالى وكن من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿25﴾ " أيْ اذْكُرُوه وصَلّوا له واعبدوه وافعلوا كل خيرٍ في كل الأوقات ، في كل لحظات حياتكم ، حين الصباح وحين المساء وفي كل وقت ، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم .. هذا ، وتخصيص الصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن ، ثم كلّ الأيام ، ثم بالتالي كلّ الحياة
ومعني " وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴿26﴾ " أيْ وأيضا من أوقات الليل فاعبده أيها المسلم أيْ كن في طاعةٍ مَا حيث السجود هو الخضوع له ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها ، وأيضا هو السجود له بتواضُعٍ وخشوع وسكون علي الجبهة في الصلاة أو خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن ، والاكتساب من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم الاستعلاء عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما .. وكذلك سَبِّحه وسَبِّحوه تعالي أيها المسلمون ليلا طويلا أيْ زَمَنَاً طويلاً منه ، سَبَّحوه بكل أسمائه وصفاته ، أيْ نَزّهوه ، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به ، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿1﴾ حتي ﴿4﴾ من سورة المُزَّمِّل ، والآية ﴿79﴾ من سورة الإسراء " وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. هذا ، وتوجيه الله تعالي للرسول ﷺ بدوام الذكر بالتسبيح والتحميد وغيره رغم أنه ﷺ دائم الفِعْل لذلك كله مقصوده جَعْل كلّ المسلمين يقتدون به في كل هذا وفي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم وفي الإكثار من فِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ ليتحقّق لهم وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا بتمام الخير والسعادة والعِزّة والنصر في الدنيا والآخرة
أمَّا معني " إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴿27﴾ " أيْ إنَّ هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم يحبون الدنيا العاجلة ويعملون لتحصيل خيراتها هي فقط وهي المحدودة المُتَغَيِّرَة الزائلة يوماً مَا ويتركون الآخرة بنعيمها الذي لا يُوصَف ولا يُقارَن الدائم المُتَزَايد الخالد ويتركون ورائهم خَلْف ظهورهم وأمامهم ينتظرهم يوما ثقيلا هو يوم القيامة الثقيل الشديد الفظيع الأحداث والأهوال عليهم – السَّهْل الخفيف علي المُحسنين لانتظارهم كل خير وسعادة – ومع شدّة أهواله فهم لا يَستعِدّون له ولا يَحسبون له حسابا بل يُكَذّبون بحُدُوثه أصلا ولذلك يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار إذ لا حساب من وجهة نظرهم .. إنَّ العاقل هو مَن يُحسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة .. ثم مراجعة الآية ﴿77﴾ من سورة القصص " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .. " ، للشرح والتفصيل) .. وفي هذا ذمّ شديد لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما .. فلا يَتَشَبَّهَ بهم أحدٌ مطلقا حتي لا يتعس مثل تعاساتهم في دنياه وأخراه
ومعني " نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ﴿28﴾ " أيْ نحن لا غيرنا أوْجَدْناهم من عدمٍ وقَوَّيْنا رَبْطهم أيْ رَبْط أجسامهم ومفاصلهم وأعضائهم أيْ أحْكَمْنا خِلْقَتهم وأتْقَنَّاها علي أحسن حالٍ لينتفعوا وليسعدوا بحياتهم ومع ذلك لا يعبدوننا أيْ لا يطيعوننا باتِّباع الإسلام الذي هو يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن ولا يُصَدِّقون ببَعْثِهم يوم القيامة بعد كوْنهم ترابا من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم رغم أنَّ القادر علي خَلْقهم من عدمٍ قادر حتما علي خَلْقهم مرة أخري حيث الخِلْقة الثانية قطعا أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وكله علي الخالق القدير هَيِّن بمجرد قول كن فيكون .. " .. وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ﴿28﴾ " أيْ ولسنا عاجزين بل قادرين تمام القُدْرة إذا أردنا علي أن نَستبدل أشباههم اسْتِبْدَالاً مُعْجِزَاً ، في الدنيا ، بعد موتهم نَخْلق من ذرِّيَّاتهم وغيرهم بَشَرَاً مثلهم كما خلقناهم قبلهم ، وبعد هلاكهم إذا أردنا إهلاكهم بعذابٍ يستحِقّونه دنيويّ قبل الأخرويّ كمرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره ويكونوا أفضل منهم يؤمنون بربهم ويعملون بأخلاق إسلامهم .. فلْينتبهوا إذَن لهذا وليَعبدوه وحده وليتوكّلوا عليه وحده وليتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما .. ثم في الآخرة ، عندما يبعثهم يستبدلهم بصورٍ وصفاتٍ وأحوال مختلفة ، حيث المؤمن يكون علي أحسن حال ، حال الشباب والنضارة والتّمتّع والسعادة ، والكافر يكون علي أسوأ حال ، حال البُؤْس والذلّة والإهانة والرعب والتعاسة
أمَّا معني " إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿29﴾ " أيْ إنَّ هذه الآيات الكريمة في هذه السورة وفي القرآن العظيم كله هي بكل تأكيدٍ تَذْكِرَة وذلك لأنَّ فيها كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما ، كذلك فيها الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن .. " .. فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿29﴾ " أيْ فمَن أراد تمام الانتفاع والسعادة بها في دنياه وأخراه والنجاة من التعاسة فيهما فعليه أن يكون عاقلا ويُحسن استخدام عقله ويأخذ إلي ربه – أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشده لتمام الخير والسعادة في الدارين – طريقاً يَصِل به إلي حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وذلك من خلال طريق العمل بهذه التذكرة كلها ، أيْ بكل أخلاق آيات القرآن وما فيها من أخلاق الإسلام .. إنه مَن كان يريد بحقٍّ أن يَتَّخِذَ إلى ربه سبيلا فالأمر سَهْل مَيْسُور مُسْتَطَاع فلْيَفْعَله إذَن لأنه قد تَهَيَّأ له تماما اتخاذه بهذه التذكرة ، فلم يَتَبَقّ لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْر
