الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴿148﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً عفيفَ اللسان لا تَتَلَفّظ بلفظٍ إلا إذا كان حَسَنَاً طيّباً لَيِّنَاً سَهْلاً مُتَوَاضِعَاً نافعاً مفيداً مُصْلِحَاً لا إساءة فيه لأيِّ أحدٍ ولا إيقاع لأيِّ خُصُومَة مَصْحُوبَاً بكل نوايا الخير المُمْكِنَة بداخل العقل.. إنه بانتشار عِفّة اللسان ينتشر الرُّقِيّ والتّطَوُّر والنّمُوّ والخير، ويَرْقَيَ الجميع ويتلاحَمون ويتحابُّون ويتكاتَفون ويتعاونون ويسعدون في دنياهم وأخراهم.. وإيّاك إيّاك أن تكون بَذِيء اللسان تقول السوء والشرّ والغليظ والفاحِش والمُغْرِض والمُسِيء والساخِر والمُوُقِع للخُصُومَات من الأقوال، لأنه بانتشار بَذَاءة اللسان والشَّتْم واللّعْن والطّعْن يَنتشر الانحدار والتّخَلّف والشرّ ويتقاطَع الجميع ويتخاصَمون ويَتَشاحَنون وقد يَقتتلون فيَتعس الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴿148﴾" أيْ لا يحب الله أبداً بالتأكيد الإعلان أو الإسرار بالسَّيِّء من القول أو العمل الذي يُسِيء للنفس وللغير ويَضُرّهم ويُتعسهم، ومَن يفعله فهو حتماً من المُسيئين الذين لا يُحبّهم سبحانه، لأنه لا يحب قطعاً إلاّ الحَسَنَ مِن القول والفِعْل في العَلَن والسِّرّ، ومَن لا يحبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب سُوُئِه، لأنه بانتشار بَذَاءة اللسان والشَّتْم واللّعْن والطّعْن يَنتشر الانحدار والتّخَلّف والشرّ ويتقاطَع الجميع ويتخاصَمون ويتشاحَنون وقد يقتتلون فيَتعس الجميع في الداريْن، وهذا تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. إِلَّا مَنْ ظُلِمَ.." أيْ إلا مَن كان مظلوما، فقد سَمَحَ له الإسلام – إنْ لم يَصبر ويَعفو لينال الأجر الأعظم – ببعض الجهر بالسوء من القول بالقَدْر فقط الذي يَدْفع به الظلم عنه ولا يكون خارجا حينها عن حب الله لأنَّ دفع الظلم بما يُستَطاع أمر واجب يُحبّه سبحانه حتي لا ينتشر الظلم بأضراره وتعاساته وحتي يمتنع الظالم عن ظلمه ثم هذا هو من باب أخفّ الضرَرَيْن حيث سيكون قطعا أقلّ ضَرَرَاً وتعاسة من غياب العدل وأضرار ذلك وتعاساته الشديدة وأقلّ ضَرَرَاً من أن يتحوّل الأمر إلي ما هو أشدّ كقتلٍ مثلاً إذا لم يَتِمّ التفريج عن الشعور بالظلم ببعض القول، فمِن حقّه مثلاً أن يرفع صوته ببعض الألفاظ السيئة التي قالها مَن ظلمه ليَجتمع البعض فيَمنعوا أذاه عنه أو يشتكيه لمسئولٍ فيَذكر له ما قال أو يدعو عليه أو ما شابه هذا، لكنْ حتماً إنْ كان الظلم قَذْفاً أو سَبَّاً أو افتراءً وكذباً ونحوه مِمَّا يُخالِف أخلاق الإسلام فلا يُقَابَل بمِثْله وكذلك لا يزيد في الجهر بالسوء عن القَدْر الذي يُحقّق دَفْع الظلم وإلاّ وَقَعَ في ظلمٍ وكان ظالماً هو أيضا (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة الشوري "وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ"﴾، وإنْ أمكنه بوسيلةٍ من الوسائل المُتَاحَة المُبَاحَة دَفْع ظالمه عن ظلمه بغير الجهر بالسوء من القول فلا يَجهر حينها، وإنْ عَفَا عنه فهو أفضل، وسيكون هو الأقوي والأعَزّ بقوة الله وعِزّته، وسيُؤَثّر غالباً فيمَن ظلمه كما قال تعالي ".. ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.." ﴿فُصِّلَت:34﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، وسيُوقِف امتداد البَذاءَة، وسيَحمي المجتمع من انتشارها، وله أجره العظيم مُؤَكّداً في الداريْن كما وَعَدَ تعالي ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾" ﴿الشوري:40﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾.. ".. وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴿148﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان سميعاً أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وعليما أيْ يعلم دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما من كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴿149﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً في خير، تُفَكّر في خير، تَبْحث عن خير، تقول خيرا، تفعل خيرا، تُعَلّم خيرا، تُعين علي خير، تمنع من شرّ، تعفو عن سوء.. إنه بانتشار كل أنواع الخير، وانحسار كل أنواع الشرّ بغَلَبَة وتَوَسُّع الخير عليه، ستكون حياة الناس كلها بل الخَلْق كلهم خيراً علي خير، نوراً علي نور، وسيَعُمّ الخير الغامِر والبركة الغامِرة من الله الكريم العَفُوّ الرحيم القادر علي كل شيء، وسيسعد الجميع في دنياهم ثم أعظم وأتمّ وأخلد سعادة في أخراهم
هذا، ومعني "إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴿149﴾" أيْ هذا تشجيعٌ للناس علي الإكثار من فِعْل الخير سواء أكان عَلَنَاً أم سِرَّاً وعلي العفو والتسامُح فيما بينهم ليسعدوا بذلك في الداريْن.. إنْ تُظْهِروا خيراً مَا، قولاً أو فِعْلاً، والخير هو كلّ نافعٍ مُسْعِدٍ للنفس وللغير في الدنيا والآخرة، هو كل ما يحبه ويطلبه الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه المجيد وإسلامه الشامل العظيم، سواء أكان عِلْمَاً أم عملاً أم إنتاجاً أم ربحاً أم إنجازاً أم بناءً أم ابتكاراً أم تخطيطاً أم تعاوناً أم غيره، أو تُخْفُوه أيْ تُسِرُّوه، أو تَعفو عن سوءٍ – وهذا العفو قطعاً هو من الخير أيضا – بأنْ تَصْفحوا عمَّن أساء إليكم وتُسامِحوه وتَتَساهلوا فيما بينكم وتَمْتَنِعوا عن إضرارِ بعضكم بعضا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية السابقة حيث هذه الآية تأكيد لمعانيها، ثم الآية ﴿134﴾ من سورة آل عمران "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"﴾، يُجازيكم الله على ذلك الأجر العظيم حيث كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم ثم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد في أخراكم ويتجاوَز عن سيئاتكم لأنه كان عَفُوَّاً قديراً أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه عَفُوَّاً أيْ كثير العفو عن كل السيئات السابقة أيْ الشرور والمَفاسد مهما كبرت وعظمت أيْ يُسقطها ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها ويُسامح فاعلها بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده، وكان قديراً أي كثير عظيم القُدْرة لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد.. فهو قادر حتماً علي عقوبة مَن يُسيء ومع ذلك يَعفو كثيراً وعفوه دوْمَاً يَسْبِق غضبه ويَحْلم ويَصْبِر علي المُسِيء ولا يُعَجِّل بعقوبته له إلا إذا وَصَل لعِلْمه أنَّ فِعْلَه إساءة وأصَرّ واستمرّ عليه، فتَشَبَّهُوا إذَن بصفاته تعالي بأنْ تَعفوا عمَّن أساء إليكم رغم قُدْرتكم علي عقابه لتنالوا أعظم الأجر في الداريْن
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴿150﴾ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿151﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿152﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَبْحَثون عن حلولٍ وَسَطٍ بين الإيمان والكفر! لأنَّ هذا الوَسَط في هذه الحالة هو كفر! لأنَّ أيَّ بُعْدٍ عن مساحة الإيمان ولو بخطوة يُعَدّ كفراً!.. إنَّ البعض قد يُخادِع مُدَّعِيَاً أنه قد آمَنَ برسولٍ سابقٍ قَبْل الرسول الكريم محمدٍ ﷺ وبما جاء به فهو إذَن مؤمن فلماذا يُطْلَب منه الإيمان برسولٍ آخر؟! رغم أنَّ كلّ رسولٍ يُوصِي بالإيمان بمَن يأتي مِن بَعْده وبتشريعاتهم لأنهم يأتون بما يُناسب ويُسْعِد البشرية كلها في كل عصر، والتي أصلها الإسلام، إلي محمدٍ ﷺ ورسالته الخاتمة الصالِحَة المُسْعِدَة لجميع الخَلْق حتي يوم القيامة علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وأفكارهم، فمَن كَفَرَ به فقد كفر برسوله ذاته الذي يَدَّعِي أنه قد آمَنَ به!! (برجاء مراجعة الآية ﴿81﴾، ﴿82﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الميثاق الذي أخذه الخالِق تعالي علي رسله بأن يُوصِي كلٌّ منهم المؤمنين به باتّباع مَن يأتي بَعده﴾
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴿150﴾" أيْ إنَّ الذين يكذّبون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ويريدون أن يُفَرِّقوا بين الإيمان بالله وبين الإيمان برسله بأن يُعْلِنوا إِيمانهم بوجود الله تعالي وأنه خالق هذا الكوْن لكنهم يكفرون برسله أو ببعضهم، فيُكَذّبونهم ولا يعملون بما جاءوهم به من أخلاق الإسلام وأنظمته المُسْعِدَة لكل شئون حياتهم بل يعملون بأنظمةٍ مخالفةٍ لها، فهم إذا فَعلوا هذا ورفضوا رسالة الرسل ورَدُّوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم فكانوا مُمْتَنِعِين من التزام العبودية أيْ الطاعة التى أمروا بالتزامها من الله الذي أرسلهم كان هذا كالكفر به سبحانه تماما لأنه يعني تَرْك عبوديته وعبادة غيره وبالتالي فادِّعاء الإيمان به بغير الإيمان برسله المَبْعُوثين منه ليُعَلّمهم الإسلام وكيفية عبادته يكون حتماً ادِّعاءً كاذباً ومُرَاوَغَة لتبرير كفرهم وعدم عملهم بنظام الإسلام، لأنَّ الإيمان هو وحدة مُتَكَامِلَة تشمل الإيمان بالله وجميع رسله وكتبه وآخرته ومَن كَفَرَ بجزءٍ من هذه الوحدة فقد كَفَرَ بها كلها لأنها لا يمكن تَجْزِئتها وفَصْل بعضها عن بعض.. ".. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.." أيْ ويقولون مُتَبَجِّحِين مُعانِدين مُكَذّبِين مُسْتَكْبِرين نُؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعضهم كما قال اليهود نؤمن بموسى والتوراة ونكفر بما جاء بعد ذلك كعيسي والإنجيل ومحمد والقرآن، وكما قال النصارى نؤمن بعيسى والإنجيل ونكفر بمحمد والقرآن، وكقول مَن يَتَشَبَّه بهم، لكنَّ الإيمان يعني الإيمان بهم جميعاً لأنَّ كلّ رسولٍ يُوصِي بالإيمان بمَن يأتي مِن بَعْده وبتشريعاتهم لأنهم يأتون بما يُناسب ويُسْعِد البشرية كلها في كل عصر، والتي أصلها الإسلام، إلي محمدٍ ﷺ ورسالته الخاتمة الصالِحَة المُسْعِدَة لجميع الخَلْق حتي يوم القيامة علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وأفكارهم، فمَن كَفَرَ به فقد كَفَرَ برسوله ذاته الذي يَدَّعِي أنه قد آمَنَ به!!.. ".. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴿150﴾" أيْ وهم يريدون بقولهم وفِعْلهم هذا أن يتّخذوا بين ذلك أيْ بين الإيمان والكفر طريقاً وَسَطَاً أيْ دِينَاً وسطا يَتّبعونه يَصِلُون به إلي تحقيق شرورهم فكأنهم علي دينٍ وهم في الحقيقة يفعلون من خلاله ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار مِمَّا يُخَالِف الإسلام، ولا تَوَسُّط قطعاً بين الإيمان والكفر، لأنَّ هذا الوَسَط في هذه الحالة هو كفر! لأنَّ أيَّ بُعْدٍ عن مساحة الإيمان ولو بخطوة يُعَدّ كفراً! لأنَّ الإيمان هو وحدة مُتَكَامِلَة تشمل الإيمان بالله وجميع رسله وكتبه وآخرته ومَن كَفَرَ بجزءٍ من هذه الوحدة فقد كَفَرَ بها كلها لأنها لا يمكن تَجْزِئتها وفَصْل بعضها عن بعض
ومعني "أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿151﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة سابقاً ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الكافرون حقّ الكفر أيْ كامِلُوا الكفر المُنْغَمِسُون الراسِخون فيه المُحَقّق منهم بلا أيِّ شكّ.. وهذا تأكيدٌ لَمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ هناك بالفِعْل درجة متوسطة بين الإيمان والكفر بل مَن يَفعل ذلك هو كافر كامِل الكفر.. ".. وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴿151﴾" أيْ أيْ وأعْدَدنا وجَهَّزنا للكافرين – والكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ولذا فالذي يَسْتُر نِعَم الله عليه ويَكتمها ويُنكرها ولا يَعترف بها فهو كافر لنِعَم الله عليه، وكذلك كلّ مَن يُخْفِي ما هو ثابت في فطرته وهو وجود الله تعالي ويُكَذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويَفعل بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وِجْهَة نَظَره فهو كافر – عذاباً مُهِينَاً حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه ونِعَمه، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذبا مُهينا لهم، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿152﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب المُكَذّبين الذي ذُكِرَ في الآيات السابقة فالذين آمنوا بالله ورسله – وهم الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – ولم يُفَرِّقوا بين أحدٍ منهم فيُكَذّبوا ببعضهم ويُصَدِّقوا بالبعض الآخر كما فَعَلَ الكافرون الذين سَبَقَ ذِكْرهم حيث كَذّبوا بالرسول الكريم محمد ﷺ والقرآن الذي أُوحِيَ إليه والذي يَشمل كل ما في الكتب السابقة مِن أخلاقيَّاتٍ ويَستكمل ما يُناسب البشرية ويُكملها ويُصلحها ويُسعدها حتي يوم القيامة.. إنهم لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم لأنَّ الكتب كلها التي حَمَلَها كلّ الرسل أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد والإيمان بذلك – وبالملائكة – هو استكمالٌ للإيمان بالله تعالي وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي منه هذه الأمور والذي هو معني الإيمان لأنَّ التصديق بما هو حاضِرٌ مُشَاهَد ليس غَيْبِيَّاً لا يُعَدّ إيمانا لأنه يُصَدِّقه كلُّ أحدٍ ولا يمكن إنكاره أمّا مَا هو غائبٌ فهذا هو الذي يُمَيِّز المُصَدِّق الذي أحسنَ استخدام عقله من المُكَذّب الذي أساء استخدامه.. ".. أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ.." أيْ هؤلاء المَذْكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات الحَسَنة الطيّبة سوف يُعطيهم ربهم عطاءاتهم العظيمة الهائلة التي لا تُوصَف من كرمه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ بما يزيد كثيراً عَمَّا يُناسب فِعْلهم وصِدْقهم ونتائجه حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في الدنيا ثم جنات لا تُوصَف في الآخرة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿152﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه دائما علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيماً أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿153﴾ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿154﴾ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿155﴾ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿157﴾ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿158﴾ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴿159﴾ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴿160﴾ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿161﴾ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿162﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُعانِدَاً مُكَاِبَراً مُغَالِطَاً مُرِاوِغَاً تطلب مُعجزاتٍ ومُستحيلاتٍ لكي تَتّبِع الحقّ وتستجيب له رغم علمك به وتأكّدك منه.. إنَّ هذه الصفات هي أصول التعاسة لأنها تؤدّي غالبا إلي التّلَوُّن والخِسَّة والتّلاَعُب والغَدْر والخيانة ونحو ذلك من أخلاقِيَّاتٍ وَضِيعَةٍ لو انتشرت بين الناس لَتَعِسوا جميعا في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿153﴾" أيْ يَطلب منك اليهود والنصاري يا رسولنا الكريم، بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء ومُرَاوَغَة، كدليلٍ علي صِدْقك وكمعجزةٍ لك كمعجزات موسي وعيسي ﷺ وحتي يُصَدِّقوك، أن تُنَزّل عليهم كتابا من السماء يرونه بأعينهم عند نزوله يكون خاصاً لهم يأمرهم بتصديقك وطاعتك والعمل بالإسلام الذي جئت به! إنهم لو كانوا يريدون الإيمان حقاً لَمَا وَجَّهُوا إليك هذه الأسئلة المُتَعَنّتَة وما يُشبهها لأنَّ الأدِلّة القاطعة على صدقك قد ثبتت بنزول أعظم معجرة عليك وهو القرآن العظيم حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَةٍ تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. إنَّ المشكلة إذَن ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.." أيْ هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم!.. أيْ فلا تَتَعَجَّب منهم ولا تَتَأَثّر بهم واستمرّ في تمسّكك وعملك بإسلامك ودعوتك له ولا تَسْتَعْظِم وتَسْتَكْثِر ما سألوك إيّاه وطلبوه منك فقد سأل آباؤهم وأجدادهم رسولنا موسي قبلك أكبر وأكثر وأعظم جَهْلاً وجُرْمَاً وقُبْحَاً وجُرْأة علي الله من ذلك وتَوَارَثوا هذا القُبْح ولم يجتهدوا في علاجه والتّخَلّص منه باتّباع أخلاق الإسلام التي كانت في التوراة عندهم وقتها، حيث قالوا له أَرِنَا الله جَهْرة أيْ لن نُصَدِّق لك في أنَّ الله موجود وأننا علينا عبادته أيْ طاعته باتّباع الإسلام الذي في التوراة وأنها كلامه لا كلامك أنت حتي نراه جهرة أيْ عَلانِيَة ظاهراً لنا بلا أيِّ ساتِر وهو الذي يُخبرنا بها ويُعَلّمنا إيّاها، فإنْ لم يَحدث ذلك فلن نُؤمن!! أيْ إنهم لم يُصدقوه رغم المُعجزات التي حَدَثَت أمامهم علي يديه والتي أيَّدْناه بها وآخرها شَقّ البحر وإنجائهم وإهلاك عدوهم والتي تَدلّ أيَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام صِدْقه.. إنهم قد تَجَرَّأْوا علي هَيْبَة الله تعالي والذي مِن المستحيل أنْ يروه في الدنيا رحمة بهم لأنَّ عيونهم غير مُؤَهَّلَة لهذا ولنْ يحتملوا رؤيته – أمَّا في الآخرة فأهل الجنة سيكونون مُؤَهَّلِين لرؤيته والتّمَتّع والسعادة بذلك – كما أنه لكي يَرُوه لابُدَّ له من مكانٍ وهو تعالي لا مكان له بل معهم وجميع خَلْقه دوْمَاً في كل مكانٍ بتمام قُدْرته وعلمه ثم هو من الغَيْب الذي به يُخْتَبَر المُكَذّب من المُصَدِّق الذي يُحْسِن استخدام عقله فيَرَي أثره سبحانه في كل مخلوقاته المُعْجِزات في كل كوْنه حوله دون أن يراه مباشرة.. ".. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ.." أيْ ولذلك وبسبب ظلمهم أيْ تَعَدِّيهم وتَجَرُّؤهم وتكذيبهم وعِنادهم واستعلائهم علينا وعلي رسولنا الكريم أصابتهم ونَزَلَت وانْقَضَّت عليهم الصاعقة وهي الشيء الذي يَصْعَق ما تحته فيُهلكه إذا أصابه سواء أكان هذا الشيء نارا مُحْرِقَة أم عاصفة مُدَمِّرَة أم شرارة كهربائية مُمِيتَة أم ما شابه هذا، وهم يَرَوْنها بأعينهم أمامهم ويَرَوْن حالهم وعذابهم وهلاكهم دون أن يستطيعوا مَنْع ذلك ليكون أشدّ تعذيباً لهم.. ".. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ.." أيْ ثم لم يَرْتَدِعُوا ويَمتنعوا عن ظلمهم وسُوئهم بهذا العقاب ويَتّعِظوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ولكنهم أصرّوا علي ما هم فيه بل فَعَلوا بعد ذلك ما هو أفظع قُبْحَاً وجَهْلاً وخَبَلَاً حيث جعلوا العجل الذي صَنعوه بأيديهم إلاهاً لهم يعبدونه أيْ يُطيعونه غير الله تعالي، وذلك مِن بعد ما جاءتهم البينات أيْ من بعد ما وَصَلَت وظَهَرَت لهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْق رسولهم الذي أتاهم بكتابهم أم آيات في الكوْن حولهم أرْشَدَهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم الآيات التي في الكتاب الذي يُتْلَيَ عليهم والذي فيه أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، فهم لم يَعبدوه لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يعبدونه عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوا الإسلام الذي في التوراة ولا يَتّبعه غيرهم، فالوقوع في الشرّ عن علمٍ لا عن جهلٍ هو حتما أشدّ قبْحاً وعقوبة لأنّ حصول العلم يُوجِب بالعقل وبالمِنْطِق التصويب وعدم الوقوع فيه للوقاية من تعاساته الدنيوية والأخروية.. إنَّ هذه النِعَم التي أنعم الله بها عليهم من إرسال الرسل والكتب كانت تَتطلّب في المُقابِل مَنْطِقِيَّاً عند كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يشكروها بأنْ يحافظوا عليها ويعملوا بها كلها على أكمل وجهٍ وأن يجتمعوا على الحقّ الذي بَيَّنه الله لهم فيها، ولكنهم فَعَلوا العكس تماما! وهذا تَعَجّب من حالهم وتقبيح لسوء فِعْلهم وذمّ شديد له إذ أين عقولهم هل أصابهم الجنون؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! لقد تَركوا عبادة خالقهم الذي أنجاهم وأنْعَمَ عليهم كل هذه النّعَم التي لا تُحْصَيَ ورَزقهم ورَعاهم وأَمَّنَهم وأرْشدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن وعبدوا عِجْلاً بدلاً أن يعبدوه ويشكروه!!.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ.." أيْ فسامَحْناكم عن ذلك الفِعْل الدنِيء باتّخاذكم العِجْل مَعْبُودَاً غير الله تعالي ومَحَوْنا ذنوبكم كأن لم تكن رغم عِظَمها ولم نعاقبكم عليها لتوبتكم منها.. وفي هذا تشجيعٌ لأهل الكتاب ليَتوبوا ويُسْلِموا ليَتوب الله عليهم كما تابَ علي أجدادهم ليَسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما.. ".. وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿153﴾" أيْ وأعطينا موسي دليلاً واضحاً قويَّاً يَقْضِي به علي أدلة وحجَج أعدائه.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين من بعده أنَّ النصر والعِزَّة والمَكَانَة في الأرض لهم حتما لا لأعدائهم، في دنياهم وأخراهم، كما حَدَثَ مع موسي ﷺ
ومعني "وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿154﴾" أيْ وكذلك من صور تكذيبهم وعنادهم واستكبارهم واستهزائهم وإخلافهم للعهود والمواثيق أننا قد رفعنا فوقهم جبل الطور الذي بسيناء بمصر وكلّم الله عنده موسي ﷺ وأوْحَيَ إليه التوراة حيث رفعناه كأنه مَظَلّة بعد أن اقتلعناه من مكانه بتمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا فكان ذلك آية عظيمة لمَن أراد الاعتبار منهم وتأييداً لصِدْق رسولنا ليتّبِعوه كما أنه في ذات الوقت كان تَرْهِيباً وتَخويفاً لمَن أراد التكذيب والعِناد والاستكبار وعدم الاتّباع لكي يُرَاجِع ذاته ويَتّبعه فلا يهلك بأنْ نُوقِعه عليه.. ".. بِمِيثَاقِهِمْ.." أيْ بسبب ميثاقهم، أيْ بسبب أخْذِ الميثاق عليهم أيْ العَهْد والوَعْد المُؤَكّد مع الله من خلال موسي ﷺ أن يُوفوا ويَلتزموا ولا يُخالفوا أخلاق الإسلام التي في التوراة حيث لمَّا يَروا رَفْع الطور يزدادوا إيماناً بسبب هذه الآية العظيمة فيَسْهل عليهم العمل والتمسّك بهذا الميثاق وكذلك يخافوا أن يقع عليهم إذا هم خَالَفوه فيُعينهم ذلك علي عدم مُخَالَفته مُطلقاً، فالأمر هو تَرْغيب وتَرْهيب لهم للعمل بالتوراة.. ".. وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا.." أيْ ووَصَّيْناهم وقلنا لهم من خلال موسي ﷺ بعد إنقاذهم من ظلم فرعون ادخلوا هذه البلدة من بلاد أرضنا حيث تجدون فيها الوطن والاستقرار والراحة والأمن والهناء وتأكلون منها أكلاً رَغَداً أيْ هنيئاً طيباً وافراً واسعاً حسبما تشاؤون من أيِّ مكانٍ ومن أيِّ ثمرٍ تريدون وكونوا دوْمَاً عند دخولكم إليها من بابها ومدْخلها وأنتم مقيمون فيها وفي كل أحوالكم وشئون حياتكم سُجَّدَاً أيْ عابدين لله تعالي أيْ طائعين مُتَّبِعين لكل أخلاق الإسلام حيث السجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها، وأيضا هو السجود له بتَوَاضُعٍ وخُشوع وسُكُون في الصلاة أو خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، والاكتساب من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم الاستعلاء عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. ".. وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ.." أيْ وكذلك وَصَّيْناهم وقلنا لهم لا تعتدوا علي وَصَايَانا وأوامرنا فخَالَفوها في يوم السبت، بأنْ صَادوا السمك فيه رغم مَنْعِنا للصيد في هذا اليوم تدريباً لهم علي قوة الإرادة لمصلحتهم ولسعادتهم لكي يَنطلقوا بهذه الإرادة القوية في الحياة يَقتحمونها ويستكشفونها وينتفعون ويسعدون بخيراتها، وأيضا اختباراً ليَعلم كل منهم نفسه هل يستجيب ويلتزم بما فيه مصلحته وسعادته فيحمد الله ويستمرّ علي ذلك أم يُخَالِف ويعمل ما يَضُرّه ويُتْعِسه وعليه أن يُصْلِح ذاته ليسعد، فقام هذا البعض بالتّحَايُل بأن نَصَبَ الشباك يومها ثم صاده في اليوم التالي وكأنه سبحانه العالِم بكل شيءٍ لا يَراهم ولا يَعلم حِيَلَهم وأفعالهم!!.. ".. وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴿154﴾" أيْ وأخذنا منهم من خلال موسي ﷺ عهداً ووعداً وعقداً مُوَثّقَاً غليظاً أيْ عظيم الشأن هامّا بالغ الخطورة شديداً قويّاً مَتيناً مُؤَكَّداً لازِم الاحترام والتنفيذ لا يحلّ لهم أن ينقضوه أو يُخالفوه، علي كل ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وعلي أن يعملوا بكل أخلاق الإسلام التي في التوراة، ولكنهم نَقَضُوا عهودهم أيْ لم يُوَفّوا بما عاهَدوا عليه وخَالَفوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
ومعني "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿155﴾" أيْ فبسبب نقضهم عهدهم أيْ عدم وفائهم به ومُخَالَفتهم إيّاه أيْ عدم عملهم بأخلاق إسلامهم التي في تَوْرَاتِهم، لَعَنّاهم أيْ طَرَدناهم وأبْعَدناهم من رحماتنا وإسعاداتنا في دنياهم وأخراهم، وكذلك لَعَنَّاهم بسبب كفرهم أي تكذيبهم بآياتنا وعدم تصديقهم بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، وأيضا لَعَنّاهم بسبب قتلهم لأنبيائنا ظُلماً وعُدْواناً، وبسبب قولهم قلوبنا غُلْف أيْ عقولنا مُغَلّفَة بأغْلِفَةٍ تَمنع فَهْم ما نُدْعَيَ إليه من إسلامٍ بما يدلّ علي تمام إصرارهم علي ما هم فيه من سوء بلا أيِّ تغيير!!.. ".. بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ.." أيْ ليس الأمر كما يَدَّعون كذباً أنَّ عقولهم غُلْف بحيث لا يَصِل إليها الإسلام بل هى مُتَمَكّنَة تماما من قبوله من خلال الفطرة التي جعلها الله تعالي مُسْلِمَة أصلا بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولكنهم كفروا أيْ كذّبوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه واسْتَعْلَوْا علي إسلامه واستهزأوا به ولم يعملوا بأخلاقه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار واختاروا ذلك بكامل حرية إرادة عقولهم حيث لم يُحسنوا استخدامها لأنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فطَبَعَ الله علي عقولهم بسبب هذا، أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿155﴾" أيْ فبالتالي، فبسبب كفرهم هذا والذي أدَّيَ إلي لعنة الله عليهم وغضبه منهم وعدم توفيقه لهم بتيسير أسباب الهداية إليهم حيث لا يُيَسِّرها إلاّ لمَن يريدها هو بكامل حرية إرادة عقله، لا يؤمنون أمثال هؤلاء إلاّ قليلاً من الأحيان وإلا عدداً قليلاً منهم وهم الذين يَستيقظون ويُحسنون استخدام عقولهم ويستجيبون لنداء الفطرة بداخلها
ومعني "وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴿156﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كفرهم وعلي تَعَدُّد جرائمهم.. أيْ ولَعَنّاهم أيضا بسبب كفرهم بعيسي ﷺ والإنجيل المُوُحَيَ إليه ثم بمحمد ﷺ والقرآن العظيم وبسبب قولهم علي مريم العَفِيفَة المُصْطَفاة المُطَهَّرة كذباً شديداً، والبُهْتان هو الكذب الفظيع غير المعقول الذي يُبْهِت العقل أيْ يُحَيِّره لأنه لا مُبَرِّر ولا أصل له ولشِدّة غرابته وبُعْده عن الحقيقة، حيث قالوا عليها أنها قد زَنَت وأنْجَبَت ولدها عيسي من زنا حيث ولدته بغير أبٍ رغم تأكّدهم من عِفّتها وبراءتها من خلال معايشتهم لها منذ صغرها ورغم تَبْرِئة الله لها ببيان أنه قد اصطفاها وطَهَّرَها وبإنْطاق عيسي وهو مولود ليُبَيِّنَ ذلك وأنه سيكون رسولا
ومعني "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿157﴾" أيْ ولَعَنّاهُم كذلك بسبب قولهم مُتَفَاخِرين مُتَبَجِّحِين مُتَطَاوِلِين علي الله ورسله مُسْتَخِفّين بقوّته سبحانه مُتَوَهِّمِين عدم حمايته لرسله ودينه الإسلام إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله – والمسيحُ لَقَبٌ لعيسي ﷺ سُمِّيَ به تكريماً له لأنه مُسِحَ من خالقه تعالي بكل خيرٍ ويَمسح بيده علي المرضي فيشفون ويَسِيح أيْ يتحرّك في كل خيرٍ يحبه الله في كل شئون الحياة ناشِرَاً فيها كل سعادة – وإنهم لكاذبون حيث ما قتلوه كما ادَّعوا وما صَلَبوه أيْ شَدُّوه علي خَشَبَةٍ تُشْبِهُ الصليب لقتله عليها، رغم محاولاتهم المُسْتَمِيتَة المُتَعَدِّدَة لفِعْل هذا، ولذلك فهم يُعَدُّون من القتلي للرسل رغم عدم تَحَقّق جريمتهم لأنهم لو تَمَكّنوا مِن قَتْله لَقَتَلوه.. ".. وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.." أيْ ولكنَّ الحقّ المُؤَكّد الذي حَدَث أنَّ الله قد خَدَعهم حيث شَبَّهَ لهم شخصاً شَبِيهَاً بالمسيح هو منهم وصاحبهم ومِمَّن يُريدون قَتْله فتَشَابَه والْتَبَس الأمر عليهم فقتلوه وصَلَبوه وحَمَي رسوله الكريم ونَجَّاه بقُدْرته وعِلْمه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وخابوا وخسروا هم في الداريْن.. ".. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ.." أيْ وإنَّ الذين تَضَارَبَت أقوالهم من اليهود والنصاري فيه، أي في شأنِ عيسي ﷺ ، من حيث اعتباره أنه إلاهٌ أو ابن إلاهٍ أو ليس برسولٍ بل كاذب يستحقّ القتل أو ما شابه هذا من تخاريف أو هم قتلوه بالفعل أم قتلوا غيره، كلّ هؤلاء هم بالتأكيدِ في شكّ منه أيْ في حيرةٍ من حقيقة أمره، ليس لهم به أيْ بشأنه أو بشأن قتله أيّ علمٍ ثابت قطعىّ حقيقيّ مُؤَكّد ولا دليل موثوق يستندون إليه إلا السَّيْر خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتماً لا قيمة له ولا يَنْبَنِي عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد وهو أمر لا يمكن الاعتماد عليه مُطلقاً كدليلٍ علي صِحَّة أقوالهم.. ".. وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿157﴾" أيْ وما قتلوه قطعاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ وليس ظنّاً كظَنّهم.. وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي إنْجاء الله لعيسي ﷺ وكَذِب ادِّعائهم بقَتْله
ومعني "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿158﴾" أيْ ما قتلوه وما صَلَبوه لكنْ رَفَعَه الله إليه بجسده ورُوحه وخَلّصه من الذين كفروا ونَجّاه من أعدائه الذين يريدون قتله ليكون في جنّات السماء حيث مكان كرامته تعالي التامّة له وإنعامه الكامل عليه.. إنَّ هذه هي مُعجزة أخري لعيسي ﷺ يَتّعِظ بها كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُعينه علي أن يُصَدِّق بوجود خالقٍ يَرْعَيَ خَلْقه، أن تكون نهاية حياته علي الأرض هكذا، فبدايتها معجزة حيث خُلِقَ من غير أبٍ وأثناءها معجزات مُتَتَابِعات ونهايتها معجزة رَفْعِه بالجسد والروح.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿158﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عزيزاً أيْ غالِباً قاهِرَاً لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وكان حكيماً في كلّ أموره يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴿159﴾" أيْ وما مِن أحدٍ من اليهود والنصاري إلا قبل موته سيُؤْمِن بالتأكيد بعيسي ﷺ ، أيْ ما منهم مِن أحدٍ يأتيه الموت ويُعاينه حقيقة إلا ويُدْرك حينها كل الحقائق أنَّ الله تعالي حقّ وعيسي ﷺ رسول لا إله ومحمد ﷺ حقّ، وهذا تحذيرٌ لكلّ مَن يسمع القرآن منهم الآن أن يُؤمن ليسعد في الداريْن قبل أن يَصِلَ إلي هذه المرحلة حيث لا ينفعه شيءٌ فيتعس أشدّ التعاسة فيهما.. ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه ما مِن يهوديّ ولا نصرانيّ إلا سيُؤمن بعيسي ﷺ عندما يَنْزِل من السماء آخر الزمان قبل موت عيسي ﷺ وذلك عند اقتراب الساعة وخروج المسيخ الدّجَّال ونزول عيسي لقتاله مع المسلمين حيث يُؤمن أهل الكتاب الموجودون في ذلك الزمن به جميعا ولا يكون إلا دين الإسلام ويقاتلوه معهم لتطهير الأرض من شروره وتعاساته كما وَرَدَت بذلك أحاديث الرسول ﷺ .. ".. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴿159﴾" أيْ ويوم القيامة يكون عيسي ﷺ علي اليهود والنصاري شهيداً أيْ يَشهد عليهم بأنه قد بَلّغهم بعبادة الله تعالي وحده بلا أيِّ شريك وباتّباع أخلاق الإسلام التي في التوراة والإنجيل وبأنه عبده ورسوله لا إله ولا ابن إله وبأن يؤمنوا بخاتم الرسل الذي سيأتي بعده محمد ﷺ وبالقرآن الذي سيُوحَيَ إليه ويكونوا من المسلمين، وسيَشهد كذلك بتكذيب مَن كذَّبه وتصديق مَن صَدَّقه حينما كان بينهم.. فلْيُحْسِن إذَن العاقل منهم الذي ما زال علي يهوديته أو نصرانيته حتي الآن الاستعداد لهذا اليوم ولهذه الشهادة بأن يُسْلِم قبل موته ويعمل بأخلاق الإسلام قبل فوات الأوان
ومعني "فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴿160﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ فِعْل الشرّ وتَرْك أخلاق الإسلام يؤدّي حتماً إلي عقوبة له بما يناسبه من الله تعالي تَتَمَثّل في الحِرْمان من خيرٍ وسعادةٍ والإصابة بشرٍّ وتعاسةٍ بمِقداره، في الدنيا ثم الآخرة، فلْيَحْذَر تماما كل مسلم إذَن هذا بأنْ يفعل الخير دائما ويتوب ويرجع عن أيِّ شرٍّ سريعاً لينال تمام خيريّ وسعادتيّ الداريْن.. أيْ فبسبب ظلمٍ شديدٍ من اليهود – والظلم قد يكون كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مَنَعْنَاهم من بعض طيباتٍ هي في الأصل حلال، كعقوبةٍ لهم علي ظلمهم، لفترةٍ، لمصلحتهم، ليستفيقوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم فتُحَلّل لهم مرة أخري فيسعدوا في الداريْن، وليكون ذلك تدريباً لهم علي تَرْك بعض الحلال، كما في حالة الصيام، فتزداد إرادة عقولهم فينطلقون بهذه الإرادة القوية في حياتهم يستكشفونها أكثر ويسعدون بها أكثر وأكثر، ولكنهم استمرّوا في بُعْدِهم عن الله والإسلام ولم يستفيقوا فازداد عقابه لهم وازدادت تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. إنَّ من معاني الآية الكريمة أيضا أنهم مِن ظلمهم الشديد كانوا هم وليس الله تعالي يُحَرِّمون أحيانا علي أنفسهم والناس حولهم أشياء لم يُحَرِّمها سبحانه في التوراة كتَلاَعُبٍ وتحريفٍ فيها وجُرْأةٍ علي شرعه فيُحَرِّمونها في بعض الأحيان تشديداً عليهم ويُحَلّلونها لهم أوقاتاً أخري تخفيفاً عنهم لتحقيق ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فتَرَكهم الله فيما حَرَّموه علي أنفسهم وغيرهم بسبب إصرارهم التامّ عليه ليذوقوا تعاسات ذلك لعلهم يستفيقون فكأنه هو الذي حَرَّمَه بينما هم مَن حَرَّموه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآيات ﴿93﴾، ﴿94﴾، ﴿95﴾ من سورة آل عمران "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿93﴾"﴾.. إنهم لو كانوا استفاقوا وعادوا لربهم ولتَوْرَاتِهم في زمنها بعد أول عقاب، ولو أسلموا بعد مَجِيء القرآن الكريم، لَسعدوا حتماً في الداريْن، لكنهم باستمرارهم علي ما هم فيه سيتعسون قطعاً فيهما.. ".. وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴿160﴾" أيْ وكذلك حَرَّمناها عليهم بسبب صَدِّهم عن سبيل الله كثيراً أيْ صَدَّاً كثيراً في ذاته وصَدَّاً لناسٍ كثيرين وحتي لأنفسهم، وهذا أيضا صورة من صور ظلمهم الشديد ومزيد من التفصيل له، والصَّدِّ عن سبيل الله هو المَنْع عن طريق الله أيْ المَنْع عن الدخول للناس في دين الله الإسلام وإيذائهم ومحاولة رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، منعهم عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، منعهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا
ومعني "وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿161﴾" أيْ وهذا أيضا صورة من صور ظلمهم الشديد ومزيد من التفصيل له.. أيْ وكذلك حَرَّمناها عليهم بسبب أخذهم الربا أيْ تعاملهم بالربا وأخذ ما ينتج منه وقد مُنِعُوا عنه في التوراة لضَرَره، وعَمَّا شابَهَ ذلك من معاملات مالية وعَيْنِيَّة وغيرها خبيثة، وأشهر صور الربا هي الإقراض لمدة زمنية مُحَدَّدة ثم السداد بزيادة يُتَّفَق عليها تتضاعَف عند تجاوُز الموعد وهي مُحرَّمَة أشدّ التحريم لضررها الاقتصادي والاجتماعي علي المجتمع كله إذ هي كسب بغير عملٍ وإنتاج فتنتشر البطالة ويضعف الاقتصاد ثم هي تنشر الكراهِيَّات والصراعات لاستغلالها لحاجة المحتاجين فيفقد الجميع تجانسهم وتآلفهم وتعاونهم وأمنهم فيتعسون في الداريْن.. ".. وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.." أيْ وكذلك حَرَّمناها عليهم بسببِ مَا هو أشمل من أخذهم الربا وهو أكلهم ممتلكات الناس بأخذها بسببٍ باطلٍ غير حقّ كغِشٍّ أو خيانةٍ أو غَدْرٍ أو مُغًالًطًةٍ أو سرقةٍ أو رشوةٍ أو ما شابه هذا.. ".. وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿161﴾" أيْ وأعْدَدنا وجَهَّزنا للكافرين منهم فقط الذين أصَرُّوا علي كفرهم حتي ماتوا عليه وليس قطعاً لمَن آمَنَ وعمل بأخلاق الإسلام التي في التوراة معهم والتي كانت مناسبة لزمنهم ثم مَن حضر منهم زمن القرآن الكريم فأسْلَمَ فهؤلاء لهم حتماً سعادتيّ الدنيا والآخرة – والكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها ولذا فالذي يَسْتُر نِعَم الله عليه ويَكتمها ويُنكرها ولا يَعترف بها فهو كافر لنِعَم الله عليه، وكذلك كلّ مَن يُخْفِي ما هو ثابت في فطرته وهو وجود الله تعالي ويُكَذّب بوجوده وبكتبه وبرسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويَفعل بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وِجْهَة نَظَره فهو كافر – أعْدَدْنَا لهم عذاباً أليماً أيْ مُؤْلِمَاً مُوجِعَاً في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْلهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿162﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ليس كل اليهود – ولا كل النصاري – مُتساوين في الكفر والسوء الذين سَبَقَ ذِكْره، لكنْ الثابتون في العلم منهم المُتَحَقّقون فيه المُتْقِنُون لِمَا يَعْلَمونه إتقاناً يُبعدهم عن الانحراف عن الحقّ ويجعلهم متمسّكين عامِلين تماماً بكل أخلاق دينهم لا يُؤَثّر فيهم أيُّ فسادٍ أو شكّ أو تشويهٍ له أو اعتداءٍ عليه أو نحو هذا، وكذلك المؤمنون من عَوَامِّهم وليس من الراسِخين في العلم منهم فقط وأيضا المؤمنون من كل أمة الإسلام من زمن الرسول محمد ﷺ حتي يوم القيامة، كلّ هؤلاء، الراسخون والمؤمنون، يُؤمنون أيْ يُصَدِّقون بما أنزل إليك يا رسولنا الكريم محمد وهو القرآن العظيم ويعملون بأخلاقه ويؤمنون بما أنزل من قبلك من كتبٍ علي رسله السابقين لك مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف، لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد وإيمانهم بها استكمال لإيمانهم بالله وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي علي المؤمنين أن يَتَّصِفوا به وحتي لا يكون بينهم وبين أهل الديانات السابقة كراهية وعداوة تمنعهم من حُسْن دعوتهم للإسلام بحُسْن التّعامُل معهم.. وفي هذا دعوة ضِمْنِيَّة لكل الذين آمَنوا مِن قَبْل نزول القرآن كاليهود والنصاري وغيرهم أن يؤمنوا به ويُسْلِموا ولا يَبْقوا علي يهوديتهم أو نصرانيتهم أو غير ذلك من الديانات.. ".. وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ.." أيْ ويُواظبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة ويُؤدونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحسنونها ويُتقنونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. "..وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.." أيْ ويُعطون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، ويكونون دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.." أيْ ويُصَدِّقون بوجود الله تعالي خالِق الخَلْق ويعملون بأخلاق إسلامه ويُداومِون علي التواصُل معه وطَلَب رعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعظم ثوابه في اليوم الآخر الذي يُصَدِّقون به أيضا وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿162﴾" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة حتماً سنُعطيهم عطاءً هائلاً من فضلنا وكَرَمنا الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر في أخراهم
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴿163﴾ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ﴿164﴾ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴿165﴾ لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً ﴿166﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها (برجاء مراجعة الآيات ﴿103﴾ حتي ﴿110﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴿163﴾" أيْ إنا أنزلنا إليك يا رسولنا الكريم القرآن العظيم بإيحائه لك عن طريق المَلَك جبريل كما أنزلنا الكتب والصحف علي كل الرسل الكرام مِن قَبْلك والمَذْكورين في هذه الآية الكريمة وغيرهم والتي فيها نصائحنا ووَصَايانا وتشريعاتنا التي تُصْلِح كل البَشَر بما يُناسِب كلّ عصر وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقها.. إنَّ الله تعالي هذه دائما طريقته وعادته فهو من عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة.. إنه كما أوْحَيَ إليهم كتبه منذ آدم ولم يتركهم، كذلك لم يتركك والبشرية حتي يوم القيامة فأوْحَيَ إليك هذا القرآن الكريم وحَفظه حتي نهاية الدنيا، وكما نَصَر سابقا المؤمنين المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم علي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين فسيَنصركم حتما أيها المسلمون، فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا واسْعَدوا، لأنّ الذي أوْحَيَ إليكم هذا القرآن والذي يدعوكم لخير وسعادة الإسلام والذي يعدكم بهذا النصر ثم أعلي درجات الجنات هو الله العزيز أيْ الغالِب الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويكرمهم ويرفعهم وينصرهم ويَقهر ويذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويخفضهم ويهزمهم، وهو في كل أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يضع كل أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث.. ثم بناء علي كل ذلك عليكم أن تُحسنوا دعوة الآخرين وتصبروا علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ فهم يعلمون الإسلام من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وها هو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فلماذا إذَن يكذبونك ويكذبونكم أيها المسلمون وأنتم لم تأتوهم بشيءٍ غريب عنهم لم يسمعوا عنه ولم يعرفوه؟! ولكنّ سبب ذلك هو تعطيل مَن يُكَذّب لعقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والأسباط هم الأحفاد ليعقوب ﷺ ، جمع سِبْط وهو الحَفِيد، والسِّبْط أيضا بمعني القبيلة حيث انْتَشَرُوا وتَتَابَعُوا في صورة قبائل، وكان منهم عدد من الرسل.. وزَبُور في اللغة يعني مَزْبُور أيْ مَكْتُوب أيْ وأعطينا نَبِيِّنا داود كتاباً مَكْتُوبَاً قد كُتِبَ فيه نصائحنا ووصايانا يُقْرَأ ويُرَتّل ويُعْمَل بأخلاقه
ومعني "وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ﴿164﴾" أيْ وكذلك أرسلنا رسلاً قد ذكرنا لك قصصهم وأخبارهم فيما نَزَلَ عليك مِن قرآنٍ مِن قَبْل نزول هذه الآيات عليك، وأرسلنا رسلاً آخرين غيرهم لمَشَارِق الأرض ومغاربها لم نقصص عليك أحوالهم، لأنَّ المَذْكورين هم أعظم الرسل قصصاً يُستفاد مِمَّا فيها من دروس وعِظَات مُسْعِدَة في الداريْن لمَن أراد أن يَتّعِظ، وهي تشمل كل عِبَر الرسل الآخرين.. إنَّ هذا يدلّ علي أنَّ الله تعالي لم يترك بَشَرَاً في أيِّ مكانٍ إلا وقد أرسل إليهم بلُغَتِهم مِن بينهم مَن يُناسبهم ليُعَلّمهم إسلامهم رحمة بهم ليَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ﴿164﴾" أيْ وكانت طريقة الوَحْى إلى موسى ﷺ أنْ كَلَّمه الله تكليماً حقيقياً مِن وراء حِجاب أيْ بغير أن يراه وكان كلاماً مباشراً بدون واسِطَةِ مَلَكٍ لكن بكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه، تكريماً له وعَوْنَاً لأنه سيُواجِه فرعون أطْغَيَ طغاة الأرض وقتها، وذلك حين أوْحَيَ إليه التوراة عند جبل الطور بسيناء بأرض مصر
ومعني "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴿165﴾" أيْ هذا بيانٌ لمهِمّة الرسل الكرام ولحِكْمة إرسالهم.. أيْ أرسلنا رسلاً ليكونوا مُبَشِّرين أيْ يُبَشّرُون – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدهم وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أي يَأْتُون بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه، ومُنْذِرين أيْ مُحَذّرين بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما، كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه، حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.." أيْ وما أرْسَلْتُ الرسل إلاّ لكي لاَ ومِن أجل ألاّ يكون للناس علي الله احتجاج واعتراض يَتَعَلّلون به بل يُمْنَع كله بعد إرسالهم مُبَشّرين ومُنْذِرين، حيث يُمكن أن يقولوا مثلاً عند عقابهم في دنياهم وأخراهم بسبب شرورهم وبما يُناسبها مُبَرِّرين إيّاها لو كنتَ يا ربنا قد أرسلتَ إلينا رسلاً يُنَبِّهُوننا ويُعَلّموننا عبادتك أيْ طاعتك وكيفية العمل بإسلامك لكنّا سَعِدَنا في دنيانا وأخرانا ولم نتعس ونُعَذّب فيهما، وبالتالي لا عُذْر بعد ذلك لأحدٍ يُعَاقَب فيهما بما يُناسب مُخَالَفاته حيث قد اتّضَحَت كل الأمور لكل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. ".. وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴿165﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عزيزاً أيْ غالِباً لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مَالِك المُلْك كله القادر علي كلّ شيءٍ الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين، وكان حكيماً دائماً في كل تدبيره وتَصَرُّفه حيث يَضَع كل أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث
ومعني "لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً ﴿166﴾" أيْ هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له.. أيْ لم يَشهد اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم بأنك رسولٌ من عند الله وصادقٌ فيما تُبَلّغه عنه لكن الله يَشهد بأنَّ ما أنزله إليك من قرآنٍ هو الحقّ أيْ الصدْق الذى ليس فيه أيّ شكّ، وهو سبحانه حتماً الشاهِد الحقّ الصدق كامل الصفات الحُسْنَيَ العالِم بكلّ شيءٍ بكل تأكيدٍ وشهادته تعالي هي الشهادة الثابتة المُؤَكّدة تماماً لأنها منه فهي بالقطع أعظم وأضمن شهادة موثوقة من خالِق الخَلْق العليم الخبير الذي لا يَخْفَيَ عليه شيء.. إنَّ الله تعالي يُخْبِر ويُعْلِم الناس ويُبَيَّن ويقول لهم – كما يُقال شَهِدَ فُلَانٌ عند القاضى إذا بَيَّنَ له وأعْلَمه وأخْبَره أين الحقّ – من خلال آياته القاطِعَة والتي لا يَرْفضها أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ سواء أكانت آيات أي دلالات ومعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزات علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، أنَّ القرآن العظيم صدْقٌ وأنَّ الرسول الكريم محمد ﷺ الذي أُوحِيَ إليه صادقٌ حتماً.. ".. أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ.." أيْ لقد أنزله بعلمٍ تامٍّ وحِكْمةٍ كاملةٍ وإعجازٍ كاملٍ حيث أعْجَزَ البشرية كلها إذ لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، وفيه عِلْمه مُمَثَّلاً بالمِقْدار من الأخلاق والتشريعات التي يعلم أنها تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهو أيضا يعلم أنك يا رسولنا الكريم مُؤَهَّل لإنزاله عليك، وكفي بكل ذلك أعظم وأضمن شهادة أخري بعد شهادة الله تعالي!.. إنَّ في هذا مزيداً من التفسير لشهادته سبحانه له ﷺ التي ذُكِرَت في أول الآية الكريمة ومزيداً من التأييد لها والتأكيد عليها.. ".. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ.." أيْ وشَهِدَت الملائكة أيضا بذلك أيْ أقَرَّت واعْتَرَفَت به – وشهد به كذلك كل الصالحين الصادقين أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة – والمقصود من هذا الجزء من الآية الكريمة أنَّ أمر صِدْق القرآن العظيم والرسول الكريم محمد ﷺ قد ثَبَتَ وتَقَرَّرَ بشهادة أكمل وأعظم الشهود وهو الخالق سبحانه ثم بشهادة كل المُعْتَبَرِين المُنْصِفِين العقلاء من خَلْقه فلا مجال إذَن لأنْ يَختلف أو يَشكّ الناس فيه وأنَّ الذي يُشَكّك به ويُخالِفه هو حتماً مَن كان سفيهاً جاهلاً قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً ﴿166﴾" أيْ ويَكفيك ويَكفي المسلمين كفاية تامّة – ولا يحتاجون أبداً لأيّ شهادة أخري مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أيْ الشاهِد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بينهم وبين غيرهم أنَّ هذا الدين هو أعلي وأعظم دين المُؤَيَّد تماما منه المَنصور دوْماً به وأنَّك رسوله ﷺ الذي جاء به وأنت أصدق الصادقين، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكْمه قطعا كذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بينهم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أيّ خافية مِمَّا يقوله أو يفعله أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا وما يفعله المؤمنون أهل الخير .. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم، وتمام القَلَق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿167﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ﴿168﴾ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿169﴾ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿170﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿167﴾" أيْ إنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، ولم يَكْتَفُوا بذلك في ذواتهم بل أيضا صَدّوا عن سبيل الله أيْ مَنَعوا غيرهم عن طريق الله أيْ منعوهم عن الدخول في دين الله الإسلام وآذوهم وحاولوا رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، منعوهم عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، منعوهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. ".. قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿167﴾" أيْ فَهُمْ بأفعالهم هذه قد ضاعوا ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، لأنهم لم يَعْبُدوا أيْ لم يُطِيعوا الله تعالي ربهم أي مُرَبِّيهم وخالِقهم ورازِقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام.. إنهم أيضا في ضلالٍ بعيدٍ لأنهم يفعلون كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنهم يَتَوَهَّمون أن لا حساب! وبالتالي ستجدهم دائما وحتما في دنياهم في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراهم سيكون لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ﴿168﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتفصيل والتوضيح للآية السابقة وللنتائج السَّيِّئة للكفر.. أيْ إنَّ الذين كفروا وظلموا بمعني أصَرُّوا واستمرُّوا علي ما هم فيه من كفرٍ وصَدٍّ لغيرهم بلا توبة وعودة لربهم ولإسلامهم، لأنَّ الكفر أصلاً ظلم، فإضافة الظلم بعد الكفر يدلّ علي الإصرار التامّ عليه كما يدلّ علي أنهم لم يَكْتَفوا به وبالصَّدِّ عن سبيل الله كما في الآية السابقة ولكنْ أضافوا إليه ظلم أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، بما يُفيد أنهم في أعلي درجات الكفر وأشدّها سوءً وعقاباً وعذاباً في دنياهم وأخراهم.. ".. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ﴿168﴾" أيْ ليس مِن شأن الله ولا حِكْمته ولا طريقته ويُسْتَبْعَد أن يغفر لهم ما يفعلون مِن شَرّ، ما داموا مُصِرِّين عليه، لأنَّ غفرانه يَتَطَلّب توبة وامتناعاً عنه، ولا ليهديهم أيْ يرشدهم طريقاً يُوَصِّلهم إلي الخير وهو العمل بالإسلام يسعدون به في الداريْن بأيِّ حالٍ من الأحوال لأنَّ هدايته تكون لمَن يَتّجِهون إلى الحقّ ويطلبونه فيُوَفّقهم بالتالي له ويُيَسِّر لهم أسبابه وهم قد تَمَادوا في كفرهم وأصَرُّوا عليه حتي موتهم واختاروا الضلال علي الهُدَيَ بكامل حرية إرادة عقولهم، ثم الذين يزدادون في كفرهم وإصرارهم عليه يدلّ هذا علي أنَّ الإيمان صارَ عندهم أهْوَن وأخَسّ شيء وأنهم لا يَقتربون منه أيّ درجة حتي يكونوا مُؤَهَّلِين للمغفرة وهداية سبيل الجنة وأنهم لم يَتَقَدَّموا بأيّ خطوةٍ نحو أيّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. فاسْتِبْعَاد المغفرة لهم وهدايتهم طريقاً للخير هو بسبب اسْتِبْعَاد عودتهم للإيمان أثناء حياتهم واستمرارهم وثباتهم عليه وإلا لو عادوا له وثَبَتُوا غُفِرَ لهم وهُدُوا للخير حتماً من الغفور الرحيم الهادي الكريم.. إنَّ في الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بَدَلاً أن يتعسوا فيهما
ومعني "إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿169﴾" أيْ ليس أمام أمثال هؤلاء بسبب ما سَبَقَ ذِكْره من طريقٍ يَسِيرون فيه إلاّ مَا يُوصلهم إلي عذاب نار جهنم الذي لا يُوصَف يَبْقون فيها أبداً بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله.. ".. وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴿169﴾" وكان ذلك العقاب بهذا العذاب الشديد الدنيويّ والأخرويّ لمَن يستَحِقّه سَهْلاً على الله لأنه لا يَمْتَنِع عليه شيءٌ لأنه القادر علي كل شيءٍ إذ بمجرد أن يقول له كُنْ فيكون كما يريد.. فلْيَحْذَر إذَن كلّ عاقلٍ هذا العقاب الذي لا يمكن الفرار منه بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما
ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿170﴾" أيْ هذا نِدَاءٌ من الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود للناس جميعا ليستمعوا وليَتَنَبّهوا له، أي يا أيها البَشَر، يا بني آدم، قد جاءَ لكم الرسول الكريم الصادق الأمين محمد ﷺ ومعه الحقّ كله، أي الصدْق التامّ، وهو القرآن العظيم الذي فيه الإسلام الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، من عند ربكم، أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم.. ".. فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ.." أيْ فصَدِّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم يَكُنْ إيمانكم حتماً خيراً لكم حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. ".. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.." أيْ ويا أيّها الناس إنْ لم تُصَدِّقوا بوجود الله تعالي بعد ما ذَكَرَه لكم من أدِلَّة قاطعة في آياته وفي معجزاته في كوْنه وخَلْقه ولم تُصَدِّقوا برسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ولم تَتَّبِعوا إسلامه وأنكرتم نِعَمه ولم تشكروها ونَسَبْتموها لغيره وما شابه هذا مِن سوءٍ، فإنَّ لله ما في السماوات وما في الأرض أي هو سبحانه الغَنِيّ الذي يُغْنِي خَلْقه وهو المُسْتَغْني عنهم الذي له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وهو بكل تأكيد غَنِيّ عنكم وكفركم ولو جميعكم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتكم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿170﴾" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان عليماً دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿171﴾ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴿172﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿173﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَكُنْ مُغَالِيَاً، أيْ مُتَجَاوِزَاً حَدَّ الحقّ والعدل والصواب، سواء بالزيادة والإفراط أو بالنقص والتفريط، بل كنتَ دائماً متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك التي وَصَّاكَ بها ربك تعالي وعَلّمك إيّاها رسولك الكريم ﷺ من غير أن تزيد فيها ما ليس منها أو تترك بعضها أو كلها.. وإذا كنتَ عابداً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿171﴾" أيْ يا أيها الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ ، لا تكونوا من المُغَالِين في دينكم، دين اليهودية أو النصرانية، أيْ المُتَجَاوِزين حدّ الحقّ والعدل والصواب، سواء بالزيادة والإفراط أو بالنقص والتفريط، فإنْ فَعَلْتم ذلك فلا بُدّ أنكم ستُؤمنون بالقرآن العظيم الذي أنزل علي خاتم الرسل محمد ﷺ .. لقد غَالَيَ اليهود في دينهم حينما تمّ تَوْصِيَتهم باتّباع التّوراة ورسلهم فتَجَاوَزوا ذلك إلي مُخَالَفتهم ومحاولة قتلهم بل والكفر بما جاء بعدهم من إنجيلٍ مع عيسي ﷺ وقرآنٍ مع محمد ﷺ ، وغَالَيَ النصارى حينما طولِبُوا باتّباع المسيح فتَجَاوَزوا الحدّ في تعظيمه إلى ادِّعاء أنه إلهٌ أو ابنُ إلهٍ أو هو وأمه مريم شركاء لله في الألوهية فقالوا ثلاثة مع كفرهم بمحمد ﷺ والقرآن!.. هذا، وقد ناداهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. ".. وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.." أيْ ولا تقولوا أبداً علي الله إلا الصدق، وهو ما جاء في كتبه من خلال رسله الكرام والذي تَقْبله الفطرة ويَقْبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ.." أيْ ليس المسيح عيسي ابن مريم كما يقول اليهود أنه ليس رسولاً ولا كما يقول النصارى أنه الله أو ابن الله، إنما هو عبد الله ورسوله لا يَتَخَطّيَ ذلك أيْ المُطِيع له ومَبْعُوثه الذي أرسله للناس ككلّ رسله ليُعَلّمهم دينهم.. والمسيحُ لَقَبٌ لعيسي ﷺ سُمِّيَ به تكريماً له لأنه مُسِحَ من خالقه تعالي بكل خيرٍ ويَمسح بيده علي المرضي فيشفون ويَسِيح أيْ يتحرّك في كل خيرٍ يحبه الله في كل شئون الحياة ناشِرَاً فيها كل سعادة.. ".. وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.." أيْ وأنه هو كلمته التي أبْلَغها وأوْصَلَها إلي مريم وهي كلمة كُنْ، وهو نفخة من الله تعالى نَفَخَها جبريل بأمره في رَحِمِها، فكان إنساناً فيه روح لا يعلم سِرَّها إلا هو سبحانه كأيِّ إنسانٍ لكنْ من غير أبٍ كمعجزة للتذكرة بقُدْرته تعالي، فهو إذَن بَشَر ككلّ البَشَر قد وُلِدَ من رَحِمِ أمّه.. ".. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.." أيْ إذا كان ذلك المَذْكُور لكم هو الحقّ فى شأن عيسى ﷺ ، فارْجِعوا إليه إذَن، فآمِنوا أيْ صَدِّقوا بالتالي بالله إيماناً حقّاً بأنْ تعبدوه أيْ تطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، وآمِنوا برسله جميعا بدون تفريقٍ بينهم وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ واتَّبِعوا ما أوْصُوكم به من دين الإسلام، ولا تُغالوا فى أمر أحدٍ منهم كعيسي بأنْ تُخْرِجوه عن طبيعته البَشَرِيَّة وعن وظيفته أنه رسولٌ لا أكثر من ذلك.. ".. وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ.." أيْ ولا تقولوا كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلاً أنَّ الله ثالث ثلاثة آلهة حيث عيسي وأمّه شركاء له في الألوهِيَّة!! تعالي الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.. ".. انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ.." أي امْتَنِعُوا تماما عن هذا التثليث امتناعاً كاملاً يَكُنْ امتناعكم وإيمانكم بأنَّ الله واحد وإسلامكم وعملكم بأخلاق الإسلام حتماً خيراً لكم حيث تمام كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم.. ".. إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.." أيْ ليس الأمر كما تَدَّعُون أنَّ الله ثالثُ ثلاثةِ آلهة إنما الله إله واحد أيْ معبود واحد مُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريك ولا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، سبحانه أيْ تَنَزَّهَ وابْتَعَدَ وتعالَيَ عُلُوَّاً كبيراً عن كل صفةٍ لا تَلِيق به كأن يكون له ولد أو زوجة تُنْجِب له أبناءً أو نحو ذلك من صفات المخلوقين لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ولأنه لا حاجة له لمُعِينٍ أو شريكٍ أو غيره، لأنَّ ".. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.." أيْ لأنه سبحانه هو الغَنِيّ الذي يُغْنِي خَلْقه وهو المُسْتَغْني عنهم الذي له تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وهو بكل تأكيد غَنِيّ عنهم وكفرهم ولو جميعهم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتهم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿171﴾" أيْ واسْتَغنوا به تماما عن أيّ وكيلٍ آخر، أيْ عن أيّ حافظٍ أو كفيلٍ أو مُعينٍ أو غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وكيلا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيدا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسعدا لكم ولغيركم
ومعني "لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴿172﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وأنه مُنَزَّهٌ عن أن يكون له ولد أو شريك.. أيْ لن يَتَرَفّع ويَأْنَف ويَمتنع أبداً المسيح عن أن يكون عبداً لله أيْ طائعاً له، وكذلك الملائكة المُقَرَّبون أيْ الذين قرَّبهم الله منه وهي حَمَلَة العرش وهي القريبة من رحمته ورضاه لتمام طاعتها لن تَمتنع مطلقاً عن عبادته، جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه، وقد ذَكَرَهَا تعالي مع المسيح لأنَّ بعض سفهاء البَشَر قد تَعْبدها.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة بيانٌ أنَّ عبادة المخلوقات لخالقها شَرَفٌ عظيم، وأنَّ العَبْدَ لله لا يعني مُطلقا أنه ذليلٌ كما هو حال العبد لغير الله!! فالعبادة لله تعالي هي قِمَّة الحرية والرِّفْعَة والعِزَّة والكرامة، لأنها تجعل المسلم لو تَمَسَّك وعمل بكل أخلاق إسلامه حُرَّاً لا يتبع أحداً ولا نظاما ولا خُلُقَاً إلا ربه ورسوله وقرآنه وإسلامه، إنه ليس مُقَيَّدَاً بأيِّ خُلُقٍ فاسدٍ أو مُدْمِنَاً عليه يَنْسَاق وراءه كعبدٍ له لا يستطيع البُعْد عنه، إنه يَتَرَفّع عن اتِّباع أيّ فساد، إنه عزيزٌ لا يَطلب من أحدٍ شيئا لأنه يطلب من مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ فيُسَخِّر له مِن خَلْقِه مَن يُعاونوه ويُكْرموه ويُسَهِّلوا عليه كل شئونه، إنه كريم عفيف لا يمدّ يديه لثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوما مَا بل هو دائما مع الحقّ يقوله ويعمل به، إنه مَرْجِعٌ للآخرين يَرْجِعون إليه يَلتمسون عنده الصدق والعدل والخير والسعادة، إنه قائدٌ لا يَنْقَاد بل يَقود الجميع بالقُدْوة والحِكْمَة والموعظة الحسنة وبحُسن اتِّخاذه للأسباب وإكمالها ما أمكن لكلّ خيرٍ بما معه من إسلامٍ يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وجهٍ فيسعدون بكل لحظاتها.. بينما الذي يَعبد غير الله تعالي هو قطعاً علي العكس تماما، إنه عَبْدٌ ذليلٌ مَهِينٌ مُنْكَسِرٌ يَجري وراء كل مَن يعطيه ولو الفُتَات، إنه ضعيفٌ خَسِيسٌ مُتَلَوِّنٌ مُنْحَطّ وَضِيعٌ كَذُوبٌ تابِعٌ، إنه قَلِقٌ مُتَوَتِّرٌ مُضطربٌ، لأنه يعتمد علي بَشَرٍ مثله لا يملكون نفعاً ولا ضَرَّاً إلا إذا شاءه الله ونَسِيَ ربه صاحب القوة المتين، إنه بالقطع مُعَذَّبٌ تَعِيسٌ في دنياه، ثم سيكون في أخراه حتما في عذابٍ وتعاسة أشدّ وأعظم وأتمّ وأخلد (برجاء لاكتمال معاني العبادة مراجعة الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴿172﴾" أيْ ومَن يَتَرَفّع ويَأْنَف ويَمْتَنِع عن طاعة الله واتّباع شرعه الإسلام ويَتَعَالَيَ عن كلّ ذلك فلا يَفعله – والاسْتِنْكاف يكون مصحوباً غالباً بالأَنَفَة والتّأَفّف بينما الاسْتِكْبار يكون مصحوباً غالباً باعتبار النفس كبيرة علي العبادة إعجاباً وغروراً أيْ انْخِدَاعَاً بها فهي فوق الطاعة، والمعنيان متقاربان وذِكْرهما معاً هو لمزيدٍ من التأكيد علي التنفير والتحذير من هذا التّعَالِي – فسيَجمعهم إليه وحده لا لغيره جميعاً يوم الحَشْر أيْ يوم القيامة لمَوْعِدهم الذي وَعَدهم حيث يَحكم بينهم بحُكْمه العادل وينالون ما يَسْتَحِقّونه من عقابٍ يُناسب استنكافهم واستكبارهم ولن يَفْلِتَ منهم أحد، فإنَّ مَرْجِع كل الناس إليه سبحانه وسيُجازِى المُحْسِن في أقواله وأفعاله بإحسانه كل خيرٍ وسعادةٍ والمُسيء بإساءته كل شرٍّ وتعاسةٍ بكل عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلم
ومعني "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿173﴾" أيْ هذا تفصيلٌ لموقف الناس حين يُحْشَرون جميعاً يوم القيامة، فالذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، ولم يَسْتَنْكِفوا ويَسْتَكْبَرُوا، فهولاء يُوَفّيهم أيْ يُعطيهم خالقهم سبحانه أجورهم علي ذلك والتي وعدهم بها وافية أيْ كاملة تامّة ليس فيها ذرَّة نقصان علي قدْر أعمالهم وإخلاصهم وإحسانهم فيها (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان﴾، حيث يتمّ لهم كل الخير والسعادة في نعيم جناته الذي لا يُوصَف – إضافة إلي ما كانوا فيه من جنة الدنيا بسبب إيمانهم – وذلك علي قدْر ما قدَّم كل منهم من أقوالِ وأفعالِ خيرٍ، وهذا هو تمام العدل، وهو سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله فلا يَكتفِي بهذا بل يَزيدهم من فضله في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات.. ".. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.." أيْ وأمَّا الذين تَرَفّعُوا وأَنِفُوا وامْتَنَعُوا عن طاعة الله واتّباع شَرْعِه الإسلام وتَعَالَوْا عن كل ذلك فلم يفعلوه فيُعَذّبهم الله عذاباً مُوجِعاً مُهيناً مُتْعِساً لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿173﴾" أيْ ولن يَجِدُوا لهم وقتها أيَّ أحدٍ غير الله تعالي ليكون وَلِيَّاً لهم أيْ يتولَّي أمرهم ويُدافع عنهم ولن يجدوا أيَّ أحدٍ ليكون نصيراً أيْ ناصراً كثيرِ النصر لهم ينصرهم من عذابه، وهو سبحانه لن يكون لهم حتماً لا ولياً ولا نصيراً بل سيكون مُعَذّبَاً لهم العذاب الأليم الذي يَسْتَحِقّونه
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴿174﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿175﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴿174﴾" أيْ هذا نِدَاءٌ من الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود للناس جميعا ليستمعوا وليَتَنَبّهوا له، أيْ يا أيها البَشَر، يا بني آدم، قد جاءَ لكم دليل من عند ربكم، سواء أكان آياتٍ في الكوْن حولكم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلكم لتأكيد صِدْقهم، وأرسلنا إليكم معهم نوراً أيْ كُتُبَاً فيها كلّ إرشادٍ للخير لكم وآخرها القرآن العظيم والذي هو نور مُبِين أيْ مُبَيِّن مُوَضِّح لكلِّ شيءٍ مُسْعِدٍ في الداريْن ليكون سَبَبَاً لهداية البَشَر أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿175﴾" أيْ هذا تفصيلٌ لموقف الناس أمام هذا البُرْهان وهذا النور المُبِين عندما يتلقونه، ولم يَتِمّ ذِكْر موقف وعقاب الذين كفروا في هذا الموضع إهمالاً واحتقاراً وامتهاناً لهم ولأنَّ حالهم السَّيِّء التعيس في دنياهم وأخراهم معروفٌ لكل عاقلٍ بسبب كُفْرهم وبُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ فالذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، ولم يَسْتَنْكِفوا ويَسْتَكْبَرُوا.. ".. وَاعْتَصَمُوا بِهِ.." أيْ وتَحَصَّنوا بالله دائما ولَجَأوا إليه وتوكّلوا أيْ اعتمدوا عليه وحده (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، واعتصموا برسوله الكريم ﷺ ، وبدينه الإسلام، والاعتصام بالله يعني التمسّك الشديد بدوام التواصُل معه في كل لحظات الحياة ودعائه وسؤاله – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – وانتظار باستبشارٍ رعايته وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخْلَد في الآخرة، والاعتصام برسوله ﷺ يعني التمسّك والعمل بسُنَّته أيْ بطريقته وأسلوبه في التّعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله، والاعتصام بالإسلام يعني التمسّك والعمل بكل أخلاقه مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وبيئاتهم بل ومع كل المخلوقات في كل مواقف الحياة المختلفة، إضافة بالقطع للاعتصام بالصُّحْبَة الصالحة من كل طوائف المجتمع والتي تُعِين حتماً علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ.. ".. فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ.." أيْ فهؤلاء بالقطع سيُدخلهم الله تعالي في رحمة منه أيْ في جنته ورضوانه في درجاتها علي حسب أعمالهم حيث ما لا عين رَأَتَ ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، وذلك بعد أن كانوا في دنياهم في تمام رحمته أيْ خيره وأمنه ورعايته ورضاه ورزقه ونصره وسعادته بسبب إيمانهم به وتمسّكهم بإسلامهم.. ".. وَفَضْلٍ.." أيْ وعطاءٍ واسعٍ عظيمٍ هائلٍ زائدٍ مُتَزَايِدٍ مُتَنَامٍ مُبَارَكٍ فيه، أيْ ولا يَكْتَفِي سبحانه الكريم العظيم مالك الملك كله بما سَبَقَ ذِكْره بل يَزيدهم من فضله في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من العطاءات المُتَزَايِدَة والخيرات والتيسيرات والمَكَانَات والسعادات التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف وبغير حسابٍ وبما يزيد كثيراً عن مقدار أعمالهم الصالحة.. ".. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴿175﴾" أيْ ويُعطيهم خيراً عظيماً هو من أعظم الخير وسبب لكل خير وسعادة في الداريْن وهو أن يُرْشدهم إليه سبحانه وإلي ثوابه ورضاه وفضله ورحمته – من خلال القرآن العظيم الذي معهم – في كل شأنٍ من شئون حياتهم بكل لحظاتها وفي كل قولٍ وتَصَرُّفٍ بإرشادهم صراطاً مستقيماً يُوصل إلي ذلك وتوفيقهم إليه وعَوْنهم عليه وتَيْسِير أسباب السَّيْر فيه لهم والثبات به والزيادة منه، أيْ طريقاً مُعْتَدِلاً صحيحاً صواباً مُتَّجِها دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، إنه طريق الله والقرآن والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وكفي بهذه نعمة تُحقّق لهم كل خيرٍ وأمنٍ واستقرارٍ وسعادةٍ فيهما
