الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴿111﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴿111﴾" أي هؤلاء الذين أقْسَمُوا بالله جَهْدَ أيْمانهم لئن جاءتهم آية ليُؤْمِنُنَّ بها كما في الآيتين السابقتين، كاذبون، يُرَاوِغُون حتي لا يُسْلِموا، ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة يرونها بأعينهم لِتَشْهَد بصِدْق الرسل، وكلَّمهم الموتى بعد إحيائهم وإخراجهم من قبورهم كمُعجزةٍ لرسلهم حيث أحيوهم بإذن الله وحتي يشهدوا أيضا بصِدْقهم ويُكَلّموهم أنهم صادقين فاتّبِعوهم وأَسْلِموا، وجَمَعْنَا لهم كل شيءٍ من المُعجزات والمَخْلوقات مُقابِلَاً مُوَاجِهَاً لهم مُبَيِّنَاً أنهم علي الحقّ وأنه لا إله إلا الله، لو أننا فَعَلْنا كل ذلك ما كانوا ليؤمنوا أيْ لم يؤمنوا، لأنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء المُكَذّبين ومَن يَتَشَبَّه بهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.." أيْ لن يؤمنوا بأيِّ حالٍ من الأحوال إلاّ في حالة أن يشاءوا هم أولا بكامل حرية إرادة عقولهم الهداية لله وللإسلام ويَتّخِذوا أسباب ذلك بأنْ يُزيحوا الأغشية التي وضعوها علي عقولهم بأنْ يُحْسِنوا استخدامها ويستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فحينها يَشاء الله لهم ذلك بأنْ يُوَفّقهم ويُيَسِّر لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ الهداية لله وللإسلام وفِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴿111﴾" أيْ ولكنَّ أكثر هؤلاء يَجْهَلون ولا يَعقلون الحقّ وكلّ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وعَوَاقِبَ وتعاسات ما هم مُصِرُّون عليه في الداريْن.. إنهم لا يَعلمون ولا يُدْرِكون ولا يَتَعَقّلون ويَتَعَمَّقون ويَتَدَبَرّون في حقائق الأمور والأحداث وأعماقها وخَلْفِيَّاتها ولا يُحسنون تقديرها ونتائجها.. إنهم جاهِلون غير عالِمين بما يَنفعهم ويُسعدهم وغيرهم من علمٍ فيَتّبِعونه ويعملون به.. إنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم!.. وما ذلك الجهل إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿112﴾ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴿113﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿112﴾" أيْ وكما أنَّ لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه به ويَدعو لله وللإسلام وللحقّ وللعدل وللخير وينشره ويدافع عنه أعداءً يحاولون منعك من ذلك بكل الوسائل بالترغيب والترهيب لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة من شياطين الإنس أيْ الناس أيْ السَّيِّئِين منهم كالشياطين، ومن الجنّ أيْ الشياطين أيْ كلّ شرٍّ من عقولهم أو مِن عقول مَن حولهم – والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – حيث يُوحِي بعضهم لبعض أيْ يُوَسْوِس الجنّ أيْ الشياطين أيْ التفكير الشَّرِّيّ إلي شياطين الإنس والذين بدَوْرِهم يُوَسْوِسُون لبعضهم البعض ضِدَّك والإسلام كلاماً مُزَخْرَفَاً مُزَيَّنَاً مُجَمَّلَاً وهو ليس كذلك حيث ظاهره حَسَن وباطنه لغرضٍ سَيِّءٍ وهو لكي يُغْرُوا أيْ يَخدعوا به غيرهم ويبعدوهم عن الحقّ إلى الباطل أيْ عن الإسلام إلي غيره مِمَّا يُخَالِفه من أنظمةٍ مُتْعِسَةٍ لهم في دنياهم وأخراهم، فكما أنَّ لك أعداءً من هؤلاء فكذلك كان الحال مع كلِّ نَبِيٍّ قَبْلَك ومع كل مسلمٍ مُتّبِعٍ له، فلا تَحزن واصْبِر واصبروا أيها المسلمون مِثْلهم لتنالوا سعادتيّ الداريْن كما نالوا.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. هذا، والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب.. ".. وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ.." أيْ ولو أراد ربّك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – ما فَعَلَ هؤلاء المُعَادُون هذا العَدَاء لك وللإسلام والمسلمين وهذا الإيحاء بزُخْرف القول غُرُورا، لأنَّ فِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ولكنه لم يشأ ألاّ يفعلوه، للمصلحة، للاختبار (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لتَخرجوا من هذه الأحداث مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة حيث ستَتَمسّكون وتعملون أكثر بإسلامكم وتَحرصون عليه وعلي نَشْره والدفاع عنه أكثر وأكثر حتي لا يمنعكم منه أعداؤكم وهو مَصْدَر سعادتكم في دنياكم وأخراكم أنتم وجميع الناس لو عملوا بكل أخلاقه.. إنه تعالي خَلَقَ وشاء نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحراراً لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وقد سَمَحَ سبحانه بوجود الشرّ وبهذا التفكير الشرّيّ وجَعَلَه صِفَة من صفات عقول البَشَر لا ليفعلوه ولكنْ ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾.. وفي هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. ".. فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿112﴾" أيْ فاتْرُك أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم وما يَكْذِبونه علي الله من كفرٍ وعداءٍ وغيره من شرور ومفاسد وأضرار فلا تَتَأثّر بأقوالهم وأفعالهم واستمرّوا علي عملكم بإسلامكم ودعوتكم له ودفاعكم عنه وادعوهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم واصبروا وتوكّلوا علي ربكم، فإن لم يستجيبوا ويعملوا بالإسلام، فسوف يعلمون سوء نتائج ذلك، أيْ فإذا أصَرَّ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُفْتَرون علي الله كل أنواع الكذب، علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وافترائهم، فذرْهم إذن، أيْ اتركهم فيما هم فيه، فلقد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، فاتركهم يخوضوا أي يَنْغَمِسوا ويَتَوَغّلوا ويسيروا ويزدادوا ويستمرّوا في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين، حتي يحين الوقت الذي يُلاقون ويُقابلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وعدناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أفعالهم ومصيرهم، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب.. كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴿113﴾" أيْ وهذا بيانٌ لحِكْمَةٍ أخري من حِكَم الله تعالي في وجود أعداء لكلّ نَبِيٍّ وللإسلام والمسلمين.. أيْ يُوحِى بعضهم إلى بعضٍ زُخْرُف القول غروراً أي لكي يُغْرُوا أيْ يَخدعوا به أنفسهم وغيرهم ويبعدوهم عن الحقّ إلى الباطل أيْ عن الإسلام إلي غيره مِمَّا يُخَالِفه من أنظمةٍ مُتْعِسَةٍ لهم في دنياهم وأخراهم، ولكي تَصْغَيَ أيْ تَميل إلى هذا الكلام المُزَخْرَف المُزَيَّن الخَادِع قلوب أيْ عقول ومشاعر الذين لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة حيث الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار لأنَّ الذي لا يؤمن بها يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي هذا الشرّ وفِعْله، بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فاستفيدوا من هذه الحِكْمَة أيها المسلمون بأن تنتبهوا لذلك تماما ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه وكذلك استفيدوا بأنْ تَتَجَمَّعوا علي الخير وتتعاونوا عليه كما يتجمّعون ويتعاونون هم علي الشرِّ لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما كتعاستهم، فأهل الشرِّ يُزَيِّن ويَخْدَع بعضهم بعضاً بما هم فيه من شرّ، سِرَّاً وجَهْرَاً، تخطيطاً وقولاً وفِعْلَاً، فيَخدعون أنفسهم ويُفسدونها، وتَصْغَيَ أيْ تَميل إليهم نفوس أهل الشرّ مِثلهم الذي يُعَطّلون عقولهم ويُسيئون استخدامها ويَنْسون الآخرة والتجهيز لها بعمل الخير أو لا يؤمنون بها أصلا، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴿113﴾" أيْ وهذا بيانٌ للتّدَرُّج في السوء لِتَحْذَروه أيها المسلمون.. أيْ ولكي يَتَقَبَّلوا هذا الشرّ ولكي يكتسبوا ويفعلوا ما هم مُكْتَسِبون وفاعلون من شرور، والمقصود أنه يَحْدُث أولا الإيحاء بالشرّ بزُخْرف القول والخداع به ثم المَيْل له ثم الرضا به وتقبله ثم بسبب ذلك وبسبب عدم الإيمان بالآخرة ونسيانها يَقترفوا ما هم مُقترفون.. إنَّ الله تعالي سيُحاسبهم علي كل ذلك إنْ لم يتوبوا بما يُناسب من عقابٍ في دنياهم ثم أخراهم
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿114﴾ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿115﴾ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿116﴾ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿117﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿114﴾" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، اسألهم علي سبيل الذمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك، قل لهم هل أطلب غير الله تعالي حاكِمَاً أحْتَكِمُ وأرْجِعُ إليه دائما في كل مواقف ولحظات حياتي من خلال ما وَصَّيَ به في دينه الإسلام من وَصَايَا وأخلاقِيَّات وتشريعات وأنظمة مُسْعِدَة تماماً في الداريْن لكل مَن عمل بها كلها، والحال والواقع أنه هو وحده لا غيره الذي أنزل إليكم الكتاب أي القرآن العظيم مُفَصَّلَاً أىْ مُبَيَّنَاً فيه كل القواعد والأصول التي تُنَظّم لكم كل شئون حياتكم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، لأنها من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم؟!!.. فلا أطلب بالتالي حَكَمَاً غيره، وكيف إذَن أحْتَكِمُ لهذا الغَيْر وهو ليس خالقاً له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ يَسْتَحِقّ العبادة أي الطاعة كما هو الله تعالي وكيف أحتاج أن أرْجِع لكتابٍ غير كتابه أيْ القرآن بعد كل هذا التفصيل وتكون فيه تشريعات ناقِصَة أو مُخَالِفَة له؟! إنَّ هذا لا يكون مُتَصَوَّرَاً لي ولكل مسلم ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل! إنه سيكون حتما سَفَهَاً وخطأ وتَخَبُّطَاً وتعاسة في الداريْن!!.. ".. وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.." أيْ وزيادةٌ في تأكيدِ أنَّ هذا القرآن العظيم حقّ وأنه من عند الله وأنَّ المسلمين لا يُمكن أنْ يَطلبوا غيره تعالي وغير قرآنه حَكَمَاً أنَّ الذين أعطيناهم الكتاب قَبْلَه كالتوراة لليهود والإنجيل للنصاري يعلمون ويُقِرُّون ويَعترفون أنه أي القرآن العظيم وما فيه من دين الإسلام مُنَزَّل من ربك بالحقّ أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ، ويعلمون أيضا أنَّك رسول الله حقاً وصِدْقَاً بأوصافك المَذْكُورة في كُتُبهم، وقد أسْلَمَ بعضهم بالفِعْل ولو سألتموهم أيها المُكَذّبون لصَدَّقوا هذا الكلام ولَشَهِدوا بصِدْقِك، ولكنَّ بعضهم يُخْفُون هذا الحقّ وهم علي علمٍ تامّ بأنه حقّ وعلمٍ بصِدْقه وصلاحيته لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها في دنياها وأخراها وعلمٍ بأنهم مُعَذّبون فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وعدم اتّباعهم للإسلام، والسبب في ذلك أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ هذا القرآن العظيم الذي أُنْزِلَ علي الرسول ﷺ هو مُصَدِّق لكل الكتب السابقة أيْ مُوافِق ومُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْقه وصِدْق هذا الرسول ﷺ إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها المكذبون إن كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به.. وفي ذلك حثّ وتشجيع للمُكَذّبين على الإيمان وأيضا ذمٌّ وتهديدٌ شديدٌ لنتائج عدم إيمانهم.. ".. فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿114﴾" أيْ دين الإسلام الذي أنت عليه أيها المسلم هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الحقّ الثابت المُؤَكَّد الذي وَصَلَك من ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – في القرآن العظيم الذي أوحِيَ إلي رسولك الكريم محمد ﷺ ، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة فيهما، فبالتالي فلا تكن أبداً بالتأكيد من المُمْتَرِين أيْ المُتَشَكّكِين المُجَادِلِين في ذلك ولو للحظة واحدة، لأنه هو الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي يُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فاثبت عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه
ومعني "وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿115﴾" أيْ ولقد كَمُلَتْ كلمات ربك أيها المسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وهي آيات القرآن العظيم الصادقة العادِلَة وبَلَغَت الغاية القُصْوَيَ في الكمال من ناحية الصدق والعدل، صِدْقَاً في أخبارها ووُعودها فلا أصدق منها، وعَدْلَاً في أحكامها وقضاياها وقوانينها وتشريعاتها وأنظمتها فلا أعدل منها.. إنَّ في القرآن الكريم أنظمة مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي نهاية الحياة وقيام الساعة.. ".. لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ.." أيْ لا مُغَيِّر أبداً لكلام الله في آياته في كل كتبه التي أرسلها مع رسله منذ خَلَقَ الخَلْق وآخرها القرآن العظيم والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ﴿الحِجْر:9﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها﴾ (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" ﴿غافر:51﴾، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" ﴿فاطر:43﴾، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" ﴿الصافات:171،172،173﴾، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" ﴿المجادلة:21﴾﴾.. ".. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿115﴾" أيْ وهو الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه السميع أيْ الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿116﴾" أيْ وإنْ تُطِع أيها المسلم أكثر مَن في الأرض مِن الناس الكفّار ومِن الناس الذين لا يَتّبِعون الإسلام، تُطِعهم فيما يريدون منك أن تفعله من شَرٍّ مُخَالِفٍ لأخلاق الإسلام، وتَتّبِعهم وتَتَشَبَّه بهم في شرورهم، يُبْعِدوك عن سبيل الله أيْ عن طريق الله طريق الحقّ والعدل والاستقامة طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يُبْعِدوك عنه إلي طريق الظلم والشرّ والتعاسة فيهما.. إنكم أيها المسلمون إنْ تَستجيبوا لهم وتُنَفّذوه، ولا تَنتبهوا لمَكائدهم ومحاولات إفسادكم وإبعادكم عن إسلامكم وتَفْرِقتكم وما قد يُشِيرون عليكم به ببعض نصائح يكون ظاهرها الخير وباطنها الشرّ ولا تَحْذروها، قد يَتَدَرَّجُون معكم فيه ولن يَهْدَأَ لهم بالٌ حتي يرجعوكم بعد إيمانكم كافرين أيْ مُكَذّبين بربكم ودينكم فاعلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث ينشرون ذلك بينكم ويُيَسِّرونه لكم ويُعينوكم عليه فتتعسون تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم.. فاحذروا ذلك أشدّ الحَذَر بأنْ تُحسنوا استخدام عقولكم ولا تُعَطّلوها أبداً مثلهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد أنَّ كثير منهم لا كلهم يفعلون ذلك، وهذا من إنصاف القرآن الكريم ودِقّته بعدم التعميم حيث بعضهم يُرْجَيَ ويُنْتَظَر إيمانه وعمله بالإسلام وقد آمَنَ بالفِعْل وحَسُنَ إسلامه وسَعِدَ في دنياه وأخراه، فعلي المسلم أن يَسْتَرْشِد بذلك ويكون مُنْصِفَاً عادلاً دقيقاً في كل شئونه ليسعد فيهما.. ".. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴿116﴾" أيْ لأنهم لا يَسيرون إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد من حقّ وصِدْقٍ في الإسلام، ولا يَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تَدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له، وإنْ هم كذلك إلاّ يَخْرصون أيْ يقولون كلاما جُزافِيَّاً كاذباً تَخْمِينيَّاً ظَنِّيَّاً بغير علمٍ ودليل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباعهم الظنون والأوهام وتَرْكهم للحقّ والعدل والخير، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي قد وضعوها عليها من أجل أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿117﴾" أيْ مَن يَبتعِد ويُعانِد ويُكابِر ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فليتحمَّل إذَن نتيجة سوء عمله، لا يَتَحَمّله عنه الرسل الكرام، ولا المسلمون الدعاة مَن بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوته بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنة، فليطمئنوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعويهم حينما يُعْرِضون هم عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا يلتفتوا لهم ولا يتأثّروا بتصرّفاتهم وليستمرّوا في تمسّكهم بإسلامهم وفي دعوتهم غيرهم لله وللإسلام، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم، فهو تعالي يعلم مَن سيشاء الهداية فيَشاءها له أيْ يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه ويُسَدِّده لها ويُعينه عليها، ويعلم مَن لن يشاءها فلا يشاؤها له أيْ لا يُيَسِّر له أسبابها ولا يُوَفّقه لها ما دام لم يُحسن هو استخدام عقله ويَتقدّم نحوها ولو بخطوةٍ حتي يعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾ (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه الأعلم بالمُهتدين أيْ بأهل الهُدَيَ والخير أيْ بالراشدين المُصِيبين للخير والسعادة المُحَقّقين للربح في دنياهم وأخراهم، وبأهل الضلالة والشرّ، وسيُجازي كلاّ بعمله، بكل خير وسعادة أو كل شرّ وتعاسة، في الدنيا قبل الآخرة، بما يناسب قَدْر خيرهم أو شرّهم.. وفي هذا طَمْأَنَة للمسلمين وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم وتحفيز للاستمرار علي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم والصبر علي أذَيَ مَن يَدعونهم، وتحذير شديد لمَن ضَلَّ عن سبيل الله أيْ طريقه وطريق الإسلام لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿118﴾ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴿119﴾ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴿120﴾ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴿121﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من الذين يلتزمون أشدّ الالتزام بما شَرَعَه الله تعالي في الإسلام وبما حَرَّمَه فيه، لأنه لا يُحَلّل شيئاً ولا يُحَرِّمه إلا ليُحَقّق للبَشَر ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو يَسمح بالنافِع المُسْعِد ويَمنع الضارّ المُتْعِس فيهما.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتَسْتَطيبه النفس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿118﴾" أيْ إنْ كنتم بآيات الله مؤمنين فكلوا من الذبائح التي ذُكِرَ اسم الله عليها بقول باسم الله أو بأيِّ ذِكْرٍ آخرٍ له سبحانه، ولا تأكلوا مُطلقاً مِمَّا ذُكِرَ عليه اسم غير الله عند ذبحه كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره.. ".. إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿118﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقّ بآيات الله أي تشريعاته التي في القرآن العظيم كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴿119﴾" أيْ وأيُّ شيءٍ يَمنعكم أيها المسلمون مِن أنْ تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه والحال والواقع أنه قد بيَّن الله تعالي لكم بكل تفصيلٍ دقيقٍ شامِلٍ عميقٍ واضحٍ مُقْنِعٍ حاسِمٍ قاطِعٍ لا يَقبل أيّ جدالٍ في آيات قرآنه العظيم ومن خلال رسوله الكريم ﷺ كلّ ما حرَّم عليكم؟! لكنْ ما دَعَت إليه الضرورة بسبب مَجَاعَةٍ مثلاً مِمَّا هو مُحَرَّمٌ عليكم كالميتة وغيرها فإنه مُبَاحٌ لكم بالقَدْر الذي يحفظ حياتكم.. والاستفهام للنفي، أيْ لا شيء يمنعكم.. فعليكم بالتالي إذَن أنْ تأكلوا وأنتم مطمَئِنّون من جميع المطاعم التي أحلّها الله لكم وذُكِرَ اسمه عليها ولو خالَفْتم في ذلك غير المسلمين فهي فيها منفعتكم وسعادتكم في الداريْن وأن تَتَجَنّبوا أكل ما حَرَّمَه الله عليكم ولو كان مِمَّا يستبيحونه هم لأنَّ فيه ضرركم وتعاستكم فيهما.. ".. وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.." أيْ وإنَّ كثيراً من الناس الضَّالّين بالتأكيد يضِلّون أيْ يضيعون أنفسهم وغيرهم بأن يُبْعِدوهم عن العمل بأخلاق إسلامهم كلها أو بعضها ويُشَجِّعوهم علي فِعْل السوء، بأهوائهم أيْ بسبب اتّباعهم لأهوائهم أيْ لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. وهؤلاء وأمثالهم ومَن يَتَشَبَّه بهم يفعلون كل ذلك وغيره من سوءٍ بغير علمٍ أيْ بغير عقلٍ ولا أيّ دليل! أيْ بغير تَعَمُّق وتَدَبُّر في نتائج الأمور كأنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم! وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلْيَحْذَر المسلمون حَذرَاً شديداً من التشبُّه بمِثْل هؤلاء ليسعدوا في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم فيهما.. ".. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴿119﴾" أيْ إنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – هو وحده لا غيره حتماً أعلم منكم أيها المسلمون ومِن أيٍّ مِن خَلْقه بالمُعتدين أيْ المُجَاوِزِين لِمَا حَرَّمه أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء، سواء أكان مثلاً عن طريق مُخَالَفَةِ خُلُقٍ أو قانونٍ من قوانين الإسلام أو عن طريق الإسراف أيْ المُبَالَغَة بتحريم شيءٍ غير مُحَرَّمٍ أو حتي التّعَامُل مع شيءٍ حلالٍ لكنْ بإسرافٍ يُؤَدّي لضَرَرٍ مَا للنفس أو للغير أو عن طريق التقصير بواجبٍ مَا أو عن طريق العدوان على حقوق الآخرين أو ما شابه هذا.. إنه أعلم بالمُعتدين وسيُجازيهم بالقطع بما يَسْتَحِقّون وبما يُناسب في دنياهم وأخراهم.. فلْيَجْتَهِد إذَن كل عاقلٍ ألاّ يكون من المُعتدين بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر اعتدائه
ومعني "وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴿120﴾" أيْ واتركوا أيها المسلمون وأيها الناس جميعا أيَّ إثمٍ أيْ شَرٍّ فلا تفعلوه، سواء أكان في الظاهر أم في الباطن، أيْ في العَلَن أو في السِّرّ، وسواء أكان ظاهراً بالبَدَن أم بداخل العقل كنوايا الرياء أيْ أنْ تُرُوا الآخرين ما تَطْلبون به عندهم سُمْعَة أو جاهاً أو مدحاً أو غيره ولا تطلبون بعملكم خيراً وثواب ربكم في الآخرة، وكالشعور الداخلي بالإعجاب بالذات والتّعالِي والتّكَبُّر علي الغير وإيذائه حيث التّوَهُّم أنْ لا أحد مثلكم، وكالتخطيط للشرّ قبل تحويله إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئةٍ شَرِّيَّةٍ علي أرض الواقع، وما شابه هذا من آثامٍ واضحةٍ وخَفِيَّةٍ أيْ ذنوب أيْ مَعاصِي أيْ مُخالَفات لما وَصَّيَ به الله تعالي في الإسلام أي شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات، فالمقصود إذَن تَرْك كل المعاصي لأنها لا تخرج عن كوْنها ظاهرة أو باطنة!.. ".. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴿120﴾" أيْ إنَّ الذين يعملون الآثام في دنياهم سواء أكانت ظاهرية أم باطنية سيُعطون عقاباً بسبب وبمِقْدار ما كانوا يفعلون ويكسبون من سوءٍ بما يُناسب قَدْر سُوئِهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وذلك إنْ لم يتوبوا منها، حيث سيُجزون بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴿121﴾" أيْ ولا تأكلوا أيها المسلمون من الذبائح التي لم يُذْكَر اسم الله عليها عند ذبحها، إذا تُرِكَت التسمية عمداً، أو ذُكِرَ اسمٌ غير الله تعالى كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره لِمَا في ذلك مِن ضَرَرٍ معنويّ علي عقل المسلم إذ قَبِلَ ولو بصورةٍ رمزيةٍ صغيرةٍ بأن يكون هناك مَن هو أعلي عنده وأعظم مِن ربه وإسلامه وقد يَنْحِدر ويَنْزَلِق تدريجيا لِمَا هو أسوأ بعد ذلك فلْيُغْلَق هذا الباب إذَن مِن أصله!.. ".. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.." أيْ وإنَّ الأكل مِمَّا لم يُذكر اسم الله عليه من الذبائح أو الذكْر لاسمٍ غيره تعالى عليها عند الذبح هو بالتأكيد فسقٌ أيْ خروجٌ عن طاعة الله والإسلام وله ما يُناسبه من عقابٍ في الدنيا ثم الآخرة.. فلْيَحْذَر كلّ مسلم ذلك ليسعد ولا يتعس فيهما.. هذا، وما لم يُذْكَر اسم الله عليه سَهْوَاً أو جَهْلَاً بهذا الأمر فسَمُّوا الله عليه أنتم وكُلُوه ما دُمْتُم لم يَصِل إلي عِلْمكم أنه قد سُمِّيَ عليه اسمٌ آخرٌ غيره تعالي، كما يَرَيَ ذلك بعض العلماء.. ".. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ.." أيْ وإنَّ الشياطين جَمْع شيطان والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، أيْ وإنَّ الشياطين أيْ الأفكار الشَّرِّيَّة بالتأكيد تُوحِي أيْ تُوَسْوِس إلي شياطين الإنْس أيْ الناس أيْ السَّيِّئِين منهم كالشياطين والذين بدَوْرِهم يُوحُون أيْ يُوَسْوِسُون إلي أوليائهم أيْ أتْباعِهم ومُطِيعِيهم وأعوانهم ونُصَرائهم وأصدقائهم ونحو هؤلاء مِمَّن لا يَتّبعون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار – والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب – لكي يُجادِلوكم، والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءاً إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم، وهدف جدالهم هو إبعادكم عن إسلامكم بدرجةٍ من الدرجات، سواء في أمور الذبائح أو في غيرها من كلّ أخلاقيَّاته وتشريعاته، مُحَاوِلِين يائِسين إثبات عدم صلاحيته لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة يُريدون بذلك التشويش عليكم وعلي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴿121﴾" أيْ وإن اسْتَجَبْتُم لهم ونَفّذْتم ما يُوحُون به إليكم من تحريمِ ما حَلّله الله تعالي وتحليل ما حَرَّمه، في أيِّ شأن، فأنتم بذلك بالتأكيد عابدين لهم لأنَّ العبادة ما هي إلا الطاعة وعبادة غير الله تعالى شِرْك، وإنكم بالتالي إذَن مِثْلهم في الإشراك بالله فقد أشركتم معه في العبادة غيره وهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء لاكتمال المعاني عن العبادة مراجعة الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. هذا، ويُرَاعَيَ أنه إنما يُصبح المؤمن مُشْرِكَاً حين يُطيع مُشركاً آخر في الاعتقاد بأنَّ مع الله تعالي آلهة أخري تستحقّ العبادة أمّا إذا أطاعه في فِعْل شَرٍّ مَا واعتقاده سليم مستمرّ على التوحيد والتصديق فهو عاصٍ يُحاسَب علي معصيته في الداريْن لكنه غير مُشْرِكٍ مُخَلّدٍ في النار.. فاحذروا إذَن أيها المسلمون ذلك تمام الحَذَر لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿122﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿122﴾" أيْ هذا بيانٌ للفرق الشاسِع الذي لا يُقَارَن بين مَن هو حَيّ يَتحرَّك ويَنتفع ويَسعد بحياته وبين الميّت عديم الحركة والانتفاع والسعادة، والمقصود الفرق الهائل بين المؤمن والكافر، أي بين المُصَدِّق بوجود ربه وبكتبه وخاتمها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره المتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه في كلّ أقواله وأعماله، وبين المُكَذّب بكل ذلك، أو الذي يَترك الإسلام بعضه أو كله، فالأول قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ به ونَشَرَه لغيره، بينما الثاني فهو بالقطع في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحسن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ هذا مثالٌ يَذكره الله تعالي للناس ليُبَيِّنَ لهم حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم وهم المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يُشبههم وحال السعداء فيهما وهم المسلمون المتمسّكون بأخلاق إسلامهم ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. إنه لا يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين الأعمي الذي لا يَرَيَ ما حوله والبصير الذي يَرَيَ كلّ شيءٍ بوضوح!!.. أيْ هل مَن كان ميتا بالكفر والمعاصي فأحياه الله بالإيمان والطاعات مِن خلال القرآن والإسلام وجَعَلَ له نوراً يمشي به بين الناس مُتَعامِلَاً معهم به هو نور الإيمان نور القرآن والإسلام الذي يُنير لعقله طريقه في الحياة ليَبْقَيَ مستمرَّاً في هدايته للخير والسعادة بلا انحرافٍ أو تَرَاجُعٍ حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف، وحيث يَسير بهذا النور وخَيْره وسعاداته بين كل الناس علي اختلاف ثقافاتهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم في كل شئون حياتهم فيَرَوْنَه قُدْوَة حسنة تمشي بينهم تُضْفِي عليهم كل خيرٍ ونورٍ ويُسْرٍ وصلاحٍ وسعادةٍ ويدعوهم لذلك بكل حِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ليسعد الجميع مِثْل سعادته وينال علي كل هذا أجره العظيم في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. إنَّ القرآن العظيم هو كالروح بالنسبة للجسد فهو الذي يُحي البَشَر فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة، الحياة الحقيقية، الحياة السعيدة السعادة التامّة العميقة المستمرّة في الدنيا والتي تُؤَدِّي إلي ما هو أسعد في الآخرة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. فهل مَن كان كذلك يكون كمَنْ مَثَلُه أيْ مِثْل مَن هو أيْ كمَن صفته وحاله أنه يعيش غارِقَاً في الظلمات والتعاسات والضياعات والتَّخَبُّطات – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – الناتجة عن الكفر وغيره من السيئات في الداريْن؟! ليس بخارجٍ منها أيْ لا يُفارِقها بحالٍ من الأحوال ولا يَهتدي إلى مَخْرَجٍ مِمَّا هو فيه لأنه في ظلامٍ تامٍّ ليس فيه أيّ شعاع نورٍ يمكن أن يَتبعه ليَخرج فهو لن يستطيع الخروج منها أبداً كأنه ميّت لا يدري ما معني وما هي الحياة الحقيقية إلا إذا استفاقَ وأحسنَ استخدام عقله ورَجَعَ لربه ولإسلامه فيَحيا حينها ويَسعد في دنياه وأخراه.. إنهما لا يتساويان بالقطع!!.. إنَّ كل الأنظمة والتشريعات والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة للإسلام مُضِرَّة مُتْعِسَة في الداريْن، لأنها تُؤَدِّي إلي الظلام والمَوَات، إلي الكذب والخداع والظلم والتّخَبُّط والنقص والشرّ والسوء وبالجملة إلي العذاب والكآبة والتعاسة بصورٍ ودرجاتٍ مختلفة، وحتي لو شَعَرَ البعض ببعض سعادةٍ بشرورها وفسادها فهي سعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية سطحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة ناقِصَة لا كاملة مُتَقَطّعَة لا تامَّة، والأهمّ أنها غالبا أو دائما يَتْبعها مرارات وكآبات وعذابات وتعاسات دائمات علي قَدْر الشرِّ الذي تَمَّ فِعْله، كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا، ثم قَلَق وتَوَتّر واضطراب بانتظار ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد من عذاب نيران الآخرة.. ".. كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿122﴾" أيْ هكذا زَيَّنَ التفكير الشَّرِّيّ بعقول الكافرين لهم هذه الأعمال السيئة التي يعملونها أيْ حَسَّنَها لهم، واختاروا هذا التكذيب والإصرار علي الشرور والمَفاسد والأضرار والسَّيْر في الظلمات والتعاسات بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿123﴾ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴿124﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿123﴾" أيْ وكما أنَّ لك في بلدك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه به ويَدعو لله وللإسلام وللحقّ وللعدل وللخير وينشره ويدافع عنه أكابِر مُجرميها أيْ مُجرميها أكابر أيْ مجرمين بها يكون بعضهم هم بعض الأكابر أيْ الرؤساء والزعماء وأصحاب القوَيَ والنفوذ والتأثير فيها – أكابر جَمْع أكْبَر أيْ رئيس ومجرمون جمع مُجْرِم وهم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وتخصيص الأكابر لأنهم أقَدْر من غيرهم علي الفساد وأقوى علي المَكْر بالناس وهم أكثر المُتَضَرِّرين بانتشار عدل الإسلام وأخلاقه ومساواته بين الجميع إذ سيَفقدون بانتشاره استعبادهم لغيرهم واستغلالهم لجهودهم وثرواتهم بغير حقّ – ليَمكروا فيها أيْ تَرْكناهم يَمكرون فيها وما مَنعناهم من مَكْرهم أيْ فمكروا بمَن فيها أيْ بَدَلَاً أن يستخدموا قواهم للخير استخدموها للمَكْر والمَكْر هو التدبير فى خفاءٍ لإنزال سوءٍ مَا بالمَمْكُور به حيث استخدموا إمكاناتهم في إيذاء الناس قوليا وفعليا وفي مَنْعهم من اتَّباع الإسلام بتشويه صورته وصورة المسلمين وبنشرهم الشرور والمَفاسد والأضرار فاستجابوا لهم لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والمقصود أنه كما أنَّ ضَدَّك وضِدَّ الإسلام والمسلمين مجرمين من الأكابر كذلك كان في كل قرية من قرى الرسل قبلك مثلهم ليمكروا فيها وسيكون ذلك مستقبلا أيضا ثم كان وسيكون حتماً النصر لهم وللمسلمين العاملين بإسلامهم، فهذا أمرٌ طبيعيٌّ يُلاقيه دائما أهل الخير وهو يُظْهِر الحقّ ومنافعه وسعاداته أكثر وأكثر حينما يُقارنه الناس بالشرِّ ومَضَارِّه وتعاساته، فلا تَحزن بالتالي إذَن واصْبِر واصبروا أيها المسلمون مِثْلهم لتنالوا سعادتيّ الداريْن كما نالوا.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من الطمأنة والتبشير والإسعاد للمسلمين ومزيدٌ من التحذير والإتعاس للمُجرمين.. أيْ وما يُدَبِّرون سُوءَاً إلا بأنفسهم أيْ ولا يُمكن أبداً أن يُحيط ويَحلّ ويَنزل الفِعْل والتدبير السَّيِّء الشرِّيّ الذي يَمكرونه هؤلاء المجرمون بأحدٍ إلا بأنفسهم أيْ إلا بمَن يَفعله فيَعود أثَرُه المُضِرّ المُتْعِس عليه وذلك علي المَدَيَ البعيد، بسبب أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحْسَنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)، وهو سبحانه خير المَاكِرين (برجاء مراجعة الآية ﴿30﴾ من سورة الأنفال ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، ثم الآية ﴿50﴾ من سورة النمل "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، ثم الآية ﴿34﴾ من سورة النحل "فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وحتي ما قد يُصيب أهل الحقّ والخير مِن بعض مَكْرِ أهل الباطل والشرّ فهو لن يكون بفضل الله إلا بقليلٍ من الأذي المُحْتَمَل كما يقول تعالي "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى.." ﴿آل عمران:111﴾، ويقول ".. وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.." ﴿آل عمران:120﴾، ويقول "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" ﴿آل عمران:141﴾ (برجاء مراجعة تفسير هذه الآيات الكريمة حتي تكتمل المعاني﴾.. فكل ما يُصيبهم إذَن مِن ضَرَرٍ أو اختبارٍ ما فسيَخرجون منه حتماً مع الوقت مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. فدائما وقطعا ".. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" ﴿القصص:83﴾ أيْ النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتما ودوْما لهؤلاء المتّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. فالخلاصة إذَن أنه في كلّ الأحوال مَن يُمْكَر به فهو الفائز في الداريْن علي المَدَيَ البعيد والماكِر هو الخاسر فيهما وعقابه علي قدْر مَكْره حتي ولو ظهر أحيانا علي المَدَيَ القريب عكس ذلك.. وحتي علي المدي القريب أيضا فإنَّ الذي يُدَبِّر المكر السَّيِّء يكون منذ وقت ابتدائه لمَكْره في كلّ قلقٍ وتوتّر وضيق واضطراب وصراع وأحيانا اقتتال مع مَن مَكَرَ به وغيره وبالجملة فهو يكون في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا.. ".. وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿123﴾" أيْ وهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!.. وخلاصة القول أنهم في حالتهم هذه هم في حقيقة الأمر لا يُدَمِّرُون ولا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيَزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفساد غيرهم والذين سيَجتهدون في أن يُقاوموهم ولا يَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم.. إنَّ مَكْرهم حتماً سيُحيط بهم وسيَنقلب عليهم يوماً مَا لأنَّ ما ينشرونه من شرٍّ وفسادٍ يَطَالُ الجميع كما يُثبت الواقع ذلك ويأتيهم تدريجيا فلا يشعرون إلا وقد أصابهم وأضرّهم وأتعسهم وأهلكهم
ومعني "وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴿124﴾" أيْ هذا بيانٌ لصورةٍ مِن صُوَر مَكْرِهم ومُرَاوَغَتِهم.. أيْ وإذا وَصَلَتْهم أيْ وَصَلَت إلي المُكَذّبين المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم آية أيْ دلالة ومعجزة والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حول الناس لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أو مُعجزات علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ ، بَدَلَاً أن يؤمنوا بها كما آمَنَ كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنها وافَقَت عقله وفطرته (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) قال بعضهم بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ ومُرَاوَغَةٍ حتي لا يُؤمنوا وبما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي عدم إيمانهم واستمرارهم وإصرارهم علي ما هم فيه، لن نؤمن أيْ لن نُصَدِّق أبداً بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ونعمل بأخلاق الإسلام إلا أن نُعْطَيَ مِثْل ما أُعْطِيَ رسل الله أيْ يُوحَيَ إلينا ويأتينا من الآيات والرسالات والمُعجزات مثل رُسُلِ الله الكرام!!.. ".. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.." أيْ هذا ردٌّ حاسمٌ من الله تعالي يُخْرِس ألْسِنَة أمثال هؤلاء وقد يُوقِظ بعضهم إذا أحسن استخدام عقله ليستفيق ويعود له وللإسلام ليسعد في الداريْن قبل أن يَنزل به ما يُناسب من عذابٍ فيهما، وهذا الرَّدّ هو أنَّ الله أعلم وحده بالقطع منهم ومِن كلّ أحدٍ ولا يُقارَن حتماً الخالق وعلمه بخَلْقِه وعلمهم أين يَضَع ويَجعل رسالته لخَلْقه أيْ ما يُرْسِله لهم من خلال رسله الكرام من تشريعاتٍ تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فهو تعالي يَختار لها بكمال عِلْمه وحِكْمته مَن يَسْتَحِقّها من البَشَر ويقوم بها فهو الأعلم بأفضل خَلْقه حيث سيَضَع عندهم أمانته، الإسلام، ليقوموا بتوصيلها علي أكمل وجهٍ ويَبْذلوا في ذلك ما استطاعوا، فهو قد اختارهم لعِلْمه التامّ بحُسْن أخلاقهم وكمالها (برجاء مراجعة الآية ﴿33﴾، ﴿34﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾، ولا يُمكن قطعاً أن يكون رسولٌ من أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُسِيئين!!.. فلا تَهتمّ يا رسولنا الكريم ولا تَهْتَمُّوا يا أيها المسلمون بأمثالهم ومَكْرهم ومَكائدهم واستمرّوا في عملكم بأخلاق إسلامكم ودعوتكم له والدفاع عنه فالله معكم مُعينكم وحافِظكم وناصِركم ومُسْعِدكم.. ".. سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴿124﴾" أيْ سيَنال حتماً بالتأكيد الذين أجرموا أي الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، صَغَارٌ أيْ صِغَرٌ أي ذُلٌّ وهَوَان يَكْسِر إجرامهم واستكبارهم وعِنادهم واستهزاءهم وتَطَاوُلهم، عند الله أيْ مِن عنده ثابِت لهم عنده في حُكْمِه فيهم مُحَقّق الحُدُوث حتماً سيُنْزِله عليهم في التوقيت المناسب في الدنيا وعنده في الآخرة، إضافة إلي أنهم سيُصِيبهم كذلك بالقطع كل عذابٍ شديدٍ أيْ عظيمٍ مُؤْلِمٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴿124﴾" أي كل ذلك بسبب وفي مُقابِل وجزاء ما كانوا في دنياهم يَمْكرونه أيْ يُدَبِّرونه من مَكائد وجرائم وأضرار لإيذاء الناس والإسلام والمسلمين، والمَكْر هو التدبير فى خفاءٍ لإنزال سوءٍ مَا بالمَمْكُور به قوْلِيَّاً وفِعْلِيَّا