ومعني " وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿30﴾ " أيْ ولكنَّ هذا التَّذَكّر والاتِّعاظ واتِّخاذ السبيل إلي الله وفِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئتكم وإرادتكم وإنما يَتِمّ بعد إرادة الله تعالي وإذنه ومَشيئته لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يمكن مُطلقا أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه ، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم ، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه ، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه .. فمَن يَشاء التذكّر بالقرآن العظيم والهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فإنَّ الله يَشاء له ذلك ويَأذن ، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ، فهو قد اختار هذا الطريق أولا ، بأن أحْسَن استخدام عقله ، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿30﴾ " أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال ، كان عليما أيْ هو عليم دائما بكلّ شيءٍ تمام العلم بعلمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه فهو يعلم كلّ ما يُصلح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويعلم كل ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرا .. وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني " يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿31﴾ " أيْ إنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده ، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ ، ولو شاءَ أن يَجعل الجميع مُهتدين علي طريق الخير لَفَعَلَ بكلّ تأكيد ! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه ! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه ، ولهذا لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين ، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، بينما مَن لم يشأها ، وهم الظالمون ، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن ، بأيّ نوع من أنواع الظلم ، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا ، فهؤلاء حتما أعَدَّ الله لهم عذابا أليما أيْ مُوجِعَاً في أخراهم ، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴿1﴾ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴿2﴾ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ﴿3﴾ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ﴿4﴾ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴿5﴾ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴿6﴾ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴿7﴾ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴿8﴾ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ﴿9﴾ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ﴿10﴾ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ﴿11﴾ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ﴿12﴾ لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ ﴿13﴾ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴿14﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿15﴾ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ﴿16﴾ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ﴿17﴾ كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴿18﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿19﴾ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴿20﴾ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿21﴾ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴿22﴾ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴿23﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿24﴾ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ﴿25﴾ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴿26﴾ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ﴿27﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿28﴾ انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿29﴾ انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ﴿30﴾ لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ﴿31﴾ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴿32﴾ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ﴿33﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿34﴾ هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ﴿35﴾ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴿36﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿37﴾ هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ﴿38﴾ فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴿39﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿40﴾ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ﴿41﴾ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴿42﴾ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿43﴾ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ ﴿44﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴿45﴾ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ ﴿46﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴿47﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ﴿48﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿49﴾ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿50﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !!