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿176﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يحفظون كل حقوق كل الوَرَثَة سواء أكانوا نساءً أم أطفالا أم شيوخا أم رجالا، ويقومون بتوزيعها بكل دِقّة كما وَضَّحَ لنا ذلك سبحانه في آيات المواريث.. فإنَّ حِفْظ الحقوق هذا ينشر الأمن والطمأنينة بنشر العدل بين الجميع.. وبالتالي تَسعد حياتهم ثم آخرتهم.. وإيّاك إيّاك أن تأكل حقّ بعضهم استضعافاً لهم ومُرَاوَغَة وتَعَالِيَاً عليهم كامرأةٍ ضعيفةٍ مثلا أو شيخٍ كبيرٍ أو طفلٍ أو يتيمٍ أو نحو هؤلاء فإنَّ ذلك حتماً سيُوَرِّث الأحقاد والمُشاحنات والثأر والانتقام فيَفقد المجتمع أمانه وعدله وتعاونه ويَتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿176﴾" أيْ يسألونك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – يَطلب منك الناس والمسلمون الفتوي والعلم في حُكْم ميراث الكلالة – ومعني الكلالة أن يموت مَيّت ولا يترك ولداً ولا والداً ويرثه إخوته – قل الله يبيِّن لكم بأوضح وأحكم وأعدل وأكمل وأسعد بيانٍ وفتوي وعلمٍ كيفية ميراثه، فاعملوا بكل ما يُفتيكم ويُوصِيكم به فإنَّ فيه ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن.. إنَّ حكم الله فيه هو إنْ مات إنسان ليس له ولد ولا والد، وله أخت لأبيه وأمه، أو لأبيه فقط، فلها نصف تركته، ويَرِث أخوها شقيقاً كان أو لأبٍ جميع مالها إذا ماتت وليس لها ولد ولا والد، فإنْ كان لمَن مات كلالةً أختان فلهما الثلثان مِمَّا تَرَك، وإنْ كانوا إخوة من ذكورٍ وإناثٍ فنصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين من أخواته.. ".. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا.." أيْ يُوَضِّح الله لكم كل أمور دينكم الإسلام والتي منها المواريث خشية أنْ تَضِلّوا أيْ تفقدوا الطريق ولا تهتدوا إليه أيْ أنْ تَنْحَرِفوا عن الطريق المستقيم، عن طريق الله، عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، تنحرفوا عنه إلي طريق الظلم والشرّ والتعاسة فيهما.. ".. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿176﴾" أيْ والله حتماً بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليمٌ تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولذلك أرسل إليكم هذا الرسول الكريم ﷺ وهذا القرآن العظيم وهذا الإسلام الحَنِيف أي البعيد عن أيّ باطل لأنه الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فتَمَسّكوا واعْمَلوا بهم تمام التمسّك والعمل ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴿1﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴿1﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا دائماً مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، أيْ نَفّذوها وافِيَة أيْ تامَّة بلا أيِّ نَقْصٍ ولا تُخْلِفوها، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، واستمرّوا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يَفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما.. ".. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.." أيْ هذا تفصيلٌ لبعض العقود التي علي المؤمنين الوفاء بها، وقد بدأ سبحانه بما هو ضروريٌّ للحياة وهو مَا يُؤْكَل.. أيْ قد أحَلَّ الله لكم البهيمة من الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – فهي كلها حلال أكلها، فانتفعوا واسعدوا بها، إلا ما يُقرأ عليكم ويُذْكَر لكم في القرآن الكريم وفي سُنَّة رسوله ﷺ مِمَّا حُرِّمَ لضَرَرِه ﴿مِثْل ما ذُكِرَ علي سبيل المِثال لا علي سبيل الحَصْر في سورة البقرة الآية ﴿173﴾، وفي سورة المائدة الآيات ﴿3﴾، ﴿96﴾، ﴿103﴾، وفي سورة الأنعام الآيات ﴿138﴾، ﴿139﴾، ﴿143﴾، ﴿144﴾، فبرجاء مراجعتها للشرح والتفصيل).. والبهيمة هي اسم لكلّ حَيٍّ لا يُمَيِّز ولكل ذي أربع سواء في البرّ أو البحر، وسُمِّيَت كذلك لإبهامها أيْ لعدم وضوح وخَفاء نُطْقِها ونَقْص فهمها وعقلها.. ".. غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.." أيْ أُحِلّت لكم بَهيمة الأنعام غير مُسْتَحِلّي اصطيادها وأنتم مُحْرِمُون بالحجّ أو العُمْرَة أو داخلون في أرض الحَرَم، تعظيماً لهذا المكان المُقَدَّس المُتّصِف بالأمن التامّ حتي مِن الصيد ولكي تنتفعوا بمنافع وسعادات حجّكم واجتماعكم عند الكعبة في مؤتمرٍ لمصالحكم ولا تنشغلوا بالصيد.. ".. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴿1﴾" أيْ إنَّ الله يَمنع أو يَسْمَحَ بما يريد، وليس هناك مِن مخلوقٍ يَحْكُم بعد حُكْمِه وهو الخالق ولا حتي يُعَلّق عليه بإضافةٍ أو نقصٍ ولا يريد بعد إرادته، لأنه لا يريد بخَلْقه سبحانه إلا اليُسْر كما يقول ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.." ﴿البقرة:185﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، فهو يَمنع عنهم فقط ما هو مُضِرّ مُتْعِس، فكل وصاياه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيّاته فيها الحِكْمة والمصلحة والتيسير والخير والرحمة والسعادة لهم، فيها كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم، لأنه تعالي هو الحكيم العليم الخبير الرحيم بهم والذين هم صَنْعَته ولا يريد لهم إلا كل خيرٍ وإسعاد، وهو علي كلِّ شيءٍ قديرٌ ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أو شيءٍ أن يَمنعه مِمَّا يريد فِعْله أو حتي يُعَارِضه فيه، فالجميع هم خَلْقه، وكلهم تحت تَصَرّفه، وهو يَفعل ما يشاء، فكلّ فِعْلٍ له حِكْمته ودِقّته بلا أيِّ عَبَث، بما يُصلح خَلْقه ويُسعدهم.. فاستجيبوا إذَن أيها المؤمنون وأوفوا بعقودكم، وأيها الناس جميعا، لتسعدوا في الداريْن، ولا تتعسوا فيهما بمُخالَفَاتكم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من الذين يلتزمون أشدّ الالتزام بما شَرَعَه الله تعالي في الإسلام وبما حَرَّمَه فيه، لأنه لا يُحَلّل شيئاً ولا يُحَرِّمه إلا ليُحَقّق للبَشَر ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو يَسمح بالنافِع المُسْعِد ويَمنع الضارّ المُتْعِس فيهما.. وإذا كنتَ دوْمَاً من الذين يتعاونون علي كلّ بِرٍّ وكلّ تقوي، ولا يتعاونون أبداً علي أيِّ إثمٍ أو أيِّ عدوان، فبانتشار الخير والتقوي يَتَحَابّ الجميع ويتعاونون ويتسامَحون ويتكاتفون، فيَرْقون ويَتطوّرون ويسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الشرور والمَفاسد والأضرار تنتشر المُشاحَنات والتّوَتّرات والانتقامات وتضيع الطمأنينة والسكينة ويَتعسون قطعاً في الدنيا ثم أشدّ وأعظم وأتمّ في الآخرة.. وإذا كنتَ علي الدوام عادلاً لا تَظلم أحداً ولا تعتدي عليه، حتي ولو كنتَ كارهاً له لسببٍ من الأسباب، فلا تَدْفعك أبداً هذه الكراهية إلي ظلمه أو الاعتداء عليه أو أكل أيّ حقّ من حقوقه، لأنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الظلم يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿2﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تَسْتَحِلّوا وتَسْتَبِيحُوا أبداً حُرْمَة شعائر الله أيْ مَعَالِم دينه الإسلام وشرائعه كلها فتُخَالِفوها وتَتَعَدُّوها.. ولا تُحِلُّوا القتال في الأشْهُر الحُرُم ولا تَبدأوا أعداءكم بقتالٍ فيها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿194﴾ من سورة البقرة "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"، وكذلك الآية ﴿217﴾ منها "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ.."﴾.. ولا تُحِلّوا حُرْمَة الهَدْي وهو ما يُهْدَىَ إلى البيت الحرام من الأنعام كغنمٍ أو بقرٍ أو إبل تَقَرُّبَاً إلى الله تعالى بأن تتعرّضوا له بسرقةٍ أو مَنْعٍ عن وصوله أو نحو هذا لكي يَصِلَ للمُنتفعين به من المُحتاجين له، ولا تُحِلّوا ذوات القلائد بشكلٍ خاصٍّ والتي هي نوع من الهَدْي تُوضَع له قِلادَات في أعناقه لمزيدٍ من تمييزه وتشريفه وتعليمه بأنه مَخْصُوص بالحرم، وقد ذُكِرَ الهَدْي رغم أنه من الشعائر التي سَبَقَ التحذير من تحليلها للتذكرة به حيث قد يُسْتَهَان بشأنه، كما ذُكِرَت ذوات القلائد رغم أنها من الهَدْي للتنبيه أنَّ الاعتداء عليها بعد أنْ عُرِفَ للجميع أنها للحَرَم إثمه أشدّ من الاعتداء علي الهَدْي من غير قِلادة والذي قد يُخْتَلَط فيه الأمر هل هو للحَرَم أم لا.. ".. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا.." أيْ ولا تُحِلّوا أذَىَ ومَنْع أناسٍ قاصدين زيارة البيت الحرام بأنْ تَمنعوهم عن دخوله لأيِّ سببٍ من الأسباب وهم يَطلبون ثواباً وعطاءً هائلاً عظيماً مُتَزَايِدَاً من الله ورضاً تامَّاً منه في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعايةٍ وأمنٍ وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فبَيْت الله وفضله وعفوه ورضاه دوْمَاً لمَن يَقصده وللجميع، فلا تَتَعَرَّضوا لهم بأيِّ سوءٍ بل أكرموهم بكل كرمٍ ما استطعتم.. ".. وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا.." أيْ وإذا خَرَجْتم من إحرامكم فلكم أن تصطادوا – خارج أرض الحرم – ولكم كذلك بالقطع كل ما كان مُبَاحَاً قبل الإحرام.. ".. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا.." أيْ ولا يَحْمِلَكم ويَدْفعكم أبداً بالتأكيد كُرْه قوم كراهية شديدة بسبب أنْ صَدّوكم أيْ مَنعوكم عن دخول المسجد الحرام لسببٍ من الأسباب في وقتٍ من الأوقات – أو منعوكم حقاً من حقوقكم في شأنٍ مَا مِن شئون حياتكم – أن تتركوا العدل معهم وتعتدوا عليهم بظلمٍ أو أكلِ حقّ أو شَتْمٍ أو ضربٍ أو قتلٍ أو ما شابه هذا من سوء، فخُلُقِ الإسلام ألاّ تُقابَل الإساءة بالإساءة وإنما تُؤْخَذ الحقوق بالاحتكام لأهل العدل والحقّ والصلاح، فبانتشار عدم الاعتداء والعدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الظلم والانتقام لشِفاءِ غَيْظ الكراهية يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.." أيْ وساعِدوا بعضكم بعضاً أيها الناس علي البِرِّ، وهو كلّ خير، هو حُسن الخُلُق كما قال ﷺ ، هو العمل بكل خُلُقٍ من أخلاق الإسلام في حينه واستخدامه في توقيته، في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة ومع أيِّ أحدٍ علي اختلاف دينه وثقافته وعلمه وبيئته وعاداته وتقاليده، حتي مع الدوابِّ والجَمَادات!.. وتعاونوا كذلك علي التقوي أيْ الاتّقاء والتّجَنّب لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وعدم الوصول أبداً لمرحلة إغضابه بل المُسَارَعَة لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. ".. وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.." أيْ ولا يساعد بعضكم بعضاً أبداً علي الإثم أيْ الذنب أيْ الشرّ والفساد والضرَر المُتْعِس، بكلّ أنواعه، سواء أكان كفرا أم شِرْكَاً أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ولا علي العدوان أيْ الاعتداء أيْ التّجَاوُز بتَعَمُّدٍ لحدود الله أيْ حَوَاجِزه التي عليكم ألاّ تَتَعَدّوها فتَعتدوا علي أخلاق الإسلام فتُخالفوها وتَعتدوا علي الغير بكل صور الاعتداء سواء أكان لفظياً أم جسدياً أم معنوياً أم مالياً أم غيره.. إنه بانتشار الخير والتقوي يَتَحَابّ الجميع ويتعاونون ويتسامَحون ويتكاتفون، فيَرْقون ويَتطوّرون ويسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الشرور والمَفاسد والأضرار تنتشر المُشاحَنات والتّوَتّرات والانتقامات وتضيع الطمأنينة والسكينة ويَتعسون قطعاً في الدنيا ثم أشدّ وأعظم وأتمّ في الآخرة.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿2﴾" أيْ إنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ في هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة تذكيراً أيضا للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة
هذا، ومعني "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿3﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض المُحَرَّمات التي أُشِيرَ إليها في الآية ﴿1﴾ بقوله ".. إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ..".. أيْ مَنَعَ الله عليكم أيها المسلمون – وأيها الناس عموما – فقط ما يَضرّكم ويتعسكم في دنياكم ثم أخراكم، كأكل الميتة التي تموت من الحيوان بغير ذبحٍ ويبقي فيها الدم بما فيه من جراثيم مُمْرِضَة وكالدم المُسَال قطعا والذي هو مَلِيء بها، وكلحم الخنزير حيث خَلَقه تعالي ليتغذي علي القاذورات من أجل تنظيف البيئة لا من أجل أن يُؤْكَل – وكذلك بعض المخلوقات الأخري كالحشرات وغيرها – وإلا كان شديد الأضرار، وكالذي أهِلَّ لغير الله به أيْ يُذْكَر عليه اسم غير الله عند ذبحه كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره – والإِهلال هو رفع الصوت باسم مَن تَذْبَح له من الآلهة – لِمَا في ذلك مِن ضَرَرٍ معنويّ علي عقل المسلم، إذ قَبِلَ ولو بصورةٍ رمزيةٍ صغيرةٍ بأن يكون هناك مَن هو أعلي عنده وأعظم مِن ربه وإسلامه وقد يَنْحِدر ويَنْزَلِق تدريجيا لِمَا هو أسوأ بعد ذلك، فلْيُغْلَق هذا الباب إذَن مِن أصله!.. وكالمُنخنقة وهي التي تموت بالخَنْق لا بالذبح ويبقي فيها دمها الفاسد.. والمَوْقوذة وهي التي تموت بالضرب أو بهدم شيء عليها دون ذبح.. والمُتَرَدِّيَة وهي التي تسقط من مكان مرتفع فتموت، أيضا دون ذبح.. والنطيحة وهي التي تموت بأن تنطحها غيرها.. وما أكل السبع كأسدٍ أو نِمْرٍ أو ذئبٍ أو طيرٍ مُفْتَرِسٍ للصيد ونحو هذا فتموت بذلك.. ".. إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ.." أيْ إلا إذا تَمّ تذكيته، أي ذَبْح أيٍّ من هذه الأصناف قبل موته وتفريغ الدم منها وما يحمله من جراثيم فحينئذ لا ضَرَر فيها ويَحِلّ أكلها.. ".. وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.." أيْ وما ذُبِحَ علي ما يُنْصَب ويُقام تَقَرُّبا لغير الله تعالي من حجرٍ أو صَنَمٍ أو غيره.. ".. وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ.." أيْ وحَرَّم عليكم كذلك أن تطلبوا معرفة ما قُسِمَ لكم من أمركم مستقبلا، أي تطلبوا معرفة الغيب المستقبليّ من خيرٍ أو شرٍّ من خلال بعض الشعْوَذات أو الخُرَافات التي تفعلونها بأنفسكم أو من خلال بعض الكَهَنَة الكَذَبَة كقراءة الكفّ والفنجان وبعض الألعاب ونحوها، فإنَّ كل هذا سيكون من أسباب التّوَتّر والقَلَق والاضطراب والسَّفَه والتعاسة لأنَّ المستقبل لا يعلمه إلا خالق الخَلْق سبحانه وما علي المَخلوق إلاّ أنْ يُحْسِن اتّخاذ الأسباب ليَصِلَ إلي ما يريد بعد عوْن الله وتوفيقه وتيسيره.. والأزلام في الأصل هي قِدْاح القِمار وهي قطع خشبية صغيرة كالعملة وقد كان بعض الذين يعبدون آلهة غير الله تعالي يكتبون علي أحدها افعل والآخر لا تفعل ثم قبل الإقدام علي عملٍ ما مُهِمّ في حياتهم يذهبون للمشرف علي الأصنام ليختار لهم إحداها وهي مقلوبة فإنْ ظَهَرَ أنَّ الذي اختاره مكتوب عليه افعل يفعلونه مُسْتَبْشِرين أنَّ الآلهة هي التي اختارت هذا الفِعْل لهم وسيأتيهم الخير منها قطعا وإنْ كان لا تفعل فلا يفعلونه استجابة لها وإلا حَدَث لهم شرٌّ ما!! وأحيانا كانوا يفعلون ذلك هم بأنفسهم حيث يكتبون علي سَهْمٍ من الأسهم التي يستخدمونها للقتال افعل والآخر لا تفعل ويضعونها في كيس ويدخلون أيديهم دون النظر بداخله فإنْ خرج السهم المكتوب عليه افعل يفعلونه مُسْتَعِينين مُتَفائلين بتوجيه وتوفيق الآلهة لهم وإنْ كان لا تفعل لا يفعلون!!.. ".. ذَلِكُمْ فِسْقٌ.." أيْ ذلك كله الذي حُرِّمَ عليكم إنْ فعلتم شيئاً منه فإنه فِسْقٌ أيْ خروجٌ عن طاعة الله والإسلام بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتي ستُتْعِسكم حتماً في دنياكم وأخراكم علي قَدْر مُخَالَفاتكم.. ".. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ.." أيْ الآن، ومِن الآن فصَاعِدَاً وحتي يوم القيامة، بعد نصر الله لكم بفتح مكة ودخول الناس بعده في دين الله الإسلام أفواجا وعملكم أيها المسلمون بكل أخلاقه ونَشْركم له وللقرآن العظيم للعالمين بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ وحِفْظ الله له ولكم ودفاعكم عنه ضدّ مَن يعتدي وعوْن ربكم ونصره وعِزّه إيّاكم ما دُمْتُم كذلك، فَقَدَ الذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم من المشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وغيرهم أيَّ أملٍ من القضاء علي دينكم الإسلام أو مَنْع انتشاره أو رَدّكم عنه للكفر مِثْلهم.. ".. فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.." أيْ وبالتالي إذَن وما دام الأمر كذلك فلا تخافوهم وخافون، فأمثال هؤلاء والذين لا تَنْقَطِع أكاذيبهم وتشويشاتهم واعتداءاتهم المُتَعَدِّدَة لا تخافوا مَكائدهم وحجَجهم واعتراضاتهم فهي لا يُهتمّ بها ولا يُلْتَفَت إليها ولا تضرّكم لأنها ضعيفة لا قيمة لها حيث لا تَستند لأيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ وهي لا تَثْبُت أمام الحقّ الذي جاء به الإسلام، وخافوني باتّباعه وعدم مُخَالَفَة أخلاقه واستعينوا بي وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أن أرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فأنا علي كل شيء قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.." أيْ مِن الآن فَصَاعِدَاً وحتي يوم القيامة، بعد اكتمال نزول كل آيات القرآن العظيم، أكملتُ لكم أيها المسلمون – وأيها الناس – دينكم الإسلام، فلا زيادة بعده، ولا تحتاجون لدين غيره ولا لرسولٍ آخَرَ ﷺ ، حيث كان الإسلام قبل ذلك في الكتب السابقة للقرآن فيه من التشريعات الكاملة لكنها كاملة نِسْبِيَّاً حيث كانت كافِيَة مُناسبة للبَشَرِيَّة لزمنها فقط وتُسْعِد مَن يعمل بها كلها وقتها، أمَّا الآن بعد نزول القرآن كاملاً صارَ في دين الإسلام أنظمة مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي نهاية الحياة وقيام الساعة.. هذا، ومعني الدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها.. ".. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.." أيْ وأكملتُ عليكم نِعَمِي التي لا تُحْصَيَ والتي أعظمها نِعْمَة القرآن والإسلام الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ويُخرجكم من ظلمات الكفر إلي نور الإيمان، فهو تعالي بنعمه ورحماته وأفضاله وبسبب اختيار الذين يؤمنون هم أولا للإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم يُخْرِجهم من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يأخذهم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة، إلي النور، نور الإيمان، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. إنه بالجملة يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه، أي يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ، ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.." أيْ واخترتُ وقَبِلْتُ لكم الإسلام دينا، فارْضوه إذَن أنتم لأنفسكم، فهو الدين المَقْبُول المَرْضِيّ عنه عندي لا غيره، فاعملوا بكل أخلاقه لتسعدوا في الداريْن ولا تُفارِقوه إلي غيره من الأنظمة المُخَالِفة له فتتعسوا حتماً فيهما، واشكروني علي ذلك شكراً عملياً بالعمل به كله أزِدْكم حباً له وتمسّكاً به وثَبَاتاً وحِرْصَاً عليه وإسعاداً لدنياكم ولأخراكم.. إنَّ المسلم إذا تَمَسَّكَ وعَمِلَ بكل أخلاق إسلامه فقد تمسَّكَ بالكمال كله في حياته، وسيَجد حتماً في المُقابِل نِعَمَ ربه عليه تامّة، مُتَمَثّلَة في كلِّ نصرٍ وسلطانٍ ومُلْكٍ ورِفْعَة وعِزَّة ومَكَانَة وهِدَايةٍ وتوفيقٍ وعِلْمٍ وحِكْمةٍ وأمنٍ وقوّةٍ وبالجملة سعادة تامَّة في الدنيا ثم أعظم منها وأتَمّ وأخلد في الآخرة، بينما مَن يُفَرِّط في خُلُقٍ من أخلاق إسلامه سيَفتقد نسبة من السعادة تُعادِل تقريباً الخُلُق الذي تَرَكَه وسيذوق مَرَارَةً وتعاسة بالقَدْر ذاته حتي يعود إليه ويعمل به.. ".. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿3﴾" أيْ لكنْ مَن كان مُضطرَّاً أشدَّ الاضطرار لأكل شيءٍ مِمَّا سَبَقَ ذِكْره مِن مُحَرَّمَات، والمُضطر هو مَن ألْجَأته الضرورة، بمعني أنه سيهلك بدون أكلها، بأنْ يكون في مَخْمَصَةٍ أيْ في حالة شدَّة جوع، وهو غير مائل لارتكاب إثمٍ أيْ شرّ، أيْ غير مُبْتَغٍ طَالِبٍ للحرام ولا عادٍ أيْ مُعْتَدٍ بتَرْك الحلال أو بتَجَاوُز قَدْر الضرورة، فحينئذ له بل فرضٌ عليه أيْ يُثاب إذا فَعَل ويأثم إذا لم يَفعل أن يحفظ حياته بشيءٍ يسيرٍ جداً منها وبالقَدْر فقط الذي يَحميه وبمجرّد أن يتحقّق ذلك فيمتنع فوراً ولا يزيد لأنَّ الزيادة ستَضُرّه لأنها أصلاً ضَرَر، كأنْ يأكل مثلا قطعة أو أكثر مِن ميتة عند شدّة الجوع وخوف الموت من عدم وجود الطعام وما شابه هذا مِن ضروراتٍ والتي لا إثم أيْ ذنب عليها ويعفو عنها سبحانه لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. هذا، والضرورات تُقَدِّر بقَدْرها ويُتْرَك تقدير الضرورة لفاعِلها ثقة من الإسلام فيه وفي تربيته ومراعاته لربه وتمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه وحرصه عليها لأنها مصدر سعادته في الداريْن
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿4﴾ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتَسْتَطيبه النفس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿4﴾" أيْ يَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويَسألك المسلمون يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده ﷺ عن ماذا سُمِحَ لهم من مأكولاتٍ ومشروباتٍ وغيرها قل مُجِيبَاً مُوَضِّحَاً لهم أحَلَّ الله لكم الطيِّبات مِن كلِّ شيءٍ بصورةٍ عامّةٍ أيْ كل النافعات لا الضارَّات التي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي رزقناكم إيّاها وخلقناها في الأرض والتي أحللناها أيْ سَمَحْنا بها لنفعها ولإسعادها والتي لم تحصلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة، ولا تقربوا أبداً ما حَرَّمْناه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. ".. وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ.." أيْ وأحَلَّ الله لكم أكل صيد ما عَلّمتموه ودَرَّبتموه من ذوات المَخالب والأنياب من الكلاب والفُهُود والصقور ونحوها مما يُعَلَّم – وسُمِّيَت جوارح لأنها تَجْرَح صيدها غالبا عندما تصطاده وتمسك به – وحالكم أنكم مُكَلّبين أيْ مُؤَدِّبين ومُعَوِّدين لها تُعَلّمونهنّ أيْ قد عَلّمتمونهنّ حِيَل الصيد ووسائله مُسْتَمِدِّين ذلك من بعض ما عَلّمكم الله وألْهَمَ عقولكم إيِّاه بفضله وكرمه ورحمته من فنون العلم ومِمَّا سَخَّره لكم منهنّ بأنْ يَتَعَلّمْنَ بتدريبهنّ على الطرق المتنوعة للاصطياد وعلى الانقياد لأمركم عند الإرسال والاستدعاء وعلى عدم أكلها مَمَّا تصطاده وما شابه ذلك مما يحتاجه الصيد.. هذا، وكل هذه الألفاظ "عَلّمتم، مُكَلّبين، تُعَلّمونهنّ، عَلّمكم" مُتَقارِبَة المعاني تُفيد التأكيد التامّ علي التعليم حتي لا تأكلوا ميتة مِمَّا تصطاده جوارح غير مُعَلّمة ومُدَرَّبَة.. ".. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ.." أيْ إذا عَلّمتم الجَوارح فكلوا مِمَّا أمسكنه مَحْبُوسَاً عليكم ولأجلكم من صيدها.. ".. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ.." أيْ واذكروا اسم الله بقول بسم الله علي ما تُرْسِلُونه من جَوَارح للصيد، وعلي ما تأكلونه مِمَّا صادته، وعلي ما تذبحونه مِمَّا تُحْضِره من صيدٍ إذا أحضرته حيا.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها الصيد، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿4﴾" أيْ إنَّ الله لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
ومعني "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿5﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي نِعَمه تعالي من تحليل الطيِّبات وتحريم غيرها، ومزيدٌ من التيسير عند التّعامُل مع غير المسلمين.. أيْ لقد أحلَّ الله لكم الطيّبات كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ واليوم أيْ الآن بعد نزول هذه الآية الكريمة واكتمال نزول القرآن الكريم أحلَّ لكم – وهو من الطيّبات أيضا – طعام الذين أُعْطُوا التوراة والإنجيل السابقين لكم وهم اليهود والنصاري ما دام ليس فيه مُحَرَّمَاً وبما فيه ذبائحهم ما داموا لم يَذبحوها لغير الله وما داموا لم يَذكروا اسماً غيره عليها فإنْ تأكّدتم أنهم ذَبَحوها لغيره كصَنَمٍ مثلاً أو سَمُّوا اسماً غيره عليها فلا تَحِلّ لكم وإنْ لم يُسَمُّوا شيئاً عليها فسَمُّوا أنتم اسم الله عليها وكُلُوا.. وكذلك طعامكم حلال لهم ولغيرهم من غير المسلمين أيْ يُسْمَح لكم أن تُطْعِموهم من طعامكم ولا تَحْرِموهم إيّاه بسبب أنهم ليسوا مسلمين فهذا من حُسْن المُعامَلَة التي يطلبها الإسلام والتي من المُمْكِن أن تُؤَثّر فيهم فيُسْلِموا.. ".. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ.." أيْ وكذلك أحلَّ لكم زواج المُحْصَنات أيْ الحَرائر العَفيفات من المسلمات ومن أهل الكتاب إذا أعطيتموهنّ مُهُورَهُنَّ عَفِيفينَ عن الزنا قاصِدين الزواج غير مُسَافِحين أي غير زانين علانية معهنّ بأجرٍ وبدون وغير مُتّخِذي أخْدَان أيْ صحاباتٍ منهنّ – جَمْع خِدْن وهو الصاحب والصديق – مُحَدَّدَاتٍ تَزْنُون معهنّ في السرّ، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي العِفّة.. ".. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿5﴾" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من الكفر والرِّدَّة عن دين الإسلام ونتائجها الشديدة السوء والتعاسة في الدنيا والآخرة.. أيْ ومَن يَكفر بشرائع الإيمان أيْ يُكَذّب بأخلاق الإسلام ولا يَعمل بها ويَتَرَفّع عليها، ومَن يَرْتَدّ عن الإيمان فيَكفر بعد إيمانه أيْ يَرْجِع عن دينه منكم أيها المسلمون بعدما ذاق سعاداته ويصير كافرا ويستمرّ علي ذلك دون توبة وعودة لربه ولدينه ويموت علي هذا الحال وهو كافر أيْ مُكَذّب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويفعل لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب مِن وجهة نظره، فهؤلاء ستَحْبط أعمالهم، أيْ ستَفسد فسادا تامّا، حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيح بأيِّ حسناتٍ سابقةٍ ولاحقةٍ مهما ثَقلَت وكثرَت في الميزان يوم القيامة وهو الكفر، وسيُحْرَمون بعد كفرهم جزاء ما كانوا يعملونه مِن خيرٍ يَتَمَثّل في سعادةٍ دنيوية علي قدْر نواياهم كما وَعَدَ سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم.. إنهم بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنهم سيُصابون في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿6﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – إذا أردتم القيام إلى الصلاة ولم تكونوا مُتَوَضِّئين، فتَوَضَّأوا بغَسْل وجوهكم وأيديكم مع المَرَافِق – جَمْع مِرْفَق وهو المِفْصَل الذي بين الذراع والعَضُد – وامسحوا رءوسكم كلها أو بعضها واغسلوا أرجلكم مع الكَعْبَيْن وهما العَظْمان البارِزان عند التقاء الساق بالقَدَم.. ".. وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا.." أيْ وفي حالِ كنتم جُنُبَاً أيْ نَزَل منكم مَنِيٌّ أثناء نومكم أو بسبب جِمَاع الزوجة أو غيره، فاسْتَحِمّوا بالماء والذي يُنَشِّط أجسامكم وأذْهَانكم من الخُمُول الذي يَحدث بعد نزول المَنِيّ.. ".. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.." أيْ وإنْ كنتم في حالِ مرضٍ لا تستطيعون معه استعمال الماء خوفاً من زيادته أو تأخّر الشفاء منه، أو في حالِ سفرٍ ويصعب عليكم الحصول علي الماء، أو جاء أحد منكم من الغائط وهو المكان المُعَدّ للتّبَوُّل والتّبَرُّز أو جامَعتم النساء، فلم تجدوا ماءً للطهارة فتَيَمَّموا أيْ فاقصدوا تراباً طاهراً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.. إنَّ في هذا الذي ذُكِرَ تربية لعقل المسلم علي الانضباط والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام النافعة المُسْعِدَة إضافة لتربيته علي يقظة الضمير ومراقبة خالِقه فلا يفعل إلا خيراً مُسْعِدَاً لأنَّ كل هذه المُلْحَقَات بالصلاة من وضوءٍ وتَيَمُّمٍ ونحوه لا رقيب لأحدٍ عليه فيها إذ من الممكن مثلا أن يُصَلّي بغير وضوء!! فمَن يدري بذلك إلا ربّه ونفسه؟!.. ".. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ.." أيْ ما يريد الله فيما يشرعه من تشريعاتٍ لكم أبداً بالتأكيد أن يجعل عليكم أيَّ ضِيقٍ أو شِدَّةٍ أو عُسْر، ولا يَلِيق ولا يُعْقَل ولا يُتَصَوَّر به ذلك مُطْلقاً.. إنه يريد دوْمَاً بكل ما شَرَعَ لكم من تيسيراتٍ سَبَقَ ذِكْرها وغيرها أن يُسَهِّل ويُيَسِّر عليكم لا أن يُصَعِّب ويُعَسِّر.. إنَّ كلّ أخلاق الإسلام يَسِيرة سَهْلَة مُيَسَّرَة مُحَبَّبَة للعقل لأنها تُوافِق أيَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَتَوَافَق وتَسِير مع الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فهو مَفْطُور أيْ مَخْلوق مُبَرْمَج مُدَرَّب عليها أصلا مِن خالقه سبحانه ليكون الأمر سهلاً مَيْسُورَاً مُسْعِدَاً لا يُبْذَل فيه جهد كبير إلاّ أنْ يُحْسَن استخدامه، بينما غير أخلاق الإسلام يَنْفر منها وهي شاقّة عَسِيرَة عليه مُتْعِسَة له لأنها عَكْس بَرْمَجته!!.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يدعو كل مسلم ليكون من المُيَسِّرين لا المُعَسِّرين كما كان رسولنا الكريم ﷺ حيث لم يُخَيَّر بين أمريْن إلا اختارَ أيْسَرَهما ما دام ليس فيه إثم أو تقصير أو تعطيل أو إهمال أو نحوه، والله تعالي يحب التيسير ويريده لخَلْقه في كل شئون حياتهم مع أنفسهم وغيرهم ويَكْرَه لهم التعسير والتعقيد ولا يريده لهم لأنَّ التيسير يحقّق أفضل الإنجازات بأقل الجهود والأوقات ويُمَكّن من الاستمرار والمُدَاوَمَة علي الخير كما يُفْهَم ضِمْنَاً من قوله ﷺ "أحبّ الأعمال إلي الله أدْوَمها وإنْ قَلّ" ﴿جزء من حديث رواه البخاري ومسلم﴾، بينما التعسير يُشَتِّت العقول ويُقَلّل التعاون ويُضاعِف الإجهاد ويُضعف الإنتاج.. إنَّ في التيسير سهولة ويُسْرَاً وسَلاسَة وإنجازاً وربحاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً بينما في التعسير صعوبة وإعاقة وانقطاع وحَوَاجِز وفشل وخسارة ويأس وتثبيط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة في الداريْن والتعسير تعاسة فيهما.. ".. وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ.." أيْ ولكنه يريد بتشريعاته أن يُنَظّفكم تماما أيها المسلمون – وأيها الناس جميعا – مِن كلّ شَرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ وما يَتْبَعه مِن تعاساتٍ لكم في دنياكم وأخراكم بسببه، بلا أيّ مُخَاَلَطَة منه لو عملتم بكلّ أخلاق الإسلام، ويجعلكم من المُتَطَهِّرين أيْ الكثيري التَّطَهُّر أيْ الذين هم دوْمَاً يَتَنَزَّهون ويَبتعدون عن فِعْل الأخلاق السيئة ويُطّهِرُون أنفسهم منها أوَّلاً بأوَّل إضافة بالقطع لطهارتهم الظاهرية من نظافةٍ في أجسادهم وملابسهم وروائحهم ونحو ذلك.. وهذا من فضله سبحانه ورحمته وكرمه وحبه لكم وحرصه علي إسعادكم في الداريْن.. ".. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.." أيْ ولكي يُكمل نِعَمه عليكم التي لا تُحْصَيَ وذلك بإرشادكم لكل أخلاق الإسلام التي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿6﴾" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم : 7﴾ .. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم : 7﴾.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿7﴾" أيْ وتذكّروا دائماً أيها المسلمون – وأيها الناس جميعا – نِعَمِي التي أنعمتها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِي وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾، وأهم وأعظم هذه النِّعَم إرشادكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بالقرآن العظيم الذي فيه أخلاق الإسلام التي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بها كلها.. ".. وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.." أيْ وتَذَكّروا أيضاً دائماً ولا تَنْسوا أبداً عَهْد الله ووَعْده المُوَثّق المُؤَكّد الذي عاهَدَكم به وعاهَدتموه عليه وذلك حين قلتم – وقت أن أخَذَ عليكم هذا العهد حينما شَهدتم شهادة ألاّ إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله وبناء عليها اتّبعتم الإسلام – سمعنا قولك يا ربنا في قرآنك الكريم وأطعنا كل ما فيه واستجبنا له وعملنا به، سمعنا أخلاقيَّاته وتشريعاته وأنظمته سَمَاعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالنا وأعمالنا في كلّ شئون حياتنا لنَصْلُح ونَكْمُل ونَسْعَد تمام السعادة في دنيانا وأخرانا.. إنَّ دَوَام التّذَكّر لهذا الميثاق يجعلكم دائما في كلّ خيرٍ مُتَجَنّبين لأيِّ شرّ.. فأوفوا والتزموا به بكل عَزْمٍ وهِمَّةٍ ولا تُخْلِفوه مُطْلَقَاً وكونوا دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّوا مستمرّين علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. أَوْفُوا والْتَزِمُوا بوعدكم حتى أوفى بوعدي لكم أيْ أنفذه حيث هو مشروط بتنفيذ عهدكم، وهذا الوعد هو كل الخير لكم والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في الدنيا ثم ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد سعادة في الآخرة بجنّاتها التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها الوفاء بالمَوَاثيق، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿7﴾" أيْ لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافية ويعلم السرّ وما هو أخفي منه فهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفكرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة، وسيُجَازِي أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿8﴾ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿9﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما عادلا في كل أقوالك وأفعالك لأنه بالعدل تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿8﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – كونوا قَوَّامِين جَمْع قَوَّام وهو المُبَالِغ في القيام بالشيء والإتيان به على أكمل وأحسن وجهٍ مُمْكِنٍ أيْ كونوا كثيري القيام بعَزْمٍ وهِمَّةٍ بكل أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم، لله، أيْ لأجل ثواب الله وحده، وتعظيماً لوَصَايَاه ومَوَاثيقه التي عاهَدَكم وعاهَدتموه علي العمل بها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية السابقة﴾، فإنَّ الإيمان الحقّ وخُلُق الإسلام يَتَطَلّب ذلك، أيْ كونوا دوْمَاً مُخْلِصين مُحْسِنين في عبادتكم أيْ طاعتكم أيْ تَفعلون ما تَفعلون مِن خيرٍ وتَقولون ما تقولون منه مِن أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراكم الناس فيقولوا عنكم كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس لكم حيث يُوقِعكم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحكم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقولكم (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء﴾.. ".. شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ.." أيْ كونوا أيضا دائماً – عند أدائكم للشهادة – شهداء بالقِسْط أيْ بالعدل وبكل صدقٍ وأمانةٍ بلا أيّ كتمانٍ ولا زيادةٍ أو نقصانٍ وأن تكون نواياكم بداخل عقولكم خالصة لنَيْل ثواب الله تعالى وخيره في الداريْن في مُقابِل طاعته بالقيام بها ولا تُخالِفوا الحقيقة أبدا مُراعاة لقَرَابَةِ قريبٍ مثلا أو مَحَبَّة محبوب أو نحو هذا، فالشهادة من الأمانات العظيمة الأهمية التي عليكم ألاّ تُقَصِّرُوا وتُفَرِّطوا فيها لأنها تحفظ حقوق الناس وتسعدهم في دنياهم وأخراهم وبدونها يُظْلَمون ويتعسون فيهما.. كذلك من المعاني أن تكونوا شهداء بالقسط علي الناس في كل شئون حياتهم أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – ثم في الآخرة تكونون شهداء على الأمم الأخري تشهدون أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم من خلال ما أخبرناكم به في القرآن، وفي هذا عظيم التكريم والتشريف لكم في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا.." أيْ ولا يَحْمِلَكم ويَدْفعكم أبداً بالتأكيد كُرْه قومٍ كراهية شديدة علي عدم العدل معهم وغيرهم في كل قولٍ وعملٍ فإنَّ ذلك مُخالفٌ لأخلاق الإسلام.. ".. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي العدل.. أيْ التزموا العدل في كل أقوالكم وأعمالكم مع الجميع وفي كل الأحوال، فهو – أي العدل – أقرب لكم أيها المسلمون إلى صِفَة التقوى وإلي تكونوا عند الله من أهل التقوى وهم أهل الخوف والحَذَر منه أن يُخالفوه في شيءٍ مِمَّا وَصَّيَ به من أخلاق الإسلام فيُصابوا بغضبه ويَفقدوا حُبّه وعَوْنه، لأنَّ مَن كان عادلا كان مُطِيعَاً لله ومَن كان مُطيعاً له كان بالتأكيد مِن أهل التقوى، بينما مَن كان ظالما كان بلا شكّ عاصياً له وبالتالي كان بعيداً عن التقوي.. إنَّ الذي يعدل يدلّ علي أنه يخاف أن يَظلم بأخذ أيِّ حقّ من حقوق غيره حتي ولو كان كافراً وخوف الظلم هذا هو من أهم معاني التقوي ولذا فهو بالتالي حتماً أقرب لها لأنَّ التقوي هي تَجَنّب كلّ شرّ يُبعد ولو للحظة عن حب الله وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة وعدم الوصول أبدا لمرحلة إغضابه بل المسارعة لفِعْل كل خيرٍ يُسْعِد النفس والغير.. إنَّ الذي يعمل دَوْمَاً بخُلُق العدل سيُعينه خُلُقه هذا غالباً علي أن يكون أقرب لاتّقاء المعاصي وعلي العمل ببقية أخلاق الإسلام وكلما عمل بخُلُقٍ منه كلما اقترب من تحصيل تمام التقوي.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التقوي.. أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿8﴾" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿9﴾" أيْ أعْطَيَ الله بفضله وكرمه وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ للذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، أنَّ لهم مغفرة لكلّ ذنوبهم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وَوَعَدَهم كذلك أجراً عظيماً أيْ عطاءً هائلاً حيث سيُحَقِّق لهم تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذ سيكونون بكلّ هذا مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿55﴾ من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فكن أيها المسلم حريصا دوْما علي هذه المغفرة وتلك العطايا بفِعْل كلّ خيرٍ مُجتهداً في ألاّ تخرج عنها أبداً بفِعْل أيّ شرّ وإنْ فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات مِن علمٍ وعملٍ وكسب وكرم وبِرٍّ وَوُدٍّ وتعاونٍ وغيره