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿125﴾ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴿126﴾ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿127﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿125﴾" أيْ فالإنسان الذي يريد الله أن يهديه للإسلام وهو الذي أرادَ هو أولا هذه الهداية واختارها بكامل حرية إرادة عقله حيث أحسنَ استخدام هذا العقل واستجابَ لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فإنَّ الله تعالي بسبب ذلك ولأنه هو الذي بدأ يُعينه بأنْ يَشرح صدره له أيْ يُوَسِّع عقله ومَدَارِكه ومشاعره لكلّ خيرٍ في هذا الإسلام ويُسعده ويُطمئنه به ويزيده منه، وبالجملة يُريد ويَشاء له الهداية أيْ يُوَفّقه لها ويُيَسَّر له أسبابها ويُسَدِّدَ خُطاه نحوها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ.." أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أيْ الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟!.. إنَّ هذا الضَّالّ حتماً سيكون في حالٍ هو عكس حالِ المُنْشَرِح صَدْره بالإسلام تماما، إنَّ صدره سيكون ضَيِّقاً حَرَجَاً كأنما يَصَّعَدَ في السماء أيْ يَضِيق ضيقاً شديداً عَقْلُه ومَدَارِكُه ومَشَاعِرُه فلا يَقْبِل الإسلام وخَيْره، بل ويَسْتَثْقِله، وكأنه يَحْمِل حِمْلَاً ثقيلاً يَصْعَد به إلي أعالي السماء! فهو كحال مَن يَصْعَد في طبقات الجَوّ العُلْيَا فيُصاب بضَيْقٍ شديدٍ في التّنَفّس، ولفظ "يَصَّعَد" يعني يَتَصَعَّد أيْ يَتَكَلّف الصعود فلا يَقْدِر عليه، إنه قطعاً في كل ضَيْقٍ وتَوَتّر وقَلَقٍ واضطرابٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ تامَّةٍ في دنياه ثم ما هو أعظم من ذلك وأتَمّ وأشَدّ في أخراه.. إنَّ سبب اختيار هذا الضَّالّ لِمَا هو فيه من الضلال هو تعطيله عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حالَ المُهْتَدِين السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال الضَّالّين التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. ".. كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿125﴾" أيْ هكذا دائما يجعل الله المُسْتَقْذَر أيْ الشّرَّ والعذابَ الدنيويّ والأخرويّ علي الذين لا يؤمنون به أيْ لا يُصَدِّقون بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِدُون ويَستكبرون ويَستهزؤون ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وكلّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرهم.. فالرِّجْس الذي عليهم هو بسببهم، بسبب عدم إيمانهم وانغماسهم في فسادهم وعدم رجوعهم لربهم ولدينهم الإسلام
ومعني "وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴿126﴾" أيْ وهذا الإسلام الذي في القرآن العظيم هو طريق ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل مُنْصِف عادل، جَعَلَه مستقيماً أيْ طريقاً مُعْتَدِلاً صحيحاً صواباً بلا أيِّ انحراف، هو طريق الله والإسلام، هو طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. فتَمَسَّك واعْمَل به واسْتَمِرّ عليه طوال حياتك لتسعد في الداريْن.. ".. قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴿126﴾" أيْ فقد بَيَّنّا بكل تفصيلٍ دقيقٍ شامِلٍ عميقٍ واضحٍ مُقْنِعٍ حاسِمٍ قاطِعٍ لا يَقبل أيّ جدالٍ الآيات أيْ الدلالات علي صِدْق وصِحَّة ذلك.. أيْ قد وَضَّحْنا الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴿126﴾" أيْ لكنَّ هذه الآيات هي نافعة فقط للذين يَتذكّرون ولا يَنْسُون هذا الذي هو موجود في فطرتهم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّرون ربهم وإسلامهم، ويعقلون كل هذا بعقولهم ويتدَبَّرونه ويدرسونه، ويُذاكرونه كما يُذاكرون دروسهم وعلومهم ويربطون بين أجزائها ومعلوماتها ويحفظونها ويراجعونها حتي لا ينسوها، ويكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لينتفعوا ويسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. هؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَسعدون بالإسلام الذي في هذا القرآن العظيم بينما لا أثرَ له في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿127﴾" أيْ لهؤلاء المُتَذَكّرين، لهؤلاء المؤمنين بربهم العاملين بأخلاق إسلامهم أصحاب الصدور المُنْشَرِحَة به السائرين بإرشاده علي الصراط المستقيم في كل شئون حياتهم في كل أقوالهم وأعمالهم، لهم دار السلامة والسعادة والأمان والصلاح والكمال، دار الله لأنَّ السلام اسم من أسمائه تعالي وتسميتها كذلك هو لتعظيمها ولتكريمها، وهي الجنة، هي جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، عند ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم – أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وفي ضمانه وكفالته ووَعْده الذي لا يُمكن أن يُخْلَف مُطْلَقَاً، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي وعده عنده لهم بأن يكونوا في دار السلام في دنياهم يكرمهم بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهُوَ وَلِيُّهُمْ.." أيْ وهو تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود القادر علي كلّ شيءٍ وَلِيّ أمرهم يديره لهم علي أكمل وجهٍ فيُعينهم ويُؤيِّدهم وينصرهم ويرعاهم ويُوَفّقهم ويُؤَمِّنهم ويُسعدهم، فهو مُحِبّهم وراعِيهم وناصرهم ومُعِينهم وحَليفهم، فهنيئاً لهم هذا، حيث سيُوَفّر لهم حتماً الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. ".. بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿127﴾" أي بسبب ما يعملونه من أعمالٍ صالحةٍ من خلال عملهم بأخلاق إسلامهم في كل شئونهم
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿128﴾ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿129﴾ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿130﴾ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴿131﴾ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿132﴾ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ﴿133﴾ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴿134﴾ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿135﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿128﴾"،"وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿129﴾" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ هذا بيانٌ لمَشْهَدٍ من مَشَاهِد أهوال الآخرة وأحوال المُسِيئين أثناءها عندما يقفون أمام ربهم لحسابهم.. أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي جميع البَشَر، ثم يُخاطِب المُسيئين منهم ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ في النار، حيث تَبدأ الحقائق في التّكَشُّف وتبدأ المحاولات اليائسة لكل مُسِيءٍ أن يَتَبَرَّأ مِن فِعْله السَّيِّء، فتكون بهذا الحجَّة عليهم أقويَ وأشدّ ولا يكون لهم أيّ دفاع يدافعون به عن أنفسهم، يُخاطِبهم قائلا علي سبيل الذمّ والتحقير والترهيب، يا معشر الجن أي يا جماعة الجنّ أي الشياطين أيْ كلّ شرٍّ مِن عقولهم أو مِن عقول مَن حولهم مِن المُسِيئين – والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – قد استكثرتم من الإنْس أيْ قد أكثرتم من إضلال الإنس أيْ بَنِي الإنسان أيْ الناس حتي تَبِعَكم كثيرٌ منهم واستجابوا بكامل حرية إرادة عقولهم لهذا التفكير الشَّرِّيّ ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وبالتالي فلم يَستجيبوا للخير باتّباع الإسلام (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام﴾.. ".. وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ.." أيْ وقال أتْبَاعهم من الإنْس أي مِن بَنِي الإنسان أيْ من الناس، أتْبَاع الجِنّ أيْ أتْباع الشياطين أيْ أتْبَاع الأفكار الشرية بداخل العقول ومُطِيعوها وأعوانها ونُصَراؤها وأصدقاؤها ونحو هؤلاء مِمَّن لا يَتّبعون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، قالوا مُعْتَرِفين بجرائمهم بكلّ حَسْرَةٍ وعارٍ وذِلّةٍ وذُعْرٍ ونَدَمٍ في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ ندمٍ حيث لا عمل بل حساب، ربنا لقد انتفع بعضنا ببعض بأنْ تعاوَنّا فيما بيننا علي الاستمتاع بفِعْل الشرِّ والفساد مُتَوَهِّمِين أننا سنَستمتع حقّاً بهذا فصُدِمْنا بأنها مُتْعَة وسعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية سطحية لا مُتَعَمِّقَة مُؤَقّتَة لا دائمة يتبعها دائما أو غالبا مرارات وتعاسات علي قَدْر شَرِّنا وفسادنا الذي فعلناه ومع ذلك لم نَسْتَفِق ونُحسن استخدام عقولنا ونمتنع عنه ونفعل الخير والصلاح بل أستمَرَّيْنا وأصْرَرْنَا علي ما نحن فيه.. وفي هذا تحذيرٌ وتذكيرٌ لكل مسلمٍ أن يَتّخِذ الشيطان دائما عدواً حتي لا يَذِلّ ويتعس في دنياه وأخراه.. ".. وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا.." أيْ وهذا مزيدٌ من الحَسْرَة والإنكسار والندَم والفَزَع والاعتراف بالسوء منهم.. أيْ واستمرّ ذلك مِنّا بلا أيِّ عودةٍ للخير إلي أن وَصَلْنا موعدنا الذي حَدّدته لنا وهو موعد موتنا وموعد يوم القيامة والحساب ونحن في أسوأ حالٍ حيث سنُعَاقَب حتماً علي سوء أقوالنا وأفعالنا وليس لنا الآن أيّ حُجَّةٍ أو عُذْر.. ".. قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا.." أيْ قال الله تعالي لهم النار هي مكان إقامتكم واستقراركم الدائم حيث تمام العذاب والتعاسة والذلّ والفضح والتحقير، هي المُسْتَقرّ لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وستكونون خالدين فيها أيْ ستَبْقون مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنكم عذابها لحظة فأنتم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.." أيْ إلا مَن شاء الله عدم خلوده فيها وإنقاذه منها وهم عُصَاة المسلمين، بينما الخلود الذي سَبَقَ ذِكْره هو للكافرين أيْ المُكَذّبين بوجود الله أصلا وحسابه وعقابه وجنته وناره ففعلوا كلّ شرٍّ لأنه لا حساب من وِجْهَة نظرهم.. ومِن المعاني كذلك إلا ما شاء الله مِن تعذيبكم بغير النار في بعض الأوقات.. هذا، وعند بعض العلماء المعني هو إلا ما شاء الله عدم خلود النار للأبد والانتهاء والفناء تماما لها وذلك بعدما يأخذ كلّ مُسْتَحِقّ لعذابها بالتمام عقابه وعذابه، مهما طال، ولا يُزاد عليه أيّ شيء، لأنَّ الخلود والاستمرار فيها بما يَزيد عن مقدار عقوبته ولو للحظةٍ واحدةٍ فيه مُخَالَفَة لعدل الله تعالي وحاشا له سبحانه أنْ يَظلم مقدار ذرّة، ويكون معني الخلود عند هؤلاء العلماء المدة الطويلة جدا ذات العذاب الشديد، لكنْ بعد أن يُنهي كل مُعَاقَب عقوبته، يخرج من النار ويدخل أقلّ درجات الجنة، برحمة الله تعالي التي وَسِعَت كلّ شيء، وبعد أن أخذ كلٌّ حقه، حتي إذا خَرَجَ آخر المُعَاقَبين من النار وهو أسوأ الناس حيث هو أطولهم عقوبة بعدها يُفْنِي الله هذه النار ولا يبقي خالدا أبداً إلا الجنة ليَنعم فيها البَشَر علي حسب درجات أعمالهم.. ".. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿128﴾" أيْ إنَّ ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم وأيها الإنسان بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وعليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي حكيم في التعذيب والإثابة عليم تماما بمَن يَسْتَحِقّ هذا أو ذاك وبمقدار استحقاقه.. "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿129﴾" أيْ وهكذا دائما، نُسَلّط الظالمين بعضهم على بعضٍ في الدنيا فيَظلم بعضهم بعضاً ويأخذ حقّه ويُؤذيه ويُهينه ويذِلّه ويُعَذّبه ويهلكه وقد يَقتله ونحو ذلك من كل ما يجعل حياتهم – ثم آخرتهم – عذاباً وتعاسة، بسبب ما يكسبون أيْ يعملون من الشرور والمَفاسد والأضرار، فهذا هو القانون الإلاهِيّ العادل للحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فمَن يَزرع حُسْناً لابُدّ حتما أن يَحصد حُسْناً، أن يحصد كل خيرٍ وسعادة، ومَن يزرع سوءاً لابُدّ حتما أن يحصد سوءاً، أن يحصد كل شرٍّ وتعاسة.. إنَّ هذا التّسَلّط مِن بعضهم علي بعضٍ هو المُتَوَقّع دائما أو غالبا فيما بين الظالمين وفي أوْسَاطهم كما يُثْبِت ذلك الواقع حيث يَحْيَوْنَ بلا أخلاقٍ لأنهم ابتعدوا عن ربهم وإسلامهم الذي هو مصدر كل خُلُقٍ يُسعدهم في الداريْن.. إنهم يظلم بعضهم بعضا رغم أنهم في ذات الوقت يُوالِي بعضهم بعضا علي الشرّ أيْ يُعينه عليه ويُيَسِّره له ويُطيعه ويُصَادِقه فيه!! وذلك بسبب سوء أخلاقهم.. إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أيْ الضياع أي الشرّ والفساد والظلم فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه ويَجعله يُوالِي الظالمين ويُوَلّيهم عليه وعلي شئون حياته لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه.. إنَّ هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ وتذكيرٌ لكل مسلم أن يكون دائما مع الصالحين لا مع الظالمين وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لأنَّ كلّ فريقٍ يُوالِي بعضه بعضا، أيْ يُساعده ويُيَسِّر له أموره، فإنْ كان المسلم مع الصالحين عاوَنَ بعضهم بعضا علي الخير دوْما فينتشر بينهم وينشروه لغيرهم فيسعدون بالتالي جميعا في دنياهم وأخراهم، بينما لو كان مع الظالمين فإنه غالبا تدريجيا يكون مِثْلهم أو شَبيهاً بهم كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا لأنهم يفعلون مثل أهل الخير حيث يوالي بعضهم بعضا لكنْ لكلّ شرّ، فينتشر بذلك الشرّ والفساد والظلم ويتعس الجميع في الداريْن
ومعني "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿130﴾" أيْ هذا خطابٌ من الخالق تعالي لجميع الخَلْق يوم القيامة، ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ للمُسيئين قبل العذاب الجسديّ في النار.. أي يا جماعة الجِنّ، والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن، وتوجيه الخطاب لها في الآخرة مع البَشَر وذِكْر ذلك في القرآن الكريم رغم أنَّ بقية الحديث في هذه الآية الكريمة هو للبَشَر لا لها – عند أكثر العلماء – هو لبيان أنها مخلوقات ضعيفة كالبَشَر ستكون حاضرة يراها البَشَر حينها بما يُعطيهم سبحانه من قُدْرَة علي ذلك وبالتالي فلا يُعْقَل إذَن أن يُعْبَدَ في الدنيا مخلوقٌ ضعيفٌ هو تحت تصرّف خالِقه تماما ويُتْرَك الخالِق سبحانه! حيث البعض يعبدون مخلوقاتٍ غير خالِقهم كجَنٍّ أو أصنامٍ أو كواكب أو غيرها يُطيعونها ويَلجأون إليها ويسألونها وهي لا تملك لهم أيّ نفعٍ أو تمنع عنهم أيَّ ضَرَر! تعالي الله عمَّا يفعلون ويقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَالْإِنْسِ.." أيْ ويا معشر الإنس أيْ يا بني الإنسان أيْ يا أيها الناس.. ".. أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.." أيْ هل لم يَصِل إليكم، والاستفهام للإقرار أيْ لكي يُقِرُّوا هم بذلك، أيْ لقد وَصَلَ إليكم بالفِعْل في الدنيا أيها الناس رُسُلٌ منكم أيْ مِن جِنْسِكم أيْ مَبْعُوثون بَشَرٌ مثلكم مِنّي إليكم تَعرفون صِدْقهم وحُسن أخلاقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ يَقرأون عليكم ويَذْكُرون ويَرْوُوُن لكم ويُخْبِرُونكم آياتي أيْ دلالاتي ومُعجزاتي والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حولكم لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيري تدلّ علي وجودي وكمال قُدْرتي وعِلْمي واستحقاقي وحدي للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أو مُعجزات علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم.. هذا، وعند أكثر العلماء أنَّ الجِنَّ ليس منها رُسُل، لأنَّ الله تعالي لم يذكر شيئا عن ذلك، كما أنَّ ليس لها رسل، وإنما تستمع بعض هذه المخلوقات الخَفِيَّة – والتي عيون البَشَر ليست مُجَهَّزَة لرؤيتها في الدنيا لكنها تراها في الآخرة – لآيات الله تعالي ولإنذاراته فتستوعبها بطريقتها التي فَطَرَها أيْ خَلَقَها عليها، علي اعتبار أنها أمَمٌ أمثالنا كما قال تعالي " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ.." ﴿الأنعام:38﴾، فتستمرّ فيما خُلِقَت من أجله، مُسَخَّرة لنفع بني آدم في الكوْن بصورةٍ من الصور، ثم يوم القيامة، وبعد الحساب، تفْنَيَ كل هذه المخلوقات، ويبقي الإنسان، حيث الجنة بنعيمها الخالد الذي لا يَفْنَيَ للمؤمنين المُحسنين، والنار للكافرين والمُسيئين، وبذلك يكون لفظ "رسل منكم" يعود علي الإنس فقط لا علي الإنس والجنّ معا عند هؤلاء العلماء.. ".. وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا.." أيْ ويُحَذّرونكم لقاء ومُقابَلَة وحضور عذاب وهَوْل يومكم هذا الذي أنتم فيه الآن وهو يوم القيامة يوم لقاء ربكم لحسابكم وعقابكم، وذلك حتي تفعلوا كل خيرٍ وتتركوا كل شرٍّ من خلال عملكم بكل أخلاق إسلامكم لتُجَازُوا بالسعادة في الداريْن، لكنكم أيها المُسِيئون لم تستجيبوا وتُصَدِّقوا وتُسْلِمُوا.. فهل لم يأتكم رُسُل أم أتاكم؟.. ".. قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا.." أيْ قال المُسِيئون اعترفنا علي أنفسنا بأنَّ رسلك قد بَلّغونا آياتك وأنذرونا لقاء يومنا هذا وأقررنا بما ارتكبنا من سوء.. ".. وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.." أيْ والسبب في ذلك أنهم قد خَدَعَتْهُم الحياة الدنيا فلم يُحسنوا طَلَبَها مع طَلَب الحياة الآخرة كما نَصَحَهم الله والإسلام بل فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء مراجعة كيفية إحسان طلب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، ولْيُحسن الاستعداد لذلك اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.. ".. وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿130﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التفصيل والتأكيد لاعترافهم حيث في شهادتهم الأولي علي أنفسهم شهدوا بأنَّ الرسل الكرام قد قَصُّوا عليهم وبَلّغُوهم وعَلّموهم آيات الله في الدنيا وأحسنوا دعوتهم إليها بلا أيِّ تقصيرٍ وأنذروهم لقاءه تعالي بالآخرة بينما في هذا الجزء من الآية الكريمة يشهدون بأنهم كانوا كافرين أيْ مُكَذّبين بوجوده سبحانه وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره مُعانِدين مُستكبرين مُسْتَهْزِئين فاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار ولكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وِجْهَةَ نظرهم.. وبهذا الاعتراف علي أنفسهم لم يَعُد لهم أيّ عُذْرٍ وثبتت الجريمة عليهم إذ الاعتراف سَيِّد الأدِلّة واستحقّوا بالتالي عليها العذاب الأليم الذي لا يُوصف بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴿131﴾"، "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿132﴾" أيْ ذلك الذي ذَكَرْناه لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من إرسال الرسل ومعهم الكتب التي فيها أخلاق الإسلام ليَقُصُّوا على الناس آيات الله سببه أنَّ ربك لم يَكُن أبداً من شأنه ولا من سُنَنه أيْ أساليبه في كوْنه ولا مِن حكمته ورحمته وعدله وكماله وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ أن يهلك أهل القري أيْ البلاد بسبب أىِّ ظلمٍ أيْ سوءٍ فعلوه وهم غافلون عن الحقّ والعدل والخير والصواب أيْ لا يعلمونه ولا يَدْرُون به، بل لابُدّ أنْ يُبيّن لهم بتمام البيان بواسطة رسله وكتبه ودعاته لله وللإسلام مِن بَعْدِهم أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة وأنْ يُبَشّرهم أنَّ فاعل الخير من خلال العمل بأخلاق الإسلام له كل خيرٍ وسعادة في دنياه وأخراه وأنْ يُحَذّرهم أنَّ فاعل الشرّ التارِك لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها له كل شرّ وتعاسة فيهما علي قَدْر تَرْكه لها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿15﴾ من سورة الإسراء ".. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا"، ثم الآية ﴿24﴾ من سورة فاطر ".. وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ"، ثم الآية ﴿165﴾ من سورة النساء "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.."﴾.. كذلك من المعاني أنه تعالي لم يكن أبداً، وهو الخالق الرحيم الكريم المُرَبِّي الراعِي الرازق المُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن، مُهْلِكَ القري بظلمٍ منه، أيْ يَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحدث حتماً مِثْل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، لكنَّ الذين يُعَذّبون هم يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! وقد نَبَّههم سبحانه سابقا لهذا، وأعطاهم العقول التي يُمَيِّزُون بها بين الخير والشرّ، فلْيَأخذ إذَن كلٌّ حقّه في الداريْن علي قَدْر ما يفعل.. "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿132﴾" أيْ ولكلٍّ من أهل الخير وأهل الشرّ منازل ومَراتِب في الجنة والنار حاصِلَة مِمَّا عملوه مِن خيرٍ أو شرٍّ في حياتهم الدنيا، ولقد جَعَلَ سبحانه أجرهم هكذا في صورةِ درجاتٍ ليُوَفّيهم جزاء أعمالهم فلا يُظْلَمون شيئا أيْ لكي يُعطيهم حقّهم عنها وافيا تامَّاً بكلّ عدلٍ بغير أيّ نقصٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته.. ".. وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿132﴾" أيْ وليس ربك حتماً بغافلٍ عن كلّ ما يعملونه وما يقولونه هؤلاء وهؤلاء أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته لأنه معهم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه أينما كانوا، وهو سيُحاسب الجميع عليها في دنياهم وأخراهم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ﴿133﴾" أيْ هذا بيانٌ لِغِناه سبحانه عن كلّ عَمَلٍ وعن كل عامِلٍ وأنه هو صاحب الرحمة الواسعة الدائمة التي وَسِعَت كل شيءٍ وبالتالي فمَا سَبَقَ ذِكْره من إرسال الرسل والكتب بالإسلام ليس لنفعه تعالي حتماً بل لرحمته بالناس ليَصْلُحوا بأخلاقه ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ وربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه وهو المُسْتَغْنِي عنهم وهم المُحتاجون إلي أفضاله وأرزاقه ورحماته ومَعوناته في كل شئون ولحظات حياتهم، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كَفَر الناس جميعا!.. وهو صاحب الرحمة فهو دوْماً الرقيق الرفيق مع خَلْقه العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. ".. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ﴿133﴾" أي هذا مزيدٌ من التأكيد والتدليل علي أنه هو وحده الغنيّ ذو الرحمة وأنه ليس بحاجةٍ لخَلْقه وأنه القادر علي كل شيءٍ فقدرته نافِذَة لا تمنعها شيء.. أيْ إذا يريد أن يُذهبكم أيْ يُنْهِيَكم أيها الناس من الحياة الدنيا في أيّ وقت – بقوّته سبحانه التي تَرَوْنها وتعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره – وأن يجعل خُلَفاء مِن بَعْدكم في الأرض ما يريد من خَلْقٍ جديدٍ غيركم يَخْلفونكم مِن بَعْد فنائكم كما خلقكم أنتم من ذرِّيَّة أناسٍ آخرين كانوا قبلكم وكنتم وارِثين لهم مِن بعدهم، فيَعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم، لَفَعَلَ ذلك حتماً بقول كُنْ فيكون، فهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيزٍ أي صعبٍ أو بعيد التحقّق.. فانْتَبِهوا لهذا واعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. فهو تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾.. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم.. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان.. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان علي ذلك الذهاب بكم والإتيان بآخرين، قديراً أي كثير عظيم القُدْرة الذي لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد
ومعني "إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴿134﴾" أيْ إنَّ الذي تُوعَدُونه أيها الناس في القرآن الكريم من حُدُوث يوم القيامة والبَعْث فيه أيْ إحيائكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم تُرَابَاً ومِن الجزاء والحساب والعقاب والجنة والنار هو آت أي قادم واقِع حادِث حتما بكل تأكيدٍ بلا أيّ كذب أو شكّ، بلا أيِّ تقديمٍ أو تأخير، فالله تعالي لا يُخْلِف وَعْده مطلقا فوعده الصدق.. إضافة بالقطع إلي قدوم ووقوع وحدوث ما تُوعَدون به في دنياكم مِن كلّ خيرٍ وسعادة لمَن يعمل بأخلاق إسلامه وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيها بمقدارٍ يُساويِ ما يَترك منها.. وبالتالي وبما أنَّ ما تُوعَدُون به سيأتي بالتأكيد، وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴿134﴾" أيْ وليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ – هي أنّه ليس لكم غير الله تعالي وَلِيَّا، أيْ وليّا لأموركم يديرها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿255﴾ من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل)، وإن اتخذتم غيره وليّا فلكم تمام التعاسة فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل)، وكذلك ليس لكم أيّ نصيرٍ ينصركم ويعزّكم ويرفعكم إذا ابتعدتم عنه ولجأتم لغيره، ستنهزمون في الدنيا، ثم في الآخرة لن ينصركم أيْ ينقذكم أيّ أحدٍ مِن عذابه لمَن يستحقّه منكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سينصرهم الله في كل شئون حياتهم، ثم الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ من سورة آل عمران أيضا، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده﴾، فمَن يريد إذن ولاية الله المُسْعِدَة ونصره المُسْعِد، في دنياه وأخراه، فليتّخذ أسباب ذلك بأن يؤمن بربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه
ومعني "قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿135﴾" أيْ لا تَهْتَمّ كثيرا أيها المسلم المتمسّك بكل أخلاق إسلامك بعَداء مَن حولك ومَكرهم مِن المُكَذّبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يُشبههم بل أخبرهم بأدبٍ وبصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ أنك عاملٌ ما كنت عليه أيْ مستمرٌّ ثابتٌ علي طريق ربك وإسلامك المُسْعِد في الداريْن عاملٌ بأخلاقه ومستمرٌّ في حُسن دعوتهم وجميع الناس لهما بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، وأخبرهم أنْ يكونوا هم أيضا عامِلين علي مَكَانتهم أيْ مستمرّين علي حالتهم وطريقتهم التي هم فيها ومُصِرِّين عليها من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ومستمرّين علي عدائهم للإسلام وللمسلمين وللحقّ وللعدل وللخير قدْر إمكاناتهم واستطاعاتهم، وذلك لأنك تثق ثقة تامّة بسبب توكّلك التامّ علي ربك بمَن ستكون له عاقبة الدار أيْ نتيجة أعمال هذه الدار الدنيا أي حُسن النتيجة فيها ثم في الدار الآخرة، أنت أم هم، إنه أنت بالقطع، حيث أهل الخير حتما سيُفلحون وسيَنتصرون وسيَسعدون في الداريْن بينما أهل الشرّ حتما سيَفشلون وسيَنهزمون وسيَتعسون فيهما، وسيَظهر ذلك مع الوقت بكلّ تأكيد، وهذا هو معني ".. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ.." إذ حين ينزل الخير المُسْعِد بالمُحسنين في الدنيا وحين يَصِلكم يا مُسِيئين عذاب الله الذي يذِلّكم ويُهينكم ويَفضحكم فيها والذي سيكون بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في الآخرة حين يدخل المُحسنون درجات جناتهم بنعيمها الذي لا يُوصَف وحين يَحِلّ عليكم العذاب حيث تُقذفون وتُقيمون في عذابٍ دائمٍ مستمرٍّ من جهنم لا مَفَرّ منه فيما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد من عذاب دنياكم، حينها ستَعلمون وستَعرفون وستُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا مَن تكون له عاقبة الدار مِنّا ومنكم، مَن الذي كان علي الحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الظلم والشرّ والفساد.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿135﴾" أيْ لأنه بكل تأكيدٍ لا يُفلح الظالمون أي لا يَفوزون ولا يَنجحون ولا يَسعدون في دنياهم وأخراهم.. والظالم هو كل مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوعٍ من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشر أم ما شابه هذا
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿136﴾ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿137﴾ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿138﴾ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿139﴾ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴿140﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿136﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض سَفَه المشركين – وهم الذين يُشركون مع الله تعالي في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه – وخَبَلهم وانحطاطهم وتخريفهم بما يدعو للسخرية منهم والشفقة عليهم مِمَّا ذهبت عقولهم له من التّدَنّي في التفكير، وكل ذلك لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ وجَعَلَ المشركون، جعلوا لله خالقهم، مِمَّا ذَرَأ أيْ خَلَقَ هو سبحانه من الزروع والدّوَابّ، جعلوا له نصيباً أيْ جزءاً منه، فكأنهم هم يُمَلّكونه بعضاً مِن مُلْكِه ومِمَّا خَلَق!! فقالوا هذا الجزء لله بزعمهم أيْ بادِّعائهم الكاذب أنهم يُعطونه له سبحانه حيث ينفقونه علي المحتاجين ويُسَمُّون هذا الجزء الذي للخير هو لله وهو كذب واضح مفضوح منهم ومجرّد ادّعاء لأنهم لا يعملون بما يقولون حيث لا يُوفون بوعودهم في الإنفاق في الخير إلا بما يُحَقّق لهم فَخْرَاً وتَعَالِيَاً علي الآخرين وسُمْعَة وجَاهَاً ونحو هذا ولأنَّ جَعْل جزءاً لآلهةٍ غيره تعالي ليس حتماً أبداً من شَرْعه كما يَدَّعون كذباً وزُورَاً وإنما هم الذين شرعوه لأنفسهم وغيرهم من المشركين أمثالهم لأنَّ المُلْك في الأصل كله لله خالقه ومِن المُفْتَرَض أن يُنفقوا كما يُوَجّههم ويأمرهم صاحب المُلك فيما ينفقون لا كما يُشَرِّعون هم وبالتالي فهم مُتَعَدُّون عليه تعالي حيث هو وحده المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتما فيهما.. وهذا لشركائنا أيْ وهذا الجزء الآخر هو لآلهتنا التي نعبدها نُقَدِّمه لها لخِدْمتها ولمَن يَخدمونها ويعبدونها نَتَوَسَّل به إليها لتَرْضَيَ عنّا فنحيا برضاها آمنين من غضبها وعذابها وقطعها الأرزاق عنّا!!.. ".. فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ.." أيْ وحتي هذا السَّفَه الذي يفعلونه لم يكونوا عادِلِين فيه بل كانوا ظالمين!! وهذا هو المُتَوَقّع منهم حتماً لأنَّ مَن ظَلَمَ بألاّ يَتّبِع الحقّ بأنْ عَبَدَ غير الله تعالي يُتَوَقّع منه قطعا أن يكون ظالما في غالب أو حتي كل شئون حياته!.. أي فما كان من هذا الحرث وهذه الأنعام من القِسْم الذي يُتَقَرَّب به إلى شركائهم أيْ أصنامهم فلا يَصِل إلى الله منه أيّ شيءٍ أيْ لا يَفعلون به أيّ خير ويَصِل كاملاً لهذه الأصنام، وما كان من القِسْم الذي هو لله أيْ للخير فإنهم يَجُورُون عليه ويأخذون بعضه أو كله أحيانا أو غالبا أو دائما فلا يفعلون به خيراً ويُوصلونه إلي أصنامهم لخدمتها وصيانتها وصناعتها ولمَن يخدمونها ويعبدونها!!.. ".. سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿136﴾" أيْ ما أسوأ هذا الحُكْم علي الأمور الذي يحكمونه، ما أسوأ هذا التفكير السَّفِيه السَّطحِيّ الخاطيء المُضِرّ المُتْعِس!.. وفي هذا ذمّ شديدٌ لهم على أحكامهم وأفكارهم الفاسدة التي تُخالِف كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. إنهم بكل تأكيدٍ سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم
ومعني "وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿137﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من سَفَهِهم وخَبَلِهم وتخريفهم وانحطاطهم وإغلاقهم لعقولهم.. أيْ وكما زَيَّنَ أيْ حَسَّنَ شركاؤهم أيْ شركاء هؤلاء المشركين أيْ شياطينهم – والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلِّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – ورؤساؤهم وزعماؤهم أن يُشركوا بالله فيَعبدوا الأصنام وأن يجعلوا لله نصيباً ولأصنامهم نصيباً مِمَّا ذَرَأ من الحرث والأنعام كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ زَيَّنُوا كذلك لكثير منهم قتل أولادهم بسبب الفقر أو الخوف منه أو من العار إن كانوا بناتا حيث هم مِن سَفههم يعتبرون مَن رُزِقَ ببنتٍ فهو ضعيف والتصق به عارٌ حتي يتخلّص منها أو يقتلونهم لتقديمهم للأصنام كقرابين يتقرَّبون بها إليها لتَرْضَيَ عنهم ولا تُؤذيهم وتقطع أرزاقهم، بما يَتَعارَض مع أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وسُمُّوا شركاء لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من قتل الأولاد وغير ذلك من سَيِّئاتٍ وفَظَاعاتٍ وتخريفاتٍ وبالتالي فقد أشركوهم مع الله تعالي في العبادة لأنَّ العبادة ما هي إلا الطاعة وعبادة غيره سبحانه تُعْتَبَر حتماً شِرْكا.. هذا، ولفظ "كثير" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ بعضهم كانوا يرفضون قتل أولادهم.. ".. لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ.." أيْ فَعَلوا ذلك التزيين لكي يُرْدُوهم أيْ يُهْلِكوهم أيْ لِمَا يُؤَدِّي إلي هلاكهم ولكي يَلبسوا عليهم دينهم أيْ يَخْلِطوا عليهم دينهم الذي هو دين فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا والذي مِن المُفْتَرَض أن يكونوا عليه والذي هو دين الله الذي هو الإسلام أيْ يَخلطوا الحقّ بالكذب فلا يعملوا بأخلاق الإسلام ويشركوا به تعالي فيهلكوا بسبب ذلك حيث يُعَذّبون ويتعسون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. وما فعلوا ذلك التزيين إلا من أجل التّلْبِيس والتشويش علي الناس ومَنْع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ.." أيْ ولو أراد الله أيها الرسول الكريم وأيها المسلم ما فَعَلَ هؤلاء هذا الذي ذُكِر، أيْ هذا التزيين والقتل والشرْك وغيره من السوء، لأنَّ فِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ولكنه لم يشأ ألاّ يفعلوه، للمصلحة، للاختبار (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لتَخرجوا أيها المسلمون من مثل هذه الأحداث حولكم مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة حيث ستَتَمسّكون وتعملون أكثر بإسلامكم وتَحرصون عليه وعلي نَشْره والدفاع عنه أكثر وأكثر حتي لا يمنعكم منه أعداؤكم وهو مَصْدَر سعادتكم في دنياكم وأخراكم أنتم وجميع الناس لو عملوا بكل أخلاقه.. إنه تعالي خَلَقَ وشاء نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحراراً لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وقد سَمَحَ سبحانه بوجود الشرّ وبهذا التفكير الشرّيّ وجَعَلَه صِفَة من صفات عقول البَشَر لا ليفعلوه ولكنْ ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾.. وفي هذا بيانٌ لبعض حِكَم الله تعالي فيما يَحْدُث من أحداث، كما أنَّ فيه أيضا مزيداً من التّسْلِيَة والتخفيف عن المسلمين والتثبيت والطَمْأَنَة والتبشير والإسعاد لهم.. ".. فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿137﴾" أيْ فاتْرُك أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم وما يَكْذِبونه علي الله من كفرٍ وعداءٍ وغيره من شرور ومفاسد وأضرار فلا تَتَأثّر بأقوالهم وأفعالهم واستمرّوا علي عملكم بإسلامكم ودعوتكم له ودفاعكم عنه وادعوهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم واصبروا وتوكّلوا علي ربكم، فإن لم يستجيبوا ويعملوا بالإسلام، فسوف يعلمون سوء نتائج ذلك، أيْ فإذا أصَرَّ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُفْتَرون علي الله كل أنواع الكذب، علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وافترائهم، فذرْهم إذن، أيْ اتركهم فيما هم فيه، فلقد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، فاتركهم يخوضوا أي يَنْغَمِسوا ويَتَوَغّلوا ويسيروا ويزدادوا ويستمرّوا في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين، حتي يحين الوقت الذي يُلاقون ويُقابلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وعدناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أفعالهم ومصيرهم، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب.. كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني "وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿138﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من سَفَه هؤلاء المشركين وخَبَلِهم وتخريفهم وانحطاطهم وإغلاقهم لعقولهم، حيث حَرَّموا ما أحَلّه الله تعالي للناس ولهم وليس عندهم أيّ مَنْطِقٍ أو دليل!.. أيْ وقال المشركون مُحَدِّدِين مجموعة من الدوابّ والزروع: هذه دوابّ وزروعٌ حِجْرٌ أيْ مَحْجُورٌ أيْ مَمْنُوعٌ أكلها قد حَرَّمناها عليكم لا يأكلها إلا مَن نشاء له أن يأكلها يَقصدون الذين يخدمون الأصنام والرجال لا النساء ومَن يُريدون ويَأذنون له من أجل تحقيق غَرَضٍ مَا ككسْبِ مالٍ مثلاً أو مَنْصِبٍ أو جاهٍ أو غيره، وذلك بزعمهم أيْ مِن ادِّعائهم الكاذب لأنه ليس حتماً أبداً من شَرْعه سبحانه وإنما هم الذين شرعوه لأنفسهم وغيرهم من المشركين أمثالهم وبالتالي فهم مُتَعَدُّون عليه تعالي حيث هو وحده المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتما فيهما.. ".. وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا.." أيْ وقالوا كذلك مُشِيرين إلى مجموعةٍ أخرى مِن دَوَابِّهم: هذه أنعامٌ حُرِّمَت ظهورها أيْ مُنِعَت ظهورها أيْ حَرَّمنا ركوبها وتحميل أحمالٍ علي ظهرها، لتقديسها لأنها ستُخَصَّص للآلهة.. ".. وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا.." أيْ وقالوا أيضا هذه أنعام أيْ إبل وأبقار وأغنام ونحوها لا يُذْكَر اسم الله عليها عند الذبح وإنما يُذْكَر عليها أسماء الأصنام التي هي آلهتهم لأنها ذُبِحَت من أجلها تَقَرُّبَاً لها لتَرْضَيَ عنهم فلا تُؤذيهم وتَقطع أرزاقهم.. ".. افْتِرَاءً عَلَيْهِ.." أيْ فعلوا وقالوا كل ذلك كذباً على الله تعالي، فهم يَكْذبون عليه حيث يَدَّعون كذباً وزُورَاً أنَّ هذا مِمَّا شَرَعه الله لهم وأمرهم به وهو حتماً لم يُشَرِّع مثل هذا السَّفًه.. ".. سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿138﴾" أيْ سيُعطيهم الله تعالي ومَن يَتَشَبَّه بهم عقاباً بسبب وبمِقْدار وفي مُقابِل وجزاء افترائهم هذا الذي يَفترونه أيْ كذبهم هذا الذي يَكْذبونه، إنْ لم يتوبوا منه، بما يُناسبه، بدرجةٍ مَا من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿139﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من سَفَه هؤلاء المشركين وخَبَلِهم وتخريفهم وانحطاطهم وإغلاقهم لعقولهم، حيث حَرَّموا ما أحَلّه الله تعالي للناس ولهم وليس عندهم أيّ مَنْطِقٍ أو دليل!.. أيْ وقال المشركون ما في بطون هذه الأنعام التي حَرَّمنا أكلها واستخدامها وخَصَّصناها لآلهتنا – والتي ذُكِرَت سابقا – من أجِنَّةٍ ستَلِدها هي مُبَاحَة خالصة مُخَصَّصَة للذكور مِنّا وحدهم فقط بلا مشاركةٍ من النساء يأكلونها وينتفعون بها، وحرامٌ على نسائنا فلا يأكلن وينتفعن منها، وذلك إذا وُلِدَ حيَّاً، وإنْ وُلِدَ ميتاً يشتركون فيه بالأكل والانتفاع، وهم بذلك يُضِيفون لسَفَهِهم صورة من صور ظلم النساء واحتقارهنّ!.. ".. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ.." أيْ سيُعطيهم تعالي ومَن يَتَشَبَّه بهم عقاباً بسبب وبمِقْدار وفي مُقابِل وجزاء وَصْفِهم الكذب علي الله أيْ كذبهم عليه سبحانه حين وَصَفوا ما أحَلّه بأنه حرام وما حَرَّمه بأنه حلال فخَالَفوا شَرْعه ونَسَبُوا ذلك إليه كذباً وزُورَاً أنه هو الذي شَرَعَه، سيَجْزيهم إنْ لم يتوبوا منه، بما يُناسبه، بدرجةٍ مَا من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿139﴾" أيْ إنَّ الله تعالي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وعليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي حكيم في التعذيب والإثابة عليم تماما بمَن يَسْتَحِقّ هذا أو ذاك وبمقدار استحقاقه