هذا ، ومعني " وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴿1﴾ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴿2﴾ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ﴿3﴾ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ﴿4﴾ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴿5﴾ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴿6﴾ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴿7﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّ وَعْده الدنيويّ والأخرويّ للناس وأنَّ يوم القيامة والبَعْث والجزاء على الأعمال بالخير خيراً وبالشرّ شرَّاً كله واقعٌ صادق بكل تأكيدٍ بلا أيّ شكّ ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ .. فهو يُقْسِمُ بالمرسلات " وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴿1﴾ " أيْ وحَقِّ الرياح الطيِّبة المُفيدة المُسْعِدَة للخَلْق التي تأتي بالعُرْف أيْ بالمَعروف أيْ بالخير والفضل والإنعام والتي تتحرَّك عُرْفَاً أيْ تَتَابُعَاً كعُرْف الفَرَس يَتَتَابَع شَعْره فيه ، أو المرسلات بمعني الملائكة المرسلات بالآيات المُوحَيَات من الله تعالي لرسله تَحْمِل الإسلام ليُبَلِّغوها للناس ، أو المرسلات هي الآيات المُرْسَلاَت ذاتها ، والتي هي تَحْمِل كلّ عُرْف ، كلّ مَعْروف ، كل خيرٍ وحِكْمَةٍ ومصلحة وسعادة للبَشَر في الداريْن .. " فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴿2﴾ " أيْ وأقْسِم بالرياح الشديدة الهُبُوب المُهْلِكَة للمُكَذّبين حيث تَعْصِفهم عَصْفَاً أيْ تهلكهم إهلاكا تامَّاً شديداً ، أو العاصفات بمعني الآيات القاهِرات لكلّ الأنظمة المُخَالِفَة للإسلام تَعْصِف بها أيْ تَنْسِفها نَسْفَاً ، أو بمعني الملائكة التي تُنَفّذ أوامر الله بكل سرعة وقوة كالرياح العاصفات .. " وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ﴿3﴾ " أيْ وأقْسِم أيضا بآيات الله في كتبه وآخرها القرآن العظيم – وفي كوْنه – الناشرات للحِكْمَة وللهداية وللخير وللسعادة في قلوب العالمين نَشْرَاً عظيماً ، وبالملائكة وبالرياح التي تنشر السُّحُب نشراً كثيرا في كل مكانٍ حامِلَة المطر بالخير للخَلْق .. " فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ﴿4﴾ " أيْ وأقْسِم بآيات الله الفارقات التي تُفَرِّق وتُمَيِّز تماما بين الحقّ والباطل والخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة فَرْقاً واضحاً ، وبالملائكة التي تُفَرِّق تفريقاً كثيراً وتُقَسِّم وتُوَزِّع بأمر ربها بعض أمور الدنيا من أمطارٍ ورياحٍ وسُحُب وغيرها بما يَنفع الخَلْق ويَسُرّهم .. " فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴿5﴾ " ، " عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴿6﴾ " أيْ وأقْسِم بالملائكة المُلْقِيَات أيْ التي تُلْقِي وتُعْطِي ذِكْرَ الله أيْ وَحْيَه وشَرْعه إلي رسله لتذكير الناس به والذي فيه كل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن ، وليكون إمَّا عُذْرَاً أيْ عدم مُؤَاخَذَة للذين يُسْلِمُون منهم ويَعملون بإسلامهم والذين يَعتذرون إلي الله إذا أخطأوا بتوبتهم واستغفارهم وعودتهم لعملهم بإسلامهم ، وإمَّا نُذْرَاً أيْ إنذارَاً أيْ تحذيراً وتخويفاً من عقابه في الدنيا والآخرة للذين يُخالِفون الإسلام لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا هم أيضا قبل فوات الأوان ونزول العذاب والتعاسة بهم فيهما .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ ورَبّ المُرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والمُلْقِيات .. " إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴿7﴾ " أيْ هذا هو المُقْسَم عليه ، أيْ وحقِّ هذه الأشياء التي ذُكِرَت إنَّ الذي تُوعَدُونه من حُدُوث يوم القيامة والبَعْث فيه أيْ إحيائكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم تُرَابَاً ومِن الجزاء والحساب والعقاب والجنة والنار هو واقِع أيْ حادِث حتما بكل تأكيدٍ بلا أيّ كذب أو شكّ ، إضافة بالقطع إلي وقوع وحدوث ما تُوعَدون به في دنياكم مِن كلّ خيرٍ وسعادة لمَن يعمل بأخلاق إسلامه وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيها بمقدارٍ يُساويِ ما يَترك منها .. وبالتالي وبما أنَّ ما تُوعَدُون به واقعٌ بالتأكيد فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن
أمَّا معني " فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴿8﴾ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ﴿9﴾ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ﴿10﴾ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ﴿11﴾ " أيْ هذا بيانٌ لتوقيت وقوع ما يُوعَد به الناس وهو يوم القيامة وبيانٌ لبعض أهواله والمُتَغَيِّرات التي تَحدث فيه حينها ، أيْ فإذا النجوم اللامعة في السماء مُحِيَت وأُلْغِيَت أضواؤها ، وإذا السماء المُحْكَمَة شُقَّت ، وإذا الجبال الراسخة فُتِّتَت وفُجِّرَت وهُدِّمَت وتَطَايَرَت أتربة صخورها ، وإذا الرسل بَلَغَت وقتها الذى كانت تنتظره للقضاء بينهم وبين أقوامهم ، فإنه حينها يَحدث هذا اليوم الشديد علي المُكذبين المُسِيئين اليَسِير علي المُحسنين حيث ينتظرونه لينالوا ما وُعِدُوا به من كل خيرٍ وسعادةٍ تامَّةٍ خالدة
ومعني " لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ﴿12﴾ لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ ﴿13﴾ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴿14﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿15﴾ " أيْ هذا سؤالٌ للتعظيم وللتهويل من شأن يوم القيامة حتي يُحْسِن الناس الاستعداد له .. أيْ لأىِّ يوم أُخِّرَت هذه الأمور العظيمة من التَّغَيُّرات الكوْنية والحساب والعقاب والجنة والسعادة للمُحسنين والنار والتعاسة للمُسيئين ؟ لقد أُجِّلَت ليومٍ يكون فيه الفصل بين الخلائق وهو يوم القيامة ، وهو اليوم الذي يَفْصِل فيه الخالق الكريم أي يَحكم ويُمَيِّز بين الناس ليُعْطِي لكلِّ صاحبِ حقٍّ حقّه بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. " وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴿14﴾ " أيْ وأيّ شيءٍ أعْلَمَك وعَرَّفَك ما هو يوم الفصل أيها المُخَاطَب العاقِل ؟! أيْ أنك لا عِلْمَ لك به علي الحقيقة ما دُمْتَ لم تُعَاينه واقعيا لخروجه عن دائرة علوم المخلوقات وخبراتهم ومهما تَخَيَّلوه فهو أعظم من تَخَيّلِهم حيث فيه من النعيم لأهله والعذاب لمَن يستحِقّه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿15﴾ " أيْ هَلاكٌ يومها لهؤلاء المُكذّبين بعذاب النار التي تنتظرهم لتُعَذّبهم في مُقابِل تكذيبهم في دنياهم بهذا اليوم وبوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وبعثه للناس بالأجساد والأرواح بعد كوْنهم ترابا وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وفي مُقابِل فِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار .. هذا ، والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم
ومعني " أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ﴿16﴾ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ﴿17﴾ كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴿18﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿19﴾ " أيْ هذا إثباتٌ لقُدْرته تعالي التَّامَّة علي إهلاك المُكَذّبين الحالِيِّين بما سَبَقَ له أنْ فَعَلَه مع أمثالهم مِمَّن كَذّبَ سابقا كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم مِمَّن تَشَبَّهَ بهم .. والاستفهام في الآية الكريمة للتقرير ، أيْ لكي يُقِرّ به كل العاقلون المُنْصِفون العادلون حينما يُذَكَّرون به ، فهم لا يَملكون إلا الاعتراف بذلك .. أيْ ألم نُهْلِك الأقوام السابقين الذين كَذّبوا رسلهم ثم نُلْحِق بهم في الهلاك المتأخِّرين عنهم المُتَشَبِّهين بهم ولم يَتَّعِظوا بمصيرهم بإهلاكهم هم أيضا ؟! .