ومعني "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿10﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكَذّبوا بآياتنا أي لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب الجحيم أيْ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل، أيْ الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد جحيم وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ متأكّدا تماماً بلا أيِّ شكّ أنك لو تَمَسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك فلن يتمكّن أحدٌ من الإضرار بك، إلا ضَرَرَاً خفيفاً نسبياً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿11﴾" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي تستحِقّ الشكر والتي لا تُحْصَيَ علي المسلمين المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم، ومزيدٌ من التَبْشِيرٌ والطَمْأَنَة والتثبيت والتشجيع لهم أنَّ الله القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب حتماً سيَنصرهم وسيُحَقِّق لهم أفضل المَكاسِب بأقلّ الجهود.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – تَذكّروا دائماً نِعَمِي التي أنعمتها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِي وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾، والتي منها نِعْمَتِي عليكم بالأمن حين همَّ قومٌ أيْ بعضٌ من أعدائكم – أيْ عَزَمُوا وقَصَدُوا لكن لم يَفعلوا ولم يَتَمَكّنوا من التنفيذ لمَنْع الله تعالي لهم بقُدْرته وعِلْمه – أنْ يَبْسُطوا أيْ يَمُدّوا إليكم أيديهم، وكذلك ألسنتهم، بالإيذاء والظلم والاعتداء بكل أنواعه، الفِعْلِيّ، والقَوْلِيّ، بما يُسِيء إليكم ويُؤذيكم ويضرّكم ويَنْهَب خيراتكم ويُتعسكم وقد يُهْلككم بقتلكم بصور القتل المُتَعَدِّدَة.. ".. فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.." أيْ فمَنَعَ أذاهم عنكم كثيراً برحماته وأفضاله عليكم وبقُدْراته وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه (برجاء مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) وقَوَّاكم وأعَزَّكم ونَصَرَكم، طالما كنتم متمسّكين بربكم عاملين بإسلامكم مُحسنين اتّخاذ أسباب نصركم علي أعدائكم، فهو تعالي إذَن ينصركم بتقويتكم وفي ذات الوقت بكفّ أيدي عدوكم عنكم بإضعافه وإلقاء الرعب بين صفوفه، فاشكروا بالتالي كل هذه النِعَم المُضَاعَفَة المُرَكّبَة.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها بعد النصر وكفّ الأذي عنكم فلا تَغْتَرّوا فتَظلموا أو تَفْسَدوا وتُفْسِدوا، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿11﴾" أيْ وعليه وحده فَلْيَعتمد إذَن المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بأخلاق إسلامه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم.. وعلي غير المؤمنين المَحْرومين من سعادة وأمن هذا التوكّل التُّعَسَاء البُؤَسَاء أن يُسارعوا بالإيمان ليسعدوا هم أيضا في الداريْن
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿12﴾ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿13﴾ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿12﴾" أيْ ولقد أخذ الله عَهْداً ووَعْداً مُؤَكَّداً من بني إسرائيل أيْ اليهود من خلال ما أوْصاهم به في التوراة – وهذا العهد هو أيضا مع جميع الخَلْق منذ آدم حتي يوم القيامة في كل كتب الله تعالي وآخرها القرآن العظيم – أن لا يعبدوا أيْ لا يُطيعوا إلا الله وحده ولا يشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾، وأن يعملوا بكل أخلاق الإسلام التي فيها في كل شئون حياتهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا.." أيْ وأرسلنا منهم وجعلنا عليهم اثنى عشر رئيساً فيهم لتنفيذ هذا الميثاق، وهم الذين اختارهم موسي ﷺ لهذه المهمّة، وقد سُمِّيَ الرئيس نقيباً لأنه يُنَقّب أيْ يُفَتّش ويَبْحَث عَمَّا يُصلح أمور مَن يَرْأسهم.. ".. وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ.." أيْ وقال الله لِبَنِي إسرائيل ولنُقبائهم إنى معكم بقُدْرتي وعِلْمي أؤيّدكم برعايتي وعَوْني وتوفيقي ونَصْرى متى وَفّيتم بميثاقكم أيْ وَعْدِكم معي، ولا تَخْفَيَ كذلك عليَّ خافية من أفعالكم وأقوالكم.. وفي هذا طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ لهم من أيِّ مُخَالَفَة.. ".. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.." أيْ هذا بيانٌ لبعض تفاصيل الميثاق الذي عليهم الوفاء به حتي يكون الله تعالي معهم.. أيْ إنْ وَاظَبْتُم علي تَأْدِيَة الصلوات المَفْرُوضَة وأدّيتموها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنتموها وأتقنتموها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وأعطيتم الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كنتم مِن أصحاب الأموال، وكنتم دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا ، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ.." أيْ وصَدَّقتم برسلي جميعاً وبما جاءوكم به من إسلامٍ واتّبعتموه وعَمِلتم بكل أخلاقه، وعزّرتموهم أيْ وعظّمْتموهم وأدَّيْتُم لهم ما يَسْتَحِقّونه من احترامٍ وطاعةٍ ونَصَرْتُموهم وقَوَّيْتموهم وعاوَنتموهم ودافَعْتم عنهم ونَصَرْتُم الإسلام والحقّ والعدل والخير دائما.. ".. وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.." أيْ هذا تشجيعٌ علي الإنفاق في كلّ وجوه الخير والحَثَّ على الكرم والعطاء مع التذكرة بالتَّحَلّي بحُسْن الخُلُق.. أيْ وأعطيتم مِمَّا تَملكونه من أموالٍ وأرزاقٍ وجهودٍ ونحوها لله بأن تُنفقوه في سبيله أيْ في كلِّ وجوه الخير المُفيدة المُسْعِدَة لكم ولغيركم، حرصاً ورَجَاءً أنْ أعَوِّضكم بأكثر مِمَّا أنفقتموه.. فكأنهم يُقْرِضونه سبحانه ويَنتظرون منه أن يَرُدَّ لهم ما أقرضوه إيّاه! والقَرْض الحَسَن هو ما كان حلالاً أيْ نافعاً مُسْعِدَاً لا حراماً أيْ مُضِرَّاً مُتْعِسَاً ويكون بحبٍّ ورضا لا بِكُرْهٍ وإجبارٍ ويَتَّصِف بالإخلاص والإحسان (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) ويكون بِتَوَسُّطٍ واعتدالٍ وبما يُناسب الحال من حيث المقدار والجودة فلا يُؤْخَذ الرديء ليُنْفَق ويُوَجَّه إلي أفضل الوِجْهَات حسبما تقتضيه الظروف والأحوال ولا يُتْبَع بأذيً مَا قوليٍّ أو فِعْلِيٍّ ونحو هذا من صفاتٍ حَسَنَة يَطلبها الإسلام.. هذا، ومِن كَرَم الله تعالى أنْ سَمَّيَ الإنفاق قَرْضَاً وأعطي أجورا مُضَاعَفَة عليه رغم أنَّ الأموال والأرزاق بكل أنواعها هي أمواله وأرزاقه والجميع عباده سبحانه الكريم الوَهَّاب! وهذا تكريمٌ للإنسان ورَفْعٌ لشأنه حيث جَعَله من أصحاب العِزَّة والكَرَم واليد العُليا وتشجيعٌ له وزيادةٌ لهِمَّته ليُنْفِق أكثر وأكثر ليُعَوَّض من أفضال الله ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ بما هو أعظم في دنياه وأخراه.. وهذا خطابٌ للناس علي قَدْر عقولهم بما يَفهمونه.. إنه تعالي يَرُدّه لهم أضعافا كثيرة لا يُمكن حصرها، وهذا العطاء المُضَاعَف هو كريمٌ أيْ نَفِيس طيِّب عظيمُ الشأنِ فَخْمٌ هائلٌ لا يُوصَف ولا يُقَدَّر بمقدار بما يُناسِب كَرَمه وعظمته تعالي، وعلي قَدْر جَوْدَة القَرْض الحَسَن وإتقانه والصدق فيه ومنافعه ودَوَامه ونحو ذلك، ويكون لهم في دنياهم حيث يَنَالون كل خيرٍ وسعادة، ثم في أخراهم بنَيْلِهم أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.." أيْ أُقْسِم وبالتأكيد وفي مُقَابِل ذلك – والله تعالي لا يحتاج إلي قَسَمٍ وتأكيدٍ حتماً فكلّ كلامه مُعَظّمٌ مُصَدَّقٌ مُؤَكّدٌ لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ولكن لمزيدٍ من التبشير والإسعاد لمَن يفعل ما سَبَقَ ذِكْرُه – وبتوبتكم من ذنوبكم أوَّلاً بأَوَّل سأَمْحُو عنكم ما فعلتموه من سيِّئاتٍ أي شرور ومَفاسد وأضرار وأَسْترها عليكم ولا أعاقبكم عليها وأمْحُها كأن لم تكن وأمْحُ عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وأسترها وأخفيها فلا أعذّبكم بفضحكم بها فيهما فبالتالي تعيشون حياتكم بسبب هذا العَفْو والستْر في استشعارٍ للرحمات واستبشارٍ بانتظار كلّ أنواع الخير والرعاية والأمن والرضا والعون والتوفيق والتيسير والرزق والقوة والنصر.. ".. وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.." أيْ وكذلك أُقْسِم وبالتأكيد سأُدْخِلكم في حياتكم الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة تعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. ".. فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿12﴾" أيْ فمَن كفر منكم – أي كَذّب بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره – بعد ذلك الميثاق المُؤَكّد الذي أخذه الله عليهم والمُعَلّق عليه هذا الوَعْد العظيم وخالَفه بعد أن عَرفه عن عَمْدٍ وعِلْمٍ لا عن خطأ وجهلٍ ولم يَفِ به بعد أن وَثّقه وأكّده وعاهَد الله علي ألاّ يُخَالِفه.. ".. فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿12﴾" أيْ فهو حتماً بكل تأكيدٍ قد فَقَدَ وأخطأ وابْتَعَدَ عن سواء السبيل أيْ وسط الطريق ووسط الطريق هو دوْماً المُمَهَّد بينما جوانبه ليست كذلك والمقصود الانحراف عن الطريق السَّوِيِّ المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والخروج عنه إلي الطريق المُضطرب المُعْوَجّ المُنْحَرِف الخاطئ، طريق الشرّ والتعاسة فيهما
ومعني "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿13﴾" أيْ فبسبب نقضهم عهدهم أيْ عدم وفائهم به ومُخَالَفتهم إيّاه أيْ عدم عملهم بأخلاق إسلامهم التي في تَوْرَاتِهم، لَعَنّاهم أيْ طَرَدناهم وأبْعَدناهم من رحماتنا وإسعاداتنا في دنياهم وأخراهم، وأصبحت قلوبهم قاسية أيْ تَحَجَّرَت وتَصَلّبَت عقولهم ومشاعرهم وأفكارهم بداخلها فصارَت لا تتأثّر لا بالترغيب في كل خيرٍ وسعادةٍ لمَن يعمل بكل أخلاق إسلامه ولا بالترهيب مِن كلّ شَرٍّ وتعاسةٍ لمَن يتركها بعضها أو كلها علي قَدْر ما يَترك وبما يُناسبه، وصارَت لا تُفَرِّق بين الحلال النافع المُسْعِد والحرام الضارّ المُتْعِس مِن كثرة فِعْل السوء وعدم التفكير في الخير والعودة له.. هذا، ولفظ "جعلنا" قد يُوهِم أنه تعالي هو الذي جعل قلوبهم قاسية لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم فكأنه هو الذي جَعَلَها كذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿5﴾ من سورة الصَّفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.." أيْ هذا بيانٌ لشدّة قَسْوَة قلوبهم وما ينتج عنها من سوءٍ حيث بَلَغ حالهم في القسوة وعدم التأثّر بتهديدِ الله بعذابه الدنيويّ والأخرويّ أنهم يُغَيِّرون كلام الله تعالي في التوراة عن مواضعه التي وَضَعَه الله فيها أيْ عَمَّا هو عليه حين أُنْزِلَ عليهم وأَوْجَبَت حِكْمته وَضْعه فيها لتحقيق الهدف من هداية البَشَر لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويجعلون مَكَانَه غيره ويَتَلاعَبُون في ألفاظه ومعانيه وتفسيراته وتطبيقاته حتي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم من خلال إضلال الناس والتشويش عليهم فلا يعرفون أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وما كل ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.." أيْ وتَرَكوا نصيباً أيْ مِقداراً كبيراً مِمَّا ذَكّرهم ووَصَّاهم الله به في التوراة فأهملوه ولم يعملوا به، من اتّباع أخلاق الإسلام والإيمان بالرسول محمد ﷺ عند مَجيئه وبالقرآن الذي يُوحَيَ إليه.. ".. وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ.." أيْ وستَظلّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده تَرَىَ خيانة منهم أيْ غَدْرَاً ونَقْضَاً للمواثيق والعهود وعدمَ وفاءٍ بها.. ".. إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.." أيْ إلا قليلا منهم لم يَنقضوا ميثاقهم ولم يَخونوا وهم الذين يُسْلِمون.. ".. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ.." أيْ فسامِح يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده فلا تُعاقِب فتُقَابِل الإساءة بمِثْلها بل بالحَسَنَة وكأنَّ الإساءةَ قد مُحِيَتْ، واصفح أيْ واجتهد في أن تَنْسي الأمر تدريجيا وتُلغيه من ذهنك، والمقصود ألاّ تهتمّوا أيها المسلمون ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم، واستمِرّوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم، مع حُسن التعامُل معهم والصبر علي أذاهم ودعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين فلعلهم يعودون لربهم وللإسلام ليسعدوا في الداريْن، واصبروا علي ذلك إلي أن يأتي الله بأمره أيْ بنَصْره ونَشْره للإسلام والتمكين له ولكم في الأرض فتُديرونها بأخلاقه فتَنتفعون وجميع الناس بخيراتها وسعاداتها، وبعقابه لهم بما يُناسب شرورهم، وأمره هذا بالنصر وبالعقاب الدنيويّ والأخرويّ سيَأتي حتما فهو تعالي لا يُخْلِف وعده مُطلقاً لأنه علي كل شيءٍ قدير.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿13﴾" أيْ إنَّ الله حتما يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين
ومعني "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿14﴾" أيْ وكما أخذنا على بنى إسرائيل أي اليهود الميثاق فقد أخذنا أيضا من الذين قالوا إنا نصاري أيْ ناصِرين لدين عيسي ﷺ ميثاقهم أيْ أخذنا عَهْداً ووَعْداً مُؤَكَّداً منهم من خلال ما وَصَّيْناهم به في الإنجيل – وهذا العهد هو أيضا مع جميع الخَلْق منذ آدم حتي يوم القيامة في كل كتب الله تعالي وآخرها القرآن العظيم – أن لا يعبدوا أيْ لا يُطيعوا إلا الله وحده ولا يشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾، وأن يعملوا بكل أخلاق الإسلام التي فيه في كل شئون حياتهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.." أيْ فكان حالهم في نَقْضِهم عَهْدهم أيْ عدم وفائهم به ومُخَالَفتهم إيّاه أيْ عدم عملهم بأخلاق إسلامهم التي في إنجيلهم كحال اليهود حيث أيضا تَرَكوا نصيباً أيْ مِقداراً كبيراً مِمَّا ذَكّرهم ووَصَّاهم الله به في الإنجيل فأهملوه ولم يعملوا به، من اتّباع أخلاق الإسلام والإيمان بالرسول محمد ﷺ عند مَجيئه وبالقرآن الذي يُوحَيَ إليه.. ".. فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.." أيْ فبسبب ذلك عاقَبْناهم بأنْ أَثَرْنا وهَيَّجْنا بينهم وبين بعضهم البعض وكذلك بينهم وبين اليهود أسباب العَداء والكُرْه الدائم المستمرّ حتي يوم القيامة، كما يُرَيَ واقِعِيَّاً بين طوائفهم المختلفة، وكانوا مُسْتَحِقّين لهذا العقاب بسبب نَقْضهم لميثاقهم ولعله يُوقِظ بعضهم فيَستفيق ويعود لربه ويُسْلِم ليخرج من هذه الحالة ويسعد في الداريْن بدلا من تعاسته فيهما باستمراره علي ما هو فيه.. لقد بدأوا هم واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم فكأنه هو الذي أضَلّهم (برجاء مراجعة الآية ﴿5﴾ من سورة الصَّفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿14﴾" أيْ وبعد عَداوَات الدنيا وعذاباتها وتعاساتها التي هم فيها سيُخبرهم الله حتماً يوم القيامة بما كانوا يعملون في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار وسيُحاسبهم عليها بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم بما يَسْتَحِقّونه من عذابٍ شديدٍ مُناسِب، فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ مِن خَلْقه ويعلم كل ما يُسِرّون وما يُعلنون.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴿15﴾ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴿15﴾" أيْ يا أيها الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ – ويناديهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا – قد جاء لكم رسولنا الكريم محمد ﷺ يُظْهِر لكم من خلال القرآن العظيم الذي أوحيناه إليه كثيراً مِمَّا كنتم تُخفونه من الكتاب الذي معكم وهو التوراة والإنجيل، بما يَدلّ علي صِدْقه، حيث هو أُمِّيّ لا يَعلم ما تعلمونه وأنتم قد أخفيتم هذه الأمور ولم يعلم بها أحدٌ فإظهارها وتَبْيينها دلالة قاطِعَة علي أنَّ الله هو الذي أوْحَاها إليه، فصَدِّقوه إذَن وأَسْلِموا.. إنهم قد أخْفوا هذا الكثير عن الناس فلم يَسعدوا به لتحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.." أيْ ويَترك كثيراً مَمَّا تُخفونه وتُحَرِّفونه فلم يُخْبِر به ولم يَفضحكم حيث لم يُؤْمَر بذلك ويَعفو أيضا عن كثيرٍ منكم فلا يُؤاخِذه بسوء أدبه معه، وكل ذلك رحمة بكم وحُسن خُلُقٍ معكم.. ".. قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴿15﴾" أيْ قد جاءَ لكم ووَصَلَ إليكم من الله نورٌ هو القرآن العظيم يكون سَبَبَاً لهداية البَشَر، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة، بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا .."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، والذي هو أيضا كتابٌ مُبِينٌ أيْ مُبَيِّنٌ مُوَضِّحٌ لكلِّ شيءٍ مُسْعِدٍ في الداريْن.. هذا، ومن معاني نور كذلك أنه الرسول الكريم محمد ﷺ الذي أنار الله به للناس حياتهم وأسعدها لهم من خلال تبليغهم وتعليمهم إسلامهم.. وفي هذا دعوة لهم ولغير المسلمين ليُسْلِموا ليَسعدوا في الدنيا والآخرة
ومعني "يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿16﴾" أيْ يُرْشِد الله بهذا الكتاب مَن سَارَ خَلْفَ واتّجَهَ إلي واجتهدَ في تحقيق رضوان الله أيْ بَدَأ هو أولا بأنْ أحسن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وبدأ باتّباع أخلاق الإسلام التي في هذا الكتاب ليَسير بلا أيِّ ابتعادٍ نحو رضي الله عنه في دنياه وأخراه، مَن فَعَلَ ذلك يهديه سبحانه حتماً إلي سُبُل السلام أيْ يُرْشِده ويُوَفّقه ويُيَسِّر له أسباب الوصول لها أيْ لطرق السلامة والسعادة والأمان والصلاح والكمال، فيَحيا بذلك دائما في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ خالد لا يُوصَف (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية ﴿17﴾ من سورة محمد "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"﴾.. ".. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.." أيْ وهو تعالي برحماته وأفضاله وبسبب اختيارهم هم أولا للإيمان بكامل حرية إرادة عقولهم يُخْرِجهم من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يأخذهم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة، إلي النور، نور الإيمان، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. إنه بالجملة يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه، أي يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ، ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. بِإِذْنِهِ.." أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسبابه لهم وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿16﴾" أيْ ويُرْشدهم سبحانه – من خلال القرآن العظيم الذي معهم – إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ مُتَّجِهٍ دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، إنه طريق الله والقرآن والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ويُوَفّقهم إليه ويُعينهم عليه ويُيَسِّر لهم أسباب السَّيْر فيه والثبات به والزيادة منه، وذلك في كل شأنٍ من شئون حياتهم بكل لحظاتها وفي كل قولٍ وتَصَرُّف.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿17﴾ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿18﴾ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿17﴾" أيْ بالتأكيد قد كفر بعض هؤلاء النصارى الذين قالوا كذباً وزُورَاً إنَّ الله الخالق المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة هو المخلوق المسيح عيسى ابن مريم، تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا.. أيْ صاروا بذلك كافرين، أيْ مُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ومُعاندين ومُستكبرين ومُستهزئين وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهة نظرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿17﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، ولهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل مَن هذا الذي يُمكنه أن يَمنع شيئاً مِن قُدْرة وإرادة الله تعالي إذا أراد أن يفْنِيَ المسيح ابن مريم وأمّه ومَن في الأرض جميعا؟! لا شك أنَّ أحداً لن يستطيع مَنْع إرادته تعالي ولو كان المسيح إلاهَاً كما يَدَّعُون لاستطاع هذا المَنْع!! وذلك لأنه وحده الذي له كل ما في السماوات والأرض وما بينهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، وهو يَخْلُق ما يشاء مِن مخلوقاتٍ علي أيِّ شكلٍ أراد، ومِن غير أبٍ ولا أمٍ كآدم، ومِن غير أمٍ كحَوَّاء، ومِن غير أبٍ كعيسي، وبأبٍ وأمٍ كبقية المخلوقات الحَيَّة، ولا يَمنعه أيّ مانعٍ مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. ومادام الأمر كذلك فدَعْوَىَ أنَّ الله هو المسيح ابن مريم كاذبة سفيهة تماما لأنه وأمه من مخلوقاتِ الله التي هي قابِلَة للهلاك كأيِّ مخلوق وليس هذا من صفة الخالق الذي كل شيء هالِك إلا هو سبحانه وله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ
ومعني "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿18﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من بعض صور ادِّعاءاتهم وافتراءاتهم علي الله تعالي بما يُظْهِر تَكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغتهم حتي لا يُسْلِموا.. أيْ وقالت بعض مجموعاتٍ من اليهود والنصاري كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلاً وتَبَجُّحَاً نحن أبناء الله والمُحَبَّبون المُقَرَّبون له بسبب ذلك!! وكأنه سبحانه له زوجات يُنْجِب مِنهنّ!! تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا، حيث قال بعض اليهود نحن أبناء ابنه عُزَيْر وكان أحد الصالحين فيهم، وقال بعض النصاري نحن أبناء ابنه عيسي ﷺ ، وقد بَيَّنَ تعالي تَخريفهم هذا بقوله "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ" ﴿التوبة:30﴾.. ".. قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، ولهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، قل لهم بما يُظْهِر كذبهم ويُخْرس ألسنتهم وبما هو عَقلانيّ مَنْطِقِيّ، إنْ كان الأمر كما تدَّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه فلماذا إذَن يُعَذّبكم بسبب ذنوبكم أيْ شروركم ومَفاسدكم وأضراركم فهل الأب يُعَذّب أبناءه والحبيب يُعَذّب مُحِبِّيه؟! ثم إنَّ واقعكم يُكَذّب ادِّعاءكم، فلقد عَذّبكم بالفِعْل في الدنيا بما تعرفونه من تعاسات وعذابات المَسْخ والقتل والذلّ وإثارة العداوة والبغضاء بينكم إلى يوم القيامة وما شابه هذا، وقد اعترفتم بالفِعْل أنه يُعَذّبكم بالنار في الآخرة أياماً مَعْدودة كما تَدَّعون، فأنتم إذَن بالقطع كاذبون فيما تقولون.. ".. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿18﴾" أيْ ليس الأمر كما تَدَّعون أنكم أبناء الله وأحبّاؤه بل الحقّ أنكم بَشَر ككلّ البَشَر من الذين خَلَقَ الله، فنِسْبَتكم إليه تعالى نِسْبَة مخلوقٍ إلى خالق، مَن آمَنَ منكم وعمل صالحاً غَفَرَ له وأكرمه وأسعده في دنياه وأخراه، ومَن كفر منكم وعمل سوءاً عذّبه وأتعسه فيهما، كما يَحْدُث مع كل البَشَر، فالجميع متساوون في ذلك، فلا مُحَابَاة ولا فضل لكم ولا لأيِّ أحدٍ علي غيره إلا بعمله بأخلاق إسلامه، فالله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء إذا أَتَوْا بأسباب المغفرة وهي الإيمان والعمل الصالح أو أسباب العذاب وهي الكفر والعمل السَّيِّء، ولا اعتراض عليه ولا يُمكن لأحدٍ مُطلقاً مَنْع إرادته تعالي وذلك لأنه وحده الذي له كل ما في السماوات والأرض وما بينهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانعٍ مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. وإليه المصير أيْ مَصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليه وحده لا إلي غيره، وهو أعلم بهم تمام العلم، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسة في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
ومعني "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿19﴾" أيْ يا أيها الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ – ويناديهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا – قد جاء لكم رسولنا الكريم محمد ﷺ يُظْهِر لكم من خلال القرآن العظيم الذي أوحيناه إليه طريق الله والإسلام أيْ طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وذلك علي فترةٍ من الرسل أيْ على انقطاعٍ من الرسل إذ الفترة هي الزمن بين زمنين ويكون فيها فُتُور أيْ سكون عَمَّا يكون في هذين الزمنين أيْ سكون خَالٍ مِن وجود رسول من الله تعالي، والمقصود أنه لم يكن هناك رسل بين زمن عيسي ﷺ وزمن الرسول محمد ﷺ فجاءهم ﷺ بعد مُدَّة من انقطاع الرسل حيث كان الناس يعملون بالإنجيل وما فيه من إسلامٍ مناسبٍ لهذا الزمن حتي جاء القرآن بما يُناسب البشرية جميعا حتي يوم القيامة، فإنْ كنتم يا أهل الكتاب أهل خيرٍ فمِن المُفْتَرَض والمُتَوَقّع منكم أن تَتَلَهَّفوا وتُسارِعوا إلي ما جاء به هذا الرسول لإتمام دينكم وتُسْلِموا لا أنْ تُكَذّبوه.. ".. أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ.." أيْ خَشْيَة أنْ، ولكي لا، تقولوا مُتَحَجِّجِين بحُجَج ساقِطَة غير مَقبولة حينما يَنْزِل بكم عذابٌ مَا بدرجةٍ من الدرجات في دنياكم ثم ما هو أعظم وأتمّ وأخْلَد في أخراكم أنَّ كفركم وفِعْلكم الشرور والمَفاسد والأضرار سببه أنه ما وَصَلَ إليكم أيُّ بشيرٍ ولا نذيرٍ أيْ مُبَشِّرا لكم أيْ مُخْبِرَاً بالأخبار السارَّة وهي تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك ويعمل بكل ما في القرآن العظيم من أخلاق الإسلام، ومُنْذِرَاً أيْ مُحَذّرَاً مِن تمام الشرّ والتعاسة فيهما علي قَدْر ما يُتْرَك منه.. ".. فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ.." أيْ فليس لكم بالتالي إذَن أيّ عُذْرٍ تَعتذرون به أو حُجَّة تَتَحَجَّجُون بها حيث قد وَصَلَ إليكم بشيرٌ ونذيرٌ هو رسولنا الكريم محمد ﷺ .. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿19﴾" أيْ والله حتما علي كل شيءٍ قدير تمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء، ومِن قدْرته إرسال الرسل وإنزال الكتب وجزاء المُحْسِنين بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم وعقاب المُسيئين بما يُناسبهم من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿20﴾ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿21﴾ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴿22﴾ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿23﴾ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴿24﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿25﴾ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا موسي وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته ﷺ في سورة البقرة والأعراف وطه والشعراء وغيرها، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا، ومعني "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿20﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قال موسي لقومه علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾، حيث أرسل فيكم أنبياء كثيرين يُرْشدونكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بما أرسله معهم من كتبٍ فيها أخلاق الإسلام التي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بها كلها، وهذه مِن أعظم وأهمّ النِّعَم عليكم وعلي الناس جميعا، وكذلك جعلكم مُلُوكاً أيْ تَمْلِكون أمر أنفسكم أحراراً أعِزّة كالملوك وجعل منكم مُلوكاً بالفِعْل لهم مَمَالِك وذلك بعد أن كنتم مَمْلُوكِين عبيداً أذِلّاء لفرعون وقومه الذين كانوا يُذيقونكم كل صور العذاب فأصبحتم بعد إهلاكهم تَمتلكون إرادة العمل بكل أخلاق إسلامكم ولكم الأملاك والأموال والثروات وكل الخيرات بعدما كنتم لا تَمتلكون شيئا من هذا.. ".. وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿20﴾" أيْ وأعطاكم من النِّعَم والمُعجزات ما لم يُعطها أحداً غيركم من الناس مثل شَقّ البحر لكم لتسيروا في طريقٍ يابسٍ لتَنجوا ثم يتمّ إغراق عدوكم وإنزال المَنّ والسلوى عليكم لتأكلوا من الطيبات وتفجير من الحجر اثنتي عشرة عَيْنَاً حتى يعلم كل أناس مَشْرَبهم إلى غير ذلك من النعم والتي كانت تستلزم منكم شكرها عمليا بالمسارعة لاتّباع أخلاق الإسلام التي في التوراة لا مخالفتها
ومعني "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿21﴾" أيْ يا قوم ادخلوا الأرض المُطَهَّرَة المُبَارَكَة – وسبب تقديسها أنها كانت مَوْطِنَاً لكثيرٍ من الأنبياء، وهي أرض الشام – التي قَضَيَ ووَعَدَ الله أن تكون مَقْسُومَة لكم ما دُمْتُم آمنتم به وأطعتم أنبياءكم واتّبعتم كل أخلاق إسلامكم، حيث تجدون فيها الوطن والاستقرار والراحة والأمن والهناء، فإنْ خَالَفْتُم لم تكن لكم وإنما لغيركم من المُطِيعين المُحْسِنين الصالحين.. ولا تَرْتَدُّوا علي أدباركم أيْ لا تَرْجِعوا مُدْبِرين أيْ مُعْطِين أدْباركم أيْ ظهوركم للإسلام تاركين طاعة الله إلى معصيته بمُخَالَفته.. وإذا قاتلكم أعداؤكم بسبب إيمانكم فأيضا لا ترتدوا علي أدباركم أي لا تَرْجِعوا فَارِّين منهم بسبب خوفٍ وجُبْنٍ لأنَّ الله معكم وناصركم ينصر حتماً المؤمنين علي أعدائهم ما داموا أحسنوا اتّخاذ أسباب النصر.. وإلا ستَنْقَلِبوا خاسرين أيْ تَرْجِعوا خاسرين في الداريْن بسبب مُخَالَفَتكم ربكم وإسلامكم وجُبْنكم وفراركم خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث تَخسرون وتَفقدون دنياكم فتتعسون فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدكم عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وتخسرون حتما أخراكم يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴿22﴾" أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة جُبْنهم وضعف هِمّتهم وعزيمتهم ومُخالفتهم لأخلاق إسلامهم الذي يطلب حُسْن اتّخاذ أسباب النصر علي أعدائهم وأهمها التوكّل علي ربهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ وإعداد المُسْتَطاع من القوة حيث قالوا مُتَحَجِّجِين بحُجَجٍ واهيةٍ يا موسي – وينادونه باسمه دون احترامٍ بقول رسول الله بما يدلّ علي نوعِ استهانةٍ بما يُوصِيهم به – إنَّ الأرض التي وعدتنا بدخولها فيها بعض أناسٍ عظامِ الأجسام أشِدّاء أقوياء يُجْبِرون غيرهم على طاعتهم وعلي ما يريدون، ولا قُدْرَة لنا على التّعامُل معهم ولا قتالهم إنْ قاتلونا، وإنا لن ندخلها مُطلقا مادام هؤلاء الجَبَّارون فيها، فإنْ يخرجوا منها لأىِّ سببٍ من الأسباب التي لا شأن لنا بها، فنحن على استعدادٍ لدخولها في راحةٍ ويُسْرٍ بلا تَعَبٍ وجهد، فهم يريدون حياة راقية ونصراً بلا اتّخاذ أسبابٍ لتحقيق ذلك بما يُخالِف قوانين الحياة التي وضعها خالقها لها!!