ومعني "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴿140﴾" أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد خسر الذين قتلوا أولادهم لضعف عقولهم وجهلهم، وحَرَّموا ما رزقهم الله من بعض الأرزاق، كذباً على الله تعالي حيث يَكْذبون عليه مُدَّعِين زُورَاً أنَّ هذا مِمَّا شَرَعه لهم وأمرهم به وهو حتماً لم يُشَرِّع مثل هذا السَّفًه والجهل.. لقد خسروا حتماً في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا قد خسروا أبناءهم بقتلهم وخسروا بعض زروعهم ودوابِّهم وأموالهم إذ حَرَّموا بعضها ومنعوا استخدام أو أكل أو بيع بعضها الآخر والانتفاع به وخسروا بصورةٍ عامة حيث سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب سوئهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. قَدْ ضَلُّوا.." أيْ هذا بيانٌ للنتيجة الحَتْمِيَّة لمَن يُشَرِّع شَرْعَاً يُخالِف شَرْع الله الإسلام.. أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ بسبب ذلك قد ضاعوا أيْ ابْتَعَدَوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام.. ".. وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴿140﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ضلالهم أيْ ضياعهم، أيْ وبالتالي أيضا ما كانوا أبداً راشِدين مُصِيبِين للخير والسعادة في فِعْلهم هذا وما كانوا مطلقا مُحَقّقِين للربح في دنياهم وأخراهم ما داموا مستمرّين هكذا علي ما هم فيه
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿141﴾ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿142﴾ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿143﴾ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿144﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿141﴾" أيْ ومن بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده لا غيره الذي ابتدأ خَلْق جناتٍ لمنفعتكم ولسعادتكم أيْ بساتين وحدائق فيها أنواع كثيرة مختلفة من الأشجار والنباتات، بعضها مَعْرُوشات أيْ مَرْفوعات علي ما يَحملها ويَرْفعها عن الأرض كالعَرْش، وبعضها مُلْتَصِق بها لا عَرْش له.. وخَلَقَ كذلك النخل والزرع الذي يخرج منه الحبوب مُتَنَوِّعَاً طَعْمُه عند أكله، رغم أنَّ الماء الذي يسقيهما واحد والأرض واحدة بما يدلّ علي عظيم قُدْرته وعلمه سبحانه.. وخَلَقَ أيضا الزيتون والرمان، وغيره مِمَّا يَنفع ويُسعد الناس والخَلْق.. هذا، وقد تَمَّ تخصيص هذه النباتات بالذكر مع أنها من عموم الجَنّات لاشتهارها حيث الجميع يعرفها ولكثير منافعها ولأنَّ طعام كثيرٍ من الخَلْق منها.. ".. مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ.." أيْ بعض ذلك الذي ذُكِر مُتَشَابِه ظاهرياً في الشكل أحياناً مع اختلاف الأطعم والفوائد، وبعضه لا يَتشابَه، بما يدلّ علي تمام قُدْرَة خالقه سبحانه وحُبّه للناس وتكريمه وإسعاده لهم بتنويع نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف عليهم.. ".. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ.." أيْ كلوا أيها الناس من ثَمَر هذا النبات إذا خَرَجَ هذا الثمر، وهذا يُفيد أنَّ أكله حلال بمجرّد خروجه حتي ولو لم يَنْضُج إذا كان في ذلك مصلحة إلا إذا كان يَضرّ البعض فلينتظر نُضْجه، كما يُفيد تيسير الإسلام حيث جَعَل الأكل منه قبل حصاده وإخراج زكاته مَعْفِيَّاً عنه.. ".. وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ.." أيْ وأعطوا زكاته المفروضة عليكم فيه للمحتاجين يوم أن تَحصدوا وتَجمعوا هذه الثمار.. ".. وَلَا تُسْرِفُوا.." أيْ ولا تُجَاوِزوا الحَدَّ المَعْقُول المُعْتَاد المُتَعَارَف عليه عند أصحاب العقول الصحيحة في كل شئون حياتكم، سواء أكان في الأكل أم الشرب أم اللبس أم العمل أم العلم أم غيره من أيِّ شيء، لأنَّ الإسراف مُضِرٌّ مُتْعِسٌ حتماً للصحة والمال والفكر والعلاقات الإنسانية ونحو ذلك.. هذا، ومن الإسراف أيضا الإنفاق في غير مَوْضِعه وفي غير مَنْفَعَةٍ وفيما لا يُحْتَاج إليه، مع مراعاة أنَّ الأمر تقديريّ يَختلف مِن مَوْقِفٍ لآخرٍ ومِن شخصٍ لغيره.. كذلك من المعاني لا تُسرفوا في الأكل قبل حصاده فتَنتقصوا مِن حقّ المُحتاجين عند إخراج الزكاة لهم وأيضا لا تُسرفوا بإعطائهم زيادة عن حقّهم تجعلكم أنتم مُحتاجين ولكن عليكم بالتّوَازُن.. هذا، وأشدّ أنواع الإسراف وأكثره ضَرَرَاً وتعاسة في الداريْن هو تَجَاوُز حدّ الحلال إلي الحرام.. ".. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿141﴾" أيْ لأنَّ الله حتماً لا يُحِبّ مُطلقاً المُسْرِفين، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب إسرافه المُضِرّ المُتْعِس.. فاجتنبوا الإسراف أيها المسلمون تسعدوا في الداريْن
ومعني "وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿142﴾" أيْ وهو كذلك الذي أنشأ أيْ خَلَقَ لكم، لمنفعتكم ولسعادتكم، من الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – أنعاماً حمولة أيْ يُحْمَل عليها الأشياء وتُرْكَب للانتقال ويُؤْكَل بعضها، وأنعاماً فَرْشَاً، لا يُحْمَل عليها لضعفها أو لصغر أجسامها ولكن تُستخدم جلودها وأصوافها لصناعة المفروشات والأغطية والمَلْبُوسات ونحوها ويُؤْكَل بعضها أيضا.. ".. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.." أيْ كلوا واشربوا وانتفعوا وتَمتّعوا من كل ما أعطاكم الله من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ والتي خَلَقها في أرضه مِمَّا أحَلّه أيْ سَمَحَ به لكم ولم يُحَرِّمه أيْ يَمْنَعَه لضَرَره وتعاسته عليكم ولم تحصلوا عليه بمُعامَلَةٍ مُحَرَّمَة، ومِمَّا كان طيّباً أيْ نافعاً لا ضارَّاً تَستطيبه وتَستسيغه النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، ولا تأكلوا ولا تشربوا ولا تفعلوا أبداً مَا حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. واشكروه علي كل خيره هذا الذي لا يُحْصَيَ ليُبْقِيه لكم ويزيدكم منه.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿142﴾" أيْ ولا تَسِيروا خَلْف طُرُقات الشيطان الذي يأخذكم حتما للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات التامَّات في الدنيا والآخرة تدريجيا خطوة وراء خطوة حتي تنغمسوا تماما فيها ويصعب خروجكم منها والعودة للخير والسعادة فيهما، فكونوا دوْما حَذِرين من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذوه علي الدوام عدوا، أيْ إيَّاكم ثم إيَّاكم أن تتّبعوا خطواته وقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾.. ".. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿142﴾" أيْ لأنه عدو مُبين أيْ واضِح لكم، أيْ ضِدَّكم يريد إضلالكم أيْ إبعادكم عن كل خيرٍ وسعادة، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه
ومعني "ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿143﴾" أيْ هذه الأنعام التي خلقها الله تعالي ثمانية أصناف، أربعة منها من الغنم، وهي الضأن ذكوراً وإناثاً، والمعز ذكوراً وإناثاً.. "..قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ.." أيْ هذا توضيحٌ وكَشْفٌ لسَفَه هؤلاء المشركين الذين سَبَقَ ذِكْرهم وخَبَلِهم وتخريفهم وانحطاطهم وإغلاقهم لعقولهم، حيث حَرَّموا ما أحَلّه الله تعالي للناس ولهم وليس عندهم أيّ مَنْطِقٍ أو دليل! إنهم كانوا يُحَرِّمون أحيانا ذكور الأنعام وأحيانا إناثها وأحيانا ما يكون في أرحامها، هكذا عشوائياً وعَبَثِيَّاً دون أيِّ سببٍ يُعْقَل!! من أجل تحقيق غَرَضٍ مَا ككسْبِ مالٍ مثلاً أو مَنْصِبٍ أو جاهٍ أو غيره.. أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُوَضِّحَاً لهم عَبَثهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم هل حَرَّمَ الله الذّكَرَيْن للضأن والمعز فقط؟! ولماذا لم يُحَرِّم بَقِيَّة الذكور لبقية الأنعام إذَن إنْ كان سبب التحريم هو الذكورة؟! إنه من المُفْتَرَض بهذا المَنْطِق أن يكون كلّ ذَكَرٍ حرام!! أم هل حَرَّم الأنثيين للضأن والمعز فقط؟! ولماذا لم يُحَرِّم بقيّة الإناث إذَن لبقية الأنعام إنْ كان التحريم سببه الأنوثة؟! إنَّ كل أنثي يجب أن تكون حراما!! أم هل حَرَّمَ الأجِنَّة التي اشتملت عليها أرحام إناث الضأن والمعز كليهما سواء أكانت تلك الأجنة ذكورا أم إناثا؟! ولماذا لم يُحَرِّم بقيّة الأجِنَّة إذَن لبقية الأنعام إنْ كان التحريم من أجل أنها أجِنَّة؟! إنَّ كلَّ جَنِينٍ يُولَد هو بالتالي حرام!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وهو يُفيد نَفْيَاً قاطِعَاً أن يكون الله تعالي قد حَرَّمَ أيَّ شيءٍ من هذا.. إنَّ هذه الانتقائيَّة والعَشْوائيّة والعَبَثِيّة والتّخَبُّطِيَّة وعدم الدِّقّة والحِكْمة في تحريمكم وتحليلكم تدلّ بلا أيِّ شكّ علي سَفَهكم وتكذيبكم وعِنادكم واستكباركم وعدم استجابتكم لشَرْع الله بأن تُسْلِموا.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿143﴾" أيْ أخبرونى بمُسْتَنَدٍ وبعلمٍ صحيحٍ يُعْتَمَد عليه، يدلّ علي أنَّ الله تعالي قد حَرَّمَ شيئاً من ذلك، إنْ كنتم صادقين فيما تَدَّعونه عليه سبحانه وتَنْسِبُونه إليه كذباً وزُورَاً من التحريم والتحليل، فإنْ لم تُخْبِروني به فأنتم بالتالي حتماً كاذبون جاهلون.. وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان، لأنهم لا دليل عندهم مِن عقلٍ أو مَنْطِقٍ أو علمٍ على صِحَّة تحريمهم لبعض الأنعام دون بعض
ومعني "وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿144﴾" أيْ هذه الأنعام التي خَلَقَها الله تعالي لمنفعتكم ولسعادتكم أيها الناس ثمانية أصناف، أربعة منها من الغنم كما في الآية السابقة، والأصناف الأربعة الأخرى هي اثنان من الإبل ذكوراً وإناثاً واثنان من البقر ذكوراً وإناثاً.. ".. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ.." (برجاء مراجعة الآية السابقة مع مراعاة أنَّ الحديث هنا عن الإبل والبقر لا الضأن والمعز﴾.. ".. أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا.." أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل كنتم أيها المشركون وأيها الذين يفعلون مثل ذلك من تحريم ما أحَلَّ الله وتحليل ما حَرَّمه حاضرين حين وَصَّاكم الله وأمركم بهذا التحريم فاستمعتم له مباشرة حيث أنتم لا تؤمنون برسولٍ يُبَلّغكم عنه تَوْصِيَّاته فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا بالمشاهدة والسماع؟! لا قطعا بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ، ما كنتم حاضرين مُشاهِدين مُسْتَمِعين، فمِن أين لكم إذن هذه التشريعات السفيهة الجاهلة التي تقولونها وتفعلونها؟!.. إنه لم يَتَبَقّ لكم من إدِّعاءٍ كاذبٍ تَدَّعونه إلا أن تَدَّعُوا كعادتكم في الكذب والزّوُر والجهل هذا أو أنه أوْحاه إليكم لأنكم رُسُلٌ كَرُسِله!! تعالي الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا.. ".. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.." أيْ فلا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله كذبا أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف، كالتي سَبَقَ ذِكْرها من تحريم ما لم يُحَرِّم سبحانه وتشريع ما لم يُشَرِّع وادِّعاء أنه هو الذي شَرَعَه.. ".. لِيُضِلَّ النَّاسَ.." أيْ يُريد بذلك أن يُضِلَّ الناس أيْ يُضيعهم بأن يُبْعِدهم عن العمل بأخلاق إسلامهم كلها أو بعضها وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وذلك بنشرها ومحاولة إيقاعهم فيها، فهو وأمثاله يحاولون يائسين مَنْع انتشار الإسلام بينهم ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. بِغَيْرِ عِلْمٍ.." أيْ بغير عقلٍ ولا أيّ دليلٍ أيْ بغير تَعَمُّقٍ وتَدَبُّرٍ في نتائج الأمور كأنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿144﴾" أيْ إنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الظالمين، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلمٍ ظلموا به أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بدلا أن يتعسوا فيهما
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿145﴾ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴿146﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتَسْتَطيبه النفس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿145﴾" أيْ هذا بيان أنَّ التحريم والتحليل في أيِّ شيءٍ في الوجود لا يكون إلا من الله تعالي من خلال كتبه التي يوحيها لرسله الكرام وأنَّ الأصل في كل الأشياء في الحياة أنها حلال يُبَاح الانتفاع والسعادة بها إلا إذا وَرَدَ نَصٌّ منه يُحَرِّمه فحينها يكون حراماً يُمْنَع التعامُل معه لضَرَره ولتعاسته، حيث هو وحده سبحانه المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتما فيهما.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لا أجد فيما أوحاه الله إلينا في القرآن العظيم والذي هو مَصْدَر التحليل والتحريم طعاماً مُحَرَّمَاً على آكِلٍ يريد أن يأكله من ذكرٍ أو أنثى إلاّ أن يكون هذا الطعام ميتة وهي التي تموت من الحيوان بغير ذبحٍ ويبقي فيها الدم بما فيه من جراثيم مُمْرِضَة، أو يكون دماً مَسْفوحَاً أيْ مُسَالَاً مَصْبُوبَاً وهو الذي يحمل مُخَلّفات الجسم ولذا فهو مُحَرَّمٌ لضَرَره أمَّا ما يكون في بعض أنسجة الجسم كالكبد والطحال وما شابهها أو ما التصق بالعظام وغيرها فهو حلالٌ لأنَّ ضَرَره قليل أو مُنْعَدِم وللتيسير لأنَّ هناك مَشَقّة في الاحتراس منه، أو يكون لحم خنزيرٍ حيث خَلَقه تعالي لِيَتَغَذّي علي القاذورات من أجل تنظيف البيئة لا لكي يُؤْكَل – وكذلك بعض المخلوقات الأخري كالحشرات وغيرها – وإلاّ كان شديد الأضرار.. ".. فَإِنَّهُ رِجْسٌ.." أيْ فإنَّ ذلك المذكور رِجْسٌ أيْ أمرٌ مُسْتَقْذَرٌ أيْ شرٌّ وفسادٌ وضَرَرٌ يَتْبَعه تعاسات في الدنيا والآخرة يَرْفضه كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.." أيْ أو كذلك إلاّ أن يكون هذا الطعام فسقاً أيْ خروجاً عن طاعة الله والإسلام حيث أنه قد أهِلَّ لغير الله به أيْ ذُكِرَ عليه اسم غير الله عند ذبحه كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره – والإِهلال هو رفع الصوت باسم مَن تُذْبَح له من الآلهة – لِمَا في ذلك مِن ضَرَرٍ معنويّ علي عقل المسلم، إذ قَبِلَ ولو بصورةٍ رمزيةٍ صغيرةٍ بأن يكون هناك مَن هو أعلي عنده وأعظم مِن ربه وإسلامه وقد يَنْحِدر ويَنْزَلِق تدريجيا لِمَا هو أسوأ بعد ذلك، فلْيُغْلَق هذا الباب إذَن مِن أصله!.. ".. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿145﴾" أيْ لكنْ مع هذا فمَن كان مُضطرَّاً أشدَّ الاضطرار لشيءٍ منها، بمعني أنه سيهلك بدونها، وهو غير باغٍ أيْ مُبْتَغٍ طَالِبٍ للحرام ولا عادٍ أيْ مُعْتَدٍ بتَرْك الحلال أو بتَجاوُز قَدْر الضرورة، فحينئذ له بل فرض عليه أيْ يُثاب إذا فَعَل ويأثم إذا لم يَفعل أن يحفظ حياته بشيءٍ يسيرٍ جداً منها وبالقَدْر فقط الذي يَحميه وبمجرّد أن يتحقّق ذلك فيمتنع فوراً ولا يزيد لأنَّ الزيادة ستَضُرّه لأنها أصلاً ضَرَر، كأنْ يأكل مثلا قطعة أو أكثر مِن ميتة عند شدّة الجوع وخوف الموت من عدم وجود الطعام وما شابه هذا مِن ضروراتٍ والتي لا إثم أيْ ذنب عليها ويعفو عنها سبحانه لأنَّ ربك أيها المسلم وأيها الإنسان – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. هذا، والضرورات تُقَدِّر بقَدْرها ويُتْرَك تقدير الضرورة لفاعِلها ثقة من الإسلام فيه وفي تربيته ومراعاته لربه وتمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه وحرصه عليها لأنها مصدر سعادته في الداريْن
ومعني "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴿146﴾" أي هذا بيانٌ أنَّ فِعْل الشرّ وتَرْك أخلاق الإسلام يؤدّي حتماً إلي عقوبة له بما يناسبه من الله تعالي تَتَمَثّل في الحِرْمان من خيرٍ وسعادةٍ والإصابة بشرٍّ وتعاسةٍ بمِقداره، في الدنيا ثم الآخرة، فلْيَحْذَر تماما كل مسلم إذَن هذا بأنْ يفعل الخير دائما ويتوب ويرجع عن أيِّ شرٍّ سريعاً لينال تمام خيريّ وسعادتيّ الداريْن.. إنه بسبب ظلمٍ شديدٍ من الذين هادوا أيْ اليهود – والظلم قد يكون كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مَنَعهم الله تعالي من بعض طيباتٍ هي في الأصل حلال، كعقوبةٍ لهم علي ظلمهم، لفترةٍ، لمصلحتهم، ليستفيقوا وليعودوا لربهم ولإسلامهم فتُحَلّل لهم مرة أخري فيسعدوا في الداريْن، وليكون ذلك تدريباً لهم علي تَرْك بعض الحلال، كما في حالة الصيام، فتزداد إرادة عقولهم فينطلقون بهذه الإرادة القوية في حياتهم يستكشفونها أكثر ويسعدون بها أكثر وأكثر، ولكنهم استمرّوا في بُعْدِهم عن الله والإسلام ولم يستفيقوا فازداد عقابه لهم وازدادت تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. إنَّ من معاني الآية الكريمة أيضا أنهم مِن ظلمهم الشديد كانوا هم وليس الله تعالي يُحَرِّمون أحيانا علي أنفسهم والناس حولهم أشياء لم يُحَرِّمها سبحانه في التوراة كتَلاَعُبٍ وتحريفٍ فيها وجُرْأةٍ علي شرعه فيُحَرِّمونها في بعض الأحيان تشديداً عليهم ويُحَلّلونها لهم أوقاتاً أخري تخفيفاً عنهم لتحقيق ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فتَرَكهم الله فيما حَرَّموه علي أنفسهم وغيرهم بسبب إصرارهم التامّ عليه ليذوقوا تعاسات ذلك لعلهم يستفيقون فكأنه هو الذي حَرَّمَه بينما هم مَن حَرَّموه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآيات ﴿93﴾، ﴿94﴾، ﴿95﴾ من سورة آل عمران "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿93﴾"﴾.. إنهم لو كانوا استفاقوا وعادوا لربهم ولتَوْرَاتِهم في زمنها بعد أول عقاب، ولو أسلموا بعد مَجِيء القرآن الكريم، لَسعدوا حتماً في الداريْن، لكنهم باستمرارهم علي ما هم فيه سيتعسون قطعاً فيهما.. أيْ وحَرَّمنا أيْ مَنَعْنَا علي اليهود أكل كلّ ما له ظُفُر – أو ظُفْر والجَمْع أظفار وهي المعروفة الموجودة بنهاية الأصابع – والمقصود كل ما له مَخَالِب، سواء من الطيور أو الحيوانات، ومن البقر والغنم حَرَّمنا عليهم أكل شحومهما فقط إلا الشحوم التي حملتها ظهورهما أو التي توجد على الأمعاء أو التي اختلطت بعظام فيُمكنهم أكلها.. ".. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ.." أيْ ذلك الذي فعلناه بهم هو جزاءٌ أيْ عقابٌ عادلٌ بسبب بَغْيهم أيْ ظلمهم.. ".. وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴿146﴾" أيْ ونحن حتماً صادقون في كل ما نقول ونفعل ونَحْكُم به، وفي جميع أخبارنا والتي منها هذا الخَبَر عنهم، ومَن يقول بما يُخَالِف قولنا فبالقطع هو الكاذب.. إننا صادقون قطعاً في كلّ ما نُشَرِّع للناس في كتبنا وعلي ألسنة رسلنا من تشريعاتٍ وأخلاقياتٍ وأنظمةٍ تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه لا أحدَ أبداً أصدق من الله حديثا في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم ﷺ ، أىْ لا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يكذب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴿147﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا كنتَ من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. وإذا كنتَ متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل) إنَّ هذه الآية الكريمة هي تسلية وطَمْأَنَة للرسول الكريم ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم
هذا، ومعني "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴿147﴾" أيْ فلا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. فقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُشَجِّعَاً علي التوبة سريعا، ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – صاحب رحمة واسعة فهو دوْماً الرقيق الرفيق مع خَلْقه العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة الذي رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾، وهو الودود أيْ الكثير الحب والرعاية والكرم لمَن آمَنَ به واتَّبَعَ أخلاق الإسلام ولكل مَن تاب من ذنوبه مهما كانت كثيرة وكبيرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! كما يُؤَكّد ذلك بقوله "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" ﴿الزمر:53﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، فاغتنموا ذلك، وأسرعوا بالتوبة، أيْ بالندم وبالاستغفار وبالعزم بداخل العقل علي عدم العودة للسوء وبِرَدِّ كلّ حقّ لأهله، فبذلك تعودون لربكم ولدينكم الإسلام، للخير وللسعادة، في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴿147﴾" أيْ ولكنْ مع رحمته الواسعة فهو في ذات الوقت يُمْهِل ولا يُهْمِل فهو لا يُدْفَع ولا يُبْعَد عذابه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا عن القوم المجرمين وهم الذين الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فتَنَبَّهوا لهذا واحذروا منه تماماً ولا تنخدعوا بواسع رحمته وإمهاله أيْ تَرْكه لكم لفترةٍ دون عقابٍ فتَستمرّوا وتُصِرُّوا علي سُوئِكم فليس معني تأجيل عذابكم أنكم قد أفلتم منه أو أنه لن يَحْدُث فأسرعوا بالتوبة بالعودة له وللإسلام لتسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. إنَّ في الآية الكريمة طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنها تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴿148﴾ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿149﴾ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿150﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَتَحَجَّجُون بالقضاء والقَدَر فيما تفعله من شرور! بحُجَّة أنَّ الأمر ليس بيدك! وإنما الأمر كله بيد الله ومشيئته أيْ إرادته وقد كَتَبَ عليك هذا وقَدَّره لك! فلا لَوْم ولا ذنب إذَن عليك ولا حساب!! فأين عقلك الذي أعطاك الله إيَّاه لتُمَيِّز به بين الخير والشرِّ والذي وَضَّحه لك في الإسلام؟!.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴿148﴾" أيْ سيقول الذين أشركوا في العبادة أيْ الطاعة مع الله تعالي آلهة أخري عبدوها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم، سيقولون كذباً وزُورَاً وسَخَفَاَ وتَخْريفاً واجتراءً واعتداءً عليه سبحانه لو أراد الله ما عبدنا غيره نحن ولا آباؤنا من قبلنا ولا حَرَّمنا من شيءٍ مِمَّا حَلّله ولا حَلّلنا ما حَرَّمه، فلو شاء ذلك لَتَمَّتْ مشيئته حتماً ولَمَا فَعَلْناه!! ولكنه لم يشأ هذا بل شاء لنا أن نشرك معه في العبادة هذه الأصنام وغيرها وأن نُحَرِّم ما حَرَّمنا ونُحَلّل ما أحللنا وقد رضى لنا هذا وإلا لَكَانَ مَنَعَنا منه فلماذا تطالبونا يا مسلمين بأن نُسْلِم ولم يشأ الله لنا الإسلام؟!.. وكذلك هو حال بعض المنافقين الذين يظهرون الخير ويخفون الشر أو الظالمين والفاسدين الذي يتركون بعض الإسلام أو حتي كله، يدعون مثل هذه الأكاذيب وأنه تعالي هو الذي خلقهم هكذا وشاء لهم هذا!! بل البعض قد يزيد في الجرأة والتعدي وسوء الخلق فيتهمه سبحانه في قدرته علي كل شيء ويستهزي بها إذ لو كان يستطيع منعهم أو تغييرهم لقام بهذا!! تعالي عما يقولون علوا كبيرا.. إنهم يستغلون حرية اختيار عقولهم التي خلقهم عليها أسوأ استغلال! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنهم يَتَحَجَّجون لمَن يدعوهم لعبادة الله وحده بأنه هو الذي أراد لهم هذا وبالتالي فهو راضٍ عن أفعالهم ولو كان لا يرضاها ويريد مَنْعهم لَمَنَعَهم بأيّ أسلوبٍ ولَعَجَّلَ بعقوبتهم وما دام لم يَفعل أيَّاً مِن هذا فهو إذن يَرْضَيَ فِعْلهم!!.. إنَّ كلامهم هذا يدلّ علي الاستهزاء والسخرية والمُرَاوَغَة بمَن يَتَحَدَّثون معه، إضافة إلي أنهم مُكَذّبون مُعانِدون مُستكبرون مُجادِلون لا يريدون الاستجابة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا.." أيْ هذا رَدٌّ حاسِمٌ يُبَيِّن كذب أمثال هؤلاء ويُخْرِس ألسنتهم.. أيْ كما كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ أمثال هؤلاء الحالِيِّين فقد كذّبَ كثيرون من قبلهم السابقين لهم منذ أبيهم آدم واستمرّوا مُصِرِّين علي ذلك التكذيب لرسلهم حتي استشعروا ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارَة وشدّة وفظاعة عذابنا الدنيويّ ثم الأخرويّ، فلو كان هؤلاء الحالِيِّين صادقين في قولهم وادِّعائهم عن مشيئة الله شركهم وعصيانهم وأنه لو شاء ما أشركوا وما عصوا بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار لَمَا كان عَذّب سابقيهم فعذابه لهم يدلّ حتماً بلا أيِّ شكّ علي عصيانهم وعدم رضاه عنهم ويدلّ قطعا علي كذب هؤلاء الحالِيِّين فيما يَدَّعون كذباً وزُورَاً وأنَّ عليهم أن ينتظروا مثل المصير السَّيِّء للسابقين لهم مِن قبلهم إنْ لم يتوبوا لأنَّ إمهال الله تعالى للناس ليتوبوا من شرورهم لرحمته بهم ليس دليلاً على رضاه عَمَّا يقولون ويفعلون من سوءٍ والدليل علي ذلك أنه حين تنتهي فترة إمهاله لهم يُنْزِل بهم عذابه المُناسب لسوئهم.. ".. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي كذبهم.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل عندكم أيّ علمٍ ثابت قطعىّ حقيقيّ مُؤَكّد له دليل موثوق تستندون إليه فيما تَدَّعونه فتُظهروه وتُبَيِّنوه لنا؟! وبما أنهم لم ولن يُقَدِّموا دليلاً علمياً مَنْطِقِيَّاً يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ فهم بالتالي إذَن حتماً كاذبون في ادِّعاءاتهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لهم ولمَن يُشبههم، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل أن ينزل بهم العذاب والشقاء فيهما.. ".. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴿148﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي كذبهم.. أيْ أنتم لستم على شيءٍ مَا مِن علمٍ بل ما تَسيرون إلا خَلْفَ الظنّ أيّ التَّوَهُّم والتَّخَيُّل والتَّخْمِين والتَّخْرِيف بغير شيءٍ مُؤَكَّدٍ يَقينيّ، والظنّ حتما لا قيمة له ولا ينبني عليه أيّ تغييرٍ لِمَا هو ثابت أكيد من حقّ وصِدْقٍ في الإسلام، ولا تَسيرون أيضا إلا خَلْف الذي تَهواه النفوس المُنْحَرِفَة أيْ العقول المُبْتَعِدَة عن الفطرة السليمة والتفكير المُنْصِف العادِل والتي تَدعوهم إلي الهَوَيَ وهو كلّ شرٍّ وفسادٍ وضَرَرٍ فيَستجيبون له، وإنْ أنتم كذلك إلاّ تَخْرصون أيْ تقولون كلاما جُزافِيَّاً كاذباً تَخْمِينيَّاً ظَنِّيَّاً بغير علمٍ ودليل، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباعهم الظنون والأوهام وتَرْكهم للحقّ والعدل والخير، وكلّ هذا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿149﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إذا لم يكن عندكم أيّ علمٍ بما تَدَّعون فالله تعالى عنده الحُجَّة البالغة الموصلة للحقّ الهادِيَة إليه أيْ له وحده الدليل القاطِع الواضِح الذي بَلَغَ أيْ وَصَلَ أعلى درجات العلم والقوة والمَتَانَة والكمال في قَطْع وهَدْم ومَنْع أيّ دعاوي كاذبة منكم ومن أمثالكم وإزالة أيّ شكوكٍ عَمَّن تَدَبَّره وتَأَمَّله بتَعَقّلٍ وتَعَمُّقٍ والبلوغ به أقصي درجات الحقّ والاستدلال عليه، وذلك من خلال آياته تعالي والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حول الناس لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ .. ".. فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿149﴾" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي كذبهم، لأنه تعالي قد تَرَكَ الناس أحراراً في اختيار الخير أو الشرّ بكامل حرية إرادة عقولهم، بعد أن وَضَّحه لهم تماما في الإسلام، كما يُثْبِت الواقع ذلك، وكما يعلمونه هم تماما، وبالتالي فليس هو الذي جعلكم تُشركون وتَفعلون الشرور يا مَن تَدَّعون ذلك كذباً وزُورَاً!!.. إنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يجمع الجميع علي الهُدَيَ أيْ علي الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴿118﴾"، ثم الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."﴾
ومعني "قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿150﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن يُحَرِّمون ما حَلّل الله ويَدَّعون كذباً وزُورَاً أنه تعالي هو الذي حَرَّمه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هاتوا وأحضروا شُهُودَكم الذين يَشهدون لكم أنَّ الله قد حَرَّمَ هذا الذي قُمْتُم بتحريمه أيْ مَنْعه علي الناس من الانتفاع والسعادة به وادَّعَيْتُم بالكذب أنه مُحَرَّمٌ عليهم من ربهم.. فإنْ شَهِدوا كذباً وزُورَاً فلا تُصَدِّقهم لأنهم كاذبون لأنه لا يُمكن أن يَشهد بمِثْل هذا صادقٌ عادلٌ أمينٌ بل كاذب ظالم خائن غير مقبول الشهادة ولا تَقْبَل شهادتهم ولا تُوَافِقهم فيها ولا تُسَلّم لهم بها بالسكوت عليها لأنَّ السكوت عن الشهادة الكاذبة في مِثْل هذه الحالة كالشهادة بها فكأنك شَهِدْتَ زُورَاً أنت أيضاً وإنما عليك أن تُبَيِّن لهم كذبهم من خلال ما أعطاك الله تعالي من أدِلّةٍ في القرآن العظيم ومن عقلٍ بالأسلوب الذي تراه مُناسباً مُحَقّقَاً لأفضل النتائج.. هذا، وإنْ لم يُحْضِروا أحداً يَشهد بهذا فتكون دعواهم حينها إذَن كاذبة باطلة خالية من الشهود والأدِلّة لا تَسْتَحِقّ النظر فيها.. ".. وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿150﴾" أيْ وإيّاكم أيها المسلمون أن تَسيروا خَلْف شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وتفعلوا مثلها فتَنْحَرِفوا عَمَّا وَصَلَ إليكم مِنّا من الحقّ والصدق والعدل والخير وهو أخلاق الإسلام وأنظمته وقوانينه والتي تسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم فتتعسوا فيهما، سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. والذين كذبوا بآياتنا هم الذين لم يصدقوا بآيات الله والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حول الناس لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ .. والذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة حيث الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار لأنَّ الذي لا يؤمن بها يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي هذا الشرّ وفِعْله، بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه.. والذين هم بربهم يَعْدِلون أيْ بمُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ من خلال دينه الإسلام يُساوون به غيره فى العبادة ويُشْرِكون معه آلهة أخرى لا تَنفع ولا تَضُرّ كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها!! لا تستطيع نفع ذاتها أو منع الضرَر عنها فكيف تنفع أو تضرّ غيرها بل العابدون لها هم أقوي منها!! يُساوون بينه سبحانه وبين آلهتهم!! والتي هي خَلْقٌ من خَلْقِه!! ظلماً وزُورَاً وانحرافاً عن الحقّ، وهم متأكّدون أنهم يعدلون عن هذا الحقّ الأكيد أيْ ينحرفون عنه، بداخل عقولهم، حيث فطرتهم تذكّرهم دائما به لأنها مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، والسبب في ذلك أنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. تعالي الله عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا.. لقد جَمَعوا بين صفاتٍ لا تُؤَهِّلهم مُطْلَقَاً لشهادةِ حقّ ولقولِ صِدْقٍ ولعملِ خيرٍ ولا لثقةٍ فيهم واتّباعٍ لهم بل تُؤَهِّلهم لِمَا يُناسبهم من كل شرٍّ وتعاسةٍ دنيوية ثم أخروية