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحُدُوث العذاب .. " كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴿18﴾ " أيْ كما فَعَلْنا بالمجرمين السابقين بسبب تكذيبهم فأهلكناهم بعذابنا المُوجِع المُهْلِك المُدَمِّر في الدنيا كذلك نفعل بكلَّ الأقوام المُجرمين الآخرين .. أيْ هكذا دائما يكون فِعْلنا وجزاؤنا وعقابنا وعذابنا الدنيويّ قبل الأخرويّ للمجرمين بما يُناسب جرائمهم .. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا .. إننا نُعاقِب كلّ مجرم بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ آخر لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم .. " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿19﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿15﴾ من السورة﴾ .. هذا ، واستخدام ذات الألفاظ السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها للانتفاع بذلك في مزيدٍ من الاتِّعاظ لمَن يريده ، وأيضا لمزيدٍ من التحذير والذمّ الشديد والإيقاظ وإقامة الحجَّة وقَطْع الأعذار والعَوْن علي الإقرار والاعتراف لمَن يُكَذّب ولا يَعترف بها لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني " أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴿20﴾ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿21﴾ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴿22﴾ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴿23﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿24﴾ " أيْ ألم نخلقكم أيها الناس من ماءٍ ضعيفٍ حقيرٍ وهو المَنِيّ – والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّ به كل العاقِلون المُنْصِفون العادِلون حينما يُذَكَّرون به فهم لا يَملكون إلا الاعتراف بذلك – فجعلنا برحمتنا بكم وكرمنا عليكم هذا الماء في مكانٍ مُسْتَقِرٍّ مُتَمَكِّنٍ حَصِينٍ وهو رَحِم المرأة إلى وقتٍ محدود ومعلوم وهو زمن الولادة لا يتأخَّر ولا يتقدَّم عنه ، فقَدَرْنا على خَلْقه بداخل الرحم في أطوارٍ مُتَعَدِّدَة مُعْجِزَة وإخراجه كإنسانٍ بعد فترة حمله ، فنِعْمَ القادرون نحن علي الخَلْق والتقدير لكلّ شيء ، أيْ فَدَلَّ تقديرنا على أننا نِعْمَ القادرون أيْ فكان تقديرُنا تقديرَ أفضلِ وأعظمِ قادِرٍ بلا أيّ مُقَارَنَة بين قُدْرة الخالِق والمخلوق .. ألَاَ يَدُلّ ذلك علي قُدْرتنا علي كلّ شيءٍ وعلمنا التامّ به وقُدْرتنا علي بَعْثكم يوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا حيث الخِلْقَة الثانية حتما أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة ؟! وذلك لحسابكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ونزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو نعفو ؟ .. وفي الآيات الكريمة دعوة للناس ليكونوا من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي ، فهذا سيَزيدهم حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾ ، ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل) .. وليكونوا كذلك دوْما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك سيَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وليكونوا مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدين لله تعالي وحده ولا يشركون معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿24﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من هذه السورة الكريمة﴾
ومعني " أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ﴿25﴾ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴿26﴾ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ﴿27﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿28﴾ " أيْ هذا – كما في الآيات السابقة – مزيدٌ من تذكير الناس بنِعَم الله التي لا تُحْصَيَ عليهم وبقُدْراته التامَّة ليعبدوه وحده وليشكروه ويتوكّلوا عليه وحده فيسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. أيْ ألم نجعل الأرض جامِعَة ضَامَّة لكم جميعا – مِن كَفَتَ الشيء أيْ جَمَعَه وضَمَّه بعضه لبعض – فهي مُتَّسِعَة