ومعني "قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿23﴾" أيْ قال رجلان مؤمنان منهم، مُسْتَنْكِرَيْن رافِضَيْن جُبْنهم وضعف عَزْمهم وعدم توكّلهم علي ربهم مُشَجِّعَيْن لهم علي الإقدام، مَوْصُوفان بأنهما من الذين يَخافون الله وحده ويَتَّقونه ولا يَخافون غيره من الناس، ويَخافون عدوهم أيْ يَحسبون ويُقَدّرون قُوَّته ويَستعدون له ويتوكّلون علي ربهم، وبأنهما قد أنْعَمَ الله عليهما حيث اختارا بكامل حرية إرادة عقليهما طاعته فيَسَّر لهما التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام وقول كلمة الحقّ والصبر والثبات والثقة التامّة بنصره للمؤمنين علي أعدائهم ما داموا أحسنوا اتّخاذ ما استطاعوا من أسبابٍ للنصر عليهم، قالا لقومهما ابدأوا وادخلوا علي هؤلاء الجَبَّارين الباب لمدينتهم مُفَاجِئِين لهم وأَخْذَاً بالأسباب فإذا فعلتم ذلك فإنكم مُنْتَصِرون عليهم بالقطع بعوْن الله وقوّته وتوفيقه ونصره فأنتم الأقوياء دوْماً بقوّته وهم الضعفاء بإضعافه تعالي لهم، وذلك بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا.." أيْ وعليه وحده دائما فتوكّلوا أيْ اعتمدوا في كل شئون حياتكم تمام الاعتماد وهو حتماً سيكفيكم كفاية تامّة ولن تحتاجوا قطعاً غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقكم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لكم الرحيم بكم هو وكيلكم، أيْ الحافظ لكم المُدافِع عنكم، فهل تحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فلتكونوا إذَن دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولتطمئنوا اطمئنانا كاملا ولتستبشروا ولتنتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياكم ثم أخراكم.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿23﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي التذكرة بالإيمان إلهاب لمشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. إنَّ الآية الكريمة تُنَبِّه كل مسلم أن يكون قوياً شجاعاً مِقْدامَاً مُستعداً دائما للتضحية ببذل دمه وروحه وكل ما يملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامه ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال، ولا يكون أبدا جَبَانَا ضعيفا مُتَخَاذِلاً مُتَرَاجِعَاً مَهِينَاً، بل متأكّداً تماما أنَّ الجُبْنَ ما أطال أجل أحدٍ أبداً! لأنَّ الآجال علمها عند الله تعالي ومُحَدَّدَة الموعد، لكنَّ الجبان يعيش حياته دائم الخوف والفزع والتخاذل والتراجُع والذلّة والمَهَانَة لحرصه الشديد علي الحياة، أيّ حياة، حتي ولو كانت ذليلة مَهِينَة هو فيها عَبْد ذليل مَهِين لأسياده، إنه حينئذ كالمَيِّت!! وقد يُصيبه مرض مُقْعِد أو يأتيه الموت فجأة!! ولن يشعر بقيمة الحياة ويكون حَيَّاً إلا إذا انتفض وتَغَيَّر تدريجيا ليصبح قويا عزيزاً شجاعاً مِقْدَامَاً، فحينئذ سيساعده ربه ويُقَوِّيه ويُعِزّه ويَضَع الهيبة منه في عقول غيره، فكأنه سبحانه قد أحياه بعد موته!! وهو بعد ذلك إمّا أنْ يعيش عزيزاً كريماً سعيداً أو يموت شهيداً أكثر عِزَّة وكرامة وسعادة، مثلما كان حال كل أمة ماتت بذُلّها وجُبْنِها بسبب بُعْدها عن ربها وإسلامها ثم أحياها سبحانه بعِزِّها وإقْدَامِها لَمَّا عادَت لهما وأحْسَنَتْ اتّخاذ أسباب ذلك
ومعني "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴿24﴾" أيْ قالوا غير مُهْتَمِّين مُطلقاً بما نُصِحُوا به بل مُعْلِنين مُخَالَفتهم مُؤَكّدين إصرارهم التامّ الدائم عليها يا موسى إنا لن ندخل هذه الأرض أبداً في أىِّ وقتٍ مادام هؤلاء الجَبَّارون يُقيمون فيها.. "..فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا.." أيْ ولم يَكْتَفوا بقولهم هذا الذي يدلّ على جُبْنهم وضعف هِمَّتهم بل أضافوا إليه ما هو أشنع وأقبح وأفظع منه وفيه دلالة علي استهانتهم بالله ورسوله وعدم مُبالاتهم بهما وتَطاولهم عليهما وسوء أدبهم معهما حيث قالوا بكل وَقَاحَة ودَناءَة وخِسَّة وانحطاط إذا كان دخول هذه الأرض يهمّك أمره يا موسي فاذهب إذَن أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم أنتما منها.. هذا، وتعبيرهم بلفظ "ربك" كأنهم يُلَمِّحون إلي أنَّ الله تعالي ليس ربهم إذا كان يطلب منهم مثل هذا الطلب!! ثم وَصَفوه سبحانه بأنه يُقاتِل كالبَشَر وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ إذ البَشَر يُقاتِلون وهو ينصر أهل الحقّ بجنوده التي لا يعلمها إلا هو.. ".. إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴿24﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي عدم دخولهم لتلك الأرض المُقَدَّسَة.. أىْ إنّا في هذا المكان قاعدون مُقيمون لن نفارقه ولن نتقدَّم أيّ خطوة للأمام وكل خيرٍ يأتينا عن طريق دخولها وقتال الجَبَّارين فيها فنحن لا نريده.. وفي هذا مزيدٌ من إظهار مِقْدار خِسَّتهم وحَقارتهم لأنَّ قعودهم يحدث في وقتٍ يجب فيه القيام والنهوض للعمل الجادّ المُفيد المُسْعِد
ومعني "قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿25﴾" أيْ حينها قال موسى ﷺ شاكِيَاً إلي الله حزيناً مُعْتَذِرَاً عن مُخالَفَة قومه لطاعة ربهم وتَطَاوُلهم وسوء أدبهم وجُبْنهم وضعف هِمَّتهم ربِّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعيني ومُرْشِدي لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني في دنياي وأخراي من خلال دين الإسلام – إني لا أقْدِر إلا علي نفسي وأخي هارون لتوصيتهما وإلزامهما بطاعتك ونُصْرَة دينك.. ".. فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿25﴾" أيْ أمَّا قومي فقد خَالَفوا وَصَاياك رغم نُصْحهم وإرشادهم كثيراً ومادام قد حَدَثَ منهم هذا الإصرار فافْصِل واقْضِ واحْكُمْ بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعتك ودينك بقضائك وحُكْمك العادل، بأنْ تَحْكُم لنا بما نَسْتَحِقّ، وتحكم عليهم بما يستحِقّون، فإنك أنت أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.. وهذا يُرْشِد كلّ مسلمٍ ألاّ يَرْضَيَ أبداً بأقوالِ وأفعالِ الفاسقين وأن يجتهد ما استطاع في نُصحهم وألاّ يتأثّر بهم بل يَستمرّ مُتَمَسِّكَاً بإسلامه حتي ولو لم يعمل بأخلاقه إلاّ هو وحده ليسعد بذلك في دنياه وأخراه
ومعني "قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿26﴾" أيْ قال الله تعالى مُجِيبَاً طَلَب رسوله الكريم موسي ﷺ ما دام هذا حالهم فإنَّ الأرض المقدسة ممنوعة دخولها على هؤلاء العُصَاة الجُبَناء مدة أربعين سنة وخلالها يَسيرون تائهين حَيْرانِين مُشَتّتين في أرض الله بلا استقرار، فلا تَحزن علي أمثال هؤلاء القوم الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعتنا وطاعة دينهم بسبب هذه العقوبة فإننا ما عاقبناهم بها إلا بسبب فِسْقهم وجُبْنهم وسوء أدبهم مع رسلهم، فهم بالتالي لا يَستَحِقّون هذا الحزن عليهم.. هذا، ورغم أنها عقوبة لكنها لمصلحتهم حيث الذي فيه خير منهم سيَستفيق وسيعود لربه ويُسْلِم ليسعد في الداريْن لأنَّ خلال هذه المدة العَصِيبَة سينشأ غالباً جيلٌ يَعتاد علي كيفية التّعامُل مع الصعاب والتّغَلّب عليها ويَتَجَمَّع له من الخبرات ما يُمَكّنه أن يحيا حياة صحيحة سعيدة بارتباطه بربه ودينه
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿27﴾ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿28﴾ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴿29﴾ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿30﴾ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴿31﴾ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴿32﴾ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿33﴾ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿34﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون القتل والاعتداء علي الآخرين أو إصابتهم أشدّ التحريم، فإنَّ ذلك مِمَّا يثير الضغائن والكراهِيَّات والثأر والانتقام فتنتشر الجرائم والمَخاوف والمَرارات والتعاسات.. وإذا كنتَ من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وإذا كنتَ من المُخلصين المُحسنين في كل أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن حَسُودَاً تتمنّي زوال النِّعَم عن الآخرين وتَسعي لذلك
هذا، ومعني "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿27﴾" أيْ وأيضا اذْكُر وقُصّ علي الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده خَبَرَ وَلَدَيْ آدم لينتفعوا بما فيه من دروس وعِبَر وعظات ليسعدوا بها في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما.. ".. بِالْحَقِّ.." أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه هذا النبأ بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أيْ بالإسلام لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ.." أيْ حين قَرَّبَ كل واحدٍ منهما قُرْبَاناً أيْ صَدَقَة من غنمٍ أو غيره يُتَقَرَّب بها إلى الله يُقَدِّمها لتُنْفَق في الخير، فتَقَبَّل الله القرْبان من أحدهما وهو الذي كان تَقِيَّاً مُخْلصاً مُحْسِناً فيه ولم يتقبّله من الثاني لأنه لم يكن كذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ.." أيْ قال الذي لم يُتَقَبَّل منه للذي تُقُبِّلَ منه، بَدَلاً أن يُصْلِح ذاته ويَفعل أسباب التّقَبُّل للأعمال وهي التقوي والإخلاص والإحسان، قال له مُهَدِّدَاً إيَّاه سأقتلك حتما!!.. فهذا الأخ الظالم يُهَدِّد أخاه بالقتل الذي هو من أكبر الذنوب الكبيرة بلا مُرَاعاة لحُرْمَة الدماء ولا لعلاقة الأُخُوَّة بينهما، وما دَفَعه لذلك إلا الحَسَد وهو أن يتمنّيَ الإنسان الحاسِد زوال نِعَم الله عن الآخرين ولا يكتفي بهذه الأمنيات العقلية وإنما يتّخذ من الإجراءات العملية ما يحقّقها كعدم عوْن الذي يحسده أو ظُلْمه أو تَضليله بمعلوماتٍ كاذبة أو نحو ذلك، فإنَّ الحَسَد أول مَن يُؤْلِم ويُتعس هو الحاسد ذاته بينما المَحْسُود يَنْعَم بنِعَم الله ولا يشعر بألم حاسده ويَقِيه ربه إجراءاته الضارة، فانتشار التّحَاسُد بين الناس ينشر الأحقاد والضغائن والتشاحنات والانتقامات فيتعس الجميع في الدنيا والآخرة، أمَّا أنْ يتمنّي المسلم أن يكون له مثلما عند غيره وأكثر دون تمنّي زوال ما عنده ويُحْسِن اتّخاذ أسباب ذلك ويتعاوَن الجميع في التطوّر والرُّقِيّ فهذا هو ما يطلبه الإسلام ليسعدوا كلهم في الداريْن.. ".. قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿27﴾" أيْ قال الأخ التّقِيّ الذي تُقَبِّلَ منه ناصحاً أخاه الظالم الحاسِد مُرْشِدَاً مُوَجِّهَاً إيَّاه برفقٍ لإصلاحِ ذاته بفِعْل أسباب التّقَبُّل ليَسعد في دنياه وأخراه، لا يَتَقَبَّل الله عملاً إلاّ من المُتَّقِين لا من غيرهم، فالسبب إذَن منك لا مِنّي فلِمَ تَقتلني؟! أيْ يَتَقَبَّل فقط من الذين يَخافونه ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿28﴾" أي هذا تذكيرٌ من الأخ التّقِيّ للأخ الظالم بحقوق الأخُوَّة وما تَتَطَّلبه من بِرٍّ وحُسْنِ تَعَامُلٍ بعد تذكيره بتقوي الله تعالي لعله يَستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن بَدَلَاً أن يتعس فيهما لو استمرّ علي ما هو عليه.. أيْ إذا مَدَدْتَ يدك إليَّ لكي تقتلني فلن أمدَّ يَدِيَ إليك أبداً لأقتلك فلن أعامِلك بالمِثْل مُطلقاً لأني أخاف عذاب الله رب العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهما من خلال دين الإسلام – في الدنيا والآخرة وفقدان حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده فيهما
ومعني "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴿29﴾" أيْ هذا مزيدٌ من النصح والإرشاد للأخ الظالم والرفق به من خلال تذكرته بعذاب الآخرة الذي لا يُوصَف حتي لا يَقع فيه.. أيْ إني أريد أنْ لا تبوء بإثمي وإثمك أيْ ترجع يوم القيامة إلي الله معك ذنب قتلي وذنوبك الأخري التي تفعلها غير قتلي فتكون بذلك من أصحاب النار، وقد حُذِفَ حرف النفي "لا" لأنه يُفْهَم من سياق الكلام كما يقول تعالي مثلا ".. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا.." ﴿النساء:176﴾ أيْ لكي لا تَضِلّوا، وذلك لأنَّ التّقِيّ حتماً لا يريد أنْ يُوقِع غيره في الإثم وعذاب النار وإلا كان آثما هو أيضا.. وجملة أصحاب النار تعني الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه.. ".. وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴿29﴾" أيْ وهذا هو دائما مصير وأجر وعطاء كل مَن ظَلَمَ بصورةٍ ما من صور الظلم حيث يأخذ نصيبه ووقته من العذاب علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدل، سواء أكان هذا الظلم كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. إضافة قطعا إلي ما كان فيه من عذابٍ وتعاسةٍ دنيوية بسبب سوئه
ومعني "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿30﴾" أيْ فبَعْدَ كلّ هذا النُّصْح المُتَنَوِّع السابق، سَهَّلت له نفسه، أيْ أفكاره الشّرِّيَّة بعقله، أن يُخالِف الفطرة – والتي تَمنعه من القتل ظلماً وحُبّ وبِرّ كل البَشَر الصالحين خاصة إخوته وأقاربه – وأن يقتل أخاه فقتله بالفِعْل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فصار بذلك من الخاسرين حتماً في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث يَخسر ويَفقد دنياه فيتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْده عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين ويَخسر قطعاً أخراه يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴿31﴾" أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة الاضطراب والصراع مع فطرة الخير الذي يَقع فيه المُجْرم بعد ارتكاب جريمته، وكلما ازدادت فظاعتها كلما ازدادت اضطراباته وتعاساته، فلا يَفعل العاقل إذَن أيَّ جريمةٍ صَغُرَت أم كَبُرَت لكي يَتّقِي شقاءها في الداريْن وليعمل بكل أخلاق إسلامه ليسعد بذلك فيهما.. أيْ فبَعْد تنفيذ هذا الظالم لجريمته الشنيعة تَحَيَّرَ في كيفية إخفائها حيث لم تَحدث مِن قَبْل علي وجه الأرض وكان هو أول فاعلٍ لها فأراد الله إكرام المَيِّت بدفنه فلا تَنْهشه الدوابّ فأرسل غرابا وهو الطائر المعروف والذي من عادته دفن الأشياء يَحفر في الأرض مُسْتَخْرِجَاً تُرابها بمنقاره ورجليه ليَعمل ما يُشبه الحُفْرَة ليَدْفِن فيها شيئاً مَا ليُعَلّمه كيف يُخْفِي جُثّة أخيه، والسَّوْأَة هي ما تَسُوء رؤيته والمقصود الجثة المَقْتُولَة ذات المَنْظر السَّيِّء.. ".. قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴿31﴾" أيْ قال بما يدلّ علي شِدَّة خوفه واضطرابه وحَسْرَته ونَدَمه وألمه وتعاسته، يا هَلاَكِي أنا هَالِكٌ بالتأكيد هل ضَعُفْتُ عن الوسيلة التي تجعلني أن أكون مثل هذا الغراب فأدفن جُثّة أخى في التراب كما دَفَنَ هو بمنقاره ورجليه في الأرض ما أراد دَفْنَه؟! فصارَ بسبب ما فَعَله من النادمين أيْ المُتَأَلّمين الحَزِينين أشدّ النَّدَم والألم والحُزْن علي ما فَعَل بعدما عايَشَ ما نَتَجَ عن جريمته من سوءٍ وتعاسة.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حاله السَّيِّء هذا وجَهْلِه وسَفَهِه وظلمه الذي لا يُوصَف حيث خَالَفَ الإسلام دين أبيه آدم.. وهذا هو دائما حال كلّ مَن يُخَالِف أخلاق إسلامه إذ يحيا من الخاسرين النادمين المُتَأَلّمِين المُضطربين التّعِيسين بصورةٍ من الصور علي حسب درجة مُخَالَفته، إلا إذا اسْتَفاقَ واهْتَزّ وارْتَجَّ بهذا الخُسْران والنّدَم وتابَ وعادَ لربه ولإسلامه وفَعَلَ كلّ خيرٍ مُعَوِّضَاً ما صَدَرَ منه من شَرٍّ حينها يَغفر الله له ويُيَسِّر إليه أن يحيا سعيداً في دنياه وأخراه
ومعني "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴿32﴾" أيْ بسبب مِثْل هذا العدوان والظلم الذي قد يَحْدُث وهو المُضِرّ المُتْعِس بالجميع حيث يفقدهم الأمن والعدل وهما من أسس الراحة والسعادة في الدنيا ويُؤدّي بالظالم إلي أشدّ العذاب في الآخرة فَرَضْنَا عليهم وعلي كل البَشَر قبلهم وبعدهم قتل المُعْتَدِي لمَنْع الشرّ والتعاسة ونشر الخير والسعادة لأنه مَن قتل نفساً واحدة من نفوس بني آدم ذكراً أو أنثي كبيراً أو صغيراً قوياً أو ضعيفاً غنياً أو فقيراً بغير قتلها لنفسٍ بحيث تستحقّ القِصاص منها، أو بغير فسادٍ تفعله في الأرض يَستوجب قتلها كقُطّاع الطرق والزناة المتزوجين ونحو هؤلاء، فكأنه قَتَل الناس جميعاً، وذلك لأنَّ قَتْل النفس الواحدة وقَتْل الجميع متساوون في استجلاب غضب الله وعذابه في الداريْن ولأن آثام قَتْلِها وتعاساتها كبيرة كثيرة شديدة وكأنَّ قاتلها قد تَحَمَّل إثم قَتْلهم كلهم.. وكل ذلك حتي يخاف وينتهي تماما كل مَن يُفكّر في القتل!.. ".. وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.." أيْ هذا تشجيعٌ هائلٌ علي حِفْظ أيِّ نفسٍ من أيِّ سوءٍ وعدم الوصول أبداً لمرحلة اعتداءٍ عليها أو جَرْحٍ لها أو قتلها ببيان عظيم العطاء الذي لا يُوصَف الدنيويّ والأخرويّ حيث كل أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ فيهما لمَن يُحْييها أيْ مَن يَتَسَبّب في إحيائها وصيانتها من العدوان عليها بأنْ ينقذها مِمَّا قد يُهلكها أو يُؤذيها بشكلٍ من الأشكال من غَرَقٍ مثلاً أو حَرْقٍ أو مرضٍ أو نحوه، فمَن يفعل ذلك فكأنما تَسَبَّبَ في إحياء الناس جميعاً والذي حتماً يَصحبه عظيم أجرٍ في الداريْن بما لا يُتَخَيَّل لأنه من الكريم الوَهَّاب ذو الفضل العظيم سبحانه.. ".. وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴿32﴾" أيْ ولقد جاء لِبَنِي إسرائيل أيْ اليهود ووَصَلَ إليهم بالفِعْل بالتأكيد رسلنا الكرام ومعهم البينات أي الواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقهم وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ دين الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها وذلك حتي يَثِقوا فيهم ويَتّبعوا الإسلام الذي يُوصُونهم به وهذه البَيِّنَات تشمل المُعْجِزات التي جَرَت علي أيديهم والتي منها مثلا انقلاب العصا ثعباناً لموسي ﷺ وشَقّ البحر عند ضربه بها لإنجائهم وإهلاك عدوهم، كما أنَّ البَيِّنَات تشمل أيضا التوراة بما فيها من إسلامٍ كان يُناسب عَصْرهم ليكون مُبَيِّنَاً وهادِيَاً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن، ثم إنَّ كثيراً منهم – وليس كلهم لأنَّ بعضهم آمنوا برسلهم واتّبعوهم فسعدوا فيهما – بعد ذلك أيْ بعد هذا الذى وَصَّيْناهم به من وَصَايَا وأخلاقٍ وتشريعاتٍ مع الرسل الذين جاءوا إليهم في أيِّ مكانٍ يكونون فيه من الأرض وليس فيما بينهم فقط لَمُسْرِفون أيْ مُكْثِرون مُبَالِغُون في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات، فهم بالتالي لم يفعلوها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ قد يَعتذرون به إذا نَزَلَ بهم عقاب في دنياهم وأخراهم بل عن علمٍ وعَمْدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ بلا أيِّ اهتمامٍ بما وَصَّيْناهم به وكان من المُفْتَرَض أن يَبتعدوا عنها لأضرارها وتعاساتها بعدما ذَكّرْناهم بذلك من خلال رسلنا.. وفي هذا ذّمٌّ ولوْمٌ شديدٌ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم ورَفْض تامّ وتعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي هم فيه.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿33﴾" أيْ إنّما عقاب الذين يُحاربون دين الله ورسوله أيْ الإسلام وأهله المسلمين بحَمْل السلاح أو غيره من وسائل الاعتداء ضد نظامه الحاكِم القائِم الذي يُدير الحياة بأخلاقه وقوانينه بأن يَكُونُوا قُطّاعَ طُرُقٍ بتشكيلِ عصاباتٍ للسرقة والعدوان ويَجِدُّون ويَنْشَطون في الأرض مُفْسِدِين فيها مُخَالِفين لقوانينه بإخافة الناس وقَطْع طُرُقهم ونَهْب أموالهم والاعتداء على أعراضهم وتهديد أمنهم وإتعاسهم.. ".. أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.." أيْ أنْ يُقْتَلوا في مُقابِل مَن قَتَلُوا – والتشديد يُفيد الشدّة في عقوبة قَتْلهم وتنفيذها بلا أيّ تَهَاوُنٍ من خلال الدولة والمسئولين بما يُناسب جريمتهم وبما يُؤَمِّن الناس ويُخَلّصهم من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وبما يَمنع تماما أيّ مَن يُفَكّر في فِعْلهم أن يَفعله – وأنْ يُصَلّبوا إذا قَتَلُوا وأَخَذُوا المال بأن يُوضَعُوا ويُشَدُّوا علي خَشَبٍ يُشْبِه الصليب بعد قتلهم أو يُقْتَلُوا أثناء صَلْبِهم أو يُتْرَكُوا عليه حتي موتهم كعِبْرَةٍ لغيرهم، وأنْ تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أيْ من جِهَتَيْن مُتَخَالِفَتَيْن إذا قَطَعُوا الطريق وغَصَبُوا المال ولم يَقْتلوا بأنْ تُقْطَع يدُ المُحَارِب اليُمْنَىَ ورجله اليُسْرَىَ فإنْ لم يَتُبْ وعادَ لفِعْله تُقطعْ يدُه اليسرى ورجلُه اليمنى، وأنْ يُنْفَوْا من بلدٍ إلى آخر غير الذي هم فيه إذا أخافوا فقط حتي يَتَشَتّتوا وتضعف قواهم مع مُرَاقبتهم والتضييق عليهم أو حتي سَجْنهم سواء في بلدهم أو غيرها لمَنْع شَرِّهم علي اعتبار أنَّ النفي يعني السجن عند بعض العلماء إلي أن يتمّ علاجهم ويَنْصَلِح حالهم وتَظْهَر توبتهم الصادقة ويعودوا نافعين مُسْعِدين لمجتمعهم لا ضارِّين مُتْعِسين له.. ".. ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿33﴾" أيْ ذلك العقاب المَذْكور الشديد المُهِين الذي يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم هو خِزْي لهم قطعاً في الدنيا أيْ ذِلّة وانحطاط وعار وفضيحة، وألم وكآبة وتعاسة، لأنه كَشَفَ أمرهم وجَعَلَهم عِبْرَة لغيرهم، وسيكون لهم حتماً في الآخرة عذاب هائل شديد مُؤْلِم مُوجِع لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، إنْ لم يَتوبوا
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿34﴾" أيْ إلا الذين تابوا مِن هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم وعادوا لربهم ولأخلاق إسلامهم بصدقٍ يُعْرَف من أحوالهم ومعاملاتهم مِن قَبْل أن تتمكّنوا مِن القَبْض عليهم وعِقَابهم، فهؤلاء يسقط عنهم القتل والصلب والقطع والنفي، لكن تَبْقَيَ عليهم حقوق الناس، فإنْ كان قد أخذَ أحدهم مثلاً مالاً أو شيئاً يَرُدّه لصاحبه، وإنْ طالَب أهلُ قتيلٍ قد قَتَلَه القِصاص يُقْتَصّ منه بقَتْله في مُقابِله فإن لم يطلبوا لا يُقْتَل، وهكذا.. ".. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿34﴾" أيْ وإنْ اسْتَكْثَرْتُم سقوط العقوبة عمّن تاب قبلَ أن تقدروا عليه فاعْرَفوا وتأكّدوا وتذكّروا تماما ولا تنسوا مطلقاً أنَّ الله غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿35﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿36﴾ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴿37﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتّقين أيْ المُتَجَنّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وإذا كنتَ من الذين يَتّخِذون كل وَسِيلَة وطريقة للتقرّب من الله تعالي والوصول لحبه وتيسيره وإسعاده في الداريْن بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿35﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – اتقوا الله أيْ خافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.." أيْ واطلبوا باجتهادٍ الطريقة التي تُقَرِّبكم إليه وتُوَصِّلكم لحبّه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة، وذلك بفِعْل كل خيرٍ وترك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَجَاهِدُوا.." أيْ وابْذلُوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. فِي سَبِيلِهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿35﴾" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام المُبْتَغِين إليه الوسيلة المُجاهدين في سبيله
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿36﴾" أيْ مِن شدّة وفَظَاعَة العذاب وتَنَوِّعه في نار جهنم يوم القيامة للذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولم يتوبوا ويعودوا لربهم ويُسْلِموا واستمرّوا علي ذلك حتي ماتوا وهم كفار، لو فُرِضَ وكانوا يَمتلكون وقتها ضِعف ما في الأرض مِن كلّ أملاكها ليقوموا بالتضحية به كله وتقديمه في مُقَابِل أن يَفتدوا ذواتهم أي يُنَجُّوها من هذا العذاب الشديد السَّيِّء المُتَنَوِّع المُسْتَمِرّ، ما تَقَبَّلَ الله ذلك منهم أبداً ولم ينفعهم بأيِّ شيءٍ مُطلقا.. وبالقطع ليس هناك حينها أيّ فداءٍ أو تعويض!!.. لأنَّ نظامه سبحانه في الحياة الدنيا هو أن يكون إنقاذ الإنسان من عذاب الآخرة ودخوله درجات الجنة مُتَوَقّف على إيمانه وعمله بأخلاق إسلامه لا على ما يَمْلكه مهما كَثر.. وفي هذا تمام اليأس من أيّ أملٍ في أيّ نجاةٍ لمزيدٍ مِن الحَسْرة والنَّدَامَة لهم.. وذلك هو العذاب الختاميّ النهائيّ والذي يكون علي قدْر سوئهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، بعدما ذاقوا في دنياهم بسبب أفعالهم درجة ما من درجات عذابٍ تَمَثّلَ في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة.. " .. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿36﴾" أيْ وسيكون لهم في انتظارهم عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني "يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴿37﴾" أيْ يتمني هؤلاء الكافرون أن يخرجوا من النار بعد أن ذاقوا عذاباتها وتعاساتهما، وهم لن يخرجوا منها أبدا، بسبب ما ارتكبوه في دنياهم من شرور ومفاسد وأضرار وتعاسات، ولهم فيها عذاب دائم ثابت لا يتوقف هم فيه خالدون مُسْتَمِرّون إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم لحظة مُقِيمون إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنه أو تَرْكٍ له بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿38﴾ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿39﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿40﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن سارقا، تسرق ممتلكات الناس التي يَحتفظون بها والتي بذلوا فيها ما بذلوا من الجهود والأوقات والأعمار فإذا بك تأخذها بغير حقّ في الخفاء.. إنَّ سرقة واحدة فقط تؤدي غالبا إلي فزعٍ هائلٍ بين الجميع وإلي تحصيناتٍ وتأميناتٍ وتكليفاتٍ ونحوها، ولذا كان العقاب شديداً بسبب أثره الشديد المُضِرّ المُتْعِس
هذا، ومعني "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿38﴾" أيْ والذى يَسرق من الرجال، أيْ يأخذ مِمَّا يَملكه ويَحتفظ به غيره في الخَفاء بغير حقّ وبغير رضاه، وهذا من كبائر الذنوب المُضِرَّة المُتْعِسَة بشِدَّة للجميع، والتى تَسرق من النساء، فاقطعوا يد كلٍّ منهما أيها المسئولون مُجَازاة لهما بسبب ما ارتكبا من كَسْبٍ سَيِّءٍ وخيانة قبيحة، نكالاً من الله أيْ عذاباً شديداً منه لهما، والنكال هو العذاب الشديد للعاصِي المُخالِف مُخَالَفَة شديدة والذي يكون عِبْرَة لغيره حتي لا يَخطر بفِكْر أيِّ أحدٍ أن يَفعل مثله ويَتَشَبَّهَ به.. ".. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿38﴾" أيْ والله تعالي عزيزٌ أيْ غالِبٌ قاهرٌ لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وهو في كلّ أموره حكيم يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث
ومعني "فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿39﴾" أيْ فأيّ أحدٍ يَتوب مِن بعد ظلمه لنفسه ومَن حوله بأنْ أتعسها وأتعسهم في الداريْن بفِعْله الشرور والمَفاسد والأضرار بسرقةٍ أو غيرها من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، أيْ قام بالتوبة من ذنبه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. ".. وَأَصْلَحَ.." أيْ وعمل الصالحات من الأعمال وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿39﴾" أيْ فهذا حتماً يَقبل الله توبته ويعفو عن ذنوبه ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُزيل عنه آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسْتره ويُعينه ويُسعده، لأنه هو الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿40﴾" أيْ هل لم تَعلم وتَتَأكّد أيها المسلم، والاستفهام والسؤال للتقرير، أيْ لكي يُقِرّ هو بذلك، أيْ قد عَلِمتَ وتَأكّدتَ، أنَّ الله تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فهو له كلّ المُلْك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقَبْض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلْك والرحمة والفضل فهو يستحقّ وحده العبادة أي الطاعة ولا يُنْكَر عليه حتماً بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ.." أيْ يُعَذّب مَن يريد أن يُعَذّبه ويَغفر لمَن يريد أن يَغفر له وذلك إذا أَتَوْا بأسباب العذاب وهي الكفر والعمل السَّيِّء أو أسباب المغفرة وهي الإيمان والعمل الصالح.. إنَّ مَن يَفعل الشرور والمَفاسِد والأضرار ولا يتوب منها فهذا في دنياه يُعَذّبه بكلّ شرّ وتعاسة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، ثم في أخراه يُعَذّبه بعذابٍ هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وهو يغفرُ للذي يَتُوب من ذنوبه أيْ يُسقطها عنه ويزيلها ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُسامحه بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده.. هذا، ومَن يشاء من الناس الهداية لله وللإسلام، ويشاء نَيْل رحمة الله، أيْ سعادته التامَّة في دنياه وأخراه، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويوفقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن، والعكس صحيح تماما، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيكفر بربه ويترك إسلامه، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. " .. وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿40﴾" أيْ وهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿41﴾ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿42﴾ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿43﴾ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿44﴾ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿45﴾ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿46﴾ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿47﴾ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿48﴾ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴿49﴾ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿50﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم.. وإذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحْسِن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا لم تكن مُنافِقاً تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا لم تكن سَمَّاعَاً للكذب أيْ كثير الاستماع له، سَمَّاعاً لكل شَرّ، لأنه بانتشار الأكاذيب والشرور يَتعس الناس حتماً في الداريْن.. وإذا لم تأكل سُحْتَاً أيْ حراماً.. وإذا كنتَ عادلاً دائما، في كل أقوالك وأفعالك وتصرّفاتك في كل شئون حياتك ومواقفها المختلفة وأنْ تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه لأنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار كل أنواع الخيانة المادِّيَّة في الأموال وغيرها والمَعنويَّة كشهادةِ زُوُرٍ مثلاً أو نصيحةٍ مُضِرَّةٍ أو نحوها يَعُمّ الظلم ويفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿41﴾" أيْ يا أيها الرسول الكريم لا تَشعر بالحُزن من الذين يُسَابِق بعضهم بعضا مُنْطَلِقِين داخِلِين مُتَوَغّلِين في الكفر مُتَعَجِّلِين فى إظهاره وتأييده والعمل به عند أيِّ فرصة واقعين فيه سريعا من غير أيّ تَدَبُّر أو تَفَكّر – والكفر هو التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظر مَن يكفر – ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن مثل رسولك الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول ﷺ "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" ﴿رواه الترمذي﴾.. " .. مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ.." أيْ مِن المنافقين الذين قالوا صَدَّقنا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملنا بأخلاق إسلامه وهو مجرّد كلام ظاهريّ بالأفواه والألسنة لدَفْع الإحراج والمُسَاءَلَة عنهم ولم تُصَدِّق عقولهم وليسوا مُقْتَنِعين به حقيقة بداخلها ولا صادقين فيه ولا يعملون به.. ".. وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا.." أيْ وكذلك لا يَحْزنك الذين يُسارعون في الكفر بك وبالقرآن العظيم الذي أُوحِيَ إليك من اليهود ومَن يَتَشَبَّه بهم.. ".. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ.." أيْ كلّ هؤلاء من صفاتهم السَّيِّئة التي عليكم أن تَنتبهوا لها وتَحذروا منها وتُحْسِنوا التعامُل معها أيها المسلمون أنهم كثيروا السَّمَاع للأكاذيب التي ينشرها أعداء الإسلام ضدّه وضدّ المسلمين لتشويه صورته وصورتهم، والسَّمَاع لأيِّ شرورٍ عموماً، ولا يرفضونها بل يَقبلونها ويَستجيبون لها ويُقَلّدونها ويعملون بها وينشرونها كمحاولةٍ منهم لإبعاد الناس عن الإسلام ومَنْعهم من اتّباعه.. كذلك من المعاني أنهم سَمَّاعون لكلام الله ورسوله ﷺ للكذب أيْ لكي يَكْذِبوا عليهما فيه بعد استماعه واستيعابه ليكون كذبهم مَعْقُولاً ما أمْكَن.. ".. سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ.." أيْ وهم أيضا سمَّاعون لكلِّ مَن لم يأتوك يا رسولنا الكريم أيْ لم يَأْتوا لأخلاق الإسلام ليَقْبَلوها وليَعملوا بها بل هم بعيدين عنها بعضها أو كلها، ويَستجيبون لكلامهم الذي يسمعونه منهم ويَتَّبعون أخلاقهم المُخَالِفَة للإسلام.. كذلك من المعاني أنهم جَواسيس سَمَّاعون لصالح قومٍ آخرين بعيدين عن الإسلام والمسلمين أعداء لهما كنوعٍ من التّجَسُّس عليهما لصالحهم بما يَنقل معلوماتٍ لهم تضرّهما.. ".. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ.." أيْ هذا بيانٌ لشدّة قَسْوَة قلوبهم وما ينتج عنها من سوءٍ حيث بَلَغ حالهم في القسوة وعدم التأثّر بتهديدِ الله بعذابه الدنيويّ والأخرويّ أنهم يُغَيِّرون كلام الله تعالي في التوراة مِن بَعْد استقرار وثَبَات مَوَاضِعه التي وَضَعَه الله فيها مِمَّا هو عليه حين أُنْزِلَ عليهم وأَوْجَبَت حِكْمته وَضْعه فيها لتحقيق الهدف من هداية البَشَر لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويجعلون مَكَانَه غيره ويَتَلاعَبُون في ألفاظه ومعانيه وتفسيراته وتطبيقاته، وكذلك يحاولون يائسين تحريف بعض معاني القرآن لا ألفاظه، حتي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم من خلال إضلال الناس والتشويش عليهم فلا يعرفون أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وما كل ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فأمثال هؤلاء بالتالي لا يَحزنكم مُسارعتهم في الكفر وعدم إسلامهم لأنهم في غاية الخَبَل والنّقْص والمَخْبُول الناقص لا يُهْتَمّ به ولا أثر له.. ".. يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا.." أيْ وكذلك يقول هؤلاء لأتْباعهم السفهاء، والذين يُصَدِّقونهم فيما يقولونه لهم بلا أيِّ تَمْيِيزٍ لِمَا يُقال لأنهم قد عَطّلوا عقولهم، إنْ أُعْطِيتم في القرآن ما يُوافِق هذا الذي أنتم عليه في التوراة – رغم تَحْريفهم لكلام الله تعالي عن مَوَاضِعه فيها – فاقبلوه واعملوا به، وإنْ لم تُعْطَوا مِثْله بل ما يُخَالِفه فاحذروا حَذَرَاً شديداً قبوله والعمل به!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿73﴾ من سورة آل عمران "وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ.."﴾.. ".. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.." أيْ ولا تَحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي أمثال هؤلاء الذين يُسارعون في الكفر ولا يُسلمون لأنه مَن يُرِد الله إضلاله بسبب تعطيله لعقله فلن تستطيع أن تهديه أو أن تنفعه بشيءٍ لم يُرِدْه الله له، فمَن هذا الذي يُمكنه أن يَمنع شيئاً مِن قُدْرة وإرادة الله تعالي إذا أراد ذلك؟! لا شك أنَّ أحداً لن يستطيع مَنْع إرادته سبحانه.. إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."﴾.. ".. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة سابقاً ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين لم يُرِد الله أن يُنَظّف عقولهم من الضلال وتعاساته لأنهم هم الذين اختاروه وأصَرُّوا عليه بكامل حرية إرادتهم وفَضَّلُوه على هُدَىَ الإسلام وسعاداته في الداريْن.. ".. لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿41﴾" أيْ لهم حتماً عذابٌ دنيويّ وأخرويّ بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فلهم في الدنيا خِزْي أيْ ذِلّة وانحطاط وعار وفضيحة، يَتَمَثّل في درجةٍ مَا من درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم سيكون لهم في الآخرة عذاب هائل شديد مُؤْلِم مُوجِع لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه
ومعني "سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿42﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي سُوئِهم للتأكيد علي أنه لا داعي للحزن علي عدم إسلامهم.. أيْ هم كثيروا الاستماع للأكاذيب وللشرور ويقبلونها ويستحبونها ويعملون بها وينشرونها، كثيروا الأكل للسُّحْت وهو كل كَسْبٍ جاء بمُعامَلَةٍ حرامٍ كالربا والرشوة وغيرهما، فهم قد جَمَعوا بين كثرة الكذب وأكل الحرام وما يُخَالِف أخلاق الإسلام.. ".. فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.." أيْ إذا كان هذا هو حالهم السَّيِّء والذي يُوجِب عدم الاهتمام بالتحكيم بينهم أصلا والانتباه إلي أنهم في غالب شئونهم لا يريدون أن يَتّبعوا الحقّ والعدل والخير ولذلك فلو فُرِض وجاءوا إليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَطلبون حُكْم الإسلام في شأنٍ مَا من شئون حياتهم فعليك بتقدير الأمر وأنت مُخَيَّر فإنْ غَلَبَ علي ظنّك أنَّ مَجِيئهم هو لطلب العدل والحقّ بصدقٍ لتحقيقه فيما بينهم فاحْكُم إذَن لأنَّ في ذلك المصلحة حيث تحقيق العدل بالإسلام قد يُوقظهم ويُنَبِّههم لأخلاقه فيُسْلِمون وإنْ غَلَبَ علي ظنك أنَّ مَجيئهم هو لطَلَب تحقيق ظلمٍ لطَرَفٍ من الأطراف تحت غطاء حُكْم الإسلام أو الاستخفاف به أو للتَّسَتُّر علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أو لِمَا شابَهَ ذلك من أضرارٍ فأعرض عنهم حينها أيْ اتْركهم يَحْتَكِمون هم فيما بينهم بحُكْم مَن يُريدون ولا تَحْكُم بينهم.. ".. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا.." أيْ وإنْ تَتْركهم فلن يَضُرُّوا إسلامك في أيِّ شيءٍ مِن خلال عداواتهم ومكيداتهم وتشويهاتهم وإساءاتهم له بسبب رفضك الحُكْم بينهم، لأنه سيَنتشر بجهود المسلمين المُخلصين الذين يُحسنون نَشْره بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ والدفاع عنه وبعوْن الله تعالي وتوفيقه وحِفظه ونصره لهم وتيسير قبول الناس له لأنه يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا وذلك لَمَّا يروا أنَّ الإسلام يُكملهم ويُصلحهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.."﴾.. ".. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.." أيْ وإنْ اخْتَرْت الحُكْمَ فاحْكُم بينهم إذَن بالعدل الذي يَأمر به الإسلام ولا تتأثّر بشرورهم ومُؤامراتهم ومُسارعاتهم في كفرهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿42﴾" أيْ إنَّ الله حتماً يحب العادِلين في كلّ تصرّفاتهم وأحكامهم وأقوالهم وأفعالهم وكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه.. وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُقسطين
ومعني "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿43﴾" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ عَجَبَاً لهؤلاء اليهود، كيف يَطلبون حُكْمَك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم – وهم لا يؤمنون بك ولا بالقرآن العظيم مع أنَّ عندهم التوراة التي يَدَّعون الإيمان بها فيها حُكْم الله صريحاً واضحاً فيما يُحَكِّمونك فيه وهو مُوَافِق تماماً لِمَا في القرآن الذي يَكفرون به؟!.. والعَجَب من أمرهم أيضا أنهم بعد ذلك يُعْرِضون عن حُكْمك إذا لم يُرْضِهم لأنه لا يُوافِق هواهم، مع أنه المُوافِق لِمَا في تَوْرَاتهم! فجَمَعوا بذلك بين الكفر بها وبك والابتعاد عن حُكْمك.. إنَّ أمرهم عجيبٌ لأنهم قد حَكّمُوا مَن لا يؤمنون به في أمرٍ حُكْمه الحقّ هو بين أيديهم، بما يُفيد أنهم لم يأتوا إليك إلا لأنهم تَوَهَّموا أنك ستَحْكُم لهم بما يُريدون من شرور ومَفاسد وأضرار مُخَالِفَة للإسلام، بما يُؤكّد أنهم لا يبحثون عن الحقّ وإلا فهو عندهم أصلا! ولو اتّبعوه لأَسْلَمُوا!!.. ".. وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿43﴾" أيْ وما هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة ومَن يَتَشَبَّه بهم قطعاً من المُصَدِّقين لا بكتابهم لإعراضهم عنه أولا وعَمَّا يُوافِقه ثانيا ولا بك والقرآن العظيم الذي أوُحِيَ إليك، لأنهم لو كانوا مؤمنين لاستجابوا لحُكْمك ولأسلموا.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتماً سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿44﴾" أيْ نحن قد أنزلنا التوراة علي رسولنا الكريم موسي ﷺ فيها هُدَي أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، لمَن يعمل بكل أخلاقها من الناس، ونورٌ بأنْ تُنير لعقولهم طريقهم في حياتهم، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لأنها كانت فيها الإسلام الذي يُناسِب زَمَنها.. ".. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا.." أيْ وهذه التوراة يَحْكُم بها للذين هادوا أيْ لليهود، ولغيرهم من الناس في زمنهم، النّبِيُّون أيْ أنبياؤهم بَدْءَاً مِن موسي ﷺ ثم مَن بعده مِن الأنبياء وهم الذين أسلموا أيْ اسْتَسْلَمُوا لوَصَايَاه وتشريعاته تعالي أيْ تَمَسَّكوا وعملوا بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم وثَبَتُوا دائما عليها.. ".. وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ.." أيْ ويَحُكم بها أيضا لهم خُلَفاء الأنبياء وهم الرَّبَّانِيُّون والأَحْبَار، والرَّبَّانِيُّون هم المُنْتَسِبون لربهم المُرْتَبِطون به المتمسّكون العامِلون بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم المُرَبِّين لذواتهم ولغيرهم عليها المُخلصون المُحسنون له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، والأحبار هم العلماء السائرون علي طريق الإسلام الذي أتَيَ به أنبياؤهم ويُعَلّمونه للناس.. ".. بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.." أيْ وكان هذا الحُكْم مِن هؤلاء جميعا بالتوراة بين اليهود وغيرهم بسبب أنَّ الله تعالى قد طَلَبَ منهم وحَمَّلَهم أمانة حِفْظِ كتابه التوراة بكل حِرْصٍ من الزيادة والنقصان والكتمان وتطبيقِ أخلاق الإسلام التي فيها في كل شئون الحياة ونشرها بين الناس ليسعد بها الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ.." أيْ وكان الأنبياء والرَّبَّانِيُّون والأحْبَار شهداء على الكتاب الذي أنزله الله تعالي وهو التوراة بأنه حقّ وصِدْقٌ ومِن عنده سبحانه وأنه صالحٌ لإصلاح البَشَرِيَّة وإكمالها وإسعادها في دنياها وأخراها، وكانوا رُقَبَاء على تنفيذ أخلاقه وتشريعاته والدعوة لها بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ بحيث لا يُهْمَل منها شيء والدفاع عنها ضدّ مَن يَعتدي عليها، وكانوا مَرْجِعِيَّات يُرْجَع إليهم لتصويب أخطاء المُخْطِئين ليسيروا علي الخير دائما كالشاهد في المحكمة الذي يُوَضِّح للقاضي رؤيته ليَحْكُم بالصواب والحقّ والعدل.. ".. فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.." أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ من أنَّ الله تعالى قد أنزل التوراة لتطبيق أخلاق الإسلام التي فيها فمِن الواجب عليكم بالتالي إذَن يا أيها اليهود أن تَقْتَدوا بأنبيائكم وصُلَحَائِكم في ذلك وأن تستجيبوا لِمَا فيها وتعملوا به والذي منه أن تؤمنوا بالرسول الكريم محمد ﷺ والقرآن العظيم الذي أوحِيَ إليه وتُسْلِمُوا وأن تجعلوا خشيتكم أيْ خوفكم مِنّى وَحْدِي لا مِن أحدٍ مِن الناس باتّباع الإسلام وعدم مخالفة أخلاقه فأنا الذي بيدي نَفْعكم وضرّكم واستعينوا بي وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أن أرُدّ عنكم أيّ سوءٍ فأنا علي كل شيءٍ قدير.. إنَّ عليكم أيها اليهود وأيها المسلمون وأيها الناس جميعا أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.." أيْ ولا تَتركوا أبداً العمل بآياتي وتَبيعوا أيَّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام لتأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره تستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه ، فإنْ فعلتم ذلك فأنتم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنكم تبيعون أعظم خيرٍ وتشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. ".. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿44﴾" أيْ وكلّ مَن لم يَحْتَكِم ويَرْجِع إلي ما أنزله الله في كتبه وآخرها القرآن العظيم وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه ولم يَعمل بها ولم يَعتبرها مَرْجِعِيَّته في كل شأنٍ من شئون حياته واحْتَكَمَ إلي أنظمةٍ وقوانين وأخلاقِيَّات تُخَالِفها، مُسْتَهِينَاً بها مُتَعَالِيَاً مُتَكَبِّرَاً عليها مُنْكِرَاً غير مُصَدِّقٍ أنها من عند الله وأنها صالحة لإصلاح البَشَر وإكمالهم وإسعادهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهؤلاء حتما هم الكافرون أي الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. أمّا مَن لم يَحْكُم بما أنزل الله من المسلمين مع تصديقه به وبصلاحيته، لتعطيله عقله بالأغشية التي يضعها عليه لتحقيق ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا الرخيصة، فهو ليس من الكافرين بل من الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام وسيَتْعَس في الداريْن علي قَدْر تَرْكه لأخلاقه لكنْ لا يُخَلّد في النار يوم القيامة كالكافرين
ومعني "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿45﴾" أيْ وفَرَضنا علي اليهود في التوراة أنَّ النفس تُقْتَل بالنفس، والعين تُفْقَأ بالعين، والأنف يُجْدَع بالأنف، والأذُن تُقْطع بالأذُن، والسِّنَّ تُقْلَعُ بالسِّنِّ، والجروح بمِثْلها قصاص ومُسَاوَاة أي يُقْتَصّ في الجروح فيُفْعَل بالجَارِح كما فَعَل فمَن جَرَحَ غيره عمداً اقْتُصَّ من الجارح جَرْحَاً مِثْل جرْحه للمَجْرُوح في ذات المكان وبذات الطول والعرض والعُمْق.. ".. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.." أيْ فمَن عَفَا وتَجَاوَزَ وتَصَدَّقَ بحقّه في القِصاص من الجانى كان هذا التّصَدُّق كفّارَة له يَمْحُو الله بها بعضاً من ذنوبه في مُقابِل ذلك بما يعادل هذا العمل الكريم العظيم ويزيده من فضله، كما أنه يكون كفّارة للجاني بأن لا يُؤَاخذه سبحانه بعد ذلك العفو.. وفي هذا تشجيعٌ علي التسامح لما فيه من نشر الألفة والمَحَبَّة والتعاون والترابُط بين الجميع ونسيان الماضي السَّيِّء والانطلاق نحو الحاضر والمستقبل فيَرْقُون ويَتَطَوَّرُون ويَسعدون في دنياهم وأخراهم.. ".. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿45﴾" أيْ وكلّ مَن لم يَحْتَكِم ويَرْجِع إلي ما أنزله الله في كتبه وآخرها القرآن العظيم وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه ولم يَعمل بها ولم يَعتبرها مَرْجِعِيَّته في كل شأنٍ من شئون حياته واحْتَكَمَ إلي أنظمةٍ وقوانين وأخلاقِيَّات تُخَالِفها، فهؤلاء حتما هم الظالمون وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿46﴾" أيْ ولكي يستمرّ صلاح الناس وكمالهم وسعادتهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أتْبَعْناهم مِن خَلْفِهم أيْ أرسلنا مِن بَعْدِهم – أيْ مِن بَعْد موسي ﷺ ومَن بَعْده من الأنبياء – عيسي ابن مريم ﷺ الذي هو قَبْل الرسول الكريم محمد ﷺ خاتم النّبِيِّين.. ".. مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.." أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة وغيرها مِمَّا يُؤْمِن به اليهود أيْ مُؤْمِناً عامِلاً بها مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْقه إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ المصدر واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به.. ".. وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿46﴾" أيْ ولأنه أيضا ما جاء به حتماً ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة حيث قد أعطيناه الإنجيل بوَحْيِنَا إيَّاه له والذي هو مِثْل التوراة فيه هُدَي أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، لمَن يعمل بكل أخلاقه من الناس، ونورٌ بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في حياتهم، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لأنه كان فيه الإسلام الذي يُناسِب زَمَنه.. ".. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿46﴾" أيْ وكما أنَّ عيسي ﷺ كان مُصَدِّقَاً لِمَا بين يديه من التوراة أيْ مؤمناً عاملاً بها مُحْتَكِمَاً إليها فكذلك الإنجيل كان هو أيضا مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها، وكان هُدَي أيْ إرْشادَاً، وموعظة أي تَذْكِرَة، للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الإرشادات والعِبَر، أمّا غيرهم فلا يَنتفعون بها، أيْ لا يَسْتَرْشِد ويَنتفع ويَسعد بها تمام الاسترشاد والانتفاع والسعادة إلا فقط المُتّقون – رغم أنها لعموم الناس – حيث هم الذين سيَتَّعِظون بما فيها وسيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون وسيَعملون وسيَلتزمون بها في كل شئون حياتهم، والمتقون هم الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله و كالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون غيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
ومعني "وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿47﴾" أيْ وعلي أهل الإنجيل أي النصاري أتْباع عيسي ﷺ الذين كانوا في زمنه قبل الرسول محمد ﷺ أن يَحْكُموا ويَعْمَلوا فيما بينهم بما شَرع الله فيه من أخلاق الإسلام التي كانت تُناسب زمنهم، والتي منها أنه مَن يَحضر منهم زمن مَجِيء الرسول الذي سيأتي بعد عيسي ﷺ وهو محمد ﷺ خاتم الرسل وزمن نزول آخر كتب الله وهو القرآن العظيم الذي يُوحِيه إليه فعليه أن يَتّبعه ويُسْلِم، وبالتالي فبعد نزول القرآن وحتي يوم القيامة مَن لم يُسْلِم منهم وبقي نصرانياً أو يهودياً أو لا دينِيَّاً أو غيره يكون كافرا.. ".. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿47﴾" أيْ وكلّ مَن لم يَحْتَكِم ويَرْجِع إلي ما أنزله الله في كتبه وآخرها القرآن العظيم وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه ولم يَعمل بها ولم يَعتبرها مَرْجِعِيَّته في كل شأنٍ من شئون حياته واحْتَكَمَ إلي أنظمةٍ وقوانين وأخلاقِيَّات تُخَالِفها، فهؤلاء حتماً هم الفاسقون أيْ الخارجون عن طاعة الله والإسلام والذين قطعاً سيتعسون في دنياهم وأخراهم علي قَدْر خروجهم وبُعْدهم عن ربهم ودينهم
ومعني "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿48﴾" أيْ وأوحينا إليك يا رسولنا الكريم القرآن العظيم بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسِب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ.." أيْ وجعلنا هذا الكتاب المُنَزَّل عليك مُصَدِّقا لما بين يديه أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة والإنجيل وغيرهما مِمَّا يؤمن به اليهود والنصاري أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول ﷺ إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يرفض الخير حتي ولو كان الذي جاءه به لا يُحِبّه كالرسول الكريم محمد ﷺ فمِن المُفْتَرَض إذَن أن تشكروه وتُحِبّوه لا أن تكرهوه!.. ".. وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.." أيْ وجعلناه كذلك حاكِمَاً مُرَاقِبَاً علي أيِّ كتابٍ سابقٍ لكي يُصَحِّحَ أيَّ مفهومٍ خاطيءٍ قد فَهِمه الناس في معانيه، وبالتالي فعَلَيَ كل أهل الكتب السابقة الذين حَضَرُوا القرآن الكريم أنْ يُسْلِمُوا لأنَّ به الإسلام الذي يُناسب البشرية كلها بكل مُتَغَيِّراتها في كل عصورها حتي يوم القيامة وليس الذي كان يُناسب عصراً سابقاً، ومَن بَقِيَ علي كتابه السابق ولم يُسْلِم ويَعْمَل بالقرآن فهو علي جزءٍ من إسلامٍ لا يُناسِب العصر ويُعَدّ كافراً لعدم تصديقه به.. ".. فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.." أيْ إذا كان شأن القرآن العظيم عظيماً هكذا كما ذُكِر فاحْكُم بالتالي إذَن يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – بين الناس في قضاياهم المُتَعَدِّدَة بكل شئون حياتهم بما أوْحَيَ الله إليك فيه وعَرَّفكَ وأعْلَمَكَ وأوْضَحه لك من خلال الوَحْي فهو المَرْجِع الذي به الأصول والقواعد التي يَرْجعون إليها والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يَختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.." أيْ وإيّاكم أيها المسلمون أن تَسيروا خَلْف شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتفعلوا مثلها فتَنْحَرِفوا عَمَّا وَصَلَ إليكم مِنّا من الحقّ والصدق والعدل والخير وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه، سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. ".. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.." أيْ واعلموا أننا وَضَعْنا لكل أمِّةٍ منكم أيها الناس شِرْعَة ومِنْهاجاً خاصَّيْن بها وأصلهما هو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه لكنْ بما يُناسبها في زَمَنِها – والشرعة أو الشريعة تعني الدِّيِن وهو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون الذي يُحْتَكَم إليه ويُعْمَل به، والمِنْهاج يعني الطريق الواضِح الخطوات المستقيم الذي يُمْشَيَ عليه، والمَعْنَيان مُتقاربان بما يُفيد مزيداً من التأكيد علي أنهما يُؤَدِّيان ويُوَجِّهان حتماً إلي كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن – فالأمَّة مثلا التي كانت منذ إرسال موسى ﷺ إلى إرسال عيسي ﷺ كانت شِرْعَتها ما في التوراة من أحكام، والأمّة التي كانت مِن بَعْد عيسى ﷺ إلي إرسال الرسول الكريم محمد ﷺ كانت شرعتها ما في الإنجيل، وأمَّا هذه الأمة الإسلامية فشريعتها ما في القرآن من أحكام والذي هو مُشْتَمِل على ما جاء في الكتب السابقة عليه من أصول الإسلام وقواعده والتي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة مع زيادة ما يُناسب العصر الذي نَزَلَ فيه والعصور التي تَلِيه بكل مُتَغَيِّراتها إلي يوم القيامة بما يُحَقّق للبَشَرِيَّة كل ما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تماماً في الداريْن.. وأهل الكتاب أيْ اليهود والنصاري ومَن كان له أيّ كتابٍ سابقٍ إنما أُمِرُوا بأنْ يَتَحَاكَمُوا إلى كتبهم قبل نزول القرآن الكريم، أمَّا بعد نزوله فقد أصبح واجباً عليهم الدخول في الإسلام واتّباع رسوله محمد ﷺ في كل ما أمَرَ به أو نَهَىَ عنه وليس لأحدٍ بعد بعثته ﷺ إيمان مقبول إلا باتّباعه وتصديقه في جميع أقواله وأفعاله ومَن لم يُصَدِّق به وبالقرآن يُعَدّ كافرا.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.." أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أي أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يَجعل الجميع مُهتدين علي طريق الخير لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه بأنْ يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، علي حسب درجات أعماله في دنياه، بينما مَن لم يشأها، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره.. وهؤلاء هم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتِّباع إسلامه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿ 99 ﴾ من سورة يونس " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾" ، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118 ﴾"، ثم الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ هذا هو نظام الحياة التي أرادها الله تعالي، وهذا هو العدل فيها، وهذا هو التنافس الشريف المُمْتِع المُسْعِد فيها كما يقول ".. وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" ﴿المُطَفّفين:26﴾ ثم علي أعلي درجات الآخرة، ولو كانت غير ذلك لَكَانت مَلَلاً! فلله الحمد حمداً كثيراً طيّباً مُبَارَكَاً فيه علي أن خَلَقَنا ووَهَبَنا نِعَمه العظيمة التي لا تُحْصَيَ.. ".. وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.." أيْ ولكنه جَعَلكم هكذا ليَختبركم فيما أعطاكم من الشرائع، لكي يَتَبَيَّن المُطيع الذي يعمل بها كلها والعاصى الذي يتركها بعضها أو كلها، فيُجازِي مَن أطاعه بما يستحقّه من الخير والسعادة في الداريْن ومَن عصاه بما يستحقه فيهما من الشرّ والتعاسة علي قَدْر عِصْيانه.. إنَّ عليكم أن تنتبهوا تماما أنه لم يجعلكم هكذا لمجرد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد ودون أيّ حِكْمَة وأنَّ الحياة الدنيا ستَنتهي هكذا بكلّ عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جَدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم أيها الناس حينما ترجعون إلينا في الحياة الآخرة بعد بَعْثكم أيْ إحيائكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم ، فلا يُمكن أن يَفعل ذلك الله سبحانه الذي تعالَيَ وارتفعَ عن كل صفةٍ لا تَلِيق حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وإنما خَلَقَ الموت والحياة بهذا النظام وأرسل لكم نظامه في الإسلام مع رسله ليُنَظّمها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ ليَبلوكم أيْ ليَختبركم، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة أيضا الآية ﴿2﴾، ﴿3﴾ من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿ 15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة﴾.. ".. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.." أي إذا كان الأمر هكذا كما ذُكِرَ لكم، فبالتالي إذَن سارعوا إلي فِعْل الخيرات دائماً مُسَابِقِين بعضكم بعضا للخير بكلّ هِمَّةٍ أيها الناس جميعا بالإيمان بربكم وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم الذي يُؤدّي بكم إلي كل الخيرات والسعادات في الداريْن.. هذا، ولفظ "فاسْتَبِقوا" يُفيد إلهاب الحماس وتشجيع الجميع علي الاستجابة حتى كأنهم في حالة سباقٍ شريفٍ يحرصون فيه متعاونين مُتَحَابِّين علي أن يسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بالجوائز العظيمة الموعود بها.. ".. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿48﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ فاسْتَبِقوا الخيرات لأنَّ إلي الله لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم فيه تختلفون من كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفتم فيها أثناء حياتكم فيُبَيِّنَ لكم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴿49﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الحُكْم بما أنزل الله.. أيْ وعليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده أن تَقْضِيَ وتَفْصِلَ بين الناس بما أنزل الله في القرآن العظيم وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه، فاجعلوه دائما المَرْجِع في كل شأنٍ من شئون الحياة، فهو الذي به الأصول والقواعد التي يُرْجَع إليها والتي تُصْلِح البَشَرَ وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يَختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل إنْ احْتَكَمُوا لأنظمةٍ وقوانين وأخلاقياتٍ تُخَالِفه مُضِرَّة مُتْعِسَة بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ التحذير منه وهو اتّباع الأهواء.. أيْ وإيّاكم أيها المسلمون أن تَسيروا خَلْف شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتفعلوا مثلها فتَنْحَرِفوا عَمَّا وَصَلَ إليكم مِنّا من الحقّ والصدق والعدل والخير في الإسلام، سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. ".. وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي التمسّك الشديد بالحُكْم بما أنزل الله.. أيْ واحذرهم حَذَرَاً شديداً أيْ كُنْ مُتَيَقّظاً مُتَنَبِّهَاً تماماً يا أيها المسلم أن يُوقِعُوك في الفتنة أيْ الشرّ والضرَرَ بأن يُبعدوك عن بعض ما أنزله الله إليك في الإسلام ولو أقلّ القليل فتَترك العمل به وإلا ستُضَرّ وتَتْعس علي قَدْر ما تَرَكْتَ وخَالَفْتَ.. ".. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ.." أيْ فإن أعطوا ظهورهم والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، فاعلم وتأكّد أنَّ هذه عَلامَة علي أنَّ إرادة الله قد حَلّت بإصابتهم بعذابٍ مناسبٍ في دنياهم بسبب بعض ذنوبهم هذه التي يرتكبونها ثم سيُحاسبهم في أخراهم علي جميعها كاملة بكل حَصْرٍ ودِقّة وعدلِ حيث عذاب الآخرة الذي لا يُوصَف.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لكلّ مَن يَبتعد عن أخلاق إسلامه بعضها أو كلها أن يعود إليها مُسرعاً قبل أن يصيبه بعض عذابٍ وشقاءٍ دنيويّ ثم أخرويّ تامّ بسبب بُعْده عنها.. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي أمثال هؤلاء لأنه مَن يُرِد الله أن يُعذّبه بسبب إضلاله بسبب تعطيله لعقله فلن تستطيع أن تهديه أو أن تنفعه بشيءٍ لم يُرِدْه الله له، فمَن هذا الذي يُمكنه أن يَمنع شيئاً مِن قُدْرة وإرادة الله تعالي إذا أراد ذلك؟! لا شك أنَّ أحداً لن يستطيع مَنْع إرادته سبحانه.. إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يريد أن يُضِلّه ويُعَذّبه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي أراد واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وعن العذاب الذي سيَنْزِل به في الداريْن؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."﴾.. ".. وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴿49﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التسْلِيَة والعَوْن علي الصبر للمسلمين حتي لا يحزنوا علي أمثال هؤلاء حيث هم كثير لأنَّ كثيراً من الناس خارجون عن طاعة الله والإسلام، وما دام الأمر كذلك فاستمرّوا أنتم أيها المسلمون علي عملكم بأخلاقه لتسعدوا به في الداريْن واصبروا علي دعوة غيركم له بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنةٍ وسيَستجيب مع الوقت مَن أحسن منهم استخدام عقله ليسعد مثلكم في دنياه وأخراه
ومعني "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿50﴾" أيْ هل يَبْغِي أيْ يريد هؤلاء الفاسقون أيْ الخارجون عن طاعة الله والإسلام حُكْم أهل الجاهلية – وهم الجهلاء لا العقلاء الذين لا يستندون لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ والذين يجهلون الإسلام وما فيه من مصلحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم – والذي يَضرّهم ويُتعسهم حتماً في الداريْن ويتركون حُكْم الله الذي أنزله في القرآن وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه والذي يُصلحهم حتما ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة فيهما؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا.." أيْ ومَن حُكْمه أحسن مِن حُكْم الله تعالى؟! والاستفهام للنفي، فإنه لا أحدَ أبداً أحسن وأفضل وأعدل وأرحم من الله حكماً لأنَّ حُكْمَه هو الذى يُنَظّم للناس كل شئون الحياة صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. ".. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿50﴾" أيْ هو نافع للمُوقنين فقط أيْ المتأكّدين بلا أيّ شكّ بوجود ربهم وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وبأنَّ قرآنه العظيم من عنده وبصدق رسوله الكريم ﷺ الذي جاء به وبصلاحيته الكاملة بما فيه من أخلاق الإسلام لإسعاد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة وذلك إذا عملوا بها كلها، هؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَسعدون بالقرآن وبحُكْم الله فيه بينما لا أثرَ له في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿51﴾ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴿52﴾ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ﴿53﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿51﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن تَتّخِذوا اليهود والنصاري والكافرين عموما أيْ غير المُصَدِّقين بما سَبَق ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء، أن تَتّخِذوهم أولياء من غير المؤمنين أيْ أولياء لأموركم وليس المؤمنين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.." أي هذا بيانٌ للسبب في المَنْع عن اتّخاذهم أولياء ومزيدٌ من التأكيد علي ذلك.. أيْ لأنهم يُوالِي بعضهم بعضاً من أجل مُعاداتكم، فكيف تُوالونهم أنتم إذَن؟! فأنتم وهم مختلفون تماما، فهم لا يؤمنون بما تؤمنون به، وهل يُعْقَل أن ينصروكم علي إخوانهم الذين هم مثلهم؟! إنهم لا يُمكن أن يُحِبّوكم، وأنتم أوْلَيَ أن يُوالي بعضكم بعضاً، فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل بالتالي أن تَتَّبعوهم في شيء، وإنما يَتَّبعهم مَن هم أولياؤهم أيْ الذين بعضهم نُصَرَاء وأحِبَّاء وأصدقاء وأعوان بعضٍ في الدنيا علي طريق الكفر والظلم والذين هم في الآخرة ستَنْقلب حتما ولايتهم هذه أيْ نُصرتهم ومَحَبّتهم وصداقتهم إلى عداوة لأنهم تَشَارَكوا وتَسَبَّبوا بدرجاتٍ مختلفة فيما هم فيه.. " .. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التحذير والتنفير الشديد من اتّخاذهم أولياء.. أيْ ومَن يتّخذهم وَلِيَّاً منكم أيها المسلمون فإنه يُعْتَبَر مِن جُمْلتهم وكأنه مِثْلهم، لأنَّ المُوالِين لهم سيكونون حتماً منافقين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ، ولأنهم بحُكْم مُوالاتهم سيكونون غالبا أو دائما مُعادِين لله وللرسول ﷺ وللإسلام والمسلمين وبذلك يُصبحون منهم قطعاً.. وخلاصة القول أنه إذا كانت الولاية لليهود والنصارى والكافرين عموماً ومَن يَتَشَبَّه بهم مصحوبة بالرضا بدينهم وبالطعن في دين الإسلام كانت كفراً وخروجا عنه، أمَّا إن كانت ليست كذلك وإنما هي على سبيل المُصَادَقَة كانت معصية تختلف درجتها بحسب درجة موالاتهم وبمِقْدار تأثر المسلمين بها.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿51﴾" أيْ إنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الظالمين، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلم – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴿52﴾" أيْ وتُشاهِد أيها الناظر المُتابِع هؤلاء الذين في عقولهم مرض وهو مرض النفاق أيْ إظهار الخير وإخفاء الشرّ يَتسابقون في مُوَالاتهم مُسابقين بعضهم بعضاً لذلك بكل هِمَّةٍ حتى كأنهم في حالةِ سباقٍ يَحرصون فيه علي أن يَسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بهذه المُوَالاة.. وفي هذا تنفيرٌ من هذا الفِعْل الشديد القُبْح حتي لا يفعله أحدٌ من المسلمين، كما أنه تحذيرٌ لهم من أمثالهم عندما يتعاملون معهم.. ".. يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ.." أي يقولون أثناء هذه المُسَارَعَة، في دواخل عقولهم أو للناصحين لهم بعدم فِعْل ذلك، مُبَرِّرين سوء فِعْلهم بما هو أشدّ قُبْحَاً يُظْهِر شدّة سُوئهم، اتركونا وشأننا فإننا نخاف أن تنزل بنا مصيبة من المصائب التي يَدور بها الزمن وتُحيط بالناس كما تحيط الدائرة بما في داخلها سواء أكانت اقتصادية أو غيرها أو أن يكون النصر لهم علي المسلمين ولذلك فنحن نُواليهم لنَتّقِي شرَّهم ولنَنتفع بعَوْنهم حينها.. إنَّ حالهم هذا يُفيد أنَّ النفاق هو من أهم أسباب التعاسة لأنه من أكبر علامات الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة، فيعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة مُتَوَهِّمَاً أنه يَخدع من معه ولا يَشعر أنهم كاشفوه بعقولهم ومِن تصرّفاته، فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس لم ينتفع بنِعَم ربه عليه وأهمها العقل والإسلام فازداد أمراضا علي أمراضه بسبب ما حَصَده بيديه من سوء أفعاله وأقواله.. فلا يكون أحدٌ من المسلمين إذن بالتالي مُنافِقَاً.. ".. فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.." أيْ هذه بُشْرَيَ عظيمة للمسلمين من الله تعالي القادر علي كل شيءٍ وهي أن يَمْنَع بجهادهم قوة أعدائهم ويَهزمهم ويأتي بالفتح أي النصر والإنجاز والغنيمة وتوسيع الأرزاق والحُكْم والسلطة والنفوذ والعلم والهُدَي والرشاد وانشراح العقل للخير وتيسير أسبابه والتنبيه والتحذير من الشرِّ والعَوْن علي عدم اتِّباعه، أيْ بالجملة سيَنصرهم في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وسيُساعدهم وسيُيَسِّر لهم نشر دعوة الإسلام وسيَفتح لهم العقول وسيُقَوِّي حجَجَهم وبَراهِينهم وسيُنصرها علي غيرها من الدعوات والأنظمة المُخالِفة لها المُضِرَّة المُتْعِسَة ليسعدوا ويسعد الجميع ويَطْمَئِنّ بانتشارها ما داموا أحسنوا الدعوة لها بالحِكمة والموعظة الحَسَنة وصَبَروا علي أذَيَ المَدْعُوين.. ".. أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.." أيْ أو يأتى بأمرٍ من عنده لا أثر لكم فيه ولا لأيِّ أحدٍ من الناس وليس من أسبابكم التي اتّخذتموها لتحقيق النصر مطلقاً بل هو منه تعالي الخالق القويّ المتين الذي هو خارج الأسباب بأن يُلْقِي مثلا الرعب في عقول أعدائكم أو يُوقِع الخلاف والاقتتال بينهم أو يُعَذّبهم بعذابٍ ما مُضْعِف مُهْلِك يُضْعِف سلطانهم ونفوذهم أو نحو هذا فينصركم عليهم ببعض جنوده هذه التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. هذا، ومن المعاني أيضا أنَّ الله يأتي بأمورٍ يكشف ويَفضح بها نفاق المنافقين فيُعْرَفون وذلك من خلال ما يَفْلِت منهم ولم يكونوا يريدون إظهاره من بعض فَلَتَات أقوالهم وأفعالهم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. وفي هذا أيضا تشجيعٌ لهم علي الاستمرار فيما هم فيه من التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم وحُسن دعوة غيرهم له والصبر علي أذاهم ودفاعهم عنها حتي بالقتال ضدّ مَن يعتدي بالقتال والتضحية في سبيلها وستَتَحقّق النتائج المُسْعِدَة بفضل الله ثم بجهودهم وتضحياتهم وينتصرون ويَنتشر الإسلام تدريجيا ويَسعد الجميع به في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أملا لأحد بشيء ثم لا يُعطيه إيّاه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التحقق من البَشَر من أجل التشجيع والدفع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم ودعوة الجميع له ودفاعهم عنه وتضحيتهم من أجله ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴿52﴾" أيْ فيَصِير حينها بعد هذا الفتح وهذا الفَضْح هؤلاء المنافقون ومَن يَتَشَبَّه بهم على ما أخْفُوا في أنفسهم من النفاق ومن مُوالاتهم لليهود والنصاري والكافرين عموما وأشباههم ومِن كُرْههم للإسلام والمسلمين وعدم ثقتهم في عَوْن ونصر ربهم ومن إضرارهم وإتعاسهم لذواتهم ولغيرهم، يصيروا نادمين أيْ مُتَأَلّمين حَزِينين أشدّ النَّدَم والألم والحُزْن علي ما فَعَلوا بعدما عايَشوا ما نَتَجَ عن جريمتهم من سوءٍ وتعاسة، في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَم.. فعَلَيَ مَن كان مِثْلهم أن يستقيظ ويعود لربه ولإسلامه قبل فوات الأوان