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿151﴾ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿152﴾ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿153﴾ ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿154﴾ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿155﴾ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿156﴾ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴿157﴾ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴿158﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿151﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أقْبِلُوا أقرأ وأذكر وأبَيِّن لكم الذي حَرَّم أيْ مَنَعَ لضَرَره ولتعاسته في الداريْن ربكم عليكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – لتَتَدَبَّرُوه بعقولكم فتَمْتَنِعوا عنه وتَتّبِعوا ما حَلّل لكم وتعملوا به حيث التلاوة هي مِن تَلَيَ الشيء أيْ جاء بعده واتّبَعه.. ".. أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.." أيْ عليكم أن لا تشركوا معه شيئا آخر في العبادة أي الطاعة مِن آلهةٍ تَدَّعونها كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها، فإنْ أشركتم فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم، فهي لن تَضرّ ولن تَنفع أيّ أحدٍ بأيِّ شيء، فهي لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟! فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، لأنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة وهو مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم من خلال شرعه الإسلام (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. ".. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.." أيْ وعليكم أن تُحسنوا بالوالدين إحساناً عظيماً بكل أنواع الإحسان القوليّ والعمليّ، وتُحسنوا بكل إنسانٍ كبيرٍ، فإنْ أسأتم إليهم فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم، وستُحاسَبون وتُعَاقَبُون عليه بما يُناسب من كلّ شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. ".. وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.." أيْ وعليكم أن لا تقتلوا أولادكم بسبب فقرٍ حادِثٍ بكم أو تخافون حُدُوثه مستقبلا – أو لأيِّ سببٍ غيره بالقطع – فلستم أنتم الرازقين بل نحن الذين نرزقكم ونرزقهم، فالأرزاق كلها بيد خالقكم الكريم يُعطيها لخَلْقه حسب جهودهم وسَعْيهم وإحسانهم اتّخاذ أسباب ذلك وتوكّلهم عليه واستعانتهم به، لكن بمشيئته أيْ بتقديره أيْ بحكمته أيْ بما يُحَقّق مصالح الخَلْق جميعا، فهو العالِم بكل علمٍ دقيقٍ عن كل شيءٍ عنهم وهو البصير الذي يَرَيَ كل شيء، ولذا فهو يزيد هذا مِن رزقٍ مَا ويمنعه من رزقٍ آخر ويزيده لغيره وهكذا بما يُحَقّق المنافع للجميع، فلا يَتَشَكّك أحدٌ في رزق ربه من كل أنواع الأرزاق في العقل والفكر والصحة والمناصب والممتلكات والعلاقات وغير ذلك، بل يَسْعَيَ ويُحسن اتّخاذ الأسباب ويتوكّل عليه ويستعين دَوْمَاً به.. ".. وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.." أيْ وعليكم أن تَبتعدوا بُعْداً تامّاً عن كلّ الفواحش أقْصَيَ ما يُمْكِن – جمع فاحشة وهي الشرّ العظيم الضرَر علي الذات والغير الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره – واتركوا أيّ سببٍ يُؤَدّي إليها لضمان الأمن من الوقوع فيها، سواء أكانت في الظاهر أم في الباطن، أيْ في العَلَن أو في السِّرّ، وسواء أكانت ظاهرة بالبَدَن أم بداخل العقل كنوايا الرياء أيْ أنْ تُرُوا الآخرين ما تَطْلبون به عندهم سُمْعَة أو جاهاً أو مدحاً أو غيره ولا تطلبون بعملكم خيراً وثواب ربكم في الآخرة، وكالشعور الداخلي بالإعجاب بالذات والتّعالِي والتّكَبُّر علي الغير وإيذائه حيث التّوَهُّم أنْ لا أحد مثلكم، وكالتخطيط للشرّ قبل تحويله إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئةٍ شَرِّيَّةٍ علي أرض الواقع، وما شابه هذا من آثامٍ واضحةٍ وخَفِيَّةٍ أيْ ذنوب أيْ مَعاصِي أيْ مُخالَفات لما وَصَّيَ به الله تعالي في الإسلام أي شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات، فالمقصود إذَن تَرْك كل الفواحش كبيرها وصغيرها لأنها لا تخرج عن كوْنها ظاهرة أو باطنة!.. ".. وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.." أيْ وعليكم أن لا تقتلوا أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال النفس التي حَرَّم الله قتلها، أيّ نفسٍ إنسانيةٍ من نفوس بني آدم مهما كانت مؤمنة أو غير مؤمنة كبيرة أو صغيرة مُذَكّرة أو مُؤَنّثَة قوية أو ضعيفة غنية أو فقيرة، إلا إذا كان القتل بالحقّ أيْ بالعدل أيْ تنفيذاً لحُكْمِ قضاءٍ عادلٍ أو بقتل محاربين مُعْتَدِين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. فإنْ قتلتم نفساً بغير حقّ فقد ارتكبتم ما حَرَّم ربكم عليكم.. ".. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.." أيْ ذلك المذكور كله الذي ذكرناه لكم هو مِمَّا وَصَّاكم الله به وطَلَبَه منكم.. ولفظ "وَصَّاكم" يُفيد ثقة الخالِق بعقول خَلْقه وحبّه لهم إذ الوَصِيَّة تكون دائما لمَن كان مُؤَهَّلاً لها ويُتَوَقّع منه حُسْن تنفيذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِن، ويُفيد أيضا وُجُوب الحرص عليها تماما والتّوَاصِي بالتمسّك والعمل بها كلها أشدّ التمسّك وإعلانها ودعوة الغير لمعرفتها، كما يُفيد إرشاد الخالق لخَلْقه ونُصْحه لهم بكلّ رِفْقٍ ولُطْفٍ ورَفْعٍ لمكانتهم ودَفْعٍ لِهِمَمِهم بلا أدني قَهْرٍ أو إكراه، ولماذا يُكْرههم والوصايا كلها لفائدتهم لا له سبحانه حتما؟! ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿151﴾" أيْ لعلكم أيها الناس تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَدَبَّرون فيها، أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَعَقّلِين العقلاء أي الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتعمَّقون في الأمور ويَتدَبَّرون فيها فيَستفيدون منها ويَسعدون بها في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافِعَاً وتشجيعاً لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك عاقِلين عامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿152﴾" أيْ وعليكم أن تَبتعدوا بُعْدَاً تامَّاً عن مال اليتيم – وهو الذي مات أبوه وهو صغير السِّنّ – لأنه أمانة عندكم بل عند المجتمع كله، وهو ضعيف لا يستطيع الدفاع عنه، إلا بالطريقة وبالحالة التي هي أحسن له نماءً وحِفْظاً، أيْ إلا إذا كنتم ستُحْسِنون فيه علي أكمل صورةٍ من صُوَرِ الإحسان أيْ الإتقان والإجادة بأنْ تَحرصوا علي تنميته اقتصاديا بما هو في مصلحة اليتيم وتَحْمُوه من المَخاطِر ونحو ذلك، وهذا إضافة بالقطع إلي إحسان كفالته ومراعاة كل شئونه عموما (برجاء مراجعة الآية ﴿2﴾، ﴿6﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.." أيْ واستمرّوا علي ذلك حتي يَصِلَ اليتيم إلي سِنٍّ راشِدٍ أيْ عاقلٍ بحيث يستطيع هو بذاته إدارة شئونه فأعطوه حينها ممتلكاته، والأمر تقديريّ يَختلف من شخصٍ لآخر.. فإنْ أكلتم مال اليتيم فقد ارتكبتم ما حَرَّم ربكم عليكم.. ".. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ.." أيْ وعليكم أن تتِمّوا الكيل إذا كِلْتُم للناس أو اكْتَلْتُم عليهم لأنفسكم، وتتِمّوا الميزان إذا وزنتم لغيركم فيما تبيعون أو لأنفسكم فيما تشترون، بالقسط أيْ بالعدل بلا زيادةٍ أو نقصان، بحيث يُعْطَىَ صاحب الحقّ حقّه وَافِيَاً أيْ كاملاً تامَّاً من غير انتقاصٍ ويأخذ صاحب الحقّ حقّه من غير طَلَبِ ازدياد، والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف.. فإنْ خَالَفْتم ذلك فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم.. والمقصود إعطاء الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقٍّ لهم سواء أكان ماديا أم معنويا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خداعٍ أو غِشّ.. إنه بانتشار حفظ الحقوق كاملة ينتشر الأمن بين الناس ويَقوون ويَرْقون ويزدهرون ويتطوَّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بإنقاصها وأكلها والتفريط فيها يفقدون أمانهم ويتنازعون ويضعفون ويَتخلّفون ويتعسون فيهما.. ".. لَا نُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.." أيْ الله تعالى العادِل الكريم الرحيم الودود العالِم بتمام العلم بكلّ شيءٍ في كوْنه وعن خَلْقه لا يُكَلِّف نفساً أيْ لا يُوصِي ويُلْزِم أحداً من الناس في الإسلام إلا بما في وُسْعه، والوُسْع هو ما يستطيعه بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يبقي له من طاقاته بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن يستهلك ما أمكنه مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ – ويكون لها أجورها العظيمة بما يُناسب المَشَقّة فيها – ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيراً مُخَالِفَاً لتَيْسِير الله الدائم في كل وصايا وتشريعات وأنظمة الإسلام والتي كلها في وُسْع كلّ نفسٍ وليست خارجة في أيٍّ منها عن هذا الوُسْع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿185﴾ من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."﴾.. والمقصود هنا في هذا الجزء من الآية الكريمة رفع الإثم عن المسلم الذي يجتهد ويحرص تماما علي العدل في الكَيْل والوَزْن لو فُرِضَ وحَدَثَ منه نَقْصٌ أو زيادة بغير تَعَمُّدٍ ولا تَهَاوُن.. مع مراعاة أنه في الواقع العمليّ عند التبادُل التجاري قد يكون من العسير أحيانا تَطابُق السلع المُتَبَادَلَة من حيث الجودة والقيمة ونحو ذلك رغم شدّة الحِرْص علي هذا وبالتالي فاليسير من عدم التطابُق غير المُتَعَمَّد يَعْفِي الإسلام عنه تيسيراً علي الناس وتحقيقاً لمصالحهم.. ".. وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.." أيْ وعليكم إذا قلتم قولاً مَا فكونوا عادِلين صادِقين فيه سواء أكان هذا القول خَبَرَاً أم شهادة أم حُكْمَاً أم وَسَاطة أم علماً أم يُؤَدِّي لعملٍ مَا في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة المختلفة، في كل زمانٍ ومكان، حتي ولو كان هذا العدل ضدّكم أو ضدّ والديكم أو أقاربكم أو معارفكم، فلا مُحابَاة لأحدٍ بما يُخالِف العدل والصدق، فإنْ لم تَعْدِلوا وتَصْدُقوا وظَلَمتم وزَوَّرْتُم في أقوالكم وأعمالكم فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿135﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. إنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن، بينما بانتشار الظلم يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. ".. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا.." أيْ وعليكم أن تلتزموا بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا فتُنَفّذوها تامَّة ولا تُخْلِفوها، مع الله ومع رسله الكرام إليكم وآخرهم محمد ﷺ بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. فإنْ لم تُوفوا بعهد الله فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم.. ".. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.." أيْ ذلك المذكور كله الذي ذكرناه لكم هو مِمَّا وَصَّاكم الله به وطَلَبَه منكم.. ولفظ "وَصَّاكم" يُفيد ثقة الخالِق بعقول خَلْقه وحبّه لهم إذ الوَصِيَّة تكون دائما لمَن كان مُؤَهَّلاً لها ويُتَوَقّع منه حُسْن تنفيذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِن، ويُفيد أيضا وُجُوب الحرص عليها تماما والتّوَاصِي بالتمسّك والعمل بها كلها أشدّ التمسّك وإعلانها ودعوة الغير لمعرفتها، كما يُفيد إرشاد الخالق لخَلْقه ونُصْحه لهم بكلّ رِفْقٍ ولُطْفٍ ورَفْعٍ لمكانتهم ودَفْعٍ لِهِمَمِهم بلا أدني قَهْرٍ أو إكراه، ولماذا يُكْرههم والوصايا كلها لفائدتهم لا له سبحانه حتما؟! ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿152﴾" أيْ لعلكم تتذكّرون هذا، أيْ لكي تتذكّروه، لكي تتذكّروا ولا تنسوا ما هو موجود في فطرتكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّروا ربكم وإسلامكم، وتعقلوا كل هذا بعقولكم وتتدَبَّروه وتدرسوه، وتذاكروه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليكم فقط إلا أن تتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولكم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
ومعني "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿153﴾" أيْ ومِمَّا وَصَّاكم الله تعالي به أنَّ هذا الإسلام هو صراط الله المستقيم حتماً بلا أيِّ شكّ أيْ طريقه المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، وهو طريقي الذي أسير فيه أنا رسوله وكل مسلمٍ يريد أن يَصِلَ إلي سعادتيّ الدنيا والآخرة، فاتّبعوه بالتالي إذَن وحده أيْ فاسْلُكوه وسِيرُوا خَلْفه وفيه ونَفّذوا أخلاقه واعملوا بها في كل شئون حياتكم لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. فإن اتّبعتم غيره مِمَّا يُخَالِفه فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم وتَعِسْتُم قطعاً فيهما علي قَدْر بُعْدِكم عنه.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.." أيْ ولا تَتّبعوا مُطلقاً الطرُق المُخَالِفَة له ذات الشرور والمَفاسد والأضرار، فتُبْعِدكم وتُشَتّتكم وتَمِيل وتَنْحِرف بكم حتماً عن طريق الله المستقيم وهو دين الإسلام، وتَتَفَرَّقون مع تَفَرُّقِها واختلافها، فيُعادِي أو يَكره أو يُقاطِع أو يُقاتِل بعضكم بعضا بسببها، ولو فعلتم ذلك لضعفتم قطعاً وتَخلّفتم وانحططتم وذللتم وتعستم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم.. ".. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.." أيْ ذلك المذكور كله الذي ذكرناه لكم هو مِمَّا وَصَّاكم الله به وطَلَبَه منكم.. ولفظ "وَصَّاكم" يُفيد ثقة الخالِق بعقول خَلْقه وحبّه لهم إذ الوَصِيَّة تكون دائما لمَن كان مُؤَهَّلاً لها ويُتَوَقّع منه حُسْن تنفيذها علي أكمل وجهٍ مُمْكِن، ويُفيد أيضا وُجُوب الحرص عليها تماما والتّوَاصِي بالتمسّك والعمل بها كلها أشدّ التمسّك وإعلانها ودعوة الغير لمعرفتها، كما يُفيد إرشاد الخالق لخَلْقه ونُصْحه لهم بكلّ رِفْقٍ ولُطْفٍ ورَفْعٍ لمكانتهم ودَفْعٍ لِهِمَمِهم بلا أدني قَهْرٍ أو إكراه، ولماذا يُكْرههم والوصايا كلها لفائدتهم لا له سبحانه حتما؟! ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿153﴾" أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿154﴾" أيْ ثم نُخبركم أنَّا قد أعطينا موسي الكتاب الذي هو التوراة التي فيها الإسلام الذي يُناسِب عصره – كما أعطيناك يا رسولنا الكريم محمد القرآن العظيم المناسب لكل العصور حتي يوم القيامة – تماماً أيْ إكمالاً على الذي أيْ ما أحسنَ الله به إلي الناس، حيث خَلَقهم وسَخَّرَ لهم الكوْن لينتفعوا وليسعدوا به ورزقهم من كل الخيرات ثم لم يتركهم يَتيهون بلا نظامٍ فيتعسون في دنياهم وأخراهم بل أتمَّ عليهم نِعَمه بأنْ أنزلَ لهم الإسلام ليُكْمِلهم ويُصْلِحهم ويسعدهم تمام السعادة فيهما، وأنزله كما أنزل كل كتبه منذ آدم وآخرها القرآن تماماً أيْ تامَّاً أيْ كاملاً جامِعَاً شامِلاً لإدارة كل لحظات الحياة وشئونها بأفضل وأسعد حال، وتماماً أيْ على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب، وتماما أيْ مُشْتَمِلَاً علي ما هو الأحسن الذي لا يُقارَن من القواعد والقوانين والضوابط والمعاملات والمشاعر، وتماما أيْ مُتَمِّمَاً ومُكَمِّلَاً للذي أحسنَ استخدام فطرة عقله فاهتدي لخير وسعادة الإسلام فجاءه تكميلاً لهذه الهداية مُفَصِّلَاً مُوَضِّحَاً ضابِطَاً لها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فهو إذَن الهدي كله والرحمة والسعادة التامَّة في الداريْن.. ".. وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ.." أيْ وأنزلناه تِبْيَانَاً وتَوْضِيحاً ومُحْتَوِيَاً علي تفصيلاتٍ لكل القواعد والأصول التي تُنَظّم للناس كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها، لأنها من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. ".. وَهُدًى وَرَحْمَةً.." أيْ وجعلناه هادِيَاً أيْ مُرْشِداً، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي كان رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿154﴾" أيْ لكي يكونوا بذلك من المؤمنين أي المُصَدِّقين تماماً بلقاء ربهم في الآخرة حيث الثواب والعقاب والجنة والنار، بسبب كل هذا الوضوح التامِّ للحقّ ولأدِلّته القاطِعَة في الكتاب لأيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لهذا اللقاء بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فيسعدون بهذا في الداريْن .. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المؤمنين بلقاء ربهم المُسْتَعِدِّين دائماً بكل إحسانٍ لذلك بعملهم بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿155﴾" أيْ وهذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد ﷺ للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. ".. فَاتَّبِعُوهُ.." أيْ فسيروا خَلْفه بالتالي إذَن وحده ونَفّذوا أخلاقه واعملوا بها كلها في كل شئون حياتكم لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَاتَّقُوا.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿155﴾" أيْ لكي تُرْحَموا، أيْ ليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كلهم كذلك مُتّبِعِين لقرآنهم مُتّقِين لربهم ليسعدوا برحماته وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم
ومعني "أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿156﴾"، "أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴿157﴾" أيْ مِن حِكَم إنزاله لأنْ لا تقولوا أيْ حتي لا تقولوا أيها العاصُون تَحَجُّجَاً بحُجَجٍ واهِيَة فارِغَة حين تفعلون في دنياكم الشرور والمَفاسد والأضرار وحين تُسألون عنها يوم القيامة أنَّ الكتاب الذي يُرْشِدنا لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويُبْعِدنا عن كلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيهما لم يَنْزِل إلاّ علي مجموعتين من قبلنا هما اليهود الذين أُنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي ﷺ والنصاري الذين أُنْزِلَ عليهم الإنجيل مع رسولهم عيسي ﷺ وقد كنّا عن قراءة وتَعَلّم الإسلام الذي في كتابهما في شُغلٍ ونحن ليس لنا بهما علم ولا معرفة ولا فهم لهما وغفلنا عنهما ولم ننتبه إليهما لبُعْد الزمان بيننا وبينهما ولصعوبة الحصول عليهما ولاختلاف لغتهما ونحو ذلك من حُجَجٍ ضعيفة ساقِطة ليس لها هدف إلا أنْ تُرَاوِغُوا وتَتَحايَلوا حتي لا تُسْلِموا وتستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم وعِنادكم واستكباركم وفِعْلكم للسوء، وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فليس لأيِّ أحدٍ إذَن أيّ عذرٍ الآن حيث الكتاب أي القرآن الكريم بين أيديكم وما عليكم إلا العمل به.. هذا، ولقد خَصَّ تعالي التوراة والإنجيل بالذكر لشهرتهما بين بقية كتبه ولأنهما قبل الكتاب الخاتم وهو القرآن العظيم.. "أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴿157﴾" أيْ هذا بيانٌ لنوعٍ آخرٍ من مُرَاوَغاتهم وحُجَجهم الضعيفة غير المقبولة التي كانوا سيَتَحَجَّجُون بها وهم يفعلون السوء لو لم ينزل القرآن الكريم وذلك حتي لا يُسْلِموا ويستمرّوا في سوئهم!!.. أي ومِن حِكَم إنزاله كذلك حتي لا تقولوا أيضا أنتم ومَن يَتَشَبَّه بكم لو أننا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الذين من قبلنا لكنّا أهدى منهم أيْ أكثر هداية منهم أي أكثر استقامة علي طريق الإسلام وعملا بكل أخلاقه وأسرع وأشدّ استجابة له منهم حيث هم يستجيبون لكن ليس بصورة تامَّة مستمرّة وليس كلهم بينما نحن سنكون أفضل منهم لأننا سنَستجيب كلنا تماماً ودائما!!.. ".. فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ.." أيْ هذا رَدٌّ قاطِعٌ حاسِمٌ مانِعٌ لأيِّ حُجَّة.. أيْ لا تَتَحَجَّجُوا بأيِّ صورة، لا حُجَّة لكم علي عصيانكم بعد نزول القرآن، ولا مَحلَّ لقولكم هذا، فقد جاءكم بَيِّنَة من ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وهي القرآن العظيم الذي جاء به لكم وللناس جميعا رسولكم الكريم محمد ﷺ والذي يُبَيِّن لكم أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة والذي هو هديً ورحمة أيْ هادٍ أي مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فلا أحد بالتالي إذَن أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي كذّب ولم يُصَدِّق بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حوله أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَصَدَفَ عَنْهَا.." أيْ وأعْرَضَ عنها أيْ وأعطي ظَهْره والتَفَت وانْصَرَف وابْتَعَد عنها وتَرَكها وأهملها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوَمَ نَشْرها وآذَيَ مَن يَتّبعها وحاوَلَ صَرْفه وصَدّه ومَنْعه وإبْعاده عنها.. ".. سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴿157﴾" أيْ سنُعْطِي الذين يُعْرِضون عن آياتنا العذاب السَّيِّء الشديد، إنْ لم يتوبوا أيْ يَرْجِعوا لربهم ولإسلامهم، بما يُناسبهم بدرجةٍ ما من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴿157﴾" أيْ كل ذلك بسبب وبمِقْدار وفي مُقابِل وجزاء أنهم كانوا في دنياهم يَصْدِفون أيْ يُعْرِضُون
ومعني "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴿158﴾" أيْ أُنْزِلَ القرآن الكريم فلم يؤمنوا، فماذا ينتظرون لكى يؤمنوا؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. أيْ هل يَنتظر هؤلاء المُعْرِضون عن الإسلام ليَقتنعوا بأنْ يُسْلِموا إذا كانوا غير مسلمين أو يَتّبعوا أخلاق الإسلام كلها إذا كانوا مسلمين لكنهم تاركون لأخلاقه بعضها أو كلها، هل يَنتظرون مِن بعد ما جاءتهم البينات – أي وَصَلَتهم الدلالات الواضِحات والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في القرآن والإسلام علي أنَّ أخلاقه وتشريعاته ووَصَايَاه هي وحدها التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، والتي هي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلي بَيِّنات أخري، فليس بالتالي إذَن لأحدٍ عذر في إعراضه – بلا إيمانٍ وبلا اتّباعٍ لأخلاق الإسلام حتي تأتيهم الملائكة أيْ ملائكة الموت لقَبْض أرواحهم وإنهاء حياتهم وهم هكذا علي شَرِّهم أو ملائكة العذاب تُعَذّبهم في دنياهم أو أخراهم بما يناسب شرورهم؟! أو يَنتظرون حتي يأتي ربك أيْ عذاب ربك في الدنيا بدرجةٍ ما من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أو يأتي هو بذاته العَلِيَّة يوم القيامة بهيبته وعظمته حضوراً يَليق به سبحانه فهو ليس كمثله شيء لحساب الناس والحُكْم بينهم بحُكْمه وقضائه العادل وجزائهم علي أعمالهم في دنياهم، وحينها يكون الأمر قد قُضِيَ أيْ انتهي أمر عذابهم فلا مَفَرّ لهم منه سواء أكان في دنياهم أم أخراهم؟! أو ينتظرون حتي يأتي بعض آيات ربك أيْ بعض علامات قيام الساعة كطلوع الشمس من المغرب لا المشرق.. أيْ ماذا ينتظر مثل هؤلاء بعد كل هذا الذي يفعلونه؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما؟! بالقطع لا!! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة! يبدو أنهم لا يَنتظرون إلا ذلك!! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم؟!! إنَّ عليهم ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتّخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته!! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم، كما أنَّ فيها تهديدا شديدا لمَن يُصِرّ لكي يَستفيق قبل فوات الأوان ونزول العذاب في دنياه وأخراه.. ".. يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.." أيْ يوم يَجِيء بعض علامات الساعة الكبري ينتهي التكليف والعمل وتبدأ الحياة الدنيا في الانتهاء وتبدأ أولي مراحل الحياة الآخرة وبالتالي لا ينفع الإيمانُ حينئذٍ نفساً كافرة لم تكن آمَنَت من قبل ظهور هذه العلامات أن تؤمن الآن، وأيضا لن ينفع حتي النفس المؤمنة التي لم تكن قد كَسَبَت أيْ فَعَلَت في مدّة إيمانها خيراً مَا أنْ تَفعله الآن، لأنه قد أُغْلِق ملَفّ الحياة الدنيا والعمل فيها وبَدَأَ الحساب الختاميّ في يوم القيامة.. ".. قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴿158﴾" أيْ قل لأمثال هؤلاء ولمَن يَتَشَبَّه بهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم انتظروا مَجِيء أحد الأمور التي سَبَقَ ذِكْرها واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإننا مُنتظرون معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿159﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون ويعملون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها، وهما خُلُقان أساسان من الأخلاق الإسلامية، ومنهما تتفرَّع كثيرٌ من الأخلاق الأخري المُسْعِدَة (برجاء مراجعة الآيات ﴿103﴾ حتي ﴿110﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فبهذا يَقْوَيَ الناس ويَنْمون ويتطوّرون ويَرْقون ويزدهرون وينتصرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالتَّفَرُّق والاختلاف يَتَشَاحَنون ويَتَبَاغَضون ويتقاطعون ويتصارَعون وقد يقتتلون فيَضعفون ويَنْكَمِشون ويتراجعون ويتخَلّفون ويَنهزمون ويتْعَسُون فيهما
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿159﴾" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للمسلمين حتي لا يكونوا من الذين فارَقوا الله تعالي الإله الواحد والذي كان مِن المُفْتَرض أن يجتمعوا عليه فيعبدوه وحده، والذين فارقوا دينه الإسلام والذي لو اتّبعوه لاجتمعوا جميعا عليه ولأصبحوا أقوياء سعداء في دنياهم ثم أخراهم، ولكنهم تَفَرَّقوا واختلفوا وتَشَتَّتوا علي آلهةٍ كثيرة عبدوها غيره سبحانه، وجعلوا لهم أديان مُتَعَدِّدَة كلها شرّ وتعاسة لأنها مُخالِفة لدين الله الإسلام الذي كله خير وسعادة، فمنهم مَن عَبَدَ أصناما ومنهم مَن عبد كواكب ومنهم مَن عبد دوابَّاً أو نحوها أو خَلَطَ مع عبادتها بعض عبادات من اليهودية أو النصرانية أو البوذية أو ما شابه هذا مما فَرَّقَ البشرية وشَتَّتها إلي شِيَعٍ أيْ فِرَقٍ ومجموعات وطوائف صغيرة يتشيَّع أي يُؤَيِّد ويَتَعَصَّب بعضها لبعض علي باطلٍ مَا لا علي الحقّ وكل فرقة ومجموعة وطائفة من هؤلاء تفتخر وتَغْتَرّ وتتعَالَيَ علي الأخري بما لديها من قوة وعَدَد وعدَّة ومال وعلم وغيره، فيختلفون فيما بينهم ويتشاحنون ويتباغضون ويتقاطعون ويتصارعون وقد يقتتلون، فيضعفون بذلك ويتخلّفون ولا يتقدّمون ولا يتطوّرون، فيتعسون في دنياهم وأخراهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلْيَحذر المسلمون تمام الحَذَر أن يتشبّهوا بمِثْل هؤلاء فيَسْعوا للتفرقة بين المسلمين أو حتي بين عموم الناس والإنسانية وإلا تَعِسوا مثلهم تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. ".. لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.." أيْ أنت يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لستَ منهم أبداً وهم ليسوا منك وعليك ألاّ تَرْضَيَ مُطلقاً بفِعْلهم وتَتَبَرَّأ منه حتي يعودوا لربهم ولإسلامهم فأنت بَريء منهم ولستَ معهم في أيِّ شيءٍ من سُوئهم أيْ مُتَبَرِّيء مِنه رافض له غير مُعْتَرِفٍ به ولا راضٍ عنه ولا صِلَة بينك وبينه وأنت ضِدَّه وتُعادِيه.. كذلك من المعاني أنْ اطْمَئِنّ أنك لستَ مَسئولاً ومُؤَاخَذَاً عن أيِّ شيءٍ من إثم تَفَرَّقهم وعِصيانهم ما دُمْتَ تُحْسِن دعوتهم بما يناسبهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة.. إنهم بالتالي بحالهم هذا هم أيضا ليسوا منك في أيِّ شيءٍ أيْ بعيدون عنك وعن الله والإسلام والمسلمين غير مُنْتَسِبين مُتَّصِلِين في أيِّ شيءٍ لهم لأنهم خالَفوهم وعانَدوهم وكذّبوهم وبالتالي فقد افتقدوا كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم لأنهم قد قَطَعوا كلَّ صِلَةٍ طيّبة معهم فلا حُبّ ولا تَوَاصُل ولا رعاية من الله ولا أمن ولا عوْن ولا توفيق ولا سَدَاد ولا رزق ولا بركة ولا تيسير، وبالجملة لا سعادة، بل كل شقاء وكآبة وتعاسة.. ".. إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿159﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ إنَّ أمرهم مَتْرُوكٌ إلي الله وحده لا غيره أيْ هو الذي يَتَوَلّى أمرهم أيْ جزاءهم فإنه سيَجمعهم حتماً هم وجميع خَلْقه مُحسنين ومُسِيئين يوم القيامة ثم يُنَبِّئهم أيْ يُخبرهم بما كانوا يفعلون من الشرّ والخير.. فهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِرهم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كانوا يفعلون في دنياهم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منهم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منهم شرَّاً فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿160﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿160﴾" أيْ فلْيَستبشر ولْيُوقِن كلّ مسلمٍ ذَكَراً كان أم أنثي يأتي بأيّ حسنةٍ أيْ خيرٍ مِن أيّ نوعٍ مَا فحتماً سيكون له ما هو أكثر خير منها، مِن فضل ربه وكرمه ورزقه ورحمته ووُدِّه، في دنياه حيث كل خير وسعادة تامّة تُقابِل ما قدَّمه من خيرٍ وأكثر منه كثيرا، وكلما ألْحَقَ الخير بخيرٍ يتبعه طوال يومه وعمره كلما كان عمره كله خيريا سعيدا تمام السعادة، ثم في أخراه ليَستبشِر بأنَّ الحسنة الواحدة من الخير التي قد فعلها في الدنيا سيُجازيه سبحانه عليها بعَشرة أضعافها علي الأقل، إلي أضعاف كثيرة لا تُحصَي كما وعد ووعده الصدق ".. فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.." ﴿البقرة:245﴾، علي قَدْر جَوْدَة الحسنة وإتقانها والصدق فيها ومنافعها ودوامها ونحو ذلك ".. وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" ﴿البقرة:261﴾.. أمَّا مَن فَعَلَ سَيِّئة ولم يَتُب منها، فلا يُجَازَيَ إلا بمثلها بتمام العدل دون أيّ ذرَّة ظلم "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ .." ﴿النساء:40﴾، فله في دنياه من التعاسة والألم والقلق والتوتّر والضيق والاضطراب علي قَدْرها ثم في أخراه ما يُساويها من عذابٍ في النار، وقد يعفو سبحانه وهو كثير العفو والحِلْم ورحمته وَسِعَت كل شيء وتسبق دائما غضبه وهو الغفور الرحيم، بسبب دعاء الصالحين لهذا المُسِيء مثلا في جنازته أو دعاء المسلمين العام بعضهم لبعض في دنياهم أو بشفاعة الشافعين الذين أذِن الله لهم بالشفاعة يوم القيامة لكرامتهم ومنزلتهم أو ما شابه هذا.. ".. وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿160﴾" أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ جزاء وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿161﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿161﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنني قد أرْشَدَنِي وأوْصَلَنِي ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – إلي صراطٍ مستقيمٍ أيْ إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ مُتَّجِهٍ دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقِ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن.. إنه طريق الله والإسلام.. ".. دِينًا قِيَمًا.." أيْ لقد هَدَانِي وعَرَّفني ديناً قَيِّمَاً – وقِيَمَاً وقَيِّمَاً بمعني واحد في اللغة العربية – أيْ دين غاية وتمام الاستقامة بلا أيِّ انحرافٍ حيث هو ناطق بكل حقّ وعدلٍ وصواب وخير وسعادة وهو ذو قِيمَة عالية وذو قِيَم أخلاقِيَّة سامِيَة تَرْقَيَ بالجميع وله قيمة فهو عظيم الشأن ويجعل كل مَن يتمسّك ويعمل بكل أخلاقه ذا قيمة وسيادة في دنياه وأخراه وهو الدين الذي تقوم به الحياة فهو يُنَظّم كل لحظاتها وشئونها علي أكمل وجه مُسْعِدٍ وبدونه تضطرب وتَخْرَب وتَفْسَد وتَتْعَس.. هذا، والدين هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها.. ".. مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿161﴾" أيْ لقد هَدَانِي وعَرَّفني مِلّة أيْ دين إبراهيم الذي كان حنيفا أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام والذي ما كان أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿162﴾ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴿163﴾ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿164﴾ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿165﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الربَّانِيِّين أيْ المُنْتَسِبين لربهم المُرْتَبِطِين به المتمسّكين العامِلِين بكل ما وَصَّاهم به من أخلاق إسلامهم مُرَبِّين لذواتهم ولغيرهم عليها مُخلصين مُحسنين له في كل ذلك ليسعدوا جميعا في الداريْن (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلفك بهذا حيث خَلَق سبحانه خَلْقَه لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه (برجاء مراجعة الآية ﴿30﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿162﴾"، "لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴿163﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ كل صلواتي وأذْكَارِي، وكل نُسُكِي أيْ جميع عباداتي أيْ طاعاتي التي أعملها أثناء معاملاتي في حياتي كلها في كل شئونها كبيرها وصغيرها في كل مجالاتها المختلفة من علمٍ وعملٍ وإنتاجٍ وكسبٍ وبناءٍ وفكرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ وغيرها طيّبة وما شابه ذلك من معاملات، وكذلك موعد بدء حياتي وخَلْقِي وموعد موتي وكيفيته وجزائي بعده في الآخرة علي ما عملت، كل ذلك لله رب العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دين الإسلام – أيْ أنا أعمل كل أعمالي في دنياي خالصة له تعالي أيْ لا تكون نواياي بداخل عقلي عند أيِّ قولٍ أقوله أو أيِّ عملٍ أعمله أنْ أطلب به أيَّ سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو ليَراني الناس فيقولوا عنيّ كذا وكذا من المَدْح الكاذب المُضِرّ المُتْعِس للمادِح حيث غالبا ما يكون كذبا وللمَمْدُوح حيث يُؤَدّي بي إلي الغرور ومزيدٍ من الشرّ، وإنما أطلب به فقط حب الله تعالي ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخلد في الآخرة.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم أن يكون دائماً مُخْلِصَاً مُسْتَحْضِرَاً نوايا خيرٍ بعقله في كل أقواله وأفعاله، والإخلاص هو أن يُخَلّص عمله الخَيْرِيّ من أيِّ شوائب شَرِّيَّة مهما صغرت، وهو أيضا تَخْلِيصٌ لأنظمة الإسلام وأخلاقيَّاته من أيِّ أنظمةٍ أو أخلاقٍ أخري مُخَالِفَة له مُضِرَّة مُتْعِسَة، فلا يُعْمَل إلاّ بها خالصة تماما من أيٍّ من غيرها، كما يُفْهَم من قوله تعالي "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.." ﴿الزمر:3﴾.. فلو فَعَلَ المسلم ذلك كانت حياته كلها لله وكان عابداً بحقّ له وحده بلا أيّ شريكٍ يَجعله معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو غيره وكان مسلماً له بحقّ أيْ مُسْتَسْلِمَاً لوَصَايَاه وتشريعاته أيْ مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بكلّ أخلاق إسلامه في كل شئون حياته ثابتاً دائماً عليها وكان مُوفِيَاً تمام الوفاء بما وَصَّاه به وعاهَده عليه فسمع وأطاع له فانْصَلَح بذلك حاله كله وسَعد تمام السعادة في دنياه وأخراه.. وهذا هو معني "لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴿163﴾" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ لا شريك له في عبادتي، أيْ هي كلها خالصة لله رب العالمين بلا أيِّ شريكٍ له فيها فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وكذلك لا شريك له أبداً حتماً في كلّ مُلْكه فهو تعالي وحده الذي له كل ما في الكوْن وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ.." أيْ وبذلك الذي سَبَقَ ذِكْره أمَرَني ربي، وأمَرَ كل مسلم، أيْ وبذلك التوحيد لله في العبادة والإخلاص له فيها أمرت، فسَمَعْتُ وأطَعْتُ، فنِلْتُ كل الخير والسعادة في الداريْن، وكذلك سيَنال حتماً كل مسلمٍ يَسمع ويُطيع.. ".. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴿163﴾" أيْ هذا بيانٌ لمُسَارَعَة الرسول الكريم ﷺ للعمل بكل أخلاق الإسلام ودَفْعٌ لكلّ مسلمٍ ليَقتدي به فيُسارِع هو أيضا للعمل بها والثبات عليها وليكون قُدْوَة ومُشَجِّعَاً لغيره من الناس ليُسارِعوا هم أيضا للعمل بها في كل شئون حياتهم ويستمرّوا عليها بكل سهولةٍ ويُسْرٍ ووعي وإقبال وبكل اختيارٍ دون أيّ إجبارٍ لَمَّا يَرَوْا أثر الإسلام علي إسعاد حياة مَن يدعوهم وحياتهم وبالتالي يَنال الجميع ثواب دعوة بعضهم بعضاً للإسلام ويسعدون جميعا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿164﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل أطلب غير الله تعالي رَبَّاً أيْ مُرَبِّيَاً ورازِقَاً وراعِيَاً ومُرْشِداً من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم والحال والواقع أنه هو وحده لا غيره ربّ كل شيءٍ أيْ خالِقه ومَالِكه والمُتَصَرِّف فيه وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وكل شيءٍ هو مَخْلُوق ولذا فهو لا يَصلح مُطلقاً ولا يُعْقَل ويَستحيل أن يكون إلاهَاً يُعْبَد فكيف نعبده أيْ نُطيعه ونَستعين به ونَتوكّل عليه ليُيَسِّر لنا كل شئون حياتنا وهو مخلوق ضعيف مثلنا ونترك عبادة الله الخالِق القادِر علي كل شيء؟!.. إنَّ المَعْبُود إذا كان مَخْلوقاً فإنه لا يستطيع نَفْع ذاته أو دَفْع الضرر عنه فكيف بغيره؟! هل يَملك أنْ يُعطي لمَن يَعبده هواءً وماءً وشمساً، أو حركة لأرضٍ ومَجَرَّات وجاذبية، أو تفاعلات كيميائية وفيزيائية لإنماء ما يُنْتَفَع به من نباتاتٍ وحيواناتٍ وبَحْرِيَّاتٍ وغيرها، أو عقلاً وفكراً وجسداً وروحاً، ونحو ذلك مِمَّا لا يُمكن حصره من أساسات الحياة وأرزاقها المختلفة؟!.. كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! إنَّ الذين يفعلون ذلك قد عَطَلّوا عقولهم بالأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا إيقاظ للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُرَاوِغِين الذين لا يُسْلِمون ويعبدون مع الله تعالي آلهة أخري ولمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. والاستفهام والسؤال لأمثال هؤلاء هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا.." أيْ ولا تعمل كلُّ نفسٍ إنسانية عملاً مَا من خيرٍ أو شرٍّ إلا كانت نتيجته عليها هي وحدها، فلها ثواب وجزاء وعطاء ما كسَبَت من حسناتٍ بسبب أعمالها الصالحة في الدنيا تناله بما يُناسبها من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياها ثم أخراها، وعليها أيضا فيهما عقاب ما اكتسبت من سيئاتٍ بسبب أعمالها السَّيِّئة فيها بما يناسبها من كل شرٍّ وتعاسة.. ".. وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.." أيْ ولا تَحمل حَامِلَة حِمْل أخري غيرها حيث الوِزْر يعني الحِمْل الثقيل، أيْ لا تَحمل شخصية حِمْل شخصية أخري، أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله إنْ خيراً فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإن شرَّاً فله كل الشرّ والتعاسة فيهما.. وهذا الجزء من الآية الكريمة هو مزيدٌ من التأكيد علي معني الجزء السابق لأهميته ليَظلَّ مُتَذَكَّرَاً.. ".. ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿164﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمُحسنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً مُسْعِدهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم وناصرهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ثم إلي ربكم لا إلي غيره –أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – رُجُعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم فيه تختلفون من كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفتم فيها أثناء حياتكم فيُبَيِّنَ لكم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿165﴾" أيْ وهو وحده سبحانه الذي جعلكم أيها الناس خلائف – جمع خليفة – له في الأرض ويَخْلف بعضكم بعضا جيلا بعد جيل لتنتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه، وكرَّمكم بأن وَثَقَ فيكم وجعلكم خُلَفاء نُوَّاباً عنه تعالي تُسَيِّرُون شئونها بما أوصاكم به من أفضل الوصايا وأكملها مُمَثَّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحْسِن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ لتُسْعِدوا ذواتكم وغيركم والكوْن كله.. فكونوا إذن نِعْمَ الخُلَفاء، بعبادته أيْ طاعته تعالي وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبشكره وحده علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم بأن تستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾، وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه دون غيره من الأنظمة (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبذلك تَسعدون تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ثم أيضا بما أنه سبحانه قد جعلكم خُلَفاء لمن سَبَقكم من الأمم السابقة، فاعْتَبِروا إذن بما أصابهم من الشرّ والتعاسة في دنياهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا تفعلوا أبداً مثلهم حتي لا تتعسوا كتعاستهم في الداريْن.. ".. وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.." أيْ وأعْلَيَ بعضكم علي بعضٍ مَرَاتِب ومَنَازِل ومستويات في الأرزاق والقوَيَ المختلفة حسبما تجتهدون في إحسان اتّخاذ أسباب تحقيق ذلك فيُيَسِّرها لكم بما يُحَقّق مصلحتكم وسعادتكم.. وفي هذا تنبيهٌ ضِمْنِيٌّ للمسلم أن يَبذل أقصي ما يستطيع من جهدٍ في دنياه ليَصِلَ لأعلي درجاتها التي يريدها ثم ليَنالَ أعلي درجات الآخرة بأنْ يستحضر دائما أثناء كل جهوده نوايا خيرٍ بعقله عند فِعْلها.. ".. لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.." أيْ جَعَلكم هكذا ليَختبركم فيما أعطاكم من أرزاقٍ وقوَيً متنوعة ونِعَمٍ لا تُحْصَيَ، لكي يَتَبَيَّن المُطيع الذي يعمل بما أُعْطِيَ خيراً يُفيد ويُسعد به نفسه وغيره في دنياه وأخراه والعاصِى الذي يعمل بما أعطي شرَّاً يَضرّهم ويُتعسهم به فيهما، فيُجازِي مَن أطاعه بما يستحقّه من الخير والسعادة في الداريْن ومَن عصاه بما يستحقه فيهما من الشرّ والتعاسة علي قَدْر عِصْيانه.. إنَّ عليكم أنْ تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما.. ".. إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ.." أيْ إنَّ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك سريع العقاب أيْ لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، حيث سيُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ.. وكذلك سيُجازِي ويُسَرِّع حتما بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة.. إنه تعالي يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مِثْلما يَفعل خَلْقه.. ".. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿165﴾" أيْ وإنه بالتأكيد بلا أيِّ شكّ في مُقابِل سرعة العقاب غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
المص ﴿1﴾