مُسَخَّرَة لكم كلكم لا تَضيق بكم ، تَجْمَع بين الأحياء الكثيرين علي سطحها الذين يتنفعون ويسعدون جميعا بكل خيراتها ، وبين الأموات الكثيرين أيضا بداخلها ، فتَذَكَّروا إذَن الحياة وتكاثركم فيها وتمام قُدْرتنا وعِلْمنا حيث فَعَلْنا كل ذلك فهذا يُذَكِّركم بأنَّ الذي خلقكم أول مرة قادر تماما علي أن يخلقكم مرة أخري يوم البَعْث يوم القيامة ، وتذكّروا الموت الذي يأتي فجأة فأحسنوا الاستعداد للحساب بعده بفِعْل كل خير وترك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. والاستفهام هو للتقرير أيْ لكي يُقِرّ به كل العاقِلون المُنْصِفون العادِلون حينما يُذَكَّرون به فهم لا يَملكون إلا الاعتراف بذلك .. " وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ﴿27﴾ " أيْ وكذلك بقُدْرتنا ورحمتا وفضلنا وكرمنا جعلنا فيها جبالاً ثوابتَ عالياتٍ لتثبيتها لكي تكون مُسْتَقِرَّة لكم غير مُضطرِبَة فيمكنكم الحياة بسهولة وتَمَتّع عليها ، وأسقيناكم أيضا ماءً عذباً سائغاً يُحييكم أنتم وكل مخلوقٍ حيٍّ مُفِيدٍ مُسْعِدٍ لكم .. " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿28﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من هذه السورة الكريمة﴾
أما معني " انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿29﴾ انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ﴿30﴾ لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ﴿31﴾ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴿32﴾ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ﴿33﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿34﴾ " أيْ يُقالُ يوم القيامة للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين سيروا مُسرعين مَدْفوعين مُهانين مَذلولين مَذْعورين إلي ما كنتم به في الدنيا تُكَذّبون وهو عذاب النار ، سيروا إلي ظِلِّ دخانها الذي من كثافته وشِدّته مُكَوَّن من ثلاث شُعَب أيْ من عدّة مجموعات من الأدْخِنَة كما يحدث مع نار الدنيا عند اشتدادها يَتَشَّعَب الدخان منها ويُظْلِم المكان ويُشْعِر بالاختناق لكن حتما لا مُقَارَنَة بينهما ، وهذا الظلّ لا ظَلِيل أيْ لا يُظِلّ حينها ولا يُعطي برودة ونَسِيما ولا يَدْفَع ويَمْنَع من حرّ اللهب شيئًا ، وفي هذا مزيدٌ من الاستهزاء بهم والإذلال والتعذيب لهم حيث يحتاجون بشدّة إلي التَّظَلّل من حرارة جهنم فيُقالَ لهم سيروا إلي هذا الظلّ الذي سيزيدهم حرارة واختناقا وظُلْمة وخوفا وعذابا ولا يُظِلّهم بأيِّ شيء !! .. " إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴿32﴾ " ، " كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ﴿33﴾ " أيْ إنَّ هذه النار كذلك من شِدَّتها وفظاعتها تَقْذِف المُعَذّبين فيها بشرارات كل شرارة منها كالقصر أيْ كالبناء الضخم ، وكأنَّ هذا الشرَر المُتَطَايِر يشبه في شكله وانطلاقه وسرعة حركته وتَزَاحُمه الجِمال – جِمَالَة جَمْع جَمَل – التي ألوانها صفراء .. " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿34﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من هذه السورة الكريمة﴾
ومعني " هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ﴿35﴾ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴿36﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿37﴾ هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ﴿38﴾ فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴿39﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿40﴾ " أيْ هذا يوم القيامة الذي لا يَنْطِق فيه المُكَذّبون بأيِّ كلمةٍ من شِدَّة خوفهم ورُعْبهم وذِلّتهم وإهانتهم وتأكّدهم أنهم ليس لهم أيّ حجّة يُدافعون بها عن أنفسهم ، ولا يكون لهم حينها إذْن في الكلام فيَعتذرون لأنهم ليس لهم أيّ عُذْر بعد إرسال الرسل والكتب والإسلام واختيارهم التكذيب بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلن يُقْبَل منهم أيّ اعتذارٍ حيث قد انتهي وقت الدنيا والذي فيه