ومعني "وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ﴿53﴾" أيْ وحينها بعد هذا الفَتْح وكَشْف الله تعالي وفَضْحه للمنافقين يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعضٍ مُسْتَنْكِرين ما صَدَرَ عن المنافقين مِن إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ ومِن تَذْبذهم والْتِوائهم ومُرَاوَغَتهم ونِفاقهم ومِن مُوالاتهم لليهود والنصاري والكافرين عموما وأشباههم ومِن كُرْههم للإسلام والمسلمين وعدم ثقتهم في عَوْن ونصر ربهم ومِن إضرارهم وإتعاسهم لذواتهم ولغيرهم، يقولون مُشِيرين إلى المنافقين هل هؤلاء هم الذين حَلَفوا بالله تعالي علي آخر جهدهم وبكل ما يستطيعونه من أيْمانٍ أنهم معكم في الدين مؤمنون مِثْلكم مُناصِرون مُحِبّون لله ولرسوله وللإسلام وللمسلمين؟!.. لقد ظَهَرَ أنهم كانوا مع كل هذه التأكيدات ليسوا صادقين بل كاذبين مُخادِعين.. فالمؤمنون حينئذٍ يَتعجّبون مِن كذبهم وحلفهم بالكذب.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ﴿53﴾" أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع الذين قد حَبِطَت أعمالهم أيْ فَسَدَت فساداً تامّا حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيحُ بأيِّ خيرٍ في الميزان يوم القيامة وهو الكفر أيْ بطلت وذَهَبَت ولم يَجْنوا منها شيئاً ينفعهم في الداريْن حيث لم تُقْبَل عند الله تعالي وبالتالي لن يُعطيهم عليها خيراً فيهما بل سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادةٍ الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. إنهم صاروا بذلك حتما مِنَ الْخاسِرِينَ خسارة ليس بعدها خسارة حيث سيُمْنَعون بالقطع من كلّ خيرات الله وسعاداته في الدنيا والآخرة، إضافة بكلّ تأكيد أنه سيُصيبهم في حياتهم بسبب ذلك بدرجةٍ ما مِن درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في آخرتهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ المنافق هو الذي يُظْهِر الخير ويُخْفِي داخل عقله الشَّرّ، فإنْ كان الشرّ الذي يُخفيه هو كُفر بالله أيْ تكذيب بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره فهو كافر يُخَلّد في النار، أمَّا إذا أخْفَيَ ما هو غير ذلك من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنه يُحاسَب علي قَدْرها إن لم يَتُبْ منها من غير الخلود في جهنم بل يخرج بعد عقابه إلي أقل درجات الجنة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿54﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَجَنّبْتَ أشدّ التّجَنُّب أن تَرْتَدَّ عن إسلامك وأخلاقه وأنظمته أو حتي مجرّد التفكير في ذلك ولو للحظة بعدما ذقْتَ سعاداته (برجاء مراجعة الآية ﴿217﴾ من سورة البقرة، والآيات ﴿86﴾ حتي ﴿91﴾ من سورة آل عمران، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا جعلتَ العلاقة بينك وبين ربك ورسولك الكريم ﷺ وإسلامك العظيم علاقة حبّ (برجاء مراجعة الآية ﴿31﴾، ﴿32﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ سَهْلَاً لَيِّنَاً قريباً مُحِبَّاً رفيقاَ وَدوداً بَشُوشَاً ناصحاً متعاوناً خَدوماً مع المسلمين، عزيزاً في غير كِبْرٍ أو ظلمٍ شديداً قوياً مع كل مَن يعتدي علي الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين، أمّا مَن لم يَعْتَدِ فتُحْسِن إليه بإحسان الإسلام وعدله لعله يعود للخير ليسعد، كما نَبَّهنا تعالي بقوله "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾" ﴿المُمْتَحنة:8﴾.. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين لا يخافون إلا الله تعالي، لا يخافون بَشَرَاً، فالجميع ضعفاء مُقَارَنَة بقوة القويّ العزيز مالك الملك الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم الحافظ الناصر لهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿54﴾" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من الرِّدَّة عن دين الإسلام ونتائجها الشديدة السوء والتعاسة في الدنيا والآخرة.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – مَن يَرْجِع عن دينه منكم أيها المسلمون بعدما ذاق سعاداته ويصير كافرا أيْ مُكَذّباً بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويفعل لذلك بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره، فهؤلاء حتماً وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين يكفرون ومَن يَتَشَبَّهون بهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء! وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم، ولن يَضُرّوا دين الله أو المسلمين العاملين بأخلاقه بشىءٍ من الضرر، وحتي لو أصابهم ضَرَرٌ مَا فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً فهو شيء لا يُذْكَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ"﴾.. إنهم لن يَضُرّوا شيئاً لأنَّ الله تعالي سوف يأتي بَدَلهم بقومٍ خيرٍ منهم غيرهم كما خَلَقَهم هم فهو قادرٌ علي كلّ شيء، أيْ يُذهبهم ويأتِ بآخرين، إمَّا بإهلاكٍ سريع واستئصالٍ تامٍّ من الحياة بزلازل وصواعق وفيضانات ونحوها إنْ كانت شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم تستحِقّ ذلك كما يَحدث أمامهم واقعيا كثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، وإمَّا بأن يأتي تدريجيا مع الوقت مِن بعدهم مِن ذُرِّيَّاتهم وذُرِّيَّات غيرهم بأناسٍ لا يكونوا أمثالهم في سوئهم بل يكونوا صالحين عابدين لربهم وحده مُجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن، ولذلك فهو يُحبّهم وهم يُحبّونه، يُحبّهم فيُثَبِّتهم علي إسلامهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ وسعادةٍ وهم يحبّونه فيُطيعونه بكل حبٍّ وتَشَوُّقٍ وحماس، وهذا أمرٌ سهلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس عليه بعزيز أيْ صعب أو بعيد التحقّق.. وفي هذا حثّ للناس علي الاجتهاد التامّ في العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا تماما فيهما ويُسْتَبْدَلوا بغيرهم ويُعَذّبوا ويُهْلَكوا بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿31﴾ من سورة آل عمران "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿31﴾"﴾.. ".. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.." أيْ ومِن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك أنهم يتصرّفون في كل موقفٍ بما يُناسبه كما وَصَّاهم الإسلام وبما لا يَخرج أبداً عن أخلاقيَّاته، فهم فيما بينهم كمسلمين في تمام الرحمة والشفَقَة والرأفة والرِّفق واللّيِن والتواضُع والسهولة واليُسْر والقُرْب والمَحَبَّة والوُدّ والبَشَاشَة والنصح والتعاون والخِدْمَة – وليس المراد بالقطع بوَصْفهم أذِلّة أنهم مُهَانُون بل المقصود المُبَالَغَة في رحمتهم ولِينِهم ومَحَبّتهم وتعاونهم – بينما هم أشدّاء أقوياء أعِزَّاء مِن غير كِبْرٍ أو ظلمٍ مع كلّ مَن يَعتدي علي الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين، أمَّا مَن لم يَعتدِ مِن عموم الناس من غير المسلمين فيُحْسَن إليه قطعاً بإحسان الإسلام وعدله لعله يعود للخير ويُسْلِم ليَسعد في الداريْن كما نَبَّهنا تعالي بقوله "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" ﴿المُمْتَحَنَة:8﴾.. ".. يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ ومِن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة كذلك أنهم يبذلون كل أنواع الجهود ويجتهدون في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد في سبيل الله وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. فِي سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ.." أيْ ومِن صفاتهم الطيّبة الحَسَنة أيضا أنهم في كل أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم متمسّكون عامِلون بكلّ قوةٍ وهِمَّةٍ وحماسٍ وإصرارٍ بكل أخلاق إسلامهم لا يخافون أبداً أيَّ لَوْمٍ أيْ انتقادٍ أو اعتراضٍ أو رفضٍ أو عدم رضا أو ذمٍّ أو عتابٍ من أىِّ لائمٍ مهما كان سواء أكان اللّوْم من قويٍّ أو كبيرٍ أو غَنِيٍّ أو غيره وسواء أكانت اللّوْمَة شديدة أم خفيفة لأنَّ خوفهم ليس إلا من الله تعالي وحده فهم دائما يُقَدِّمون خشيته أيْ خوفه ومُرَاقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فهم لا يفعلون أبداً شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو يتركون خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما يتمسّكون ويعملون دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كانوا مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنهم يتمسّكون بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقهم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعهم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخاف الله أخاف منه كلّ شيءٍ لأنه معه بقُدْرته وعلمه إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنه أخافه من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْنه.. إنَّهم يحيون حياتهم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنه وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ.." أيْ هذا الذي ذَكَرَهُ الله تعالى من هذه الصفات الطيّبة الحَسَنة، هو حتما فضل الله عليهم أيْ عطاؤه وكَرَمه الزائد ورحمته الغامِرَة لهم.. ".. يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ.." أي مَن يشاء أيْ يُريد من الناس الهداية لله وللإسلام والنّيْل لهذا الفضل العظيم أيْ العطاء الهائل الذي لا يُقَدَّر بأيِّ قَدْرٍ يَشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه ويُعطيه له ويتفضَّل به عليه بواسِع كَرَمه فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات وخيراتها.. بينما مَن لم يَشَأ الهداية، لم يشأها قطعا له الله ولم يُيَسِّر له أسبابها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا لا ينالون فضل الله هذا إذ قد حَرَموا هم أنفسهم منه، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ ناصرٍ لهم، غير الله خالقهم، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿54﴾" أيْ وهذا الذي تَفَضَّلَ به عليهم هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ واسع أيْ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. إنه عليم بمَن يَسْتَحِقّ كل ذلك الفضل العظيم وأحسن اتّخاذ أسباب الوصول إليه.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. واطمَئِنّوا واسعدوا واحمدوا ربكم علي فضله ليزيدكم منه ولا تَغْتَرُّوا أو تَتَعَالوا علي الآخرين به فيَمنعه عنكم
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴿55﴾ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴿56﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿57﴾ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴿58﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴿55﴾" أيْ ليس اليهود ولا النصاري ولا الكافرون عموماً ولا مَن يَتَشَبَّه بهم بأوليائكم أيها المسلمون، بل وَلِيّكم أولاً وأخيراً ودائماً الله تعالي، أيْ هو وحده الوَلِيّ لأمركم الذي يُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه، إنه وَلِيّ أمركم أيْ مُحِبّكم وراعيكم وناصركم ومُعِينكم وحَلِيفكم، فهنيئاً لكم هذا، حيث سيُوَفّر لكم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ثم يَتْبَع ذلك أن يكون وَلِيُّكم رسوله الكريم ﷺ من خلال سُنَّته وطريقته وأسلوبه وكيفية تطبيقه العمليّ للإسلام.. ثم يَتْبَع ذلك أن يكون أولياؤكم كلّ المسلمين الذين يَتّصِفون بصفات الإسلام الطيّبة الحَسَنَة والتي منها أنهم يُقيمون الصلاة أيْ يُواظِبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها.. ويؤتون الزكاة أيْ ويُعطون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، ويكونون دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. وهم دائما راكعون أيْ عابدون لله تعالي أيْ مُطِيعون له مُتّبِعون كل أخلاق إسلامهم في كلّ أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم مُعِينُون لبعضهم البعض علي ذلك مُخْلصون له وحده تمام الإخلاص والإحسان غير مُشركين معه في عبادته أيَّ شيءٍ آخر (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، حيث الركوع يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها، وأيضا هو الركوع له بتواضُعٍ وخشوعٍ وسُكُونٍ في الصلاة تواضُعَاً له وحباً فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، والاكتساب من ذلك تَوَاضُعاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم اسْتِعْلاءٍ عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم بلا استكبارٍ وتقاطُعٍ مُتْعِسٍ لهم فيهما ومعني "وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴿56﴾" أيْ وكل مَن يَجعل الله ورسوله – وجَعْل الرسول ﷺ وَلِيَّاً يعني اتّخاذه قُدْوَة – والمؤمنين أولياء لكل أموره في كل شئون حياته، أيْ مُحِبِّين وراعِين وناصرين ومُعِينين وحُلَفاء، فإنه يكون من حزب الله، وإنَّ حزب الله هم حتماً المُنْتَصِرون الفائزون، أيْ يكون مِن تَجَمُّعِ الله تعالي وأتْباعه وأنصاره وأحِبَّائه، وما أعظمه وأشرفه وأقواه مِن تَجَمُّعٍ يَنتسب إلي مالِك المُلك سبحانه وهو معه ويؤيده ويُرْشِده، فهم الذين قطعاً ينتصرون ويفوزون ويفلحون وينجحون ويربحون في دنياهم وأخراهم نصرا وفوزا وفلاحا ونجاحا وربحا عظيما لا يُقارَن بشيء
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿57﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تجعلوا أبداً، ولا يَصِحّ ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل أن تَتّخِذوا الذين جعلوا دينكم الإسلام الذي يُصْلِح البشرية كلها ويُكملها ويُسعدها لأنه من الخالق الذي يعلم خَلْقه وكيفية إصلاحهم وإسعادهم، هُزُوَاً أيْ استهزاءً وسُخْرِيَة واحتقاراً حيث يَسْخَرون مِمَّا فيه ويحتقرونه، ولَعِبَاً كمُبَالَغَةٍ ومزيدٍ منهم في الاستهزاء به وذلك بالتعامُل معه بغير جِدِّيَّة وبجَعْله مَسْلاَة يَتَسَلّون بها ويضحكون عليها بَدَلَاً من تعظيمه بالعمل به، بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم، مِن الذين أُعْطُوا الكتاب قبلكم وهم اليهود الذين أعطوا التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ والنصاري الذين أعطوا الإنجيل من خلال رسولهم عيسي ﷺ ، وكذلك الكفار عموماً أيْ غير المُصَدِّقين بما سَبَق، ومَن يَتَشَبَّه بهم سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء، لا تَتّخِذوهم مطلقا أولياء من غير المؤمنين أيْ أولياء لأموركم وليس المؤمنين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها التعامُل مع غير المسلمين، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿57﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴿58﴾" أيْ ومِن مَظاهِر أنهم يتّخذون دينكم هُزُوَاً ولعباً أنكم إذا ناديتم أيها المسلمون بعضكم بعضاً إلى الصلاة عن طريق الأذان، جعلوها هُزُوَاً أيْ مَوْضِعَاً للاستهزاء والسُّخْرِيَة والاحتقار حيث يَسْخَرون مِمَّا فيها ويحتقرونها، ولَعِبَاً كمُبَالَغَةٍ ومزيدٍ منهم في الاستهزاء بها وذلك بالتعامُل معها بغير جِدِّيَّة وبجَعْلها مَسْلاَة يَتَسَلّون بها ويَضحكون عليها بَدَلَاً من تعظيمها، بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم.. ".. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴿58﴾" أيْ هذا الذي يفعلونه من الاستهزاء واللعب وغيره من السوء بسبب أنهم قوم لا يعقلون الإسلام وما فيه من الحقّ والعدل والرشاد والخير والسعادة ولا يُمَيِّزون بين ما ينفعهم وما يضرّهم فيندفعون وراء الشرور والمَفاسد والأضرار بدون إدراكٍ لنتائج الأمور.. إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴿59﴾ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴿60﴾ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ﴿61﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن حَسُودَاً تتمنّي زوال النِّعَم عن الآخرين وتَسعي لذلك.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾، ﴿9﴾، ﴿10﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن﴾.. وإذا لم تكن فاسِقَاً أيْ خارجاً عن طاعة الله والإسلام بل كنتَ عاملا بكل أخلاقه
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴿59﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ ، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل تكرهون مِنّا وتعِيبون علينا شيئاً سَيِّئاً تعتبرونه أنتم نِقْمَة أيْ بلاءً وشدّة ومصيبة لكم؟! إنكم لا تعيبون علينا وترفضون مِنَّا إلا خيراً عظيماً بل وتنتقمون مِنّا بسببه! إلاّ أنْ آمَنّا بالله والذي من المُفْتَرَضِ لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يؤمن به أيْ صَدَّقنا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكنا وعملنا بما أنزل إلينا من كل أخلاق قرآننا وإسلامنا وبما أنزل من قبله من كتبٍ علي الرسل السابقين لرسولنا ﷺ مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف، لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد وإيماننا بها استكمال لإيماننا بالله وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي علينا أن نَتّصِف به فنحن ليس بيننا وبين أهل الديانات السابقة كراهية وعداوة تمنعنا من حُسْن دعوتهم للإسلام بحُسْن التّعامُل معهم، بينما أنتم لم تؤمنوا برسولنا الكريم محمد ﷺ وبالقرآن العظيم الذي أوحي إليه فأنتم بالتالي كافرون مُكَذّبون مُعانِدون وتحسدوننا علي ذلك وتسعون بكل وسيلة لإبعادنا عن ديننا لنكون مثلكم فلا ينصحكم أحدٌ وتستمرّون علي ما أنتم فيه.. إنَّ ما تعتبرونه ذَمَّاً لنا وعَيْبَاً فينا ومُسْتَحِقّاً لكراهيتكم لنا هو علي العكس تماما فخر لكل صاحب عقلٍ ومَنْطِق!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴿59﴾" أيْ وأيضا تَنْقِمون مِنّا أنْ آمَنّا بأنَّ كثيراً منكم فاسقون أيْ خارجون عن طاعة الله والإسلام، وأنتم بالفِعْل كذلك، لأنَّ هذه الأمور التي تنقمونها مِنّا كان من المُفْتَرَض أن تشكرونا عليها أنْ وَجَّهناكم لها ووَصَّيْناكم ونصحناكم بها فتُسْلِمُوا لتسعدوا مثلنا في الداريْن لكنْ لأنَّ كثيراً منكم فاسقون نَقَمْتُم إيَّاها مِنَّا.. هذا، ولفظ "أكثركم" يُفيد أنَّ بعضهم يؤمنون فيسعدون في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴿60﴾" أيْ هذا تحذيرٌ وتهديدٌ وذمٌّ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم حتي لا يستمرّوا علي ذلك الشرّ الذي هم فيه والذي سَبَقَ ذِكْره مِن الكفر ومِن اتّخاذ دين الإسلام هُزُوَاً ولعباً ومِن النّقْمَة أيْ الكراهية والحسد للمسلمين والكَيْد لهم ومِن الفِسْق بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والذي هم بسببه في كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وإنْ استمرّوا كذلك وأصَرُّوا عليه وازدادوا فيه سيُثيبهم الله حتما أيْ يُجازيهم ويُعاقبهم بما هو أشدّ شرَّاً في الدنيا قبل الآخرة وهو أن يلعنهم ويجعل منهم القردة والخنازير وعُبَّاد الطاغوت كما فَعَلَ بالسابقين لهم مِمَّن كانوا أمثالهم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهم، مُحَذّرَاً ومُذَكّرَاً، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل أخبركم بما هو أشدّ شَرّاً في المَثُوبَة أي في الجزاء والعقاب عند الله في دنياكم ثم أخراكم من ذلك العقاب الذي تُعَاقَبون به الآن بسبب الحال والعمل السَّيِّء الذي أنتم فيه؟! إنه العقاب الأشدّ بأن يفعل بكم كما فَعَل بآبائكم وأجدادكم بأن يلعنكم أيْ يَطردكم ويُبْعدكم من رحماته وإسعاداته في الداريْن، وبأنْ يَغضب عليكم – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ يَكْرهكم كراهية شديدة لفِعْلِكم ويَنْتقم منكم بعقابه بما يُناسِب في الداريْن، وبأنْ يجعل منكم بعضكم القردة وبعضكم الخنازير إمَّا علي الحقيقة بقُدْرته سبحانه فلا تكونوا بَشَرَاً وإمّا يجعل تعالي فيكم بَلاَدَة كبلادة الحيوانات رغم بقائكم علي هيئة البَشَر بسبب أنكم قد عَطّلتم عقولكم التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان، وبأن يجعل منكم عُبَّاد الطاغوت من شِدَّة غضبه عليكم حيث لا يُيَسِّر لكم الهداية للخير بل يُسَهِّل لكم الشرّ لأنكم لم تَتّجِهُوا نحوها بأيِّ خطوةٍ حتي يُعينكم علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد : 11﴾، والطاغوت هو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن.. هذا، ومن المعاني أيضا أنْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمسلمين كذلك هل أخبركم بجزاءٍ وعقابٍ أشدّ شرَّاً من جزاء ذلك الذي يفعله هؤلاء المُسِيئين الذين سَبَقَ ذِكْرهم؟! هو جزاء مَن لعنه الله بسبب إصراره علي ما هو عليه مِن كفرٍ وسوءٍ وجَعَلَ منهم القردة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت، فلا تكونوا حتماً أمثالهم وإلا أصابكم ما يُصيبهم.. ".. أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴿60﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السَّيِّئة السابقة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع في أعلي مَنْزِلَة من الشرّ من غيرهم والذي يَستحِقّون بسببه وفي مُقابِله وبما يُناسبه أشدّ وأسوأ وأتْعَس أنواع العذاب في الداريْن، وهم أيضا أكثر ضلالا أيْ بُعْدَاً بل أبْعَد الناس من غيرهم عن سواء السبيل أيْ وسط الطريق ووسط الطريق هو دوْماً المُمَهَّد بينما جوانبه ليست كذلك والمقصود الانحراف عن الطريق السَّوِيِّ المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والخروج عنه إلي الطريق المُضطرب المُعْوَجّ المُنْحَرِف الخاطئ، طريق الشرّ والتعاسة فيهما
ومعني "وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ﴿61﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير ببعض صفاتهم القبيحة لمزيدٍ من التنفير من مُوَالاتهم.. أيْ وإذا جاء لكم – أيها المسلمون – المنافقون من بعض أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم قالوا كذباً ونِفاقاً مُظْهِرين الخير وهو الإسلام مُخْفِين الشرّ وهو الكفر، آمَنَّا، ولكنْ حالهم وواقعهم الحقيقي أنهم قد دخلوا إليكم كافرين مُمْتَزِجِين تماماً بالكفر كما خرجوا من عندكم كافرين مُمْتَزِجين به أيضا بلا أيِّ نقصان منه أو تغيير فيه مُطلقاً بل قد يخرجون أشدّ سوءَاً، فهم يَدخلون عليكم ويَخرجون من عندكم وعقولهم كما هي لا تتأثّر بأخلاق بالإسلام والتي لو عملوا بها كلها لَأَسْعَدَتْهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه مِن سوء، وذلك لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ﴿61﴾" أيْ والله حتماً أعلم منكم أيها المسلمون ومِن أيٍّ مِن خَلْقه بما كانَ ولا زَالَ يُخْفِي أمثال هؤلاء المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم بدواخلهم من شرور، وقد كشف لكم أحوالهم لكى تحذروهم وتعاملوهم بما يناسب، لأنه عليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم وأحوالكم وأقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة أيها الناس جميعا وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه، وسيُجازِي حتماً بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فليُحْسِن العاقل إذَن كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام فيما يُعْلِن وما يُخْفِي ليسعد في دنياه وأخراه
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿62﴾ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿63﴾ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿64﴾ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿65﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴿66﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا امتنعتَ تماما عن أيِّ إثمٍ أيْ شرّ، وإذا امتنعتَ تماما عن أيِّ ظلمٍ وعدوانٍ علي الآخرين سواء أكان مادِّيَّاً أم معنوِيَّاً أم غيره، وإذا امتنعتَ تماما عن أكل أيِّ سُحْتٍ وهو الرزق الحرام الذي يأتيك بمُعَامَلَةٍ حرام أيْ ضارَّة لك ولغيرك.. إنه بانتشار الشرّ والظلم والعدوان وأكل الأموال بغير الحقّ يفقد الناس أمنهم علي ممتلكاتهم وينتشر التّشَاحُن والتّباغُض والثأر والانتقام وغيره فيتعسون حتماً في دنياهم وأخراهم، والعكس صحيح قطعاً، فبانتشار كل خيرٍ وعدلٍ يأمنون ويسعدون فيهما
هذا، ومعني "وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿62﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير ببعض صفاتهم القَبِيحة لمزيدٍ من التنفير من مُوَالاتهم.. أيْ وتُشاهِد أيها الناظر المُتابِع كثيراً منهم يَتسابقون في الشرّ والعدوان علي حقوق الآخرين وظلمهم وأكل السُّحْت وهو كل كَسْبٍ جاء بمُعامَلَةٍ حرامٍ كالربا والرشوة وغيرهما مُسابِقين بعضهم بعضاً لذلك بكل هِمَّةٍ حتى كأنهم في حالةِ سباقٍ يَحرصون فيه علي أن يَسبق كلّ أحدٍ غيره ليفوز بهذه الشرور والاعتداءات والمَفاسد والأضرار والتعاسات فاعِلِين كل ذلك عَلَنَاً بكل تَبَجُّحٍ بلا أيِّ خَجَلٍ أو تَسَتّر.. وفي هذا تنفيرٌ من هذه الأفعال الشديدة القُبْح حتي لا يفعلها أحدٌ من المسلمين، كما أنه تحذيرٌ لهم من أمثالهم عندما يتعامَلون معهم.. ".. لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿62﴾" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لهم بسبب سَفَهِهِم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم.. أيْ ما أسوأ ما يقومون به من عملٍ يُؤَدّي بهم حتماً إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم
ومعني "لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿63﴾" أيْ هذا تأنيبٌ وذمٌّ للدعاة والعلماء الذين مِن المُفْتَرَض أنهم خُلَفاء الأنبياء على تَرْكهم في الماضي خُلُق الأمر بالمعروف والنهى عن المُنْكَر بالحكمة والموعظة الحسنة للعاصِين حولهم كما أنه حثٌّ وتحفيزٌ لهم لفِعْله في المستقبل، لأنَّ لفظ "لولا" في اللغة العربية إذا جاء بعده مضارع فإنه يُفيد الحثّ والتشجيع علي ما يأتي بعده وإذا جاء بعده فِعْلٌ ماض أفاد التأنيب والذمّ.. أيْ أمَاَ كان يجب أنْ ينهاهم أيْ يمنعهم الرَّبَّانِيُّون وهم المُنْتَسِبون لربهم المُرْتَبِطِون به المتمسّكون العامِلون بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم المُرَبّون لذواتهم ولغيرهم عليها المُخلصون المُحسنون له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وكذلك ينهاهم الأحبار وهم العلماء السائرون علي طريق الإسلام الذي أتَيَ به أنبياؤهم ويُعَلّمونه للناس، عن قول الشرِّ وفِعْله وأكل الحرام.. أيْ لو كانوا ينهونهم لكانوا انتهوا عن فِعْل ذلك أو بمعني آخر لولا أنهم كانوا لا ينهونهم لَمَا كانوا فَعَلوه.. ".. لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿63﴾" أيْ ما أسوأ ما يقومون به من عملٍ يُؤَدّي بهم حتماً إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم حيث تركوا أهَمّ ما يُسعد الناس ويَمنع تعاستهم فيهما وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.. هذا، ولفظ "يَصنعون" يُفيد يَعملون لكن بصنعةٍ واحترافٍ أي كانوا مِن شِدَّة سوئهم يَجعلون السكوت عن معاصي مَن حولهم ومُصَانَعَتهم – أيْ مُلاطَفتهم لا لنُصْحِهم ولكن خوفاً منهم أو لتحقيق مصلحةٍ مَا مِن عندهم – صَنْعَة لهم يتقنونها ويحترفونها من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والآية الكريمة تنبيهٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمسلمين لكي يجتهدوا ألاّ يكونوا أبداً مِثْلهم وإلاّ يُصيبهم ما أصابهم من كلّ عذابٍ وشقاءٍ دنيويّ وأخرويّ بما يُناسب بل يكونوا كلهم دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة إلي الله والإسلام والتوجيه للمعروف والنهي عن المُنْكَر بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
ومعني "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿64﴾" أيْ وقالت مجموعة من اليهود، مِن جُمْلَة ما كانوا يقولونه مِن الإثم، كذباً وزُورَاً، مُتَطاوِلين مُتَجَرِّئين علي خالقهم ورازقهم تعالي مُسِيئين الأدب معه واصِفين إيّاه بما لا يَليق ناكِرين نِعَمَه التي لا تُحْصَيَ عليهم وعلي الخَلْق جميعا، قالت يَدُ الله مَغْلُولَة، أيْ مُقَيَّدَة، أيْ هو سبحانه بَخِيل!! تعالي عَمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيراً.. ".. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا.." أيْ بسبب ما قالوا من كذبٍ وزُورٍ وقُبْحٍ وتَطَاوُلٍ عاقبهم الله بما يستحِقّونه كنتيجةٍ حَتْمِيَّةٍ تُناسب شدَّة قُبْحهم هذه بأنْ غَلَّ أيديهم أيْ قَيَّدَها أيْ جعلهم هم البُخَلَاء وأفقرهم بسبب بُخْلهم الذي يمنعهم حتي من الإنفاق علي ذواتهم وذلك في دنياهم وهو أمرٌ قد حَدَثَ بالفِعْل كما يُثْبِت الواقع ذلك حيث هم أبْخَل الناس وفي أخراهم سيُوضَعُون في الأغلال أيْ القيود ويُقْذَفون في عذابات النار التي لا تُوصَف، وكذلك لَعَنَهم أيْ طَرَدَهم وأبْعَدهم من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة، وسيَظلّون كذلك جيلاً بعد جِيلٍ إلاّ مَن يستيقظ منهم ويعود لربه ويُسْلِم فيُرْفَع عنه بالقطع هذا العقاب ويسعد فيهما.. ".. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ.." أيْ ليس الأمر كما تَدَّعُون أيها المُسِيئون بل هو سبحانه بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يداه مُمْتَدَّتَان بكلّ تَوْسِعَةٍ وزيادةٍ بكل خيرٍ ورحمةٍ – وليست يد واحدة بما يُفيد عظيم وكمال الكرم والعطاء – فهو عنده خزائن كل الخيرات والرحمات وهو واسعُ الفضل غَنِيٌّ كريمٌ عظيمٌ كاملُ الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه، فكرمه وخيره تعالي الذي لا يُوصَف يَسْبَح فيه في كل لحظةٍ جميع خَلْقه حتي المُنْحَطّين السفهاء منهم أمثالكم!!.. ".. يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ.." أيْ هذا تأكيدٌ علي كَوْن يداه مَبْسُوطتان سبحانه وبيانٌ أنه تعالي يَبْسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء، وهذا لا يَتَعارَض مُطلقاً مع كمال كرمه، حيث هو يبسطه لمَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله، ثم هو تعالي إنْ ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿26﴾ من سورة الرعد، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل).. ".. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا.." أيْ وبالتأكيد بلا أيِّ شكّ وبسبب إغلاق أمثال هؤلاء لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها والتي تَتَمَثّل في الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، سيَزيد حتماً ما أُنْزِلَ إليك من ربك وهو القرآن العظيم كثيراً منهم – وليس كلهم لأنَّ بعضهم يَستفيق ويُسْلِم – كلما اسْتَمَعُوا لبعض آياته أو ذَكّرهم أحدٌ ببعض ما فيه من أخلاق الإسلام، والتي من المُفْتَرَض أن تُسعدهم في الداريْن لو عملوا بها، سيَزيدهم ذلك كفراً بها أيْ عدم تصديقٍ لها وعِنادَاً ضدّها واستعلاءً عليها وعدمَ عملٍ بها، فيزدادون بذلك كفراً علي كفرهم كلما كفروا بآية من الآيات التي استمعوا لها أو ذُكّرُوا بها، لأنَّ الكفر درجات إذ هناك مَن يكفر ويَفعل بعض الشرور وهناك مَن يَفعل المزيد منها وهناك مَن ينشر كفره ويُؤذي الإسلام والمسلمين ويُعاديهم ويُقاتلهم وهكذا، وهم كلما استمعوا للقرآن وخَالَفوه لأنهم مُعانِدون مُسْتَكْبِرون مُصِرُّون علي عدم الاستجابة له والعمل به كلما تَجَمَّعَت حَصِيلَة مُخَالَفاتهم فيزدادون بذلك طغيانا أيْ تَجَاوُزاً شديداً في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس حيث الطغيان أيضا درجات.. إنهم مِن شدَّة كُرْهِهم لآيات القرآن لأنها تَفضحهم وتُظهر شَرَّهم وتزيد وَعْي مِن يعمل بها من المسلمين فلا يمكنهم استعبادهم واستغلال جهودهم وثرواتهم، يزدادون عَدَاءً لها ومحاولات يائسة لمنع انتشارها بنشر كفرهم وفسادهم وبذلك يزدادون طغياناً وظلماً وشرَّاً وفساداً وكفرا!!.. وإضافة لذلك فإنَّ استماعهم للقرآن وتذكيرهم به يزيدهم بالقطع سُوءَاً إلي سُوئهم حيث يزدادون قَلَقَاً وتَوَتّرَاً واضطراباً وكآبة وتعاسة، لأنه يزيد التّصارُع والتّنافُر مع فطرتهم، فهي تعرف القرآن وربها وتحبهما وتشتاق لهما بمجرد الاستماع إليهما (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ثم هُمْ بتوجيه عقولهم نحو التفكير الشرِّيّ يمنعونها ويَكبتونها بكل قوة، وهي أيضا تقاومهم بكل قوة، فيَحدث الصراع الداخليّ النفسيّ الشديد، والذي يُؤَدّي حتماً إلي مزيدٍ من التّمَزّق والضيق والكآبة والتعاسة في الدنيا، ثم لهم قطعاً ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم في الآخرة.. إنَّ في الآية الكريمة تنبيهاً للمسلمين لأخْذ الحَذَر الشديد عند التّعامُل معهم وتسلية لهم لعدم الحزن عليهم إذا لم يُسْلِموا رغم إحسان دعوتهم لله وللإسلام حيث هم لا يستحِقّون هذا الحزن لشِدّة سُوئهم وإصرارهم عليه.. ".. وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.." أيْ وعاقَبْناهم أيضا بأنْ قَذَفْنا ووَضَعْنا وأَثَرْنا وهَيَّجْنا بينهم وبين بعضهم البعض وكذلك بينهم وبين النصاري أسباب العَداء والكُرْه الدائم المستمرّ حتي يوم القيامة، كما يُرَيَ واقِعِيَّاً بين طوائفهم المختلفة، وكانوا مُسْتَحِقّين لهذا العقاب ولعله يُوقِظ بعضهم فيَستفيق ويعود لربه ويُسْلِم ليخرج من هذه الحالة ويسعد في الداريْن بدلا من تعاسته فيهما باستمراره علي ما هو فيه.. لقد بدأوا هم واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم فكأنه هو الذي أضَلّهم (برجاء مراجعة الآية ﴿5﴾ من سورة الصَّفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ هذا مِمَّا يُبَشِّر المسلمين أنهم سيَهزمونهم حتماً حيث عداوتهم فيما بينهم عداوة شديدة تَصِل إلي أن تُضْعِف قطعاً تلاحُمهم وتعاونهم وقوّتهم عموما بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات ولو حَدَث وقاتَل بعضهم بعضا وهو الأمر الذي يَحدث واقعيا بكثرة علي الثروات المتعدِّدة لَظَهَرت هذه العداوة والقوة الشديدة فيما بينهم حتي ولو كان الناظر إليهم يَتَوَهَّمهم مُجتمعين ولكنَّ عقولهم وأهدافهم ومصالحهم مُشَتَّتَة مختلفة مُتَضَارِبَة مُتَطَاحِنَة مُتَبَاغِضَة كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا بسبب هذا العداء والصراع والاقتتال الشديد بينهم علي المصالح إذ لم يَجمعهم فقط إلا عداؤهم للإسلام والمسلمين وليس أيّ واحدٍ منهم مع الآخر بل يتمني أحدهم أن يقضي علي غيره ويَتخلّص منه ويَغتصب ما يملكه في أقرب فُرْصَة!!.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ.." أيْ هذا مزيدٌ من الطمأنة والتبشير والإسعاد للمسلمين والعوْن علي الصبر علي أذاهم والتخفيف عنهم وتسليتهم وتثبيتهم.. أيْ وكلما أشعلوا ناراً للحرب بالقتال أو بتدبير المكائد والشرور المتنوِّعة الأشكال ضدّ الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير أطفأها الله ومنعها بهزيمتهم ونَصْر المسلمين عليهم ما داموا متمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامهم قد أحسنوا اتّخاذ أسباب النصر الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية والعلمية وغيرها.. ".. وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي سُوئهم وقُبْحِهم.. أيْ وحال أمثال هؤلاء المُسيئين أنهم غالبا أو دائما يَمْشُون ويَجِدُّون ويَنْشَطون في الأرض ليُفسدوا فيها ويُتْلِفوا ويُخَرِّبوا الزرع والنسل وكل ما تقوم به الحياة للبَشَر – وحتي للدَوَابّ – ويؤذوهم إيذاءً شديداً ويُوقِعوا الفِتَن والخِلافات بينهم بفعلهم لكل أنواع الجرائم والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات.. ".. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿64﴾" أيْ والله تعالي بالقطع يحب الصلاح المُفيد المُسْعِد ولا يحب مُطلقا المُفْسِدين أيْ الفاعلين لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب فساده.. وهذا تحذيرٌ شديدٌ لهم – ولمَن يَتَشَبَّه بهم – لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿65﴾" أيْ ولو أنَّ اليهود والنصاري صَدَّقوا بالرسول الكريم محمد ﷺ وبما أُوحِيَ إليه وهو القرآن العظيم وأسْلَموا وعملوا بأخلاق الإسلام واتّقَوْا أيْ وخافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، لو أنهم فعلوا ذلك لكَفّرنا عنهم سيّئاتهم أيْ لسَتَرْنا عليهم بالتأكيد شرورهم وسامَحناهم فمَا حاسبناهم ولا عاقبناهم عليها ومَحَوْناها وأزَلْناها كأنْ لم تكن ومَحَوْنا عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وسَتَرْنَاها وأخْفَيْناها فلا نُعَذّبهم بفَضْحهم بها فيهما لتوبتهم منها وعودتهم إلينا باتّباع أخلاق إسلامهم، فالإسلام يَمْحُو ما قَبْله مِن سوءٍ مهما كان، فيعيشون بذلك دائما في إطار رحمتنا التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، ولأدْخَلْناهم مُؤَكّدَاً في الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. إنَّ الله لا يُخْلِف وَعْده مُطلقاً.. وفي هذا تشجيع لهم وللناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴿66﴾" أي هذا بيانٌ لجَنّاتِ وسعاداتِ الحياة الدنيا التي يَعِدُهم والجميع بها الله تعالي الذي لا يُخْلِف الوَعْد أبداً والتي سيَعيشون فيها لو عملوا بكل أخلاق الإسلام حيث كل خيرٍ ورزقٍ وأمنٍ وسعادة، وذلك بعد وَعْدهم بجنات وسعادات الآخرة.. أيْ ولو أنَّ اليهود والنصاري كانوا دائما قائمين واقفين مستقيمين علي دين الله أي مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يميناً أو يساراً علي العمل بالإسلام الذي في التوراة والإنجيل علي أكمل وَجْهٍ مُمْكِنٍ والذي كان مناسباً للزمن السابق قبل مَجِيء الرسول الكريم محمد ﷺ ، وأقاموا أيضا ما أُنْزِلَ إليهم من ربهم لمَن حَضَره منهم وهو القرآن العظيم الذي أُوحِيَ إليه أي آمَنوا به واتّبَعوا الإسلام الذي فيه والذي هو المُناسِب لكل الأزمنة والذي يُسْعِد البشرية كلها بأنظمته المُتَكَامِلَة في كل شئون حياتها في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، لو أنهم فَعَلوا ذلك – وجميع الناس – لأتَاهم حتماً الرزق الواسع بكل أشكاله من كل ناحية ولَعَمَّهم الخير وأفاضَ عليهم من كل جهة يَسْعَوْن فيها بكل يُسْرٍ وبَرَكَةٍ أيْ زيادةٍ ولَعَاشوا آمنين مطمئنين سعيدين مُنتفعين تمام الانتفاع بكل خيراتِ ربهم النافعة المُسْعِدَة في كل شئون حياتهم بكل لحظاتها، وذلك بقُدْرته ورحمته وكَرَمه الخالق المالِك للمُلك كله الرزّاق الكريم الوهّاب الودود الرحيم سبحانه.. ".. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ.." أيْ وأهل الكتاب ليسوا مُتساوين في الكفر والسوء الذين سَبَقَ ذِكْره، فليس كلهم أشراراً بل منهم أخيار علي خيرٍ عظيم، فمنهم مجموعة مقتصدة أيْ سَالِكة القَصْد، أي سائرة في الطريق المستقيم لا تَعْدِل أيْ لا تَنْحِرف عنه لغيره، أي بَقِيَت علي القصد السليم، أي علي العَدْل، أي علي العهد الذي عاهَدَت الله عليه، أي كانت مسلمة علي الإسلام الذي كان في التوراة والإنجيل ولمَّا حَضَرَت القرآن العظيم آمَنَت به وأسْلَمَت وكانت من المسلمين.. هذا، ومن معاني مُقْتَصِدَة أيضا أيْ متوسطة في عداوتها للإسلام والمسلمين – من الاقتصاد أي الادخار – فهي تبقي علي كفرها لكن بصورةٍ ليس فيها عِناد واستكبار وإيذاء للآخرين.. ".. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴿66﴾" أيْ وإلى جانب هذه المجموعة القليلة المُقْتَصِدَة عدد كبير منهم ساء عملهم وقولهم بما يثير التّعَجُّب لمُخَالَفته لأيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ حيث التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والعداء للإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات ﴿113﴾ "لَيْسُوا سَوَاءً.."، ﴿114﴾، ﴿115﴾ من سورة آل عمران﴾
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿67﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿67﴾" أيْ يا أيها المَبْعُوث من الله للناس جميعا لتبليغهم الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ومُناداته ﷺ بلفظ الرسول هو لتشريفه بهذا الوصف الكريم المُنْتَسِب للخالق سبحانه، ويا كل مسلم مِن بَعْده والذي هو داعي إلي الله والإسلام بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور، وَصِّل للجميع كل ما أُنْزِلَ إليك من ربك – أي مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – من أخلاق الإسلام في القرآن العظيم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ، ولا تَكْتم أيَّ شيءٍ منه، وإنْ لم تفعل أيْ إذا لم تُبَلّغ ما أنزل إليك من ربك فما اسْتَجَبْتَ لأمره، وستُحَاسَب أيها المسلم علي تقصيرك هذا المُضِرّ المُتْعِس إذا لم يكن لك عُذر مَقْبُول عنده تعالي وهو الذي يعلم حقيقة صِدْق عُذْرك وما يَخْفَيَ بداخل عقلك، حيث بذلك التقصير سيَفتقد الناس مَصْدر سعادتهم في الداريْن وسيَنتشر الشرّ بينهم ويَتعسون فيهما.. ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.." أيْ هذا طمأنة وتبشيرٌ وإسعادٌ للمسلمين وعوْنٌ لهم علي الصبر علي أذي من يؤذيهم وتخفيفٌ عنهم وتسليتهم وتثبيتهم وتذكيرهم بأنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ والله خالقك القادر علي كل شيءٍ المُعِين للمتمسّكين العامِلين بدينهم قطعاً يَعْصِمك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه به أيْ يُحَصِّنك ويَحميك ويَمنعك من المُسِيئين من الناس، برحماته وأفضاله عليك وبقُدْراته وجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، يَعصمك مِن قتلهم، ومِن أذاهم، وحتي لو آذوك بضَرَرٍ ما قوليّ أو فِعْليّ فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً فهو شيء لا يُذْكَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ"﴾.. إنه يَعصمك أيها المسلم إنْ تَمَسَّكْتَ واعْتَصَمْتَ به ثم بالصالحين حولك وتمسّكتم واعتصمتم جميعا بكل أخلاق إسلامكم، فسيَعصمكم بذلك أيها المسلمون الصالحون معنوياً نفسياً، بأنْ يَعْصِم إرادة عقولكم فلا يَتَسَرَّب إليها أيُّ شكّ في ربكم ودينكم، وسيَعصم إسلامكم فينتشر بأنْ يُحَرِّك فطرة عقول مَن تدعوهم نحوكم وبأنْ يُبْطِل جهود مَن يريد منعها، وسيَعصمكم جسدياً بأنْ يُنجيكم من كيدهم وما قد يُصيبكم منهم فلن يَضرّكم بل سيُخَفّفه عنكم وستشعرون بمجرّد أذي خفيف تتحملونه وستزدادون جَلَدَاً وصبراً وخبرة وانطلاقاً بقوةٍ أكثر نحو تبليغ أمانة الإسلام، وحتي لو اسْتُشْهِدَ منكم أحدٌ فقد كَرَّمَه ربه واختاره شهيداً حَيَّاً إلي جواره في أعلي عِلّيِّين مع النبيين والصِّدِّيقين وسيَستكمل الدعاة الآخرون الصالحون الصادقون الطريق فتستمرّ دعوة الإسلام حتي تَسعد بها البشرية كلها إلي يوم القيامة، وسيُبْطِل الله تعالي كَيْد كلّ الكائِدين.. وبالتالي وما دام الأمر كذلك فاستمرّوا علي تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم ونشره كله بلا أيّ نقصانٍ والدفاع عنه بما تستطيعون مع اتّخاذ أسبابِ حُسْن الدعوة والحَذَر ما أمكن ولا تَخشوا أيَّ أحدٍ من الناس بل اخشوا ربكم وحده، فالمُسِيئين المُعْتَدِين منهم الذين لا تَنْقَطِع أكاذيبهم وتشويشاتهم واعتداءاتهم المُتَعَدِّدَة لا تخافوا مَكائدهم وحجَجهم واعتراضاتهم فهي لا يُهتمّ بها ولا يُلْتَفَت إليها ولا تضرّكم لأنها ضعيفة لا قيمة لها حيث لا تَستند لأيّ دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ وهي لا تَثْبُت أمام الحقّ الذي جاء به الإسلام، وخافوني باتّباعه وعدم مُخَالَفَة أخلاقه واستعينوا به وتوكّلوا عليَّ وأنا حتما ربكم الكفيل تماما أن أرُدّ عنكم مكائدهم القولية والفعلية فأنا علي كل شيء قدير.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أن تكونوا دائما مِن الذين يُقَدِّمون خشية الله تعالي أيْ خوفه ومراقبته وتعظيم هيبته في كل قولٍ وعملٍ علي خشية الناس، فإيّاكم أن تفعلوا شرّاً مَا لأنهم يريدونه أو هو مِن عاداتهم وتقاليدهم ونحو هذا أو تتركوا خيراً ما – ومنه الدعوة لله وللإسلام – لأنهم لا يريدونه أو ليس من بيئتهم وعُرْفهم الذي عَرفوه وما شابه ذلك، وإنما عليكم التمسّك والعمل دوْما بكل أخلاق الإسلام أينما كنتم مع حُسن دعوتهم له وللخير الذي فيه بما يُناسِبهم ويُناسب ظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم.. إنَّ عليكم أن تتمسّكوا بالحقّ دائما مهما كانت الظروف والأحوال مُسْتَقْوِين بقوّة خالقكم القويّ المَتِين ثم بقوة تَجَمّعكم، فكل مخلوق مهما كان هو ضعيف ولا شيء قطعا بالنسبة لخالقه.. إنه مَن يَخافني أخَفْتُ منه كلّ شيءٍ لأني معه بقُدْرتي وعلمي إضافة لقوّة الحقّ التي يمتلكها والتي تُزَلْزِل أيَّ باطلٍ ومَن لم يَخف مِنّي أخفته من كلّ شيءٍ لأنه قد فَقَدَ عوْني.. إنَّ عليكم أن تحيوا حياتكم كلها مُتَوَازِنين بين الخوف مِنّي وأنا الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائي الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وأنا الكريم الرَّزَّاق (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) .. هذا، والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿67﴾" أيْ إنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الكافرين – أيْ المُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من كفرٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيِّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. إنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه تعالي لن يهدي أيْ يُوصل أبداً أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لأيِّ طريقٍ يُمكنهم من خلاله مَنْع نَشْر الإسلام وسعاداته بين الناس
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿68﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿69﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما أنك لا شيء بدون أخلاق الإسلام!! فأنت بدونها لست علي أيِّ شيءٍ حقيقيٍّ لا وَهْمِيٍّ مِن فضلٍ أو مَكًانَةٍ أو دينٍ أو خُلُقٍ أو علمٍ بالحياة وأهدافها حتي ولو حَصَّلتَ من علومٍ أخري الكثير (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة﴾، إلاّ أن تُقيمها في ذاتك، بالتمسّك والعمل بها كلها، وتُقيمها فيمَن حولك بحُسْن دعوتهم لها بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، حينها سيكون لك وللجميع الشيء العظيم، المكانة والفضل والعِزّة والكرامة والنصر والقيادة لكلّ خيرٍ والرزق والقوة، وبالجملة السعادة التامّة، في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿68﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتابٌ من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ – ويُناديهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا – اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أنتم لستم علي شيءٍ من الدين الحقّ، أيْ لستم علي الصدق والعدل والصواب والخير والسعادة، بل أنتم علي الضلال أيْ الضياع أيْ علي الكذب والظلم والخطأ والشرّ والتعاسة، وستَظَلّون كذلك حتي تُقِيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم أي إلي أن تكونوا دائما قائمين واقِفين مُستقيمين علي دين الله أي مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يميناً أو يساراً علي العمل بالإسلام الذي في التوراة والإنجيل علي أكمل وَجْهٍ مُمْكِنٍ والذي كان مناسباً للزمن السابق قبل مَجِيء الرسول الكريم محمد ﷺ وتُقيموا أيضا ما أُنْزِلَ إليكم من ربكم لمَن حَضَره منكم وهو القرآن العظيم الذي أُوحِيَ إليه أيْ تؤمنوا به وتَتّبعوا الإسلام الذي فيه والذي هو المُناسِب لكل الأزمنة والذي يُسْعِد البشرية كلها بأنظمته المُتَكَامِلَة في كل شئون حياتها في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، فإنْ قُمْتُم بذلك وأصبحتم مسلمين حينها سيكون لكم معهم الشيء العظيم، المَكَانَة والفضل والعِزّة والكرامة والنصر والقيادة لكلّ خيرٍ والرزق والقوة، وبالجملة السعادة التامّة، في الدنيا والآخرة.. ".. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا.." أيْ وبالتأكيد بلا أيِّ شكّ وبسبب إغلاق أمثال هؤلاء لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها والتي تَتَمَثّل في الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، سيَزيد حتماً ما أُنْزِلَ إليك من ربك وهو القرآن العظيم كثيراً منهم – وليس كلهم لأنَّ بعضهم يَستفيق ويُسْلِم – كلما اسْتَمَعُوا لبعض آياته أو ذَكّرهم أحدٌ ببعض ما فيه من أخلاق الإسلام، والتي من المُفْتَرَض أن تُسعدهم في الداريْن لو عملوا بها، سيَزيدهم ذلك كفراً بها أيْ عدم تصديقٍ لها وعِنادَاً ضدّها واستعلاءً عليها وعدمَ عملٍ بها، فيزدادون بذلك كفراً علي كفرهم كلما كفروا بآية من الآيات التي استمعوا لها أو ذُكّرُوا بها، لأنَّ الكفر درجات إذ هناك مَن يكفر ويَفعل بعض الشرور وهناك مَن يَفعل المزيد منها وهناك مَن ينشر كفره ويُؤذي الإسلام والمسلمين ويُعاديهم ويُقاتلهم وهكذا، وهم كلما استمعوا للقرآن وخَالَفوه لأنهم مُعانِدون مُسْتَكْبِرون مُصِرُّون علي عدم الاستجابة له والعمل به كلما تَجَمَّعَت حَصِيلَة مُخَالَفاتهم فيزدادون بذلك طغيانا أيْ تَجَاوُزاً شديداً في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس حيث الطغيان أيضا درجات.. إنهم مِن شدَّة كُرْهِهم لآيات القرآن لأنها تَفضحهم وتُظهر شَرَّهم وتزيد وَعْي مِن يعمل بها من المسلمين فلا يمكنهم استعبادهم واستغلال جهودهم وثرواتهم، يزدادون عَدَاءً لها ومحاولات يائسة لمنع انتشارها بنشر كفرهم وفسادهم وبذلك يزدادون طغياناً وظلماً وشرَّاً وفساداً وكفرا!!.. وإضافة لذلك فإنَّ استماعهم للقرآن وتذكيرهم به يزيدهم بالقطع سُوءَاً إلي سُوئهم حيث يزدادون قَلَقَاً وتَوَتّرَاً واضطراباً وكآبة وتعاسة، لأنه يزيد التّصارُع والتّنافُر مع فطرتهم، فهي تعرف القرآن وربها وتحبهما وتشتاق لهما بمجرد الاستماع إليهما (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ثم هُمْ بتوجيه عقولهم نحو التفكير الشرِّيّ يمنعونها ويَكبتونها بكل قوة، وهي أيضا تقاومهم بكل قوة، فيَحدث الصراع الداخليّ النفسيّ الشديد، والذي يُؤَدّي حتماً إلي مزيدٍ من التّمَزّق والضيق والكآبة والتعاسة في الدنيا، ثم لهم قطعاً ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم في الآخرة.. إنَّ في الآية الكريمة تنبيهاً للمسلمين لأخْذ الحَذَر الشديد عند التّعامُل معهم وتسلية لهم لعدم الحزن عليهم إذا لم يُسْلِموا رغم إحسان دعوتهم لله وللإسلام حيث هم لا يستحِقّون هذا الحزن لشِدّة سُوئهم وإصرارهم عليه.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية ﴿64﴾ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿68﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن لا تَحْزَن يا رسولنا الكريم علي أمثال هؤلاء القوم الكافرين – ومَن يَتَشَبَّه بهم – أيْ المُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَر مَن يكفر، ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن مثل رسولك الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول ﷺ "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" ﴿رواه الترمذي﴾.. إنهم بذلك حتماً وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي في أيّ شيءٍ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا! بل الذين يكفرون ومَن يَتَشَبَّهون بهم هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء! وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. كذلك من المعاني أنهم لن يَضُرّوا دين الله أو المسلمين العاملين بأخلاقه بشىءٍ من الضرر، وحتي لو أصابهم ضَرَرٌ مَا فسيكون ضَرَرَاً خفيفاً نِسْبِيَّاً غير مُؤَثّرٍ تأثيراً كبيراً يَزول أثره عاجلاً أو آجلاً فهو شيء لا يُذْكَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿111﴾ من سورة آل عمران " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ"﴾
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿69﴾" أيْ هذا دعوةٌ وتشجيعٌ لكلّ أصحاب الأديان الأخري غير الإسلام أن يُسْلِموا حتي يسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي في الآيات السابقة حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.." أيْ المسلمون، الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بالرسول الكريم محمد ﷺ وبالقرآن العظيم.. ".. وَالَّذِينَ هَادُوا.." أيْ اليهود الذين أسلموا واتّبعوا الإسلام الذي في التوراة التي جاءهم بها رسولهم موسي ﷺ وَحْيَاً من عند الله تعالي والذي كان مناسباً لعصرهم.. ".. وَالصَّابِئُونَ.." أيْ الذين لا دين لهم أو لم يَصِلْهم دين الإسلام، جمع صَابِيء وهو تارك الدين.. ".. وَالنَّصَارَىٰ.." أيْ المسيحيين الذين اتّبعوا المسيح عيسي ابن مريم ﷺ وما معه من إسلامٍ مناسبٍ لعصرهم في الإنجيل الذي جاءهم به وَحْيَاً منه سبحانه.. ".. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿69﴾" أيْ كلّ هؤلاء الذين علي غير دين الإسلام مِن اليهود والنصاري والصابئين وغيرهم، مَن يُؤمِن منهم بالله، أيْ يُصَدِّق بوجوده وبرسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبكتبه وآخرها القرآن العظيم – والمسلمون مؤمنون قطعا ومعني مَن آمنَ في حقّهم مقصوده تذكرتهم بالاستمرار علي إيمانهم والعمل بكل أخلاق إسلامهم – ويؤمن باليوم الآخر أيْ بالبَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت وبالحساب والعقاب والجنة والنار، وعَمِلَ صالحاً أيْ وعمل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته، فهؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وهم أيضا بسبب ذلك حتماً لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أي دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا .. هذا، والعكس صحيح بالقطع، أيْ مَن بَقِيَ علي اليهودية أو النصرانية أو بلا دينٍ ولم يُسْلِم، أو مَن كان مسلما لكنه يترك العمل بأخلاق إسلامه كلها أو بعضها، فأمثال هؤلاء سيكونون في خوفٍ وحزنٍ وتعاسةٍ في الداريْن علي قَدْر بُعدهم عن ربهم وإسلامهم
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴿70﴾ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿71﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴿70﴾" أيْ لقد أخذنا عَهْداً ووَعْداً مُؤَكَّداً من بني إسرائيل أيْ اليهود من خلال ما أوْصيناهم به في التوراة – وهذا العهد هو أيضا مع جميع الخَلْق منذ آدم حتي يوم القيامة في كل كتب الله تعالي وآخرها القرآن العظيم – أن لا يعبدوا أيْ لا يُطيعوا إلا الله وحده ولا يشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾، وأن يعملوا بكل أخلاق الإسلام التي فيها في كل شئون حياتهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وأرسلنا إليهم رسلاً أيْ بَعَثنا إليهم مَبْعُوثين كثيرين من عندنا كل فترةٍ من الزمن ليُعَلّموهم إسلامهم وليُدَاوِمُوا تَذْكِرَتهم فلا يَنْسُوا، ولكنهم كانوا كلما جاء وحَضَر إليهم رسول بوَحْيٍ من عندنا فيه شَرْعنا الإسلام والذي هو بما لا تُحِبّه عقولهم من شرور ومَفاسد وأضرار نَقَضُوا ميثاقهم واسْتَعْلوا عن اتّباعه والإيمان أيْ التصديق به واتّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها ليسعدوا في الداريْن فأدَّيَ بهم هذا النقض لميثاقهم والاستعلاء علي الرسل أنْ كذّبوا فريقاً منهم وقتلوا فريقاً آخر ولم يكتفوا فقط بتكذيبهم.. فلا يَتَشَبَّه بهم إذَن أيُّ أحدٍ من المسلمين ولْيَتّعِظ كلّ عاقلٍ حتي لا يَتْعس مِثْلهم في الداريْن
ومعني "وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿71﴾" أيْ وظَنّوا وتَوَهَّمُوا مُنْخَدِعِين بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره أن لا تكون فتنة تَحْدُث لهم أيْ مَضَرَّة وشرّ وتعاسة بسبب وفي مُقابَل ما فعلوه من تكذيبِ رسلهم وقَتْلِ بعضهم وعدم اتّباع إسلامهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، لأنَّ بعضهم لا يُصِدُّق أصلا بوجود خالقٍ يُراقبهم ويُعاقبهم! أو لأنه سبحانه يُؤَخّر عقابه أحيانا أو كثيراً رحمة بخَلْقه، ليُعطيهم الفُرَصَ ليستفيقوا وليعودوا للخير من تِلْقاء ذواتهم بفطرةِ عقولهم المَفْطُورة والمُبَرْمَجَة أصلاً علي الخير (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فبسبب ذلك، بسبب التّوَهُّم بألاّ تكون لهم فتنة، أيْ التّوَهُّم بألاّ يُعاقَبوا من الله بما يُناسِب سُوئِهم في دنياهم قبل أخراهم، ازدادوا وتَمَادَوْا في عَمَاهم وصَمَمِهم عن الحقّ الذي في الإسلام الذي بالتوراة فلم يُبْصِروه ولم يَسمعوه سَمَاع تَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ وتَعَمُّقٍ واتّباعٍ ففَعَلوا ما فَعَلوا مِن شرور!!.. إنهم لم يعملوا بما سَمِعُوا ورَأَوْا من الآيات فيها فصاروا كالصُّمّ العُمْي.. ".. ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ.." أيْ ثم لَمَّا استفاقوا وتابوا بأن استغفروا من ذنوبهم ونَدموا وعَزموا بالعقل علي عدم العودة ورَدّوا الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم، ورَجَعوا إلي ربهم وإسلامهم وتَرَكوا ما كانوا عليه مِن شرّ وفعلوا كلّ خير، تاب الله عليهم أي غفر لهم ذنوبهم وتجاوَز عنها وسامَحهم وأزالَ عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وأصلح أحوالهم وأسعدهم بعد أن كان منهم ما كان مِن سوء.. ".. ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ.." أيْ ثم بعد حالهم السعيد هذا وتَذَوُّقهم حلاوة توبتهم والحياة بأخلاق إسلامهم، كثيرٌ منهم لم يستمرّوا عليه – وليس كلهم حيث قليلٌ منهم استمرّ علي توبته وخيره عامِلاً بإسلامه سعيداً به – نَقَضُوا عهدهم مع ربهم وانتكسوا ورجعوا عن طاعته واتّباع الإسلام حيث عَمُوا وصَمُّوا مرة أخري فصاروا كالعُمْي الصُّمّ المُعَطّلين لعقولهم السائرين علي غير هُدَيً في كل شرٍّ الفاعِلين له المُنْغَمِسين فيه المُصِرِّين عليه وكل ذلك من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة، فعَاقَبهم الله بما يُناسب ذلك من كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. ".. وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿71﴾" أيْ والله يَراهم ومُطّلِع على أعمالهم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون في الدنيا قبل الآخرة بكل شرٍّ وتعاسةٍ علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم ولأيّ أحدٍ يفعل مِثْلهم حتي لا يكون مصيره مصيرهم
لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿72﴾ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿73﴾ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿74﴾ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿75﴾ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿76﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿72﴾" أيْ بالتأكيد قد كفر بعض هؤلاء النصارى الذين قالوا كذباً وزُورَاً إنَّ الله الخالق المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة هو المخلوق المسيح عيسى ابن مريم، تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا.. أيْ صاروا بذلك كافرين، أيْ مُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ومُعاندين ومُستكبرين ومُستهزئين وبالتالي فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهة نظرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.." أيْ قالوا ما قالوا من كذبٍ قبيحٍ سفيهٍ والحال والواقع أنَّ المسيح قال مُكَذّباً لمَن وَصَفه بالألوهِيَّة مُتَبَرِّئاً مِن قوله بحُجَجٍ قاطعةٍ حاسمةٍ يا بنى إسرائيل اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، فأنا لست إلهاً بل الله هو ربي وربكم أيْ مُرَبِّيني ومُرَبِّيكم وخالِقي وخالقكم ورازقي ورازقكم وراعيني وراعيكم ومُرْشِدي ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا في دنيانا وأخرانا، أطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، لأنَّه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة، فلا يَدَّعِي أحدٌ أبداً أنه ربّ الناس والخَلْق الآن وعليهم أن يعبدوه لأنه حتما سيكون كاذبا لأنه لو كان كذلك فمَن إذَن الذي خَلَقَ الخَلْقَ السابق قبل أن يُولَد هذا المُدَّعِي الكاذِب؟!!.. ".. إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ.." أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من عبادة غير الله تعالي وبيانٌ للمصير السَّيِّء التّعِيس في الدنيا والآخرة لمَن يَفعل ذلك.. أيْ إنَّ الذي يُشرك مع الله في عبادته أيْ طاعته غيره كأنْ يعبد مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، أو يَتّبِع نظاماً وتشريعاً مُخَالِفاً لنظام وشَرْع الإسلام، أو ما شابه هذا، ويموت علي ذلك بلا توبة، فحتماً بالتأكيد سيُحَرِّم الله عليه الجنة أيْ سيَمنعه من دخولها والتّمَتّع بسعاداتها التي لا تُوصَف ومَرْجعه في الآخرة الذي يَأْوي إليه ويَسْتَقِرّ فيه إلي ما شاء الله هو عذاب النار الذي لا يُوصَف يُعاقَب فيه علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصير إليه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي يكون فيه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما.. هذا، وهذه الجملة الكريمة وما بعدها قد تكون من كلام عيسي ﷺ أو من كلامه سبحانه.. ".. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿72﴾" أيْ وليس للظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيّ أعْوانٍ في الدنيا إذا نَزَلَ بهم عقابٌ مَا من الله تعالي فيها يتمثل في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ولا في الآخرة حتماً حيث سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ، فهم حينها لن يجدوا لهم مِن عذابه الدنيويّ أو الأخرويّ أيَّ مُدَافِعٍ عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
ومعني "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿73﴾" أيْ بالتأكيد قد كَفَرَ كذلك بعض هؤلاء النصارى الذين قالوا كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً إنَّ الله الخالق المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة هو ثالث ثلاثة آلهة حيث عيسي وأمّه شركاء له في الألوهِيَّة!! تعالي الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.. ".. وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ.." أيْ والحق الثابت وليس الكَذِب الذي يَكْذِبون أنه ليس في هذا الوجود إله مُسْتَحِقّ للعبادة إلاّ إله واحد أيْ مَعْبُود واحد بلا أيِّ شريك ولا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وهو الله رب العالمين خالِق البَشَر بقُدْرته – والكوْن كله بكل مخلوقاته المُعْجِزات المُبْهِرَات – ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام، وإليه وحده مَرْجِعهم لحسابهم يوم القيامة، سبحانه أيْ تَنَزَّهَ وابْتَعَدَ وتعالَيَ عُلُوَّاً كبيراً عن كل صفةٍ لا تَلِيق به كأنْ يكون له ولد أو زوجة تُنْجِب له أبناءً أو نحو ذلك من صفات المَخْلُوقين لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ولأنه لا حاجة له لمُعِينٍ أو شريكٍ أو غيره.. ".. وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿73﴾" أيْ وإذا لم يَتَوَقّف ويَمْتَنِع تماماً أمثال هؤلاء عن كذبهم وزُورهم وسَفَههم وخَبَلِهم تَوَقّفاً وامتناعاً كاملاً عن هذا الذي يقولونه من كذبٍ وزُورٍ وسَفَهٍ وخَبَلٍ ويعودوا لتوحيد الله تعالي ويُسْلِموا فلا بُدّ حتماً بالتأكيد أن يُصِيب الذين استمرّوا وأصَرّوا على الكفر منهم عذاب أليم أيْ مُؤْلِم مُوجِع في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْلهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، ولفظ "منهم" يُفيد أنَّ بعضهم يعود عن كفره ويُسْلِم ويَسعد في الداريْن
ومعني "أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿74﴾" أيْ ما لهم هؤلاء الكافرون المُكذّبون المَخْبُولُون الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم؟!! لماذا لا يتوبون أيْ يَرْجِعون إلي الله ويسألونه المغفرة والعفو مِمَّا صَدَرَ منهم من كفرٍ وشرورٍ ومَفاسد وأضرار ويُسْلِمون؟!! والحال والواقع المُؤَكّد أنَّ الله غفور رحيم أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. هل لا يتوبون لأنهم قد غفلوا وانشغلوا عن الله والإسلام والتوبة وأهملوا كل ذلك أم لأنهم في حقيقة الأمر قد وَضَعوا الأقفال علي عقولهم بحيث تكون مُغْلَقَة تماما كما تُغْلَق الأبواب بأقفالها بحيث لا يَدخلها أيّ خيرٍ ولا يخرج منها أيّ شرّ؟!! وكلٌّ مِن الحاليْن سَيِّء، سواء الغَفْلَة من الأصل أم غَلْق العقل عن التدبّر في الخير، والحال الثاني أشدّ سوءا لأنه يَدلّ علي العِناد والإصرار التامّ علي عدم التوبة واتّباع الإسلام رغم التأكّد مِن صِحَّة طريقه وإسعاده لهم وبُطْلان ما هم عليه وتعاسة نتائجه الدنيوية والأخروية!!.. والاستفهام للذّمِّ الشديد وللرفض وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء التّعِيس وللنَّهْي والمَنْع حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتعس مثلهم، وأيضا لتشجيعهم علي التوبة – حيث لفظ "أفَلَاَ" من معانيه أنه يُفيد الحَضَّ والحَثَّ – لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ليسعدوا في الداريْن.. فلْيَتوبوا إذَن ولا يَنشغلوا عنها أو يُهملوها لِيَتِمّ لهم ذلك.. لقد عَطّلوا عقولهم تماما بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. إنه تعالي يَعْرِض عليهم وعلي الجميع التوبة ويَجْذِبهم إليها بكلّ لُطْفٍ ولِينٍ رغم أيّ سوءٍ فعلوه لأنه هو بلا أيّ شكّ الغفور الرحيم دائما بكل خَلْقه
ومعني "مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿75﴾" أيْ ليس المسيح عيسى ابن مريم ﷺ إلا بَشَر مِن البَشَر ورسول مِثْل كل الرسل الكثيرين الذين خَلَوْا مِن قبله أيْ مَضوا وانتهوا وماتوا قبله سابقا والذين أرسلناهم للناس ليُعَلّموهم الإسلام ليسعدوا به في الداريْن وهو يَمْضِي مِثْلهم وليس بإلهٍ كما ادَّعَيَ كذباً وزُورَاً بعض السفهاء وإلاّ لَمَا مَضَىَ، وإنْ كان قد ظَهَرت بعض المُعجزات على يديه مثل إحياء الموتي وإشفاء المرضي بإذن الله فإنما جاء بها كما جاء الرسل بمثلها كعَصَيَ موسي وغيرها، فإنْ كان إلاهاً بسبب ذلك فليكن كلّ رسولٍ إذَن إلاهاً! ولماذا لا تُأَلّهونهم كلهم وجعلتم عيسي فقط إلاها؟!!.. إنَّ قولكم وفِعْلكم هذا بالتالي سفيهٌ بكل تأكيدٍ ليس له أيّ دليلٍ عقليٍّ أو مَنْطِقِيٍّ ولا يقبله أيُّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. فتوبوا عنه وأسْلِمُوا لتسعدوا.. ".. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ.." أيْ وأم عيسي مريم كذلك ليست إلاهاً كما يَدَّعون بل بَشَر من البَشَر ككل النساء فهي ليست فقط إلاّ صديقة من الصِّدِّيقِين والصِّدِّيقات أيْ مِمَّن عَظُم وكَمُل تَصديقهم وتَصْدِيقهنّ بما جاءت به الرسل اعتقاداً وفهماً وفكراً وقولاً وعملاً.. ".. كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ.." أيْ والدليل القاطع الحاسم الواضح أمامكم علي كوْنهما من البَشَر أنهما كانا يأكلان الطعام ويشربان الشراب ويَلْبِسان الثياب كما يأكل ويشرب كل البشر ويحتاجان له ولهضمه ولإخراج فضلاته لحفظ حياتهما وإلا تُوُفّيَا فهل مِثْل مَن كان كذلك يمكن أن يكون إلاها؟!.. إنهما لو كانا إلاهَيْن لَمَا احتاجا لغيرهما ليعيشا ولَاَسْتَغْنَيَا عن كلّ شيءٍ فالإله له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ لا يحتاج لغيره غَنِيّ عن أيِّ شيءٍ قادر علي كلّ شيء.. تعالي الله عَمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿75﴾" أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف نوضح لهم الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿75﴾" أيْ ثم تَأَمَّل أنهم كيف بَعد كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة يَنصرفون ويَنحرفون كلّ هذا الانصراف والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن والتي هي في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والتعاسة والإفك أي الكذب الشديد والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلة.. وفي هذا تَعَجُّب من حالهم ورفضٌ وذمٌّ شديدٌ له لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿76﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين من أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل تعبدون أيْ تُطيعون غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلكم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون ومنهم عيسي وأمه وأيّ رسول (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّكم بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعكم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿76﴾" أيْ كيف تعبدون غير الله تعالي والحال والواقع أنَّ الله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ لأنه مالِك المُلك كله خالِق الخَلْق كله الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه هو السميع العليم؟! أيْ الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴿77﴾ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿78﴾ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿79﴾ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿80﴾ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿81﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَكُنْ مُغَالِيَاً، أيْ مُتَجَاوِزَاً حَدَّ الحقّ والعدل والصواب، سواء بالزيادة والإفراط أو بالنقص والتفريط، بل كنتَ دائماً متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك التي وَصَّاكَ بها ربك تعالي وعَلّمك إيّاها رسولك الكريم ﷺ من غير أن تزيد فيها ما ليس منها أو تترك بعضها أو كلها
هذا، ومعني "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴿77﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم يا أهل الكتاب – وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي ﷺ – لا تكونوا من المُغَالِين في دينكم، دين اليهودية أو النصرانية، المُتَجَاوِزين حدّ الحقّ والعدل والصواب، سواء بالزيادة والإفراط أو بالنقص والتفريط، فإنْ فَعَلْتم ذلك فلا بُدّ أنكم ستُؤمنون بالقرآن العظيم الذي أنزل علي خاتم الرسل محمد ﷺ .. لقد غَالَيَ اليهود في دينهم حينما تمّ تَوْصِيَتهم باتّباع التّوراة ورسلهم فتَجَاوَزوا ذلك إلي مُخَالَفتهم ومحاولة قتلهم بل والكفر بما جاء بعدهم من إنجيلٍ مع عيسي ﷺ وقرآنٍ مع محمد ﷺ ، وغَالَيَ النصارى حينما طولِبُوا باتّباع المسيح فتَجَاوَزوا الحدّ في تعظيمه إلى ادِّعاء أنه إلهٌ أو ابنُ إلهٍ أو هو وأمه مريم شركاء لله في الألوهية فقالوا ثلاثة مع كفرهم بمحمد ﷺ والقرآن!.. هذا، وقد ناداهم سبحانه بقول أهل الكتاب لتذكرتهم بأنهم قد خَالَفوا كتبهم بعدم إسلامهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴿77﴾" أيْ وقل لهم أيضا مُنَبِّهَاً مُحَذّرَاً: إيّاكم أن تَسيروا خَلْف شرور ومَفاسد وأضرار أناسٍ قد ضاعوا أيْ ابْتَعَدَوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام، مِمَّن كانوا قبلكم سابقين لكم، وأبْعَدُوا كثيراً من الناس غيرهم عن اتّباعه فلم يَكْتَفوا بأنهم قد ضَلّوا في أنفسهم، واستمرّوا إلي الآن ضالّين عن سواء السبيل أيْ فاقِدين مُخْطِئين مُبْتَعِدين عن سواء السبيل أيْ وَسَط الطريق ووسط الطريق هو دوْماً المُمَهَّد بينما جوانبه ليست كذلك والمقصود الانحراف عن الطريق السَّوِيِّ المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والخروج عنه إلي الطريق المُضطرب المُعْوَجّ المُنْحَرِف الخاطئ، طريق الشرّ والتعاسة فيهما.. ومِن هؤلاء الذين ضَلّوا وأضَلّوا كثيراً علماؤكم وقادتكم يا أهل الكتاب فاحذروهم.. فإيّاكم أن تفعلوا مِثْلهم فتَنْحَرِفوا عَمَّا وَصَلَ إليكم من الحقّ والصدق والعدل والخير وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه، وتَتّبِعوا شرورهم سواء أكانت هذه الشرور كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أيْ إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. هذا، واستخدام ألفاظ الضلال أكثر من مرة هو للتأكيد علي إصرارهم عليه وللتنفير من حالهم وللتحذير من اتّباعهم وإلا كانت التعاسة الحَتْمِيَّة في الداريْن
ومعني "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿78﴾" أيْ طَرَدَ الله تعالي وأبْعَدَ من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة الذين كفروا من اليهود أيْ كذّبوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه واسْتَعْلَوْا علي إسلامه واستهزأوا به ولم يعملوا بأخلاقه وفَعَلُوا الشرور والمَفاسد والأضرار واختاروا ذلك بكامل حرية إرادة عقولهم حيث لم يُحسنوا استخدامها لأنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.." أيْ لُعِنُوا في الكتاب الذي أنزله الله تعالي علي رسوله داوود ﷺ ونَطَقَ به لسانه لهم ولغيرهم وهو الزَّبُوُر، وكذلك في الكتاب الذي أنزله علي رسوله عيسي ﷺ ونطق به لسانه لهم ولغيرهم وهو الإنجيل، وأيضا قبلهما علي لسان رسوله موسي ﷺ في التوارة، وكذلك علي لسان خاتم الرسل رسولنا الكريم محمد ﷺ في آخر الكتب وهو القرآن العظيم، فقد لُعِنُوا بكلّ لسانٍ في كلّ كتابٍ وزمانٍ منذ التوراة لشِدَّة سوء أمثال هؤلاء الكافرين المُصِرِّين علي كفرهم حتي موتهم دون أن يُسْلِمُوا.. ".. ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿78﴾" أيْ ذلك اللّعْن لأمثالهم هو بسبب عِصْيانهم لله ورسله مِن كفرٍ وفِعْلٍ للمعاصي من كل الشرور والمَفاسد والأضرار وبسبب أنهم كانوا يعتدون علي حدوده وضوابطه وموانعه ويعتدون علي الأنبياء بعدم طاعتهم وبإيذائهم وحتي بقتل بعضهم وعلي الناس بظلمهم وأخْذ حقوقهم وعلي الصالحين الذين يَدْعُون لله وللإسلام مُحاوِلين مَنْعِهم وإيذائهم بالقول والفِعْل وحتي بالقتل يريدون نشر الظلم والشرّ والتعاسة وهم مُصِرُّون علي ذلك تمام الإصرار مُستمرّون مُنْغَمِسُون مُتَمَادُون فيه بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوعٍ لربهم ولإسلامهم
ومعني "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿79﴾" أيْ مِن مَظاهر عِصْيانهم وعُدْوانهم أنهم كانوا لا يَنْهَيَ أيْ يَمنع بعضهم بعضاً عن أيِّ مُنكر يفعلونه، والمنكر هو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. ".. لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿79﴾" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لهم بسبب سَفَهِهِم وخَبَلِهم وتَعطيلهم لعقولهم.. أيْ ما أسوأ ما يقومون به من فِعْلٍ يُؤَدّي بهم حتماً إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم حيث تركوا أهَمّ ما يُسعد الناس ويَمنع تعاستهم فيهما وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحَسَنة فانتشر بينهم الشرّ وأضراره وتعاساته وقَلّ الخير ومنافعه وسعاداته (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
ومعني "تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿80﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير ببعض صفاتهم القَبِيحة لمزيدٍ من التنفير منهم والابتعاد التامّ عن فِعْل أفعالهم.. أيْ تُشاهِد أيها الناظر المُتابِع كثيراً منهم يُحَالِفون الذين كفروا ويَتّخِذونهم أولياء أيْ أنصار وأعْوان يتعاونون فيما بينهم علي عَدَاء الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. ".. لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿80﴾" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لهم بسبب سَفَهِهِم وخَبَلِهم وتَعطيلهم لعقولهم، وبَيَانٌ لسوء مَصيرهم بسبب مُوَالاتهم للكافرين ضِدّ المسلمين.. أيْ ما أسوأ ما قَدَّمَت لهم أنفسهم أيْ قَدَّمُوه لأنفسهم مِمَّا سيُلاقوا نتائجه من أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئةٍ قَبِيحَةٍ كالكفر والعصيان والعدوان وعدم التّنَاهِي عن المنكر وهذه المُوَالاة اسْتَحَقّوا بسببها أنْ سَخِطَ الله عليهم أيْ غَضِب – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ كَرِهَهم كراهية شديدة لفِعْلِهم وانتقمَ منهم بعقابهم بما يُناسِب في الداريْن بأنْ أبْعَدهم من رحمته ورعايته وأمنه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده فيهما، كما اسْتَحَقّوا كذلك بسببها العذاب المُؤْلِم المُهِين الذي لا يُوصَف في النار يوم القيامة والذي هم فيه خالدون أيْ ماكِثون مُستمرّون بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله أيْ لا يُخْرَجون منه أبداً بلا تخفيفٍ ولا تغييرٍ ولا تَنَاقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع في درجاته علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿81﴾" أيْ ولو كان أمثال هؤلاء المُسِيئين الذين سَبَقَ ذِكْرهم يُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم، ويؤمنون بالنبي محمد ﷺ وما أُنْزِلَ وأُوحِيَ إليه منه تعالي وهو القرآن العظيم ويعملون بكل ما فيه، ما اتّخذوا الذين كفروا أبداً أنصاراً وأعواناً يتعاونون فيما بينهم علي عَدَاء الإسلام والمسلمين لأنَّ الإيمان يَمنع تماما ذلك فهما أمران مُتناقضان حتماً لا يجتمعان وتحريم هذه المُوالاة مُؤَكَّد في كل شَرْعٍ أنزله الله على أيِّ نَبِيٍّ من أنبيائه في أيِّ زمان ومكان.. ".. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿81﴾" أيْ ولكنَّ السبب في ذلك أنَّ كثيراً منهم فاسقون أيْ خارجون عن طاعة الله والإسلام قد اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للكفر أم ما شابه هذا.. هذا، ولفظ "كثيرا" يُفيد أنَّ بعضهم يؤمنون فيسعدون في دنياهم وأخراهم.