أي هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿2﴾ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿2﴾" أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد ﷺ للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. ".. فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي فبَلّغه للناس فإنْ لم يستجيبوا لك فلا يكن أبداً في داخلك بعقلك ومشاعرك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم حَرَجٌ منه أيْ ضِيقٌ أو شِدَّةٌ أو عُسْرٌ منه بسبب عدم استجابة البعض له حيث التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء رغم وضوح الأدِلّة لكلّ مَن كان له عقلٌ مُنْصِفٌ عادلٌ يُصيب أيَّ بَشَرٍ بالشعور بالضيق، ولا يكن في صدرك حرجٌ منه بسبب شعورك بالتقصير نحوهم من عدم استجابتهم رغم إحسان دعوتهم، ولا حرجٌ منه بسبب الخوف من التقصير في واجب دعوة الجميع له ونشره والدفاع عنه، ولا مِمَّا شابَه ذلك، فإنه ليس مَصْدَر حَرَجٍ مُطلقاً بل هو حتماً مصدر سعادةٍ وانشراحٍ لأنَّ الله تعالي ما يريد فيما يشرعه من تشريعاتٍ لكم أبداً بالتأكيد أن يجعل عليكم أيَّ ضِيقٍ أو شِدَّةٍ أو عُسْر، ولا يَلِيق ولا يُعْقَل ولا يُتَصَوَّر به ذلك مُطْلقاً بل يريد دوْمَاً بكل ما شَرَعَ لكم أن يُسَهِّل ويُيَسِّر عليكم لا أن يُصَعِّب ويُعَسِّر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿6﴾ من سورة المائدة ".. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"﴾، فلا تَحزن ولا تَتضايَق واصْبِر فإنّما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فَعَلْتَ ذلك وفعلتم أيها المسلمون هذا فلا تحزنوا فقد أدّيتم ما عليكم من حُسن دعوة غيركم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران﴾، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُوِيهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يُناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوماً مَا ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، ولهم أجورهم علي دعوتهم سواء استجابوا أم لا.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد ﷺ وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، وأنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. لِتُنْذِرَ بِهِ.." أيْ هذا بيانٌ لحِكْمَة ولهَدَف إنزاله.. أيْ أُنْزِلَ وأوحِيَ إليك لكي تُحَذّر به، أيْ بهذا القرآن العظيم، بما فيه من تحذيراتٍ، بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة لمَن يَترك بعض أخلاقه أو كلها أو يُكذّب به أو يُعانِده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره وبما يُناسبها بكل عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَذِكْرَى.." أيْ ولكي يكون كذلك تذكيراً دائماً للناس جميعا، وذلك لأنَّ فيه بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن.. ".. لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿2﴾" أيْ لكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾" أيْ سيروا أيها الناس خَلْف ما أنزل إليكم من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – وهو القرآن العظيم ونَفّذوا أخلاقه واعملوا بها كلها في كل شئون حياتكم لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ.." أيْ ولا تَتّبعوا أولياء غيره تعالي، ولا تتّبعوا غير قرآنه الذي أُنْزِلَ إليكم دين أولياء، أي نُصَرَاء وأعْوان وأحِبَّاء، مِمَّن لا يَتّبعون القرآن وما به من أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، سواء أكانوا من المُشْرِكين أيْ العابدين لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أو المُنافقين أيْ المُظْهِرين للخير المُخْفِين للشرّ أو المُعتدين الظالمين غير العادِلين أو الفاسدين الناشرين للشرّ أو مَن يُشبه هؤلاء، أي تجعلونهم أولياء لأموركم وليس الله تعالي والإسلام والمسلمين الصالحين يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتتحابّون وتتناصرون فيما بينكم وتُخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مُؤَكّدَاً سيَأخذونكم لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، لأنهم هم الذين يَتَوَلّون أموركم ويَقودنكم ويُوَجِّهونكم، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. هذا، ولا يَمْنَع الإسلام بل ويَطلب حُسن التعامُل مع الجميع ما داموا مُسالِمين غير مُعْتَدِين (برجاء مراجعة الآية ﴿8﴾ من سورة المُمْتَحَنَة "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿8﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾" أيْ لكنْ رغم كلّ ما ذُكِر إلاّ أنكم أيها البَعِيدون عن ربكم وإسلامكم المُتَّبِعُون من دونه أولياء لا تَتذكَّرون هذا كثيراً بل تتذكّرونه تَذَكّراً قليلا!!.. لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولا تتذكّرون ربكم وإسلامكم، ولا تعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. والسبب أنكم قد عَطّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴿4﴾ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴿4﴾" أيْ وكثيراً من البلاد أهلكنا أهلها بسبب مُخَالَفة رسلنا وعدم إسلامهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وإصرارهم علي ذلك بلا توبة أيْ عودة لربهم ولإسلامهم فجاءها أيْ فوَصَل هذه البلاد وأهلها في موعد إهلاكها بأسنا أيْ عذابنا الدنيويّ بياتاً أيْ بائِتين أيْ وهم أثناء نومهم بالليل، أو قائلين أيْ أثناء قَيْلُولتهم أيْ نومهم وقت الظهر، والمقصود أنه يأتيهم وقت استرخائهم واطمئنانهم فجأة فلا يستطيعون الاستعداد له بمقاومته أو الهروب منه فتكون حَسْرتهم أشدّ ويكون عذابهم أعظم وقد يؤدي بهم إلي هلاكهم.. ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿5﴾" أيْ فما كان قولهم أيْ لم يكن لهم أيّ قولٍ في هذا الموقف الشديد حين جاءهم عذابنا إلا أن قالوا مُعْتَرِفين بظلمهم وسُوئهم الذي استحقّوا به العذاب نادِمين مُتَحَسِّرين مُسْتَغِيثين فَزِعِين طامِعين في الخلاص في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ أو حَسْرَةٍ أو طلب نجاة إنّا كنّا ظالمين لأنفسنا وغيرنا بفِعْلنا الشرّ لا الخير ولم يظلمنا الله تعالي بعذابه، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴿6﴾ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴿7﴾ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿8﴾ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴿6﴾"، " فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴿7﴾" أيْ هذا بيانٌ للعذاب الأخرويّ بعد العذاب الدنيويّ الذي ذُكِر في الآيتين السابقتين.. والسؤال هو نوعٌ من العذاب النفسيّ قبل العذاب الجسديّ بالنار حيث سيكون حساب يوم القيامة لأمثال هؤلاء دقيقاً وليس بتساهلٍ كالذي يكون مع المُحسنين، مع العدل التامّ بالقطع.. إنه تعالي سيَسألهم، وهو العالِم بتمام العلم بكل قولٍ وفِعْلٍ لهم وبما سيُجيبون به، ولكنَّ هدف السؤال أن يُقِرُّوا ويَعترفوا بما كان منهم وأنهم يَستحقّون بالفِعْل العذاب فلا ظلم لهم.. أيْ فبكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سنَسأل الذين أُرْسِلَ إليهم رسلنا وهم جميع البَشَر وقد أرسلنا إليهم جميعا الرسل هل وَصَلَتْهم رسالة الإسلام من خلالهم فيُقِرُّون ويَعترفون ويشهدون بذلك الحقّ الذي وَصَل إليهم من رسلهم ونسألهم عن اتّباعهم والإسلام الذي كانوا يَدْعُونهم إليه ليسعدوا في الداريْن هل استجابوا لهم أم كذّبوهم وعانَدوهم وراوَغوهم واستكبروا عليهم واستهزؤا بهم وآذوهم؟!.. ".. وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴿6﴾" أيْ وسنسأل كذلك بالتأكيد كلَّ الرسل في كل الأزمنة والأمكنة عن ماذا أجابَتْكم به أُمَمُكم الذين أرسلتكم إليها، هل أجابُوكم أيْ استجابوا لكم بالإيمان أيْ بالتصديق بكم وبالعمل بالإسلام أم رَدُّوا عليكم بالتكذيب وعدم العمل به؟ وهو سبحانه حتماً يعلم كل شيءٍ ولذا فهو سؤال تشريفٍ وتكريمٍ وتمييزٍ لهم عن غيرهم وذمٍّ شديدٍ وزيادةِ رُعْبٍ لمَن كذّبوهم ولم يَتّبعوهم لأنه إذا سُئِلَ الرسول فلا شكّ أنَّ هذا إرهاباً شديداً للمُكَذّب به والمُخَالِف له وما ينتظره من سؤالٍ وحسابٍ يُناسب تكذيبه ومُخَالَفاته.. "فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴿7﴾" أيْ وبكل تأكيدٍ بلا أيّ شكّ سنُخْبِر حينها الرسل والمُرْسَل إليهم، ونَقُصّ ونَتْلُو علي الجميع، تفاصيل كل ما عملوه في دنياهم من خيرٍ وشرٍّ في كل قولٍ وعملٍ ظاهرٍ وخَفِيٍّ عن علمٍ دقيقٍ وإحصاءٍ شاملٍ لأننا لا يغيب عنا شيء، فما كنا غائبين عنهم ولو لِلَحْظَة في أيِّ حالٍ من أحوالهم الظاهرة والخَفِيَّة في أيِّ وقتٍ من أوقاتهم ومكانٍ من أماكنهم فنحن معهم دائما بعلمنا وقُدْرتنا أينما كانوا
ومعني "وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿8﴾"، "وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴿9﴾" أيْ هذا بيانٌ للعدل التامِّ يوم القيامة.. أيْ والوزن يومها للأعمال لتقديرها للجزاء عليها يكون بالحقّ أي بالعدل بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ لأيِّ أحدٍ بأيِّ حالٍ من الأحوال.. هذا، وليس من الضروريّ أن يكون الوزن بالميزان ولكنَّ المقصود هو تمام العدل الحَتْمِيّ عند الحُكْم والقضاء من الله تعالي.. ".. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿8﴾" أيْ فأيّ إنسانٍ رَجَحَت كِفَّة موازين حسناته على كِفَّة موازين سيئاته في ميزان الحسنات والسيئات ولو بحَسَنَة واحدة، فهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في أخراهم بعد دنياهم بسبب عملهم الخير، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أنْ يُثْقِلَ ميزان حسناته بكل خيرٍ من خلال عمله بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته.. "وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴿9﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن خَفّت مَوَازين حسناته عن موازين سيئاته بسبب كثرة فِعْله السوء وقِلّة فِعْله الخير بحيث رَجَحَت كِفّة موازين سيئاته علي كِفّة موازين حسناته في ميزان الحسنات والسيئات ولو بسيئةٍ واحدة، فإنه يُحَاسَب علي قَدْر سُوئه، فهؤلاء حتماً هم الذين خسروا أنفسهم أيْ أهلكوها وأضاعوها بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شَكّ لأنهم قد عَرَّضُوها للعذاب في هذا اليوم يوم القيامة.. إنهم يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. ".. بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴿9﴾" أيْ خُسرانهم لأنفسهم بسبب أنهم كانوا في دنياهم يَجْحَدون بآياتنا، أيْ كانوا لا يَقبلون ولا يَعملون ولا يَعترفون ولا يُصَدِّقون بآياتنا في القرآن العظيم، ولا بآياتنا أيْ دلائلنا علي وجودنا ومُعجزاتنا في كل مخلوقاتنا في كَوْننا، والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ! فهم يُدركون تماما داخل عقولهم مِن فطرتهم أنَّ القرآن حقّ، والله ورسوله ﷺ وإسلامه حقّ، أي صِدْق، أي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد البشرية كلها حتي يوم القيامة (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار والمُرَاوَغَة وعدم الاستجابة للحقّ مِن أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وظلمهم له صور ودرجات مُتَعَدِّدَة فقد يكون كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أو شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أو نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أو اعتداءً وعدم عدلٍ أو فسادا ونشرا للشرّ أو ما شابه هذا
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾
هذا، ومعني "وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴿10﴾" أيْ ولقد أعطيناكم بالتأكيد أيها الناس التمكين في الأرض أيْ أسباب القوة والبقاء ما تتمكَّنُوا بها من أنواع التّصَرُّف فيها والانتفاع والسعادة بها تمام السعادة، فهي ملك لكم ومُسَخَّرَة، وأنتم مُتَمَكّنُون منها ومِمَّا فيها.. ".. وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ.." أيْ ووَفّرنا وجَهَّزنا لكم فيها كل أسباب المَعِيشَة – جَمْعها مَعَايِش، مُتَنوّعة الأشكال – السَّهْلَة المُيَسَّرَة المُمْتِعَة المُسْعِدَة، وهي ما يُمكن العَيْش أيْ الحياة به بكل سعادة، مِن عقلٍ وفكرٍ وروح وجسد وصحة وقوة، وهواء وماء وشمس وضوء وجاذبية، وبحار وأنهار، وزروع وثمار ودَوَابّ، وما يُؤْكَل وما يُصْنَع وما يُلْبَس وما يُتَّخَذ دواء وما يُتَزَيَّن به وما يُتاجَر فيه ويُتَكَسَّب ويُرْبَح منه، ونحو ذلك مِمَّا يَنفعكم ويُمَتّعكم ويُسعدكم.. ".. قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴿10﴾" أيْ لكنْ رغم كل هذه النِّعَم الواضحة والتي لا يُمكن حَصْرها، فإنكم تشكرون أيها البَشَر شكرا قليلا وفي أوقاتٍ قليلة! بل بعضكم قد يكفر هذه النِّعَم أيْ لا يعترف بها بل وقد يَنْسِبها لغيره سبحانه! بل والبعض قد يَكفر أيْ يُكَذّب بوجود الله أصلا!! فإيّاكم أن تكونوا كذلك، بل كونوا دوْما شاكرين لنِعَمه تعالي، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴿11﴾ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴿12﴾ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴿13﴾ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿14﴾ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿15﴾ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿16﴾ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿17﴾ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿18﴾ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿19﴾ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴿20﴾ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴿21﴾ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿22﴾ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿23﴾ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴿24﴾ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴿25﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلفك بهذا حيث خَلَق سبحانه خَلْقَه لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه (برجاء مراجعة الآية ﴿30﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا وَثَقْتَ تماما أنَّ خالقك الكريم قد وضع في عقلك بذور معرفة كل أسرار الكوْن ومنافعه وعلومه وما عليك إلا أن تُنَمِّيها (برجاء مراجعة الآيات ﴿31﴾، ﴿32﴾، ﴿33﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
إن الآيات الكريمة تحكي للناس قصة الحياة الدنيا ليُحْسِنوا التّعامُل معها فيسعدوا تماما فيها ثم في حياتهم الآخرة.. لقد خَلَقَ سبحانه الإنسان من نُطْفَةٍ ثم صَوَّرَ صورته وشكله علي أحسن صورةٍ في رَحِم أمّه، وقد أسجد الملائكة لأبيه آدم كدلالة علي أنه مُكَرَّم علي جميع المخلوقات، ثم بَيَّنَ له أنَّ هناك خيراً مُسْعِدَاً لمَن يُطيع ربه ويعمل بكل ما يأمره به ويَمتنع عن كل ما ينهاه عنه، أيْ لمَن يتمسّك ويعمل بكل أخلاق الإسلام، وقد تَمَثَّلَ ذلك ورُمِزَ له بطاعة الملائكة لأمر ربها بسجودها لآدم، وأنَّ هناك شَرَّاً مُتْعِسَاً لمَن يعصي أوامره، أي يترك بعض أو كل إسلامه، استكباراً أو عِنادً أو نفاقاً أو مُرَاوَغَة أو غفلة أو ما شابه هذا، من أجل تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يومَاً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وقد تَمَثّلَ ذلك ورُمِزَ بعصيان واستكبار الشيطان، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كلّ خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وإبليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يئس من الرحمة وأصبح مَيْئُوسَاً منه أن يفعل خيراً، وأنَّ ابن آدم صاحب العقل الذي هو سبب تكريمه إذا انتبه لِمَا هو مَفْطُورٌ مُبَرْمَجٌ عليه موجودٌ فيه من الإسلام (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف﴾ وأحسن استغلاله والتعامُل معه في كل خير، وَجَدَ كل خير، وعاشَ في جنات وسعادات الدنيا بعيداً عن أيّ حزنٍ أو خوف، ثم في أعظم من ذلك وأخلد في جنات الآخرة، وإذا أساء استخدام عقله في أيّ شرٍّ وَجَدَ حتماً شرَّاً ولو بعد حين، وعاش حياته تعيساً كئيباً في نيران وآلام دنياه ثم أعظم منها في أخراه إنْ لم يَتُبْ، وقد يُخَلّد في هذا إنْ كان كافراً ومات علي ذلك، وأنه هو الذي يختار بمشيئته بكامل حرية إرادة عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وأنَّ مَن يترك بعض أو كل أخلاق الإسلام، ويترك التفكير الخَيْرِيّ بعقله، ويَتّبع التفكير الشَّرِّيّ فيه، والذي يُرْمَز له بوَساوِس الشيطان وإغواءاته أيْ إغراءاته، سيَهْبِط من مَكَانَة الإنسان الراقية الخيرية السعيدة إلي الصَّغَار وهو الذلّة والمَهَانَة في مُقابِل وبسبب استكباره علي شرع الله، لأنه سيَعبد أيْ يُطيع غيره سبحانه فيذِلّه هذا المَعْبُود ويستهلكه ويَسْتَنْزِف ثرواته وقوَّاته ولن يعطيه إلا الفُتات، وسيَخرج من سعادات الدنيا والآخرة مَذْمُوماً أيْ مَصْحُوبَاً بكلّ ذمٍّ وعَيْبٍ وكُرْهٍ ومَدْحُورَاً أيْ مُبْعَدَاً عن الله ورحمته وكل خيرٍ مع أمثاله المُسيئين أجمعين، وسيَفقد حياءه وتقواه بسبب كثرة سُوئه فيزداد بذلك سوءاً، وهذا قد رُمِزَ له بأنَّ السَّوْءَة، أيْ ما يُسيء إذا انكشف، أيْ العَوْرَة، قد بَدَت أيْ ظَهَرَت، وكل ذلك بسبب اتّباعه لخطوات الشيطان، أيْ لتفكيره الشَّرِّيّ، باختياره، بكامل حريته، والذي سَمَحَ به تعالي وأنْظَره أيْ أمْهَله وأبْقاه في العقل إلي يوم القيامة، لا لِيَتَّبِعه! ولكن لتظهر أضرار وتعاسات اتّباعه، إذ بالضدّ تَتَمَيَّز الأشياء، فيتمسّك أشدّ التمسّك بالخير لينال سعاداته التامَّة في الداريْن، وهذا التفكير الشرّيّ هو مع الإنسان دَوْمَاً كأنه قاعِد له في طريقه المستقيم، كأنه يأتيه من كل مكان، لكي يكون في كل لحظةٍ يَقِظَاً له حَذِرَاً من شروره، فهو سيَظلّ عدواً له ما دام علي الأرض ليظل حذراً منه فتَقْوَيَ إرادة عقله بمقاومته فيستخدم هذه الإرادة القوية في الانطلاق في الحياة يستكشفها أكثر فيَسعد أكثر فيشكر ربه أكثر فيزيده فيسعد أكثر وأكثر.. هذا، وإنْ تابَ الإنسان، أيْ اسْتَفاقَ ونَدم واستغفر ربه وعَزم بداخل عقله علي عدم العودة ورَدَّ الحقوق لأصحابها ما استطاع إنْ كان الذنب مُتَعَلّقاً بهم، تابَ ربه عليه وأعانه وأعاده لطريق الخير والسعادة، فهو الغفور الرحيم.. فهذه هي قصة الحياة علي الأرض وحال الإنسان واستقراره ومَتاعه فيها، ثم موته بها، ثم خروجه منها وبَعْثه يوم البَعْث في الآخرة، حيث كل الخير لأهل الخير وكل الشرّ لأهل الشرّ
هذا، ومعني "وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴿11﴾" أيْ ولقد أوْجَدْناكم من عدمٍ أيّها الناس – وكذلك خَلَقْنا كلّ المخلوقات – ثم صَوَّرناكم أيْ خلقناكم بعقولكم وأجسادكم علي أحسن وأنفع وأنسب صورة مَضبوطة مُتَنَاسِقَة تُعينكم علي تمام الانتفاع والسعادة بكلّ الخيرات حولكم والتي هي كلها أرزاق منا لكم، وذلك بقُدْرتنا وكمال عِلْمنا ولم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أنْ يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق وصَوَّر هذا الخَلْق المُعْجِز المُبْهِر لكلّ مَن تَدَبَّر فيه وكان صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، فمَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا.." أيْ ثم قلنا للملائكة وأمرناها بعد ذلك – جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه لا تُرَيَ بالعين البَشَرِيَّة خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه – اسجدوا لآدم فسَارَعَت كلها بالسجود له استجابة لأمر الله تعالي، وهذا من أعظم التكريم للإنسان ليَسْتَشْعِر مَكَانَته فيكون علي مستوي هذه المَكَانَة فلا يَتَدَنّيَ ويَنْحَطّ ويُهِين كرامته بفِعْل الشَّرّ المُضِرّ المُهِين المُذِلّ المُتْعِس وإنما يَفعل دائما كلّ خيرٍ مُفِيدٍ مُعِزّ مُسْعِدٍ في الداريْن، فقد أسْجَدَ سبحانه له ملائكته كدلالة علي أنَّ الأرض بما فيها مِن مخلوقاتٍ هي مُسَخّرَة له فليُحْسِن إذَن التعامُل معها والانتفاع والسعادة بها، إضافة إلي أنه قد خَلَقه سبحانه علي أفضل صورةٍ ووَضَعَ فيه تعالي جزءَاً من روحه أيْ قدْرته ليكون علي صِلَةٍ تامَّةٍ دائمةٍ معه فيَطْمَئِنّ ويَسْعَد تمام الاطمئنان والسعادة بذلك في دنياه وأخراه.. هذا، وسجود الملائكة يعني الانحناء والتعظيم لأنَّ السجود المعروف لا يكون إلا لله تعالي.. ".. إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴿11﴾" أيْ فيما عدا إبليس عَصَيَ ولم يَسْتَجِب، لم يسجد ولم يكن من الساجدين لآدم، فقد أَبَيَ أيْ رَفَضَ وامْتَنَعَ تَعَاظُمَاً، وتَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي أمر السجود واستهزأَ به فلم يَستجب له فكان بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين.. ومقصود الآية الكريمة أن يعلم الإنسان أنه سيكون في الحياة استكبار وعِناد واستعلاء علي الحقّ والعدل والخير وظلم وفساد وضَرَر فلا يفعل مِثْل هذا مطلقا وإلا سيكون مصيره مثل مصير الشيطان أيْ مثل مصير كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه، أي التعاسة التامّة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا.. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة بقية الآيات من ﴿12﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام﴾.. إنه تعالي في هذه الآية الكريمة وما بعدها حتي الآية ﴿25﴾ يستخدم أسلوب التمثيل القصصيّ ليُوَضِّح لنا تجربة الحياة وأصولها وكيفيتها والمؤثرات فيها قبل أن تبدأ لنَعْتَبِر بها ونَسْتَعِدّ لها أحسن وأتمّ استعداد لنَنْصَلِحَ ونَكْمُل ونَسعد فيها تمام السعادة ثم بسعادة الخلود التامّة العظيمة ذات النعيم الذي لا يُوصَف في جنات الآخرة
ومعني "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴿12﴾" أيْ يَذمّ الله تعالي المُستكبرين عن طاعته فلا يَتَّبِعون إسلامه ذَمَّاً شديداً فيُذَكّرنا في القرآن بسؤاله لإبليس الذي هو رمز لهم ويُمَثّلهم عن ما السبب الذي يمنعهم من هذا، من الاستجابة له حين يأمرهم بما فيه مصلحتهم وسعادتهم وهو خالقهم بيديه الكريمتين ومُوجِدهم ووَاهِب الحياة لهم ورازقهم وراعيهم ومِن طاعة تشريعه وهو الإسلام الذي أنزله إليهم في قرآنه ليُسعدهم في دنياهم وأخراهم؟! لعلهم يَستفيقون ويعودون له ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما.. هل السبب أنك قد اسْتَكْبَرْتَ يا ابن آدم يا مَن تَشَبَّهْتَ بإبليس علي خَلْق الله مِن بَشَرٍ وغيرهم في الكوْن أم كنتَ مِن المُتَعَالِين حتي علي الله ذاته؟!.. ".. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴿12﴾" أيْ يُحاوِل الكافر تبرير كفره لذاته أو لغيره بتبريراتٍ كاذبة وبأدِلّةٍ ضعيفة لا قيمة لها!! إنه يَتَوَهَّم مُنْخَدِعَاً كأنه فوق الجميع وأشرف وأفضل منهم لأنه مخلوق آخر مُتَمَيِّز وليس مثلهم! فهم يُطيعون خالقهم أمّا هو فلا يُطيعه! بل قد لا يعترف بعضهم بوجود خالقٍ أصلا! أو يعترف بوجوده لكن لا يستجيب لتوجيهه وإرشاده في تشريعه بل هو يفعل ما يشاء من شرور ومَفاسد وأضرار! أو يُشْرِك معه في العبادة غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو كوكبٍ أو نحوه! تعالي الله عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا.. وفي هذا تمام التعاسة لأمثال هؤلاء في دنياهم وأخراهم.. والسبب هو تعطيل عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي الآية الكريمة ذمٌّ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ولا يستكبرون مثل استكبار إبليس فيكون مصيرهم جهنم وبئس المصير
ومعني "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴿13﴾" أيْ هذا بيانٌ لعقاب الله تعالي للمُستكبرين المُعانِدين المُكَذّبين العاصِين وهو الخروج من رحماته وجناته وسعاداته إلي عذاباته ونيرانه وتعاساته في الدنيا ثم الآخرة، فهذا هو حتماً مصير كلّ مَن يَتَّبِع الشيطان.. لكن مَن يتوب مِن بني آدم ويَترك اتّباعه ويعود لربه ولإسلامه يتوب تعالي قطعاً عليه ويَسعد في الداريْن فهو واسِع المغفرة الذي يغفر الذنوب جميعا.. أيْ قال الله تعالى لإبليس فانْزِل من الجنة إلي الأرض بسبب عِصْيانك وتَكَبُّرك، والمقصود هبوط المُتَكَبِّر المُكَذّب المُعانِد العاصِي من السعادة إلي التعاسة في دنياه وأخراه بسبب سُوئه، وتكون درجة هبوطه وانحداره فيها علي قَدْر هذا السوء الذي يفعله.. ".. فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا.." أيْ فلا يجوز لك أن تَتَعَالَيَ في الجنة، فليس لك أن تعصي فيها، فمَا لمَن يَتَكَبَّر ويَعصي أن يكون فيها، لأنها ليست مكاناً للسوء، فهي يسكنها فقط الطيّبون المُطيعون لا الشِّرِّيرون العاصُون فهي ليست أبداً مكاناً لهم، أما الأرض فيسكنها المُطيع والعاصي، فسعادات الجنة – وكذلك الدنيا – لا تكون مُطلقاً للعاصِين بل هي للمُطيعين المُتواضعين التائبين من معاصيهم العائدين لربهم العاملين بأخلاق إسلامهم.. ".. فَاخْرُجْ.." أيْ هذا تأكيدٌ للهبوط والإبعاد والإخراج من الخير للعاصِين أمثاله.. ".. إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴿13﴾" أيْ فأنت ستكون دائما، وكذلك سيكون كلّ عاصٍ يَعصي مثلك، من الذليلين المُهانين الحَقيرين، بسبب العصيان، فكلّ معصيةٍ تُهين وتُذِلّ فاعلها بصورةٍ من الصور وبدرجةٍ من الدرجات، كما يُثبت الواقع ذلك
ومعني "قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿14﴾"، "قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿15﴾" أيْ أنَّ وجود الشرّ في الحياة الدنيا إلي نهايتها إنما هو لحكمةٍ هامّة وهي أن يُعْتَبَرَ به فلا يَفعله الإنسان لأنه قد رأيَ أضراره وتعاساته، وهذا هو معني "قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿14﴾" أيْ أمْهِلْنِي أيْ أَجِّلْنِي أي اترك الشرَّ إلي يوم البعث حين تَبْعَث بني آدم بأرواحهم وأجسادهم في الآخرة للحساب الختاميّ لِمَا عملوا.. "قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿15﴾" أيْ أنَّ الشرَّ مَتْروكٌ مَوجودٌ دون إزالةٍ له بحِكمة الله وبعلمه إلي توقيت يوم القيامة الذي يعلمه سبحانه حين تنتهي الحياة الدنيا، وذلك للاعتبار به.. هذا، ويُراعي أنَّ جواب الله تعالى لإبليس هو إخبار عن أمرٍ قد تَحقّق بالفِعْل وليس إجابة لطَلَبه لأنه أهون على الله من أنْ يُجيب له طَلَبَا.. أيْ لقد خلقتُ مخلوقاتٍ غير بني آدم هي باقية لقيام الساعة كالسماوات والأرض وغيرها وأنت منها
ومعني "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿16﴾"، "ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿17﴾" أيْ هذا تأكيدٌ وتنبيهٌ علي استمرارِيَّة وجود الشرّ حتي نهاية الحياة الدنيا ليَتَّخِذ الناس جميعاً مزيداً من الحَذَر نحوه.. أيْ قال إبليس كما أغويتني، أي كما أضللتني، والمقصود كما جعلتني يارب سَبَباً للضلال والوقوع في الغِواية أي الشرّ والفساد لأنْ حكمتك تَطَلّبَت السماح بوجود الشرّ في الدنيا حيث فيه مصلحة بني آدم وذلك لا ليَفعلوه وإنما لكي لا يَتّبعوه بل ويُقاوموه فتزداد قوة إرادة عقولهم فيَنطلقون في الحياة بهذه الإرادة القوية يستكشفون خيراتها أكثر وأكثر وينتفعون ويسعدون بها أكثر وأكثر ثم يكون لهم بذلك في آخرتهم السعادة الأكثر والأعظم والأتمّ والأخلد، وهذا سيكون هو حال الذين لا يستجيبون لأيّ شرّ – وإنْ استجابوا أحيانا تابوا منه سريعا – ويَتّبِعون كل خيرٍ أيْ يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، وقد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾.. ".. لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿16﴾" أيْ بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سأجلس وسأكون مُلازِمَاً دَوْمَاً لبني آدم على طريقك القويم، وهو الإسلام، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريقُ تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، سأتَرَبَّص بهم وأنتظرهم كما يَتَرَبَّص وينتظر قُطّاع الطريق للسائرين فيه لأمنعهم من اتّباعه وأبعدهم عنه وأدعوهم لكل شرٍّ وفساد، في كل قولٍ وعملٍ بكل شئون حياتهم، مُجْتَهِدَاً في ذلك بلا أيّ تكاسُلٍ مُتّخِذَاً كل وسيلةٍ مُمْكِنَة.. "ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿17﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حرصه الشديد علي أداء مهمّته بنجاحٍ تامٍّ بكل الوسائل والطرُق بلا أيِّ انقطاعٍ أو تَرَاجُعٍ أو تَرَاخٍ أو يأس.. أي وسأَحْضُر وسأَجِيء لهم وأُلازِمهم من جميع الجهات والجوانب في كل أقوالهم وأفعالهم بكل مواقفهم وتصرّفاتهم لأبْعِدهم عن كل خيرٍ وأدْفَعهم لكل شرّ.. ".. وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿17﴾" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي حرصه الشديد علي أداء مهمّته بنجاحٍ تامٍّ بكل الوسائل والطرُق بلا أيِّ انقطاعٍ أو تَرَاجُعٍ أو تَرَاخٍ أو يأس.. أيْ وسأستمرّ حتى لا يكون كثيرٌ من بني آدم ولا تَرَاهم شاكرين لك نعمك التي لا تُحْصَيَ عليهم بأن يؤمنوا بك ويُطيعوك وحدك باتّباع إسلامك وبإحسان استخدام هذه النِّعَم في كل خيرٍ لا شرّ، بل ستجدهم غير شاكرين بأن يكفروا ويَعصوا.. فلْيَحْذَره إذَن كلّ عاقلٍ حَذَرَاً شديداً ولا يَتّبعه مُطلقاً ويُقاومه علي الدوام بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما، ولْيَدْعُ غيره لذلك بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة حتي يكون الناس جميعا شاكرين لربهم مؤمنين به مُوَحِّدين له بلا أيِّ شريكٍ عاملين بإسلامهم ليسعدوا تماما في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿20﴾ من سورة سبأ "وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿20﴾"، ثم الآية ﴿13﴾ منها ".. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴿13﴾"﴾
ومعني "قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿18﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإخراج من الخير والسعادة للعاصِين أمثاله وبيانٌ لسوء المصير والمَرْجِع في الآخرة حيث العذاب والتعاسة علي قَدْر السوء الذي يرتكبونه، بعد تعاسة الدنيا التي كانوا فيها قطعاً والإخراج من سعادتها بسبب بُعْدهم عن ربهم ومُخَالَفاتهم لإسلامهم.. أيْ قال الله تعالي لإبليس – وهو قولٌ يُقالُ لكلِّ عاصٍ – اخرج من الجنة بسعاداتها خروج مَن كان حاله وواقِعه مَذءوماً أيْ مَذْمُومَاً أيْ وأنتَ تُذَمّ بكل أنواع الذمّ أيْ تُذْكَر وتُوصَف بكل ما هو سَيّء مُهَانَاً مُحَقّرَاً مَغْضُوبَاً عليك مَكروها، ومَدْحُورَاً أيْ مُبْعَدَاً تماماً مَطروداً من رحمات وإسعادات ربك.. ".. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿18﴾" أيْ بالتأكيد مَن يَسير خَلْفك ويَستجيب لك ويُطيعك في الشرّ الذي تدعوه إليه مِن بني آدم فبكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سأُدْخِل وأملأ النار منكم جميعا أيها العاصون يوم القيامة ليُعَاقَب كلٌّ منكم علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره
ومعني "وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿19﴾" أيْ وبعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم زِدْناه علي هذا التكريم والتعظيم تكريماً وفضلاً كبيراً بأن قلنا له يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة، أي اتّخذها مكانا للسكن وللاستقرار وللأمن، والجنة هى كل بستان ذى شجر كثير كثيف يُظلل ما تحته ويَستره، من الجَنِّ وهو سَتْر الشىء فلا يُرَيَ، وفيها كلّ مُفيدٍ مُسْعِدٍ مِمَّا يُؤْكَل ويُشْرَب ويُنْتَفَع به ومساكن طيبة وأنهار، وهذه الجنة لم يحددها الله تعالي فقد تكون جنة الآخرة المُعَدَّة للمُحسنين والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر أو مكانا طيبا كالجنة علي الأرض، وقلنا لهما كُلَاَ منها أكلاً هنيئاً طيباً وافراً واسعاً حسبما تشاءان من أيِّ مكانٍ ومن أيِّ ثمرٍ تريدان، لكنَّ هناك شجرة مُعَيَّنَة لا تقرباها وابتعدا تماما عنها ولا تأكلا منها فإنْ أكلتما فسَتَكُونَا بذلك من الظالمين أي العاصِين لله المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأن يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. إنَّ مِن حِكَم منعهما أن يعلما ويتذكّرا دائما ولا يَنْسَيَا أنَّ في حياتهما الدنيوية المستقبلية كل ما فيها مِمَّا هو مُفيد مُسعد يكون مباحا لهما ويتمتعون به هما وذريتهما بصورة فيها رَغَد أيْ عيش هنيء طيب وافر واسع لكنَّ هناك أمورا قليلة ممنوعة لا تُبَاح لضَرَرها ولتعاستها علي البَشَر مَن ابتعد عنها ولم يقترب منها ولم يفعلها سَعِدَ في دنياه وأخراه ومَن فَعَلها تَعِسَ فيهما علي قَدْر فِعْله.. فالله تعالى رحمة منه ببني آدم لم يشأ أن يبدأ أبوهم آدم حياته في الأرض على أساسٍ نظريّ لأنَّ هناك فرقا بين الكلام النظريّ والتجربة العملية، فأبقاه لفترةٍ في مكانٍ كالجنة للتدريب العمليّ علي فِعْل الخير المُفيد المُسعد وتَرْك الشرّ المُضِرّ المُتْعِس – وهذا هو أصل دين الإسلام – أيْ ليَتدرّب علي العمل بأخلاق الإسلام ليَسعد بذلك تمام السعادة في حياته الدنيا ثم حياته الآخرة
ومعني "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴿20﴾" أيْ فوسوس الشيطان لآدم وحواء بالشرّ – والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب، والوَسَاوِس عموما هي خواطر الشرّ التي تأتي في التفكير العقليّ – بأنْ يأكلا من الشجرة المُحَرَّم عليهما حتي الاقتراب منها وإلا كانا من الظالِمين أيْ العاصِين المُسْتَحِقّين للعقاب لتكون النتيجة السَّيِّئة لهذا العصيان أن يُعاقبهما الله عليه بأنْ يُبْدِيَ أيْ يُظْهِرَ لهما ما وُوُرِيَ أي سُتِرَ عنهما من سوءاتهما أيْ عوراتهما، والسّوْءَة هي فَرْج الرجل والمرأة، وسُمِّيَت بذلك لأنَّ انكشافها يَسوء صاحبها، وهذا دائما هو نتيجة السوء، سوءٌ مِثْله في مُقابله، إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً، كما نَبَّه لذلك وحَذّرَ منه سبحانه بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فقد حَدَثَ ما يُذَكّرهما بما هو راسخٌ في فطرتهما ولكنهما نَسِيَاه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وهو أنَّ الشرَّ مُتْعِسٌ وأنَّ الخير مُسْعِد، والشرّ هو في عصيان مَا يُوصِي به الخالق ونِسيان عَدَاوَة الشيطان الدائمة، وكل الخير والسعادة بالداريْن في طاعته سبحانه باتّباع كل أخلاق إسلامه.. إنه كلّما حَدَثَت مُخَالَفَة لأخلاق الإسلام كلما ظَهَرَت حتماً سَوْءَة مَا، تعاسة ما، علي قَدْر المُخَالَفة، سواء علي مستوي الفرد أو المجتمع.. ".. وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴿20﴾" أيْ هذا بيانٌ للشرِّ وَسْوَسَ به إليهما.. أيْ وقال لهما كذباً وزُورَاً وخِدَاعَاً ما مَنَعَكُما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلاّ كراهية أن تكونا، وحتي لا تكونا، وإلاّ لِمَنْع أن تكونا، مَلَكَيْن أو تكونا من الخالدين الذين لا يموتون ويبقون أحياء، أيْ مَنَعَكُما عنها رغم أنَّ مَن يأكل منها يصير مَلَكاً أو خالداً، والإنسان بفطرته يحب الرُّقِيَّ إلي أعلي الدرجات ليكون له صفاتُ قوةٍ كالملائكة ويحب أيضا البقاء في الحياة لأطول فترةٍ مُمْكِنَةٍ لينتفع ويَتَمَتّع بها وقد يضعف أمام الوسائل التي تُحَقّق له ذلك، وقد جاءهما الشيطان من هذه الناحية فكان هذا هو المدْخَل لخِداعهما بإغرائهما بالأكل ومعصية الله ومُخَالَفَة وَصَاياه، وقد خَدَعهما بالفِعْل حيث استجابا له مُتَوَهِّمِين مُنْخَدِعِين بكَذِبِه أنهما بذلك يمكنهما تحقيق العُلُوّ والبقاء!!.. فلْيَحْذَر إذَن كلّ عاقلٍ حَذَرَاً شديداً من مِثْل هذا وغيره من التفكير الشَّرِّيّ الخاطِيء المُتْعِس الذي يُفَكّر فيه أحيانا بعقله ولا يَتّبعه مُطلقاً ويُقاومه علي الدوام بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما
ومعني "وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴿21﴾" أيْ وأقْسَمَ لهما بالله علي صِدْقه فيما يقوله لهما حتي لا يَشُكَّا مُطلقاً أنه كاذبٌ مُبَيِّنَاً إنه لهما بالتأكيد من الناصحين الصادقين الذين يَسْعون لنصحهما لِمَا فيه منفعتهما، فصَدَّقاه لأنهما لم يَتَصَوَّرَا أبداً أنَّ أحداً يمكن أنْ يَتَجَرَّأ ويُقْسِم بالله كذباً لكنه كان بالقطع يكذب عليهما ليَخدعهما ويُوقعهما في معصية الله تعالي
ومعني "فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿22﴾" أيْ هذا بيانٌ لنجاح الشيطان في خِداع آدم وحواء لَمَّا نَسِيَا أنه عدوّهما لكي يَحْذَر بنو آدم كلهم من ذلك فيَتّخِذوه دوْمَاً عدوّاً لهم ليَنْجُوا من الشرّ فيَسعدوا في الداريْن.. أيْ فنَزّلهما من درجةٍ عاليةٍ هي الطاعة وسعاداتها إلى درجةٍ سافِلَةٍ هي المعصية وتعاساتها، بسبب ما غَرَّهما أيْ خَدَعهما به مِن وَساوِس.. ".. فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.." أيْ فلَمَّا أكلا من الشجرة التي نهاهما الله تعالي عن الأكل منها، مُخَالِفَيْنِ بذلك لوَصَاياه، عُوقِبَا بأنْ ظَهَرَت لهما عَوْرَاتهما بعد أن تَسَاقَط عنهما لباسهما بقُدْرته سبحانه، فخَجِلاَ وجَعَلاَ يَلْزِقَان ويُرَقّعان علي عَوْراتهما لستْرِها من ورق أشجار الجنة ورقة فوق أخرى.. وهذا دائما هو نتيجة السوء، سوءٌ مِثْله في مُقابله، إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً، كما نَبَّه لذلك وحَذّرَ منه سبحانه بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فقد حَدَثَ ما يُذَكّرهما بما هو راسخٌ في فطرتهما ولكنهما نَسِيَاه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وهو أنَّ الشرَّ مُتْعِسٌ وأنَّ الخير مُسْعِد، والشرّ هو في عصيان مَا يُوصِي به الخالق ونِسيان عَدَاوَة الشيطان الدائمة، وكل الخير والسعادة بالداريْن في طاعته سبحانه باتّباع كل أخلاق إسلامه.. إنه كلّما حَدَثَت مُخَالَفَة لأخلاق الإسلام كلما ظَهَرَت حتماً سَوْءَة مَا، تعاسة ما، علي قَدْر المُخَالَفة، سواء علي مستوي الفرد أو المجتمع.. ".. وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿22﴾" أيْ وقال لهما ربهما تعالي حينها مُعاتِبَاً مُؤَدِّبَاً مُنَبِّهَاً لخطئهما وضَرَره وتعاسته عليهما ومُذَكّرَاً بالنهي وبعَدَاوَة الشيطان التي عليهما ألاّ يَنْسَيَاها أبداً مَدَيَ حياتهما وذامَّاً علي الانخداع بعدوٍّ وتصديقه والأمن له واتّباعه، ألم أمنعكما عن تلك الشجرة أن تأكلوا منها وأخبركما إنَّ الشيطان لكما عدوٌّ مبينٌ أيْ واضِحٌ لكما، أيْ ضِدَّكما يريد إضلالكما أيْ إبعادكما عن كل خيرٍ وسعادة، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه؟!.. إنه لا يريد لكما أيّ خيرٍ ولا يَتَكاسَل لحظة عن محاولة إيقاعكما في الشرّ فكيف أطَعْتُمَاه وقَبِلْتما نُصْحه وهو عدوكما ودعاكما لِمَا يُخالِف وَصَايَا ربكما؟!