التوبة والرجوع لله والاعتذار والتصويب والوقت الآن هو وقت الحساب والجزاء لا وقت العمل والأداء .. هذا ، وهناك بعض مواقف يَنْطِقون فيها بما فَعَلوا من سوءٍ كما ذُكِرَ في آياتٍ أخري لأنَّ مواقف الآخرة مُتَعَدِّدة في شِدَّتها عليهم ففي بعضها يُجْبَرون علي النّطق والاعتراف وبعضها الآخر تُخْرَس ألسنتهم .. " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿37﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من هذه السورة الكريمة﴾ .. " هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ﴿38﴾ " أيْ هذا يوم الفَصْل بين الخَلْق حيث يَفْصِل فيه الخالق الكريم أيْ يَحكم ويُمَيِّز بين الحقّ والباطل وبين الناس مَن المُحِقّ المُحْسِن منهم ومَن المُبْطِل المُسِيء ليُعْطِي لكلِّ صاحبِ حقٍّ حقّه بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، قد جمعناكم فيه أيها البَشَر جميعا ويا مُكَذّبين أنتم والمُكذبين السابقين أمثالكم لموعدكم الذي كنا نَعِدكم به في الدنيا فقد وَفَّينا لكم بذلك ، وفي هذا تخويف وتعذيب نفسيّ شديد لكل مُكَذّب قبل عذابه الجسديّ بما يستحقّ بدخوله النار .. " فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴿39﴾ " أيْ فإنْ كان لكم حِيِلَة في التَّخَلّص من العذاب فاحتالوا علَيَّ وخَلّصوا أنفسكم من عذابي ، وفي هذا تهديدٌ شديدٌ وتَعْجِيزٌ وقَطْعٌ لأيِّ أملٍ لهم في النجاة .. " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿40﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من هذه السورة الكريمة﴾
ومعني " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ﴿41﴾ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴿42﴾ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿43﴾ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ ﴿44﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴿45﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ المُتَّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، هؤلاء بكل تأكيدٍ في ظلالٍ وعيون ، فبَعْد تمام سعادة الدنيا التي كانوا فيها بسبب تمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ، يكونون في الآخرة مِن بعض تَمَتُّعِهم وسعادتهم في ظلالٍ – جمع ظِلّ – مُتَّسِعَة مُنْبَسِطَة دائمة لا تَنْكَمِش ولا تَتَغَيَّر ولا تَذهب ولا تَنْقطع ولا تزول كظلال الدنيا ، وهي تحمل نسائم مُمْتِعَة ، وهي حاصِلَة من التفاف أشجار الجنة وكثرة أوراقها وثمارها بمناظرها المُسْعِدَة المُبْهِجَة ، ويكونون أيضا في عيون وينابيع يخرج منها الماء العذب والشراب الحلو من كل الأنواع الجاري الوفير المُبْهِج .. " وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴿42﴾ " أيْ وكذلك من بعض تَمَتّعهم وسعادتهم أنَّ لهم في الجنة فواكه كثيرة متنوّعة لذيذة مِن كل ما يَشتهونه ويَتمنّونه ويَرْغَبُونه حسبما يريدون .. والفاكهة بعد الطعام الأساسيّ دلالة علي تمام الفخامة والرفاهية والنعيم .. " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿43﴾ " أيْ يُقال لهم لتكريمهم وتشريفهم ، إضافة إلي كل الكرم والفضل السابق ذِكْره ، كلوا واشربوا كل ما تشتهونه هنيئا أيْ مُسْعِدَاً لكم مُسْتَسَاغَاً لذيذا طيبا مُفيدا لا ضارَّاً مُيَسَّرَاً بلا أيِّ مَشَقَّة .. " .. بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿43﴾ " أيْ هذا هو سبب ما أنتم فيه الآن ، أيْ أُعْطِيتُم كلّ هذا الفضل العظيم بسبب ما كنتم تعملونه من أعمالكم وأقوالكم الحَسَنة في دنياكم واجتهادكم في تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم ، وفي هذا القول أيضا مزيد من التكريم والتشريف لهم .. " إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ ﴿44﴾ " أي نحن هكذا دائما يكون جزاؤنا وعطاؤنا الذي لا يوصف وبلا حساب للمحسنين .. وهذا سيكون دوما حال كل مُحسِن ، كل مُتقِن مُجيد ، كل متمسّك عامل بكل أخلاق إسلامه ، سيُؤْتَيَ حتما من فضل ربه من الخير والسعادة التامة ما يُسعده ومَن حوله في دنياه وأخراه ، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا .. " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴿45﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من هذه السورة الكريمة﴾
ومعني " كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ ﴿46﴾ " أيْ كلوا أيها المُكَذّبون من كل الطعام وتَمَتَّعوا كيفما تريدون بمُتَع الحياة الدنيا علي أيّ صورةٍ سواء أكانت شرّا أم خيرا ضَرَرَاً أم نفعا ، زمنا قليلا ، فهو متاعٌ قليل حيث تتركونه بموتكم وانتهاء آجالكم فيها وهي مهما طالَت بمُتَعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له ، وحتي ما أنتم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا تستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره ، وقد تفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره ، فهو إذَن قليل دنيء زائل يوما ما ، بل مِن كثرة شروركم أنتم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم ، وبالجملة أنتم في تعاسة دنيوية تامّة ، وحتي ما تُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروركم إضافة إلي ضيقكم عند تَذَكّركم الموت والذي لا تَدْرون ما سوف يحدث لكم بعده ، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا ، ثم في آخرتكم سيكون لكم حتما عذاب فظيع ثقيل شديد مُخيف مُتْعِس مُهْلِك لا يُمكن تَخَيّله .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم وتحذيرٌ لأيّ أحدٍ أن يفعل مثلهم ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما .. " .. إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ ﴿46﴾ " أيْ فأنتم مُجرمون تَسْتَحِقّون ما يَستحِقّه المجرمون ، أيْ إنكم مَفْعُولٌ بكم حتما ما فُعِلَ بمَن قبلكم مِن المجرمين السابقين علي مرّ الأزمنة الذين تَمَتَّعوا مَهْمَا تمتعوا ثم عاقبهم الله تعالي في التوقيت وبالأسلوب الذي رآه سبحانه مناسبا لجرائمهم ، وذلك لأنكم مجرمون مُسْتَحِقّون للعقاب .. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم بأنواعها المختلفة ، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴿47﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من هذه السورة الكريمة﴾
ومعني " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ﴿48﴾ " أيْ وكانوا في دنياهم إذا قيل لهم بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظة حسنة مِمَّن حولهم من المسلمين اركعوا أيْ اخضعوا لخالقكم ورازقكم ولتوجيهاته وإرشاداته واستجيبوا واستسلموا لها وقوموا بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتكم لتسعدوا بها ، وأيضا صَلّوا وارْكَعُوا لله مُتَوَاضِعِين خاشعين ساكنين في صلاتكم تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن ، واكْتَسِبُوا من ذلك تَواضُعاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا تَسْتَعْلوا عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما ، حينما كانوا يُقال لهم هذا ويُدْعَوْنَ إليه كانوا يَرفضونه ويتَعَالون عليه ولا يستجيبون له ويفعلون الشرّ رغم أنهم كانوا قادرين تماما علي الركوع وفِعْل الخير مُتَمَكِّنين منه أشدّ التَّمَكّن !! فبالتالي اسْتَحَقّوا عقاب الدنيا والآخرة بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿49﴾ " (برجاء مراجعة الآية ﴿19﴾ من هذه السورة الكريمة﴾
ومعني " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿50﴾ " أيْ إذا لم يُؤمن المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يشبههم بحديثِ الخالق العظيم ورسوله الصادق الأمين وبمِثْل هذه الآيات الكوْنية والقرآنية علي أنَّ الله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فبأيّ كلامٍ ودليلٍ يُصَدِّقون به بعد ذلك إذَن ؟!! لا شيء قطعا لأنه لا بَيان وتوضيح حتما أكثر من هذا البيان !! لأنَّ المشكلة بكل وضوح فيهم وليست في الأدِلَّة حيث هم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.