ومعني "قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿23﴾" أيْ قال آدم وحواء مُعْتَرِفَيْن بذنْبَيْهِما نادِمَيْن مُتَوَسِّلَيْن يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال وَصَايَاه لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – اعتدينا علي نَفْسَيْنا وأسأنا لهما وأتعسناهما بفِعْل هذا السوء المُضِرّ المُتعِس وإذا لم تغفر لنا أيْ تُسَامِحنا ولا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وتُمْحُها كأن لم تكن وتُمْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن وتَسْتُرْها وتُخْفيها ولا تُعَذّبنا بها فيهما فسنكون حتما بالتأكيد من الخاسرين في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث نخسر ونفقد دنيانا فنتعس فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدنا عنك وشرعك الإسلام ونخسر قطعاً أخرانا يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شرورنا ومَفاسدنا وأضرارنا بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴿24﴾" أيْ قال الله تعالي لهما انْزِلوا إلى الأرض أنتما وذرِّيَّاتكما بداخلكما والشيطان لتعيشوا جميعا فيها، وسيكون بعضكم لبعض عدو، أيْ سيكون الشيطان دائما عدوا لكم يا بني آدم وستَقَعُون في العداوة والتعاسة فيما بينكم لو اتّبَعْتُموه، فعليكم إذَن دوْماً أن تكونوا حَذِرِين منه أشدّ الحَذَر وأن تَتَّخِذوه علي الدوام عدوا، أيْ لا تَتَّبِعوا خطواته وتقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تتمسّكوا وتعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يطلق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾.. ".. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴿24﴾" أيْ ولكم في الأرض مكان استقرارٍ وتيسيرٍ للمعيشة وتَمَتّعٍ وانتفاعٍ وإسعادٍ بما فيها لكنه ليس استقرارا دائما خالدا بلا نهايةٍ بل إلي حينٍ أيْ إلي أوقاتٍ معلومةٍ عند الله وإلي أن تأتي آجالكم بالموت، ثم جميعكم سيرجعون إليَّ لا إلي غيري يوم القيامة حيث أبعثكم بأرواحكم وأجسادكم من قبوركم لأكون الحاكم بينكم بحُكمي العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلتم فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة في جنات الخلد ويكون للمُسِيء ما يستحقّه من عقابٍ في نار جهنم علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، فتَنَبَّهُوا لذلك إذَن وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فالعاقل المُتَذَكّر دائما لأنَّ استقراره فى الأرض وتَمَتّعه بنعيمها وسعادته به سينتهى وقتاً مَا لا يدرى متى هو حيث قد يكون بعد لحظة فإنه لا بُدَّ أن يكون دوْماً مُسْتَعِدَّاً علي هذا الحال الحَسَن
ومعني "قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴿25﴾" أيْ قال الله تعالي في الأرض تَعيشون وتَقْضُون أيام حياتكم الدنيا وفيها تَتَوَفّون حين يحين وقتُ موتِ كل واحدٍ منكم ومنها يُخرجكم سبحانه من قبوركم يوم القيامة بعد أن كنتم تراباً ويُعيدكم ويَخلقكم أحياءً مرة أخري بتمام أجسادكم وأرواحكم للحياة الآخرة وللحساب والعقاب والجنة والنار
يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من المُتَذَكّرين لنِعَم الله تعالي والتي لا يُمكن حصرها، والشاكرين لها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾
هذا، ومعني "يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿26﴾" أيْ يُذَكِّر الله تعالي الناسَ ببعض قدْراته ونِعَمه ليَتَدَبَّروا فيها ليتأكّدوا أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. أيْ يا بني آدم مِن بعض مُعجزاتنا ومن تمام قدْرتنا وعِلْمنا ورحمتنا وعطائنا أننا قد أنزلنا عليكم الماء من السماء فأنبتنا به النباتات التي تَنْسِجُون من أليافها وأحْيَيْنا به الحيوانات التي تَصنعون من أصوافها وجلودها لِبَاسَاً أيْ ملابس تُوارِي أيْ تَسْتُر عَوْراتكم وأجسادكم وتحميها من البَرْد والحَرّ وتكون لكم ريشاً أيْ جمالاً وزينة وفَرْشَاً كذلك لبيوتكم حيث تَنتفعون وتَتَزَيَّنُون بها وتَسعدون.. وفي هذا تذكرة بستْر العَوْرات والاسْتِحْياء الشديد من كشفها.. ".. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ.." أيْ هذا تذكيرٌ بأعظم النِّعَم علي بني آدم وأهم ما يجب عليهم أن يَتَحَلّوا ويَتَزَيَّنُوا ويَتَّصِفُوا به لأنه أساسٌ يَتَفَرَّع منه كل صفةٍ حَسَنة.. أيْ ولباسُ التقوى لله تعالى هو خيرُ لباسٍ تلبسونه يا بني آدم وهو خيرٌ من كل لباسٍ حِسِّيٍ علي جسدكم حيث يُزَيِّنكم ويَقيكم أيْ يَحميكم من كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن ويُعطيكم كل خيرٍ وسعادةٍ فيهما.. إنَّ أفضل وأَخْيَر وأعظم النِّعَم علي بني آدم، إضافة إلي النِّعَم المادِّيَّة المَحْسُوسَة، النِّعَم المَعْنَوِيَّة، نِعَم التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة لكل لحظات الحياة والتي تُعين علي حُسْن الانتفاع بالنِّعم المَادِّيَّة حولهم علي أكمل وأسعد وجهٍ والتي عَلّمها الله تعالي لهم في كتبه وآخرها قرآنه العظيم من خلال رسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ والتي أصلها نِعمة التقوي والتي تَعني خوفه ومراقبته وطاعته وأن يجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وأن يكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ.." أيْ ذلك الذي أنزله الله عليكم يا بنى آدم من النِّعم التي لا تُحْصَيَ هو من بعض دلائل قُدْرته وعِلْمه ورحمته وإحسانه عليكم وأنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه.. ".. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿26﴾" أيْ لعلّ بني آدم يتذكّرون هذا، أيْ لكي يكونوا بذلك من المُتَذَكّرين، أيْ لكي يتذكّروه، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا، وما عليهم فقط إلا أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصدق، وعليهم أن يحذروا بشدة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تَرَكوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في الدنيا والآخرة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿27﴾ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿28﴾ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴿29﴾ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿30﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس، بل تَمَسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك التي كلها خير وسعادة، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يطلق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله.. إنه يريد فِتْنتك أيْ إيقاعك في الفِتَن والإغراءات والشرور المُتْعِسَة، إيقاعك في إبعادك عن دينك الإسلام.. إنَّ عليك أنْ تتذكّر دائما قصة بدء الخَلْق وتَتَّعِظ بما فيها من دروسٍ وعِبَر (برجاء مراجعة الآيات السابقات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من هذه السورة، للشرح والتفصيل)، فقد نَزَعَ عن أبويْنا لباسهما، حياءهما، تقواهما، نِعَمهما، وهكذا كلّ مَن يَتَّبعه في شرٍّ مَا، سيَذوق مراراته وآلامه وتعاساته علي قَدْر شَرّه في دنياه وأخراه.. إنه عدوٌّ مَخْفِيٌّ عنك لا تعلم مِن أين يأتيك ويَفتنك ويَمْكُر بك، وكيف، وله قَبِيله، أيْ قبيلته وأعوانه، وهم كثيرون، بعَدَد البَشَر! حيث في عقل كلّ بَشَرٍ تفكير شَرِّيّ كما ذَكَرْنا!! فاحذر منه أعظم وأشدّ الحَذَر ودائماً وفي كل لحظة، لأنه لو كان عدواً واضحاً، أو قليلا، لَكَانَ من السهل التعامُل معه.. إنَّ التحصين الأكيد ضدّ كل ذلك هو بما دَلّنا عليه ربنا، هو طريقه ورسوله ﷺ وقرآنه، هو التمسّك والاعتصام بهم والتوكّل عليهم، هو العمل بكل أخلاق الإسلام، كما وَعَد سبحانه ووَعْده الصدق بقوله "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، " إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ" ﴿النحل:99،100﴾ (برجاء مراجعة تفسيرهما لتكتمل المعاني﴾، فهو تأثيره فقط علي مَن يَتَوَلّاه، أيْ مَن يَتّخذه وَلِيَّاً لأمره، يَتَصَرَّف فيه كما يشاء!! مَن يُشْرِكه مع عبادة ربه! مَن يُطيعه مِن دونه! باختياره، بكامل حرية إرادة عقله، بلا أيِّ إجبارٍ أو إكراه، من أجل تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الشياطين بهذا هي حتماً أولياء أمور الذين لا يؤمنون!.. إنَّ بعض هؤلاء مِن شدّة كذبهم وافترائهم علي الله تعالي يفعلون الفواحش ويَدَّعون كذباً وزُورَاً وجَهْلَاً وسَفَهَاً أنَّ الله أمَرَهم وآباءهم بها!! تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، إنه عَزّ وجَلّ لا يأمر إلا بكل عدلٍ وحقّ وخير، بكل أخلاق الإسلام، بكل ما يُصْلِح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن، بالعبادة أي الطاعة له وحده، بلا أيِّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، بإخلاص الدين له (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، بالصدق (برجاء مراجعة الآية ﴿95﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿116﴾ حتي ﴿120﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، بإقامة الشعائر التي تُحَرِّك المشاعِر بالعقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل في كل مجالات الحياة المختلفة ومع الجميع كالصلاة والذكر والدعاء والسعي للمساجد ونحو ذلك.. إنه تعالي كما خَلَقَنا أوّل مرّة، سيُعيدنا مرة أخري بعد الموت يوم البعث، والإعادة قطعا أهْوَن مِن البَدْء، فلْنُحْسِن إذَن الاستعداد بالعمل بكل أخلاق إسلامنا، لنكن من الفريق المُهْتَدِي المُفْلِح السعيد في الداريْن، لا من الفريق الضَّالّ الخاسر التعيس فيهما الذي حقّ عليه الضلالة أيْ ثَبتت لأنه اختار أن يَتَوَلّي الشيطان أموره من دون الله وهو يظنّ مُتَوَهِّمَاً مُنْخَدِعَاً غافِلَاً أنه علي الهداية من كثرة فِعْله للشرّ ونسيانه للخير مِمَّا أدَّي إلي الْتِبَاس الحقائق عليه فيَرَيَ الحقّ باطلا والباطل حقّاً وذلك أشدّ درجات الضلال (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿27﴾" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للناس من اتّباع الشيطان لأنَّ المصير الحَتْمِيّ لاتّباعه هو التعاسة التامّة في الداريْن وعليهم أن يتّخذوه دوْماً عدواً لهم ويُقاوموه ولا يَتّبعوه ويَغْلِبوه بفِعْل الخير دائما ليسعدوا تماما فيهما.. أيْ يا بني آدم لا يَخْدعكم الشيطان فيُزَيِّن أيْ يُحَسِّن لكم المعصية ويدعوكم إليها فتستجيبون له كما زيَّنها لأبويكم آدم وحواء فاستجابا له فأخرجهما بسببها من الجنة وسعاداتها، أخرجهما من جنة ونعيم وعِزَّة وسعادة الطاعة إلى نار وعذاب وألم وذِلّة المعصية وتعاساتها.. ".. يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا.." أيْ ونَزَعَ وأزاحَ عنهما لباسهما وأظهر لهما عوراتهما.. وإسْناد النّزْع إلى الشيطان لأنه هو الذي كان مُتَسَبِّبَاً فيه رغم أنه حَدَثَ بقدرة الله تعالي كعقوبةٍ منه لهما بسبب معصيتهما.. وهذا دائما هو نتيجة السوء، سوءٌ مِثْله في مُقابله، إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً، كما نَبَّه لذلك وحَذّرَ منه سبحانه بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فالشرّ مُتْعِسٌ والخير مُسْعِد، والشرّ هو في عصيان مَا يُوصِي به الخالق ونِسيان عَدَاوَة الشيطان الدائمة، وكل الخير والسعادة بالداريْن في طاعته سبحانه باتّباع كل أخلاق إسلامه.. إنه كلّما حَدَثَت مُخَالَفَة لأخلاق الإسلام كلما ظَهَرَت حتماً سَوْءَة مَا، تعاسة ما، علي قَدْر المُخَالَفة، سواء علي مستوي الفرد أو المجتمع.. ".. إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التحذير الشديد منه ومَمَّن يَتَّبعونه ويَتَشَبَّهون بشروره من أشرار الناس.. أيْ احذروه حَذَرَاً شديداً دائماً في كل لحظةٍ حتي لا يهزمكم لأنه يراكم هو وقبيله أيْ قبيلته أي أعوانه من حيث لا ترونهم أنتم، والعدو إذا أَتَىَ من حيث لا يُرَىَ كان أشدّ وأخْوَف ويحتاج إلي مزيدٍ من الانتباه والاعتناء والاحتياط والاحتراس واليقظة والاستعداد والتدريب والقوة، فهو عدوٌّ مَخْفِيٌّ عنكم لا تعلمون مِن أين يأتيكم ويَفتنكم ويَمْكُر بكم، ولا كيف يَفعل ذلك، وله مُعَاوِنِيه، وهم كثيرون، بعَدَد البَشَر! حيث في عقل كلّ بَشَرٍ تفكير شَرِّيّ!! وله أعوانه من أشرار الناس الذين تركوا أخلاق إسلامهم بعضها أو كلها فأصبحوا كالشياطين في أقوالهم وتصرفاتهم (برجاء مراجعة ما كتب تحت عنوان بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة، لمزيد من الشرح والتفصيل).. ".. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿27﴾" أيْ نحن جعلنا الشياطين قُرَناء أيْ أصحاب ومُلازِمِين للذين لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِدُون ويستكبرون ويستهزؤن ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. لقد جعلنا الشياطين أولياء لأمورهم أيْ يُديرونها لهم ويُوَجِّهونهم إليها ويَتّبعونهم فيها فيُؤَدِّي بهم ذلك إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. إننا سَهَّلْنا لهم أصحابَ وزملاءَ سوءٍ فاسدين مُلازِمِين لهم، إضافة إلي تفكيرهم الشَّرِّيّ داخل عقولهم والمُلازِم دوْما معهم، فقاموا بتزيين أي تحسين ما بين أيديهم أي دنياهم فأحبّوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، وحَسَّنوا لهم أيضا ما خَلْفهم أيْ ما يَنتظرهم في آخرتهم حيث أوْهَمُوهم بأنه لا آخرة ولا بَعْث بعد الموت ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ليَفعلوا ما أرادوا من شرّ.. إنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله أن يكون هكذا، أن يكون كافرا، أن يكون في الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد، فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه، هو الذي جَعَلَه وأمثاله كذلك، كافرين فاسدين، يستمعون للقرآن بلا تَعَقّلٍ وانتفاع، ولكنَّ الواقع أنهم في الحقيقة هم الذين جعلوا أنفسهم هكذا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وهذا هو معني "وجعلنا"، إلاّ أنْ يستفيقوا ويتركوا إصرارهم وعِنادهم ويعودوا لربهم ودينهم حينها يُعاونهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وذلك علي عكس المؤمنين بالقطع، حيث لهم أيضا تفكير شَرِّيّ بعقولهم وقُرَناء سوءٍ حولهم، ولكنهم يمنعونه ويمنعونهم ويُفَكّرون في كل خيرٍ مُسْعِدٍ، ويستعينون بربهم ويتمسّكون بقرآنهم وبكل أخلاق إسلامهم ويعملون بها، فيُحَصِّنُون ذواتهم ضِدَّ كلّ هذا، فيُعينهم ربهم ويُيَسِّر لهم أسباب كل خيرٍ ويَعصمهم من الوقوع في أيّ شرّ، ولو وَقَعوا استيقظوا سريعا بالتوبة فيأخذ بأيديهم سبحانه لتعود لهم سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾، ﴿100﴾ من سورة النحل "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ"، ثم مراجعة الآية ﴿42﴾ من سورة الحِجْر، ثم الآية ﴿65﴾ من سورة الإسراء، لتكتمل المعاني ولمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿28﴾" أيْ وإذا فَعَلَ السابق ذِكْرهم الذين لا يؤمنون بالله المُتّخِذون الشياطين أولياء وإذا فَعَلَ الظالمون عموماً – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – فاحشة مَا، والفاحشة هي الشرّ العظيم الضرَر علي الذات والغير الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره، تَحَجَّجَ بعضهم بحُجَجٍ ساقِطَةٍ سفيهةٍ لا يقبلها عقلٌ مُنْصِفٌ عادلٌ قائلين إننا وجدنا آباءنا وأجدادنا يَسيرون عليها ويفعلونها وإنّا على آثارهم مُقْتَدُون أيْ اتّخذناهم قدوة لنا نتّبعها فنحن علي طريقهم وأسلوبهم وطريقتهم سائرون خَلْفهم مُسْتَرْشِدون بهم.. هكذا بدون أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر أو حُجّة أو دليل!!.. إنهم كقطيع الحيوان الذى يسير وراء مَن يقوده دون أن يعرف إلى أىّ طريقٍ هو ذاهِب!!.. إنهم يتّبِعونهم حتي ولو كانوا لم يُحسنوا استخدام عقولهم وهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أيْ كالمجانين والسفهاء لا يفهمون شيئا، ولا يَهتدون أيْ لا يَسيرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق الله والإسلام، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة..!!.. حتي ولو كانوا لا يعقلون شيئاً من أمور الدين الصحيح ولا يهتدون إلى طريق الصواب!! حتي ولو كانوا ليس لهم أيّ عقلٍ مُفَكّرٍ مُتَدَبِّرٍ مُتَعَمِّقٍ في الأمور ولا هادٍ يهتدون بهَدْيه نحو الخير!!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا.." أيْ وهذه هي الحُجَّة الثانية وهي افتراء واجْتِراء واضح علي الله تعالي وهي أشدّ سقوطاً وسفاهة من الأولي!! فهم من شدّة كذبهم وافترائهم وجرأتهم عليه سبحانه يَدَّعون كذباً وزُورَاً وجَهْلَاً وسَفَهَاً أنه أمَرَهم وآباءهم بهذه الفواحش وطلبها منهم وأوْصاهم بها ورضي عنهم في فِعْلها ولو كان يكرهها منهم لمنعهم منها!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿148﴾ من سورة الأنعام "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا.."﴾ تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.. ".. قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ الله تعالي لا يمكن أبداً ولا يَلِيق بكماله وحِكمته أن يأمر الناس بفِعْل الفحشاء التي تضرّهم وتتعسهم وهو الذي خَلَقهم لينتفعوا بحياتهم ويسعدوا بخيراته فيها؟!.. فالخالق الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ يَستحيل أن يصدر عنه إلا كل ما هو كامل حَسَن مُسْعِد.. إنَّ كلامكم هذا كذب صريح لا يقبله أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنه لا خلاف بين العقلاء في أنَّ ما تفعلونه هو سوء بدليل أنَّ بعضكم قد تَرَّفع وامتنع عن فِعْله، ثم هل يُعْقَل أن يأمر سبحانه بانتهاك حُرُماته حيث الفاحشة في ذاتها هي انتهاك لها؟! فأنتم إذَن بالتأكيد مُعانِدون تعلمون بفطرتكم وبعقولكم أين الخير ولا تَتّبعونه لتعطيلكم لعقولكم لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لأنه لا دليل لكم على أنَّ الله قد أمركم بما تَدَّعونه كذباً وزُورَاً.. ".. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿28﴾" أيْ هل تقولون على الله الكذب جَهْلاً وجَرَاءَة عليه؟! إنه ليس هناك أيّ أمرٍ من الله لكم بفِعْل الفحشاء قطعاً وإلا فأظهروه ليَظْهَرَ صِدْقكم! فأنتم إذَن بالقطع كاذبون.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴿29﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أوْجَب ربي –أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – وأكّد وأوْصَيَ بشدّة فلا تُخَالِفوا حتي لا تُعَاقَبوا وتتعسوا في الداريْن بل تسعدوا فيهما، أمر بالقسط أيْ بالعدل أيْ بكل أخلاق الإسلام في كل الأقوال والأفعال بكل شئون الحياة والتي تُصْلِح وتُكْمِل وتُسْعِد تمام السعادة في الداريْن كل مَن يعمل بها كلها.. إنه بالعدل، بالإسلام، تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع حتماً في دنياهم وأخراهم، بينما بالظلم، بأخلاقٍ تُخَالِف الإسلام، يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون قطعاً فيهما.. ".. وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.." أيْ وأمَرَكم أن تجعلوا وجوهكم – والوجه هو الذي يحمل العقل وكل الإداركات والأحاسيس والمشاعر والمقصود اجعلوا كل كِيانكم – دائما قائمة واقِفَة مستقيمة علي دين الله، أي كونوا جميعا دوْما مُقيمين مُستقِرِّين مُستمِرِّين مُهتمّين تمام الاهتمام ثابتين دون أيّ انحرافٍ يميناً أو يساراً مُسَدِّدِين علي الجهة التي وَجَّهكم نحوها ربكم واختارها لكم وأرشدكم إليها، وهي جِهَة الدين، دين الإسلام، حتي تسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. وكذلك يكون حالكم عند كل مسجدٍ أيْ كل مكان سجود وكل وقت سجود أيْ كل صلاة حيث تَتّجِهون فيها وفيه نحو ما وَجَّهَكم إليه ربكم وهو الصِّلَة معه وحده بلا أيِّ شريكٍ كصَنَمٍ أو حَجَرٍ أو غيره، إضافة إلي اتّجاهكم لقبلتكم وهي الكعبة المُشَرَّفَة وإلي أن تُوَاظِبوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وتُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ تُحسنوها وتُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. هذا، والسجود يعني بصورةٍ عامَّةٍ – إضافة إلي سجود الصلاة علي الجبهة – الخضوع للخالق الرازق ولتوجيهاته وإرشاداته في الإسلام والاستجابة والاستسلام لها بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراحٍ وسرور، وبالجملة فإنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو تذكير بإقامة الوجه أيْ الاستمرار بلا أيِّ انحرافٍ أو تَرَاجُعٍ عند هذا الحال، عند هذا السجود بمعناه الشامل.. ".. وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.." أيْ وأمَرَكم أيها الناس أن ادعوه أيْ اعبدوه أيْ أطيعوه وحده واسألوه واعتمدوا عليه واشكروه وحده بلا أيّ شريك، فهو الإله المعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وأن تكونوا مُخلصين مُحسنين له الدين أيْ الطاعة أيْ عند تمسّككم وعملكم بكل أخلاق دينكم الإسلام أيْ تقولوا كلّ أقوالكم وتعملوا كل أعمالكم من أجل الله وحده لا من أجل غيره، أي طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراكم الناس فيقولوا عنكم كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لكم حيث يُوقِعكم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحكم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾.. وأنْ تكونوا حُنَفاء أيْ مائلين عن أيِّ باطل مُتَّجِهِين دوْماً إلي كلّ حقّ.. إنه تعالي ما يأمركم إلا بكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴿29﴾" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بيوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح لهم من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة بسعاداتها الخالدة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار بعذاباتها التي لا تُوصَف لمَن يفعل شرَّاً، فيُحسنون بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. أيْ كما أنه هو وحده لا غيره الذي بَدَأ خَلْقكم مِن عَدَمٍ أولا في الدنيا تعودون إليه بإعادة خَلْقكم بأجسادكم وأرواحكم مرّة ثانية في الآخرة لحسابكم، فادعوه وحده بالتالي إذَن مُخْلِصين له الدين.. إنَّ مِمَّا يَسْتَغْرِبه ويَتَعَجَّب منه أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنه كيف يُكَذّب مَن يُكذب بوجود الله تعالي، وبصلاحية شرعه الذي أرسله للبَشَر وهو الإسلام لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم، وبالآخرة وببَعْث الأجساد والأرواح للحساب يوم القيامة؟! ألم ينظر هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون حولهم ويتدبَّروا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويعلموا ويتأكّدوا وجوده سبحانه وعِلْمه بكلّ شيء حين يتدبّروا كيف يبدأ خَلْقا ما في كل لحظة سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم نباتا أم غيره ممَّا لا يعلمه إلا هو تعالي؟! ثم إنَّ أيّ أحدٍ لم يستطع ولم يَجْرُؤ أنْ يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَق هذا الخَلْق المُعْجِز!! إذَن فهو وحده الخالق!! ثم كيف يُنكرون البعث وإعادة الخَلْق يوم القيامة؟! أليست الخِلْقة مرة ثانية أيسر من الأولي حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا لأنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
ومعني "فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿30﴾" أيْ حين تعودون لربكم يوم القيامة ستكونون فريقيْن، فريقاً قد أرْشَدَهم وأوْصَلَهم الله لطريق الهداية له أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وسَهَّلَ لهم أسباب هذه الهداية لَمَّا اختاروها هم بعقولهم حيث قد شاؤوا أيْ أرادوا هم الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، فشاء الله لهم ذلك وأذن، بأنْ وَفّقهم ويَسِّر لهم أسبابه، فهم قد اختاروا هذا الطريق أولا، بأن أحْسَنوا استخدام عقولهم، واستجابوا لنداء الفطرة بداخلهم والتي هي مسلمة أصلا، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه لهم ومَكَّنهم منه بعد ذلك (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وفريقا حقّ أيْ ثبت ووجب عليهم الضلالة لأنهم اتخذوا أسبابها أيْ لا يُوَفّقهم الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر لهم الأسباب لذلك لأنهم قد شاؤوا الضلالة ولم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام، فذلك هو سبب عدم التوفيق حيث أنهم هم الذين اختاروا البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلم يَشَأ الله لهم الهداية وتَرَكَهم فيما هم فيه من شرور ومَفاسد وأضرار بسبب إصرارهم التامّ عليها دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد : 11﴾، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.." أيْ والسبب في أنهم كانوا من الفريق الذي حقّ عليه الضلالة أنهم جعلوا الشياطين أولياء لأمرهم يَتَوَلّون أمورهم يُديرونها لهم ويُوَجِّهونهم إليها ويَتّبعونهم فيها، من دون الله أيْ غير الله أيْ لا يَتّخِذون الله وَلِيَّاً ولا يَتّبعونه ولا يُطيعونه باتّباع كل أخلاق شرعه الإسلام، وذلك بكامل حرية إرادة عقولهم.. والشياطين جَمْع شيطان والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، ويشمل كلّ شِرِّيرٍ من الناس الذي قوله وفِعْله سَيِّئَاً كالشيطان.. ".. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿30﴾" أيْ وهم يَفعلون ذلك يَظنّون ويَتَوَهَّمُون مُنْخَدِعِين بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره أنهم مُهتدون أيْ سائرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ!!.. أنهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! لقد نَسوا شيئاً اسمه الخير، نَسوا أيّ خيرٍ مهما كان صغيراً أو نادرا!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! بل أحيانا من شدّة سَكْرتهم ونسيانهم وتِيهِهم وخَبَلِهم يَفعلون الشرّ والقُبْح ويَتَوَهَّمون أنه الهُدَي والخير والحُسْن!! وذلك أشدّ درجات الضلال
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿31﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما مُتَزَيِّنَاً جميلا، بتَوَسُّطٍ واعتدال.. وإذا لم تكن مُسْرِفَاً بل كنتَ مُتَوَازِنَاً مُعْتَدِلَاً في كل شئون حياتك.
هذا، ومعني "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿31﴾" أيْ يا بني آدم، يا أيها الناس، كونوا دائما مُتَزَيِّنِين جَمِيلين، بتَوَسُّطٍ وباعتدالٍ بلا إفراطٍ وزيادةٍ ولا تَفْريطٍ وتقصير، بكل أنواع الزينة المُعْتَدِلَة من ثيابٍ تستر العورة وتبهج النفس وعطورٍ ونحوها، وهذه هي الزينة المادِّيَّة، وتَزَيَّنُوا كذلك بالزينة المَعْنوِيَّة وهي التقوي والتي هي أكثر خيراً (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿26﴾ من هذه السورة سورة الأعراف ".. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ.."، للشرح والتفصيل).. ".. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.." أيْ عند كلّ مكانِ ووقتِ سجودٍ، أيْ حين كل صلاة، خاصة عند كل تَجَمُّعٍ ووقته، في المساجد والأعياد والاحتفالات والاجتماعات ونحوها، وبالجملة بكلّ وقتٍ وحالٍ سواء في الصلاة أو خارجها في كل قولٍ وعملٍ لأنَّ السجود يعني بصورةٍ عامَّةٍ – إضافة إلي سجود الصلاة علي الجبهة – الخضوع للخالق الرازق ولتوجيهاته وإرشاداته في الإسلام والاستجابة والاستسلام لها بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراحٍ وسرور، ولكل مَن يفعل هذا التّزَيُّن أجره العظيم حتماً بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه لإدخاله السعادة وكل ما هو طيّب علي النفس والغير لأنَّ الله جميلٌ يحب الجمال كما وَصَّيَ بذلك الرسول الكريم ﷺ .. ".. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا.." أيْ وكلوا واشربوا وانتفعوا وتَمتّعوا من كل ما أعطاكم الله من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ والتي خَلَقها في أرضه مِمَّا أحَلّه أيْ سَمَحَ به لكم ولم يُحَرِّمه أيْ يَمْنَعَه لضَرَره وتعاسته عليكم ولم تحصلوا عليه بمُعامَلَةٍ مُحَرَّمَة، ومِمَّا كان طيّباً أيْ نافعاً لا ضارَّاً تَستطيبه وتَستسيغه النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، ولا تأكلوا ولا تشربوا ولا تفعلوا أبداً مَا حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. واشكروه علي كل خيره هذا الذي لا يُحْصَيَ ليُبْقِيه لكم ويزيدكم منه.. ".. وَلَا تُسْرِفُوا.." أيْ ولا تُجَاوِزوا الحَدَّ المَعْقُول المُعْتَاد المُتَعَارَف عليه عند أصحاب العقول الصحيحة في كل شئون حياتكم، سواء أكان في الأكل أم الشرب أم اللبس أم الزينة أم العمل أم العلم أم غيره من أيِّ شيء، لأنَّ الإسراف مُضِرٌّ مُتْعِسٌ حتماً للصحة والمال والفكر والعلاقات الإنسانية ونحو ذلك.. هذا، ومن الإسراف أيضا الإنفاق في غير مَوْضِعه وفي غير مَنْفَعَةٍ وفيما لا يُحْتَاج إليه، مع مراعاة أنَّ الأمر تقديريّ يَختلف مِن مَوْقِفٍ لآخرٍ ومِن شخصٍ لغيره.. هذا، وأشدّ أنواع الإسراف وأكثره ضَرَرَاً وتعاسة في الداريْن هو تَجَاوُز حدّ الحلال إلي الحرام.. ".. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿31﴾" أيْ لأنَّ الله حتماً لا يُحِبّ مُطلقاً المُسْرِفين، ومَن لا يُحِبّه ويَكرهه فإنه بكل تأكيدٍ لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب إسرافه المُضِرّ المُتْعِس.. فاجتنبوا الإسراف أيها المسلمون تسعدوا في الداريْن
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿32﴾" أيْ هذا إرْشادٌ لحُسْن طَلَب الدنيا والآخرة معاً ولعدم التضييق علي النفس والغير ما وَسَّعه الله تعالي وسَمَح للانتفاع والسعادة به ما دام بلا إسرافٍ ولا ذهابٍ للحرام أي الممنوع لضَرَره ولتعاسته.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَنْ هذا الذي حرَّم أيْ مَنَعَ زينة الله من الثياب وكل ما يُتَجَمَّل ويُتَزَيَّن به التي أخرج للناس من الأرض وخَلَقه لهم فيها ومنها وعليها لينتفعوا وليسعدوا به كالنباتات بأليافها والحيوانات بجلودها وأصوافها والمعادن بأنواعها ومنافعها ونحو ذلك؟!.. ومن هذا الذي قد حَرَّم عليهم الطيّبات من الرزق من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب وغيرها من أرزاقه الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقهم إيَّاها مِمَّا لا يُحْصَيَ؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم هذه الزينة والطيّبات من الرزق نعمة من الله ما كان يجب أن يتمتّع بها إلا الذين آمنوا في الحياة الدنيا تكريماً لهم لأنهم هم الذين يُؤَدّون حقّها بالشكر بالقول وبالعمل بإحسانهم استخدامها في كل خيرٍ مُسْعِدٍ لهم ولغيرهم بلا شرٍّ مُتْعِسٍ كما طَلَبَ ربهم ولكنْ رحمته سبحانه الواسعة شملت كذلك الكافرين والمُخَالِفين للإسلام فأعطاهم منها لأنهم خَلْقه وهو ربهم أيضا خالقهم وكافِلهم ومُرَبِّيهم لكن هذه النِّعَم ستكون خالصة يوم القيامة للمؤمنين وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم الذين سيكونون في النار يُعاقَبُون فيها علي قَدْر سُوئِهم، كما أنها ستكون خالصة تماماً من أيِّ جهودٍ تُخَالِطها كما كان يَحْدُث في الدنيا فهي صافِيَة خالدة مستقرّة بلا أيِّ مَشَقّةٍ مُتَزَايِدَة مُتَنَوِّعَة لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. ".. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿32﴾" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، وكما فَصَّلنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿33﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من الذين يلتزمون أشدّ الالتزام بما شَرَعَه الله تعالي في الإسلام وبما حَرَّمَه فيه، لأنه لا يُحَلّل شيئاً ولا يُحَرِّمه إلا ليُحَقّق للبَشَر ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو يَسمح بالنافِع المُسْعِد ويَمنع الضارّ المُتْعِس فيهما.. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتَسْتَطيبه النفس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿33﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَا حَرَّمَ أيْ مَنَعَ ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – إلا فقط ما يَضرّكم ويتعسكم في دنياكم ثم أخراكم، إلا الفواحش جَمْع فاحِشَة وهي الشرّ العظيم الضرَر علي الذات والغير الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره، ما ظهر منها وما بطن أي سواء أكانت في الظاهر أم في الباطن، أيْ في العَلَن أو في السِّرّ، وسواء أكانت ظاهرة بالبَدَن أم بداخل العقل كنوايا الرياء أيْ أنْ تُرُوا الآخرين ما تَطْلبون به عندهم سُمْعَة أو جاهاً أو مدحاً أو غيره ولا تطلبون بعملكم خيراً وثواب ربكم في الآخرة، وكالشعور الداخلي بالإعجاب بالذات والتّعالِي والتّكَبُّر علي الغير وإيذائه حيث التّوَهُّم أنْ لا أحد مثلكم، وكالتخطيط للشرّ قبل تحويله إلي أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئةٍ شَرِّيَّةٍ علي أرض الواقع، وما شابه هذا من آثامٍ واضحةٍ وخَفِيَّةٍ أيْ ذنوب أيْ مَعاصِي أيْ مُخالَفات لما وَصَّيَ به الله تعالي في الإسلام أي شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات، فالمقصود إذَن تَرْك كل الفواحش كبيرها وصغيرها لأنها لا تخرج عن كوْنها ظاهرة أو باطنة!.. ".. وَالْإِثْمَ.." أيْ وحَرَّم كذلك الشّرَّ كله عموماً أيَّاً كان نوعه وحجمه ومقداره وأثره.. ".. وَالْبَغْيَ.." أيْ وحَرَّمَ أيضا البغي وهو كلُّ عدوانٍ علي الخَلْق في دمائهم وأعراضهم وأموالهم وظلمهم وإيذائهم والتّكَبُّر عليهم وما شابه ذلك.. ".. بِغَيْرِ الْحَقِّ.." أيْ بغير العدل، لأنه أحيانا يكون الاعتداء علي الغير بالعدل أيْ تنفيذاً لحُكْمِ قضاءٍ عادلٍ مثلاً أو بقتل مُحاربين مُعْتَدِين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير أو بأخذ حقّ من ظالمٍ لإعطائه للمظلوم الذي تمّ ظلمه وما شابه هذا مِمَّا شَرَعَه الإسلام حفظاً للحقوق وتأميناً للناس وإسعاداً لهم.. هذا، والبغي هو نوعٌ من الإثم والفواحش، وكذلك الشرك بالله والقول عليه بغير علمٍ واللذين سيأتي ذِكْرهما، ولكنْ خُصِّصَوا بالذكْر للتنبيه والتأكيد علي شدّة سُوئهم وعقابهم في الداريْن.. ".. وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ.." أيْ وكذلك حَرَّمَ أن تشركوا بالله آلهة غيره تَعبدونها أيْ تُطيعونها كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره ليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القُدْرة والعلم والرزق ونحو ذلك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.." أيْ ما لم يُنَزّل الله بإشراكه دليلا، أيْ تجعلونها وتتّخذونها آلهة من عند أنفسكم دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمر هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليكم، ولا يوجد عندكم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي تقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿33﴾" أيْ وحَرَّمَ أن تقولوا علي الله شيئاً بغير علمٍ أو دليلٍ أو تَثَبُّت، ولا تقولوا أصلاً حتماً ما كان كذباً أو افتراءً أو سَفَهَاً أو تَعَالِيَاً أو عناداً أو مُرَاوَغَة أو ما شابه ذلك، سواء أكان هذا القول في شَرْعِهِ أو صفاته أو أقواله أو أفعاله سبحانه، لِمَا في ذلك من تعاستكم وهلاككم في الداريْن
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴿34﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴿34﴾" أيْ ولكل مجموعةٍ من الناس وقتٌ محدودٌ في هذه الحياة الدنيا، ثم تنتهي ويَخْلفها من بعدها أمة أخري ثم أخري، ولكل جيلٍ أجله كذلك ثم يَخْلفه غيره، ولكل فردٍ في هذه الأمة وهذا الجيل أجله أيضا ثم يأتي مَن بَعْده، وهكذا، وسيأتيهم جميعا الموت حتماً في موعده المُحَدَّد لكلٍّ منهم، فحينما يأتي هذا الموعد، موعد الموت وبداية حساب القبر أو موعد يوم القيامة والحساب الختاميّ، أو حتي قبله موعدُ نزولِ عذابٍ ما بمَن يستحِقّه أو نزول خيرٍ ما بكلّ مَن يفعل خيرا – كإضافةٍ إلي خيره سبحانه الدائم المستمرّ لكلّ خَلْقه – أو حُدُوث حَدَثٍ مَا، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أيْ لا يمكن لأحدٍ تأخيره ولو للحظة بطَلَبِ مزيدٍ من الوقت والإمهال أيْ الترْك للإصلاح فقد فات الأوَان، ولا يمكن أيضا استقدامه واستعجاله وإحداثه قبل وقته، لأنه بحكمته تعالي قد قَدَّر هذا الموعد لمصلحةٍ مَا مِن مصالح البَشَر والخَلْق سواء عَلِموها أم لم يَعلموها، حيث أحيانا قد يستعجل الظالمون العذاب استهزاءً به وتكذيباً له وكأنه سبحانه عاجز عن القيام به! وأحيانا قد يستعجل أهل الخير موتهم اشتياقاً لِجَنّة ربهم.. وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بأنْ يُسارِع المسلم لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وأن يَحذر تماما تأجيل ذلك، لأنَّ أحداً لا يعلم موعد موته، وكل ما هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد
يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿35﴾ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿36﴾ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿37﴾ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿38﴾ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿39﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴿40﴾ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴿41﴾ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿42﴾ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿43﴾ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿44﴾ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ﴿45﴾ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴿46﴾ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿47﴾ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿48﴾ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿49﴾ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿50﴾ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿51﴾ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿53﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿35﴾" أيْ يا أبناء آدم، يا أيها الناس، إذا جاءكم رُسُلٌ منكم أيْ مِن جِنْسِكم أيْ مَبْعُوثون بَشَرٌ مثلكم مِنّي إليكم تَعرفون صِدْقهم وحُسن أخلاقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ يَقرأون عليكم ويَذْكُرون ويَرْوُوُن لكم ويُخْبِرُونكم آياتي أيْ دلالاتي ومُعجزاتي والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حولكم لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيري تدلّ علي وجودي وكمال قُدْرتي وعِلْمي واستحقاقي وحدي للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليكم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أو مُعجزات علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم.. ".. فَمَنِ اتَّقَى.." أيْ فأطيعوهم وآمِنوا أيْ صَدِّقوا بهم فإنَّ مَن اتّقَيَ أيْ خافَ الله ورَاقَبَه وأطاعه وجَعَلَ بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، وكان دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَأَصْلَحَ.." أيْ وعمل الصالحات من الأعمال وإذا عمل شَرَّاً مَا تابَ وقامَ بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿35﴾" أيْ فقطعاً مِثْل هؤلاء بالتالي حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيِّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يُوعَدون بها من ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿36﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله ﷺ أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا .." أيْ واسْتَعْلُوا عن اتّباعها والإيمان أيْ التصديق بها واتّباع أخلاق الإسلام التي فيها والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم واستهزأَوا بها فلم يَستجيبوا لها فكانوا بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿36﴾" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿37﴾" أيْ فلا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله الكذب أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. ".. أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.." أيْ أو كذّب ولم يُصَدِّق بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حوله أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً يَصِل لهم مقدارهم من الكتاب المَكتوب الذي كَتَبه الله لهم أيْ حَكَمَ به عليهم والمُتَمَثّل في عذابٍ مناسبٍ يستحقّونه بسبب سُوئهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم والذي هو النصيب من الكتاب أيْ المِقْدار المُحَذّر منه في الكتاب الذي أنزله علي كل رسولٍ وآخرها القرآن الكريم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. كذلك من المعاني أنهم أيضا يَصِل لهم مقدارهم مِمَّا كتبه الله لهم من أرزاقٍ علي قَدْر أسبابهم وتَصرّفاتهم ومن آجالهم في حياتهم الدنيا لأنهم مِن خَلْقه وهو سبحانه ربهم الكريم الرحيم وعليه رزقهم لكنّهم إنْ تمتّعوا بدنياهم فليس ذلك بمُغْنٍ عنهم شيئا حيث سيَتمتّعون قليلا وستكون سعادتهم فيها وقتية لا دائمة سطحية لا مُتَعَمِّقَة وَهْمِيَّة لا حقيقية مَخلوطة بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا ثم يُعذّبون طويلا في الآخرة، وذلك حين تأتيهم آجالهم كما يقول تعالي ".. حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.." أيْ واسْتَمَرُّوا علي تكذيبهم هذا وما هم فيه من سوءٍ إلي أن وَصَلتهم ملائكتنا تَتَوَفّاهم بقَبْض أرواحهم لإنهاء آجالهم فجأة وهم غير مُستعِدِّين لذلك ولدخول القبر ولبَدْءِ الحساب المَبْدَئِيّ قبل النهائيّ الأخرويّ تقول لهم حينها علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي كانوا عليه سؤالا مُفْزِعَاً صادِمَاً كنوعٍ من التعذيب النفسيّ قبل الجسديّ في النار التي لا تُوصَف أين ما كنتم تَدْعُون أيْ تَعبدون أيْ تُطيعون من آلهةٍ غير الله تعالي؟! هل يمكنها أن تمنع عنكم شيئا من العذاب الأليم الذي أنتم فيه؟! إنكم لو كنتم في دنياكم تعبدون بَشَراً مثلكم فهم معكم الآن في عذابكم ولو عبدتم أصناماً وأحجاراً ونحوها فهي كذلك حولكم قد أصبحت وقودا للنار!.. ".. قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا.." أيْ يَرُدُّون بكلّ بؤسٍ وحَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ قائلين لقد ضاعوا وذهبوا وغابوا عنّا ولم نَعُد نَرْجوا منهم أيَّ نَفْعٍ ولن ينقذونا بأيِّ شيءٍ من عذابنا.. ".. وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿37﴾" أيْ واعترفوا علي أنفسهم أنهم كانوا في دنياهم كافرين أيْ مُكَذّبين بوجوده سبحانه وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره مُعانِدين مُستكبرين مُسْتَهْزِئين فاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار ولكلِّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وِجْهَةَ نظرهم.. وبهذا الاعتراف علي أنفسهم لم يَعُد لهم أيّ عُذْرٍ وثبتت الجريمة عليهم إذ الاعتراف سَيِّد الأدِلّة واستحقّوا بالتالي عليها العذاب الأليم الذي لا يُوصف بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿38﴾" أيْ يقول الله تعالي أو مَلَكٌ من الملائكة يوم القيامة للمُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والظالمين والفاسدين ومَن تَشَبَّه بهم، ادخلوا في جملة أممٍ أيْ مجموعاتٍ عاصيةٍ مِثْلكم قد مَضَت وذَهَبَت وانتهت من قبلكم سابقة لكم من الجنِّ والإنس في النار، فأنتم مُسْتَحِقّون جميعكم العذاب كلٌّ بما يُناسب عِصيانه بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. هذا، ولفظ "الجِنَّ" في لغة العرب يعني كلّ ما جَنَّ من المخلوقات أيْ خَفِيَ عن الأنظار والمقصود المخلوقات التي سيَجعلها الله تعالي وقوداً للنار ولا يَراها المُعَذّبون فيها، فالبَشَر العاصون والمخلوقات غير المَرْئِيَّة التي ستكون وقوداً للنيران، سيكونان جميعهما في النار (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أنه عند أكثر العلماء ليس للجنّ رُسُل وليس منها رسل في الآية ﴿130﴾ من سورة الأنعام "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا.." أيْ كلما دخلت النارَ مجموعة عاصِيَة لَعَنَتْ وسَبَّتْ مَثِيلتها التي ضلَّتْ بالاقتداء بها والعمل مثلها، وهي التي دَخَلَت معها أو التي سبقتها، بما يدلّ علي شدّة التّنَافر بينهم وفظاعة العذاب والحَسْرة والندم في وقتٍ لن ينفع فيه أيّ ندمٍ بأيِّ شيءٍ حيث الوقت هو وقت الحساب والعقاب لا وقت العمل والتصويب.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم.. ".. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ.." أيْ اسْتَمَرُّوا علي هذا الحال إلي أن تَدَارَكوا وتَلاحَقوا وتَتابَعوا وأدْرَك ولَحقَ بعضهم بعضاً واجتمعوا في النار جميعا حينها تقول الأمة التي هي آخرهم دخولاً أو أقلّهم مَنْزِلَة وهم الأتْباع لأولاهم أي أوَّلهم دخولاً أو أعلاهم منزلة وهم المَتْبُوعون القادة في العصيان والفساد لأنهم أشدّ جُرْمَاً من أتْباعهم فدخلوا قبلهم أوَّلاً لأنهم هم الذين أضلّوهم فيقولون شَاكِين إلي الله إضلالهم إيَّاهم – في وقتٍ لا تنفع فيه الشكوي لأنهم اتّبعوهم في عصيانهم بكامل حرية إرادة عقولهم – يا ربنا هؤلاء هم الذين أضلّونا أيْ كانوا السبب في ضلالنا أيْ ضياعنا أيْ فسادنا وإبعادنا عنك وعن إسلامنا حيث سَهَّلوا لنا الشرّ وسَبَقونا إليه فاقتدينا بهم ففعلنا الشرور والمَفاسد والأضرار التي أتعستنا في دنيانا وأخرانا، وبما أنهم السبب فيما نحن فيه فآتِهم أيْ فأعْطِهم بالتالي عذاباً ضعفاً من النار أيْ عذابا مُضَاعَفَاً منها مُناسبا لهم بسبب ضلالهم في أنفسهم وإضلالهم لغيرهم، وهذا نوعٌ من رغبة الانتقام منهم، ولكلٍّ عذابه قطعا علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿38﴾" أيْ يُرَدُّ عليهم أننا قد فَعَلْنا ذلك وجازَيْنا كلاًّ بحسب سُوئه فلكلٍّ منكم عذاب مُضَاعَف لا ينجو منه أحد من الفريقين حيث يُضاعَف عقاب التابعين لاقتدائهم بغيرهم دون تَدَبُّرٍ وتَفَكُّرٍ ويُضاعَف عقاب المَتْبُوعين لضلالهم ولإضلالهم من حولهم، ولكن لا تعلمون مِقْدار وشَكْل ما جُهِّزَ لكلٍّ منكم من العذاب لأنه مُقَدَّر بكل عدلٍ علي حسب سوءِ كلّ أحد، فأنتم لا تعلمون مقدار الضعف لكل فريق منكم، فضعفكم غير ضعفهم، بالعدل، علي حسب سوء كلٍّ منكم، إذ الدار دار عذاب فهو يَتَضَاعَف ويَتَزَايَد ويَتَنَوَّع على كلِّ مَن فيها لأنه يَستحِقّ ذلك، ثم إنَّ كلاّ منكم ضَالٌّ ومُضِلّ، فأنتم أيضا أضللتم غيركم وكنتم قُدْوَة في الضلال لهم وكثّرْتم عدد الفاسدين وشجَّعْتم علي الفساد ولكن لَا تعلمون سريان هذا الشرّ مِن جيلٍ لآخرٍ بسببكم فكلٌّ يُضِلّ مَن بَعْده بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور مباشرة أو غير مباشرة، ولا تعلمون كذلك أنَّ مَن يُحاسبكم دقيق في حسابه لا يفوته شيء ويعطي كل إنسان حقه تماما.. إنكم لا تعلمون أنَّ مُضَاعَفة العذاب هي عليكم أنتم أيضا!
ومعني "وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿39﴾" أيْ وحينها تقول الأمّة التي هي أوَّلهم دخولاً أو أعلاهم مَنْزِلَة وهم المَتْبُوعون القادة في العصيان والفساد لأنهم أشدّ جُرْمَاً من أتْباعهم فدخلوا قبلهم أوَّلاً لأنهم هم الذين أضلّوهم للأمّة التي هي آخرهم دخولاً أو أقلّهم مَنْزِلة وهم الأتْباع، أيْ قال المَتْبُوعون للأتْباع لهم فإذا كنتم قد ضللتم مثلنا فليس لكم علينا أيّ فضلٍ وتَمَيُّزٍ لكي تطلبوا من الله تخفيف العذاب عليكم وزيادته علينا فأنتم ضَلَلْتم كما ضَلَلنا والعذاب للضلال وقد تساوَيْنَا في ذلك بفِعْل أسبابه وإذا كنّا قد أضللناكم واتّبعتمونا في ضلالنا فأنتم قد أضللتم غيركم واتّبعوكم في ضلالكم كما اتّبعتمونا فكلنا مُتساوون إذَن في استحقاق العذاب لأننا لم نُجْبِركم على العصيان ولكنكم أنتم الذين عصيتم باختياركم بكامل حرية إرادة عقولكم.. ".. فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿39﴾" أيْ فاستشعروا إذَن ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل ما كنتم تعملون وتقولون في دنياكم من شرور ومَفاسد وأضرار واسْتَمَرّيتم وأصْرَرْتُم عليها حتي موتكم.. وهذا الجزء من الآية الكريمة هو إمّا قول الله تعالي لهم جميعاً أو استكمالاً لقول أوُلاهم لأخْراهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴿40﴾" أيْ إنَّ الذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله ﷺ أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا .." أيْ واسْتَعْلُوا عن اتّباعها والإيمان أيْ التصديق بها واتّباع أخلاق الإسلام التي فيها والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم واستهزأَوا بها فلم يَستجيبوا لها فكانوا بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.." أيْ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لا يُمكن أبداً ويَستحيل أن تُفتح لهم أبواب الرحمة والمغفرة والبركة من الله تعالي في الدنيا والآخرة، فهم لا يُقْبَل لهم أيُّ دعاءٍ فيُستجاب له إنْ كانوا يَدْعُون ولا أيّ عمل خيرٍ فيُجازون عليه بنزول الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم لو كانوا يفعلونه! ولا يُرْحَمون قطعاً من تعاسات الدنيا التي هم فيها بسبب سُوئهم والذي هو نتيجة طبيعية مُتَوَقّعة لبُعْدهم عن ربهم وإسلامهم، وحتماً لا يدخلون الجنة مطلقاً يوم القيامة وهم كذلك يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار دون توبة، بل يدخلون النار، وتستمرّ هذه الاستحالة إلي أنْ يَلِجَ أيْ يَدخل الجمل في ثُقْب الإبرة!! وهو أمرٌ لن يحدث أبداً قطعا!! بما يدلّ علي أنه ليس لهم أيّ أملٍ في أيِّ سعادة حقيقية دنيوية وأخروية.. فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ إذَن حتي لا يكون مصيره مثلهم.. ".. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴿40﴾" أيْ وهكذا دائماً وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا الدنيويّ قبل الأخرويّ للمجرمين بما يُناسب جرائمهم.. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. إننا نُعاقِب كلّ مجرم لم يَتُب بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴿41﴾" أيْ لأمثال هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها ومَن يَتَشَبَّه بهم مِهادٌ من نارِ جهنم أيْ فِراش ومُستقرّ يَفترشونه ويَستقرّون فيه.. هذا، ولفظ "مِهاد" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب! كما أنَّ لهم منها غواش جَمْع غَاشِيَة وهي ما يغْشي أيْ يُغَطّي أيْ لهم أغطية منها تُغَطّيهم من فوقهم، والمقصود أنَّ عذاب النار المُتَنَوِّع الذي لا يُوصَف مُحيط بهم من كل مكانٍ لا يمكنهم أبداً الخلاص منه فليس لهم أيّ مخْرج أو مَهْرَب أو مَلْجأ.. ".. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴿41﴾" أيْ وهكذا دائما وبمِثْل ذلك الجزاء الشديد يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا للظالمين بما يُناسب ظلمهم.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثالهم، حيث قد وُصِفُوا سابقا بالمُجرمين ثم بالظالمين للتأكيد علي شدّة سُوئهم وشدّة الغضب عليهم وعذابهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿42﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.." أيْ لا نُلْزِم أحداً بفِعْلٍ إلاّ بمَا في وُسْعِه، والوُسْع هو ما يستطيعه الإنسان بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يَبْقَيَ له من طاقته بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن يستهلك ما أمكنه مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ – ويكون لها أجورها العظيمة بما يُناسب المَشَقّة فيها – ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيراً مُخَالِفَاً لتَيْسِير الله الدائم في كل وصايا وتشريعات وأنظمة الإسلام والتي كلها في وُسْع كلّ نفسٍ وليست خارجة في أيٍّ منها عن هذا الوُسْع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿185﴾ من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.."﴾.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تنبيهٌ أنَّ الإيمان والعمل الصالح هو مِن وُسْع بني آدم وطاقتهم وغير خارج عن قُدْرتهم، وتذكيرٌ أنَّ الجنة مع عِظَم قَدْرها يُمكن التّوَصُّل إليها بكل سهولةٍ بأيِّ عملِ خيرٍ سَهْل في حدود الطاقة من غير مَشَقّةٍ ولا صعوبة، وهذا تشجيع كبير لهم علي اكتساب نعيمها الخالد الذي لا يُوصَف بما تَسعه طاقتهم ويَسهل عليهم.. ".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿42﴾" أيْ هؤلاء هم حتما المُسْتَحِقّون لأن يكونوا أصحاب الجنة أي مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿43﴾" أيْ واستكمالاً لنعيمهم ولإسعادهم ومن رحمتنا وكرمنا وفضلنا وإنعامنا وإحساننا قَلَعْنَا وأخْرَجْنا وأذْهَبْنا ما في عقولهم ومشاعِرهم من أيِّ غِلٍّ أيْ عَدَاءٍ وكُرْهٍ وانتقامٍ وغِشٍّ ونحوه مثلما كان يَحدث بين الناس في دنياهم فهُم في الجنة في تمام الصفاء والنقاء والتّآخِي والتَّحابّ في كلّ خيرٍ وأمنٍ واستقرارٍ وارتياحٍ وسرورٍ ونعيمٍ تامٍّ عظيمٍ خالدٍ لا يُوصَف.. "..تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ.." أي وهم فيها إضافة إلي ذلك النعيم النفسيّ الكامِل السابِق ذِكْره في نعيمٍ ماديٍّ كاملٍ مُسْعِدٍ تمام السعادة حيث حالهم وواقعهم أنهم في جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منهم كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. ".. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.." أيْ وعندما يدخلون الجنة ويَرَوْن نعيمها الهائل الذي لم يَروا مثله من قبل يقولون مَغْمُورين بالسعادة شاكرين لِمَا نالوا الحمد لله الذي أرْشَدَنا وأوْصَلَنا لهذا الإسلام والعمل بأخلاقه في دنيانا والذي هذا النعيم العظيم الخالد هو جزاؤه في أخرانا، وما كنا أبداً لِنُرْشَد ونَصِل لذلك بأنفسنا وباستطاعتنا لولا أنْ أرْشَدنا وأوْصَلنا الله ربنا خالقنا الرحيم الودود وذلك من خلال إرسال رسله الكرام إلينا وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ ومعهم كتبه التي فيها الإسلام الذي يُصلحنا ويُكْملنا ويُسعدنا تمام السعادة في الداريْن وآخرها القرآن العظيم ووَفّقنا وسَهَّل لنا أسباب اتّباعه والعمل بأخلاقه عندما اخترناه نحن أولا بكامل حرية إرادة عقولنا والتي أعطانا إيّاها لنهتدي بها حيث من خلالها نَتَدَبَّر في آياته في كتبه وآياته المُعْجِزَة في كوْنه ومخلوقاته كلها وأنفسنا ذاتها والتي أعطانا بداخلها فطرة هي أصلا مسلمة مُبَرْمَجَة منه تعالي علي الإسلام والحقّ والعدل والخير وعلي معرفته سبحانه وعبادته أيْ طاعته وحده بلا أيِّ شريكٍ وعلي النفور والابتعاد عن غير ذلك ومقاومته والبُعْد عن كل شَرٍّ وكراهيته لأنه مصدر كل تعاسةٍ في الداريْن (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ.." أيْ وحينها أيضا يقولون من فَيْضِ سرورهم وشكرهم لربهم لإرساله رسله لهدايتهم مُتَلَذّذِين بهذه الذكري الطيّبة شاهِدين مادِحين لهم علي صِدْق وحُسْن ما قَدّموه لهم لقد جاءتنا رسل ربنا بالصدق فاهتدينا بإرشادهم ولم يَكْذِبوا علينا في أيِّ شيءٍ أخبروه لنا إذ قد ظَهَرَ صِدْقهم ووجدنا ما صَدَّقناهم فيه في دنيانا حقّاً وصِدْقَاً ووَاقِعَاً في أخرانا حيث نعيم لا يُوصَف للمُحسنين وعذاب شديد للمُسيئين.. ".. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿43﴾" أيْ ونادَيَ عليهم الله تعالي استكمالاً لتمام التكريم والتشريف والتهنئة وزيادة في إسعادهم قائلا أنَّ تلك الجنة التي تَرونها والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر هي التي سَمعتم بها ووُعدتم بدخولها في دنياكم وهي التي قد أُعْطِيتم ومُلِّكْتُم إيَّاها الآن كما يَمتلك الوارِث ميراثه ويكون حقّه كاملا، وهي ملك خالد لكم، من عظيم فضلي ورحمتي عليكم، بسبب الذي كنتم تعملونه من خيرٍ وَصَّيتكم به في الإسلام أثناء حياتكم الدنيا
ومعني "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿44﴾" أيْ ونادَىَ أهل الجنة بعد دخولهم واستقرارهم فيها في درجاتهم علي حسب أعمالهم علي أهل النار قائلين لهم وهم في قِمَّة سعادتهم فَرِحين بحالهم إنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من خلال كتبه صِدْقَاً من إثابة أهل الخير بكل خيرٍ وسعادةٍ فهل وجدتم أنتم أيضا وتأكّدتم وعَلِمْتُم الآن ما وعدكم ربكم صِدْقَاً من عقاب أهل الشرِّ بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب شرورهم التي عملوها في دنياهم؟.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد بإذنٍ من الله تعالي كنوعٍ من عذابٍ نفسيٍّ لهم مع عذابهم الجسديّ الذي يستحِقّونه في النار.. ".. قَالُوا نَعَمْ.." أيْ قال أهل النار نعم، بكلّ خِزْيٍ وذِلّةٍ وفضيحةٍ وإهانةٍ وانكسارٍ، فهم لا يملكون إلا الشهادة بالحقّ بقول نعم، بكل حَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ ويأسٍ حيث لا نفع لهذا الندم فقد فات الأوان وبدأ العذاب.. لقد يَئِسوا من أيِّ خيرٍ واعترفوا علي أنفسهم بأنهم مُسْتَحِقّون للعذاب ولم يُظْلَموا.. هذا، وتواصُل أهل الجنة مع أهل النار يتمّ بقُدْرته سبحانه القادر علي كل شيء.. ".. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿44﴾"، "الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ﴿45﴾" أيْ فحينها يُنادِى مُنَادٍ من الملائكة بين أهل الجنة وأهل النار قائلاً مُذَكِّرَاً بالحقيقة الثابتة أنَّ لعنة الله أيْ الطرد والإبْعاد من رحماته وإسعاداته في الآخرة هي حَتْمِيَّة مُتَحَقّقَة مُسْتَقِرَّة علي الظالمين بما يُفيد مزيداً من التّيْئِيس لهم والقَطْع لأملهم في النجاة من العذاب، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. "الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ﴿45﴾" أيْ هؤلاء الظالمون من بعض صفاتهم أنهم هم الذين في دنياهم يَمنعون الناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا.." أيْ وكذلك يُريدون لها اعْوِجَاجَاً، أي يُريدون جَعْل سبيل الله، أيْ شريعته، وهي الإسلام، مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة عن الحقّ والخير بمحاولاتٍ يائسةٍ بتحريفها وتكذيب ما فيها، حتي لا يتبعها أحد، ولن يحدث ذلك أبداً لأنه تعالي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ﴿الحجر:9﴾، وكذلك يُريدون للحياة الدنيا كلها الاعوجاج والانحراف والفساد، وأيضا لن يستطيعوا، حينما يتمسَّك ويعمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ﴿45﴾" أيْ وهم أيضا في دنياهم لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة وبلقاء الله فيها وبالبعث بعد الموت بالأجساد والأرواح وبحسابه سبحانه وثوابه وعقابه وجنته وناره بل وبعضهم يُكَذّب بوجوده هو ذاته!! تعالَيَ عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا، والذي لا يؤمن بها يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي الشرّ وفِعْله.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه
ومعني "وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴿46﴾" أيْ وبين أهل الجنة وأهل النار حاجِزٌ عظيم يفصل بينهما، وعلى الأعراف – جَمْع عُرْف وهو أعلي الشيء مثل عُرْف الديك – أيْ الأعالي من هذا الحاجز العالي الضخم العريض يوجد رجال يعرفون كلاًّ من أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم حينما ينظرون إليهم من علي هذا الحاجز، كبياض وجوه أهل الجنة بسبب نعيمهم وسعادتهم، وسواد وجوه أهل النار لعذابهم وتعاستهم، وهؤلاء الرجال هم الذين في دنياهم قد استوت تماماً حسناتهم وسيئاتهم يرجون وينتظرون رحمة الله تعالى بعد حسابهم وهم سيدخلون الجنة حتما برحمته سبحانه لكن من تمام العدل تأخيرهم لفترةٍ وأن يدخلوا أدني درجاتها حتي لا يتساووا مع مَن سيَدخلونها برحمته أيضا لكن درجاتهم ومنزلتهم فيها علي قَدْر أعمالهم وأقوالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا والتي زادَت عن سيئاتهم.. هذا، وعند بعض العلماء هؤلاء الرجال عبارة عن ملائكة هي التي تَتَحَدَّث تُرَيَ في صورة رجال.. ".. وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴿46﴾" أيْ ونادى رجال الأعراف أهل الجنة بالتّحِيَّة قائلين لهم سلام عليكم مُهَنّئِين مُرَحِّبين، ورجال الأعراف هؤلاء لم يدخلوا الجنة بَعْد وهم يَأْملون ويَحْرِصون حِرْصَاً شديداً ويَرْغَبُون رَغْبَة كبيرة في دخولها بالقطع
ومعني "وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿47﴾" أيْ وإذا حُوِّلَتْ وكلّما تَحَرَّكَت أبصار رجال الأعراف جِهَة أهل النار قالوا مُسْتَعِيذين بالله من سوء وفظاعة ما رأوا من أحوالهم مُتَوَسِّلِين إليه داعِين إيَّاه يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – لا تجعلنا في العذاب مع هؤلاء القوم الظالمين وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. هذا، ولفظ "صُرِفَت" يُفيد أنهم لا يَقْصِدون النظر إليهم مثلما قَصَدُوا مع أهل الجنة للطمع في نَيْل مِثْل نعيمهم بل ينظرون لهم بصورةٍ عارِضَةٍ استثنائيةٍ كنظرٍ شبيهٍ بفِعْل مَن يَدْفَعه على الفِعْل دافِعٌ ماَ، وذلك لأنّ النّفس وإنْ كانت تكره المناظِر السيّئة فإنّ حبّ الاستطلاع يَدْفعها إلي أن توجّه النّظر إليها أحيانا لتحصيل ما هو مجهول لها، لِيَعْتَبِروا وليشكروا ربهم كثيراً عند نجاتهم
ومعني "وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿48﴾" أيْ ونادى أهل الأعراف رجالا من أهل النار يعرفونهم بعلاماتٍ وملامح خاصّة تُمَيِّزهم من شِدَّة سوء حالهم وهم بصُوَرِهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا حيث كانوا أصحاب وَجَاهَةٍ وقوةٍ وغِنَىً فيها وكانوا سَيِّئين وقادة في الشَّرِّ فأصبحوا لذلك أشدّ عذابا بالنار فعرفوهم بهذا وبإخبار الله تعالي لهم، فيقولون لهم على سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد كنوعٍ من عذابٍ نفسيٍّ مع عذابهم الجسديّ الذي يستحِقّونه في النار ولإشعارهم بكلّ خِزْيٍ وذِلّةٍ وفضيحةٍ وإهانةٍ وانكسارٍ وحَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ ويأسٍ من أيِّ خيرٍ حيث لا نفع لأيِّ نَدَمٍ فقد فات الأوان وبدأ العذاب، قالوا لهم حين رأوهم مُنْفَرِدِين في العذاب بلا ناصِر ولا مُعِين ولا مُغِيث ما أغني عنكم أيْ ما نَفَعكم بأيِّ شيءٍ ولا أفادكم ولا نَصَرَكم ولا مَنَع عنكم أيِّ شيء من عذاب الله جَمْعُكم في الدنيا للأموال وللرجال وللقُوَيَ المختلفة، وما نَفَعَكم كذلك ما كنتم تستكبرون فيها أيْ تَسْتَعْلُون عن الإيمان بالله واتّباع أخلاق الإسلام وتستهزؤن بها فلم تَستجيبوا لها وكنتم من الكافرين أيْ المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أيْ عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. لقد صِرْتُم بسبب ذلك في هذا العذاب الذي لا يُوصَف
ومعني "أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿49﴾" أيْ هذا مزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد لهؤلاء المُستكبرين السابق ذِكْرهم والإشعار لهم بكل ألمٍ وخِزْيٍ وذِلّةٍ وفضيحةٍ وإهانةٍ وانكسارٍ وحَسْرَةٍ ونَدَامَةٍ ويأسٍ كنوعٍ من عذابٍ نفسيٍّ مع عذابهم الجسديّ الذي يستحِقّونه في النار حيث يَلْتَفِت ويُشِير أصحاب الأعراف إلي أهل الجنة الذين كانوا يَستكبرون عليهم في دنياهم ويُؤذونهم ويَسخرون منهم بسبب إيمانهم ثم يقولون للمُستكبرين هل أهل الجنة هؤلاء المُنَعَّمِين بالنعيم الذي لا يُوصَف هم الذين كنتم تَحلفون في الدنيا جَهْلاً وكذباً وكِبْرَاً أنهم لا يشملهم الله بأيَّ رحمةٍ في الآخرة مهما صغرت، إنْ كان هناك آخرة من وِجْهَة نظركم؟!.. وإنْ وُجِدَت فستكون لكم لأنكم أنتم أهل الشرف والسيادة وأنتم الأحقّ بها منهم!!.. لقد أغلقتم عقولكم ولم تُحْسِنوا التفكير حيث تَوَهَّمْتم أنَّ مَن يَنال القوة والثراء في الدنيا هم الذين ينالونها في الآخرة إنْ كانت موجودة، وما كان قَسَمكم ذلك إلا احتقاراً لهم وتكذيباً للرسل الذين وَعَدوهم الحُسْنَىَ في الآخرة.. ".. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿49﴾" أيْ وهنا يقول تعالي لأهل الجنة أو يقول أصحاب الأعراف لهم أو يُنادِي مُنَادٍ من الملائكة عليهم، امكثوا خالدين في نعيم وسعادات الجنة مُطْمَئِنّين سعداء مُسْتَبْشِرين دائما بما تنتظرونه من فضل ربكم، لا خوف عليكم من أمرِ شَرٍّ يستقبلكم ولا أنتم تحزنون على أمرِ خيرٍ فاتكم فلن يفوتكم أيّ خيرٍ وسعادة ولن يستقبلكم إلا كلّ خيرٍ وسعادة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. كذلك من المعاني أنه حينها يُقالُ لأصحاب الأعراف من الله أو الملائكة ادخلوا الجنة أنتم أيضا الآن لا خوف عليكم من عذاب الله ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من بعض نِعَم الدنيا
ومعني "وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿50﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ونادَىَ أهل النار بعد دخولهم واستقرارهم فيها في درجاتهم علي حسب أعمالهم السيئة علي أهل الجنة قائلين لهم بكل ذِلّةٍ وانكسارٍ وهم في قِمَّة تعاستهم حَزَانَيَ بُؤَسَاء بحالهم مُستغيثين بهم مُستعطفين لهم طالبين نجدتهم وعوْنهم في عذابهم الشديد الذي لا يُوصَف وقد بَلَغَ بهم العطش والجوع أشدّ الأحوال أنْ صُبُّوا علينا من الماء أو مِمَّا رزقكم الله من طعامٍ نستعين به علي ما نحن فيه، وهنا يَرُدّ عليهم أهل الجنة بما يَقطع آمالهم ويَصْدِمَهم ويزيد حَسْرتهم وألمهم وعذابهم فيقولون لهم إنَّ الله مَنَع كلاًّ منهما على الكافرين فلا ينالوهما أبدا
ومعني "الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿51﴾" أيْ هؤلاء الكافرون من بعض صفاتهم أنهم هم الذين في دنياهم قد جعلوا دينهم الحقّ الذي جاءهم به الرسول الحقّ ﷺ ويُدْعَوْنَ إليه وهو دين الإسلام لَهْوَاً أيْ استهزاءً وسُخْرِيَة واحتقاراً حيث يَسْخَرون مِمَّا فيه ويحتقرونه بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم، ولعباً أي عَبَثاً أيْ بلا فائدة كالأطفال التي تَحْبُو وتجتمع لِلّعَب ثم تنفضّ بلا هدف! أي لا يستفيدون منه أيّ فائدة وهو الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن! أيْ يتعامَلون معه بغير جِدِّيَّة وبجَعْله مَسْلاَة يَتَسَلّون بها ويضحكون عليها بَدَلَاً من تعظيمه بالعمل به.. وغَرَّتهم الحياة الدنيا أيْ وخَدَعَتْهُم فلم يُحسنوا طَلَبَها مع طَلَب الحياة الآخرة كما نَصَحَهم الله والإسلام بل فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء مراجعة كيفية إحسان طلب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿51﴾" أيْ فإنْ كان الحال كذلك، فاليوم، يوم القيامة، لم يَبْق لهم إذَن إلا جزاء أعمالهم السيئة حيث ننساهم، والله تعالي لا يَنْسَيَ، فالمعني إذَن نُهملهم ونَتركهم في عذاب النار الذي لا يُوصَف كما نَسوا هم في دنياهم وكذّبوا لقاء يومهم هذا وهو يوم القيامة ولم يستعِدّوا له بفِعْل الخير وترْك الشرّ، فهذا هو سبب النسيان لهم، وبسبب كذلك أنهم كانوا بآياتنا يَجْحَدون أيْ يُنكرون ويُكَذّبون بألسنتهم بآيات الله مع تأكّدهم بدواخلهم بأنها الحقّ والصدق والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ، سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في كتبه وآخرها القرآن العظيم تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يد رسله لتأكيد صِدْقهم، وذلك حتي لا يَتّبِعوا الإسلام هم وغيرهم، فهم يُدركون تماما داخل عقولهم مِن فطرتهم أنَّ القرآن حقّ، والله ورسوله ﷺ وإسلامه حقّ، أي صِدْق، أي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد البشرية كلها حتي يوم القيامة (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار والمُرَاوَغَة وعدم الاستجابة للحقّ مِن أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا النسيان تمام التّيْئِيس لهم مِن أيّ أملٍ في الخروج مِن عذاب النار وذلك لتعذيبهم نفسياً إضافة لعذابهم الجسديّ
ومعني "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾" أيْ هذا بيانٌ وتأكيدٌ أنَّ بعض المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبّه بهم يَكفرون بالقرآن العظيم ولا يَتّبعون الإسلام ليس عن جهلٍ أو نسيانٍ مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يُكَذّبون عن علمٍ وعِنادٍ وتَعَمّدٍ فهم يعلمون تمام العلم أنه كلام الله تعالي وأنه الحقّ وأنَّ الرسول الكريم محمد ﷺ الذي أوُحِيَ إليه به هو الصادق الأمين وأنهم مُعَذّبون علي هذا في دنياهم وأخراهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ ولقد أتيناهم بكتابٍ أحضرناه وأعطيناه وأنزلناه لهم مُوُحَي من عندنا هو القرآن العظيم جاءهم به الرسول الكريم محمد ﷺ مَكتوب مُدَوَّن يُرْجَع إليه في كل وقت أنزلناه بحكمتنا وبرحمتنا للناس جميعا ومن صفاته أننا قد فَصَّلنا آياته أيْ بُيِّنَاها ووُضِّحَناها وجعلناها مُفَصَّلَة أي مُحْتَوية علي تفصيلات كثيرة شاملة في الأخلاق والأنظمة والقوانين والتشريعات بحيث تشمل القواعد العامة لكل شئون الحياة المختلفة الاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والانتاجية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها بما يُصلح حال جميع البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لو عَمِلوا بأخلاقه كلها علي اختلاف بيئاتهم وأزمانهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم، ثم يُتْرَك للمُتَخَصِّصِين في كلّ عصرٍ ومكان وَضْع تفاصيل حياتهم بما يُناسبهم ويُسعدهم وبما لا يَخرج عن هذه القواعد العامة والأصول كما يُفْهَم من قول الرسول ﷺ "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ﴿أخرجه مسلم﴾.. ".. عَلَى عِلْمٍ.." أيْ مُشْتَمِلَاً علي علمٍ كثيرٍ عظيم، وتَمَّ بكل علمٍ مِنّا دقيقٍ تامٍّ كاملٍ شاملٍ وبكل حِكْمةٍ بلا أيّ عَبَثٍ لأننا لا يغيب عنّا شيء، وجاء علي أكمل وجهٍ وأحسنه وأتقنه لأننا عالمون بتمام العلم بكل أحوال الخَلْق في كل زمان ومكان وما يُسعدهم فليس تفصيله تفصيل غير عالمٍ بالأمور فيجهل بعضها فيَحكم حُكْماً غير مناسب بل تفصيل العالِم الرحيم بكل شيءٍ سبحانه.. ".. هُدًى وَرَحْمَةً.." أيْ وهو هادٍ أي مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾" أيْ لكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿53﴾" أيْ أُنْزِلَ القرآن الكريم فلم يؤمنوا، فماذا ينتظرون لكى يؤمنوا؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. أيْ هل يَنتظر هؤلاء المُعْرِضون عن الإسلام ليَقتنعوا بأنْ يُسْلِموا إذا كانوا غير مسلمين أو يَتّبعوا أخلاق الإسلام كلها إذا كانوا مسلمين لكنهم تاركون لأخلاقه بعضها أو كلها، هل يَنتظرون مِن بعد ما جاءتهم البينات – أي وَصَلَتهم الدلالات الواضِحات والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في القرآن والإسلام علي أنَّ أخلاقه وتشريعاته ووَصَايَاه هي وحدها التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، والتي هي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلي بَيِّنات أخري، فليس بالتالي إذَن لأحدٍ عذر في إعراضه – بلا إيمانٍ وبلا اتّباعٍ لأخلاق الإسلام حتي يأتيهم تأويله أيْ تأويل القرآن وهم كذلك علي حالهم السيء أي يأتيهم المَآل أيْ المَصِير الذي بَيَّنه الله فيه ويَظهر ويَقع ويَحْدُث ما تَوَعدَّهم به لمَن يكون هكذا وهو العذاب والتعاسة في الداريْن علي قَدْر سوئه؟! وحينها يكون الأمر قد قُضِيَ أيْ انتهي أمر عذابهم فلا مَفَرّ لهم منه سواء أكان في دنياهم أم أخراهم؟! أيْ ماذا ينتظر مثل هؤلاء بعد كل هذا الذي يفعلونه؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما؟! بالقطع لا!! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة! يبدو أنهم لا يَنتظرون إلا ذلك!! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم؟!! إنَّ عليهم ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتّخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته!! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم، كما أنَّ فيها تهديدا شديدا لمَن يُصِرّ لكي يَستفيق قبل فوات الأوان ونزول العذاب في دنياه وأخراه.. ".. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.." أيْ يوم يَحضر ويَقَع ويَحْدُث هذا المَآل، هذا المصير، من عذابِ وتعاسةِ المُسيئين ونَصرِ ونعيمِ وسعادةِ المُحسنين، في الدنيا ثم الآخرة، يقول الذين نَسُوا القرآن مِن قَبْل وقوع هذا المَآل فتركوه وأهملوه ولم يتذكّروا ما فيه ويعملوا به، نادِمين مُتَحَسِّرين ذليلين مُعترفين بذنوبهم في وقتٍ لا ينفع فيه الندم حيث قد وَقَع ما كان حَذّرهم منه فلم يَحْذَروا ونَسُوا واستهانوا واستهزأوا، قالوا مُقِرِّين بأنه تَبَيَّنَ ووَضَحَ أنه قد جاءت رسل ربنا في قرآنه بالصدق في كل ما فيه وما أخبروا به ولكننا الذين لم نَتّبعهم، مُتسائلين مُسْتَغِيثين فهل لنا الآن وقت وقوع العذاب أيّ شفعاء جَمْع شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عند الله لكي يعفو عنا وينقذنا مِمَّا نحن فيه أو نرجع إلي ما قبل وقوع العذاب أو إلي الدنيا – عندما يُحَاسَبون ويُعَذّبون يوم القيامة – فنَعمل خيراً غير الذي كنا نعمله من شرّ؟! فلا يَجدون شفيعاً قطعاً حينها ولا عودة حتماً من الآخرة عند حدوثها.. ".. قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.." أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد خسر أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم أنفسهم حيث قد خسروا حتما في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب سُوئهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكون الكافرون منهم مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿53﴾" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم ما كانوا يعبدون غير الله تعالي في دنياهم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعهم قطعا بأيّ شيء ولن تنقذهم ممّا هم فيه، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم كلّ أدِلّة علي ما كانوا يدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياهم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعهم أو تمنع الضرَرَ عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿54﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿54﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ ربّكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – الذي عليكم أن تعبدوه وحده أيْ تطيعوه هو الله تعالي الذي وحده لا غيره خَلَق أيْ أوْجَد مِن عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَم وخيرات، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان، في ستة أيام، قد تكون مثل أيام البَشَر أو غيرها، فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون كما يريد، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن.. ".. ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ.." أي قد تَمَلّكَ سبحانه المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. " .. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ.." أيْ يجعل الليل يُغَطّي النهار فيَذهب بنوره ويَصِير الكوْن مُظلماً بعد أن كان مُضيئاً، ويجعل النهار يُغَطّي الليل فيَصير الكوْن مضيئا بعد أن كان مظلما، يَطلبه حثيثاً أيْ يأتي كلُّ واحدٍ منهما وراء الآخر سريعاً مُجتهداً في ذلك كالطالِب له الذي يريد الوصول إليه لا يَفصل بينهما شيءٌ بانتظامٍ وتَتَابُعٍ ودَوَامٍ بلا انقطاع، وخَلَقَ للخَلْق الشمس والقمر والنجوم بكل منافعها مُسَخَّراتٍ بأمره أيْ مُسَيَّرَاتٍ بتَسخيره وتدبيره وبتَحَكّمه وبإدارته لها وبحُكْمه وبتصريفه فهي خاضعات تماما لتَصَرَّفه مُنْقادات لإرادته كما يشاء.. إنَّ تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا هما من رحماته تعالي بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. هذا، والنجوم المُضيئة بمواقعها في السماء والتي هي أساس علوم الفَلَكِ يُسْتَرْشَد بمواقعها لمعرفة الاتّجاهات في أثناء ظلام ليل البرّ والبحر بما يَهدي الناس ويُرْشدهم ويُوصلهم إذا ساروا في طرقٍ صحراويةٍ أو جَبَلِيَّةٍ أو بحريةٍ إلي حيث يريدون الوصول إليه من أماكن لتحقيق مصالحهم ومنافعهم وسعاداتهم، إضافة إلي أنها زينة للسماء وتخفيف لظلمتها مساءً فلا تكون مُخِيفَة.. إنَّه بالشمس والقمر والنجوم تُعْرَف الأوقات والساعات والأزمنة والأعمار والاتّجاهات ونحو ذلك.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. ".. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.." أيْ هو تعالي وحده الخالِق الذي له المُلْك كله والتّصَرُّف والتدبير كله والرعاية كلها، هو الذي له الخَلْق لأنه خَلَقهم وله الأمر لأنه يأمر في خَلْقه بما يشاء بكمال علمه وتمام قُدْرته حيث يأمر الكوْن بالعمل الذي خَلَقه وحَدَّده له لمصلحة الخَلْق ويأمر الناس بما يشرعه لهم من شَرْعه الإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن، فهو المُوجِد المُتَصَرِّف المُطَاع في هذا الكوْن ومن كل المخلوقات.. هذا، ولفظ "أَلَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو مزيدٌ من البيان والتوضيح والتدْليل والتأكيد أنه سبحانه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة حيث تَجْرِي وتَتَحَرَّك في كل لحظةٍ أوامره في الكوْن كله وتنفذ إراداته وتصرّفاته وأحكامه فيه مُتَمَثّلَة في رحماته وخيراته وأرزاقه وتقديراته وتدبيراته وترتيباته للناس وللخَلْق جميعا من أجل منافعهم وسعاداتهم حيث هو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا والجُزَيْئَات والذرَّات وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها، وهو أيضا المُرَبِّي لهم والرازق والراعِي والمُعين والمُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال تشريعاته في كتبه وآخرها قرآنه الكريم، فلْيَعبدوه أيْ يطيعوه إذَن وحده وليتمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿54﴾" أيْ تَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله ربّ العالمين، أيْ فاسْتَحَقَّ بالتالي كلّ تعظيمٍ وتنزيه حيث لا يشبهه أيّ أحدٍ في ذلك، فاطلبوا إذن بَرَكته وعَظّموه وابْعِدوه عن كلّ صفةٍ لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسني وهو القادر علي كلّ شيء وهو الذي قد زادَت بركاته وحَلّت أي زادت خيراته وأفضاله في كل شيء علي كلّ خَلْقه وهي مستمرّة لهم ومُتَزَايِدَة دون انقطاع، فهو تعالي إذن المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، فاعبدوه واشكروه والجأوا إليه لتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿55﴾ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿56﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ فهو خالق كل شيءٍ ومالِكه أقوي الأقوياء لا يُعْجِزه شيء، فسيَستجيب لك ولكل مَن يدعوه حتما إمّا عاجِلاً أو آجِلاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ لك ولمَن حولك، وسيستجيب بالصورة التي طَلَبْتها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنك أو بكل ذلك، بطريقة مباشرة أو بأنْ يُيَسِّر لك مَن يُحَقّق لك ما تريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب.. كذلك ستَسعد حتماً إذا لم تكن من المُفْسِدين.. وإذا كنتَ من المُحْسِنين
هذا، ومعني "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿55﴾" أيْ اسألوا واعبدوا أيْ أطيعوا ربكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – يُعْطِكم ويَتَقَبَّل عبادتكم فيُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. إنَّ الله تعالي سيَستجيب حتما لكلّ مَن يَدْعوه إمَّا عاجلا أو آجلا في التوقيت الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقت له ولمَن حوله، وسيَستجيب بالصورة التي طَلَبَها تماما أو بصورة أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنه أو بكلّ ذلك، فليس هناك إذَن دعوة خاسرة! بل كلها مَكاسِب.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه لابُدَّ مِن إحسان اتِّخاذ الأسباب مع الدعاء، فلا رزق مثلا دون سَعْيٍ حلالٍ له مهما كان شكل أو نوع الدعاء! وهكذا مع كل صور ومُتَطَلّبات الحياة، وأهم هذه الأسباب هو الاستجابة له سبحانه بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام والتي كلها رُشْد وسعادة في الدنيا والآخرة.. كذلك يُرَاعَيَ أنَّ مَن يَدعو بما هو مُحَرَّم فلن يُستجاب له قطعا وهو آثِم كالدعاء مثلا بقطع الأرحام والأرزاق وخراب البيوت وما شابه هذا، إلا إذا كان يدعو علي ظالم معلوم الظلم فدعوة المظلوم لابُدَّ يَنصرها العدل الكريم حتي ولو كانت من غير مسلم إقامة للعدل في الأرض ليَأْمَن الخَلْق.. هذا، وبما أنَّ "الدعاء هو العبادة" كما قال ﷺ فمِن معاني الآية الكريمة كذلك أنَّ الله تعالي يُجيب أي يتقبل حتما ووَعْدَاً عبادة مَن يُخْلِص له العبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً.." أيْ ادعوه واعبدوه تَضَرُّعَاً أيْ عَلَنَاً بتَذَلّلٍ وتَوَسُّلٍ وخُضُوعٍ واستسلامٍ وادعوه كذلك خُفْيِة أيْ في الخفاء وإسراراً بدواخلكم، أيْ في كل الأحوال وبكل الصور والأشكال سِرَّاً وعَلاَنِيَة فإنه سبحانه حتماً يَسمع الدعاء ويُجيبه بما فيه المصلحة، فالإنسان لا يَقْوَيَ إلا بقوة وعَوْن ربه له القادر علي كل شيء.. إنَّ أفضل الدعاء هو ما كان تَضَرُّعَاً وخُفْيَة، أيْ بتَضَرُّعٍ أيْ فيه سكون واحتياج وطَلَب واجتهاد وإخلاص وتَقَرُّب ورغبة وأمل وفرحة ولجوء وتَوَسُّل وسؤال واضطرار، وكان بخُفْيَة أيْ في السِّرِّ لأنه يكون أقرب إلي الحب والتواصُل والشكوي والإخلاص أيْ البُعد عن أيِّ رياءٍ أيْ طَلَب سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو مدحٍ أو غيره بل حباً في الله ويقيناً أنه وحده الذي يُجيب إمّا بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة بتيسير بعض عباده ليُجيبوا طَلَبَ مَن يدعو.. ".. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿55﴾" أيْ ولا تَعتدوا أبدا بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء مهما كانت، لأنَّ الله بالقطع لا يحب مُطلقا المُعْتَدِين أيْ المُجَاوِزِين لِمَا حَرَّمه أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب اعتداءه.. إنه بانتشار الاعتداء يتعس الجميع في الداريْن وباختفائه بنشر الخير يسعدون فيهما.. هذا، وعدم الاعتداء مطلوب حتي في الدعاء لأنه أحيانا يكون فيه بعض اعتداء مثل المُبَالَغة والتفصيل المُطَوَّل فيه والصراخ والرياء أثناءه والطلب لمعصيةٍ أو لمستحيلٍ لا يُقِرّه عقل وما شابه ذلك
ومعني "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿56﴾" أيْ وامتنعوا تماما أيها الناس عن الإفساد في الأرض أينما تَوَاجَدتم بفِعْل ونَشْر الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بكل أشكالها وصورها ودرجاتها، والفساد هو فِعْل ما يَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الدنيا والآخرة وهو عكس الصلاح الذي هو فِعْل ما ينفعهما ويسعدهما فيهما، فإنه بالخير يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالفساد والشرّ يتعسون حتما فيهما.. ".. بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.." أيْ بعد إصلاح الله إيَّاها بنظام وأخلاق الإسلام الذي أرسله لكم في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أوحاها لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ ليُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في الداريْن.. لقد خلق الله تعالي الأرض في الأصل صالحة، وللصلاح، أيْ للسعادة فيها وللانتفاع التامّ بخيراتها، ولن يتمَّ ذلك علي أكمل وجهٍ إلا بما شَرَعه لتنظيمها وحُسْن إدارتها، أيْ بالإسلام، لأنه هو العالِم بخَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُسعدهم، فلا تفسدوها باتّباع نظام غيره مُخَالِف له فتتعسوا.. هذا، والإفساد ضَرَرٌ وتعاسة سواء بعد الإصلاح أو في الفساد ولكنه بعد الإصلاح أشدّ فظاعة وسوءاً وضرراً وتعاسة من الإفساد على الإفساد، فإنَّ وجود الإصلاح أكبر حُجَّة على المُفْسِد إذا هو لم يحفظه ويسير عليه فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟! لقد بذل بالتأكيد فساداً كبيراً لكي يُحَقّق ذلك ولذا فلا عذر له في فساده بل عقابه أشدّ في الداريْن! ولهذا خَصَّ الله تعالي بالذكر والتنبيه والتحذير الإفساد بعد الإصلاح.. ".. وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا.." أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ مِمَّا هو مطلوبٌ أثناء الدعاء والعبادة لزيادة الإحسان إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من التّضَرُّع والخُفْيَة.. أيْ واسألوا الله واعبدوه أيْ أطيعوه أيها الناس وحالكم دائما حين تَدْعوه وتَذْكُروه وتَعبدوه يكون مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) أيْ خوفاً من تقصيركم في شيءٍ مَا أو من خيرٍ مَا قد تركتموه وكان من المُمكن أن تفعلوه أو من شرٍّ ما قد فعلتموه أو نحو هذا فتخافوا حساب ربكم، وطمعاً في عفوه ومغفرته ورحمته ورضاه وحبه وأمنه وعوْنه وتوفيقه ورزقه وسعادته في الداريْن.. ".. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿56﴾" أيْ بكل تأكيد بلا أيِّ شكّ رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ والتي تَتَمَثّل في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ في جنته التي فيها رحماته وخيراته وأنْعُمه التي لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وحيث أهل الجنة في هذه الرحمات والخيرات والجنات بنعيمها التامّ خالدون أيْ دائمون باقون مُقِيمون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. ".. قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿56﴾" أيْ كل هذا الذي سَبَقَ ذِكْره من صُوَر رحمة الله هو أمرٌ قريبٌ جداً مُحَقّقٌ حتماً من كل المُحسنين وهم الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. إنه كلما كان المسلم أكثر إحساناً كلما كان أقرب إلى رحمة الله وكلما كان الله قطعاً قريباً منه برحمته، وفي هذا تشجيعٌ شديدٌ علي الإحسان، فمَن كان يريد أن تقترب منه رحمة الله فعليه بالتالي إذَن بالإحسان، فرحمة الله أيْ إحسانه وإعطاؤه الخير وإنعامه بكل النّعَم التي لا تُحْصَيَ في الداريْن هو لِمِثْل هؤلاء، فالمسافة بين الرحمة وبين مَن يطلبها قريبة جداً إنْ قَدَّمَ لها ثمنها وهو العمل الصالح بكل أخلاق الإسلام وعدم الإفساد، وهو تعالي يُعطيها لهذا الذي يَسْتَحِقّها دون حسابٍ ودون تأخير، وكلما زاد من إحسانه كلما ازداد قُرْبَاً من الرحمة وازداد ضَمَانَاً لها وكلما ازدادت هي قُرْبَاً منه، حتي إذا أتمّ إحسانه تَمَّتْ الرحمات كلها كاملات مُسْعِدات.. هذا، وكل من آمن بالله فقد أحسن قطعاً، وله درجة من درجات القُرْب من رحمة الله علي قَدْر ما يُقَدِّم من خيرٍ وإحسان
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿57﴾ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴿58﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿57﴾" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده الذي يُطْلِق ويَبْعَث ويُحَرِّك الرياح لتكون تبشيراً بين يدي رحمته أيْ مُقَدِّمَة لرحمته حينما يَرَي الناس الرياح المعتدلة ذات النسيم فإنهم يستبشرون برحماتٍ ثم رحماتٍ متتالياتٍ من ربهم الرحيم الودود الكريم حيث سيأتي المطر بالماء الطيّب المُفيد المُسْعِد الذي به حياتهم لا الشديد المُضِرّ المُتْعِس المُهْلِك.. ".. حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.." أيْ فإذا حَمَلَت الرياح سُحُبَاً ثقيلة من كثرة ما تحمله فيها من ماء، قُدْنا هذا السحاب المُحَمَّل بالماء ونَشرناه في السماء في أيّ مكانٍ واتّجاهٍ نشاؤه يميناً ويساراً إلي حيث البلد الذي أرضه ميتة أيْ لا نبات فيها ولا زرع، فنُنْزِل به وعليها ماء المطر فيُحييها ويُخرِج خيرها من كل الزروع والنباتات والثمرات المُفيدات المُسْعِدَات بعد أن كانت لا حياة فيها.. ".. كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى.." أيْ كما أننا قادرون علي إحياء الأرض بعد موتها كما تَرَوْنَ ولا يُنْكِر ذلك كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فنحن أيضا بالمِثْل تماما كذلك قادرون قطعا علي أن نخرج الموتي يوم القيامة أي علي بَعثكم أيها الناس مرة أخري وإحيائكم من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا، حيث نُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ونزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو نعفو، فأحسِنوا إذن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿57﴾" أيْ لعلكم تتذكّرون هذا، أيْ لكي تتذكّروه، لكي تتذكّروا ولا تنسوا ما هو موجود في فطرتكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّروا ربكم وإسلامكم، وتعقلوا كل هذا بعقولكم وتتدَبَّروه وتدرسوه، وتذاكروه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليكم فقط إلا أن تتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولكم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
ومعني "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴿58﴾" أيْ والبلد الطيّب النقيّ الجَيِّد الحَسَن التُّرْبَة إذا نزل عليه المطر يَخْرج نباته طيِّبَاً مُيَسَّراً نامِيَاً نافعاً مُسْعِدَاً بإذن ربه أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، أمّا البلد الرديء التربة كأن تكون مُتَحَجِّرة أو مَالِحَة أو نحو هذا فإنَّ نباته لا يَخرج إلا نكداً أيْ رديئاً قليلاً بصورةٍ عَسِيرَةٍ صعبةٍ لا نفع فيه يكون سبب نَكَدٍ أيْ شرٍّ وغَمٍّ لصاحبه.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة مزيدٌ من بيان قُدْرَة الله تعالي حيث يخلق الأرض متنوعة وتنبيهٌ لحُسْن الانتفاع بها حيث منها أراضٍ طيبة صالحة للزراعة وأخري لا تصلح لها ولكن صلاحيتها تكون لشيءٍ آخر فمَا مِن مكانٍ إلا وفيه من خير الخالق الكثير الذي لا يُحْصَيَ فانتبهوا لذلك وأحسنوا الانتفاع بها.. وفيه كذلك تنبيهٌ أنَّ الصلاح يؤدي حتما لكل خيرٍ وسعادة في الداريْن بينما الفساد والخبث لا يؤدي إلا لكل نَكَدٍ وشرٍّ وتعاسةٍ فيهما، فالصالحون وبيئتهم الصالحة ومجتمعهم الصالح العاملون بأخلاق الإسلام تجد أحوالهم وأرضهم دائما مبارَكة تُنْتِج خيراً مُسْعِدَاً لهم بإذن الله، بينما العكس صحيح كما يُثبت الواقع ذلك كثيراً حيث الفاسدون البعيدون عن ربهم وإسلامهم أحوالهم وأرضهم في الغالب لا بركة فيها أيْ لا سعادة تامة بها بل سعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيراً ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم.. وفيه كذلك تشبيهٌ للمؤمن وللكافر، بمعني أنَّ المؤمن إذا نَزَلَت عليه آيات الله في قرآنه الكريم أيْ استمع إليها، انتفع بها حيث يَتَدَبّر فيها ويعمل بها فتُثْمِر فيه حياة صالحة مُبَارَكَة أيْ مُتَزَايِدَة في كل خيرٍ سَهْلَة سعيدة، كما يَنزل الماء علي الأرض الطيبة فتُثمر خيراً كثيراً، أمّا الكافر فلا ينتفع بذلك ولذا فحياته فاسدة صعبة عَسِيرَة تعيسة.. ".. كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴿58﴾" أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا التّصْرِيف أيْ التنويع والتّعَدُّد والتكثير من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، وكما صَرَّفنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. ولكنَّ الذي ينتفع بهذا القرآن العظيم هم الذين يشكرون اللّه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأعظمها إرشادهم بقرآنه للإسلام الذي يُسعدهم فيُؤمنون به ويَتَدَبَّرون فيه وفي كل النّعَم ويَعتبرون به وبها ويُطيعونه باتّباع أخلاقه.. إنهم يَشكرونه تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب، بعقولهم باستشعار قيمة نِعَمه عليهم وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وهم بذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. إنهم هم الذين ينتفعون بتصريف الآيات لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿59﴾ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿60﴾ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿61﴾ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿62﴾ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿63﴾ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴿64﴾ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿65﴾ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿66﴾ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿67﴾ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴿68﴾ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿69﴾ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿70﴾ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿71﴾ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴿72﴾ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿73﴾ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿74﴾ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿75﴾ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿76﴾ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿77﴾ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿78﴾ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴿79﴾ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴿81﴾ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴿82﴾ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿83﴾ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴿84﴾ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿85﴾ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿86﴾ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿87﴾ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴿88﴾ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴿89﴾ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴿90﴾ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿91﴾ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ﴿92﴾ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴿93﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا تمسّكتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وعاد وثمود وشعيب وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة العنكبوت وهود والمؤمنون وإبراهيم وغيرها، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا، ومعني "لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿59﴾" أيْ لقد بعثنا رسولنا الكريم نوحا إلي مَن يُقيم فيهم ومَن حوله مِن الناس ليُبَلّغهم الإسلام ليسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فقال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام، حيث هو وحده الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة، فلا يَدَّعِي أحدٌ أبداً أنه ربّ الناس والخَلْق الآن وعليهم أن يعبدوه لأنه حتما سيكون كاذبا لأنه لو كان كذلك فمَن إذَن الذي خَلَقَ الخَلْقَ السابق قبل أن يُولَد هذا المُدَّعِي الكاذِب؟!! وحيث هذا الإسلام هو الذي يُنَظّم لكم كل لحظات حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنه من عند خالقكم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها.. هذا، ولفظ "يا قوم" يُفيد تذكيرهم بأنه منهم وهم منه وهو أخوهم وهو يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لنفسه، من أجل تحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربه، وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، الإسلام.. ".. إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿59﴾" أيْ هذا بيانٌ لخوفه وحرصه الشديد عليهم.. أيْ إنى أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ لِعِظَمِ وشِدَّةِ ما يَحْدُث فيه هو يوم القيامة حيث حسابكم الختاميّ لكل أقوالكم وأفعالكم وهو كذلك يوم نزول عذابكم الدنيويّ وذلك إذا عَبَدْتم غيره، إذا ظلمتم أنفسكم ومَن حولكم فأتعستموها وأتعستموهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، إنه عذاب عظيم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿60﴾" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يكذبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا له مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي ما هم فيه نحن نُشاهِد ونَعلم ونُوقِن أنك بالتأكيد في ضياعٍ واضحٍ!! أيْ في خطأٍ وابتعادٍ عن طريق الصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة!! إنهم من شِدَّة سُوئهم لم يَكْتَفوا بتكذيبه وعدم الاستجابة له عند دعوتهم لعبادة الله تعالي وحده بل تَعَدّوا عليه بما يُؤذيه بوصفه ظلماً وكذباً وزُورَاً وسَفَهَاً بالضلال وليس أيّ ضلال بل الضلال الواضح!! إنهم يَرَوْنَ الصالح المُصْلِح فاسداً مُفْسِدَاً!!
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿61﴾" أيْ فصبر نوح ﷺ عليهم وتَحَمَّل أذاهم وأجابهم بكل عَقْلانِيَّةٍ وحِكْمَةٍ وأدبٍ وحبٍّ لعلهم يُحسنون استخدام عقولهم ويعودون لفطرتهم المسلمة أصلا بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) قائلا لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي ليس بي أيّ ضلالٍ ولو حتي ضلالة واحدة وليس الضلال المُبين كما تَدَّعون عليّ ولكنني مَبْعُوثٌ من ربِّ العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهما من خلال دين الإسلام – لكي أبلغكم الإسلام لتسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فأنا بالتالي إذَن في أعلي درجات الهُدَيَ ولا يُمكن ولا يُعقل أن أكون في ضلالٍ وأن يكون ما أدعوكم إليه من عنده سبحانه ضلالاً وهو يريد هدايتكم لكل خيرٍ وسعادة
ومعني "أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿62﴾" أيْ ولكني رسولٌ من ربِّ العالمين أرسلني إليكم فأنا أبَلّغكم وَصَايَا ربي ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام والتي أوْحاها إليَّ، وأنصح لكم أيْ أرْشدكم إلى كل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة، حتي يَسعد الجميع بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فهو ﷺ لا يَكتفي بتبليغها بل يُضيف إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها.. ".. وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿62﴾" أيْ وأعلم مِن عند الله وليس مِنّي مَمَّا أوْحاه إليَّ وعلّمني إيّاه من الإسلام ما لا تعلمون أنتم، فأنا أبلّغكم وأنصحكم عن علم، فاستجيبوا لي بالتالي إذَن لتسعدوا في دنياكم وأخراكم وإلا تعستم فيهما إنْ لم تستجيبوا.. وفي هذا تنبيهٌ لكلّ مسلمٍ أنْ يَتَشَبَّه بالرسل الكرام فيكون داعياً لله وللإسلام مُبَلّغَاً ناصحاً عالِماً بما يدعو إليه ليُحقّق أفضل ما يُمكن من نتائج ويَنال أعظم الأجر مثلهم
ومعني "أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿63﴾" أيْ وهل اسْتَغْرَبْتُم أنْ وَصَلَكم ذِكْرٌ من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – أيْ كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. ".. عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ.." أيْ علي لسان رجلٍ منكم أُرْسِلَ أيْ بُعِثَ إليكم من ربكم ليكون رسولاً أيْ مَبْعُوثاً يكون منكم أيْ بَشَرَاً مثلكم وليس مَلَكَاً، وهذا من رحمات الله بالناس ليكون قُدْوة لهم حيث عرفوا صِدْقه وأمانته لأنه منهم يعيش معهم فيُصَدِّقونه بسهولة ويَثِقُون به ويُطَبِّق هو الإسلام عمليا في واقع الحياة بينهم فيسهل عليهم هم أيضا تطبيقه مثله بينما المَلَك له طاقات ليست مِثْلهم فيُمكنهم أن يَتَحَجَّجُوا بعدم التطبيق أنه لا طاقة لهم مِثْله.. ".. لِيُنْذِرَكُمْ.." أيْ لكي يُنْذركم بهذا الذكْر أيْ يُحَذّركم بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، ولكي يُبَشِّركم كذلك بتمام الخير والسعادة فيهما لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه.. ".. وَلِتَتَّقُوا.." أيْ ولكي تَتّقوا أيْ تخافوا الله وتُراقِبوه وتُطيعوه وتجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وتكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿63﴾" أيْ ولكي تُرْحَموا، أيْ وليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك طائعين لله والرسول ليسعدوا برحمات ربهم وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم.. هذا، والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ مَجِيء الذكْر علي رجلٍ منكم أمرٌ لا ينبغي أبداً التَّعَجُّب منه مِن أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! بل هو مِمَّا يستوجب الشكر لربنا، لأنه لإسعادنا ولرحمتنا في دنيانا وأخرانا، لا أنْ نَعْجَب منه ونُكَذّب به ونُعْرِض أيْ نبتعد عنه!!
ومعني "فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴿64﴾" أيْ فلم يُصَدِّقوه فيما أبلغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعملوا بالإسلام الذي نَصَحهم وأوصاهم به واستمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، فكان لابُدَّ إذَن من أن يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾.. ".. فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴿64﴾" أي فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أن أنجيناه من الغَرَق هو والذين آمنوا معه أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، في الفلك أيْ بأنْ حَمَلْناهم في السفينة التي صَنَعَها بوَحْيٍ وتعليمٍ وعوْنٍ ورحمةٍ ورعايةٍ وأمنٍ مِنّا، وأغرقنا بمياه الطوفان الغزيرة التي جاءتهم من السماء فوقهم ومن الأرض تحتهم الذين كذّبوا أيْ لم يُصَدِّقوا بآياتنا أيْ دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسولنا أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجودنا أم آيات في كتبنا تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. إنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴿64﴾" أيْ لأنهم كانوا قوما عُمْي الأبصار جمْع بَصَر بمعني بَصِيرَة في هذا الموضع أيْ إدراك العقل الذي به يتبَصَّرون أيْ يَرون ويُدركون ويَتدبَّرون، أيْ عَمِيَت عقولهم فلم تُبْصِر الحقّ والعدل والخير والسعادة، عَمِيَت عن اتّباع أخلاق الإسلام في دنياهم فتعسوا بالتالي فيها ثم في أخراهم، وذلك لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿65﴾" أيْ وكما أرسلنا نوحاً إلى قومه داعياً إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قوم عادٍ – وهم الذين كانوا يعيشون بمنطقةٍ تُسَمَّيَ الأحقاف وهي الأرض الرملية جنوب الجزيرة العربية قرب حضرموت واليمن – أخاهم رسولنا الكريم هوداً فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿65﴾" أيْ ألَاَ تُحْسنون استخدام عقولكم فتكونوا من المُتّقِين؟! أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يعبد الله ولا يَتّقِيه ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿66﴾" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين كفروا من قومه أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا له مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي ما هم فيه نحن نُشاهِد ونَعلم ونُوقِن أنك بالتأكيد في سفاهةٍ أيْ في سَفَهٍ أيْ ضعفِ عقلٍ وتعطيلِ ذِهْنٍ وتسطيحِ فِكْرٍ ورداءةِ رأيٍ بلا حُسْنِ تَعَقّلٍ وتَعَمُّقٍ وتَدَبُّرٍ وتَصَرُّفٍ في الأمور، وكذلك يَغْلِب علي ظننا أنك من الكاذبين في ادِّعائك أنك رسولٌ من عند الله يُوحِي إليك تشريعاته التي تُبَلّغنا بها.. إنهم مِن شِدَّة سُوئهم يَرَوْنَ الذي يعبد الله وحده ويعمل بأخلاق إسلامه الصالح المُصْلِح سَفِيهاً كاذباً فاسداً مُفْسِدَاً!!.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه مِن دِقّة وإنصاف القرآن العظيم تحديد أنَّ الذين قالوا ذلك هم الذين كفروا من الملأ وليس كلهم لأنَّ بعضهم قد آمَنَ بالله تعالي وحَسُنَ إسلامه
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿67﴾" أيْ فصَبَرَ هود ﷺ عليهم – كما صَبَرَ نوح ﷺ علي قومه من قبله – وتَحَمَّل أذاهم وأجابهم بكل عَقْلانِيَّةٍ وحِكْمَةٍ وأدبٍ وحبٍّ لعلهم يُحسنون استخدام عقولهم ويعودون لفطرتهم المسلمة أصلا بداخلها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) قائلا لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي ليس بي أيّ سفاهة كما تَدَّعون عليّ ولكنني مَبْعُوثٌ من ربِّ العالمين – أيْ مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهما من خلال دين الإسلام – لكي أبلغكم الإسلام لتسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فأنا بالتالي إذَن في أعلي درجات الهُدَيَ والصدق ولا يُمكن ولا يُعقل أن أكون في سَفَهٍ وأن يكون ما أدعوكم إليه من عنده سبحانه سَفَهَاً وكذباً وهو يريد هدايتكم لكل خيرٍ وسعادة ثم هو لا يمكن أن يتركني أكذب عليه دون كَشْف كذبي ومَنْعِي بل وإهلاكي ثم أنا أخوكم ومنكم وأنتم مِنّي وتعرفون صِدْقي وأريد مصلحتكم كما أريدها لنفسي والرائد لأمرٍ مَا لا يمكن أبداً أن يكذب علي أهله أو يخدعهم لأنَّ مصيره مرتبط بمصيرهم في النفع والضرر
ومعني "أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴿68﴾" أيْ قال لهم كما قال نوح ﷺ سابقاً وكما يقول كلُّ رسول: ولكني رسولٌ من ربِّ العالمين أرسلني إليكم فأنا أبَلّغكم وَصَايَا ربي ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام والتي أوْحاها إليَّ، وأنا لكم فيما أدعوكم إليه من عبادة أيْ طاعة الله وحده والعمل بكل أخلاق إسلامه ناصح أيْ مُرْشِد لكم لكل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، وأمين أيْ بكل أمانةٍ وصدقٍ دون أيّ خيانةٍ أو كذبٍ أو تغييرٍ أو نُقْصَانٍ فيما طلبه مِنّي بإرساله وتوصيله إليكم.. أبلّغكم بكلّ قدوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، حتي يَسعد الجميع بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فهو ﷺ لا يَكتفي بتبليغها بل يُضيف إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها
ومعني "أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿69﴾" أيْ قال لهم كما قال نوح ﷺ سابقاً.. أيْ وهل اسْتَغْرَبْتُم أنْ وَصَلَكم ذِكْرٌ من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – أيْ كلّ ما يُذَكّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. ".. عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ.." أيْ علي لسان رجلٍ منكم أُرْسِلَ أيْ بُعِثَ إليكم من ربكم ليكون رسولاً أيْ مَبْعُوثاً يكون منكم أيْ بَشَرَاً مثلكم وليس مَلَكَاً، وهذا من رحمات الله بالناس ليكون قُدْوة لهم حيث عرفوا صِدْقه وأمانته لأنه منهم يعيش معهم فيُصَدِّقونه بسهولة ويَثِقُون به ويُطَبِّق هو الإسلام عمليا في واقع الحياة بينهم فيسهل عليهم هم أيضا تطبيقه مثله بينما المَلَك له طاقات ليست مِثْلهم فيُمكنهم أن يَتَحَجَّجُوا بعدم التطبيق أنه لا طاقة لهم مِثْله.. ".. لِيُنْذِرَكُمْ.." أيْ لكي يُنْذركم بهذا الذكْر أيْ يُحَذّركم بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، ولكي يُبَشِّركم كذلك بتمام الخير والسعادة فيهما لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه.. هذا، والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ مَجِيء الذكْر علي رجلٍ منكم أمرٌ لا ينبغي أبداً التَّعَجُّب منه مِن أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! بل هو مِمَّا يستوجب الشكر لربنا، لأنه لإسعادنا ولرحمتنا في دنيانا وأخرانا، لا أنْ نَعْجَب منه ونُكَذّب به ونُعْرِض أيْ نبتعد عنه!!.. ".. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً.." أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي عليهم ليكون ذلك عوْناً لهم علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ وقال لهم علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾، حيث جعلكم خُلَفاء أيْ أتَيْتُم خَلْفَ ومِن وَراء ومِن بَعْد قوم نوح الذين أهلكهم وأزالهم منها بأنْ أغرقهم بالطوفان بسبب كفرهم وعدم اتّباعهم للإسلام وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار لتكونوا أنتم مُسْتَخْلَفِين في الأرض بَعْدهم مُتَمَكّنِين منها تَتصرَّفون فيها وتنتفعون وتسعدون بكل خيراتها – وفي هذا تذكيرٌ أيضا لهم بألاّ يفعلوا مِثْلهم حتي لا ينالوا مصيرهم ويَتعسوا في الداريْن – وحيث زادكم في الخَلْق بَسْطَة أيْ زادكم في المخلوقات سَعَة ووَفْرَة وقوة وضخامة في الأجسام والمُلْك والسلطان والنفوذ والإمكانات.. ".. فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿69﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تَذَكُّر النّعَم وشكرها ليزيدها ويديمها سبحانه.. أيْ فإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم وإذا عرفتم ذلك فبالتالي إذَن إنْ ذَكَرْتم نِعْمَة أنْ جعلكم خُلَفاء من بعد نوح وأنْ زادكم في الخَلْق بَسْطة فاذكروا أيضا كل نِعَم الله الكثيرة الأخري التي لا تُحْصَيَ واشكروها وأعظمها نعمة إرسال الرسل بالإسلام فاشكروه عمليا بإسلامكم لعلكم تفلحون أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من الشاكرين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿70﴾" أيْ قابَلوا دعوته لهم لله وللإسلام بالقُدْوة والحِكمة والموعظة الحسنة بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء حيث قالوا له هل أتَيْتَنَا لكي نعبد الله وحده ونترك ما كان يعبد آباؤنا من آلهةٍ كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها؟!! (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وقالوا له أيضا مُتَحَدِّين مُسْتَهْزِئين مُسْتَعْجِلين مُسْتَبْعِدين عذابَ الله أنّنا مُصِرّون مُستمرّون علي ما نحن فيه ولو كنتَ صادقاً فيما تدَّعِيه كذبا وزُورَاً فأحْضِر لنا الآن هذا الذي تَعِدُنا به من العذاب الدنيويّ، أو الأخرويّ كما تَدَّعِي أنَّ هناك آخرة والتي لا نُصَدِّق بها أصلا!
ومعني "قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿71﴾" أيْ قال هود لقومه قد حقَّ ووَجَبَ عليكم من عند ربكم رجس أي مُسْتَقْذَر أيْ شّرّ وعذاب دنيويّ وأخرويّ.. وغضب فلا يُحِبّكم ولا يُوفّقكم ولا يُيَسِّر لكم أموركم – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المَثَل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ اسْتَحَقّوا شِدَّة كراهيته لأفعالهم وانتقامه منهم بعقابهم إضافة لِلَعْنَتِه لهم أيْ طَرْدهم من رحمته ورعايته وأمنه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده، وهذا الغضب يكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم أولا يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم .. وهذا الرجس والغضب لا بُدّ حتماً أن يقع ويَحْدُث وعليهم أن يَتَوَقّعوه في أيِّ وقتٍ بسبب إصرارهم على التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء واستمرارهم علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.." أيْ قال لهم هود بكلّ قوّةٍ وثِقَةٍ وطمأنينةٍ هل تُجَادِلونني – والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءاً إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم – في أسماءٍ سَمَّيْتُموها أي في أصنامٍ سَمّيتموها أنتم وآباؤكم آلهة؟! عبدتموها وغيرها من الآلهة غير الله تعالي والتي ما هي إلا عِبَارَة عن مجرّد فقط أسماء وليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القدرة والعلم والرزق ونحو ذلك لكنكم أنتم وآباؤكم الذين سمَّيتموها آلهة من عند أنفسكم دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمور هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليكم، ولا توجد عندكم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي يقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح!!.. هذا، والاستفهام والسؤال في هذا الجزء من الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴿71﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإني والمؤمنون معي من المُنتظرين معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴿72﴾" أيْ فوَقَعَ عذابنا فأنجينا هوداً هو والذين معه من المؤمنين أيْ المُصَدِّقين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، برَحَمَاتنا ونِعَمِنا وأفضالنا التي لا تُحْصَيَ، وقطعنا دابِرَ القوم الذين كذّبوا بآياتنا، ومعني دابر أيْ آخر، والدُّبُر هو المُؤَخّرة، أيْ فأبَدْنَاهم جميعاً عن آخرهم بحيث لم نُبْقِ منهم أحداً وانتهي أمرهم بعذابٍ مناسبٍ مُهْلِكٍ لهم دنيويّ قبل الأخرويّ، والذين كذّبوا بآياتنا هم الذين لم يُصَدِّقوا بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسولنا أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبنا وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴿72﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تكذيبهم، أيْ كانوا مُكَذّبين وما كانوا أبداً مُصَدِّقين بل مُصِرِّين علي التكذيب مُسْتَمِرِّين عليه.. وفي هذا أيضا تنبيهٌ على أنَّ الإيمان هو الفارق بين النجاة والسعادة في الداريْن وبين الهلاك والتعاسة فيهما
ومعني "وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿73﴾" أيْ وكما أرسلنا نوحاً وهوداً إلى قومهما لكي يَدْعُوَا إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قوم ثمود – وهم الذين كانوا يعيشون شمال الجزيرة العربية في منطقة الحِجْر التي تقع بينها وبين الشام – أخاهم رسولنا الكريم صالحا فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.." أيْ قد وَصَلَتْكم مُعْجِزَة واضِحَة الدلالة من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – تُبَيِّن لكم صِدْق أني رسولٌ من عنده مُؤَيَّدٌ منه وتَدُلّ علي صِدْق ما أدعوكم إليه من إسلام.. ".. هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً.." أيْ هذا توضيحٌ لهذه البَيِّنَة.. أيْ هذه التي تَرَوْنها وأُشِيرُ إليها هي ناقة الله والتي جعلها سبحانه لكم آية أيْ علامة لكم على صِدْقِى.. وقد أضاف في كلامه الناقة إلى الله لتعظيم شأنها حتي لا يَتَجَرَّأ أحدٌ بالاعتداء عليها ولأنه سبحانه خَلَقَها بصورةٍ مختلفةٍ في صفاتها عن بقية النّوق حيث هي خَرَجَت من هضبةٍ وصخرةٍ كانوا قد سألوه إخراجها منها كمُعجزةٍ لتَدُلّ علي صِدْقه حتي يَتَّبعوه، ولأنها كانت كأنها عاقلة بإلهامٍ منه تعالي حيث تأتي في وقتٍ مُحَدَّدٍ للرعي وللشرب وتترك لهم أوقاتاً أخري يرعون هم فيها دوابهم.. ".. فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿73﴾" أيْ ولكوْنها آية عظيمة فعَظّموها بالتالي إذَن فذروها أيْ فاتركوها تأكل في أرض الله حيث هي ناقته والأرض أرضه ولا تلمسوها بأيِّ أذي فيُصيبكم بسبب ذلك عذابٌ مؤلمٌ مُوجِعٌ شديدٌ في دنياكم وأخراكم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم من أيِّ اعتداءٍ عليها بأيِّ صورةٍ من الصور
ومعني "وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿74﴾" أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي عليهم ليكون ذلك عوْناً لهم علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ وقال لهم علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾، حيث جعلكم خُلَفاء أيْ أتَيْتُم خَلْفَ ومِن وَراء ومِن بَعْد قوم عادٍ الذين أهلكهم وأزالهم منها بسبب كفرهم وعدم اتّباعهم للإسلام وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار لتكونوا أنتم مُسْتَخْلَفِين في الأرض بَعْدهم مُتَمَكّنِين منها تَتصرَّفون فيها وتنتفعون وتسعدون بكل خيراتها – وفي هذا تذكيرٌ أيضا لهم بألاّ يفعلوا مِثْلهم حتي لا ينالوا مصيرهم ويَتعسوا في الداريْن – وبَوَّأكم في الأرض أيْ مَكّنكم فيها وسَهَّل لكم كل الأسباب التي توصلكم إلي ما تريدون من منافع وسعادات فتَبْنون بتيسيره وعوْنه وفضله ورزقه في سهولها قصوراً فخمة جميلة وتنحتون الجبال فتجعلون منها بيوتاً آمِنَة حَصِينَة تسكنونها فأنتم إذَن في رفاهِية مُتَنَوِّعَة وَفِيرَة.. ".. فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿74﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تَذَكُّر النّعَم وشكرها ليزيدها ويديمها سبحانه.. أيْ فإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم وإذا عرفتم ذلك فبالتالي إذَن إنْ ذَكَرْتم نِعْمَة أنْ جعلكم خُلَفاء من بعد عادٍ وأنْ بَوَّأكم في الأرض فاذكروا أيضا كل نِعَم الله الكثيرة الأخري التي لا تُحْصَيَ واشكروها وأعظمها نعمة إرسال الرسل بالإسلام فاشكروه عمليا بإسلامكم، ولا تَعْثوا في الأرض مُفسدين أيْ وإيَّاكم والعَثْو وهو الإفساد ونَشْر الشَّرِّ في الأرض بكل صُوَرِه المادية والنفسية فتَسيرون فيها مُفْسِدين لكلِّ شيءٍ مُسْتَخْدِمِين هذه النِّعَم فيتعس الجميع في دنياهم وأخراهم ولكنْ استخدموها في كل خيرٍ لتسعدوا فيهما
ومعني "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿75﴾" أيْ قال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين استكبروا من قومه أيْ اسْتَعْلُوا علي الإيمان واتّباع أخلاق الإسلام والتي تسعدهم في دنياهم وأخراهم واستهزأَوا فلم يَستجيبوا لها فكانوا بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين الذين تعالَوْا علي الله وعلي رسوله فلم يُطيعوا بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَسْتَرِدُّوا حقوقهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذها، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا لمَن آمَنَ من الذين استضعفوهم واستهانوا بهم لقِلّة مَكانتهم وممتلكاتهم حيث هذا هو مقياسهم الذي يَقيسون به قيمة الأشخاص وقد كان المُسْتَضْعَفون منهم مؤمنون ومنهم كافرون فخاطَبوا المُستضعفين المؤمنين فقط قائلين لهم مُسْتَعْلِين عليهم ساخرين منهم مُشَكّكين لائِمِين مُهَدِّدِين لهم هل تعتقدون بحقّ أنَّ صالحاً مُرْسَلٌ من ربه إلينا؟.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه مِن دِقّة وإنصاف القرآن العظيم تحديد أنَّ الذين قالوا ذلك هم الذين استكبروا من الملأ وليس كلهم لأنَّ بعضهم قد آمَنَ بالله تعالي وحَسُنَ إسلامه.. ".. قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿75﴾" أيْ فأجابوهم بكل حَسْمٍ ووضوحٍ واستعدادٍ لتَحَمُّل ما قد يحدث لهم مُستعينين بربهم – وهذا هو حال المؤمنين في كل عصر – نحن مُصَدِّقون بما أرسله الله به مُتَّبِعُون لشَرْعه الإسلام
ومعني "قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿76﴾" أيْ قال الذين اسْتَعْلوا بكل تَكَبُّرٍ وغرورٍ وعِنادٍ وإعلانٍ لتكذيبهم وإصرارٍ علي سُوئهم نحن بالذي صَدَّقتم به – وهو ما أُرْسِلَ به رسولهم الكريم صالح ﷺ ويدعو إليه من عبادة الله تعالي وحده واتّباع شَرْعه الإسلام – مُكَذّبون به غير مُتّبِعِين له
ومعني "فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿77﴾" أيْ فذبحوا الناقة التي كانت آية عظيمة لهم مُتَحَدِّين بذلك الله تعالي ورسوله ﷺ مُعْلِنِين حربهم عليهما مُسْتَكْبِرين مُعانِدين مُكَذّبين مُسْتَخِفّين بتحذير رسولهم الشديد لهم أن يمسوها بسوءٍ فيأخذهم بسبب ذلك عذاب أليم، وعَتَوْا بذلك عن أمر ربهم أي وتَكَبَّروا وظلموا وخالَفوا أمر الله وهو اتِّباع الإسلام وعصوه وتركوه واستهانوا به وتَمَرَّدوا عليه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصرّوا تمام الإصرار عليها، وقالوا يا صالح مُنَادِينَ إيّاه باسمه بدلاً أن يقولوا يا رسول الله تكذيباً له وتقليلاً من شأنه وتَرَفّعَاً عليه – مُتَحَدِّين مُسْتَهْزِئين مُسْتَعْجِلين مُسْتَبْعِدين عذابَ الله مُتَبَجِّحِين أنهم مُصِرّون مُستمرّون علي ما هم فيه – أحْضِر لنا الآن هذا الذي تَعِدُنا به من العذاب الدنيويّ، أو الأخرويّ كما تَدَّعِي أنَّ هناك آخرة والتي لا نُصَدِّق بها أصلا! إنْ كنتَ صادقاً فيما تدَّعِيه كذباً وزُورَاً أنك من المُرْسَلِين أيْ المَبْعُوثين من عند إلاهِك!
ومعني "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿78﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أخذتهم الرَّجْفَة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، والرَّجْفَة هي الزلزلة والصَّيْحَة الشديدة المُدَمِّرة، فأصبحوا في بلدهم وبيوتهم جاثمين أيْ بارِكين علي رُكَبهم كالإبل هامِدين مَيِّتين مَذلولين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴿79﴾" أيْ فابْتَعَدَ عنهم وقال مُخَاطِبَاً لهم ذامَّاً إيّاهم بعدما أهلكهم اللّه تعالي بعذابه ليكون خطابه عِبْرَة لغيرهم ليَتَّعِظوا فلا يَفعلوا فِعْلهم ليَسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا مِثْلهم فيهما، أو قال ذلك الخطاب قبل هلاكهم تاركِاً إيّاهم للمصير الذي أوقعوا فيه أنفسهم باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم بسبب مُخالفتهم شرع الله الإسلام ومُحاولتهم مُحارَبته مُتَحَسِّرَاً على ما فاتهم من الإيمان والسعادة يا قوم لقد أبلغتكم أيْ أوْصَلت لكم رسالة ربي أيْ وصَايَاه ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام كاملة غير مَنْقُوصَة، ونصحت لكم أيْ وأرْشدتكم إلى كل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة، حتي تسعدوا بها تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فلم أقْتَصِر علي تبليغها بل أضفتُ إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها بالترغيب وبالترهيب حسبما يُناسبكم، ولكنْ مِن شِدَّة إصراركم علي سُوئِكم واستعلائكم وعِنادكم وفسادكم وإغلاقكم لعقولكم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة وَصَلْتُم إلي مرحلة أنكم لا تُحِبّون مَن ينصحكم ولا تَسمعون ولا تَقبلون نُصْحه لكم للخير وللسعادة وأصبح شأنكم الاستمرار على كُرْهِهم وعداوتهم وعدم اتّباع نصائحهم المُسْعِدَة والسَّيْر خَلْف أهوائكم المُتْعِسَة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿80﴾" أيْ واذكر يا رسولنا الكريم محمد ﷺ ويا كل مسلم ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس ما حدث للآخرين لكي يَتَّعِظ فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه، اذكر حين قال رسولنا الكريم لوط ﷺ لقومه ناصحا ولائما لوْما شديدا علي أنهم يأتون أي يفعلون فاحشة أي شرّا فظيعا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً لهم ولغيرهم ما فعلها أيّ أحدٍ من الناس السابقين ولكنْ فعلوها هم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴿81﴾" أيْ هذا توضيحٌ لهذه الفاحشة.. أيْ إنكم تُضاجِعُون وتُجامِعُون الرجال في أدْبَارهم وتشتهونهم بدلاً من أزواجكم النساء، وهو فُحْش لم يفعله أحدٌ قبلكم ولا حتي الحيوان!.. ".. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴿81﴾" أيْ ليس الأمر أنكم تأتون الفاحشة استثناءً ثم تتركونها وتتوبون إلي الله منها بل أنتم قوم مُسرفون فيها أيْ مُتَجاوِزون لحدود الله مُتَجَرِّئون علي ما حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس مُتَعَدّون علي الفطرة التي ترفض هذا وعلي كل معقولٍ حيث فِعْلكم يَرْفضه كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ مُكْثِرون مُبَالِغُون في فِعْل الشرور والمّفاسد والأضرار والتعاسات لا تقفون عند حدٍّ لها ولا تفعلونها عن خطأٍ أو نسيانٍ أو جَهْلٍ بحيث قد يكون لكم بعض عُذْرٍ تعتذرون به بل عن علمٍ وعَمْدٍ وإصرار
ومعني "وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴿82﴾" أيْ ولم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم لوط ﷺ ، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه! لقد تَصَرَّفوا تَصَرُّفَاً يدلّ علي مَدَيَ ما وصلوا إليه من شرٍّ وتَبَجُّحٍ وإصرارٍ وخَبَلٍ حيث قال بعضهم لبعضٍ أخرجوا واطردوا لوطاً ومَن آمن معه بالإسلام من قريتكم، وعَلّلوا وبَرَّرُوا ذلك بأنهم أناس يَتَطَهَّرون!! فهذه جريمتهم!! يَتنظّفون ويَتَعَفّفون فلا يَفعلون مِثْلهم!! إنهم مِن شِدَّة شَرِّهم وإغلاقهم لعقولهم قد قَلَبُوا الحقائق فأصبح عندهم الخير شرَّاً والشرّ خيرا!! إنهم يَسْخَرون من طهارتهم ولا يطيقون أن يبقي بينهم طاهراً أخلاقِيَّاً يُذَكّرهم بالطهر والأخلاق فهم لا يُبقون معهم إلا مَن كان مِثْلهم قَذِرَاً لا أخلاقياً مُنْغَمِسَاً في كلّ سوء!!
ومعني "فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿83﴾" أيْ فوَقَعَ عذابنا فأنجينا لوطاً هو وأهله، والمقصود بأهله أسرته المؤمنة والمؤمنين به أيْ المُصَدِّقين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، أنجيناهم برَحَمَاتنا ونِعَمِنا وأفضالنا التي لا تُحْصَيَ، إلا امرأته كانت من الغابرين أي الباقين في العذاب فلم نُنْجِها لأنها كانت من الكافرين بالله ومُؤَيِّدَة ومُعِينَة لمُرْتكبي الفواحش
ومعني "وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴿84﴾" أيْ وأنزلنا عليهم مطراً من السماء لم يكن ماءً بل كان – كما جاء في آيات أخري – حجارة صلبة شديدة مُلْتَهِبَة جاءت بأعلي ما في بيوتهم من الأسقف إلي الأسفل علي رؤوس مَن فيها فدَمَّرتهم جميعا، فكان عقاباً مناسباً لجرائمهم الشنيعة حيث قَلَبُوا أوضاع الأخلاق فقَلَبَ الله عليهم بلدهم بل وحياتهم كلها.. ".. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴿84﴾" أيْ فانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المجرمين – وهم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المجرمين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ﴾، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿85﴾" أيْ وكما أرسلنا نوحاً وهوداً وصالحاً إلى قومهم لكي يَدْعُوا إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قبيلة مدين – وهم الذين كانوا يعيشون جنوب الشام – أخاهم رسولنا الكريم شعيباً فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.." أيْ قد وَصَلَتْكم مُعْجِزَة واضِحَة الدلالة من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – تُبَيِّن لكم صِدْق أني رسولٌ من عنده مُؤَيَّدٌ منه وتَدُلّ علي صِدْق ما أدعوكم إليه من إسلام.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ القرآن الكريم لم يَذكر آية مُحَدَّدَة خاصة بالرسول الكريم شعيب ﷺ ، فليست كل مُعجزات تأييد الرسل الكرام مَذكورة.. ".. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم فعليكم بالتالي إذَن أن تتِمّوا الكيل إذا كِلْتُم للناس أو اكْتَلْتُم عليهم لأنفسكم، وتتِمّوا الميزان إذا وزنتم لغيركم فيما تبيعون أو لأنفسكم فيما تشترون، بالعدل بلا زيادةٍ أو نقصان، بحيث يُعْطَىَ صاحب الحقّ حقّه وَافِيَاً أيْ كاملاً تامَّاً من غير انتقاصٍ ويأخذ صاحب الحقّ حقّه من غير طَلَبِ ازدياد، والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف.. فإنْ خَالَفْتم ذلك فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم.. والمقصود إعطاء الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقٍّ لهم سواء أكان ماديا أم معنويا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خداعٍ أو غِشّ.. إنه بانتشار حفظ الحقوق كاملة ينتشر الأمن بين الناس ويَقوون ويَرْقون ويزدهرون ويتطوَّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بإنقاصها وأكلها والتفريط فيها يفقدون أمانهم ويتنازعون ويضعفون ويَتخلّفون ويتعسون فيهما.. ".. وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإيفاء بكل الحقوق وتعميمها لتشملها كلها وليس في الكيْل والميزان فقط.. أيْ ولا تُقَلّلوا للناس قيمة أشياءهم التي يملكونها سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، في كل شئون حياتهم، صَغُرَت أم كَبُرَت، فتنقصوهم حقوقهم فتظلموهم.. ".. وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.." أيْ وامتنعوا تماما أيها الناس عن الإفساد في الأرض أينما تَوَاجَدتم بفِعْل ونَشْر الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بكل أشكالها وصورها ودرجاتها، والفساد هو فِعْل ما يَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الدنيا والآخرة وهو عكس الصلاح الذي هو فِعْل ما ينفعهما ويسعدهما فيهما، فإنه بالخير يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالفساد والشرّ يتعسون حتما فيهما.. ".. بَعْدَ إِصْلَاحِهَا.." أيْ بعد إصلاح الله إيَّاها بنظام وأخلاق الإسلام الذي أرسله لكم في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أوحاها لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ ليُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في الداريْن.. لقد خلق الله تعالي الأرض في الأصل صالحة، وللصلاح، أيْ للسعادة فيها وللانتفاع التامّ بخيراتها، ولن يتمَّ ذلك علي أكمل وجهٍ إلا بما شَرَعه لتنظيمها وحُسْن إدارتها، أيْ بالإسلام، لأنه هو العالِم بخَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُسعدهم، فلا تفسدوها باتّباع نظام غيره مُخَالِف له فتتعسوا.. هذا، والإفساد ضَرَرٌ وتعاسة سواء بعد الإصلاح أو في الفساد ولكنه بعد الإصلاح أشدّ فظاعة وسوءاً وضرراً وتعاسة من الإفساد على الإفساد، فإنَّ وجود الإصلاح أكبر حُجَّة على المُفْسِد إذا هو لم يحفظه ويسير عليه فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟! لقد بذل بالتأكيد فساداً كبيراً لكي يُحَقّق ذلك ولذا فلا عذر له في فساده بل عقابه أشدّ في الداريْن! ولهذا خَصَّ الله تعالي بالذكر والتنبيه والتحذير الإفساد بعد الإصلاح.. ".. ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿85﴾" أيْ هذا كله الذي أوُصِيكم به من أخلاق الإسلام هو حتماً خير لكم في دنياكم وأخراكم لأنه يصلحكم ويكملكم ويسعدكم تمام السعادة فيهما فسارعوا بالاستجابة لي إنْ كنتم مُصَدِّقين ما أقوله لكم ومُنتفعين بهذا الخير الذي أرْسِلْتُ به إليكم من ربكم.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿86﴾" أيْ ولا تَجْلِسوا وتَقِفوا وتَتَوَاجَدوا بكل طريقٍ من طرق السَّيْر تُهَدِّدون وتُخيفون الناس بأخذ ممتلكاتهم أو إيذائهم أو قتلهم أو فرض ضرائب عليهم أو ما شابه هذا من أفعال قُطّاع الطرق ولا تقعدوا أيضا بكل طريق من طرق الوصول لطاعة الله ولمعرفة الإسلام وللعمل الصالح توعدون وتصدون عن سبيل الله أيْ تُهَدِّدون وتَمنعون عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، مَن آمَنَ به أيْ صَدَّقَ بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّك وعمل بكل أخلاق إسلامه؟!.. تَصُدُّونه قَدْر استطاعتكم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا.." أيْ وتُريدون لها اعْوِجَاجَاً، أي تريدون جَعْل سبيل الله، أيْ شريعته، وهي الإسلام، مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة عن الحقّ والخير بمحاولاتٍ يائسةٍ بتحريفها وتكذيب ما فيها، حتي لا يتبعها أحد، ولن يحدث ذلك أبداً لأنه تعالي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ﴿الحجر:9﴾، وكذلك تريدون للحياة الدنيا كلها الاعوجاج والانحراف والفساد، وأيضا لن تستطيعوا، حينما يتمسَّك ويعمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ.." أيْ هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي عليهم ليكون ذلك عوْناً لهم علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ وقال لهم علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾، حيث كنتم سابقاً قليلاً في العدد مُسْتَضْعَفِين فقراء لا قيمة ولا وزن ولا تأثير لكم فكثَّركم فأصبحتم شعباً أقوياء عزيزين مُتَمَتّعين بكثيرٍ من الأرزاق والقوَيَ والصحة والأموال والمُمتلكات والذرِّيَّات وغيرها ولم يُصبكم بما يُضعفكم ويُقَلّلكم من أمراضٍ وحروب ونحوها.. ".. وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿86﴾" أيْ وانظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كانت عاقبة أيْ نهاية ونتيجة سوء عمل المُفسدين – أيْ الفاعلين لكل أنواع الشرّ المُضِرّ المُتْعِس الذين لا يقومون بأيِّ إصلاحٍ ينفع الآخرين ويسعدهم الذين يرتكبون المَفاسد بأنواعها المختلفة سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كأمطار وعواصف وزلازل وغيرها؟!.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم.. إنَّ المُفسدين في الدنيا يكون لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة يكون لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ﴾، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيَفعل كلّ خيرٍ وليترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها
ومعني "وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿87﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ وتهديدٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وإنْ كان مجموعة منكم صَدَّقوا بالذي أرسلني الله به إليكم لتَعبدوه أيْ تطيعوه وحده وتعملوا بأخلاق إسلامه فاتّبَعُوني علي هذا ومجموعة أخري لم تُصَدِّق بذلك فعَبَدَت غيره تعالي وخَالَفَت الإسلام ففَعَلَت الشرور والمَفاسد والأضرار، فنحن بالتالي مُتخاصمين نحتاج إلي مَن يَحكم ويَفصل بيننا فانتظروا إذَن حتي يحكم الله بيننا وبينكم بحُكْمه العادل لنُشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة.. ".. وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿87﴾" أيْ أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! لأنه يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك