الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُسْتَطَاعَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب الرزق والنصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لتمام قُدْرته تعالي وكمال عِلْمه – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة – ومزيدٌ من بيان واسع رحمته وكرمه وفضله وبعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة يونس، للشرح والتفصيل).. أيْ وليس هناك أيّ دابةٍ في الأرض وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك عليها وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه إلاّ علي الله وحده برحماته وأفضاله التي لا تُحْصَيَ توفير رزقها المُناسِب لها الذي تحتاجه من كل غذاءٍ وقوَي وقُدْراتٍ وإمكاناتٍ وعلاقاتٍ ونحوها في مختلف البيئات بإيجاده لها وتعليمها كيف تحصل عليه بما يُؤَهِّلها لأداء مهمتها في الحياة وتكون كلها مُسَخَّرَة لمَنْفَعَة ولسعادة الإنسان.. ".. وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا.." أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ويعلم سبحانه حتماً مكان استقرارها وسكنها وتحرّكها أثناء حياتها والمَقَرّ الذي خُلِقَت فيه وهو رَحِم أمها، والمكان الذي تُودَع فيه أيْ تُوضَع وتُحْفَظ بعد موتها، ثم المُسْتَقَرّ والمُسْتَوْدَع النهائيّ للنفس الإنسانية في الآخرة حيث السعادة التامّة الخالدة في جناتٍ لا يُوصَف نعيمها لمَن أحسنَ والتعاسة التامّة في نيران لا يُوصَف عذابها لمَن أساء.. ".. كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره وعلي إحاطة ودِقّة علمه تعالي بكل شيء.. أيْ كل ذلك يعلمه سبحانه علماً تامَّاً شامِلاً وهو مكتوبٌ مُثْبَتٌ مَحْفُوظ في كتابٍ واضِحٍ وهو اللوح المَحْفُوط أيْ الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مُشْتَمِل على كل ما يَحْدُث في العالم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا فهمتَ قصة الحياة وسبب الخِلْقَة (برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لتمام قُدْرته تعالي وكمال عِلْمه – إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة – ومزيدٌ من بيان بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ والله تعالي هو وحده الذي خَلَقَ أيْ أوْجَدَ من عدمٍ كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَمٍ وخَيْرات، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان، في ستة أيام، قد تكون مثل أيام البَشَر أو غيرها، فهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون كما يريد، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن.. ".. وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.." أيْ وكان عرش الله تعالي على الماء قبل خَلْقهما، أيْ ومن قبل ذلك لم يكن الوجود أكثر من عالَم الماء ومِن فوقه عرشه وهو كُرْسِيّ الحُكْم والمُلك والذي لا يعلم وَصْفه وعظمته إلا هو سبحانه، أيْ كان الله جَلَّ وعَلاَ وحده ثم خَلَقَ العَرْشَ ثم الماء ثم السماوات والأرض.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تذكيرٌ للناس بعظيم خَلْق السماوات والأرض وما فيهما وبأهمية الماء ومُعْجِزَة خَلْق كل مخلوقٍ حيٍّ منه وذلك ليَتَدَبَّروا أنه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر وللتّوَكّل عليه.. ".. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.." أيْ انْتَبِهُوا تماما أيها الناس أنه ليس خَلْق كلّ هذا هو لمجرد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد ودون أيّ حِكْمَة وأنَّ الحياة الدنيا ستَنتهي هكذا بكلّ عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جَدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم حينما ترجعون إلينا في الحياة الآخرة بعد بَعْثكم أيْ إحيائكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم، فلا يُمكن أن يَفعل ذلك الله سبحانه الذي تعالَيَ وارتفعَ عن كل صفةٍ لا تَلِيق حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وإنما خَلَقَ السماوات والأرض والموت والحياة بهذا النظام وأرسل لكم نظامه في الإسلام مع رسله ليُنَظّمها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ، ليَبلوكم أيْ ليَختبركم، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، ( 15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة).. ".. وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)" أيْ هذا بيانٌ لأحوال الناس أمام هذا الاختبار حيث منهم مَن يُحْسِن استخدام عقله فيُؤمِن فيُحْسِن قوله وعمله فيَسعد في الداريْن ومنهم مَن يُسِيء استخدامه ويغْلقه فيَكفر فيُسيء فيَتعس فيهما.. أيْ ورغم كل هذه الدلالات القاطِعَات السابق ذِكْرها علي كمال عِلْمه وتمام قُدْرته سبحانه علي كل شيءٍ والتي منها إحياء الموتي ببَعْثهم بعد موتهم حيث الخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قدْر ما تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته! رغم كل هذا، إنْ قلتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للكافرين المُكَذّبين بوجود الله وبكتبه ورسله وبالآخرة وبالبعث والحساب والعقاب والجنة والنار ولذلك يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، إذا قلت لهم مُؤَكّدَاً إنكم ستُبْعَثون أيْ سيُعاد خَلْقكم بأجسادكم وأرواحكم من بعد موتكم وكوْنكم تراباً في قبوركم كما خَلَقَكم الله أول مرّة من عدمٍ وذلك يوم القيامة للحساب علي أقوالكم وأعمالكم في دنياكم سيقول هؤلاء الذين كفروا مُؤَكّدين مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين ما هذا الذي تقوله عن البَعْث وما هذا القرآن الذي فيه كل ما تُخْبرنا به إلاّ سِحْرٌ مُبين أيْ إلاّ سِحْر واضح أيْ ليس وَحْيَاً مِن الله تعالي ليُسعد البشرية في الداريْن، وإنما هو سِحْر يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وليس من الله وأنك ساحر لا رسول يُوحَيَ إليك.. وهم في ذلك بكل تأكيدٍ كاذبون أشدّ الكذب لأنه إذا كان الإسلام سحراً والرسول الذي يأتي به ساحر، كما يَدَّعون كذبا وزورا، فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُسْلِموا مثلما أسلمَ الآخرون؟! إنَّ هذا يدلّ حتماً علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه من إغلاقٍ لعقولهم وعدم إيمانهم رغم كل الأدِلّة الواضحة التي لا يمكن رفضها من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)" أيْ وإذا أَجَّلْنا عن أمثال هؤلاء الكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم العذاب الدنيويّ إلي فترةٍ مَحْدُودَةٍ يُمكن عَدّها – رغم استحقاقهم له لإصرارهم التامّ علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بلا أيِّ توبةٍ ورجوعٍ لربهم ولإسلامهم – لحِكْمةٍ مَا، لكي نُمْهلهم لكن دون أن نهملهم أيْ نتركهم من رحمتنا لمُهْلَةٍ لعلهم يتوبون ويعودون للحقّ وللخير وللسعادة، أو نتركهم ليزدادوا إثماً إذا ظلّوا شديدي الإصرار علي سُوئهم فيكون عذابهم شديداً علي قَدْره مِن شِدَّة غضبنا عليهم، أو لغير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا نحن لتحقيق مصالح خَلْقِنا (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. ".. لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ.." سيَقولون ما يَمنعه عنّا الآن إنْ كان صِدْقا؟! وما الذي يمنع قيام الآخرة ومَجيء عذاب نارها إنْ كان أيضا حقّا؟! بصورةٍ فيها تكذيب واستكبار واستهزاء واستهتار وتَحَدِّي وطَلَب سرعة إنزال عذاب الله بهم الذي يعدهم به في القرآن العظيم علي لسان رسوله الكريم (ص) والمسلمون من بعده إنْ كان صادقاً فإنْ لم يَحدث فهو إذَن كاذب والمسلمون كاذبون! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا في كلامه ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره.. ".. أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)" أيْ حين يَصِلهم، وكل مَا هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّموا بُعْدَه، سواء العذاب الدنيويّ أو الأخرويّ، ليس مَدْفُوعَاً مُبْعَدَاً عنهم، أيْ لن يَصْرِفه أيْ يَدْفعه ويُذْهِبه ويُبْعِده ويُحَوِّله أيُّ صارفٍ أو دافِعٍ بأيِّ حالٍ من الأحوال وشكلٍ من الأشكال، وسيُحيق أيْ يُحيط بهم من كل جانبٍ بسبب استهزائهم به وتكذيبهم لمَن حَذّرهم منه.. إنه قد حاقَ بهم العذاب المُوجِع المُهين المُستمرّ المُتَنَوِّع الذي كانوا في حياتهم الدنيا يَسخرون منه ومِمَّن يُحَذّرهم مِن حُدُوثه وشِدّته، وهو عذاب في الدنيا أولاً بدرجةٍ ما مِن الدرجات كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة سيُحيط بهم حتما ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً مؤمناً صابراً شاكراً مُتَفَائِلاً وليس أبداً كافراً غيرَ صابرٍ غيرَ شاكرٍ يائِسَا.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا)، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فتَدعو أو تعتصم أي تتحَصَّن بغيره وتَلجأ له مُتَيَقّنا أنه هو الذي سيُنجيك – وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينك أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك) – ثم إيّاك وإيّاك بعد أن يُعينك الله برحماته وتيسيراته علي المرور والخروج والنجاة من هذه الأزمة، وأيّ أزمة أنت فيها، حينما لجأتَ إليه واعتصمتَ به، أن تبتعد عن ربك ودينك وتعود إلي شرٍّ ما كنت عليه أو تكفر بنِعَم ربك عليك أي تكذبها ولا تعترف بها وتَنْسبها لغيره، أو تفعل كما يفعل بعض السَّيِّئين فيكفر بوجود الله أصلا أو يُشرك معه في العبادة شيئا آخر كصنمٍ أو حجر أو غيره أو ما شابه هذا من صور الخِسَّة والسوء
هذا، ومعني "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)"، "وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)" أيْ هذا بيانٌ للإنسان الذي لا يَصْبِر عند المصيبة كما في الآية (9) ولا يَشكر عند النعمة كما في الآية (10)، وذلك لكي لا يَتَشَبَّه به أيُّ أحدٍ حتي لا يتعس كتعاساته في دنياه وأخراه.. أيْ وإذا رحمنا الإنسان البعيد عن ربه وإسلامه بدرجةٍ من الدرجات، حتي ولو كان مسلما، إضافة إلي الإنسان الكافر المُكَذّب المُعَانِد المُسْتَكْبِر المُستهزيء ومَن يَتَشَبَّه به، برحمتنا التي وَسِعَت كلّ شيء، وأعطيناه خيراً مَا، في صحته أو أمواله أو أعماله أو علاقاته أو ما شابه هذا، ثم أخذناها منه، لحكمةٍ مَا، لمصلحته وغيره، لاختباره مثلاً ليَخرج مُستفيداً خبراتٍ مُسْعِداتٍ مستقبلا، أو لسوء استخدامه لها حيث استخدمها في الشرِّ لا الخير ليستفيق ويعود لربه ولإسلامه، أو نحو ذلك مِن حِكَمٍ ومصالح لا يعلمها إلا نحن بكمال علمنا، إنه حينها في هذه الحالة، حين تُنْزَع وتُؤْخَذ منه، يَئُوسٌ أيْ كثير شديد اليأس أيْ انقطاع الأمل بعقله في الحصول علي أيِّ خيرٍ مستقبليّ يريده أو التخلّص من الشرّ الذي نَزَلَ به، بما يدلّ علي شدّة حزنه وخوفه وفقدانه أيّ رجاء في رحمات الله وأفضاله بسبب بُعْدِه عنه وعن دينه الإسلام.. وهو كفورٌ أيْ كثير الكفر لِنِعَم الله أيْ عدم الاعتراف بها وشكرها وحُسْن استخدامها والتي لا زالت عنده يَتَمَتّع بها ولا تُحْصَيَ وكأنه لم يمنحه خيراً سابقاً أبداً ولن يمنحه شيئاً مستقبلاً بل قد يكفر بوجود الله أصلا.. "وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)" أيْ وإذا رحمنا هذا الإنسان السابق ذِكْره برحمتنا التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وأعطيناه نعمة واسعة وخيراً مَا كثيراً وفيراً بعد ضَرَرٍ وشرٍّ كان قد مسّه أيْ أصابه في صحته أو ماله أو عمله أو أحبابه أو ما شابه هذا، يقول في هذه الحالة مُؤَكِّدَاً مُتَبَجِّحَاً بكل تَكَبُّرٍ وغرورٍ زالَ كل المُسِيئات والمُصِيبات والمُضِرَّات عنّي التي تَسُوؤني ولن تعود إليَّ!.. إنه يقول ذلك علي سبيل الغرور والتكبّر وعدم الاعتراف بنِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ عليه وبَدَلَ أن يشكره يقول أنَّ هذا الذي أُعْطِيته وأُذْهِب عنّي هو حقّ لي أستحِقّه وقد جاءني بسبب جهدي وعلمي وفكري وتخطيطي!! فهو لا يعتبره من فضل الله الرزّاق الوهّاب وتيسيره لأسبابه وتوفيقه لها وعوْنه عليها!! وهذا هو حال مِثْل هذا المُسِيء البعيد عن خالق الخَلْق ومُدَبِّر أمورهم ومُعينهم ومُوَفقهم بما يُسعدهم!! وهذا هو حال المُغْتَرّ الفخور المُتَعالِي بما عنده – والذي علي كل مسلم مُتمسّك عامِل بكلّ أخلاق إسلامه أن يتجنّبه تماما – مِن شدّة جهله وتكبّره وغروره وجرأته علي ربه وقوله عليه بغير علمٍ وتعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره وذمٌّ شديدٌ له حيث بسبب ذلك اتّصَفَ بصِفَةٍ غاية في السوء وهي إنه فَرِحٌ فخورٌ علي الناس بما أنعم الله عليه بَدَلاً أن يشكره بحُسْن استخدام نِعَمه في كل خيرٍ له ولهم، والإنسان الفَرِح الفخور هو الذي كثيراً يَفرح فَرَحَاً سَيِّئاً وهو السرور الذي يُؤدّي إلي التفاخُر والتباهِي والتكبّر والتعالِي علي الناس بما يمتلكه من قوَي صحية وعقلية ومالية وغيرها وإذلالهم والاستهزاء بهم وعدم الاعتراف بحقوقهم بل وبإنسانيتهم والاعتداء عليهم وسرقة جهودهم وثرواتهم وظلمهم وإيذائهم بالقول والفعل وما شابه هذا من شرور ومَفاسِد وأضرار
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا السوء الذي سَبَقَ ذِكْره ومن هؤلاء الناس المُسيئين الذين لا يصبرون عند المصيبة ولا يشكرون عند النعمة، الذين صبروا وعملوا الصالحات، أيْ كانوا دائما من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. فأمثال هؤلاء دَوْمَاً يصبرون علي الشدائد فلا ييأسون ويشكرون لله عند النِّعَم ويفرحون ويسعدون بها لكن لا يَتَفاخرون ويَتَعالون مطلقاً بل يُحسنون استخدامها في كل خيرٍ لهم ولغيرهم ويعملون الصالحات في كل حالٍ سواء السَّرَّاء أو الضَّرَّاء.. ".. أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة لهم حتماً مغفرة لكلّ ذنوبهم أيْ عَفْوٌ عنها ومَحْوٌ لها كأن لم تكن ومَنْعٌ لأيِّ عقوبة عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، ولهم كذلك أجرٌ كبيرٌ أيْ عطاءٌ هائلٌ حيث سيُحَقّق لهم تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذ سيكونون بكلّ هذا مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ (برجاء أيضا مراجعة الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا تذكيرٌ وتشجيعٌ كبير للمسلم ليكون حريصاً دوْمَاً علي هذه المغفرة وتلك العطايا بفِعْل كلّ خيرٍ مُجتهداً في ألاّ يخرج عنها أبداً بفِعْل أيّ شرّ وإنْ فَعَله عاد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات مِن علمٍ وعملٍ وكسب وكرم وبِرٍّ وَوُدٍّ وتعاونٍ وغيره
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)" أيْ هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ فلعلك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – والمقصود المسلمون مِن بَعْده لأنَّ الرسل الكرام مَعْصُومون من أن يَخطر ببالهم مثل هذه الخواطر ولفظ "لعلّ" يُفيد احتمالية حُدُوث ذلك لكي يكون حافزاً لكل مسلم أن يحذره حَذَرَاً شديدا عند دعوته لله وللإسلام – قد دار بفِكْرك لشِدَّة ما تراه من المُكَذّبين من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ أن تترك تبليغ بعض ما أوحى إليك من ربك في القرآن العظيم وأَمَرَكَ بتبليغه للناس بالحِكْمة والموعظة الحَسَنة وهو ما يُخالِف أقوال المُكَذّبين وأفعالهم مَخافَة تكذيبهم للوَحْي واستهزائهم به ورَدّهم السَّيّء علي دعوتك لهم، وعارِضٌ لك أحياناً ضيقٌ وحزنٌ وأسفٌ وتعبٌ في صدرك بأن تُبَلّغهم إيّاه مَخَافة أن يقولوا علي سبيل التّعَنّت والاستكبار والعِناد والتعجيز لولا أنزل عليه كنز من ربه أيْ مال كثير وذهب مَكْنُوز مُدَّخَر يُنزله عليه بغير أسباب الكسب ليدلّ ذلك علي إرساله له ولينفقه كالملوك لكي يتّبعه الناس وليكون غنيا يَجذبهم بغِناه لا فقيراً يُنَفّرهم بفقره ما دام يَدَّعِي أنه من ربٍّ له خزائن السماوات والأرض، أو جاء معه مَلَكَ من ملائكة ربه يُصَدِّقه فيما يقول ليَتِمّ التأكّد من صِدْقه فيَتِمّ اتّباعه، فإنْ لم تفعل ذلك لهم فأنت غير صادقٍ عندهم فيما تَدْعوهم إليه.. ".. إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ.." أيْ فلا تَتَأَثّر بهم أيها المسلم واستمرّ في تمسّكك وعملك بكل أخلاق قرآنك وإسلامك ودعوتك له لعموم الناس ولهم بما يُناسبهم ولا تَسْتَعْظِم وتَسْتَكْثِر أقوالهم وأفعالهم القبيحة السيئة وتترك بعض القرآن والإسلام بسبب ذلك فلك أجرك العظيم في الداريْن سواء استجابوا أم لا، فإنما أنت نذير، أيْ فهذه فقط هي مهمّتك ومهمّة المسلمين من بعدك – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ومُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآية الكريمة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم.. ".. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)" أيْ وهذا مزيدٌ من العَوْن علي الصبر والتّثْبيت والاستمرار علي الإسلام والدعوة له ومزيدٌ من التسْلِيَة والطمْأَنَة والتبْشِير.. أيْ والله وحده الوكيل علي كلّ شيء، لأنه خَلْقه وصَنْعَته، الوكيل بكمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته، أي الحافِظ والراعِي والمُتَكَفّل باحتياجاته والحارس له والمُدافع عنه والمُتَصَرِّف في شئونه علي أكمل وأسعد وجهٍ وبكل حِكمةٍ دون أيّ عَبَثٍ والمُرشد له لكل خيرٍ وسعادة، كمَن هو وكيل عن غيره في تصريف أعماله ولله المثل الأعلي، ولذا فهذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده وتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. هذا، ومن معاني "وكيل" أيضا أيْ رقيب أيْ مُرَاقِب مُطّلِع على كلّ شيءٍ من أحوالكم أيها الناس حافِظ له تمام الحِفْظ وسيُحاسبكم عليه فاحذروا أن تتجاوزوا ما شَرَعَه لكم في الإسلام من وصايا وضوابط مُسْعِدَة، لأنّ هذا التجاوُز يُؤدِّى إلى عدم رضاه عنكم وبالتالي عدم عوْنكم وتوفيقكم فتتعسون حتماً في الداريْن
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)" أيْ أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم من المُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين هل يُصَدِّقُون ويَعترفون بأنَّ هذا القرآن العظيم هو من عند الله تعالي بلا أيّ شكّ أم يقولون أنَّ الرسول (ص) هو الذي افتراه أي اخْتَلَقه وادَّعاه كذباً من عنده؟! إنه استفهام للتَّعَجُّب وللنفي الشديد لِمَا يقولون، وهم يعلمون ويعترفون تماما أنه (ص) هو الصادق الأمين!! وأنه أُمِّيٌّ لا يَقرأ ولا يَكتب!! وقد ثَبَتَت وتَأكّدَت الأدِلّة الواضِحَة القاطِعة الحاسِمة علي صِدْقه وصدق القرآن وإعجازه وكذبهم الواضح في ادِّعائهم عند أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل!!.. ".. قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل التّحَدِّي والتَّعْجِيز وإسْكات الأَلْسِنَة إنْ كان الأمر كما تَدَّعون أنَّ القرآن مِن عندي وأنه من كلام البَشَر فهَاتُوا أنتم أيها الفُصَحَاء عَشْر سُوَرٍ مُخْتَلَقَاتٍ من عند أنفسكم فإنكم عَرَبٌ فُصَحاء مِثْلي تَقْدِرون على مِثْل ما أقْدِر عليه بل أنتم أفصح وتكون مِثْلَ وتُشْبِه ما جئتُ به في حِكْمته وحُسْنه ودِقّته وتَنَاسُقه وتَرَابُطه وتَكَامُله وعدم تَنَاقض بعضه لبعض وإعجازه وأخلاقه وأنظمته وقوانينه وتشريعاته التي تشمل القواعد العامة لكل شئون الحياة المختلفة بما يُصلح حال جميع البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لو عَمِلوا بها كلها، والسورة هي مجموعة من آياته، واسْتَدْعُوا واطلبوا عَوْن كلّ مَن استطعتم مِن غير الله تعالي مِمَّن تَدَّعون أنهم ينصرونكم وينفعونكم غيره سبحانه مِمَّن تَقْدِرون علي استدعائه وإحضاره لمساعدتكم من آلهتكم المَزْعُومَة التي تعبدونها من أصنامٍ وغيرها ومِن نُصَرَائكم وأعوانكم وفُصَحَائكم وغيرهم إنْ كنتم صادقين في ادِّعائكم هذا أنه ليس مِن عند الله وأنه مِن عندي وأنكم تَقْدِرُون على الإتْيَان بمِثْله وعلي مُعَارَضَته ومُجادَلَته ومُساواته وأنَّ هذه الآلهة تساعدكم، فإنْ جئتم بها فأنتم إذَن صادقون!! وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان.. وقد عَجَزوا وسيَعجزون حتماً حتي يوم القيامة عن الإتيان بمثل أقصر سورةٍ أو آيةٍ وهُمْ مَن هُمْ فى فصاحتهم فثَبَتَ بذلك أنَّ هذا القرآن العظيم هو من عند الله تعالى
ومعني "فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)" أيْ فإذا لم يستجيبوا لكم أيها المسلمون لهذا الطلب، وبالقطع حتماً لن يستجيبوا أبداً، لأنهم بكل تأكيدٍ كاذبون عاجزون، فاعرفوا وازدادوا تأكّداً حينها إذَن أيها الناس جميعا مسلمون ومُكَذّبون أنَّ هذا القرآن العظيم ما أُنْزِل علي رسوله الكريم (ص) إلا بعلم الله وحده لا بعلم غيره وليس مُفْتَرَي عليه سبحانه، فهو بتمام إرادته وقُدْرته وحِكْمته وعِلْمه وحده وفيه علمه ووَصَاياه وتشريعاته التي تُسْعِد تماماً مَن يعمل بها كلها ولا يَقْدِر علي إنزاله هكذا إلا هو وحده وليس مُطلقاً من كلام أيِّ بَشَرٍ وأنَّ الرسول الكريم (ص) لم يَفْتَره ولا يَقْدِر أن يفتريه أصلا.. هذا، وعند بعض العلماء الخطاب مُوَجَّه للمُكَذّبين الذي يقولون افتراه (ص)، أيْ فإنْ لم يستجب لدعوتكم مَن استعنتم بهم فى الإتيان بعشر سور مِن مِثْل القرآن وهم لن يستجيبوا لكم قطعاً فاعلموا يا مُكَذّبين ويا كل الناس أنَّ هذا القرآن أنزل بعلم الله وحده وبقُدْرته وحدها ولا يَقْدِر على إنزاله بتلك الصورة أحدٌ غيره، وهذا أعظم دليل علي أنه كلامه ووَحْيه تعالي.. ".. وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.." أيْ واعلموا كذلك بالتالي إذَن أنه لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. لأنه إذا ثَبَتَ أنَّ القرآن العظيم من عند اللَّه وحده وبعِلْمه نزل، فيكون ما اشتمل عليه حقا وصدقا، ومِمَّا اشتمل عليه أنه لا إله إلا هو سبحانه.. ".. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)" أيْ فهل أنتم أيها الناس غير المسلمين أو المسلمون لكنْ بعيدين عن إسلامهم بدرجةٍ من الدرجات مسلمون أيْ مُسْتَسْلِمون لوَصَايَا الله تعالي وتشريعاته أيْ مُتمسّكون عامِلون بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم ثابتون دائما عليها مُخْلِصون مُحْسِنون أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتكم حتي وفاتكم وأنتم علي هذا فتكونون من جملة المسلمين في الدنيا ثم في صحبتهم في الآخرة فتسعدون مثل سعاداتهم في الداريْن؟ والاستفهام والسؤال للأمر لا للاستعلام وللعَرْض بعَرْضٍ لا يُمكن رفضه من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، أيْ فبَعْد كلّ هذا التوضيح لكلّ هذه الدلالات القاطعات علي صِدْق القرآن العظيم وما فيه من إسلامٍ يُسْعِد مَن يعمل به كله في الدنيا والآخرة هل أنتم مسلمون أم لا؟! أسْلِمُوا، فلا يملك أيّ عاقلٍ إلا أن يقول أسلمت يا رب ويكون إسلامه تامّاً سريعاً وعن تمام اقتناعٍ فيَحْدُث التمسّك والعمل بأخلاقه كلها والحرص عليها والاستمرار فيها بلا أيّ تراجُعٍ عنها فيَسعد في دنياه وأخراه ولا يَتعس فيهما
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)" أيْ مَن كان يريد مِن الناس بأقواله وأفعاله الحياة الدنيا ومُتَعها كالأموال وغيرها مِن كلّ أنواع الأرزاق أيْ يعمل فيها ولها وحدها فقط وهي الزائلة ولا يريد الآخرة معها ولا يعمل لها وهي الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ، سواء أكان كافرا أيْ غير مُصَدِّقٍ بها أصلا أم مسلما لكنه ناسٍ لها بسبب ترْكه لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها أو مَن يشبههم مِمَّن لا يُحْسِنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا كما وَصَّاهم ربهم وإسلامهم (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، بل قد يستمتعون بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً ويختارون معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها ويُفَضِّلونها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبهم للآخرة لأنهم قد نَسوها مُطْلَقَاً أو لا يُصَدِّقون بها مِن الأصل.. ".. نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)" أيْ أمثال هؤلاء حتماً نُعْطِهم برحمتنا وعَدْلنا نتائج وثمرات جهود أعمالهم في الحياة الدنيا فقط وافِيَة غير مَنْقُوصَة من كل أنواع الأرزاق وهم فى هذه الدنيا لا يُنْقَصُون شيئاً ظلماً بأيِّ ذرّةِ ظلمٍ من نتائج جهودهم وأعمالهم – وكلمة "لا يُبْخَسون" تفيد مزيداً من التأكيد علي أخذهم حقّهم وافِيَاً – فهم سيَأخذون منها علي قَدْر جهودهم وقد يأخذون أقلّ أو أكثر بقَدْر ما نشاء لهم برحمتنا ولمصلحتهم ولمَن حولهم لعلهم يستفيقون ويعودون إلينا ثم مع الوقت وضعفهم الجسديّ والعقليّ يَقِلّ ما يأخذونه ويتناقص ثم ينعدم تماما بموتهم ثم ليس لهم في الآخرة أيّ نصيبٍ أيْ قَدْرٍ مِن ثوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ لأنهم لم يعملوا لها أصلا بل وسيُحَاسَبون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابق ذِكْرها ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع – إنْ لم يتوبوا – الذين ليس لهم في الآخرة يوم القيامة إلا عذاب النار عقاباً لهم بما يُناسب مَا فعلوه في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار، لأنهم قد استوفوا ثمار أعمالهم فيها ولم يَتَبَقّ لهم إلا آثام سيئاتهم في آخرتهم.. ".. وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا.." أيْ هذا تعليلٌ لسبب عذابهم وتأكيدٌ علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وفَسَدَ فساداً تامّا كل ما عملوا في الدنيا أيْ ذَهَبَ ولم يَجْنُوا منه شيئا ينفعهم في الآخرة لأنهم لم يريدوها ولم يعملوا لها ونسوها وبعضهم لم يُصَدِّق بوجودها أصلا، وأيضا لأنهم قد استوفوا ثمار أعمالهم فيها بعدل الله ورحمته ولم يَتَبَقّ لهم إلا آثام سيئاتهم في آخرتهم.. ".. وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التعليل لسبب عذابهم ومن التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وما صَنَعُوا فيها هو في ذاته باطل أيْ مُنْعَدِم، لأنه لم ينفعهم في الآخرة الدائمة الخالدة بأيِّ شيءٍ من خيرٍ وسعادةٍ فهو كأنْ لم يَكُن، فكأنَّ عملهم الذي كانوا يعملون في الدنيا لم يُعْمَل من الأصل
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)" أيْ هل مَن كان سائراً علي شريعةٍ واضحةٍ وهي الإسلام مُتَمَسِّكاً مُتَّبِعَاً عامِلاً بها لا يُفارقها أبداً مُنَزّلَة من ربّه في قرآنه العظيم الذي يُبَيِّن ويُوَضِّح للناس أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها حيث يُنَظّمها لهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. كذلك من المعاني: هل من كان علي بَيِّنَةٍ أيْ دلاَلَةٍ واضِحَةٍ قاطِعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ بلا أيِّ شكٍّ ويقينٍ لا يتزعزع بوجود ربه ووجوب عبادته أيْ طاعته وحده لا غيره وبصِدْق قرآنه ووجوب اتّباعه لا غيره وهي واضحة تماماً لأنها تُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله.. أفمَن كان هذا حاله كمَن ليس كذلك؟ كلا إنهما حتماً لا يستويان.. إنه لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل أنَّ الله تعالي بعَدْله التامّ وحِكمته ورحمته التامَّة مِن المُمْكِن أن يساويَ بينهما في الدنيا والآخرة.. فالذي علي بَيِّنَة من ربه يَحْيَ حياة كلها تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتماً في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في درجات جنات ربه علي حسب أعماله حيث ما لا عين رَأَتَ ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، بينما الذي ليس علي بَيِّنَة من ربه، فهو بالقطع في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره ثم سيَنتظره قطعا في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم.. ".. وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً.." أيْ أفمَن كان علي بَيِّنَة من ربه وهو الرسول الكريم (ص) وكل مسلم مِن بَعْده عامل مثله بأخلاق الإسلام، ويُؤَيِّده شاهدٌ منه أيْ من الله تعالي علي صِدْق ما هو عليه وهو القرآن العظيم – والتلاوة هي مِن تَلَيَ الشيء أيْ جاء بعده واتّبَعه وأيَّده والمقصود هنا تأييده – ويُؤَيِّده كذلك تأييداً إضافياً علي صِدْقه شاهدٌ آخرٌ مِن قَبْل القرآن وهو كتاب موسى (ص)، أيْ التوراة، الذى أنزله الله عليه وجعله إماماً أيْ قُدْوَة يُؤْتَمّ ويُقْتَدَيَ بما فيه من دينٍ ورحمة أيْ أماناً وسعادة بلا تعاسة في الداريْن للناس في زمانه لمَن آمَنَ واقتدَيَ وعملَ بأخلاقه حيث فيه الإسلام الذي يُناسب عصرهم والذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم إذ هو مُصَدِّق لِمَا في القرآن وشاهِد علي صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) لأنَّ فيه أصول الإسلام التي في القرآن ولو كان هناك تناقض بينهما لَمَا كان من الممكن القول بأنه يُصَدِّقه بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهما واحد وهو الله تعالي ولأنَّ كليهما يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام.. ".. أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.." أيْ هؤلاء المَوْصُوفون بهذه الصفة الطيّبة الحَسَنة وهي أنهم علي بَيِّنَةٍ من ربهم يؤمنون بالقرآن الكريم حقّ الإيمان أيْ يُصَدِّقون به تماماً بلا أيِّ شكّ ويعملون بكل أخلاقه فيسعدون تمام السعادة في الداريْن.. ".. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ.." أيْ وكل مَن يكفر بالقرآن من أيِّ أمّةٍ من الأمم وتَجَمُّعٍ من التَّجَمُّعات في أيِّ زمانٍ ومكانٍ مِمَّن تَحَزّبوا أيْ تَجَمَّعُوا مُعادِين لله وللرسول وللإسلام وللمسلمين فحتماً النار تنتظره في الآخرة بعذابها الذي لا يُوصَف كمكانٍ وزمانٍ لتنفيذ وَعْد اللَّه تعالى لهم بما يَسْتَحِقّونه من عقابٍ مُناسِبٍ لسُوئهم.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.." أيْ فلا تكن أبداً أيها المسلم وأيها السامع وأيها العاقل في أيِّ شكّ مِن صِدْق هذا القرآن العظيم فإنه الحقّ المُوُحَيَ مِن ربّك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – أيْ هو بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الصدْق الثابت المُؤَكَّد الذي أوحِيَ إلي رسولك الكريم محمد (ص) من عنده سبحانه والذي فيه دين الإسلام الذي يُسعدك تماما بالداريْن، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة فيهما، فهو الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي يُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فاثبت بالتالي عليه وتمسّك واعمل به لتَصْلُح وتَكْمُل وتَسْعَد في دنياك وأخراك وإلا تَعِسَتَ فيهما علي قَدْر بُعْدك عنه.. إنه كيف يكون فيه أيّ شكّ أنه كلام الله تعالي لا البَشَر وقد أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة حيث يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه من أخلاقٍ ويُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه؟!.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)" أيْ ومع كل هذا الوضوح والمَنْطِقِيَّة للأِدلّة العقلية علي قَطْعِيَّة صِدْق القرآن وأنه من عند الله تعالي والتي يَتَقبَّلها حتماً كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فإنَّ كثيراً من الناس لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزئون ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم لَأَحْسَنوا التصرّف بالإيمان بربهم والتمسّك بإسلامهم ولَمَا عاشوا حياتهم – ثم آخرتهم – هكذا بعيدين عنهما في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة، لكن ما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم – وهي الصفات التي علي كلِّ مسلمٍ العمل بها – لأنَّ الكثير يُؤمن قطعا.. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الثابتين المُستمِرِّين طوال حياتهم علي خيرهم هذا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، ولا يَحزنوا علي مَن لم يؤمن ولا يَتأثّروا به، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيراً فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه، فإنَّ أمثال هؤلاء الناس الذين لا يُؤمنون يَقِلّون تدرجياً ويَتَلاشُون كلما أحْسَنَ أهل الخير دعوتهم للإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، أمَّا إنْ تَكَاسَلَ المسلمون في دعوة غيرهم أو قَصَّرُوا أو تَرَاجَعُوا أو خافوا أو انشغلوا بما هو أقلّ أهمية عَمَّا هو أهمّ أو ما شابه ذلك فسَيَقِلّ الخير وأهله حتماً وستكون فرصة انتشار الشرّ وأهله أكبر
ومعني "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)" أيْ ولا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة في الداريْن من الذي يَفْتَري علي الله كذباً أي يَخْتَلِق كذباً ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو تحريم ما لم يُحَرِّم سبحانه وتشريع ما لم يُشَرِّع وادِّعاء أنه هو الذي شَرَعَه! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخريفات.. ".. أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم سيُحْضَرُون للعَرْض علي خالقهم يوم القيامة ويَظهرون ويَقفون أمامه لحسابهم الختاميّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم لا يَخْفَيَ منهم عليه حتما أيّ سِرٍّ كانوا يكتمونه ولا أيّ شيءٍ من أقوالهم وأفعالهم في حياتهم الدنيا سواء أكانت مُخْفِيَّة أم مُعْلَنَة فكلها مُسَجَّلَة بكلّ دِقّة وتفصيلٍ وصدقٍ في كتاب أعمالهم، فهو تعالي عالم بتمام العلم بهم ظاهرا وباطنا وبكل شيءٍ في كوْنه خَفِيَ أم ظَهَر.. إنهم سيُعْرَضُون كما يُعْرَض المُجْرِم للقِصاص منه ولفضيحته أمام الناس.. ".. وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ.." أيْ ويقول حينها الشهود الذين يشهدون عليهم بأنهم قد افتروا الكذب على الله من الملائكة التي كانت تُسَجِّل عليهم أعمالهم ومن الرسل الكرام والمؤمنين هؤلاء المجرمون هم الذين كذبوا علي ربهم في دنياهم بأنْ نَسَبُوا إليه ما هو مُنَزَّهٌ عنه سبحانه مُرْتَكِبين بذلك أفظع الجرائم والظلم بالنسبة لخالقهم، وهم يقولون ذلك مُشِيرين إليهم لفَضْحهم وإظهاراً لفظاعة فِعْلهم وعقابهم فيكون تعذيباً نفسياً لهم قبل عذابهم الجسديّ بما يُناسبهم في النار.. ".. أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)" أيْ هذا تذكيرٌ بالحقيقة الثابتة أنَّ لعنة الله أيْ الطرد والإبْعاد من رحماته وإسعاداته في الآخرة هي حَتْمِيَّة مُتَحَقّقَة مُسْتَقِرَّة علي الظالمين بما يُفيد مزيداً من التّيْئِيس لهم والقَطْع لأملهم في النجاة من العذاب، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. وهذا الجزء من الآية الكريمة قد يكون من كلام الله تعالي أو استكمالا لكلام الأشهاد
ومعني "الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)" أيْ هؤلاء الظالمون من بعض صفاتهم أنهم هم الذين في دنياهم يَمنعون الناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا.." أيْ وكذلك يُريدون لها اعْوِجَاجَاً، أي يُريدون جَعْل سبيل الله، أيْ شريعته، وهي الإسلام، مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة عن الحقّ والخير بمحاولاتٍ يائسةٍ بتحريفها وتكذيب ما فيها، حتي لا يتبعها أحد، ولن يحدث ذلك أبداً لأنه تعالي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9)، وكذلك يُريدون للحياة الدنيا كلها الاعوجاج والانحراف والفساد، وأيضا لن يستطيعوا، حينما يتمسَّك ويعمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)" أيْ وهم أيضا في دنياهم لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة وبلقاء الله فيها وبالبعث بعد الموت بالأجساد والأرواح وبحسابه سبحانه وثوابه وعقابه وجنته وناره بل وبعضهم يُكَذّب بوجوده هو ذاته!! تعالَيَ عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا، والذي لا يؤمن بها يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي الشرّ وفِعْله.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وتكرير لفظ "هُم" هو لتأكيد كفرهم.. بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه
ومعني "أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابق ذِكْرها ومَن يَتَشَبَّه بهم، بالقطع لم يكونوا مُعْجِزين لله في الأرض أيْ لن يجعلوه مُطلقاً عاجزاً عن عقابهم وعذابهم حتماً حتي ولو أمْهلهم أيْ تَرَكَهم لفترات، فليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذّباً مُعَانداً مُستكبِراً، أم حتي مؤمناً، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزاً أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالقُ كلِّ شيءٍ وقادرٌ تماماً عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. إنهم بكل تأكيد سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما، بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ.." أيْ ولن يكون لهم حتماً من غير الله أيّ نُصَرَاء وأعوان يَتَوَلّون أمورهم فيُعِينوهم ويَنصروهم ويَمنعون الضرَرَ عنهم في كل شئون حياتهم ويمنعونهم من عذاب الله تعالي الذي أعَدَّه لهم حين يُعَذّبهم به في دنياهم وأخراهم بسبب سُوئهم.. ".. يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ.." أيْ إنهم حتماً يُزادُ ويُتَضَاعَفُ ويُتَنَوَّعُ لهم العذاب في الآخرة بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وبما يُناسبها، وسبب المُضَاعَفَة هو ضلالهم في أنفسهم وإضلالهم لغيرهم، فهذا هو تمام العدل بلا أيِّ ذرَّة ظلم، وذلك قطعاً بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. ".. مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)" أيْ يُضَاعَف لهم العذاب لأنهم مِن شِدَّة تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ما كانوا يستطيعون ويَتَحَمَّلُون السماع لآيات القرآن العظيم والمَوَاعِظ والحقّ والصدق والعدل والخير والسرور الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم فهُم كفاقِدِي السمع حيث فَقَدوا منافعه، وما كانوا يُبصرون أيْ لا يَنظرون نَظَرَ تَدَبُّرٍ واتّعاظٍ إلى معجزاتِ الله تعالي المُبْهِرات ودلالات تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه في أنفسهم وفي كل مَخلوقاته في كوْنه حولهم فهُم لهم عيون تَرَىَ ولكن بلا تأمُّلٍ أو اعتبارٍ فكأنها غير موجودة، وذلك لِثِقَلِ القرآن والإسلام على عقولهم الفاسدة التي أغلقوها وشِدَّة كراهيتهم له، والمقصود بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أنهم قد عَطّلوا وأغلقوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي أن يُدْخَلوا عذاب جهنّم وأن يُضَاعَف لهم
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)"، "لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابق ذِكْرها ومَن يَتَشَبَّه بهم، بالقطع بالتأكيد بلا أيِّ شكّ هم الذين خسروا أنفسهم حيث قد خسروا حتماً في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة مَا مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب سُوئهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكون الكافرون منهم مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم ما كانوا يعبدون غير الله تعالي في دنياهم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعهم قطعا بأيّ شيءٍ ولن تنقذهم ممّا هم فيه، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم كلّ أدِلّة علي ما كانوا يدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياهم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعهم أو تمنع الضرَرَ عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. "لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أقْصَيَ درجات خسارتهم.. أيْ لا شَكَّ وحقاً أنهم في الآخرة هم الأَخْسَر من غيرهم من الناس إذ قد خسروا خُسْراناً شديداً فلا أحد أخْسَر منهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ.." أيْ واطمأنوا إلي جِوار وشَرْع وقضاء وحُكْم وعَدْل وخَيْر ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – واستقرُّوا وسَكَنُوا في كل حياتهم بتَوَاصُلِهم الدائم معه ومع دينهم الإسلام ورَضُوا بهما واجتهدوا في طاعتهما وتَواضعوا لهما وعَدَلوا في كل أقوالهم وأفعالهم وعادوا لهما بالتوبة سريعا من أيِّ خطأٍ وكانوا دائماً مُتّقِين مُحِبِّين مُخْلِصِين لربهم مُسْتَشْعِرين عظمته وهَيْبته مُسْتَسْلِمين لوصاياه وتشريعاته.. ".. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة هم حتماً المُسْتَحِقّون لأن يكونوا أصحاب الجنة أي مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ حَالُ وشَبَهُ الفريقين اللّذَيْن سَبَقَ ذِكْرهما، فريق أيْ تَجَمُّع المؤمنين وفريق الكافرين، فريق المُحسنين والمُسيئين، فريق السعداء والتعساء، كحالِ وشَبَهِ الأعمي والأصَمّ وهو الكافر المُسِيء التّعِيس، والبصير والسميع وهو المؤمن المُحْسِن السعيد، فالكافر كالأعمي الذي لا يُبصر أيْ لا يَنظر نَظَرَ تَدَبُّرٍ واتّعاظٍ إلى مُعجزاتِ الله تعالي المُبْهِرات ودلالات تمام قُدْرَته وكمال عِلْمه في نفسه وفي كل مَخلوقاته في كوْنه حوله فهُو له عين تَرَىَ ولكن بلا تأمُّلٍ أو اعتبارٍ فكأنها غير موجودة، وهو كالأصمِّ أيْ الذي لا يسمع أيْ لا يستمع لآيات القرآن العظيم والمَوَاعِظ والحقّ والصدق والعدل والخير والسرور الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعد في دنياه وأخراه فهُو كفاقِدِ السمع حيث فَقَد منافعه.. والمقصود أنهم قد عَطّلوا وأغلقوا عقولهم وحَوَاسَّهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلم يَصِلُوا إلي طريق السعادة، إلي الإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام، ولم يفهموا أنَّ هذا هو أساس سعادتهم في الداريْن، ولم يَعْتَبِروا بالتاريخ السابق وبما حَدَثَ من عذابٍ وإهلاكٍ للظالمين والفاسدين والكافرين والمشركين والمنافقين وأشباههم فيَتَجَنَّبُوا أسباب ذلك وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سُوءٍ فاسْتَحَقّوا بالتالي تعاسَتَيّ الدنيا والآخرة.. أمّا المؤمن فهو البصير والسميع أيْ كثير البصر بكلِّ تَدَبُّرٍ واتّعاظٍ لكلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ كثير السمع بكلّ تَفَهُّمٍ واتّباعٍ وتمسُّكٍ به ونَشَرَه لغيره فاستحقّ أن يكون في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتماً في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة).. ".. هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا.." أيْ هل يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لله تعالي بعدله التامّ وحكمته ورحمته التامَّة، وللإسلام، بل ولأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين هذين المَثَلَيْن والحالَيْن؟! إنَّ هناك بالقطع فَرْقَاً شاسِعَاً لا يُقارَن بينهما! والاستفهام للنفي، أيْ حتماً لا يستويان أبداً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ ويستحيل ذلك، لا في دنياهم ولا في أخراهم.. ".. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)" أيْ هل لا تتذكّرون أيها الناس هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن لا يَتَذَكَّر ويَتَفَكَّر ويَتَدَبَّر ويَتَعَقّل ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وعاد وثمود وشعيب وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة الأعراف وهود وإبراهيم والمؤمنون والعنكبوت وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)" أيْ ولقد بعثنا رسولنا الكريم نوحا إلي مَن يُقيم فيهم ومَن حوله مِن الناس ليُبَلّغهم الإسلام ليسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فقال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم إني لكم نذيرٌ مُبِين أيْ مُبَيِّن أيْ مُوَضِّح لكل الناس حولي أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ونذير أيْ مُنْذِر أي مُحَذّر الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم، وليَتَحَمَّلوا إذَن نتيجة سوء أعمالهم.. هذا، وكما أنه مُنْذِر فهو أيضا حتما مُبَشِّر بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث لم يعملوا بما بَشّرهم به مِن خيرٍ لمَن يعبد الله تعالي
ومعني "أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)" أيْ أرسلناه وأوْصاهم بأنْ لا تعبدوا أيْ لا تطيعوا إلا الله فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)" أيْ هذا بيانٌ لخوفه وحرصه الشديد عليهم.. أيْ لا تعبدوا إلا الله لأني أخاف عليكم عذاب يومٍ مُؤْلِمٍ أيْ مُوجِعٍ شديدٍ مُهِينٍ مُتْعِسٍ لا يُوصَف بما يُناسب شروركم ومَفاسدكم وأضراركم، لِعِظَمِ وشِدَّةِ ما يَحْدُث فيه، هو يوم القيامة حيث حسابكم الختاميّ لكل أقوالكم وأفعالكم وهو كذلك يوم نزول عذابكم الدنيويّ، وذلك إذا عَبَدْتم غيره، إذا ظلمتم أنفسكم ومَن حولكم فأتعستموها وأتعستموهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، إنه عذاب أليم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)" أيْ فقال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين كفروا من قومه أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا له مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي ما هم فيه لا نُشاهِدك ونَعْلَمك إلا بَشَرَاً مثلنا أيْ أنتَ لَسْتَ إلا بَشَر مثلنا ولست مَلَكَاً من الملائكة أو لك فضل علينا بل نحن أفضل منك من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك! ولم يُنزِل الله أيَّ تشريع لتوصله لنا ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع ملائكته! فأنت إذَن كاذب! وبالتالي فنحن في المُقابِل مُكَذّبون بما أرْسِلت به إلينا!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة.. ".. وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)" أيْ وكذلك نَكْفر ولا نُؤْمِن ونُكَذّبك ولا نُصَدِّقك لأننا ما نُشاهدك ونَعْلَمك سارَ خَلْفك ونَفّذَ وَصَاياك وعمل بها إلا الذين هم أسافِلُنا وأخِسَّاؤنا وحُقراؤنا وفقراؤنا وضعفاؤنا ومَن لا وَزْن لهم فينا، وأيضا مَن هم "بادِيَ الرأي" أيْ سَطْحِيُّون يَتّبِعُون أيَّ رأيٍ يَبدو ويَظهر لهم دون تَعَمُّقٍ وتَدَبُّر ولو تَثَبَّتوا وتَفَكّروا وتَعَقّلوا ما اتّبعوك، وبالتالي فأنت قطعا علي الباطل!! ولو كان الذين اتّبعوك هم الأقوياء الأغنياء لدلَّ ذلك بالتأكيد علي أنك علي الحقّ!! إضافة إلي أننا ما نَرَيَ لكم أنت ومَن اتّبعك علينا من فضلٍ أيْ أيّ زيادةٍ في رزقٍ أو مالٍ أو مَنْصِبٍ أو غيره لَمَّا دَخَلْتم في دينكم هذا يُؤَهِّلكم لأنْ نتّبعكم ونترك ما نَعْبده، بل نحن نعلم ونعتقد أنكم كاذبون فى دعواكم أنكم على الحقّ!.. إنهم يَقِيسُون صِحَّة أو بُطْلان ما جاءهم به بالذين اتّبعوه، فإنْ كانوا ضعفاء فقراء فهو علي الباطل بينما لو كانوا أقوياء أغنياء مثلهم فهو علي الحقّ!! إنهم لو أحسنوا استخدام عقولهم لتأكدوا تماما أنهم ليسوا أبداً أراذِل بادِي الرأي بل هم بإيمانهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم هم الأعْلَوْن الأكرمون الأعِزّاء الأقوياء الأغنياء العقلاء وبالجملة هم السعداء تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فليس المقياس للارتفاع والانخفاض في الحياة الدنيا هو مقياسهم الذي لا يعرفون غيره وهو كثرة الأموال والبنين والمناصب والنفوذ! بل علي العكس تماما إنهم بحقّ هم أشدّ الأراذل حيث عَطّلوا وأغلقوا عقولهم وتركوا عبادة ربهم وعبدوا أصناماً وغيرها هي أضعف منهم وهم أقوي منها فكيف يطلبون نفعها أو يخافون ضررها؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)" أيْ قال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم أرأيتم أيْ أخبروني ما رأيكم وقولكم في حالي معكم إنْ كنتُ على بَيِّنَةٍ مُنَزَّلَة من ربي أيْ دلاَلَةٍ واضِحَةٍ قاطِعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ بلا أيِّ شكٍّ وهي مَخلوقاته المُعجزات في كل كوْنه وعلي يقينٍ لا يتزعزع وثقةٍ كاملة بوجود ربي ووجوب عبادته أيْ طاعته وحده لا غيره وبصِدْق شرعه ووجوب اتّباعه لا غيره وهي واضحة تماماً لأنها تُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وأعطاني رحمة من عنده وهي النبوة وشريعة الإسلام التي أوحاها إليَّ لأبَلّغها للناس والتي هي سبب رحمة الله لمَن يعمل بها كلها حيث تُصلحه وتُكمله وتُسعده تمام السعادة في الداريْن لأنها من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. هذا، ومن المعاني أنَّ البَيِّنَة هي شريعة الإسلام المُنَزَّلَة من ربي والرحمة هي أيضا الشريعة ولكنْ لإبراز أهم صفاتها وهي الرحمة أيْ الخير والأمن والسعادة.. ".. فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.." أيْ فأُخْفِيَت عليكم هذه البَيِّنَة والرحمة فلم تنتفعوا وتسعدوا بها حتي صِرْتُم بالنسبة لها كالعُمْي لا تَرَوْنَها رغم شِدَّة وضوحها، أيْ فأخفاها عليكم إغلاقكم لعقولكم وعدم إحسان استخدامها وعدم استجابتها لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا وذلك بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولو أزَلْتم هذه الأغشية لأحسنتم التّعَقّل ولأَبْصَرْتُمُوها وأدْرَكْتموها ولن تَخْفَي عليكم.. ".. أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)" أيْ أنُلْزِمُكُم إيَّاها، أيْ هل يَصِحّ ويُعْقَل أن نُجْبِرَكم ونُكْرِهَكم علي الالتزام بهذه الشريعة والنظر فيها والإيمان والعمل بها والحال والواقع أنكم كارهون لها لا تُحِبّونها ولا تريدونها ولا تتمسّكون وتعملون بها مُكَذّبون لها مُمْتَنِعون عنها لا تختارونها ولا تتأمّلون فيها والكاره للشيء لا يكاد يراه ولا يسمعه ولا يفهمه؟! كلا إننا لا نستطيع ذلك لأنَّ الإيمان الصادق يكون عن اقتناعٍ واختيارٍ لا عن إكراهٍ وإجبار (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وليس ما تقولونه عنّا أننا كاذبون بمانعٍ لنا عن حبها والعمل والانتفاع والسعادة بها، فأنتم بكراهيتها الخاسرون لا نحن.. والمقصود من رَدِّه هذا علي قومه تذكرتهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ بأنْ يُزيحوا عن عقولهم الأغشية التي وضعوها عليها ليُحسنوا استخدامها فيكونوا عاقِلين مُنْصِفِين عادلين فيُؤمنوا فيَسعدوا مِثْل المؤمنين في الداريْن
ومعني "وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)" أيْ وهذا مزيدٌ من محاولة اجتذابهم لله وللإسلام.. أيْ وكذلك يا قوم، يا أهلي وأحِبَّائي، يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم، إنَّ مِن علامات صِدْقي أني لا أسألكم أيّ مالٍ أو أيّ أجرٍ غيره علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم وعملتم بأخلاقه!! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً مَا كنتُ سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا!!.. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة.. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. ".. وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا.." أيْ ولا يُمكن أبداً أن أطْرُدَ أيْ أبْعِد عنّي في المُجَالَسَة والمُعَايَشَة والمُعامَلَة الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم لمجرّد احتقاركم لهم وتعاليكم عليهم وتأفّفكم من التعامُل معهم وطلبكم ذلك مِنّي لتَوَهُّمكم أنهم أراذل رغم أنهم أعالي بإيمانهم لا بأموالهم ومناصبهم كما تقيسون أنتم الأعلي بالأدني في مقاييسكم الدنيوية الخاطئة!! إنَّ هذا ليس شأن الرسل ولا الدعاة لله وللإسلام مِن بَعْدهم أن يُخْرِجوا الناس من الخير والسعادة إلي الشرِّ والتعاسة!! إنَّ مَن آمَنَ يستحقّ كل تكريمٍ وخيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ من ربه في دنياه وأخراه لا أنْ يُطْرَدَ ويُهان ويكون في شرٍّ وخوفٍ وتعاسةٍ كما تَطلبون!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (52) من سورة الأنعام "وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ.." أيْ وما أنا بطارد الذين آمنوا لأنهم وأنتم وجميع الخَلْق سيُقابِلون الله ربهم حتماً يوم القيامة حيث سيُحاسِب الجميع وسيَظْهَر أنهم كانوا مُحْسِنين علي صوابٍ وأنتم كنتم مُسِيئين علي خطأٍ وسيَطلبون مُسَاءَلَتي وعقابي إنْ أنا كنتُ طارداً لهم وسيكون لهم أعظم الأجر علي إيمانهم وصبرهم ولمَن أساء إليهم أسوأ العقاب.. ".. وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولكنى مع هذا التوضيح المَنْطِقِيّ لكم والذي يقبله كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أراكم قوماً تجهلون كل ما يجب علي أيِّ عاقلٍ أن يعلمه ولا يجهله، فأنتم لا تعقلون الحقّ وكلّ ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وعَوَاقِبَ وتعاسات ما أنتم مُصِرُّون عليه في الداريْن، وأنتم لا تعلمون ولا تدْرِكون ولا تتَعَقّلون وتتَعَمَّقون وتتَدَبَرّون في حقائق الأمور والأحداث وأعماقها وخَلْفِيَّاتها ولا تُحسنون تقديرها ونتائجها.. إنكم جاهِلون غير عالِمين بما يَنفعكم ويُسعدكم وغيركم من علمٍ فتتّبِعونه وتعملون به.. إنكم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم!.. وما ذلك الجهل إلا بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)" أيْ وكذلك يا قوم، يا أهلي وأحِبَّائي، يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم، مَن يستطيع أن يَدْفع عنّي عذاب الله وينقذني ويمنعني منه وينصرني عليه حين يأتيني إنْ أنا علي سبيل الفرض طردتهم بسبب إيمانهم عاصياً أمره بعدم طردهم؟!.. ".. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)" أيْ هل لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن لا يَتَذَكَّر ويَتَفَكَّر ويَتَدَبَّر ويَتَعَقّل ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)" أيْ هذا بيانٌ لمُرَاوَغَة المُكَذّبين وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وغَلْقهم لعقولهم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. إنهم لا يَنْقصهم الدليل على صِدْق رسولهم الكريم (ص) حيث يعيش بينهم منذ زمنٍ قبل أن يكون رسولا إليهم من الله تعالي ويعلمون صِدْقه وحُسْن خُلُقه ويَثِقون فيه ولكن الذي ينقصهم هو إحسان استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنهم لا يُصَدِّقون الرسول إلا إذا كان عنده خزائن الخيرات والمُعجزات فيأتيهم بما يَطلبون من أرزاق ومعجزات وأن يُخبرهم بالغيب وما يَحدث لهم في مستقبلهم حتي يَستزيدوا من خيره ويَتَجَنّبوا شَرَّه وأن يكون مَلَكَاً لا بَشَرَاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق مثلهم وأن يكون عظيماً غَنِيَّاً لا فقيراً وإلا فهو ليس برسول!!.. إنهم يَعتبرون من وِجْهَة نَظَرهم السطحية ومن مقاييسهم الخاطئة أنَّ المال والسلطان هو أول مُقَوِّمات النبوة والرسالة وليس حُسن الخُلُق أولا ثم بقية المُوَاصَفات!! والرسول (ص) هو أكمل الرجال خُلُقَاً وعقلا ورأيا وعَزْما وحَزْما ورحمة وشفقة وتقوي ولا يُقارَن قطعا بمَن يَدَّعِي أنه عظيم غنيّ وهو سَفِيه يعبد صَنَمَاً لا يَسمع ولا يُبصر ولا يَنفع ولا يَضرّ! إلاّ أنه (ص) لم يكن أكثرهم مالا وسلطانا وهم يريدون أن تكون النبوة في زعيمٍ من زعمائهم أو غنيّ من أغنيائهم!.. فهذه الطلبات وما يُشْبِهها هي من وسائل مُرَاوَغاتهم من أجل ألاّ يُسْلِموا ومن أجل تشويه صورة الرسول (ص) والتشكيك فيه والتنفير من الإسلام حتي لا يَتِّبعه الناس ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. أيْ " ولَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ.." أيْ وليس عندي أبداً ولا أمْلِك أيَّ تَصَرُّفٍ في خزائن الله – جمع خزينة وهي ما تُخَزَّن فيها الأشياء – بحيث أتَصَرَّف فيها وأعطيكم ما تطلبونه مِنّي من أرزاقٍ ومعجزات، فهو له وحده سبحانه مَفاتيح خزائن كل ما في السموات والأرض التي فيها رحماته وخيراته وأرزاقه وتقديراته وتدبيراته وترتيباته للناس وللخَلْق جميعا في كوْنه من أجل منافعهم وسعاداتهم حيث هو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها، أمَّا غيره من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزق خالقهم ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورزقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مرزوقون به من ربهم قد مَلّكَهم إيَّاه لفتراتٍ وهو الذي يَسَّرَ لهم أسبابه وأعانهم عليها بما أعطاهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا، فاطلبوا أيها الخَلْق من خالقكم وحده سبحانه الرزق، وأحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما تستطيعون، وسيُيَسِّره لكم حتما، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لكم ويُعينكم عليه مِن خَلْقه.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين ليطمئنوا تماما علي ضَمَان أرزاقهم.. ".. وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ.." أيْ وكذلك لا أعلم كلّ ما غابَ عنكم من ماضٍ وحاضرٍ لا تعلمونه ومستقبلٍ آتٍ بحيث أخبركم به لتَسْتَعِدُّوا له، فهو وحده سبحانه عالم الغيب أيْ عالمٌ بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وهو لا يُطْلِع علي الغيب والعلم الذي يَملكه ويَعلمه هو وحده أحداً من خَلْقه، إلا مَن رَضِيَه وقَبِلَه سبحانه واختاره مِن خَلْقه أن يكون رسوله للناس ليبلغهم الإسلام سواء مِن البَشَر أو الملائكة كجبريل فإنه يُطْلِعه مِن خلال الوَحْي إليه علي بعض الغيب والعلم مثل كتبه وآخرها القرآن العظيم وبعض ما يَحدث في المستقبل ليكون ذلك مُعجزة له تدلّ علي صِدْقه عند المُرْسَل إليهم فيؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا به ويَتَّبِعوا الإسلام الذي جاء به ليسعدوا في الداريْن.. ".. وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ.." أيْ وأيضا أنا لستُ مَلَكَاً من الملائكة حتى تَطلبوا مِنّي أفعالاً خارِقَة للعادة تستطيعها هي ولا يُطيقها البَشَر!!.. ".. وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا.." أيْ وكذلك لا أقول عن هؤلاء الذين تَحْتَقِر أعينكم مِن ضعفاء المؤمنين مِن وِجْهَة نظركم الخاطئة أنهم – كما تَدَّعُون أنتم – لن يُعطيهم الله سعادة وأمْنَاً ورزقاً لا يُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم لمجرّد احتقاركم لهم وإرضاء لطلباتكم ورغباتكم بل أقول أنه حتماً سيُعطيهم خيراً كثيراً فيهما.. ".. اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ.." أيْ فالله تعالي وحده لا غيره هو أعلم مِنّي ومِن أيِّ أحدٍ بما في عقولهم ودواخلهم هم وأنتم والجميع فإنْ كانوا صادقين في إيمانهم فلهم الخير الكثير في الداريْن وإن كانوا غير ذلك فحسابهم عليه سبحانه يُعاقِبهم بما يُناسِب سُوئهم فيهما، أمّا أنا فبَشَر مِثْلكم لا عِلْم إلا بظواهر أقوالهم وأفعالهم التي تدلّ على إيمانهم.. ".. إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)" أيْ لو فُرِضَ وفعلتُ ذلك – والعياذ بالله – أيْ ادَّعَيْت كذباً وزُورَاً أيَّ إدِّعاءٍ مِمَّا سَبَقَ ذِكْره فأنا بالتالي إذَن بسبب ذلك بالتأكيد سأكون من الظالمين وهم الذين الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)" أيْ قالوا يا نوح قد حاوَرْتَنا وتَنَازَعْتَ وتَخَاصَمْتَ معنا فأكثرتَ وأَطَلْتَ حِوارنا ونِزاعنا وخِصامنا – وذلك بعد أن غَلَبهم بحُجَّته القاطعة لأنها الحقّ وعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم بالحُجَّة أمام الحُجَّة والرأي أمام الرأي لأنهم علي الباطل – حتى مَللْنا ولم نَعُدْ نَتَحَمَّل كلامك، وجِدالك لا يُؤَثّر فينا، فهم بذلك يُعْلِنون أنهم لا يُريدون استرشاداً ووصولاً للحقّ والخير والسعادة بل يريدون إصراراً علي سُوئهم، رغم الفترات الطويلة من حُسْن دعوتهم من نوح (ص) بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة، ولذلك قالوا مُتَجَرِّئين عليه وعلي الخالق الكريم مُسْتَعْجِلين العذاب الذي كان يُحَذّرهم من وقوعه إذا لم يُسْلِموا، وكأنهم يَستهزؤن بالله سبحانه، تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا، وأنه لن يستطيع أن يهلكهم كما يَدَّعِي كاذبا، قالوا مُتَبَجِّحِين مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُتَحَدِّين مُسْتَهْزِئين مُسْتَعْجِلين مُسْتَبْعِدين عذابَ الله أنّنا مُصِرّون مُستمرّون علي ما نحن فيه ولو كنتَ صادقاً فيما تدَّعِيه كذباً وزُورَاً فأحْضِر لنا الآن هذا الذي تَعِدُنا به من العذاب الدنيويّ، أو الأخرويّ كما تَدَّعِي أنَّ هناك آخرة والتي لا نُصَدِّق بها أصلا!.. هذا، وهم يَعْتَبِرون دعوة نوح (ص) للحقّ والعدل والخير جِدالاً رغم أنهم يعلمون تماماً أنهم هم المُجَادِلون لأنَّ الجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءا إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم
ومعني "قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)" أيْ قال نوح لقومه مُذَكّرَاً مُنَبِّهَاً مُحَذّرَاً لست أنا الذي يأتيكم بالعذاب الذي تستعجلونه وإنما يُحْضِره لكم عاجِلاً أو آجِلاً الله وحده لا غيره فهو الذي يَمْلِكه إنْ أراد أيْ حسبما تَتَطَلّبه حِكْمته في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسبا مُتْعِسَاً للكافرين المُسيئين مُسْعِدَاً للمؤمنين المُحسنين، وذلك في دنياهم، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألَمَاً وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)" أيْ وليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيءٍ يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) – هي أنّه ليس لكم إلا أنْ تُسْلِموا لتَسعدوا في الداريْن ولتَنْجُوا من عذابهما
ومعني "وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)" أيْ وهذا مزيدٌ من التذكير والتنبيه والتحذير لهم والصبر عليهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم.. أيْ إنْ كان الله يريد أن يُغويكم أيْ يُضِلّكم أيْ يُوقِعَكم في الغِواية أيْ في الشرّ والفساد لأنكم لم تختاروا الهداية واخترتم الضلالة بكامل حرية إرادة عقولكم وأصررتم عليها بلا أيِّ توبة فإنْ أردتُ أنا أنْ أنصح لكم لا ينفعكم نُصْحي قطعاً لأنَّ إرادة الله الخالق المالِك للمُلْك كله هي حتماً الغالِبَة إذ لا يَحْدُث في مُلْكِه إلا ما يريد أيْ لا يُفيدكم إرشادي لكل ما فيه صلاحكم ولا تقبلونه مهما اجتهدت في إعطاء النصائح لكم بعبادة الله تعالي وحده أيْ طاعته واتّباع أخلاق إسلامه لتسعدوا تماماً في الداريْن بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فسادٍ وبكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة.. هذا، ولفظ "الله يريد" يحتاج لبعض التفصيل، بمعني أنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يريد أن يُضِلّه ويُعَذّبه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي أراد واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وعن العذاب الذي سيَنْزِل به في الداريْن؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..").. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)" أيْ والله تعالي هو وحده لا غيره مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وإليه وحده لا إلي غيره ستُرْجَعُون أنتم وجميع الناس في الآخرة يوم القيامة حين يبعثكم بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم، وهو أعلم بكم تمام العلم، ليكون هو الحاكم بينكم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتم فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)" أيْ أمثال هؤلاء المُكَذّبين والمُعانِدين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم هل يُصَدِّقُون ويَعترفون بأنَّ قولَ نوحٍ (ص) لهم وما يُوصِيهم به من عبادة الله وحده والعمل بدينه الإسلام هو وَحْيٌ من عنده تعالي بلا أيِّ شكّ أم يقولون أنه هو الذي افتراه أي اخْتَلَقه وادَّعاه كذباً من عند نفسه؟! إنه استفهام للتَّعَجُّب وللنفي الشديد لِمَا يقولون وهم يعلمون تماما صدقه حيث يعيش بينهم منذ زمنٍ قبل أن يكون رسولا إليهم ويعلمون حُسْن خُلُقه ويَثِقون فيه.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ المقصود هو الرسول الكريم محمد (ص) والآية الكريمة هي جملة اعتراضية في وسط قصة نوح وتكذيب قومه لتذكرة وتحذير مَن كان مِثْلهم بعد نزول القرآن ليَعْتَبِر ويُؤمِن قبل أن يُعَذّبوا ويُهْلَكوا ويتعسوا في الداريْن كعذابهم وتعاساتهم.. أيْ هؤلاء المُكَذّبون بمحمد (ص) هل يُصَدِّقون ويَعترفون بأنَّ هذا القرآن العظيم هو وَحْيٌ من عند الله تعالي بلا أيّ شكّ أم يقولون أنَّ الرسول (ص) هو الذي افتراه؟! رغم أنهم يعلمون ويعترفون تماما أنه (ص) هو الصادق الأمين!! وأنه أُمِّيٌّ لا يَقرأ ولا يَكتب!! وقد ثَبَتَت وتَأكّدَت الأدِلّة الواضِحَة القاطِعة الحاسِمة علي صِدْقه وصِدْق القرآن وإعجازه وكذبهم الواضح في ادِّعائهم!!.. ".. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنْ كنتُ – علي سبيل الفَرْض لا الحقيقة – قد افتريته من عندي كما تَدَّعون كذباً وزُورَاً فعَلَيَّ وحدي لا عليَ غيري ذنب إجرامي هذا الذي فَعَلْته بارتكاب هذه الجريمة الشنيعة والتي أستحقّ عليها أشدّ العقوبة في دنياي وأخراي، وأنا بريءٌ مِن ذنوب وعقوبات مَا تُجْرِمون أيْ تَرْتَكِبون مِن جرائم كافترائكم الكذب عليَّ وعليَ الله تعالي وكفركم وتكذيبكم وعِنادكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار، فكل فردٍ يتحمَّل نتيجة عمله فلا يتحمَّل أحدٌ جريمة غيره فهذا هو تمام عدل الله تعالي، فأنتم بَريئون مِمَّا أعمل أيْ لا صِلَة لكم به أيْ لا تُؤَاخَذون بعملي وأنا بريء مِمَّا تعملون أيْ لا صِلَة لي به أيْ لا أؤاخَذ بعملكم، فافعلوا ما شئتم فسيُحاسِب الله تعالي البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وهذا يُفيد ضِمْناً عدم الرضا عمَّا يقولون ويفعلون من سوء، كما أنه تهديدٌ وتحذيرٌ لهم لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا فيهما
ومعني "وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)" أيْ وأَوْحَيَ الله تعالي إلي نوحٍ أيْ أخبره عن طريق الوَحْي من خلال المَلَك جبريل أنه لن يُصَدِّقك مِن قومك أحدٌ بعد الآن إلا مَن قد صَدَّقك منهم سابقاً بلا أيِّ زيادةٍ عليهم مستقبلا، رغم طول مدة دعوتك لهم للإيمان بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنة – والتي هي ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذَكَر القرآن الكريم في موضعٍ آخر – لأنهم قد أصَرُّوا علي تمام إغلاق عقولهم بلا أيِّ إحسانٍ لاستخدامها من أجل الرجوع للحقّ.. ".. فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)" أي وبالتالي فلا تَحزن بسبب ما كانوا يفعلونه من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وإيذاءٍ قوليٍّ وفِعْلِيٍّ وفِعْلٍ للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، لأننا سنَنْتَقِم منهم قريبا وسنُعَذّبهم ونُتعسهم ونُهلكهم في دنياهم ثم أخراهم ونَنْصُرك والمؤمنين معك ونُعِزّكم ونُسعدكم فيهما.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)" أيْ وقُمْ يا نوح بصناعة السفينة لِنُنجيكم عليها حينما يَحْدُث العذاب والهلاك للمُكَذّبين بالفيضان الهائل، بأعيننا أيْ بنَظَرنا، أيْ بتمام رعايتنا وحمايتنا وحِفْظنا وتأييدنا وعوْننا وتيسيرنا لأمورك وتوفيقنا ونصرنا، ووَحْيِنا أيْ وبإخبارنا وتَوْجِيهنا لك عن طريق الوَحْي من خلال المَلَك بما عليك فِعْله وكيفية عِلْم تصنيعها حيث أنت لا تعلم ذلك.. وأيّ إكرام واهتمام وحب وأمان وعزّ أفضل من هذا؟!.. وفي هذا طَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما بعِلْمه وقُدْرَته وناصرهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم.. ".. وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)" أيْ ولا تُكَلّمني في شأن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بكفرهم وتكذيبهم وفِعْلهم للسوء وإصرارهم التامّ علي ذلك بأنْ تَدْعُوني وتَسألني وتَرْجُوني تأجيل أو تخفيف أو منع عذابهم أو رحمتهم إشفاقاً عليهم فإنهم مُغْرَقُون حتماً بسبب هذا أيْ مَحْكُومٌ عليهم بالإغراق بفيضان الماء وليس هناك أيّ طريقٍ لمَنْعه حيث قد صَدَر حُكْمِي بهذا ولا رَادَّ له، رحمة بالمؤمنين وإسعاداً لهم بتطهير الأرض من شرورهم وتعاساتهم
ومعني "وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)" أيْ ويبدأ نوحٌ (ص) يصنعُ السفينة وكان كلّما مَرَّ وجاء عليه وهو يصنعها ملأٌ من قومه أيْ زعماء وقادة وأصحاب نفوذ وسلطان ومال وجاه وأشباههم مِمَّن حوله من المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين – وسُمُّوا ملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – استهزؤا واسْتَخَفّوا به وضَحكوا منه، لأنه يصنع سفينة علي ترابٍ لا علي ماءٍ فكيف سيُسَيِّرها فهو ولا شكَّ قد خَفَّ عقله وقد صارَ نجَّارَاً بعد أن كان رسولا! فكان يقول لهم إنْ تَستهزئوا وتَضحكوا مِنّا الآن وتظنّون بنا السَّفَه لصُنْعنا السفينة التي ستُنْقذنا من الغَرَق لتكذيبكم بوَعْد الله تعالي فإنّا أيضا سنَسْخَر منكم قريباً سُخْرِيَة حقيقية عند غَرَقكم في الدنيا ثم عذابكم في الآخرة كما تَسْخرون مِنّا سُخرية باطلة وَهْمِيَّة حالِيَّاً لأنكم كنتم سفهاء قد عطّلتم عقولكم ولم تُحسنوا استخدامها لِتَصِلُوا للحقّ فتَنْجوا وتسعدوا في الداريْن
ومعني "فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد لهم.. أيْ فسوف تعلمون قريباً مَن مِنّا نحن أم أنتم الذى سيَصِله عذابٌ يذِلّه ويُهينه ويَفضحه في الدنيا وسيَنْزِل عليه في الآخرة عذابٌ دائمٌ مستمرٌّ خالدٌ لا يَنقطع ولا مَفَرَّ منه من نار جهنم يُقيم فيه فيما هو أشدّ ألَمَاً وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. إنه حين يأتيكم هذا العذاب ستَعلمون وستُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا مَن الذي كان علي الحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الظلم والشرّ والفساد، وستَنْدَمون حيث لا يَنفع الندم لأنه سيكون قد فاتَ الأوان.. إنهم قد علموا ذلك بالفِعْل حين حَلَّ بهم العقاب بإهلاكهم بالغَرَق بطوفان المياه
ومعني "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)" أيْ استمرّ نوحٌ يصنع السفينة إلي أن جاء وقت أمرنا بعذابهم وبإهلاكهم وفارَ التّنُّور أيْ وخرج الماء من التنور وهو سطح الأرض بقوةٍ فائراً ذا رغوةٍ كالماء الذي يَغْلِى فوق النار وانْفَجَرَ وانْدَفَعَ من كل مكانٍ ليُغْرقهم حتي جاء من التنور وهو أيضا يعني المَوْقِد أيْ مكان إشعال النيران لعمل الخبز وطهي الطعام رغم أنه من المُفْتَرَض أن يكون أبْعَدَ شيءٍ عن الماء ولكنه أمر الله وغضبه وعذابه الشامِل، وكان فَوَرَان التنور هذا هو علامة بَدْء مَجِيء العذاب، حينها قلنا لنوحٍ عن طريق الوَحْي احمل في السفينة معك من كل نوعٍ من أنواع المخلوقات كالحيوانات والطيور والنباتات وغيرها ذكراً وأنثى، وسنُعاوِنك علي ذلك ونُوَفّقك له ونُيَسِّره عليك، لتبدأ بهم الحياة الجديدة النَّقِيَّة السعيدة بعد إهلاك أهل الشرِّ والظلم والتعاسة، واحْمِل فيها كذلك أهل بيتك جميعاً إلا مَن سَبَقَ عليه القول فلا تحمله معكم أيْ الذي سَبَقَ عليه الحُكْم مِنّا بإهلاكه سابقاً قبل إنجائكم لاختياره الكفر والسوء وإصراره عليه كابنه وامرأته ومَن تَشَبَّه بهما، واحْمِل فيها أيضا كلّ مَن آمَنَ معك غيرهم من قومك وعموم الناس، والحال والواقع أنه ما آمَنَ معه إلا عددٌ قليلٌ رغم حُسْن دعوته وطول مدّتها
ومعني "وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)" أيْ وقال نوحٌ للمؤمنين معه الذين كانوا يركبون في السفينة اركبوا فيها وقولوا عند ركوبها باسم الله يكون جَرْيها فى هذا الطوفان العظيم وباسم الله يكون إرْسَاؤها أيْ وقوفها فى المكان الآمِن الذى يريد تعالي إرساءها فيه، بما يُفيد تمام التسليم لأمره ولإرادته سبحانه والتوكّل عليه والثقة بعَوْنه وتيسيره والأمان بجواره حيث سيجدون بهذه التسمية وبهذا الذكر لله بأيِّ صورةٍ من صُوَر ذِكْره كل الرحمات والتيسيرات والتوفيقات والبركات والسعادات في كل اللحظات.. ".. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)" أي هذا بيانٌ لعظيم رحمة الله الواسعة للمؤمنين في مُقابل شديد عذابه السابق ذِكْره للكافرين.. أي ارْجُوا دائما مغفرة ربكم إذا أسأتم وعَيشوا دوْمَاً آمنين سعيدين في إطار رحمته فإنَّ ربي أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام تُفيد التأكيد – غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)" أيْ فركب نوحٌ والمؤمنون في السفينة مُسَمِّين ذاكِرين داعِين الله تعالي وهي تسير بهم وسط مَوْجٍ عالٍ كالجبال العالية، والمَوْج جَمْع مَوْجَة وهي ما ارتفعت من الماء عند اضطرابه بسبب الريح، ونادي نوحٌ ابنه لَمَّا ركب ليَرْكَب معه، بعاطفة الأُبُوَّة الفِطْرِيَّة الحريصة علي مصلحته، وكان ابنه في مَعْزِلٍ أيْ في مكانٍ مَعْزُولٍ أيْ مُنْفَرِدٍ بعيدٍ عنهم وكان أيضا في حالةِ انعزالٍ وبُعْدٍ عن الإسلام حيث لم يُسْلِم لكنْ لم يكن نوحٌ متأكداً من كفره، ناداه قائلا يا بُنَيَّ اركب معنا فى السفينة، آمِن وكُنْ مع المؤمنين بالله، ولا تكن مع الكافرين به الذين سيُغْرقهم ويُعَذّبهم ويُهْلِكهم بالطوفان
ومعني "قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)" أيْ قال ابن نوح مُكَذّبَاً له أنه لن يَنْجو إلا مَن آمَنَ وركب معه السفينة سألْجَأ إلى جبل عالٍ يكون مأويً لي أيْ مَلْجَأً ومَسْكَنَاً ومَقَرَّاً وحِصْنَاً يمنعني من الماء فلا أغرق، قال له نوحٌ (ص) المُوحَيَ إليه بما سيَحْدُث كإرشادٍ رحيمٍ أخيرٍ له لا مانع اليوم من أمر الله بالعذاب بالإغراق بالطوفان بالماء إلا مَن رحمه منه سبحانه لأنه آمَنَ فإنه يَعْصِمه ويُنجيه برحمته وقُدْرَته، وأيّ مَأْوَي مهما عَظُم وقَوِيَ فلن يَحمي أحداً بأيِّ شيء، فآمِنْ واركب في السفينة معنا.. وأثناء حوارهما لم يَتَمَكّنا أن يُكْمِلا كلامهما من سرعة تَدَفّق المياه المُهْلِكَة وحال أيْ فَصَلَ ومَنَعَ المَوْج الهائل المُرْتَفِع المُسْرِع المُهْلِك بين نوحٍ وابنه المُصِرّ علي كفره فصار مع المُغْرَقين المُعَذّبين المُهْلَكِين في دنياهم ثم أخراهم
ومعني "وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)" أيْ وبعد إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين قال الله تعالي مُصْدِرَاً أمْرَه ليُنَفّذ بقُدْرَته سبحانه ليَعود كلّ شيءٍ سريعاً لحالته الأولي المُسْتَقِرَّة يا أرض ابْتَلِعي واشْرَبِي وأدْخِلِي في جَوْفك ماءك الذي خَرَجَ منك ونَزَلَ عليك، ويا سماء أوْقِفي وامْنَعِي إنزال مَطَرِك، وبالتالي غِيض الماء الناشيء عن الطوفان أيْ نَقصَ وقَلَّ وغابَ، وقُضِيَ الأمْرُ أيْ وانْتَهَيَ وتَمَّ ونَفَذَ الأمْرُ والحُكْم من الله تعالي بإهلاك وإتعاس الكافرين وإنْجاء وإسعاد المؤمنين والذي وَعَدَ به ووَعْده لا يُخْلَف مطلقاً لكنه يكون في التوقيت وبالأسلوب الذي يكون مُفيداً مُسْعِدَاً للمؤمنين، واسْتَوَتْ أي واسْتَقَرَّت السفينة علي الجُودِيِّ وهو اسمٌ لجبلٍ مرتفعٍ رَسَتْ عليه يُقال أنَّ مكانه المُوصِل بالعراق أو في الشام، وقيل بُعْدَاً للقوم الظالمين بسبب ظلمهم أيْ قال الله تعالي أو قال نوحٌ والمؤمنون بعد نجاتهم هَلاَكَاً وإبْعاداً من رحمة الله للقوم الظالمين أيْ للأناس الظالمين وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وهو تعبيرٌ في اللغة العربية يقوله كثيراً الصالحون بعد أن يَنصرهم ربهم ويُسعدهم بإهلاك عدوّهم وبالتمكين لهم في أرضه ينتفعون بخيراتها ومعناه بُعْدَاً لهم أي دعاء يعني اللهمّ لا تُرْجِعهم أبداً ولا أمثالهم وأبْعِدهم عن رحمتك وأبْعِدهم حتي عن ذاكرتنا فلا نتذكّرهم أبداً إلا للعِبْرَة
ومعني "وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)" أيْ وتَحَرَّكَتْ عاطفة وشَفَقَة الأُبُوَّة الفِطْرِيَّة عند نوحٍ فنادَيَ ربه داعياً مُتَوَسِّلَاً سائلاً قائلا ربِّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – إنَّ ابْنِي من أهلي وإنَّ وعدك الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقاً بأنْ تُنجيني وأهلي.. لقد ظنَّ (ص) أنَّ الوعد لعموم أهله مَن آمَنَ منهم ومَن لم يُؤمِن فلذلك دعاه بذلك الدعاء، خاصة وأنه لم يكن مُتَيَقّنَاً من كفر ابنه حيث كان يُخفيه، ومع هذا فقد تَرَكَ الأمر لحِكْمته تعالي التامَّة قائلاً وأنت أحكم الحاكمين أيْ فإنْ كان الإبن قد غرق فلابُدَّ أنَّ ذلك لحكمة سواء علمتها أنا أو لم أعلمها فليس هناك أيّ أحدٍ أحْكَم في حُكْمه وتَصَرّفه وتدبيره منك سبحانك فأنت أحكمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! وذلك لأنه تعالي يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك
ومعني "قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)" أيْ قال الله تعالي له مُوَضِّحَاً أنَّ رابطة الإيمان بين الناس لا بُدَّ أن تكون أقوي من رابطة النّسَب ومُقَوِّمَة لها يا نوح إنَّ ابنك هذا الذي هَلَكَ ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم، وذلك بسبب كفره، فقد وعدتك بإنْجاء أهلك إلا مَن سَبَقَ عليه القول منهم بسبب اختياره للكفر وهو كان مِن هؤلاء المُصِرِّين علي كفرهم فاعلم ذلك لأنك لم تكن تعلمه حيث كان يُخْفِي كفره عنك.. ".. إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ.." أيْ إنَّ طَلَبَ نجاة كافرٍ مُكَذّبٍ بالله ورسوله عدوٍّ لهما مُصِرٌّ علي ذلك عَمَلٌ غير صالح.. كذلك من المعاني إنه – أي ابنك هذا – في ذاته عَمَلٌ غير صالحٍ أيْ إنه ذاته صارَ كأنه عَمَلٌ غير صالحٍ من كثرة مُدَاوَمَته علي كفره وسوئه، وفي هذا بيانٌ لسبب نَفْي كوْنه من أهله.. ".. فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.." أيْ وبما إنه عملٌ غير صالحٍ وما دُمْتَ قد وَصَلَتك حقيقة الأمر فلا تطلب مِنّي بالتالي إذَن ما ليس لك به علمٌ هل هو صواب أم خطأ بمعني ألاّ تَطلب إلاّ ما كنتَ متأكّداً من صوابه لأنه مُوَافِقٌ للإسلام أمّا ما كنتَ متأكّداً من خَطَئه لمُخَالَفته للإسلام أو حتي كنتَ مُتَشَكّكَاً في كوْنه صواباً أو خطأ فلا تطلبه بل اطلب الصواب التامَّ فقط.. وفي هذا توجيهٌ لكل مسلم أن يكون كذلك حتي يُستجاب له، فلا يَدْعو بل لا يقول قولاً ولا يعمل عملاً في كل شئون حياته إلا بعد علمه بمُوَافَقَته للإسلام ليَسعد بذلك في دنياه وأخراه.. ".. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ألاّ يسأل بغير علم.. أيْ إني أُذَكّرك بهذه المَوْعِظَة الحَسَنة حتي لا تكون من الجاهلين بل تكون من الكامِلين.. أيْ وإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ سابقاً فاحْذَر وانْتَبِه أيها المسلم وإيّاك ثم إيّاك أبداً بالتأكيد أن تكون من الذين يجهلون أيْ لا يعلمون ما سَبَقَ ذِكْرُه من حِكَمِ الله وسُنَنَه في خَلْقِه وكَوْنِه أيْ طُرُقه وأساليبه فيهما ولا يعلمون ولا يُدْركون ولا يَتَعَقّلون ويَتَعَمَّقون ويَتَدَبَرّون في حقائق الأمور والأحداث وأعماقها وخَلْفِيَّاتها ولا يُحسنون تقديرها ونتائجها، وإلاّ لم تُحْسِن التّصَرُّف في حياتك وتَعِسْتَ فيها وفي آخرتك علي قَدْر سوء تَصَرُّفك كما يَحدث من الجاهلين غير العالمين بما ينفعهم ويُسعدهم وغيرهم من علم.. وبالتالي، وبعد عِلْمك بذلك، لم يَكْبُر عليك إعراض مَن أعرض عن الله والإسلام ولم تَحرص علي ما لا يكون وتَجزع حيث يُطْلَب الصبر لأنَّ ذلك من عادة الجَهَلَة، فلا تَتَشَبَّه مُطلقاً بهم واحرص علي كل علمٍ مُفيدٍ مُسْعِد لك ولغيرك
ومعني "قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)" أيْ بَعْدَ هذا الوَعْظ الحَسَن تَنَبَّهَ نوحٌ (ص) – ومِن بَعْدِه كل مسلم – إلى ما أرشده إليه الله تعالي فسارَعَ بطَلَب المغفرة والرحمة منه سبحانه قال يا ربّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – إني ألْجَأ إليك وأعْتَصِم وأَحْتَمِي وأَتَحَصَّن بك أنْ أسألك بعد الآن ما ليس لي به علم وأكون من الجاهلين الذين يقولون أو يفعلون ما لا ينبغي قوله أو فِعْله، وإنْ لم تغفر لي وترحمني أيْ تُسامحني علي ما أكون قد قَصَّرْت فيه بغير قَصْدٍ بسبب عدم علمي وتَرَكْتُ الأفضل والأكمل بسؤالي هذا الذي قد سألته عَمَّا ليس لي به علم فلا تُعاقِبني عليه وتَمْحُوه كأن لم يكن وتَمْحُو عَنّي آثاره المُتْعِسَة في الداريْن، وتُدْخِلني في رحمتك الواسعة التي وَسِعَت كل شيء والتي وَعَدْتَ بها المؤمنين، في الدنيا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في الآخرة حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، إنْ لم تفعل ذلك يا ربّ أكُنْ حتماً من الخاسرين في الداريْن خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث أفقد كل هذا وأتعس فيهما
ومعني "قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)" أيْ قال الله تعالي من خلال الوحي له مُبَشّرَاً إيَّاه والمؤمنين معه بكل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ يا نوح انزل من سفينة النجاة علي الأرض مَصْحُوبَاً بأمانٍ مِنّا وسلامةٍ وطمأنينةٍ واستقرارٍ وسعادة، وببركاتٍ أيْ خيراتٍ ورحماتٍ كثيراتٍ مُستمرّاتٍ مُتَزَايِداتٍ مُسْعِداتٍ مُيَسَّرَاتٍ بلا مَشَقّاتٍ من كل الجهات في كل شيءٍ فيكم وحولكم، عليك وعلى أممٍ أيْ مجموعاتٍ مُتَشَعِّباتٍ ومُتَفَرِّعاتٍ وناشئاتٍ من الأمم المُؤمِنَة العامِلَة بأخلاق إسلامها التى ستَهْبِط معك بعد أن أنجيناكم برحمتنا وفضلنا من الهلاك الذي نَزَلَ بالكافرين حولكم، وذلك السلام والبركات يكون لكل مؤمنٍ إلي يوم القيامة.. إنَّ هذا بيانٌ لجَنّاتِ وسعاداتِ الحياة الدنيا التي يَعِدُ الله تعالي بها المؤمنين حتي قيام الساعة وهو الذي لا يُخْلِف الوَعْد أبداً والتي سيَعيشون فيها لو عملوا بكل أخلاق الإسلام حيث كل خيرٍ ورزقٍ وأمنٍ وسعادة، إضافة بالقطع إلي وَعْدهم بجنات وسعادات الآخرة.. وخلاصة القول أنهم سيَعيشون حتماً دائماً في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. وذلك بقُدْرته ورحمته وكَرَمه الخالق المالِك للمُلك كله الرزّاق الكريم الوهّاب الودود الرحيم سبحانه.. ".. وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)" أيْ وهناك أمم أخري من ذرِّيَّاتكم لم تُؤمن أو ستُؤمن لكن ستَترك العمل بأخلاق الإسلام بعضها أو كلها، فأمثال هؤلاء الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، أيضا إلي يوم القيامة، سنُمَتّعهم متاعاً قليلاً في الدنيا حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمُتَعِها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومَتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموال ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أي لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذَن قليل دنيء زائل يوما ما، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيراً مَا يَتْبَعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحْدُث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)" أيْ ثم بعد عذاب الدنيا المُتْعِس هذا يُصيبهم ويَحْدُث لهم مِنّا لا من غيرنا حتماً في الآخرة في نار جهنم عذابٌ أليمٌ بما يُناسب سُوئهم أيْ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد فظيع مُهين مُتْعِس لا يُوصَف
ومعني "تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)" أيْ تلك القصة التي قَصَّها القرآن العظيم عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من قصص السابقين ومن القصص الحكيم عموما هي من أخبار الغيب التي نُوحِيها إليك عن طريق المَلَك جبريل والتي لم يكن يعلمها أحدٌ غيرنا وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صِدْقك فيما تُبَلّغه عنّا ولتكون عِبْرة لمَن أراد الاعتبار والعمل بها ليسعد في دنياه وأخراه حيث تُخبرهم بتفاصيل أخبار لم تكن تعلمها لأنك أُمِّيّ ولم تحضر زمنها لا أنت ولا قومك حولك في زمنك مِن قبل هذا الوقت الذي أوحيناها إليك فيه بهذه الصورة الصادقة الحكيمة الخالية من الأساطير والأكاذيب وبالتالي فلا يُمكن لأحدٍ حولك مِمَّن يُكَذّبك أنْ يَتَجَرَّأ علي قول أنك تَعَلّمتها منه بل أخبرناك بها مطابقة لِمَا كان عليه الأمر الصحيح كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك ويعلمها بعض مَن حولك مِن كتبهم السابقة كاليهود والنصاري ويتداولونها فيما بينهم ولا يمكنهم تكذيبها.. والغيب هو كلّ ما غابَ عن الناس من ماضٍ وحاضرٍ لا يعلمونه ومستقبلٍ آتٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والبَعْث لهم فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي هو من الغَيْب والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. فَاصْبِرْ.." أي إذا كان الأمر كما ذَكَرْنَا لك أيها الرسول الكريم ولكم أيها المسلمون سابقاً وفي القرآن العظيم كله فبالتالي فكونوا إذَن من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) وكونوا من الذين إنْ أصابتهم فتنة مَا أي اختبارٌ أو ضررٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر، وعلى ما يقوله المُكذّبون من أقوالٍ لا يؤيدها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أيْ يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن، هو حقّ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات (121) حتي (127) ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)" أيْ فاصْبِر واصْبِروا لأنَّ بكل تأكيدٍ العاقبة أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتماً دائماً للمتّقين أيْ للذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً من الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)" أيْ وكما أرسلنا نوحاً إلى قومه داعياً إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قوم عادٍ – وهم الذين كانوا يعيشون بمنطقةٍ تُسَمَّيَ الأحقاف وهي الأرض الرملية جنوب الجزيرة العربية قرب حضرموت واليمن – أخاهم رسولنا الكريم هوداً فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله "أخاهم" و "يا قوم" حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)" أيْ وما أنتم إلا كاذبون علي الله تعالي كذباً شنيعاً ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم قُبْحَاً من الكذب في أمرٍ له أصلٍ مَا بادِّعائكم كذباً وزُورَاً وجود آلهة تعبدونها غيره سبحانه كأصنامٍ وغيرها
ومعني "يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)" أيْ هذا مزيدٌ من محاولة اجتذابهم لله وللإسلام.. أيْ يا قوم، يا أهلي وأحِبَّائي، يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم، إنَّ مِن علامات صِدْقي أني لا أسألكم أيّ أجرٍ من مالٍ أو غيره علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم وعملتم بأخلاقه!! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً مَا كنتُ سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا!!.. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم الذي فَطَرَهم أيْ خَلَقَهم وأوْجدهم وابْتَدَأهم وأنشأهم من عدمٍ علي الفطرة السليمة المستقيمة والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة.. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تُرْشِدكم لهذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ لأمثالهم لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من محاولة اجتذابهم لله وللإسلام.. أيْ ويا قوم، يا أهلي وأحِبَّائي، يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدهم ويُتعسني ما يُتعسهم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم، اسألوا ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – دَوْمَاً مَغْفِرَة ذنوبكم السابقة وتوبوا إليه مُسْتَقْبَلَاً علي الدوام وأوّلاً بأوَّلٍ، مَمَّا فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار، وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، يَغفر لكم حتماً لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. ".. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ.." أيْ فإنْ فَعَلْتُم ذلك يُكافِئكم ويُنْعِم عليكم مع مغفرته بأنْ يُنْزِل عليكم بقُدْرَته وفضله ورحمته من السماء مطراً مِدْرَارَاً أيْ كثير الدُّرُور أيْ السَّيَلان أيْ غزيراً مُتَتَابِعَاً بلا أضرار لتنتفعوا ولتسعدوا بكل خيراته وأرزاقه من زروع وثمار وحيوانات وغير ذلك فى كل شئون حياتكم، وبأنْ يُزِدْكم قوّة إلي قوّتكم أيْ يُضاعِف قوَّاتكم بكل أنواعها الروحية والعقلية والجسدية والبشرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها بما يُسْعِدكم في الداريْن لو أحسنتم استخدامها.. ".. وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)" أيْ ولا تُعْرِضُوا أيْ تُعطوا ظهوركم وتَلْتَفِتوا وتَنْصِرفوا وتَبتعدوا عن عبادة الله تعالي وحده وتَتركوها وتُهملوها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وتُقاوموا نَشْرها وتُؤذوا مَن يَتّبعها، وحالكم مُجْرِمين أيْ مُتَّصِفِين بالإجرام مُصِرِّين عليه والذي سيُتْعِسكم حتماً في الداريْن.. والمجرمون هم الذين يرتكبون الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا
ومعني "قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)" أيْ كعادة الكفار والمشركين دائما، ومَن يَتَشَبَّه بهم، يَتَحَجَّجُون بحُجَج ضعيفة سفيهة لا يقبلها العقل المُنْصِف العادل، مِن أجل تبرير كفرهم وشِرْكهم وعِنادهم وكِبْرهم واستهزائهم وعدم اتّباعهم للإسلام.. أيْ قالوا له مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُرَاوِغين يا هود ما أحضرتَ لنا بَيِّنَة أيْ دلالة ومُعْجِزَة واضِحَة علي صِدْق ما تدعونا إليه حتي نُصَدِّقك ونَتّبِع دينك الإسلام، وما نحن بالتالي بتارِكين لعبادة آلهتنا لمُجَرَّد قولك لنا الذي هو بلا دليل – في ادِّعائهم – وبسببه أن اتركوا عبادتها واعبدوا الله وحده، وما نحن بمُصَدِّقين لك ومُسْتَجِيبين فيما تدَّعيه، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي إصرارهم الاستمرار في سُوئهم.. إنه رغم أنَّ القرآن الكريم لم يَذْكُر بَيِّنَة مُحَدَّدَة لهود (ص) إلا أنهم يعلمون تمام العلم أنَّ ما جاءهم به من تشريعٍ في الإسلام الذي كان يُناسب عصره والذي يوافِق تماماً العقل والفطرة هو أهم مُعْجِزَة له إذ أعْجَز البشرية كلها – وكذلك كل تشريعات الله تعالي للبشر من آدم وحتي القرآن العظيم مع رسولنا الكريم محمد (ص) – حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، كما أنهم حتماً كاذبون لأنَّ هناك آيات أيْ مُعْجِزات مُؤَيِّدَة له قد جاءهم بها لم تُذْكَر تفاصيلها في القرآن كما جاء في قوله تعالي في هذه السورة الكريمة في الآية (59) " وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ.."
ومعني "إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)"، "مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)"، "إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)" أيْ ما نقول إلا أصابك بعض آلهتنا بجنونٍ في عقلك بسبب مَنْعك من عبادتها وسَبَّكَ لها فصِرْتَ تقول تخريفاً ولو غَضَبَتْ عليك كلها لهَلَكْتَ!! وهذا مزيدٌ مِن ادِّعاء الكذب عليه والإساءة الشنيعة إليه وإلي الإسلام والاستهزاء بهما، بما يدلّ علي إصرارهم علي سُوئهم وقُبْحهم وازديادهم فيه.. ".. قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)" أيْ قال لهم هود (ص) مُصِرَّاً علي إيمانه بكل قوة وعِزّة مُتَحَدِّيَاً مُتَوَكّلاً علي ربه واثقاً تماماً برعايته ونصره إني أشهد الله على ما أقول – وهذا كالقَسَم في إفادة التأكيد – وكَفَيَ به شاهدُ حقّ لي وضِدّكم ولو كنتُ كاذباً لخَسَفَ بي وأشهدكم أنتم أيضا عليه وأُثْبِت عليكم وأُعْلِمكم أني بَرِيء مِمَّا تُشركون به أيْ بعيد كل البُعْد من أيِّ شريكٍ تعبدونه معه أيْ مُتَبَرِّيء مِمَّا تعبدونه غير الله تعالي من آلهةٍ كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نار أو غيره رافض لها غير مُعْتَرِف بها ولا راض عنها ولا صِلَة بيني وبينها وأنا ضِدَّها وأعاديها.. لقد أكّدَ (ص) براءته من آلهتهم وشِرْكهم ووَثّقها بما جَرَت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة الناس فيُقال الله شهيد عليّ أني لم أقل ولم أفعل كذا ويقول لمَن حوله كونوا شهداء عليّ أني لا أفعله.. إنَّ إشهاد الله تعالي على ذلك هو لتمام ثقته بأنه على بَيِّنة منه فيه، وإشهاده إيّاهم عليه أيضا لإعلامهم بعدم مبالاته بهم وبما يَدَّعون من قُدْرَة شركائهم على إيذائه وكأنه يقول لهم إني أُعْلِن شهادتي فيكم فافعلوا ما بَدَا لكم.. لقد أشهدهم على ذلك رغم أنهم ليسوا أهل شهادة لأنهم كفّارٌ فُسَّاقٌ ولكن لإقامة الحُجَّة عليهم لا لتقوم الحجة بهم فقال هذا القول إعذاراً لله وإنذاراً لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم.. "مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)" أيْ إني بريءٌ مِمَّا تُشركون من دون الله، أيْ غيره من الأصنام وغيرها – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي سُوئهم بإشراكهم غيره تعالي في العبادة – وإني لا أبالى بكم ولا بآلهتكم التي تدَّعون أنها مَسَّتْنى بسوءٍ وبالتالي فتعاونوا أنتم وآلهتكم جميعا على الكَيْد لى ثم لا تُنْظِرون أيْ ولا تُمْهِلُون أيْ ولا تَتَرُكون لي مُهْلَة ووقتاً في تنفيذ كَيْدكم بل نَفّذوه علي الفور بحيث لا يكون لي أيّ فرصة للاستعداد للنجاة منه، وذلك إنْ كنتم تَقْدِرون على إيذائى فإنَّ ربّى يَرْعانى فإني على الله وحده اعتمدت في كل شئون حياتي لأسعد في دنياي وأخراي (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، اعتمدت عليه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيني كفاية تامّة ولن أحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقنا القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لنا الرحيم بنا هو وكيلي أنا والذين آمنوا معي، أيْ الحافظ لنا المُدافِع عنا، فهل نحتاج وكيلاً آخر بعد ذلك؟!! إننا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، ولذا فنحن مُطمئنّون اطمئنانا كاملا ومُسْتَبْشِرون ومُنتظرون دائما لكل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنيانا ثم أخرانا.. إنني مُستمِرٌّ ثابتٌ صابرٌ علي العمل بالإسلام وعلي دعوتى لله وله مُتَوكّل عليه في كل أمرى لا أبالي سواء عَظُم عليكم ذلك أم لا.. إننى مستمرّ فى طريقى الذى أمرنى الله به بلا مبالاة بمَكْركم وكَيْدكم فأنا علي ثقةٍ تامَّةٍ بلا أيِّ شكّ أنه يَرْعاني ويُنجيني ويَنصرني.. إنه بهذا يَتَحَدَّاهم تمام التّحَدِّي مُتَوَكّلَاً علي الله حقّ تَوَكّله.. وفي هذا تذكرةٌ للمسلمين أن يَتَشَبَّهوا برسلهم الكرام في ثقتهم التامَّة بنصر ربهم وخيره وعِزّته لهم في الداريْن لينالوا مثلهم أجرهم من ربهم فيهما.. "إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إني بريءٌ مِمَّا تُشركون ولا أُبَالِي بكَيْدكم جميعا لأني اعتمدتُ تماماً علي الله وحده الذي هو ربي وربكم رضيتم أم لم تَرْضوا – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – وذلك لإعلامهم أنَّ إنكارهم لهذا لا قيمة له وأنه إنكارٌ عن استكبارٍ وعِنادٍ لا عن تَعَقّلٍ ودليلٍ وهو بسبب أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ويَدلّ علي ما أقول، أنه هو القادر علي كل شيءٍ حيث مَا مِن دابَّة – وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك علي الأرض وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه – إلا وهو حتماً آخذٌ بناصيتها أيْ بمُقَدِّمَة رأسها بمعني أنه مالِك أمرها ومُتَصَرِّف فيها وتحت سلطانه ونفوذه، وبالتالي فلا يَصعب عليه بالقطع حِفْظى من أذاكم ولا إهلاككم أنتم وآلهتكم المزعومة والتي لا تنفع ولا تَضرّ بأيِّ شيء.. ".. إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إني توكّلت علي الله ربي وربكم لأنَّ ربي مُتّصِفٌ بكل صفاتِ الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه علي صراطٍ مستقيمٍ أيْ على طريقٍ عدلٍ حَقّ صِدْقٍ في حُكْمه وتقديره وأقواله وأفعاله وفي شرعه الإسلام وفي حسابه وجزائه وعقابه حيث يُجازِي المُحْسِن العامِل بأخلاق إسلامه علي إحسانه بكل خيرٍ وسعادةٍ وينصره في الداريْن ويُعاقِب المُسِيء مِثْلكم المُخالِف له علي إساءته بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ بما يُناسبه من كل شرٍّ وتعاسةٍ ويهزمه فيهما.. وفي هذا حَثٌّ وتشجيعٌ ضِمْنِيٌّ لكل عاقلٍ من الناس أن يتّبِع ربه وإسلامه، يَتّبِع هذا الصراط المستقيم، هذا الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريق تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، طريق الله والإسلام
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)" أيْ فإن استجبتم فلكم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَتَوَلّوا أيْ تُعطوا ظهوركم لله ولرسولكم وتَلْتَفِتوا وتَنْصَرِفوا وتَبْتَعِدوا عنهما وعن الإسلام وتَتركوا أخلاقه وتهملوها وتفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، فلكم كل الشر والتعاسة فيهما علي قَدْر تَرْكِكم لها، أمَّا أنا فلا يَضُرّني تَوَلّيكم وليس عليَّ إثم تقصيرٍ نحوكم لأني قد أدّيت واجبى لكم إذ ليس عليَّ إلا البلاغ فهذه فقط هي مهمّتي وبذلك قامت الحُجَّة عليكم فلا عُذْر لكم لعدم إيمانكم فقد أبلغتكم أيْ أوْصَلت لكم ما أرسلت به إليكم من ربي من وصَايَاه ومَوَاعِظه وتشريعاته وأنظمته وأخلاقيَّاته في الإسلام كاملة غير مَنْقُوصَة، ونصحت لكم أيْ وأرْشدتكم إلى كل ما فيه صلاحكم بكل إخلاصٍ وصدقٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ بلا أيِّ تقصيرٍ أو غِشٍّ أو خِداعٍ أو فساد، بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنَة، حتي تسعدوا بها تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فلم أقْتَصِر علي تبليغها بل أضفتُ إليها النصيحة التي تُؤَدِّي إلي التحبيب فيها للعَوْن علي التمسّك والعمل بها والاستمرار والثبات عليها بالترغيب وبالترهيب حسبما يُناسبكم.. ".. وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ.." أيْ وسيُهْلِككم بسبب إصراركم على كفركم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُتْعِسَاً لكم مُسْعِدَاً لنا ويَجيء بأُناسٍ آخرين غيركم يَخْلُفونكم أيْ يأتون خَلْفكم مِن بَعْدِكم بعد إهلاككم وفنائكم يَرِثون دياركم وأموالكم ويؤمنون فيُسْعِدهم في الداريْن.. فانتبهوا لذلك واحذروا واستجيبوا.. إنَّ الله تعالي سيَستبدل بكم أُنَاسَاً غيركم كما خَلَقَكم أنتم فهو قادرٌ علي كلّ شيء، أيْ يُذهبكم ويأتِ بآخرين، إمَّا بإهلاكٍ سريعٍ واستئصالٍ تامٍّ من الحياة بزلازل وصواعق وفيضانات ونحوها إنْ كانت شروركم ومَفاسدكم وأضراركم تستحِقّ ذلك كما يَحدث أمامكم واقعيا كثيرا (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، وإمَّا بأن يأتي تدريجيا مع الوقت مِن بعدكم مِن ذُرِّيَّاتكم وذُرِّيَّات غيركم بأناسٍ لا يكونوا أمثالكم في سوئكم بل يكونوا صالحين عابدين لربهم وحده مُجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن، وهذا أمرٌ سهلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس عليه بعزيز أيْ صعب أو بعيد التحقّق.. وفي هذا حثّ للمسلمين علي الاجتهاد التامّ في العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا تماما فيهما ويُسْتَبْدَلوا بغيرهم ويُعَذّبوا ويُهْلَكوا بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم.. ".. وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا.." أيْ وبتَوَلّيكم، وبإصراركم علي ذلك، حتماً وبكل تأكيدٍ، لن تضرّوا الله تعالي ولا دينه الإسلام في أيّ شيءٍ! بل أنتم قطعاً الذين ستَتَضَرَّرون حيث ستُعَذّبون وتتعسون في دنياكم وأخراكم، لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو ابتعد الناس جميعا عن الإسلام! بل الذين يبتعدون هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم، وسيَهْزِم أعداءه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهل يُقَارَن الخالِق بمَخْلوقه؟! فسيَهزمهم قطعاً وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. كذلك من المعاني ولا تضرّوا الرسول (ص) شيئاً مَا مِن الضرر بسبب تَوَلّيكم لأنَّ الله قد وَعَده بالنصر ووَعْده صِدْقٌ وواقعٌ بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ.. ".. إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)" أيْ إنَّ ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – سبحانه بالتأكيد كثير الحِفْظ، أي لا يَخرج أيّ شيءٍ عن حِفْظه وسلطته وعِلْمه وقُدْرَته، فهو مُرَاقب لكلّ شيءٍ عالم به قادر عليه، فهو تعالي يحفظ كلّ خَلْقه وكل كوْنه وكل خيراته فيه، ويحفظ للبَشَر كل أرزاقهم، وكل أقوالهم وأفعالهم بكلّ تمامٍ دون أيّ نقصانٍ أو ضياع ويحفظ لهم جزاءها كاملا في الداريْن بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يعفو.. فانتبهوا لذلك واحذروا واستجيبوا
ومعني "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)" أيْ وحينما جاء وحَضَرَ وقت أمرنا بعذابهم وبإهلاكهم، نَجَّيْنا أيْ أنْقذنا هوداً هو والذين آمنوا معه أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، برَحَمَاتنا ونِعَمِنا وأفضالنا التي لا تُحْصَيَ، وأنقذناهم من عذابٍ غليظٍ أيْ فظيعٍ ثقيلٍ شديدٍ مُخيفٍ مُهْلِكٍ مُذِلٍّ مُهِينٍ لا يُمكن تَخَيّله ولا تَجَنّبه والهروب منه.. وكان عذابهم برياحٍ شديدةٍ أهلكتهم كما ذُكِرَ ذلك في آيات آخري.. هذا، واستخدام ذات اللفظ عن النجاة هو لمزيدٍ من التأكيد عليها والتنبيه لها والتذكير بها وبنِعَمها ولبيان أنها نجاة في الدنيا أولا من كل شرٍّ وتعاسةٍ ثم في الآخرة مع تمام خيراتها وسعاداتها الخالدة التي لا تُوصَف
ومعني "وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)" أيْ وهذا بيانٌ لسبب عذابهم الغليظ في دنياهم وأخراهم.. أيْ وهذه قبيلة عاد التي أنزلنا بها عذابنا الثقيل قد أنكروا وكذّبوا بألسنتهم بآيات ربهم مع تأكّدهم بدواخلهم بأنها الحقّ والصدق – والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ – سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في كتاب يُتْلَيَ عليهم أوحاه الله لرسوله فيه أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يديه لتأكيد صِدْقه، وذلك حتي لا يَتّبِعوا الإسلام هم وغيرهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فهم يُدركون تماما داخل عقولهم مِن فطرتهم أنَّ ما جاءهم به حقّ، أي صِدْق، أي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسْعِدهم في الداريْن (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار والمُرَاوَغَة وعدم الاستجابة للحقّ مِن أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَعَصَوْا رُسُلَهُ.." أيْ وخَالَفوا رسولهم هودَاً ولم يَتّبِعوا الإسلام الذي جاءهم به بل فَعَلوا المَعاصِي وهي الشرور والمَفاسِد والأضرار.. هذا، واستخدام صيغة الجَمْع رغم أنهم قد عَصوا رسولاً واحداً هو هود (ص) وذلك لبيان أنَّ الإيمان بكل الرسل هو من الغيب وهو جزء من الإيمان والكفر بأحدهم كأنه كفر بهم جميعا لأنَّ ما جاءوا به واحد وهو الإسلام ومصدره واحد وهو الله تعالي، وأيضا لإظهار ضخامة جرائمهم حيث عَصوا رسلاً كثيرين لا رسولا واحدا.. ".. وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)" أيْ وسارُوا خَلْف ونَفّذوا وأطاعوا أمر كل جبّارٍ أيْ مُتَكَبِّرٍ مُتَعَالٍ مُتَطَاوِلٍ علي الله تعالي وعلي دينه الإسلام وعلي الناس يَحتقرهم ويذلّهم ولا يعطيهم حقوقهم ويريد إجبار غيره وإرغامه علي ما يريده هو من شرٍّ بكلّ ظلمٍ وعدوان وإيذاءٍ وحتي تهديدٍ بقتل، عنيدٍ أيْ كثير شديد العِناد أيْ مُبالِغٍ في مُعارَضَة ومُدَافَعَة ومُخَالَفَة الحقّ مُصِرٍّ علي عدم اتِّباعه مُتَمَادٍ في ذلك مع علمه التامّ بداخل عقله بأنه حقّ، والمقصود طاعتهم بلا تَفَكّرٍ وتَعَقّلٍ لرؤسائهم وقادتهم الجَبَّارين المُعانَدين في كل شرٍّ والذين سيُتْعِسونهم بذلك حتماً في الداريْن، وعصيان دُعاتهم لكل خيرٍ مُسْعِدٍ فيهما.. ولذلك، ولكل ما سَبَقَ ذِكْره، اسْتَحَقّوا بكل عدلٍ العذاب الغليظ الذي حَدَثَ لهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)" أيْ وكذلك من شدَّة الغضب عليهم، بسبب جرائمهم الشديدة السوء، جعل الله اللعنة مُتَابِعَة أي مُلازِمَة دائما لهم أينما حَلّوا في أيِّ مكان، وذلك في الدنيا، حيث لعنة الناس تُتَابعهم، فكلّما تذكّر أفعالهم أيّ أحدٍ لَعَنهم، أيْ دعا عليهم بمزيدٍ من الخروج من رحمة الله، أيْ مزيدٍ من العذاب، في مقابل ظلمهم وإيذائهم الشديد لخَلْق الله، إضافة إلي لعنته تعالي التي كانت عليهم في دنياهم والتي ستنتظرهم في أخراهم، أيْ إخراجهم من كل رحمة ورعاية، فاجتمعت عليهم لعنات الخالق وكل خلْقه.. هذا، والذين يفعلون مِثْلهم في أيّ زمنٍ فهم مُعَرَّضون لِمَا يُشبه مَصيرهم، فستجدهم دوْماً في درجةٍ ما من درجات العذاب – بسبب لعنة ربهم عليهم أيْ بُعْدهم عن رحمته وحبه ورعايته وعوْنه وتوفيقه – كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة تراهم في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، وحتي لو ظهر عليهم بعض سعادة فهي سطحية لا مُتَعَمِّقة وَهْمِيَّة لا حقيقية مؤقتة لا دائمة (برجاء مراجعة الآية (55) من سورة التوبة "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، ثم يوم القيامة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ لعنة وألماً وكآبة وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. ".. أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لحالهم وواقعهم ولسبب ما هم فيه من لعنات وتعاسات دنيوية وأخروية.. أيْ إنَّ قوم عاد كذّبوا بربهم، كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وأنكروا نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليهم وفَعَلوا كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرهم.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)" أيْ هَلاَكَاً وإبْعاداً من رحمة الله لأُمَّة عادٍ التي هي قوم رسولنا هود (ص) بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لربهم.. وهذا تعبيرٌ في اللغة العربية يقوله كثيراً الصالحون بعد أن يَنصرهم ربهم ويُسعدهم بإهلاك عدوّهم وبالتمكين لهم في أرضه ينتفعون بخيراتها ومعناه بُعْدَاً لهم أي دعاء يعني اللهمّ لا تُرْجِعهم أبداً ولا أمثالهم وأبْعِدهم عن رحمتك وأبْعِدهم حتي عن ذاكرتنا فلا نتذكّرهم أبداً إلا للعِبْرَة.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)" أيْ وكما أرسلنا نوحاً وهوداً إلى قومهما لكي يَدْعُوَا إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قوم ثمود – وهم الذين كانوا يعيشون شمال الجزيرة العربية في منطقة الحِجْر التي تقع بينها وبين الشام – أخاهم رسولنا الكريم صالحا فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.." أيْ اعبدوه لأنه هو وحده لا غيره الذي أنشأَكم أيْ أوْجَدَكم من عدمٍ وخَلَقَ أباكم آدم من ترابِ الأرض وخَلَقكم من سُلالته، وهو الذى جعلكم عُمَّارَاً فيها ساكنين بها وطَلَبَ منكم حُسْن إعمارها وجَعَلها وأعطاها لكم عُمْرَيَ أيْ وَقْفَاً وهِبَة طوال عُمْرِكم في دنياكم بأنْ سَخَّرَها كلها لكم ومَكّنكم منها لتنتفعوا ولتسعدوا بجميع خيراتها ونِعَمها.. إنه (ص) يُذَكّرهم ببعض مُعْجِزَاته ودلالاته تعالي التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، لعلهم بهذه التذكرة يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما ببُعْدهم عنهما.. ".. فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ.." أيْ فبالتالي إذَن اسألوه دَوْمَاً مَغْفِرَة ذنوبكم السابقة وتوبوا إليه مُسْتَقْبَلَاً علي الدوام وأوّلاً بأوَّلٍ، مَمَّا فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار، وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، يَغفر لكم حتماً لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. ".. إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)" أيْ هذا مزيدٌ من محاولة اجتذابهم لله وللإسلام وتَذْكرتهم برحمة الله الواسعة.. أيْ إنَّ ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قريبٌ منكم ومِن كل خَلْقه معهم أينما كانوا في كل لحظات وشئون حياتهم بعِلْمه وقُدْرته ورحمته ورعايته وأمنه وحبّه ورضاه ورزقه وعوْنه وتوفيقه وقوّته ونصره وإسعاده في دنياهم ثم بكلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ خالدٍ تامّ لا يُوصَف في أخراهم، وهو تعالي مُجيبٌ أيْ مُسْتَجِيبٌ ومُلَبِّي لدعائهم إذا دعوه وحاضرٌ بقربٍ تامٍّ مع كل سائلٍ فلا تَتَوَقّف إجابته على وجود واسطة بينه وبين مَن يدعوه حيث يستجيب له عاجِلَاً أو آجِلَاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسباً مُسْعِدَاً له ولغيره، وهو سبحانه لا يَخْفَيَ عليه شيءٌ مِن كل أقوالهم وأعمالهم في سِرِّهم وعَلَنِهم وسيُحاسبهم عليها بما يُناسبها في الداريْن بالخير خيراً وسعادة ويزيد وبالشر شرَّاً وتعاسة أو يَعفو.. إنَّ المقصود مِن شِدَّة القُرْب هذه القُرْب عن طريق العلم والقُدْرة قطعا لا القُرْب في المكان لاستحالة ذلك عليه سبحانه لأنه ليس له مكان أو زمان بل هو فوقهما وخارجهما ومُسَيْطر عليهما ومُتَحَكِّم تَحَكّمَاً تامَّاً فيهما.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة دعوة للإنسان لمُرَاقَبَة خالِقه المُطّلِع على كل داخله القريب منه في جميع أحواله فليَفعل إذَن كل خير وليترك كل شرّ ليَسعد في دنياه وأخراه من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، للشرح والتفصيل عن الدعاء وأسباب الإجابة وفوائد وسعادات ذلك في الداريْن)
ومعني "قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)" أيْ لكنّهم بَدَلَاً أن يستجيبوا له ليسعدوا في الداريْن، إذا بهم يُقابلونه بالسوء والسَّفَه والتكذيب والتّعالِي حيث قالوا له يا صالح قد كنتَ فينا مَرْجُوَّاً أيْ يُرْجَيَ ويُؤْمَلُ منك الخير مُسْتَقْبَلَاً بيننا لحُسْن خُلُقك وعقلك وعِلمك وفِكرك وصِدْقك وفضلك ونَفْعك فكنا نرجو أن تكون لنا سيداً قائداً مُطاعاً – وهذه شهادة ضِمْنِيَّة منهم غير مَقْصُودة له (ص) بحُسْن خُلُقه وكمال عقله وأنه أفضلهم – قبل هذا الذي تدعونا إليه من عبادة الله وحده وتَرْك عبادة آلهتنا، أمَّا الآن وبعد أن جئتنا بدينك هذا فقد خابَ رجاؤنا فيك وصِرْت فى رأينا رجلا لا يُرْجَيَ منك خير!.. ".. أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب مِمَّا جاءهم به!.. أيْ هل تمنعنا أن نعبد أيْ نطيع ما يعبد آباؤنا السابقون من آلهة؟! حيث كانوا يعبدون الأصنام (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ثم هم بعد أنْ ذَكَرُوا يَأْسهم من صلاح حاله حيث خابَ رجاؤهم فيه ذَكَرُوا له أنهم يشكّون في صِدْق أنه مُرْسَلٌ إليهم وصدق ما جاءهم به إذ قالوا له: إننا في شكّ مُريبٍ مُستمرٍّ مِن هذا الذي تدعونا إليه، أي شكّ مُؤَدِّي إلي الرِّيبة أي إلي الشكّ، أيْ شكّ يؤدّي إلي مزيدٍ من الشكّ، أيْ شكّ كثير أكيد، شكّ في وجود الله وفي صدق كتبه ورسله وصلاحية إسلامه لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها بكلّ مُتغيّراتها في دنياها وأخراها، وشكّ في وجود آخرة وبَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر مرة أخري بعد موتهم، وشكّ في وجود حسابٍ وعقاب وجنة ونار.. إنَّ كلّ ذلك الشكّ وعدم التأكّد الذي هم فيه ما هو إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم يَقصدون أنهم ليسوا متأكّدين من صِحَّة وصِدْق ما يدعوهم إليه كأنهم يقولون له: لا، إننا لن نستجيب لك وإننا قد وجدنا آباءنا على عبادة الأصنام وإننا على آثارهم سائرون!
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)" أيْ قال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم أرأيتم أيْ أخبروني ما رأيكم وقولكم في حالي معكم إنْ كنتُ على بَيِّنَةٍ مُنَزَّلَة من ربي أيْ دلاَلَةٍ واضِحَةٍ قاطِعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ بلا أيِّ شكٍّ وهي مَخلوقاته المُعجزات في كل كوْنه وعلي يقينٍ لا يتزعزع وثقةٍ كاملة بوجود ربي ووجوب عبادته أيْ طاعته وحده لا غيره وبصِدْق شرعه ووجوب اتّباعه لا غيره وهي واضحة تماماً لأنها تُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وأعطاني منه رحمة وهي النبوة وشريعة الإسلام التي أوحاها إليَّ لأبَلّغها للناس والتي هي سبب رحمة الله لمَن يعمل بها كلها حيث تُصلحه وتُكمله وتُسعده تمام السعادة في الداريْن لأنها من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. هذا، ومن المعاني أنَّ البَيِّنَة هي شريعة الإسلام المُنَزَّلَة من ربي والرحمة هي أيضا الشريعة ولكنْ لإبراز أهم صفاتها وهي الرحمة أيْ الخير والأمن والسعادة.. ".. فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ.." أيْ فمَن يستطيع أن يَدْفع عنّي عذاب الله وينقذني ويمنعني منه وينصرني عليه حين يأتيني إنْ أنا علي سبيل الفرض لا الحقيقة خالفت أمره بعدم تبليغ الإسلام للناس استجابة لكم؟! لا، إننى سأستمرّ فى تبليغه مُستعيناً به مُتوكّلا عليه وحده ولن يمنعنى عن ذلك ترغيبكم أو ترهيبكم.. ".. فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)" أيْ فإنْ عصيته وأطعتكم فحينها بالتالي إذَن لا تفيدونني ولا تُضِيفُون إليَّ إلاّ أن تجعلوني خاسِراً خسارَة مُضَاعَفَة حيث تمام الشرّ والتعاسة في الدنيا ثم الآخرة
ومعني "وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)" أيْ وقال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم، هذه التي تَرَوْنها وأُشِيرُ إليها هي ناقة الله والتي جعلها سبحانه لكم آية أيْ علامة لكم على صِدْقِى.. وقد أضاف في كلامه الناقة إلى الله لتعظيم شأنها حتي لا يَتَجَرَّأ أحدٌ بالاعتداء عليها ولأنه سبحانه خَلَقَها بصورةٍ مختلفةٍ في صفاتها عن بقية النّوق حيث هي خَرَجَت من هضبةٍ وصخرةٍ كانوا قد سألوه إخراجها منها كمُعجزةٍ لتَدُلّ علي صِدْقه حتي يَتَّبعوه، ولأنها كانت كأنها عاقلة بإلهامٍ منه تعالي حيث تأتي في وقتٍ مُحَدَّدٍ للرعي وللشرب وتترك لهم أوقاتاً أخري يرعون هم فيها دَوَابّهم.. ".. فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)" أيْ ولكوْنها آية عظيمة فعَظّموها بالتالي إذَن فذروها أيْ فاتركوها تأكل في أرض الله حيث هي ناقته والأرض أرضه ولا تلمسوها بأيِّ أذي فيُصيبكم بسبب ذلك عذابٌ عاجلٌ سريعٌ شديدٌ مؤلمٌ مُوجِعٌ في الدنيا قبل عذابٍ آجلٍ لا يُوصَف في الآخرة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم من أيِّ اعتداءٍ عليها بأيِّ صورةٍ من الصور
ومعني "فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)" أيْ فذبحوا الناقة التي كانت آية عظيمة لهم مُتَحَدِّين بذلك الله تعالي ورسوله (ص) مُعْلِنِين حربهم عليهما مُسْتَكْبِرين مُعانِدين مُكَذّبين مُسْتَخِفّين بتحذير رسولهم الشديد لهم أن يمسّوها بسوءٍ فيأخذهم بسبب ذلك عذابٌ قريب، فقال لهم صالح (ص) بكل حَسْمٍ بوَحْيٍ من الله تعالي استمتعوا بحياتكم في دياركم في بلدكم في دنياكم بأكلكم وشُرْبكم وعملكم ثلاثة أيام فقط فهي آخر أيامكم فيها لأنَّ عذابه القريب الذي تُكَذّبونه نازلٌ بكم بَعْدها حتماً، وذلك الوَعْد بنزول العذاب القريب بكم بعد هذه المدة القصيرة هو وَعْدٌ من الله صادق تماما غير مَكْذوبٍ فيه أبدا، لم أَكْذِبُكم فيه، غير كَذِب، لأنه صادرٌ منه تعالى الذى لا يُخْلِف وَعْده مُطلقاً فلا بُدّ من حُدُوثه
ومعني "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)" أيْ فحينما جاء وحَضَرَ وقت أمرنا بعذابهم وبإهلاكهم، بعد الأيام الثلاثة، نَجَّيْنا أيْ أنْقذنا صالحا هو والذين آمنوا معه أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، برَحَمَاتنا ونِعَمِنا وأفضالنا التي لا تُحْصَيَ، وأنقذناهم كذلك من ذلِّ وعارِ وفَضْحِ يومها، من خِزْي ذلك اليوم الشديد الذى نَزَلَ فيه العذاب بهم فأبادهم في الدنيا، ثم نجَّيْناهم مِمَّا هو أَخْزَيَ الذي يَنتظرهم في الآخرة.. ".. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)" أيْ إنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يَفعل كلّ ذلك لأنه هو حتما له كل صفات الكمال الحُسني والتي منها أنه هو وحده القويّ أي العظيم الكامل القوة والتي لا تُقارنها أيّ قوة وما من قوة لأحدٍ أو لشيءٍ إلا مِن قوّته تعالي، كما أنه هو العزيز أي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر.. واختيار هاتين الصفتين مناسب لختام الآية الكريمة حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ مثلا مِن المُكذبين ومَن يشبههم أنّ لطفه بعباده هو عن عجز أو ضعف فإنه في ذات الوقت قطعا قويّ عزيزٌ لا يَعجز ولا يضعف!! وهو حتما يُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)" أيْ وأصابَ ونَزَلَ وانْقَضَّ علي الذين ظلموا الصَّيْحَة – من الصِّياح – وهي الصوت الشديد الذي يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة حيث أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، فأصبحوا في بلدهم وبيوتهم جاثمين أيْ بارِكين علي رُكَبهم كالإبل هامِدين مَيِّتين مَذلولين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. والذين ظلموا هم الذين سَبَقَ ذِكْرُهم وهم كلّ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)" أيْ لقد عُوقِبُوا وعُذّبُوا وأُهْلِكُوا فلم يَبْق لهم أيّ أثَرٍ كأنهم لم يقيموا مِن قَبْل في دنياهم مُطلقاً ولم يَغْتَنُوا ويَتَنَعَّموا بأيِّ شيءٍ منها.. ".. أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لحالهم وواقعهم ولسبب ما حَدَث لهم من عذابٍ وتعاسة في الدنيا والآخرة.. أيْ إنَّ قوم صالح كذّبوا بربهم، كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وأنكروا نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليهم وفَعَلوا كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرهم.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)" أيْ هَلاَكَاً وإبْعاداً من رحمة الله لأُمَّة ثمود التي هي قوم رسولنا صالح (ص) بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لربهم.. وهذا تعبيرٌ في اللغة العربية يقوله كثيراً الصالحون بعد أن يَنصرهم ربهم ويُسعدهم بإهلاك عدوّهم وبالتمكين لهم في أرضه ينتفعون بخيراتها ومعناه بُعْدَاً لهم أي دعاء يعني اللهمّ لا تُرْجِعهم أبداً ولا أمثالهم وأبْعِدهم عن رحمتك وأبْعِدهم حتي عن ذاكرتنا فلا نتذكّرهم أبداً إلا للعِبْرَة.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)" أيْ ولقد جاءت ووَصَلَت ملائكتنا إلي إبراهيم تُبَشّره بالبُشْرَيَ أي تُخبره بالخَبَر السَّارِّ الذي يَسُرّه هو وزوجته وهو أنهما سيُرْزَقان من الله تعالي بمولودٍ هو إسحاق، قالوا يُحَيَّوْنه: سلاماً، قال ردّاً على تَحِيَّتهم: سلام، فمَا مَكَثَ وبَقيَ وتَأَخَّرَ إبراهيم (ص) عن أنْ جاء بعجلٍ حنيذٍ أيْ ما أَبْطَأ عن إكرام زائريه بل سارَعَ إلى أهله فجاءهم بعجلٍ مَشْوِيٍّ ليأكلوا منه.. إنَّ فِعْله هذا يدلّ علي كَرَمه (ص) والذي علي كل مسلم أن يَتّصِف به لأنَّ من أخلاق الإسلام إكرام الضيف بلا تأخيرٍ بما تَيَسَّر
ومعني "فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)" أيْ فحينما شاهد إبراهيم (ص) أيدي ضيوفه لا تَمْتَدّ إلي طعامه الذي قَدَّمه لهم ولا يأكلون منه كما هو معروف عن الضيوف رغم حُسْن ضيافتهم نَكِرهم أيْ كَرِه فِعْلهم ذلك وأحَسَّ خوفاً منهم بداخله، لأنَّ امتناع الضيف عن الأكل من طعام مضيفه بلا سببٍ مُقْنِعٍ يُشْعِر بأنَّ هذا الضيف ينوى شراً به حيث يرفض الإكرام والتآلف، كما هي التقاليد فى كثير من البلاد، وذلك لأنَّ الرسل كانت ملائكة لكن علي هيئة بَشَرَ حتي يمكنه رؤيتها والتعامُل معها لكنها لا تأكل كالبَشَر.. ".. قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)" أيْ حينها قال الرسل، أيْ قالت الملائكة له عند مُلاحَظَة خوفه ليطمئنّ لا تَخَف مِنّا يا إبراهيم فإنّا لسنا ضيوفاً من البَشَر بل إنّا أُرْسِلْنا أيْ بُعِثْنا من الله تعالي إلي قوم لوطٍ لإهلاكهم.. وذلك لأنهم كانوا مُصِرِّين بلا توبةٍ علي ارتكاب فاحشةِ جِماع الرجال بَدَل الزوجات النساء
ومعني "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)" أيْ وكانت امرأة إبراهيم، سارة، واقِفَة تقوم ببعض أعمالها فتَبَسَّمَت ضاحِكَة سعادة بسماعها بالبُشْرَيَ التي جاءت بها الرسل، فبَشّرْناها حينها من خلالهم بمولودها إسحاق كما بَشّرْناها بأنَّ إسحاق سيكون من نَسْلِه يعقوب وبالتالي فهى بُشْرَيَ مُضَاعَفَة حيث تعني ضِمْنَاً أنها ستعيش حتى ترى ابن ابنها
ومعني "قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)" أيْ قالت امرأة إبراهيم (ص) بدَهْشَةٍ وتَعَجُّبٍ واسْتِغْرابٍ عندما سَمِعَت البُشْرَيَ من الملائكة لها بالولد وهو إسحق وبالحفيد وهو يعقوب يا عجبي هل ألد وأنا امرأة عجوز أيْ شَيْخَة قد بلغت سِنّ اليأس من الحمل منذ زمن طويل وهذا زوجى إبراهيم ترونه شيخاً عجوزاً كبيراً لا يُولَد لِمِثْله؟! حيث يَذْكُر التاريخ أنَّ عمره حينها كان حول المائة وعمرها حول التسعين.. ".. إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)" أيْ إنَّ هذا الذى بَشَّرْتمونى به من إنجاب الولد من مِثْلِي ومِثْل زوجي مع كِبَر السِّنّ هو بالتأكيد شيء عجيب.. وهو تَعَجُّبٌ واسْتِبْعادٌ من حيث عادة الناس وليس قطعاً من حيث قُدْرة الله تعالي علي ذلك
ومعني "قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)" أيْ قال الرسل، أيْ قالت الملائكة لها، هل تَنْدَهِشين وتَسْتَغْرِبين من أمر الله بأنْ يُولَد لكما مولودٌ رغم كِبَر عُمْرِكما وهو القادر علي كل شيءٍ سبحانه؟! فلا تَتَعَجَّبي إذَن! فإنه إذا أرادَ شيئاً فإنه يقول له كُنْ فيكون كما يريد.. ".. رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.." أيْ هذا مزيدٌ من إسعادها وطَمْأَنتها.. أيْ قالت الملائكة أيضا لا تَتَعَجَّبِي لأنَّ هذه رحمة الله أيْ أمْنه وإسْعاده، وبركاته أيْ خيراته الكثيرات المُستمرّات المُتَزَايِدات المُسْعِدات المُيَسَّرَات بلا مَشَقّات من كل الجهات في كل شيءٍ فيكم وحولكم والتي لا تُحْصَيَ، عليكم يا أهل بيت النُّبُوَّة بيت إبراهيم (ص) – وعلي كل أهل الخير – فليس بالتالي بعجيبٍ ولا مُسْتَغْرَبٍ ولا مُسْتَبْعَدٍ أنْ يُعطيكم ما لا يُعطي غيركم، فأنتم مُسْتَحِقّون لذلك، فأنتم أهل البيت المُبَارَك الذي فيه النّبُوَّات مَصْدَر الخير والسعادة للبَشَر جميعا في الداريْن.. كذلك من المعاني أنَّ هذا دعاء من الملائكة لهم بالرحمات والبركات.. ".. إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)" أيْ هذا تذكير لهم ولكل مسلم بدَوَام حَمْد الله وتعظيمه.. أيْ هذه الرحمات والبركات المُسْتَفِيضات لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حَمِيد أيْ محمود مُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، وهو مَجيد أيْ كثير المَجْد والشرف والقَدْر الرفيع والعَظَمَة والكرم والخير الوفير الذي يَجِد عنده كلّ طالبٍ ما يريده من تمام الخير والأمن والسعادة في الداريْن
ومعني "فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)" أيْ فحينما ابْتَعَدَ عن إبراهيم الخوف من رسلنا عندما لم يأكلوا لَمَّا عَلِم بسبب إرسالهم إليه ووَصَلته البُشْرَيَ بالإنجاب اطْمَأنَّ وبَدَأ يُحاوِر رسلنا في شأن إهلاك قوم رسولنا لوط (ص) بسبب إصرارهم علي شرورهم طَلَبَاً لإمهالهم أيْ تَرْكهم لفترةٍ لعلهم يتوبون وذلك إشفاقا عليهم بعدما أخبرته الملائكة بإهلاكهم
ومعني "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)" أيْ هذا بيانٌ للأسباب التى دَفَعَت إبراهيم (ص) لمُجادَلَة الملائكة فى شأن إهلاك قوم لوط لتَرْكِهم لفترةٍ لعلهم يتوبون، وهي صفات كريمة لكل الرسل الكرام علي المسلمين أنْ يَتَشَبَّهوا بها ليُحْسِنوا دعوة غيرهم لله وللإسلام لينالوا عظيم الأجر في الداريْن مِثْلهم.. أيْ إنَّ إبراهيم بالتأكيد، حليمٌ أيْ كثير الحِلْم أيْ كثير شديد الصبر علي مَن يَدعوهم يُقابِلهم بكل خيرٍ حتي ولو قابَلُوه هم بكلِّ شَرّ، كثير العَفْو والتسامُح عمَّن أخطأ لا يَسْتَفِزّه غضبٌ ويتحمَّل الصعاب ويُحْسِن التصرّف في الأمور كلها باتّزانٍ وتَعَقّل، وهو أوَّاهٌ أيْ رقيق المشاعر يحبّ للجميع الخير والسعادة ويَسعد حينما يَرَاهم كذلك بسبب ارتباطهم الدائم بربهم ودينهم الإسلام ويَحْزَن ويُكْثِر مِن قولِ آهٍ آهٍ مُتَأَلّمَاً ومُسْتَغْفِرَاً ورَجَّاعَاً لربه حينما يَرَيَ شَرَّاً وبُعْدَاً عنهما، وهو مُنيب أيْ كثير دائم سريع التوبة والرجوع إلي الله والإقبال والاعتماد عليه واتخاذه تعالي ودينه الإسلام مَرْجِعا له في كلّ مواقف ولحظات حياته
ومعني "يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)" أيْ قالت الملائكة يا إبراهيم ابْتَعِد عن هذا الجدال في أمر قوم لوط بطَلَب تَرْكهم لفترةٍ لعلهم يتوبون، لأنه قد جاء وحَضَرَ أمر ربك بعذابهم وإهلاكهم، وإنهم لا بُدَّ نازِلٌ بهم عذابٌ شديدٌ من الله غير مَدْفوعٍ لا يُرَدّ من أيِّ أحدٍ لا بجدالٍ ولا بأيِّ شيءٍ آخرٍ بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا أيِّ توبة، فلا فائدة بالتالي إذَن من جِدالِك، فلن يُغَيِّر شيئاً لأنه قد انتهت إرادة الله تعالى وأمره بالعذاب والإهلاك لهم ولا يَرُدّ حُكْمه أيُّ رادٍّ عنهم
ومعني "وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)" أيْ وحينما وَصَلَت الملائكة بعد تَرْكِهم إبراهيم إلي قرية لوط ودَخَلَت عليه وهي في أبْهَيَ صورة علي هيئة البَشَر أحَسَّ بالسوء مِن مَجيئهم، وشعر بقِصَر ذراعه ويده عن حمايتهم فَذَرَعَهُ الضيق أي غَلَبَه بسبب ذلك، لأنه كان يخاف إن استضافهم مِن اعتداء قومه عليهم وقد اشتهروا بشذوذهم وارتكابهم الفاحشة مع الرجال وإن لم يَستضفهم فسيَحزن لعدم إكرامهم، وقال هذا يومٌ شديدٌ في شَرِّه وأَلَمِه، حيث لم يَكُن يَعلم بَعْدُ أنها ملائكة في صورة بَشَرٍ هم رُسُل الله تعالي إليه لإنجائه والمؤمنين وإهلاك قومه المُصِرِّين علي سُوئهم وفُحْشِهم
ومعني "وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)" أيْ وجاء قوم لوطٍ يُسْرعُون إليه – كأنهم يُدْفَعُون دَفْعاً بالشهوة للفاحشة بلا عقلٍ ولا اتّزانٍ ولا خَجَل – لَمَّا عَلِموا بمَجيء ضيوفه فَرِحِين مُتَشَوِّقين لارتكاب الفاحشة معهم، وكانوا مِن قبل مجيئهم يعملون السيئات أي الشرور والمَفاسد والأضرار والتي أقْبَحها ولم يفعلها أحدٌ قبلهم من العالمين وهي إتيان الرجال في أدْبارهم شهوة دون النساء زوجاتهم، والمقصود بيان شدَّة إصرارهم علي سيئاتهم واعتيادهم عليها حتي صاروا لا يَخْجِلون منها بل جاؤوا يُهْرَعُون إليها عَلَنَاً.. ".. قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ.." أيْ قال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم هؤلاء نساؤكم زوجاتكم اللاتى بمَنْزِلَة بناتى ارجعوا إليهنَّ فاقضوا شهوتكم معهنَّ فهُنَّ أطهر أيْ أنْظَفُ وأنْقَيَ وأسْعَدُ لكم نفسياً وحِسِّيَّاً في الداريْن من التلوث بأقذار وتعاسات الشذوذ فيهما حيث الأمراض المُهْلِكَات في الدنيا التي يُثبتها الواقع بينكم ثم عذابات نيران الآخرة.. لقد ذَكّرهم بما هو طبيعيّ في فطرة الرجال التي خَلَقهم خالقهم تعالي عليها ليسعدوا بها والتي خالفوها فتَعِسُوا واسْتَحَقّوا العذاب بالأمراض والإهلاك وهو الزواج من النساء وسمَّاهُنَّ بناته علي اعتبار أنّهُنَّ بالنسبة إليه وهو رسول أمّتهم كأنّهنَّ جميعهنَّ بنات له من حيث الرحمة والتوجيه لكل خيرٍ وسعادة.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وما دام الأمر كما ذَكَرْتُ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي.." أيْ ولا تذِلّوني وتُهينوني وتَفضحوني في شأن ضيوفى وبينهم وعندهم باعتدائكم عليهم فإنَّ الاعتداء على الضيوف كأنّه اعتداء على المُضِيف.. ".. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل لا يوجد بينكم رجل واحد صاحب رُشْد راشِد عاقل حكيم مُدْرِك للأمور حَسَن التدبير لها سَديد الرأي مُصِيب للصواب وللحقّ وللعدل مستقيم صالح يُرْشِدكم ويُوَجِّهكم ويَرُدّكم عن الشرِّ والتعاسة في دنياكم وأخراكم للخير والسعادة فيهما؟!!
ومعني "قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)" أيْ قالوا له بمُنْتَهَيَ التّبَجُّح والجَهْر بالسوء مُصِرِّين تماماً علي سُوئهم وفُحْشِهم لقد علمتَ عِلْمَاً مُؤَكّدَاً مِن قَبْل أنه ليس لنا في نساء أمتك أيّ حقّ أيْ حاجة ورغبة، وإنك لتعلم بالتأكيد الذي نريده من مَجيئنا مُسْرِعين إليك وهو جِماع الذكور لا الإناث، فلماذا إذَن تِكرار القول والنصح علينا في ذلك؟!
ومعني "قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)" أيْ قال لهم لوط (ص) مُتَحَسِّرَاً بسبب إصرارهم علي سُوئهم وعدم قُدْرته علي مَنْعِهم مُتَمَنّيَاً القوة المانعة لهم لو أنَّ معي قوة بنفسي أمنعكم بها وبأنصارٍ أدفعكم بهم أو آوِي أيْ أَلْجَأ إلي ركنٍ شديدٍ أيْ مَا يُرْتَكَنُ ويُسْتَنَدُ عليه أيْ إلي سَنَدٍ قويٍّ أسْتَنِد وأرْتَكِز وأعْتَمِد عليه كعشيرةٍ وقبيلةٍ ونحوها تَمنعني منكم وتَنصرني عليكم، لكنتُ مَنَعْتُكم قطعاً مِمَّا تريدون.. وقوله (ص) هذا هو فقط من باب الأسباب الدنيوية وإلا فهو حتماً مُتَأَكّد من أنه مُسْتَنِدٌ إلي أشدِّ رُكْنٍ وهو الله تعالي القويّ العزيز القادر علي كل شيءٍ الناصر الجبّار المُنْتَقِم والذي إمَّا يعطيه القوة والأعوان فيقاومهم ويمنعهم بها أو يهلكهم هو سبحانه بما يراه مُناسباً ويَسْتَحِقّونه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ولذلك فعند بعض العلماء أو آوِي إلي ركنٍ شديدٍ ليس معطوفا علي قوةٍ وإنما هو كلام مُنْفَصِلٍ بمعني أنه لو أنَّ لي بكم قوة لمَنَعْتكم لكن الأوْلَيَ أنْ آوِي إلي رُكنٍ شديدٍ والذي لا تقدرون عليه أبداً بالقطع وهو الله تعالي
ومعني "قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)" أيْ حينها قال الرسل، أيْ قالت الملائكة مُعْلِنَة حقيقتها مُبَشّرَة مُطَمْئِنَة له، يا لوط نحن مَبْعُوثوا ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – أرسلنا إليك لنُخْبِرك بإنْجائك وبإهلاكهم فاطْمَئِنّ فإنهم لن يصلوا إليك بأيِّ سوءٍ أو لنا.. ".. فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ.." أيْ فابدأ بإحسان اتّخاذ أسباب النجاة وإجراءاتها فسِرْ أنت وأهلك بجزءٍ من وقت الليل حين ينامون حتي لا يَروكم، ولا يَنظر أحدٌ منكم وراءه حتي لا يَرَيَ عذابهم لأنه سيكون شديداً لا يُوصَف يتألم مَن يراه وحتي لا تَتَعَطّلوا بكثرة الالتفات خَلْفكم إلي ما تركتموه من أموالكم وأشيائكم فتَتَعَلّقوا نفسياً بها فإنَّ الله تعالي ربكم سيُعَوِّضكم حتماً خيراً منها لأنكم تهاجرون في سبيله وحِفْظَاً لدينكم الإسلام وإبطاؤكم سيُفْسِد خطة خروجكم آمنين بل أسرعوا لتَصِلُوا إلي المكان الآمن الذي أُمِرْتُم بالذهاب إليه أنت والمؤمنون معك.. ".. إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ.." أيْ إلا زوجتك يا لوط فاتركها ولا تأخذها معك لأنها كافرة لا تُؤْمِن بالله وتُؤَيِّد الكافرين الظالمين الفاحشين، ولأنها سيُصِيبها العذاب الذى سيَنْزِل بهؤلاء المُجْرِمين المُصِرِّين علي سُوئهم فيُهْلِكها معهم.. ".. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)" أيْ هذا مزيدٌ من التبشير لِلُوطٍ (ص) وللمؤمنين وإجابة عن سؤالهم عن ميعاد عذابهم.. أيْ فأَسْرِ بهم بسرعة ولا تَتَبَاطَؤا لأنَّ موعد هلاكهم الصبح وهو أول النهار والصباح موعده قريب بالتأكيد من الليل أليس كذلك؟! فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا.. هذا، والعذاب مع ظهور شروق الشمس قبل أن يستفيقوا من نومهم يكون مُفاجِئَاً شديداً لا يتمكّنون من الهروب أو التّخَلّص منه
ومعني "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)"، "مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)" أيْ فحينما جاء وحَضَرَ وقت أمرنا بعذابهم وبإهلاكهم، جعلنا كل ما هو عالٍ من بناءٍ أو غيره إلي الأسفل علي الأرض، أيْ دمَّرنا أسْقُف ديارهم وأبنيتهم علي رؤوسهم.. كذلك من المعاني أن جعلنا أعلى بيوتهم أسفلها وأسفلها أعلاها بأنْ قَلَبْناها عليهم، وهى عقوبة مناسبة لجريمتهم حيث هم قَلَبُوا الأمر الطبيعيّ فخالَفوا مُخَالَفَة شديدة ما هو موجود راسخ في فطرتهم فأَتَوْا الذكْران من العالمين وتَرَكوا ما خَلَقَ لهم ربهم من أزواجهم.. ".. وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)" أيْ وزيادة في عقابهم عذّبناهم أيضا أثناء ذلك بأنْ أنزلنا علي قريتهم وبيوتهم ومَبانيهم من السماء كالمطر حجارة مُكَوَّنة من سِجِّيلٍ وهو طين مُتَحَجِّر شديد الصلابة وحادّ ومُدَبَّب وهو مطبوخ بنار جهنم ومُسَجَّل عليه اسم مَن سيُصيبه ويُهْلِكه وهو مَنْضُود أيْ مُرَتَّب ومَصفوف بعضه فوق بعض ومُعَدّ في السماء لهم ومُتَتَابِع بحيث يُصيب هدفه بكل دِقّةٍ ولا يُمكن لأحدٍ أن يَفْلِت منه ويُرْجَمون به كما يُرْجَم الزناة حتي الهلاك.. "مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)" أيْ مُعَلَّمَة بعلاماتٍ تدلّ علي أنها ليست كحجارة الدنيا العادية المعروفة وإنما هي حجارة مُخَصَّصَة للعذاب شديدة الصلابة والسرعة لا يَنجو منها أيّ أحدٍ من المُعَذّبين بها مِمَّن تَستهدفهم ومُعَلّمَة كذلك باسم من سيُهْلَك بها علي كلِّ حَجَرٍ منها، وهي موجودة عند الله تعالي في مُلْكه تَنْزِل بشدّة من أعلي وهي مُجَهَّزَة ومُعَدَّة لهم ولأمثالهم.. ".. وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)" أيْ وما هي تلك الحجارة المذكورة التي أُهْلِكَ بها قوم لوط من الظالمين مثلهم ببعيدٍ عنهم نزولها بهم في كل زمانٍ ومكانٍ بل هي قريبة حاضِرَة مُجَهَّزَة بقُدْرته تعالي لإهلاكهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يَراه مناسباً لذلك مُتْعِسَاً لهم مُسْعِدَاً للمؤمنين.. وكذلك من المعاني وما هي تلك العقوبة من الظالمين مثلهم بشيءٍ بعيدٍ حُدُوثه لهم سواء بحجارة أو بغيرها من أمراض وسيول وبراكين ونحوها، ولا يُمكن مُطلقاً أن تُخْطِئهم فتَنزل بعيداً عنهم، وأيضا وما هي تلك القُرَىَ المُهْلَكَة من كل الظالمين مثلهم ببعيدةٍ عنهم بل هي قريبة منهم ويمكن لهؤلاء الظالمين المرور عليها – إذ كانت بالشام – ليَتّعِظوا بها فلا يَفعلوا مثل أفعالهم حتي لا يكون مصيرهم كمصيرهم حيث تعاسات الدنيا والآخرة.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)" أيْ وكما أرسلنا نوحاً وهوداً وصالحاً إلى قومهم لكي يَدْعُوا إلى توحيد الله، أرسلنا إلى قبيلة مدين – وهم الذين كانوا يعيشون جنوب الشام – أخاهم رسولنا الكريم شعيباً فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام.. هذا، ولفظ "أخاهم" يُفيد التنبيه أنه كان منهم وهم منه وهم يعرفونه جيدا ويعرفون أصله ونَسَبَه وحُسْن خُلُقه وصِدْقه ولذا فهو لن يكذب عليهم أبداً وهم بالقطع يَثقون فيه وهو كذلك يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لذاته وكل ذلك من المُفْتَرَض أن يؤدي لتحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربهم، أيْ وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، أيْ الإسلام.. إنَّ الله تعالي يُذَكّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخاهم " و " يا قوم " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم تصديقه واتّباعه، ثم بعدها يُوَجِّههم لعبادة الله تعالي وحده والتمسك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ.." أيْ وعليكم ألا تُقَلّلوا بل تتِمّوا المِكْيال إذا كِلْتُم للناس أو اكْتَلْتُم عليهم لأنفسكم، وتتِمّوا الميزان إذا وزنتم لغيركم فيما تبيعون أو لأنفسكم فيما تشترون، بالعدل بلا زيادةٍ أو نقصان، بحيث يُعْطَىَ صاحب الحقّ حقّه وَافِيَاً أيْ كاملاً تامَّاً من غير انتقاصٍ ويأخذ صاحب الحقّ حقّه من غير طَلَبِ ازدياد، والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها والمِكْيال هو الآلة التي تُكَال بها هذه الأشياء كالحبوب ونحوها وتُصْنَع من خشب أو معدن أو غيره أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف.. فإنْ خَالَفْتم ذلك فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم.. والمقصود إعطاء الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقٍّ لهم سواء أكان ماديا أم معنويا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خداعٍ أو غِشّ.. إنه بانتشار حفظ الحقوق كاملة ينتشر الأمن بين الناس ويَقوون ويَرْقون ويزدهرون ويتطوَّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بإنقاصها وأكلها والتفريط فيها يفقدون أمانهم ويتنازعون ويضعفون ويَتخلّفون ويتعسون فيهما.. ".. إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ.." أيْ هذا بيانٌ لسبب نُصْحهم.. أيْ فإني أراكم وأشاهدكم يُرْجَىَ منكم الخير بالشكر والطاعة لله وبإعطاء الناس حقوقهم كاملة، وأراكم في خيرٍ كثيرٍ ورخاءٍ من كل أنواع الأرزاق يُغنيكم عن إنقاص المكيال والميزان فليس لكم أيّ عُذْرٍ كأنْ تَتَحَجَّجُوا مثلا أنكم فقراء مُضطرون لهذا الرزق الحرام، وأراكم بنعمةٍ حقّها أنْ تُكْرِموا الناس بالزيادة شكراً عليها لا أن تنقصوا حقوقهم، وأراكم بسعَةٍ فلا تُزيلوها بما أنتم عليه من سوءٍ بكفركم وعدم شكركم بل تُحسنوا استخدام نِعَم الله عليكم هذه التي لا تُحْصَيَ بشكره بأنْ تستخدموها في كل خيرٍ مُسْعِدٍ لا أيّ شرٍّ مُتْعِس.. ".. وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)" أيْ وهذا بيانٌ لمزيدٍ من خوفه وحِرْصه الشديد عليهم.. أيْ وكذلك أنصحكم لأني أخاف عليكم عذاب يومٍ محيطٍ أيْ سيُحيط بكم بشِدَّة عذابه وقسوته مِن كل جانبٍ فلا تقْدرون علي الفرار منه، هو يوم القيامة حيث حسابكم الختاميّ لكل أقوالكم وأفعالكم وهو كذلك يوم نزول عذابكم الدنيويّ، وذلك إذا عَبَدْتم غيره سبحانه وخالفتم دينه الإسلام، إذا ظلمتم أنفسكم ومَن حولكم فأتعستموها وأتعستموهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، إنه عذابٌ محيطٌ أليمٌ أيْ مُؤْلِمٍ أيْ مُوجِعٍ شديدٍ مُهِينٍ مُتْعِسٍ لا يُوصَف بما يُناسب شروركم ومَفاسدكم وأضراركم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم محيط في الآخرة حيث سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره والتنبيه له والتذكير به وتثبيته وعدم نسيانه.. أيْ وقال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم، أَتِمُّوا المكيال والميزان بالقسط أيْ بالعدل أيْ لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون، أيْ بلا زيادةٍ ولا نقصان، أيْ بالمساواة في البيع والشراء، آخِذين ومُعْطِين، وفي كل الأحوال، أيْ كما تُحِبّون وتَرْضون ذلك لأنفسكم عند تَعامُلاتكم، وبالجملة لا تُنْقِصوا عند البيع فتَظلموا مَن اشتري ولا تزيدوا فتَظلموا أنفسكم وإنْ أعطيتم زيادة مَا فهي فضل منكم فوق العدل لكم أجوركم عليها في الداريْن.. ".. وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الإيفاء بكل الحقوق وتعميمها لتشملها كلها وليس في الكيْل والميزان فقط.. أيْ ولا تُقَلّلوا للناس قيمة أشياءهم التي يملكونها سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، في كل شئون حياتهم، صَغُرَت أم كَبُرَت، فتنقصوهم حقوقهم فتظلموهم.. ".. وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)" أيْ وإيَّاكم والعَثْو وهو الإفساد ونَشْر الشَّرِّ في الأرض بكل صُوَرِه المادية والنفسية فتَسيرون فيها مُفْسِدين لكلِّ شيءٍ مُسْتَخْدِمِين نِعَم الله تعالي في هذا الفساد فيتعس الجميع في دنياهم وأخراهم ولكنْ استخدموها في كل خيرٍ لتسعدوا فيهما.. وفي هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره وتَعْميمه لمَنْع أيّ فسادٍ من أيِّ مكانٍ في الأرض ليَسعد البَشَر جميعا
ومعني "بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)" أيْ هذا مزيدٌ من محاولة اجتذابهم لله وللإسلام وإرشادهم إلى أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبْقَىَ مِمَّا يجمعونه من طُرُقٍ حرام.. أيْ بَقِيَّة الله أيْ طاعة الله ورحمته وأرزاقه هي خيرٌ لكم حتماً حيث آثارها هي المُتَبَقّية لكم بكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم، وما يُبْقِيه الله لكم من رزقٍ حلال ومن حالٍ آمِنٍ مُبَارَكٍ فيه سعيدٍ بسبب التزامكم بأخلاق الإسلام والتي منها القِسْط فى معاملاتكم وعدم الإفساد في الأرض هو خيرٌ لكم بالقطع من المال الكثير الذى تجمعونه عن طريق الظلم وتطفيف الموازين وبَخْس الناس أشياءهم والذي يكون غالباً لا بَرَكَة فيه أيْ لا يُحَقّق سعادة حقيقية كما يُثْبِت الواقع هذا كثيراً لأنه مَصْحُوبٌ بالغِشّ والخِداع والخيانة وما ينتج عن ذلك دائما من مُشاحَناتٍ وصراعاتٍ واقتتالاتٍ وتعاساتٍ في الدنيا ثم ما هو أعظم وأتمّ تعاسة وعذابا في الآخرة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.." أيْ هذا بيانٌ أنَّ هذه الخَيْرِيَّة بآثارها المُسْعِدَة في الداريْن لا يُمكن أنْ تَحْدُث إلا مع الإيمان، فهذا هو شرطها.. أيْ بَقِيَّة الله خيرٌ لكم إنْ كنتم مُصَدِّقين بما أُرْسِلْتُ به إليكم أمّا إذا لم تكونوا مصدقين به فلن تكون بقية الله خيراً لكم لأنها لا تكون إلا للمؤمنين فقط فاستجيبوا لنُصْحِي وأسْلِموا لتسعدوا بإسلامكم فى حياتكم وآخرتكم.. ".. وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)" أيْ وما أنا حافظ لأعمالكم مُراقِب لها حتى أحاسبكم عليها مُوَكَّل بكم لا أفارقكم دون أن تؤمنوا! فليس لي إكراهكم على الإيمان (برجاء مراجعة أيضا الآية (41) من سورة الزمر ".. وَمَا أنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وخلاصة القول أنه ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية (256) من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا يحزن الرسول الكريم هو والمسلمون معه الذين يَدْعُون مَن حولهم لله وللإسلام ولا يتأثّروا بهم وليستمرّوا في تمسّكهم بإسلامهم ودعوتهم لهم ولغيرهم بما يناسب
ومعني "قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)" أيْ قال قوم شعيب له ساخرين منه ومِمَّا يُوصِيهم به من إسلامٍ مُسْتَبْعِدين استجابتهم له مُكَذّبين مُعانِدين مُسْتَكْبِرين يا شعيب هل صلاتك التي نراك تُداوِم عليها وتَدَّعِي أنك تَتَّصِل بها بربك هي التي أثّرَتْ علي عقلك فجعلته سفيهاً فصارت تأمرك وصِرْتَ تأمرنا بهذا السَّفِه والتخريف الذي تَطلبه منّا والذي لا يَصِحّ ولا يُعْقَل وهو أن نَتْرُك ما يعبده آباؤنا من آلهةٍ أيْ معبوداتٍ كأصنامٍ وغيرها ونترك أنْ نفعل في أموالنا ما نشاء أيْ نَتَصَرَّف في كَسْبها كما نريد بما يُحقّق مصلحتنا من خلال ما اعتدنا عليه من نقص المِكْيال والميزان والاحتيال والمكر؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك!!.. ".. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)" أيْ هذا مزيدٌ من السخرية منه والتّسْفِيه له (ص) وللإسلام.. أيْ إنك بكل تأكيدٍ أنت المعروف عنك أو تَدَّعِي أنك الحليم أيْ الكثير التّأّنّي والاتّزان وعدم التّعَجُّل في كل أقوالك وأفعالك الرشيد أيْ صاحب الرُشْد الكثير أيْ العاقل الحكيم المُدْرِك للأمور الحَسَن التدبير لها السَديد الرأي المُصِيب للصواب الذي يُرْشِد غيره لِمَا يَنْفعه لا يَضُرّه، ومَن كان يَتّصِف بهذا لا يَطلب مِنّا مِثْل هذا السَّفَه!!.. إنَّ هذين الوَصْفَيْن لا يَليقان بك ما دُمْتَ تأمرنا بذلك وإنَّ مَا تستحِقّه هو وَصْفك بعكسهما أيْ بأنك مُتَعَجِّلٌ سَطْحِيٌّ سَفِيهٌ غيرُ راشِد!!.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)" أيْ قال ما يُثْبِت بالفِعْل أنه الرسول الحليم الرشيد إذ قال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم أرأيتم أيْ أخبروني ما رأيكم وقولكم في حالي معكم إنْ كنتُ على بَيِّنَةٍ مُنَزَّلَة من ربي أيْ دلاَلَةٍ واضِحَةٍ قاطِعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ بلا أيِّ شكٍّ وهي مَخلوقاته المُعجزات في كل كوْنه وعلي يقينٍ لا يتزعزع وثقةٍ كاملة بوجود ربي ووجوب عبادته أيْ طاعته وحده لا غيره وبصِدْق شرعه ووجوب اتّباعه لا غيره وهي واضحة تماماً لأنها تُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وأعطاني منه رزقاً حَسَنَاً طيِّبَاً يَتَمَثّل في النبوة وشريعة الإسلام التي أوحاها إليَّ لأبَلّغها للناس والتي هي سبب رزق ورحمة الله لمَن يعمل بها كلها حيث تُصلحه وتُكمله وتُسعده تمام السعادة في الداريْن لأنها من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم، وكذلك أعطاني رزقاً حَسَنَاً يَتَمَثّل فى أموالي الكثيرة وممتلكاتي الحلال وعقلي وصِحَّتي وقوّتي وأسرتي وعلاقاتي وحياتي الحَسَنَة السعيدة التي أحياها وغير ذلك من كل أنواع أرزاقه تعالي المُسْعِدَة التي لا تُحْصَيَ والتي تستحقّ شكرها بحُسْن استخدامها في كل خيرٍ لا أيِّ شرّ.. فإنْ كنتُ كذلك فهل يَليق بى بعد هذا أن أُخالِف أمره مُسَايَرَة لأهوائكم؟! كلا إنه لا يليق بى وإنما اللائق أن أبِلّغ للجميع كل ما أمرنى بتبليغه من إسلامٍ بلا أيِّ تقصير.. ".. وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ.." أيْ هذا تذكيرٌ لهم بأنْ يَقْتَدوا به ليسعدوا مِثْله في الداريْن.. أي وأنا لا أقصد ولا أحب أبداً أن أنهاكم أيْ أمنعكم عن سوءٍ ثم أخالفكم إليه أيْ ثم حينما تتركوه أكون مُخَالِفَاً مُعَاكِسَاً لكم وأذهب إليه فأفعله فأنا دائما يُوافِق فِعْلِي قَوْلِي لا أخالِفه وإنْ خالَفته فيَحِقّ لكم حينها أن تفقدوا الثقة تماما بي ولا تَتّبعوني (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (44) من سورة البقرة "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)"، ثم الآية (2)، (3) من سورة الصَّفّ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)"، "كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.." أيْ وإني ما أريد بما أنصحكم به إلا الإصلاح لكم قَدْر استطاعتي لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام الصلاح والكمال والسعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ.." أيْ وليس تَيْسِيري ورُشْدِي لأسباب وطُرُق الوصول للإصلاح وللحقّ والعدل والخير والسعادة من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام إلا بعَوْن وتأييد وتَسْهيل الله تعالي وحده بعد أنْ أبدأ أنا أولا بالسعْي لها والعمل بها.. ".. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ.." أيْ فهو وحده لا غيره الذى عليه أتوكّل أيْ أعْتَمِد ويَعْتَمِد كلُّ الذين يريدون الاعتماد حيث بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فليكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل عن التوكل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ".. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)" أيْ وإليه وحده لا إلي غيره أُنِيب أىْ أرْجِع في كل أمورى أيْ أتّخِذه تعالي ودينه الإسلام وحده دَوْمَاً مَرْجِعَاً لي في كل مواقف ولحظات حياتي لأسعد بذلك، وأتوب إليه من أخطائي عائدا له ولإسلامي أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ لأزيل سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادتي بتعاسة هذا الخطأ، ثم في الآخرة يوم القيامة أرْجِع وأنتم والناس جميعا إليه لا إلي غيره حين يبعثنا بأجسادنا وأرواحنا من قبورنا، وهو أعلم بنا تمام العلم، ليكون هو الحاكم بيننا بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلنا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)" أيْ هذا مزيدٌ من محاولة اجتذابهم لله وللإسلام.. أيْ وقال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي يا مَن أنا منكم وأنتم مِنّي ومَن يُسعدني مَا يُسعدكم ويُتعسني ما يُتعسكم ولا يمكن أبداً أن أكذب عليكم أو أخدعكم، لا يجرمنكم أيْ لا يَحْمِلَكم ويَدْفعكم أبداً بالتأكيد شقاقي أيْ أن تكونوا في شِقّ أيْ جانبٍ وأنا في شِقّ مُقَابِل أيْ مُخَالَفتي وعِنادي وكِبْركم عليَّ وإيذائي ومُعاداتي ومُحارَبتي والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، على افتراء الكذب علىَّ وعلي الله تعالي وعلى التّمَادِى فى إصراركم علي الكفر وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فإنَّ ذلك سيُؤَدِّى بكم حتماً إلى أن يُصيبكم عذابٌ مِثْل الذى أصاب قوم نوحٍ أو قوم هودٍ أو قوم صالحٍ، والذي تعرفونه وتَتَدَاوَلون بعض أخباره فيما بينكم، وما قوم لوطٍ منكم ببعيد أيْ وما زمن قوم لوط ومكانهم وهلاكهم ببعيدٍ عنكم، فأنتم قريبون منهم في الزمان والمكان، فإنْ لم تَتّعِظوا بمَن قَبْلكم فاتّعِظوا بهم إذَن حتي لا يُصيبكم ما أصابهم من عذاباتٍ وهلاكاتٍ وتعاساتٍ في الداريْن
ومعني "وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)" أيْ واسألوا ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – دَوْمَاً مَغْفِرَة ذنوبكم السابقة وتوبوا إليه مُسْتَقْبَلَاً علي الدوام وأوّلاً بأوَّلٍ، مَمَّا فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار، وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، يَغفر لكم حتماً لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)، ودود أيْ كثير الحب والرعاية والكرم لمَن آمَنَ به واتَّبَعَ أخلاق الإسلام ولكل مَن تاب من ذنوبه مهما كانت كثيرة وكبيرة
ومعني "قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)" أيْ لكنّهم بَدَلَاً أن يستجيبوا له ليسعدوا في الداريْن، إذا بهم يُقابلونه بالسوء والسَّفَه والتكذيب والتّعالِي حيث قالوا له مُكَذّبين مُعانِدين مُسْتَكْبِرين مُتّحِدِّين مُهَدِّدين مُسْتَهْزِئين به وبما يُوصِيهم به من إسلامٍ مُسْتَبْعِدين استجابتهم له يا شعيب ما نفهم كثيراً مِمَّا تقوله لنا عن عبادة الله وحده واتّباع أخلاق الإسلام، وهم كاذبون حتماً حيث يَفقهون تماماً ما يقول لأنه يُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولكنهم يُظْهِرون عدم الفهم اسْتِخْفافاً واستهزاءً بكلامه وتقليلاً من شأنه ورفضاً له، أو هم لا يفقهونه حقيقة لأنهم قد أغلقوا وعَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)" أيْ وقالوا له كذلك مُحْتَقِرين إيَّاه مُتَوَهِّمِين تَخْويفه: وأيضا نحن نُشاهدك بيننا ضعيفاً في نفسك لست من القادة والزعماء بل من المُسْتَضْعَفِين ولا قوة لك بالنسبة لقوتنا ولا تملك قُدْرَة على مقاومتنا والدفاع عن ذاتك إنْ أرَدْنا بك سوءاً، ولولا مُرَاعاة واحترام قبيلتك لأنها علي ديننا وكافرة بدينك لا خوفاً منها لكُنّا رَجَمْناك أيْ قذفناك ورَمَيْناك بالحجارة حتي تُقْتَل، وما أنت علينا بعزيزٍ أي بغالبٍ ولا مُمْتَنِعٍ علينا بحيث تَمنعنا عِزّتك أيْ قوّتك عن قتلك أو إيذائك لو أردنا ذلك فأنت لست قويا لا يُغْلَب بل ضعيف ذليل وأنت ليس لك عندنا مَعَزَّة أيْ مَحَبَّة ومَكَانَة تَمنعنا من هذا.. إنهم لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم شعيب (ص)، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليه جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه!
ومعني "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)" أيْ حينها تَعَجَّب شعيب (ص) من مقاييسهم ومَرْجعياتهم الفاسدة المُتْعِسَة عند تعاملهم مع شئون حياتهم، فهم يَحْسَبُون حساب القبيلة ونحوها ويُراعونها ولا يُؤذونه من أجلها ولا يُراعونه من أجل الله تعالي الخالق الكريم العزيز القويّ المُنْتَقِم الجَبَّار!! فصار الرَّهْط ونحوه له عِزَّة ومَكَانَة وقوّة ومَعَزَّة عندهم أكثر من الله!! فرَدَّ عليهم مُتَعَجِّبَاً، ومُتَرَقّقَاً لعل عقولهم تُصبح رقيقة المَشاعر وتستفيق، وبكل حلمٍ ورُشْدٍ وعِزَّة وعدم اهتمامٍ بتهديدهم فهو مُتوكّل علي مالك المُلْك القادر علي كل شيءٍ سبحانه، قال لهم يا قوم هل رهطي أيْ قبيلتي أعَزّ عليكم أيْ أكثر عِزَّة أيْ قوّة وأكثر مَعَزَّة أيْ مَحَبَّة وأَهْيَب أيْ أكثر هَيْبة وقوة وخوفا وأعظم حُرْمَة وأغْلَيَ عليكم وعندكم من الله تعالى الذى هو خالقكم ورازقكم ومُحْيِيكم ومُمِيتكم فذَكَرْتُموها ونَسِيتموه وجعلتموه وراءكم خَلْف ظهوركم كالشيء المَتْروك المُهْمَل؟! أي هل تتركوا إيذائي وقتلي مراعاة لأجل قومي ولا تتركوني مراعاة وتعظيماً لله أن تؤذوا رسوله بسوء؟! وقد اتّخذتموه سبحانه وراءكم ظهرياً أيْ تركتموه خَلْفكم لا تُطيعونه ولا تُعظمونه ولا تَخافونه ولا تعملون بشَرْعه الإسلام بسبب كفركم وإصراركم عليه وعلي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار؟! لقد كان الواجب أن تحفظوني وتفعلوا الخير من أجل الله لا رهطي لأنه تعالي أعَزّ وأعظم وأقْوَيَ وأغْلَيَ وأكْرَم!!.. ".. إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)" أيْ إنَّ ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ بما تعملون محيط أيْ يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، فلا مَفَرّ إذَن لكم! ولا يصعب عليه حتماً مَنْع كيدكم عنّا ونصرنا عليكم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لأهل الشرّ أنه تعالي يعلم كل أقوالهم وأفعالهم العلنيّ منها والسِّرِّيّ وسيُجازيهم عليها حتما بما يُناسبها من شرٍّ وتعاسة في الداريْن بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.. ولا يَفعل أحدٌ أبداً مِثْلهم حتي لا يكون مصيره مِثْل مصيرهم
ومعني "وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)" أيْ هذا تحذيرٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. أي ويا قوم إني عاملٌ ما كنت عليه أيْ مستمرٌّ ثابتٌ علي طريق ربي وإسلامي المُسْعِد في الداريْن عاملٌ بأخلاقه ومستمرٌّ في حُسن دعوتكم وجميع الناس لهما بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، واعملوا أنتم أيضا علي مَكَانتكم أيْ كونوا عامِلين مستمرّين علي حالتكم وطريقتكم التي أنتم فيها ومُصِرِّين عليها من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ومستمرّين علي عدائكم للإسلام وللمسلمين وللحقّ وللعدل وللخير قدْر إمكاناتكم واستطاعاتكم، وذلك لأني أثق ثقة تامّة بسبب توكّلي التامّ علي ربي بمَن ستكون له عاقبة الدار أيْ نتيجة أعمال هذه الدار الدنيا أي حُسن النتيجة فيها ثم في الدار الآخرة، أنا أم أنتم، إنه أنا بالقطع، حيث أهل الخير حتما سيُفلحون وسيَنتصرون وسيَسعدون في الداريْن بينما أهل الشرّ حتما سيَفشلون وسيَنهزمون وسيَتعسون فيهما، وسيَظهر ذلك مع الوقت بكلّ تأكيد، وهذا هو معني ".. سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ.." إذ حين ينزل الخير المُسْعِد بالمُحسنين في الدنيا وحين يَصِلكم يا مُسِيئين عذاب الله الذي يذِلّكم ويُهينكم ويَفضحكم فيها والذي سيكون بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في الآخرة حين يدخل المُحسنون درجات جناتهم بنعيمها الذي لا يُوصَف وحين يَحِلّ عليكم العذاب حيث تُقذفون وتُقيمون في عذابٍ دائمٍ مستمرٍّ من جهنم لا مَفَرّ منه فيما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد من عذاب دنياكم، حينها ستَعلمون وستَعرفون وستُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا مَن تكون له عاقبة الدار مِنّا ومنكم، مَن الذي كان علي الصدق والحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الكذب والظلم والشرّ والفساد.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفيه إرشادٌ للمسلم المتمسّك العامل بكل أخلاق إسلامه ألا يهتمّ كثيراً بعَداء مَن حوله ومَكرهم مِن المُكَذّبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يُشبههم بل يُخبرهم بأدبٍ وبصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ أنه عاملٌ ما هو عليه أيْ مستمرٌّ ثابتٌ علي إسلامه مُتَوَكّلٌ علي ربه كافِيه ومُعينه وراعِيه وحافظه كالرسل الكرام ليَسعد في الداريْن مثلهم.. ".. وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره حيث هو تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ وانتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإني والمؤمنون رقيبٌ أيْ مُنْتَظِرٌ مُرَاقِبٌ معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة
ومعني "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)" أيْ وحينما جاء وحَضَرَ وقت أمرنا بعذابهم وبإهلاكهم، نَجَّيْنا أيْ أنْقذنا شعيباً هو والذين آمنوا معه أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، برَحَمَاتنا ونِعَمِنا وأفضالنا التي لا تُحْصَيَ، وأصابَت ونَزَلَت وانْقَضَّت علي الذين ظلموا الصَّيْحَة – من الصِّياح – وهي الصوت الشديد الذي يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة حيث أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، فأصبحوا في بلدهم وبيوتهم جاثمين أيْ بارِكين علي رُكَبهم كالإبل هامِدين مَيِّتين مَذلولين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. والذين ظلموا هم الذين سَبَقَ ذِكْرُهم وهم كلّ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)" أيْ لقد عُوقِبُوا وعُذّبُوا وأُهْلِكُوا فلم يَبْق لهم أيّ أثَرٍ كأنهم لم يقيموا مِن قَبْل في دنياهم مُطلقاً ولم يَغْتَنُوا ويَتَنَعَّموا بأيِّ شيءٍ منها.. ".. أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)" أيْ هَلاَكَاً وإبْعاداً من رحمة الله لأُمَّة مَدْيَن التي هي قوم رسولنا شعيب (ص) بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لربهم، كما هَلَكَتْ وأُبْعِدَت عنها مِن قَبْلِها أمة ثمود التي هي قوم رسولنا صالح (ص).. وهذا تعبيرٌ في اللغة العربية يقوله كثيراً الصالحون بعد أن يَنصرهم ربهم ويُسعدهم بإهلاك عدوّهم وبالتمكين لهم في أرضه ينتفعون بخيراتها ومعناه بُعْدَاً لهم أي دعاء يعني اللهمّ لا تُرْجِعهم أبداً ولا أمثالهم وأبْعِدهم عن رحمتك وأبْعِدهم حتي عن ذاكرتنا فلا نتذكّرهم أبداً إلا للعِبْرَة.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)" أيْ ولقد بعثنا رسولنا الكريم موسى (ص) للناس حوله بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقه أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في التوراة تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ومَنَحْنَاه وأعطيناه أيضا وأرسلناه بسلطانٍ مُبينٍ أيْ بدليلٍ واضحٍ قويٍّ يَقْضِي به علي أدِلّة وحُجَج أعدائه فيُعْطِيه سُلطاناً ونُفُوذَاً مُؤَثّرا.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين من بعده أنَّ النصر والعِزَّة والمَكَانَة في الأرض لهم حتما لا لأعدائهم، في دنياهم، ثم أخراهم، كما حَدَثَ مع موسي (ص)
ومعني "إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)" أيْ أرسلناه إلي فرعون الذي كان مَلَك مصر وقتها ومَلَئِه، والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يكذبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)" أيْ فسارَ الملأ والقوم خَلْف أمر فرعون وأطاعوه ونَفّذوه وعملوا به كله حيث أمَرَهم بالكفر بالله وبالظلم وبالكِبْر وبفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، وتَرَكوا أمر موسي (ص) بالإيمان به تعالي وباتّباع أخلاق الإسلام ليسعدوا في الداريْن، وليس أمر أيْ حال وشأن وما يَأمر به فرعون برشيدٍ أيْ بصاحب رُشْدٍ راشِدٍ عاقلٍ حكيمٍ مُدْرِكٍ للأمور حَسَنِ التدبير لها سَديد الرأي مُصِيب للصواب وللحقّ وللعدل مستقيم صالح يُرْشِد ويُوَجِّه ويَرُدّ عن الشرِّ والتعاسة في الدنيا والآخرة للخير والسعادة فيهما، بل أمره كله تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وظلم وفساد، بل وَصَل به الخَبَل والقُبْح أن قال لمَن حوله أنا ربكم الأعلي!! وبالتالي حتماً لا يستحقّ أن يَتّبعه أحدٌ عاقلٌ مُنْصِفٌ عادلٌ بل كان من الواجب عليهم أن يهملوه لا أن يَتّبعوه!.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)" أيْ سيَتَقَدَّم فرعون وسيكون في مُقَدِّمَة قومه يوم القيامة كما كان في مُقَدِّمتهم يَقودهم للسوء في الدنيا فيُدْخِلهم النار معه، وما أسوأ المَدْخَل المَدْخُول فيه هذا.. والوِرْد في الأصل هو المكان الذي يَرِده الناس أيْ يَدْخلون إليه لكي يشربوا منه ويُطفئوا نار عطشهم ويستريحوا فيه فإذا به يكون هو في ذاته ناراً!! وذلك من باب السخرية منهم والزيادة في عذابهم المعنويّ والمادِّيّ
ومعني "وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)" وكذلك من شِدَّة الغضب عليهم، بسبب جرائمهم الشديدة السوء، أَتْبَعَهم الله تعالي في هذه الدنيا لَعْنَة أيْ جعل اللعنة مُتَابِعَة أي مُلازِمَة دائما لهم أينما حَلّوا في أيِّ مكان، حيث لعنة الناس تُتَابعهم، فكلّما تذكّر أفعالهم أيّ أحدٍ لَعَنَهم، أيْ دعا عليهم بمزيدٍ من الخروج من رحمة الله، أيْ مزيدٍ من العذاب، في مُقابِل ظلمهم وإيذائهم الشديد لخَلْق الله، إضافة إلي لعنته تعالي التي كانت عليهم في دنياهم والتي ستنتظرهم في أخراهم، يوم القيامة، أيْ إخراجهم من كل رحمة ورعاية ثم إدخالهم عذاب النار الذي لا يُوصَف، فاجتمعت عليهم لعنات الخالق وكل خلْقه.. هذا، والذين يفعلون مِثْلهم في أيّ زمانٍ ومكانٍ فهُم مُعَرَّضون لِمَا يُشبه مَصيرهم، فستجدهم دوْماً في درجةٍ ما من درجات العذاب – بسبب لعنة ربهم عليهم أي بعدهم عن رحمته وحبه ورعايته وعونه وتوفيقه – كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة تراهم في كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، وحتي لو ظهر عليهم بعض سعادة فهي سطحية لا مُتَعَمِّقة وَهْمِيَّة لا حقيقية مؤقتة لا دائمة (برجاء مراجعة الآية (55) من سورة التوبة ".. فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ثم يوم القيامة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ ألماً وكآبة وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. ".. بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)" أيْ ما أسوأ العطاء المُعْطَيَ لهم هذا – والرِّفْد هو العطاء – حيث اللعنة المُضَاعَفَة المُلازِمَة دَوْمَاً لهم والتي اجتمعت عليهم في دنياهم ثم أخراهم.. وهذا أيضا كما في الآية السابقة من باب السخرية منهم والزيادة في عذابهم المعنويّ والمادِّيّ إذ العطاء من المُفْتَرَض أن يكون مُسْعِدَاً لا مُتْعِسَا
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)" أيْ ذلك القَصَص في القرآن العظيم هو بعضٌ من أخبار القري التي أهلكناها كالتي سَبَقَ ذِكْرها نَقُصّها عليك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم من بعده – ليِتَّعِظ بها مَن أراد الاتّعاظ فلا يَفعل مِثْلهم حتي لا يتعس في الداريْن مثل تعاساتهم، ولتطمئنّ إلي نصر الله لك وللمسلمين، ولكي تكون دليلا على صِدْقك وأنَّ هذا القرآن من عندنا حيث ما نُوحِيه إليك والذي لم يكن يعلمه أحد غيرنا يَجعلك تُخبرهم بتفاصيل أخبار لم تكن تعلمها لأنك أُمِّيّ ولم تحضر زمنها ويعلمها بعضهم من كتبهم السابقة ويَتَداوَلونها فيما بينهم ولا يمكنهم تكذيبها.. ".. مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)" أيْ مِن هذه القُرَيَ المُهْلَكَة ما هو واقفٌ موجودٌ يُرَيَ له أثرٌ كأثرٍ مَهْجُور، ومنها ما هو كالزرع المَحْصُود الذي حُصِدَ وقُطِعَ كله فلم يَتَبَقّ منه أيّ شيء
ومعني "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)" أيْ وما ظلمهم الله بذلك حَتْمَاً، أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ.." أيْ فما نَفعتهم بأيِّ شيءٍ ولا أفادتهم ولا نَصَرَتهم ولا مَنَعت عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله معبوداتهم التي كانوا يعبدون غير الله كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَر ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون، حينما وَصَلَ أمر ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بعذابهم.. ".. وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي عدم نفعها بأيِّ نَفْعٍ وعلي الخسران التامّ بعبادتها.. أي وما زادتهم آلهتهم غير تَخْسِير، فهي لم تُغْنِ عنهم شيئاً عند نزول العذاب فقط بل أيضا لم تُضِف إليهم أيَّ شيءٍ غير الخسارة الحقيقية التي ليس بعدها خسارة أشدّ منها حيث يكون لهم بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم درجة مَا من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
ومعني "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)" أيْ وهكذا دائما يكون عقاب وعذاب ربك المُفاجِيء السريع القويّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إذا عاقَبَ أهالي القري وهي مُصِرَّة علي أن تكون ظالمة تُتْعِس ذاتها ومَن حولها في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)" أي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير من الظلم.. أيْ إنَّ عذاب الله حتماً مُوجِعٌ مُهينٌ مُتْعِسٌ لا يُوصَف شديدٌ عظيمٌ في إيلامه للظالمين
ومعني "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)" أيْ إنَّ فِي ذلك الإهلاك للأمم المُكَذّبة السابقة وفي ذلك الذي ذُكِرَ في السورة الكريمة وفي ذلك القَصَص في القرآن الكريم كله بالتأكيد عِبْرَة، لا لأيِّ أحدٍ وإنما فقط الذي يَنتفع ويَسعد بها كلّ مَن خاف من عذاب الله في الآخرة والذي لا يُوصَف.. إنَّ إيمان المؤمنين بالآخرة وبحسابها وعقابها وجنّاتها ونيرانها له أثره العظيم في إسعاد حياتهم الدنيوية وحياة مَن حولهم حيث يَدْفَعهم حتماً لحُسْن الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْكِ كلّ شَرٍّ دوْماً من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم، بينما مَن لم يُؤمِن بها، لا يَخافها، فيَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب مِن وِجْهَة نَظَره، فيَتعس الجميع بذلك فيهما.. ".. ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)" أيْ ذلك اليوم، أيْ يوم الآخرة، أيْ يوم القيامة، هو يومٌ سيُجْمَع له كل الناس منذ آدم حتي نهاية الحياة الدنيا لحسابهم علي أعمالهم وأقوالهم حيث سيُجَازَيَ أهل الخير بكلّ خيرٍ وسعادةٍ وأهل الشَّرِّ بكلّ شَرٍّ وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وهو يوم سيَشهده أيْ سيَراه وسيَحْضره الخَلْق كلهم لا يَغيب منهم عنه أحد، والمقصود مزيد من دَفْعهم لحُسْن استعدادهم له
ومعني "وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)" أيْ ونحن لا نُؤَجِّل هذا اليوم، يوم القيامة، إلا لوقتٍ مُحَدَّدٍ معلومٍ لنا لا لأحدٍ غيرنا لا يَتَقَدَّم ولا يَتَأخَّر عنه فإذا جاء موعد هذا الوقت حَلَّ وحَدَثَ هذا اليوم، وإذا كان الأجل مَعْدوداً هكذا أيْ أياماً يُمكن عَدَّها فإنه آتٍ بكل تأكيد، وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ مهما تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وكل مَن مات فقد قامَت قيامته إذ قد انتهي عمله في دنياه ودخوله قبره هو بالنسبة له من بدايات الآخرة، فأحسنوا إذَن الاستعداد لذلك
ومعني "يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)" أيْ حين يأتى هذا اليوم المَشْهُود المَجْمُوع له الناس وهو يوم القيامة، لا تَتَكلّم فيه أيُّ نفسٍ إنسانيةٍ بأىِّ كلامٍ إلا بإذْن الله تعالى، إلا إذا أَذِنَ هو لها، مِن هَيْبته وعَظَمَته سبحانه وهَيْبَة وعَظَمَة أحداث اليوم ذاته، ويكون الناس فيه مُنْقَسِمين إلى قِسْمَيْن: قسمٌ شقىٌّ أيْ تَعِيسٌ مُتْعَبٌ مُعَذَّبٌ بعذاب النار الذي لا يُوصَف بسبب اختياره بكامل حرية إرادة عقله الكفر وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، وقسمٌ سعيدٌ أيْ فَرِحٌ مُرْتَاحٌ مُنَعَّمٌ بنعيم الجنّة الذي لا يُوصَف بسبب اختياره بكامل حرية إرادة عقله الإيمان والعمل بأخلاق الإسلام
ومعني "فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)" أيْ هذا تفصيلٌ لأحوال الناس فى ذلك اليوم.. أيْ فأمَّا الأشقياء فهم في عذاب النار لهم فيها تَنَفُّسٌ من لهيبها وهوائها الحارّ كصورةٍ من صور شِدَّة عذابهم وضيقهم حيث يكون لهم زفيرٌ أيْ إخراجٌ لأنفاسهم ساخِنَة حارِقَة من صدورهم بصعوبةٍ وضيقٍ بعد شهيقٍ أيْ استنشاقٍ لها أيْ إدخالها داخل الصدور، والمقصود بيان عظيم شقاواتهم وعذاباتهم وتعاساتهم حيث النار تَكْوِي جلودهم وتدخل إلى صدورهم وأحشائهم يُعَذّبون بها خارجيا وداخليا
ومعني "خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)" أيْ هم سيكونون خالدين في النار أيْ سيَبْقون مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه، وذلك ما دامت السماوات والأرض أيْ مُدَّة دَوَام سماوات وأرض الآخرة وهي دائمة خالدة حتماً وبالتالي فالمقصود من هذا التعبير في اللغة العربية الذي يستخدمه العرب كثيراً في بيان التأكيد علي الدوام والاستمرارية هو الخلود الدائم الأبَدِيّ أيْ خالدين فيها أبدا.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ.." أيْ إلا مَن شاء ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم عدم خلوده فيها وإنقاذه منها وهم عُصَاة المسلمين، بينما الخلود الذي سَبَقَ ذِكْره هو للكافرين أيْ المُكَذّبين بوجود الله أصلا وحسابه وعقابه وجنته وناره ففعلوا كلّ شرٍّ لأنه لا حساب من وِجْهَة نظرهم.. ومِن المعاني كذلك إلا ما شاء الله مِن تعذيبهم بغير النار في بعض الأوقات.. هذا، وعند بعض العلماء المعني هو إلا ما شاء الله عدم خلود النار للأبد والانتهاء والفناء تماما لها وذلك بعدما يأخذ كلّ مُسْتَحِقّ لعذابها بالتمام عقابه وعذابه، مهما طال، ولا يُزاد عليه أيّ شيء، لأنَّ الخلود والاستمرار فيها بما يَزيد عن مقدار عقوبته ولو للحظةٍ واحدةٍ فيه مُخَالَفَة لعدل الله تعالي وحاشا له سبحانه أنْ يَظلم مقدار ذرّة، ويكون معني الخلود عند هؤلاء العلماء المدة الطويلة جدا ذات العذاب الشديد، لكنْ بعد أن يُنهي كل مُعَاقَب عقوبته، يخرج من النار ويدخل أقلّ درجات الجنة، برحمة الله تعالي التي وَسِعَت كلّ شيء، وبعد أن أخذ كلٌّ حقه، حتي إذا خَرَجَ آخر المُعَاقَبين من النار وهو أسوأ الناس حيث هو أطولهم عقوبة بعدها يُفْنِي الله هذه النار ولا يبقي خالدا أبداً إلا الجنة ليَنعم فيها البَشَر علي حسب درجات أعمالهم.. ".. إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)" أيْ وإنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – فعَّالٌ لِمَا يُريد فِعْله كله لا يَمنعه عنه أيُّ أحدٍ أو شيءٍ مانِعٍ مهما كان ولا يَسْتَعْصِي عليه فعلٌ من الأفعال يريده علي حسب عِلْمه وحِكْمته في مُلكه بأىِّ وجهٍ من الوجوه، فهو مُلْكه، وهو خالِقُ كل شيءٍ وقادرٌ تماماً عليه
ومعني "وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين حَصَلَتْ لهم السعادة في الآخرة أيْ الفرح والرضا والارتياح والأمن والنعيم والفوز بسبب حُسْن استخدامهم لعقولهم واختيارهم بكامل حرية إرادة هذه العقول الإيمان والعمل بأخلاق الإسلام فوَفّقهم ربهم لذلك ويَسَّرَهم له وأسعدهم به – إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقامه وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم – فهم يدخلون في نعيم الجنة الذي لا يُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، وهم يكونون خالدين فيها أيْ يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبداً بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا، وذلك ما دامت السماوات والأرض أيْ مُدَّة دَوَام سماوات وأرض الآخرة وهي دائمة خالدة حتماً وبالتالي فالمقصود من هذا التعبير في اللغة العربية الذي يستخدمه العرب كثيراً في بيان التأكيد علي الدوام والاستمرارية هو الخلود الدائم الأبَدِيّ أيْ خالدين فيها أبدا.. وذلك قطعا بعد جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ.." أيْ إلا الفريق الذي شاءَ أيْ أرادَ الله تأخيره عن دخول الجنة مع السابقين، وهم عُصاة المؤمنين، فإنهم يَبْقون في النار فترة من الزمن كعقابٍ لهم بما يُناسب مُعاصيهم، ثم يخرجون منها إلى الجنة بمشيئة الله ورحمته.. كذلك من المعاني إلا إذا شاء الله تعالي أن ينقلهم إلي نوعِ نعيمٍ آخرٍ أعظم من درجتهم التي هم فيها، من وُدِّه وفضله وكرمه الذي لا يُحْصَيَ، كأنْ يُرْفَعوا من الجنة إلى العَرْش وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. ".. عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ويُعْطِي ربك هؤلاء الذين سُعِدوا في الجنة عطاءً عظيماً لا يُوصَف غير مقطوعٍ بل مستَمِرّ دائم أبديّ
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
ومعني "فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)" أيْ إذا كان الأمر كما قَصَصْنا عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من بعض أخبار السابقين ووَضَّحْنا لك مصير السعداء والأشقياء، فلا تكن بالتالي إذَن فى مِرْيَة أيْ شكّ بأدني درجةٍ – والمقصود ألاّ تكونوا أيها المسلمون وليس الرسول (ص) بالقطع – من أنَّ ما يعبد هؤلاء الذين يعبدون غير الله من أصنامٍ وغيرها هو باطل فاسد وهم علي ضلالٍ وفسادٍ وظلمٍ وسَفَهٍ حتماً لأنهم ما يعبدون إلا كما كان يعبد آباؤهم من قَبْلِهم سابقاً والذي هو باطل فاسد لأنه مِمَّا يُخالِف أيَّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُخالِف الفطرة بداخله المسلمة أصلا ولا دليل مَنْطِقِيّ عليه فهم يُقَلّدونهم بلا أيِّ تَفَكُّرٍ أو تَعَقّل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وأيضا لا يَكُن عندكم أدني شكّ أنَّ هذه العبادة ستُؤَدِّى بهم بالقطع إلي كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم كما حَدَثَ لآبائهم السابقين – إنْ لم يتوبوا أيْ يرجعوا إلي ربهم وإسلامهم – لأنَّ تَشَابُه الأسباب يُؤَدِّي قطعاً إلي تشابه النتائج.. ".. وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)" أيْ ونحن بالتأكيد سنُعطيهم مِقْدارهم من العذاب المُناسِب لسُوئهم والذي وَعَدْناهم به وحَذّرناهم منه – كما وَفّيْنَا آباءهم – في الدنيا والآخرة وافِيَاً تامَّاً غير منقوصٍ منه أيّ شيءٍ بأيِّ نَقص.. كذلك من المعاني أنه سبحانه من عَدْله يُعطيهم أجورهم في دنياهم وافية تامَّة من كل الأرزاق علي أيِّ خيرٍ يفعلونه فيها
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)" أيْ هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم! فلقد أعطينا موسي الكتاب – وهو التوراة – سابقا كما أعطيناكم أنتم القرآن الآن، فاختَلَف الناس في أمره كما يختلفون في القرآن، فمنهم مَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه فسَعِدَ تمام السعادة في الداريْن ومنهم مَن كذّبَه وعانَدَه واستكبر عليه وعاداه فتَعِسَ تماما فيهما، ولقد نَصَرْنا موسي (ص) مِن قَبْل فتأكَّدوا أننا سننصركم بالقطع، تأكّدوا أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.." أيْ ولوْلاَ أنَّ الله تعالي قد خَلَقَ الحياة الدنيا والخَلْقَ عليها وجعل لها نظاما مُحَدَّدَاً وجعل لكلّ مخلوقٍ أجلا محددا وجعل الحساب الختاميّ في الآخرة حتي يُعطيه الفرصة ليعود للخير وللسعادة ويُصَوِّب أخطاءه ويترك شروره، لكن مع بعض الحساب المَبْدَئِيّ في الدنيا بسبب سوء أفعاله فيجد حتما نتائج سيئة مُتْعِسَة من باب قانون الأسباب والنتائج الإلهيّ العادل "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، لوْلاَ كلّ هذا، لولا هذا النظام الذي وضعه سبحانه للحياة، وأنه لا يُحاسبهم أوَّلاً بأوَّل، وأنّ رحمته سبقت غضبه، وأنّ ذلك قد سَبَقَ في علمه وحُكْمه وحِكْمته قبل بَدْء الخَلِيقة في كلمةٍ من كلامه سبحانه في كتبه التي أرسلها للبَشَر من خلال رسله الكرام وآخرها القرآن العظيم أنَّ الحساب الختامِيّ لخَلْقه سيكون يوم القيامة كما يقول ".. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." (يونس:93، الجاثية:17)، لقَضَيَ تعالي بين الناس أيْ لَحَكمَ وفَصَلَ بينهم فوريا أيْ لَكَانَ في الحال عَذّبهم أو حتي أهلكهم لو كان ذنبهم كبيرا مع أول ما يفعلونه من شرور!! مِن شِدَّة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم علي ذواتهم ومَن حولهم بل وأحيانا علي الكوْن كله (برجاء مراجعة قصة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. أفلا يَتَّعِظ ويَتَدَبَّر أهل الشرّ بهذه الرحمات وبهذا الحلم والإمهال لفتراتٍ طويلة فيعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن؟!.. ".. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110)" أيْ هذا وصفٌ للحال السَّيِّء التعيس الذي فيه مِثْل هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أنهم دائما في شكٍّ من كتبه ومن هذا القرآن مُرِيب أيْ مُؤَدِّي إلي الرِّيبة أي إلي الشكّ، أيْ شكّ يؤدّي إلي مزيدٍ من الشكّ، لهم ولغيرهم، أيْ شكّ كثير أكيد، شكّ في وجود الله وفي صِدْق كتبه ورسله وصلاحية إسلامه لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها بكلّ مُتغيّراتها في دنياها وأخراها، وشكّ في وجود آخرة وبَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر مرة أخري بعد موتهم، وشكّ في وجود حسابٍ وعقاب وجنة ونار، وما كلّ ذلك الشكّ إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وهذا دائما يجعلهم يعيشون في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كل ألم وكآبة وتعاسة ثم في الآخرة لهم ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. فليَعْتَبِر المسلمون إذَن ولا يَتَشَبَّهوا بهم أبداً وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)" أيْ وإنَّ كُلّاَ من الفريقين، أيْ فريق المؤمنين وفريق الكافرين، لَمَّا أيْ عندما يأتي يوم التّوْفِيَة وهو يوم القيامة، سيُوَفّيهم ربك جزاء أعمالهم أيْ يُعطيهم إيَّاه وافِيَاً أيْ كاملاً تامَّاً بلا أيِّ نقصانٍ، وذلك حتماً وبكل تأكيدٍ وبلا أيِّ شكّ، حيث اللام والنون تفيدان التأكيد التامّ.. ".. إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)" أيْ إنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل بالتأكيد – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – بما يعملون جميعهم خبيرٌ أيْ عليمٌ تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما يعملون ويقولون كله سواء في سِرِّهم أو علانيتهم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبهم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لك فبالتالي إذَن اسْتَقِم كما أُمِرْتَ يا رسولنا الكريم أنت وكل مَن تاب معك أيْ تاب من الكفر وآمَنَ معك ومع المؤمنين ودَاوَمَ علي التوبة من ذنوبه، أيْ سِيروا مُستقيمين دائماً كما أمركم الله في الإسلام الذي في القرآن العظيم بلا أيّ انحرافٍ مُتَوَجِّهين إليه ومُخلِصين له سبحانه ومُتَّجِهين نحوه وواصِلين إلي حبه وعوْنه وخيره وسعادته في طريقه طريق الإسلام، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، بكلّ استقامةٍ دون أنْ تنحرفوا عن أخلاقه والعمل بها كلها، وإلا لو ابْتَعَدتم عنها لَتَعِسْتم فيهما تعاسة تُساوِي قَدْر ابتعادكم وانحرافكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. وَلَا تَطْغَوْا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الاستقامة.. أيْ ولا تَظلموا وتَتَعَدُّوا بأنْ تُخَالِفوا هذه الاستقامة التي أُمِرْتُم بها فتَفعلوا ما يُخالِف أخلاق الإسلام من أيِّ نوعٍ من أنواع الظلم لأنفسكم أو لغيركم فتتعسوها وتتعسوهم في الداريْن سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أيْ إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وبالجملة لا تَتَجاوَزوا حدود أخلاق الإسلام بإفراطٍ أو تفريطٍ، والتفريط هو تَرْك بعضها أو كلها، والإفراط هو الزيادة عليها بما ليس فيها، فكأنَّ مَن يَفعل ذلك يَتّهمها أيْ يَتَّهِمَ شَرْع الله بالنقصان وهو الذي يَستكمله! أو التَشِدُّد في أسلوب تطبيقها دون تَوَسُّطٍ واعتدالٍ فيَسْتَثْقلها مع الوقت ويتركها، وقد يُكَرِّهُ الآخرين فيها فيُبْعِدهم عن الإسلام لأنهم سيَتَصَوَّرونه مُخْطئين مَصْدَر شقاءٍ وشِدَّةٍ وتعاسةٍ لهم، رغم أنَّ الحقَّ أنه العكس تماما، هو سبب التيسير وتمام السعادة لهم في دنياهم وأخراهم، لكن مَن يَتَشَدَّد هو الذي أساء عَرْضه لهم ولم يُحْسن دعوتهم له وكَرَّهَهم فيه.. ".. إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي الاستقامة وعدم مُخَالَفتها وتَعَدِّي حدودها.. أيْ استقيموا ولا تَطغوا لأنَّ الله علي الدوام بكلّ أعمالكم وأقوالكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم بصيرٌ لا يَخْفَيَ عليه شيء أيْ يراها ويعلمها بتمام الرؤية والعلم، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فأحْسِنوا إذَن كلّ كلامكم وتَصَرّفاتكم دائما لتسعدوا في الداريْن
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتَّخِذ الظالمين سواء أكانوا كافرين أم مشركين أم منافقين أم فاسدين أم مَن شابههم أولياء مُحَبَّبين إليك أيْ أولياء لأمورك يُديرونها لك ويُوَجِّهونك فيها وتودّهم ويودّونك وتُحبهم ويُحبونك وتنصرهم وينصرونك وتخبرهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لك، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونك لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياك وأخراك، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا.. وإذا لم تَتّخِذ من غير المسلمين ومن غير الثقات الأمناء الأقوياء مُعاوِنين ومُساعدين ومُستشارين ومُقَرَّبين وخَوَاصَّ تُقَرِّبهم إليك وتُسِرّ إليهم بأسرارك وأسرار المسلمين ومعاملاتهم وطموحاتهم، لأنهم قد يفْشُون الأسرار ويكيدون المكائد لك وللإسلام وللمسلمين بناءً علي ذلك كما يُثبت الواقع هذا كثيرا أيضا، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)" أيْ ولا تَسْتَنِدوا إلي وتَعْتَمِدوا علي الذين ظلموا – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – أيْ لا تَتّخِذوهم أبداً أيها المسلمون أولياء مُحَبَّبين إليكم أيْ أولياء لأموركم يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتودّونهم ويودّونكم وتُحبونهم ويُحبونكم وتنصرونهم وينصرونكم وتخبرونهم بأسرار المسلمين ونحو هذا، مهما كانت درجة قرابتهم لكم، لأنهم غالبا أو مؤكدا سيأخذونكم لكل شرّ وفساد وظلم وحتي كفر، لكل شقاء وكآبة وتعاسة في دنياكم وأخراكم، وسيَقْوُون وأنتم تَضعفون وسيُشَجِّعهم هذا علي مزيدٍ من الظلم فيزداد انتشارا، فالواقع يُثْبِت ذلك كثيرا، ولا تَميلوا مطلقاً وتَنْضَمّوا إلي ظلمهم وتَرْضوا به وتُوافقوهم عليه وتُطيعوهم فيه وتَطمئنّوا إليهم وتَتْركوا حُسْن دعوتهم لله وللإسلام ولِتَرْك ظلمهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. بل اركنوا دائماً بالقطع إلي الله تعالي ربكم مولاكم ثم إلي الصالحين من المؤمنين لتسعدوا في الداريْن (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (257) "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.."، ثم الآية (71) من سورة التوبة "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ.." أيْ فتُصيبكم النار بعذابها قطعا بالتالي إذَن بسبب فِعْلكم ذلك، نار الدنيا أولا متمثلة في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لمَن يفعل ذلك، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ.." أيْ وعند نزول ما يُناسبكم مِن عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ سيكون حالكم وواقعكم حينها أنه ليس لكم ولا تَجِدون غير الله أيَّ أولياء أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمركم فيُدافِع عنكم.. ".. ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)" أيْ ثم لا تَجِدون بعد ذلك من ينصركم في كل شئون حياتكم وعلي أعدائكم بأىِّ حالٍ من الأحوال بسبب عدم نصر الله لكم لرُكُونكم إلي الذين ظلموا، ولا أحد أبداً بالقطع يمكنه نصركم من دون الله أيْ غيره تعالي
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وإذا كنتَ دائما من فاعِلِي الحسنات لا السَّيِّئات، أيْ الخيرات، أيْ كل ما هو خير وحَسَن وجميل ونافع ومُسْعِد للذات وللغير في الدنيا والآخرة، لا كل ما هو شرّ وسَيِّء وقبيح وضارّ ومُتْعِس لهم فيهما
هذا، ومعني "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)" أيْ وتمسّكوا واعملوا دوْماً بكل أخلاق إسلامكم والتي منها أن تُوَاظِبوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وتُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ تُحسنوها وتُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. طَرَفَيِ النَّهَارِ.." أيْ أوله وآخره، والمقصود صلاة الصبح والظهر والعصر، ومعني ".. وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ.." أيْ وساعات من الليل مُتَقَارِبَة مع بعضها البعض ومتقاربة مع النهار بعد انتهائه، جَمْع زُلْفَة أيْ ساعَة ومُدَّة، والمقصود صلاة المغرب والعشاء، وأيضا صلاة الليل الاختيارية الإضافية غير المفروضة – والفرض هو الذي يُثابُ فاعله ويَأثم تاركه – والتي هي من سُنَّة الرسول (ص)، أيْ طريقته وأسلوبه، وهي التي يثاب فاعلها وينتفع بها ولا يأثم تاركها ولكنه افتقد نفعها وخيرها وسعاداتها في الداريْن، فإنها مِمَّا تُزْلِف أيْ تُقَرِّب المسلم لله تعالي وعطائه فيهما.. ".. إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.." أيْ فإنَّ فِعْلَ الخيرات بكل أشكالها أيْ كل ما هو خير وحَسَن وجميل ونافع ومُسْعِد للذات وللغير في الدنيا والآخرة، يُذْهب الأعمال السيئات أي يُكَفّر الذنوب السابقات أيْ يَمْحُو العقاب عليها في الداريْن ويَمحو آثارها المُتْعِسَة فيهما ويُذْهِب ويَمْنَع التّوَجَّه إليها حيث فِعْل الخير دائما يشغل عن فِعْل الشرِّ ولا يَدَع وقتاً لفِعْله أو حتي التفكير فيه.. إنَّ كل خيرٍ يفعله المسلم يذهب ويُزيل ويَغْسِل ويُنَقّي العقل من مرارات وعذابات وكآبات وتعاسات الشرِّ الذي فَعَلَه سابقا ويُعيد له سعاداته التامّة بعودته لفِعْله للخيرات دون أيِّ تَعْكِيرٍ بأيِّ شرّ، مع مراعاة أنه كلما كان حجم الخير كبيراً وكثيراً كلما كانت إزاحته وغَسْله لتعاسات الشرور أكبر وأكثر وأسرع في الدنيا، ثم في الآخرة عند وضعه في الميزان فإنه حتماً يُثْقِل كفّة الحسنات، والحَسَنة بعَشْر أمثالها إلي أضعاف كثيرة، ويُخَفّف كفّة السيئات، والسيئة بمِثْلها فقط، ويُطيح بها ويُذهبها، فيَدْخل بذلك فاعلها الجنة برحمة الله وفضله وكرمه وتوفيقه وعوْنه.. ".. ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)" أيْ ذلك النُّصْح الذي تُنْصَح به أيها المسلم والذي سَبَقَ ذِكْره في الآية الكريمة وفي كل الآيات السابقات وفي كل القرآن الكريم والإسلام، هو عِظَة للمُتَّعِظين أيْ لمَن أراد الاتّعاظ به ليسعد في دنياه وأخراه.. إنها ذكري يَنتفع ويَسعد بها فقط المُسْتَعِدّون لقبولها أيْ لمَن كان شأنه وحاله التّذَكّر والاعتبار لا الإعراض والعِناد وهم الذين يَذْكُرون ربهم دائماً ولا يَنْسونه ورسولهم (ص) وآخرتهم وما فيها من بَعْثٍ وحسابٍ وجنةٍ ونارٍ ويتذكّرون دينهم الإسلام وبالجملة هم المتمسّكون العاملون دَوْمَاً بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الذاكرين والذكر وتعريفه وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وإذا كنتَ من المُحسنين وهم الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام
هذا، ومعني "وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)" أيْ وكُنْ يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلمون من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) وكونوا من الذين إنْ أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم ( برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن، هو حقّ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات (121) حتي (127) ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)" أيْ واصبر حتي تُؤْجَر أجراً عظيماً لأنَّ الله لا يُضيع أجر المُحسنين.. أيْ ومِمَّا يُعينكم أيضا علي الصبر أنَّ الله لا يُضيع مطلقا أجر المُحْسِنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، لا في دنياهم حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَتهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم، ولا في أخراهم حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد، وإنما يكافئهم بسبب إحسانهم بالأجر العظيم، فلهذا لا ينبغي لكم أن تتركوا الصبر لأنَّ الصابرين يُوَفّوْن أجورهم بغير حساب
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من أهل الخير بكل أنواعه أيْ المُتمسّكين العاملين بكل أخلاق الإسلام دائما المحافظين الباقين عليها طوال حياتك إلي مَمَاتك، حتي وإنْ لم يَتَبَقّ متمسّكاً عامِلاً بها غيرك أو قليل مثلك
هذا، ومعني "فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)" أيْ هذا إرشادٌ للمسلمين إلى أنَّ الأمم إذا لم يكن فيها مَن يأمر بالمعروف وينهي عن المُنكر ففَعَلَت الفساد والشرّ وتَرَكَت الصلاح والخير نزلت بها المُصيبات والعذابات والتعاسات في الدنيا والآخرة، فعليهم إذَن أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ليزداد الخير تدريجيا ولا يكون قليلا ضعيفا ويَقِلّ في المُقابِل الشرّ حتي يَنْعَدِم، ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما بتَرْك ذلك (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (104) من سورة آل عمران "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ فإنه لو كان من كل قرنٍ، أيْ فترةٍ زمنيةٍ ومجموعةٍ من الناس، من قبلكم السابقين لكم، أولوا بقية، أيْ أصحاب بقية، أيْ فريق منهم وفيهم مُتمسّكون عامِلون بكل خير، بكلّ أخلاق الإسلام، وبَقِي فيهم هذا الخير مُكْتَمِلَاً واحْتَفَظوا به وهم باقون عليه لتأكّدهم بلا أيِّ شكّ بأنه مَصْدَر سعادتهم في الداريْن، وكانوا يَنْهَون أيْ يَمنعون أنفسهم وغيرهم عن الفساد ونَشْره في الأرض، لَاسْتَقامَت أمورهم جميعا وعاشوا في كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، لكنه لم يَكُن ذلك، إلا قليلاً منهم أنجيناهم وأسعدناهم لأنهم كانوا أصحاب بقية وذلك عندما أهلكنا غيرهم الذين ظلموا وكان السبب في أننا أهلكناهم أنه اتَّبَعَ هؤلاء الذين ظلموا – وهم الآخرون غير أولي البقية وكانوا الأكثرين، وهم الذين ظلموا ذواتهم ومن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكل أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مَا أُتْرِفُوا فيه أيْ مَا مُتّعُوا فيه من مُتَع الدنيا أيْ اتّبَعُوا التَّرَف أيْ الغِنَيَ والنعيم وحَصَلوا عليه من كل طريقٍ سواء أكان حراماً أيْ ضارَّاً أم حلالاً أيْ نافعاً وأنفقوه واستخدموه في كل شرٍّ وضَرَرٍ ولم يفعلوا ما هو خير ولم يشكروا ربهم علي نِعَمِه واستكبروا وخرجوا عن أمره في الإسلام وكانوا قوماً مجرمين أىْ مُسْتَمِرِّين مُصِرِّين على ارتكاب الجرائم أيْ الشرور والمفاسد والأضرار والتعاسات فاسْتَحَقّوا بسبب ذلك العقاب عليها بما يُناسب في دنياهم وأخراهم حيث عُذّبُوا وأهْلِكُوا، كما ذُكِرَ في الآيات السابقة عن قوم نوحٍ وهودٍ وصالح وغيرهم
ومعني "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)" أيْ وليس من شأن ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل ولا حِكْمته ولا طريقته أن يُبيد ويُعَذّب أهل قريةٍ من القري أيْ بلدٍ من البلاد بظلمٍ منه لهم والحال أنهم مُصلحون أيْ مُقيمون على الصلاح مُسْتَمِرّون عليه أيْ علي الخير أيْ علي أخلاق الإسلام لا علي الفساد أيْ الشرّ أيْ ما يُخالِف هذه الأخلاق فهم صالحون في أنفسهم مُصْلِحون لغيرهم، حاشا لله العادل الكريم الرحيم، وإنما يُهلكهم بسبب استمرارهم وإصرارهم علي ظلمهم وفسادهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوعٍ له ولإسلامهم.. كذلك من المعاني أنه لا يمكن أن يُهلكهم بسبب ظلمٍ من البعض منهم والكثرة الغالبة صالحين، وكذلك الحال إن كانوا ظالمين ولكنهم يتوبون ويعودون للخير والحقّ والعدل والسعادة أوَّلاً بأوَّل أو بين الحين والحين.. إنه مِن رحمة الخالق بخلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم – لأنهم خلْقه وصَنْعَته – يُرسِل إليهم الرسل بين الحين والآخر بالإسلام الذي فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، ومن عدله تعالي أنه يحلم أيْ يصبر كثيرا دون عقاب أوّلا بأوّل علي المُكذبين المُعَاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين منهم ليُعطيهم الفرصة بعد الأخري لكي يعودوا له ولدينهم ليسعدوا مثل مَن سعدوا في الداريْن، فهو سبحانه لا يُهلك أيّ قرية بمَن فيها إلا بعد أن يُخبرهم بتمام العلم وبكل التفاصيل عن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، وقد أعطاهم جميعا العقول التي يعقلون بها ذلك والفطرة التي بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) بحيث لا يكون لأيّ أحدٍ منهم أيّ حجّة أو عُذر حينما يُعَاقَب إذا لم يستجب وكان من أهل الشرور والمفاسِد والأضرار واستمرّ علي ذلك مُصِرَّا تمام الإصرار دون أيّ خطوة نحو أيّ خير (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)، وذلك عن طريق الرسل الذين يرسلهم إليهم وما يتلونه عليهم من آيات الله أي تشريعاته وأخلاقياته وأنظمته المُسْعِدَة لهم تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. إنه تعالي حتما لا يُمكن مُطلقا أن يُهْلِك قرية مؤمنة بربها متمسّكة عامِلَة بأخلاق إسلامها!! بل هذه هي التي لها تمام السعادة في دنياها وأخراها، وإنما القرية التي تُهْلَك بالقطع هي التي يكون أهلها ظالمين، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أحسنتَ اختيار اتّجاهك وجِهَتك في الحياة الدنيا بأنْ تحْسِن استخدام عقلك وتستجيب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فتُسَارِع وتُسَابِق في فِعْل الخيرات وتكون مُتّجِهَاً دائما نحو كل ما هو خيرٍ وسعادةٍ وتَترك مُطلقاً كل ما هو شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ فتكون مُتّجِهَاً دائما نحو الله تطلب منه حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده لك ولمَن حولك في دنياكم وأخراكم، مُتّجِهَاً دائما نحو رسولك الكريم محمد (ص) تَقْتَدِي به في كل أقواله وأفعاله حيث الكمال والسعادة الكاملة، مُتّجِهَاً دائما نحو الصالحين السعداء في أنفسهم المُسْعِدِين لغيرهم الذين يُعينوك علي كل خير، وبالجملة تكون مُتّجِهَاً دائما بإسراعٍ وتَسَابُقٍ ما استطعت نحو كل أنواع الخيرات من قولٍ وعملٍ وكسب وإنتاج وإنجاز وعلم وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا وتكون أثناء كل ذلك مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك
هذا، ومعني "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)"، "إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)" أيْ إنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يَجعل الناس جميعاً مُهتدين علي طريق الخير لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه بأنْ يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، علي حسب درجات أعماله في دنياه، بينما مَن لم يشأها، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره.. وهؤلاء هم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتِّباع إسلامه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (19) من سورة يونس "وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا.."، ثم الآية (99) منها "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (213) من سورة البقرة "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ.."، ثم الآية (256) منها "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ هذا هو نظام الحياة التي أرادها الله تعالي، وهذا هو العدل فيها، وهذا هو التنافس الشريف المُمْتِع المُسْعِد فيها كما يقول ".. وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" (المُطَفّفين:26) ثم علي أعلي درجات الآخرة، ولو كانت غير ذلك لَكَانت مَلَلاً! فلله الحمد حمداً كثيراً طيّباً مُبَارَكَاً فيه علي أن خَلَقَنا ووَهَبَنا نِعَمه العظيمة التي لا تُحْصَيَ.. ".. وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وسيَظَلّون مُخْتَارين مَا بَقِيَت الدنيا، وحرية الاختيار هذه تَجعلهم مُخْتَلِفين أيْ تَخْتلف اختياراتهم، أيْ هم أحرار فيما يختارون كامل الحرية علي حسب إرادة عقولهم لا يُجْبِرهم أحدٌ علي الذي يختارونه، من خيرٍ أو شرّ، من دين الإسلام أو غيره، ولكلّ واحدٍ ما يُناسب من جزاءٍ في الداريْن حسبما اختار وفَعَل.. "إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)" أيْ لكنْ مَن رَحِمه ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، بأن اختار بكامل حرية إرادة عقله اتّباع الإسلام، فهولاء لا يكونون مختلفين علي عبادة الله تعالي وحده واتّباع إسلامهم بل يَتّفِقون ويَجتمعون تماماً علي ذلك، ورحمته لهم تَتَمَثّل في أنه يُعينهم علي ما اختاروه هم ويَرْعاهم ويُوَفّقهم ويُسَدِّد خُطاهم ويُيَسِّر لهم أسباب فَهْم الإسلام وحُبّه والتمسّك والعمل به كله والاستمرار عليه ونحو هذا مِمَّا يُحَقّق لهم رحمته في الدنيا والآخرة أيْ إسعاده وأمْنه وخَيْره فيهما.. ".. وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.." أيْ خَلَقهم لتلك الرحمة لا للعذاب، لذلك الانتفاع ولتلك السعادة في الداريْن ولذلك الاختيار الحُرّ المُسْعِد ولذلك الاجتماع علي الإيمان لا للاختلاف عليه، ومَن كَفَرَ فهو الذي اختلف عن الأصل والذي هو الفطرة وعَرَّضَ نفسه لأنْ يُعَذّب في دنياه وأخراه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)" أيْ وثَبَتَتْ ووَجَبَتْ وانتهي الأمر ولا يمكن لأحدٍ أن يُغَيِّر كلمة الله وهي لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، أيْ ثَبَتَ نظامه وتَقديره وحُكْمه في أنه خَلَقَ الحياة والخَلْق علي هذا النظام الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة وأنه مَن يَختلف من الناس عن الأصل الذي عليه الفطرة وهو عبادة الله تعالي واتّباع الإسلام ويختار بكامل حرية إرادة عقله أنْ يَكفر وأنْ يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار لابُدَّ حتما بالتأكيد بلا أيِّ شكّ مصيره جهنم والتي ستَجمعهم جميعا، كُلَّاً في درجته التي تُناسب مِقْدار شروره ومَفاسده وأضراره التي فَعَلها في دنياه، وسيَجتمع معهم أيضا جِنَّة، ولفظ الجِنَّة في لغة العرب يعني كلّ ما جَنَّ من المخلوقات أي خَفِيَ عن الأنظار والمقصود المخلوقات التي سيَجعلها الله تعالي وقوداً للنار ولا يَراها المُعَذّبون فيها، كما أنَّ لفظ أجمعين يُفيد الصِّنْفَيْنِ جميعاً، أي البَشَر والمخلوقات غير المَرْئِيَّة التي ستكون وقوداً للنيران، سَيَمْلآن جميعهما جهنّم
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)" أيْ ونَقُصّ عليك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بعده – كلَّ نَبَأٍ أيْ خَبَرٍ من أنباء أيْ أخبار الرسل الكرام السابقين لك مع أقوامهم الشيء الذي نُثَبِّت أيْ نُقَوِّي به عقلك ومشاعرك بداخله لتَتَّخِذهم قُدْوَة وتَقْوَيَ مِثْلهم علي حُسْن دعوة الناس لله وللإسلام والصبر علي أذَيَ من يُؤذيك منهم وتَنتظر دَوْمَاً نصرنا وإسعادنا كما نصرناهم وأسعدناهم وأهلكنا أعداءهم.. ".. وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)" أيْ وقد وَصَلَكَ حتماً يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل في هذه القصص وهذه السورة وآيات القرآن العظيم كلها، جاءك الصدق الذي ليس فيه أيّ شكّ وبيان الحقّ الذي أنت عليه وتدعو إليه وهو عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام، وموعظة أيْ تَذْكِرَة وتَوْصِيَة تُؤَثّر في العقل والمشاعر بالترغيب أو الترهيب لتَدْفع للعمل بها.. ".. وَذِكْرَى.." أيْ وتَذْكِرَة وعِبْرَة دائمة للناس جميعا، وذلك لأنَّ فيها بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن.. ".. لِلْمُؤْمِنِينَ (120)" أيْ لكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)"، "وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للذين لا يُصَدِّقون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِدُون ويَسْتَكْبِرون ويَستهزؤن ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم اعملوا علي مَكانتكم إنّا عامِلون أيْ إنّا نحن المسلمون عامِلون ما كنّا عليه أيْ مستمرّون ثابتون علي طريق ربنا وإسلامنا المُسْعِد في الداريْن عاملون بأخلاقه ومستمرّون في حُسن دعوتكم وجميع الناس لهما بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، واعملوا أنتم أيضا علي مَكَانتكم أيْ كونوا عامِلين مستمرّين علي حالتكم وطريقتكم التي أنتم فيها ومُصِرِّين عليها من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ومستمرّين علي عدائكم للإسلام وللمسلمين وللحقّ وللعدل وللخير قدْر إمكاناتكم واستطاعاتكم، وذلك لأننا نثق ثقة تامّة بسبب توكّلنا التامّ علي ربنا بمَن ستكون له عاقبة الدار أيْ نتيجة أعمال هذه الدار الدنيا أي حُسن النتيجة فيها ثم في الدار الآخرة، نحن أم أنتم، إنه نحن بالقطع، حيث أهل الخير حتما سيُفلحون وسيَنتصرون وسيَسعدون في الداريْن بينما أهل الشرّ حتما سيَفشلون وسيَنهزمون وسيَتعسون فيهما، وسيَظهر ذلك مع الوقت بكلّ تأكيد، إذ حين ينزل الخير المُسْعِد بالمُحسنين في الدنيا وحين يَصِلكم يا مُسِيئين عذاب الله الذي يذِلّكم ويُهينكم ويَفضحكم فيها والذي سيكون بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في الآخرة حين يدخل المُحسنون درجات جناتهم بنعيمها الذي لا يُوصَف وحين يَحِلّ عليكم العذاب حيث تُقذفون وتُقيمون في عذابٍ دائمٍ مستمرٍّ من جهنم لا مَفَرّ منه فيما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد من عذاب دنياكم، حينها ستَعلمون وستَعرفون وستُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا مَن تكون له عاقبة الدار مِنّا ومنكم، مَن الذي كان علي الصدق والحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الكذب والظلم والشرّ والفساد.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفيه إرشادٌ للمسلم المتمسّك العامل بكل أخلاق إسلامه ألا يهتمّ كثيراً بعَداء مَن حوله ومَكرهم مِن المُكَذّبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يُشبههم بل يُخبرهم بأدبٍ وبصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ أنه عاملٌ ما هو عليه أيْ مستمرٌّ ثابتٌ علي إسلامه مُتَوَكّلٌ علي ربه كافِيه ومُعينه وراعِيه وحافظه كالرسل الكرام ليَسعد في الداريْن مثلهم.. "وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره حيث هو تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما علي قَدْر بُعْدِهم عنهما، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ وقل لهم أيضا انتظروا بالتالي إذَن مَجِيء عذابكم الدنيويّ والأخرويّ واستمرّوا مُصِرِّين علي تكذيبكم لِتَرْوا أىَّ شيءٍ تنتظرون فإنّا المؤمنون مُنْتَظِرون معكم ذلك لنشاهِد ما يَحْدُث لكم من سوءٍ علي قَدْر سُوئكم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فإنَّ هذا سيأتي بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وحينها ستعلمون حتماً مَن المُحْسِن ومَن المُسِيء حيث سيكون لنا نحن المُحسنين قطعاً كلّ خيرٍ ونصرٍ وأمنٍ وسعادةٍ ولكم أنتم المُسيئين كل شرٍّ وهزيمةٍ وخوفٍ وتعاسة
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)" أيْ ولله تعالي وحده علم كلّ غَيْبٍ في السموات والأرض، وهو قادر عليه بتمام القُدْرَة.. والغَيْب هو كل ما غابَ عن إدْرَاك وحَوَاسِّ البَشَر، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل كالآخرة والبَعْث للناس فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار وما يَحْدُث في الكَوْن من أحداثٍ تَغِيب عنهم أو في مستقبلهم ونحو هذا.. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن.. إنه لا أحد يعلم الغَيْب أيْ المستقبل وكل ما يَغيب عن عقول البَشَر إلا هو سبحانه فهو الذي يُدَبِّر أمور الخَلْق والكَوْن كلها علي أكمل وأسعد وجه.. إنه تعالي وحده الذي يعلم ما سيَحِلّ بالمُسيئين الذي سَبَقَ ذِكْرهم من شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن بسبب إساءاتهم وما سيكون للمُحسنين من خيرٍ وسعادةٍ فيهما بسبب إحسانهم.. ".. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ.." أيْ وإليه تعالي وحده يُرْجَع كل أمرٍ من أمور الكوْن والخَلْق أيْ هو المُسَيْطِر عليها ويُدير شئونها علي أكمل وأسعد وَجْهٍ بعِلمه وبقُدْرَته وبحِكْمته، من حيث الإحياء والإماتة والصحة والمرض والنصر والهزيمة ونحو هذا، والجميع يرجعون إليه فيما يحتاجونه من رزقهم ورعايتهم وأمنهم وحفظهم وتربيتهم وتنميتهم وتوجيههم وإرشادهم وتوفيقهم وتسديد خُطاهم وتَيْسير أحوالهم وعَوْنهم وإسعادهم، والجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره يوم القيامة ببَعْثهم بعد موتهم ومعهم أعمالهم يُحاسبهم ويُجازيهم عليها بالخير خيراً وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يعفو.. ".. فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك كما سَبَقَ ذِكْره فاعبده بالتالي إذَن أيُّها المسلم وأيها الإنسان العاقل أيْ أطِعْه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللإخلاص وللإحسان فيها، ولا تُشْرِك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وتوكّل عليه أيْ أيْ وكن دائما من المُتَوَكّلين عليه تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أيْ ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فهو حتماً سيَكفيهم كفاية تامّة في كل لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه، فهل يحتاجون وكيلا كافيا آخر بعد هذا؟!! فليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم.. ".. وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)" أيْ وليس ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – حتماً بغافلٍ أبداً عن أعمالكم وأقوالكم أيها الناس أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته ولو للحظة فهو يعلمها تمام العلم لأنه معكم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه أينما كانوا، وهو سيُحاسبكم عليها في دنياكم وأخراكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فانْتَبِهوا لهذا وأحْسِنُوا التعامُل معه بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)" أيْ تلك الآيات السَّامِيَات القَيِّمَات المُفَصَّلات الواضِحات التى نتلوها عليك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل مُسْتَمِع عاقل في هذه السورة الكريمة أو غيرها هي آيات الكتاب المُبِين أيْ آيات القرآن العظيم الذي صفته أنه المُبَيِّن المُوَضِّح لكلِّ شيءٍ مُسْعِدٍ في الداريْن
ومعني "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)" أيْ نحن أوحينا هذا الكتاب المُبِين لرسولنا الكريم ليكون قرآناً أيْ كتاباً مقروءاً، عربياً أي باللغة العربية، لأنها أقوي لغة، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة.. ".. لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)" أيْ لعلكم أيها الناس تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَدَبَّرون فيه فتَعملوا بكلّ أخلاقه فتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَدَبِّرين له عامِلين به
ومعني "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)" أيْ نحن الله تعالي ربكم أيها الناس نقرأ عليك ونَذْكُر ونَحْكِي لك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلمٍ ويا كل مُسْتَمِعٍ عاقلٍ – أفضل وأجْوَد وأجْمَل وأعظم وأحْكَم وأصْدَق وأوْفَيَ وأصَحّ وأنْفَع الأخبار والأحوال والأحداث والروايات لأنَّ فيها أكْمَل العِبَر والعِظات والوَصَايا والتوْجيهات والتحذيرات والتبْشيرات والأخلاقِيَّات والتشريعات لمَن أراد أنْ يَعْتَبِر ويَتَّعِظ منكم ليَصْلُح ويَكْمُل ويَسْعَد تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ.." أيْ بسبب وبواسِطة وَحْيِنا إليك هذا القرآن الكريم المُعْجِز.. ".. وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)" أيْ والحال والواقع أنك قد كنتَ والناس حولك مِن قَبْلِ وَحْيِهِ إليك من الغافلين – واللام للتأكيد – أي الذين لا يَدْرُون ولا يَعلمون ولا يَتَذكّرون شيئاً عمَّا فيه مِن مِثْل هذه العِظات والأحكام.. إنَّ أحسنَ القَصَص هذا الذي نَقُصُّه عليك في القرآن العظيم يا رسولنا الكريم من قصص السابقين ومن القصص الحكيم عموما هو من أخبار الغيب التي نُوحِيها إليك عن طريق المَلَك جبريل والتي لم يكن يعلمها أحدٌ غيرنا وكنتم غافلين عنها وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صِدْقك فيما تُبَلّغه عنّا ولتكون عِبْرة لمَن أراد الاعتبار والعمل بها ليسعد في دنياه وأخراه حيث تُخبرهم بتفاصيل أخبار لم تكن تعلمها لأنك أُمِّيّ ولم تحضر زمنها لا أنت ولا قومك حولك في زمنك مِن قبل هذا الوقت الذي أوحيناها إليك فيه بهذه الصورة الصادقة الحكيمة الخالية من الأساطير والأكاذيب وبالتالي فلا يُمكن لأحدٍ حولك مِمَّن يُكَذّبك أنْ يَتَجَرَّأ علي قول أنك تَعَلّمتها منه بل أخبرناك بها مطابقة لِمَا كان عليه الأمر الصحيح كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك ويعلمها بعض مَن حولك مِن كتبهم السابقة كاليهود والنصاري ويتداولونها فيما بينهم ولا يمكنهم تكذيبها.. هذا، ومَن يَغْفل عن القرآن الكريم في أيِّ زمنٍ بأيِّ صورةٍ مِن صُوَر الغَفْلَة كنسيانٍ أو تَرْكٍ أو استكبارٍ أو عِنادٍ أو غيره فحتماً سيكون حاله أن يعيش في غَفْلَةٍ وضَياعٍ وتعاسةٍ في الداريْن علي حسب درجة غَفْلَته
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)" أيْ هذا بيانٌ لقِصَّةِ الرسول الكريم يوسف (ص) كمِثالٍ لأَحْسَنِ القصص.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قال يوسف لأبيه يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام يا أبي إني رأيت في مَنامِى وأنا نائم أحَدَ عَشَرَ نَجْمَاً من النجوم وكذلك الشمس والقمر رأيتهم جميعاً ساجدين لي أمامى قد نَزَلُوا من السماء وانْحَنُوا لي تحيّة وتعظيما كأنني مَلِك.. لقد كانت هذه الرؤيا بُشْرَىَ من الله تعالي ليوسف وأبيه لِمَا سيَصِل إليه يوسف من عُلُوِّ المَنْزِلَة في الدنيا والآخرة وقد جعلها سبحانه له ليَتذكّرها كلما حَلّت به ضائقة فيَصبر ويطمئنّ أنَّ النصر والتمكين له مستقبلا.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ الرؤيا التي يراها الرسل في منامهم هي صورة من صُوَر الوَحْي لهم، أمّا بالنسبة لعموم الناس فلا يَنْبَنِي عليها أيّ تَصَرُّفات أو أحكام أو أقوال أو أفعال أو وعود أو ارتباطات أو ما شابه هذا، لأنها ما هي إلا عبارة عن أنَّ العقل في فترة راحته أثناء النوم يُعيد بَرْمَجَة وترتيب المعلومات والأفكار بداخله استعداداً لِمَا بعد الاستيقاظ فتَحْدُث هذه الأحلام أثناء تلك البَرْمَجَة عند تَخَلّصه من بعض المعلومات التي قد لا تُفيده، فمَن كان فِكْره خَيْرِيَّاً صالحاً فإنه قد يَرَيَ أحيانا علي فتراتٍ مُتَبَاعِدَةٍ أو مُتَقَارِبَةٍ في منامه للحظاتٍ ما هو انعكاس لهذا الفكر الخَيْرِيّ، فيَرَيَ ما يُمكن الاستبشار به – دون أن يمتنع قطعا عن إحسان اتّخاذ أسبابه لتحقيق أهدافه المختلفة في حياته – كنعمةٍ من نِعَم الله تعالي علي الصالحين ومُؤَشّر لهم أنه معهم وسيُيَسِّر لهم كل شئونهم بالأسلوب وفي التوقيت الذي يراه مناسبا صالحا مُسْعِدَاً لهم ولمَن حولهم في الداريْن، أمّا مَن كان فِكْره شَرِّيَّاً فاسداً، فإنه غالبا يَرَيَ رُؤَيَ شَرِّيَّة فاسدة، ومَن كان صالحا ورأي رؤيا فيها شَرّ مَا، فليستعذ بالله بعد استيقاظه وينساها فلا قيمة لها ويستمرّ في خيره وصلاحه وتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه
ومعني "قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)" أيْ قال يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام يا بنيّ – تصغير ابن لأنه كان حول الثانية عشرة من عمره – مُشْفِقَاً عليه ناصِحَاً له مُوَجِّهَاً مُحَذّرَاً لا تَذْكُر رؤياك هذه وتَقصّها علي إخوتك فقد تُثير عند بعضهم تفكيراً شَرِّيَّاً بعقولهم يَتَمَثّل في حَسَدٍ لك علي مَكانتك المُستقبلية المُتَوَقّعَة فيَتَمَنّون بالتالي زوال نعمة الله عليك ويُؤَكّدون هذا التّمَنّي بإجراءات عَمَلِيَّة كَيْدِيَّة تمنعك من الوصول لهذه المَكَانَة تَتَمَثّل في أن يَكيدوا لك كيداً كبيراً شديداً أيْ يفعلوا المَكَائِدَ بك بكل أشكالها أيْ يُدَبِّروا ضدّك ما يُوقِع بك الشرّ والهلاك، لأنَّ الشيطان يا بُنَيّ بالتأكيد للإنسان عَدُوٌّ مُبينٌ أيْ عدو واضِح له، أيْ ضِدَّه يريد إضلاله أيْ إبعاده عن كل خيرٍ وسعادة، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه.. والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل.. إنَّ هذا الكتمان أحيانا لشيءٍ مَا يَغْلب علي الظنّ أنَّ إعلانه قد يُؤدِّي إلي ضَرَرٍ مَا علي النفس أو الغير هو مِمَّا يطلبه الإسلام في مِثْل هذه الأوقات لتحقيق المصلحة والسعادة وتَجَنُّب المَضَرَّة والتعاسة
ومعني "وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)" أيْ وقال له أيضا مُبَشّرَاً: وكما اجْتَبَاكَ أيْ اختارَك ربك لهذه الرؤيا الحَسَنَة والتي تدلّ علي تكريمك وتشريفك فإنه سبحانه سيَجْتَبيك لمُلْكٍ ولمَكَانَةٍ ولأمورٍ عظيمةٍ مستقبلاً مُفِيدَة مُسْعِدَة لك وللناس في دنياهم وأخراهم بسبب حُسْن وكمال خُلُقك، وكذلك سيُعَلّمك من تأويل الأحاديث أيْ مِن عِلْم ما تَؤُول وتَهْدِف إليه الأحاديث أيْ التعاليم في الكتاب الذي سيُوحِيه إليك وما كان في الكُتُب السابقة أيْ سيُعَلّمك أدِلّة التوحيد والإسلام المُناسب لزمنك وكذلك سيُعَلّمك ما ستَؤُول وستَنْتَهي إليه الأحاديث بمعني الرؤَيَ الصالحة التي تَحْدُث للناس في مَنامِهم ويَتَحَدّثون بها والتي كان تأويلها وتفسيرها مُنْتَشِر في زمنهم فكان من مُعْجِزات يوسف (ص) حُسْن وصِحَّة تفسيرها وكيفية حُدُوثها واقعياً كنوعٍ من الغيب الذي يُوحِيه ويُعَلّمه سبحانه له كدليلٍ علي صِدْقِ أنه رسولٌ من عنده تعالي، وبالجملة سيُعَلّمك الأحاديث والتي هي جَمْع حَدِيث وهو كل ما يُتَحَدَّث به من كلامٍ وخَبَرٍ بين بني آدم بمعني إدراك أسباب هذه الأحاديث والمقصود منها ونتائجها المُتَوَقّعَة بما يُفيد نِعْمة تعليمك تمام الحِكْمة دائما أيْ حُسْن التّفَكّر والتّصَرُّف وإصابة الصواب والخير والسعادة في كل شئون الحياة.. ".. وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ.." أيْ وسيُكْمِل نِعَمه السابق ذِكْرها عليك بنعمة النّبُوَّة والرسالة والمُلْك والرئاسة في الدنيا ثم يُكْمِلها ويَضُمّ إليها أعلي الدرجات في الآخرة، فتكون رسولا منه للناس ومعك كتاب مُوحَيَ إليك فيه الإسلام المُناسب لعصركم لتسعدوا به في الداريْن.. ".. وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ.." أيْ وسيُتِمّ نعمته كذلك علي أهل أبيك يعقوب، يَقْصِد إخوة يعقوب وأقاربه وذرِّيَّاتهم حيث سيَجعل منهم كثيراً من الأنبياء مِثْله ومِثْل يوسف وسيُنْعِم عليهم بالكثير من نِعَمِه.. ".. كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ.." أيْ كما أكْمَل نِعَمَه من قبل هذه الرؤيا ومن قبل هذا الوقت ومن قبلك علي أبويك إبراهيم وإسحق اللذيْن أنْعَمَ عليهما بالنبوة والرسالة وأعطاهما في الدنيا من كلَّ خيرٍ وسعادةٍ وما يتمنّاه أيّ إنسانٍ في حياته من الرزق الوفير والمسكن الفسيح المُرِيح والزوجة الصالحة الحَسَنَة والذّرِّيَّة الصالحة البارَّة النافعة والذِكْر الحَسَن فكل مَن يَذْكُرهما يحبهما وبالجملة أعطاهما تمام السعادة فيها، ثم في الآخرة بالقطع سيكونا من الصالحين أيْ مِن الذين يُعطيهم الله أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. هذا، وقد عَبَّرَ عنهما بأنهما أبوان ليوسف مع أنَّ إبراهيم هو جدّ أبيه يعقوب وإسحاق هو أبو يعقوب أيْ جدّ يوسف وذلك لإشعاره بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام ليظلّ طوال حياته مستمرّاً علي طريقهم وللمُبَالَغَة فى إسعاده بهذا ولأنَّ هذا الاستعمال مألوف فى لغة العرب فقد كان أهل مكة مثلا يقولون للرسول الكريم محمد (ص) يا ابن عبد المطلب رغم أنه جدّه وأبوه هو عبد الله.. ".. إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)" أي هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ ربك يا يوسف ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – بالتأكيد بلا أيِّ شكّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه عليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وبمَن يَختاره لحَمْل رسالته الإسلام للناس وبمَن يَسْتَحِقّ إنعامه وإكرامه وإسعاده في الداريْن.. حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث
ومعني "لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)" أيْ هذا بَدْءٌ في ذِكْر قِصَّة يوسف (ص) مع إخوته وأبيهم يعقوب (ص) للاتّعاظ بها لمَن أراد أن يَتّعِظ.. أيْ لقد كان حتماً في قِصَّتهم عِظات مُفيدات مُسْعِدات في الداريْن ودلالات عظيمات تدلّ على قُدْرات الله تعالي وحِكَمِه، للسائلين عنها والراغبين في معرفتها للاستفادة منها والسعادة بها في دنياهم وأخراهم، فإنَّ السائلين هم الذين ينتفعون ويسعدون بها أمّا المُعْرِضُون عنها فلا يستفيدون منها.. وهذا الافتتاح لتلك القصة بهذا الأسلوب يَشدّ الانتباه لها قطعاً ولمتابعة أحداثها
ومعني "إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا قاله إخوة يوسف فيما بينهم قبل تنفيذ جريمتهم.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قال إخوة يوسف وهم يُجَهِّزُون المَكائد له: يوسف وأخوه شقيقه الأصغر منه، واللام للتأكيد بمعني إنَّ وللقَسَم بمعني والله – وهما من زوجةٍ أخري ليعقوب غير أمّهم وبالتالي فإخوته هؤلاء هم إخوةٌ من أبٍ فقط الأمر الذي قد مَهَّدَ لسوء العلاقة بسبب سوء ظَنّهم – أحبّ إلي أبينا مِنّا حيث يُفَضِّلهما علينا في أقواله وأفعاله، مع أنّنا، والحال والواقع أننا، نحن عُصْبَة أيْ جماعة قوية هي أنفع له منهما في كل شئون حياته فكيف يُمَيِّزهما علينا في الحبّ والمُعامَلَة بل نحن أحقّ بذلك؟!.. ".. إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)" أيْ إنَّ أبانا لفى خطأٍ وبُعْدٍ عن الحقّ واضح، حيث يُفَضِّل ولديْن صغيرين على مجموعةٍ من الرجال الأشِدَّاء النافعين له القادرين على عوْنه وخدمته.. لقد تَوَهَّمُوا مُخْطِئين حتماً أنَّ أباهم يعقوب وهو النبي الكريم المَعْصُوم من الخطأ ككل الأنبياء يحب يوسف وأخيه – وكانا صغيريْن يحتاجان لبعض الرعاية والاهتمام أكثر مِمَّا يحتاجه إخوته كبار السنّ الذين نالوا مثلها عندما كانوا صغارا – أكثر منهم ويُفَضِّلهما عليهم ولا يَعْدِل بينهما وبينهم، وهذا مِمَّا لا يمكن أن يحدث أبداً من رسولٍ من الرسل ألاّ يعدل بين أبنائه، فهُم فقط يُبَرِّرون مُخْطِئين سبب إيذائهم وظلمهم ليوسف أنه خطأ أبيهم لا خَطَئِهم هم رغم أنَّ الأمر في الأصل هو غيرتهم منه وحَسَدهم له!! ثم هل يكون علاج الخطأ الذي يَدَّعونه ويَتَوَهَّمونه بخطأٍ أفظع منه ولمَن لم يرتكب الخطأ بأن يقتلوه أو يَرْموه في بئرٍ يموت حتماً فيه!! أين إنسانيتهم إضافة إلي أنه أخوهم من أبيهم!!
ومعني "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)" أيْ اقتلوا يوسف بإزْهاقِ روحه وإنهاء حياته أو اطرحوه أرضاً أيْ ارْمُوه وانْفُوه فى أرضٍ مَجْهُولَةٍ بعيدةٍ عن العمران لا يُعْثَر عليه فيها حتى يموت بها غريباً أو تأكله السباع بلا قتلٍ منكم له، وبذلك يكون وجه أبيكم – ويُقْصَدُ بالوجه الكيان كله أيْ الجسد والعقل معا – خالياً أيْ خالِصَاً صافِيَاً لكم أيْ يَصْفُو لكم حب أبيكم وإقباله عليكم أيْ لا يشارككم فيه يوسف وأخوه بل يَتَفَرَّغ إليكم بحبه ورعايته ولا يَلْتَفِت عنكم!!.. ".. وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)" أيْ وتكونوا مِن بَعْد قَتْلِهِ أو نَفْيِهِ أُنَاسَاً صالحين بأنْ تتوبوا إلى الله فيتوب عليكم وتَعْتَذِروا إلي أبيكم فيَقْبَل عُذْرَكم.. لقد قَدَّمُوا العَزْمَ على التوبة قبل فِعْل الذنب كأنهم يُشَجِّع بعضهم بعضاً علي هذه الجريمة القبيحة الشنيعة ويُسَهِّلونها علي أنفسهم لفِعْلها إذ هي ذنبٌ واحدٌ وسيَمُرّ وسيَتوبون منه!!.. إنَّ الآية الكريمة تُنَبِّه وتُحَذّر كل مسلمٍ ألاّ يَنْزَلِق بسبب تفكيره الشَّرِّيّ عند غَضَبٍ أو حَسَدٍ أو انتقامٍ أو غَلَبَة شَهْوةٍ أو ما شابه ذلك فيَلْجَأ لمِثْل هذا التّبْرير لفِعْل الشرّ حيث يُوهِم نفسه أنه يفعل الذنب ثم سيَتوب منه وسيَقبل الله توبته ويَغفر له!! فمَن أدْرَاه أنه باستطاعته التوبة فقد يموت قبلها أو تُؤَدِّي به إلي ذنوبٍ أخري تزداد تدريجياً حتي ينشغل بها عن التوبة أصلاً أو نحو هذا من سوءِ حالٍ! ومَن أدْراه أنَّ الله تعالي رغم أنَّ رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ سيَقْبَل منه مثل هذه الصورة من التوبة؟! فالتوبة تكون لمَن غلبته شهوته لفِعْل ذنبٍ مَا فإذا استفاق تاب بعده بأن استغفر ونَدم علي ما فعل وعَزَمَ علي عدم العودة ورَدَّ الحقوق لأصحابها إنْ كان ذنبه متعلقا بهم فهذا يتوب الله عليه، لكنْ مَن عَزَمَ علي الذنب بلا أيِّ نَدَمٍ وخَطّط لفِعْلِه ونَوَيَ أنه سيتوب بعده فإنَّ التوبة غالبا تكون غير صادقة، لكنه إذا راجع نفسه بصدقٍ وقام بالتوبة الصادقة حينها يقبلها الله الغفور الرحيم منه مهما عَظُمَ ذنبه.. أمَّا التوبة الجاهزة المُعَدَّة سابقاً قبل ارتكاب الجريمة فليست بتوبةٍ إنما هي غالبا تكون تَبْريرَاً لارتكابها كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا.. إنَّ مثل هذا التَّصَرُّف هو أمرٌ سفيهٌ وكأنَّ فيه استهزاءاً بالله تعالي وبالإسلام واستسهالاً لفِعْل الذنوب وتشجيعاً عليها
ومعني "قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)" أيْ قال قائلٌ من إخوة يوسف وكان أعْقَلهم وقد أفْزَعه الذي سيُقْبِلُون علي فِعْلِه إشفاقاً عليه وهو صغير ضعيف محاولاً منعهم أو علي الأقلّ ارتكاب ما هو أخفّ من جرائم، لا تقتلوا يوسف، ولا تَنْفوه، فلا يَصِل بكم عداؤكم له لهذا الحدّ، فإنَّ ذلك جريمة عظيمة الإثم ولا يجب فِعْلها أبدا، ولكنْ ارْمُوه في غَيَابَة الجُبّ أيْ في ظلمة البئر كمكانٍ يَغِيب فيه وبالتالي يأخذه بعض المسافرين السائرين علي الطريق حينما يرونه عندما يأتون لأخذ ماء شربهم وهم سيَقومون برعايته، إنْ كنتم مُصِرِّين أن تكونوا فاعِلين لفِعْل إبْعاده عن أبيه، وبذلك يَبْتَعِد عنكم وتَستريحون منه ويَخْلو لكم وجه أبيكم ويُحْفَظ عند غيركم دون حاجةٍ لقتله
ومعني "قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)"، "أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)" أيْ قال إخوة يوسف لأبيهم مُحاوِلين إقناعه بادِئين بتنفيذ مُخَطّطهم بإبعاده بعد اتّفاقهم علي ذلك يا أبانا لماذا لا تَجعلنا أُمَنَاء علي يوسف بأنْ نَصْحَبه معنا للتّنَزّه؟! والحال والواقع أننا له ناصحون – واللام للتأكيد – أيْ قائمون بمصلحته عاطِفُون عليه مُريدُون له الخير الخالص كما نريده لأنفسنا نَخُصّه بخالص النصح والإرشاد راعُون مُشْفِقُون عليه، لأنه أخونا.. "أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)" أيْ ابْعَثْه معنا غدا عندما نخرج للمراعِي لكي يأكل ويشرب ويَتَنَعَّم مَا يشاء في سَعَةٍ ويلعب الألعاب التي يحبّها ونحن بالتأكيد له حافظون أيْ حارِسُون من أن يُصيبه أيّ أذَيَ
ومعني "قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)" أيْ قال يعقوب (ص) لأبنائه رَدَّاً علي إلْحَاحهم إني بالتأكيد يجعلني حزيناً مُتَأَلّمَاً تَعيساً – واللام للتأكيد – أن تذهبوا به بعيداً عنّي في رحلتكم فيُفارِقني فأقْلَق عليه لصغره كما يَقلق كل أبٍ علي صغيره ويَطمئنّ بجواره، وأيضا أخاف أن يُصابَ بضَرَرٍ مَا كأنْ يأكله الذئب أو حيوان مُفْتَرِسٌ والمكان به الكثير منه وهو صغير لا يَقْوَيَ علي مقاومته، أو يَنْفَلِتَ منكم، أو ما شابه هذا من أضرار، وأنتم عنه مُنْشَغِلون بعملكم أو لعبكم أو غيره
ومعني "قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)" أيْ قال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب (ص) مُحاوِلين طَمْأَنَته وإزالة حُزْنه وخوفه يا أبانا بالتأكيد إذا أكل الذئب يوسف وهو معنا والحال والواقع أننا نحن مجموعة من الرجال الأقوياء الحريصين على سلامته القادرين علي حِفْظه والدفاع عنه إننا بالتالي إذَن فى هذه الحالة بكل تأكيدٍ خاسرون – واللام للتأكيد – خسارة عظيمة لكرامتنا وسُمْعَتنا أمام أنفسنا والناس حولنا ونخسر أعمالنا بسبب ذلك ونحن لا نَقْبَل أن نُوصَف بهذا الضعف والهوان والذلّة والخسران، وفي هذا مزيدٌ من الطمأنة له أنَّ ذلك الذي يخافه منهم وعلي يوسف لن يَحْدُث
ومعني "فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)" أيْ فلمَّا أقنعوا أباهم بإرسال يوسف معهم وذهبوا به إلى حيث يريدون وأجمعوا أمرهم وعَزَموا على أن يُلْقوا به فى ظلمة البئر، قاموا بفِعْل ما اجتمعوا واتّفقوا عليه وأصَرُّوا علي فِعْله معه من الأذي ونَفّذوا ما يريدون تنفيذه بلا رحمة.. ".. وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)" أيْ ووسط هذه الشدَّة، وكعادتنا دائما أننا مع الصالحين بعِلْمنا وقُدْرَتنا ورحمتنا وتَيْسيرنا وتَوْفيقنا في رخائهم وشِدَّتهم نُعينهم ونُطَمْئِنهم ونُثَبِّتهم ونُيَسِّر لهم أمورهم وننصرهم، أوحينا إلي يوسف أيْ أخبرناه عن طريق الوحي بواسطة جبريل أو برؤيا صالحة أو بإلهامٍ عقلي، لكي يطمئنّ ويستبشر أنه مع الصبر سيكون له بمرور الوقت مَكَانَة عظيمة وتمكين في الأرض وعِزَّة وسلطان ونشر للعدل وللخير وللسعادة فيها وأنه سيجتمع بعد فترة مع أهله وإخوته وستظهر الحقائق وسيُذَكّرهم بفِعْلهم وسيُعاتِبهم ويُسامحهم عليه وسيكون عزيزاً وهم الذين سيحتاجونه، أوحينا إليه أنك بالتأكيد ستُنَبِّئهم – واللام للتأكيد – يوماً مَا مستقبلاً أيْ ستُخْبِرهم بأمرهم هذا الذي دَبَّروه وفَعلوه بك وبأبيهم وبكيفية إنْجاء الله وتمكينه وإسعاده لك، وهذا يُفيد ضِمْنَاً تَبْشيره بأنَّ الله تعالي سيُنجيه حتماً مِمَّا وَقَعَ فيه وسيَجمعه بأهله وإخوته مُعَزَّزَاً مُكَرَّمَاً مُنْتَصِرَاً مُمَكَّنَاً في الأرض يَحتاج الجميع إليه.. ".. وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)" أيْ بَشّرْناه وطَمْأنّاه بالوَحْي وهم لا يحسُّون بذلك الوحي الإلاهِيّ الطيِّب المُبَشّر المُطَمْئِن المُسْعِد مِنّا ليوسف (ص)
ومعني "وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)"، "قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)"، "وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)" أيْ وجاء ووَصَل إخوة يوسف إلى أبيهم ليلاً يَبْكُون مُدَّعِين إظهار الحُزْن علي ما حَدَث له لإخفاء جريمتهم بعد ارتكابها مُتَوَهِّمين أنهم بذلك من المُمْكِن أن يخدعوا أباهم بأنهم صادقين وبعدم التقصير في حمايته.. "قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)" أيْ قالوا مُتَحَجِّجِين بعُذْرٍ كاذبٍ سَفِيهٍ يَسْهُل كَشْف كذبه يا أبانا نحن ذهبنا نتسابَق في الجَرْي وتركنا يوسف عند أمتعتنا التي فيها طعامنا وشرابنا وثيابنا والأشياء التي نستخدمها في رحلتنا ليَرْتاح بجوارها فقتله وأكله الذئب ولم يُبْقِ له أثراً ندفنه، وذلك حينما ابتعدنا عنه أثناء سباقنا، وما أنت بمُصَدِّقٍ لنا فيما نقوله لك حتي ولو كنّا صادقين، لسوءِ ظنّك بنا.. إنَّ هذه الجملة في ذاتها تُفيد ضِمْنَاً إحساسهم بكذبهم وعدم تصديقه لهم وهي التي يقولها غالباً الكاذبون الذين يريدون إخفاء كذبهم ولا يقولها الصادقون الواثقون من صِدْقهم!.. لقد أخذوا عُذْرَهم الكاذب من قول أبيهم حينما حَذَّرهم قبل ذهابهم به من خوفه أن يأكله الذئب فتَوَهَّمُوا أنه السبب المَقْبُول للتصديق وللإخفاء لِمَا دَبَّرُوه من جريمة!.. "وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)" أيْ وأحْضَرُوا علي قميصه بدمٍ هو كذب، لأنه لم يكن حتماً دم يوسف، بل دم شاةٍ أو غيره، بكل تأكيدٍ، لأنه لا يُعْقَل أن يأكله الذئب دون أن يُمَزّق قميصه! حيث لم يَتَنَبَّهوا أنهم قد تَرَكوا القميص سليماً ليس به أيّ قطع! فأيُّ ذئبٍ رحيمٍ عاقلٍ هذا الذي يأكله كله ويَترك له قميصه هكذا سليما؟! فكان دليلهم الذي حاولوا مُتَوَهِّمين أن يثبتوا به صِدْقهم هو ذاته الدليل القاطع علي كذبهم! ولقد تَنَبَّه أبوهم يعقوب (ص) لهذا فقال لهم مُشَكّكَاً في أقوالهم مُبَيِّنَاً عدم تصديقهم ".. قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا.." أيْ قال أبوهم ليس الأمر كما تَدَّعُون وإنما الحقيقة أنه قد زَيَّنَتْ وحَسَّنَتْ وسَهَّلَت لكم عقولكم فاخترتم بتفكيركم الشرِّيّ أمراً سَيِّئَاً قبيحاً مُجْرِمَاً ففعلتموه به سيَكشفه الله حتماً قريباً.. ".. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)" أيْ فصبري علي هذا الاختبار من الله هو صبرٌ جميلٌ أيْ مُسْتَسْلِمٌ لأمره تعالي ليس فيه أيّ رفضٍ أو ضَجَرٍ أو سخطٍ داخليّ أو شكويَ لأحدٍ مع كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه وحده ودعائه فهو الذي يُسْتعان به دائما في كل الأحوال خاصة عند الشدائد وعلي الصبر علي ما تَصِفون وتَذْكرون لي من ادِّعاءات، وهو صبرٌ إيجابيٌّ ليس سَلْبِيَّاً حيث فيه اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لمقاومة ما حَدَث وتخفيف الأضرار وتحسين الأوضاع وعلاج الأسباب والبحث عنه قَدْر المُسْتَطَاع
ومعني "وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)" أيْ ووَصَلَتْ للبئر الذي فيه يوسف مجموعة مسافرين سائرين علي الطريق يريدون أخْذ ماء منه للشرب، فأرسلوا أيْ بَعَثُوا واردهم أيْ الذي يَرِد أيْ يأتي ويَصِل إلي مكان الماء ليأتيهم به ليشربوا، فأدلي دلوه أيْ أنزل الدَّلْو وهو الوعاء بواسطة الحبل في البئر، فتَعَلّق به يوسف (ص) فخَرَج، فلما رآه اسْتَبْشَرَ وقال مُعْلِنَاً فَرَحَه يا للخبر السَّارّ، أبْشِروا، هذا غلام كريم جميل، حيث سيستفيدون به إمّا بخدمتهم أو ببيعه.. ".. وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً.." أيْ وأخفوا يوسف في أمتعتهم وجعلوه بضاعة كالبضائع التي تُباع وتُشْتَرَي، وهذا الإسرار لكي لا يسألهم عنه أحد، كقريبٍ أو جارٍ مثلاً يسأل عن فتيً ضائعٍ، فينكشف أمرهم ويُؤْخَذ منهم فيَخسروا الاستفادة منه.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)" أيْ والله بكل تأكيد عليم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما يعملون بيوسف – حيث يَنْوُون بيعه كعَبْدٍ وهو كريمٌ ابنٌ وحفيدٌ لرسلٍ كرام – سواء في سِرِّهم أو علانيتهم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبهم علي ذلك بما يُناسب في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. إنه تعالي حتماً قادرٌ على مَنْع ذلك وتغييره ولكنْ تَرَكَه حتي تتحقّق حِكْمته بالتمكين له في الأرض مستقبلا، بعد صَبْره، وإسعاده وإسعادها بمَن عليها.. إنَّ في هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)" أيْ وباعَ هؤلاء المسافرون السائرون يوسفَ فى الأسواق كعَبْدٍ بثمنٍ قليلٍ تافِهٍ وهو عبارة عن دراهم معدودة أيْ قليلة لأنَّ الشيء القليل يَسْهُل عَدّه وحسابه غير الشيء الكثير.. ".. وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)" أيْ وكان حال هؤلاء الذين باعوه وكان سبب بَيْعه برُخْصٍ هكذا أنهم كانوا من الزاهدين فيه أيْ فى يوسف أيْ في بقائه معهم الراغبين فى التّخَلّص منه حتي ولو بأقلّ ثمنٍ قبل أن يَظهر مَن يُطالِبهم به، حيث الزهد يعني قِلّة الرغبة فى الشيء وعدم الإقبال عليه والحرص علي التمسك به.. إنهم لا يعلمون مَنْزِلَته عند الله تعالي!!
ومعني "وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)" أيْ هذا بيانٌ لبدايات رَحمات ورِعايات وخَيْرات الله تعالي لنَبِيِّه الكريم يوسف (ص) أثناء ابتلائه.. أيْ وقال الرجل الذي اشتراه، وكان من دولة مصر، وكان صاحبَ مَنْصِبٍ كبيرٍ وجاهٍ ومالٍ لأنَّ الآيات الكريمات ستَذْكر أنه "عزيز"، قال لزوجته أكرمي أيْ أحْسِنِي مَثْواه أيْ مكان إقامته ومَأْكله ومَشْربه ومَلْبسه وبالجملة أحسني مُعامَلَته، لعله ينفعنا بالمُعاونة في مصالحنا وأعمالنا داخل البيت وخارجه أو نجعله ولدا لنا حيث ليس معنا أولاد وهو تَظْهَر عليه علامات حُسْن الخُلُق والعقل والقوّة.. ".. وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ.." أيْ وهكذا وكما وَصَفْنا وذَكَرْنا وبهذا التدبير الحكيم للأحداث وكما مَكّنا ليوسف مكاناً كريماً حسناً في بيت مَن اشتراه بعد أن أنجيناه من القتل ومن البئر كذلك مكنّا له في الأرض فيما بَعْد أيْ جعلنا له مكاناً ومَكَانَة ونُفُوذَاً حتي صار مَلِكَ مصر بما فيها يَحكمها ويَسُوسها بعدل ورحمة وأخلاق الإسلام فسَعِدَ الجميع بذلك.. لقد كان شراء عزيز مصر وإكرام مثواه وحبه له هو بداية التبشير لهذا التمكين بما يُذَكّر كل مسلم أنه رغم أنَّ ظاهر الأحداث أنه قد هُدِّدَ بالقتل وقُذِفَ به في البئر وتَمّ بَيْعه كالعبيد إلا أنَّ باطنها كلها خير وسعادة حيث هي بداية التمكين والعِزّة له في الأرض، وكذلك يفعل الله تعالي لكل مسلمٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه حيث يكون في باطن بعض الأحوال التي ظاهرها سيء الخير الكثير له ولغيره تدريجيا مع الوقت.. ".. وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ.." أيْ وأيضا فَعَلْنا ما فعلنا من ترتيبٍ حكيمٍ لكي نُعَلّمه من تأويل الأحاديث ليَتَجَهَّزَ للمُلْك أيْ نُعَلّمه مِن عِلْم ما تَؤُول وتَهْدِف إليه الأحاديث أيْ التعاليم في الكتاب الذي سنُوحِيه إليه وما كان في الكُتُب السابقة أيْ سنُعَلّمه أدِلّة التوحيد والإسلام المُناسب لزمنه وكذلك سنُعَلّمه ما ستَؤُول وستَنْتَهي إليه الأحاديث بمعني الرؤَيَ الصالحة التي تَحْدُث للناس في مَنامِهم ويَتَحَدّثون بها والتي كان تأويلها وتفسيرها مُنْتَشِر في زمنهم فكان من مُعْجِزات يوسف (ص) حُسْن وصِحَّة تفسيرها وكيفية حُدُوثها واقعياً كنوعٍ من الغيب الذي نُوحِيه ونُعَلّمه له كدليلٍ علي صِدْقِ أنه رسولٌ من عندنا، وبالجملة سنُعَلّمه الأحاديث والتي هي جَمْع حَدِيث وهو كل ما يُتَحَدَّث به من كلامٍ وخَبَرٍ بين بني آدم بمعني إدراك أسباب هذه الأحاديث والمقصود منها ونتائجها المُتَوَقّعَة بما يُفيد نِعْمة تعليمه تمام الحِكْمة دائما أيْ حُسْن التّفَكّر والتّصَرُّف وإصابة الصواب والخير والسعادة في كل شئون الحياة، وكل ذلك بوَحْيِنا ومِن خلال ما سيَستفيده من خبراتٍ وعلومٍ وإدارةٍ وسياسةٍ مِن مُعايَشته ومُعامَلته مع العزيز، بما يُؤَهِّله لحُسْن إدارة المُلْك مستقبلاً علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.." أيْ والله قوىٌّ قادرٌ على تنفيذ كلّ أمرٍ يريده، غالبٌ مُنْتَصِرٌ مُحَقّقٌ لِمَا يريد في كوْنه، وليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمع الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي يمنعوه من فِعْل أيّ شيءٍ يريده ما استطاعوا قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. لقد أراد إخوة يوسف له الضياع والهلاك وأراد اللَّه تعالي له المُلْك والسلطان فكان ما أراد اللَّه.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)" أيْ ولكنّ كثيراً من الناس لا يُدْرِكون هذا الذي سَبَقَ ذِكْره، ولا يَعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلَة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، وذلك لأنّ بعضهم يَكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا، وبعضهم يُشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه، وبعضهم يُنافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ، وبعضهم مسلم لكنه تاركٌ لكثيرٍ من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيرا يَنْسَيَ قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يُدرك ويَتفهَّم ويَعلم ويَستخرج الخير الكثير المَخْفِيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم، تعاسة تكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، ما لم يَستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلَّة مِن هؤلاء المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين والفاسدين وأشباههم في كل زمنٍ من الأزْمِنَة يعودون لربهم ولإسلامهم فيعلمون ذلك
ومعني "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)" أيْ وعندما وَصَل يوسف إلي أقوي أحواله من حيث قوة العقل والبدن، وهو سِنٌّ عادة بين العشرين والثلاثين، أعطيناه من رحمتنا وكرمنا وفضلنا العظيم حُكْمَاً أيْ حِكمة ومُلْكَاً وسُلْطاناً وعقلاً راجِحَاً وعِلْمَاً بحيث يُحسن التصرّف بما يحقّق الخير والحقّ والعدل والمصلحة والسعادة للجميع، إضافة لإعطائه النبوة وما فيها من تشريعات الإسلام الذي يُناسب عصره، مع علم تأويل الأحاديث.. ".. وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)" أيْ وكما أعطيناه من رحمتنا وكرمنا وفضلنا العظيم كلّ هذا الخير الكثير بسبب إحسانه، فهكذا دائما سيكون جزاؤنا وعطاؤنا الذي لا يُوصَف وبلا حسابٍ للمُحسنين، فهذا سيكون دوْمَاً حال كل مُحسِن، كل مُتقِن مُجيد، كل متمسّك عامل بكل أخلاق إسلامه، سيُؤْتَيَ حتما من فضل ربه من الحِكْمة والعلم والخير والسعادة التامة ما يُسعده ومَن حوله في دنياه وأخراه، فهذا هو وَعْد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا
ومعني "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)" أيْ هذا بيانٌ لاختبارٍ آخرٍ أثناء تجهيز الله تعالي له للمُلْك، بعد اختبار سوء تَصَرُّف إخوته معه بإلقائه في البئر وحُدُوث بَيْعِه كعَبْد، وهو اختبارٌ أشدّ، لأنَّ الأول كان مضطراً له فليس أمامه إلا الصبر عليه سواء أكان طائعاً أم كارهاً أمّا الثاني هذا فهو اختياريّ وإغراءاته شديدة وأسبابه سَهْلَة مُمَهَّدَة فاحتمالية عدم الصبر أكبر ولذا فأجره في الداريْن أعظم، وهو سبحانه يَختبره بهذا الاختبار ليخرج منه بقوةِ إرادةٍ وعِفّة وأمانة ونحو ذلك من أخلاق الإسلام والتي ستُعينه علي حُسْن إدارة مُلْكِه مستقبلا، وقد نجح في هذا الامتحان بتوفيق الله وعوْنه بكل جَدَارَة وامتياز.. أيْ وأرادَت وطَلَبت منه أيْ من يوسف بصورةٍ فيها تِكْرار وذِهَاب وعَوْدَة وخِداع ومُرَاوَغَة ورِفْق ولِين، المرأة التي هو يعيش في بيتها وهي زوجة العزيز، أرادت بصورةِ طلبها وهيئتها أن تُحَوِّله عن نفسه وإرادته الطاهرة إلى إرادتها هي الفاسدة فيَرْتَكِب فاحشة الزنا معها، واتّخَذت خطوات عملية بالفِعْل لذلك فأغلقت الأبواب عليهما إغلاقاً شديداً مُحْكَمَاً زيادة في إغرائه واجتذابه ودَفْعه للاستجابة لها، وقالت لمزيدٍ من الاجتذاب تَهَيَّأت لك أقْبِل وتعالَ إليّ، قال يوسف بلا أيِّ تَرَدُّدٍ رافِضَاً رَفْضَاً قاطِعَاً حاسِمَاً سريعاً مَعاذ الله أيْ أعوذ بالله أيْ ألْجَأ إليه وأعْتَصِم وأَحْتَمِي وأَتَحَصَّن بقُدْرَته وقوَّته مِمَّا دَعَوْتِنِي إليه مِن سوء.. ".. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)" أيْ هذا تذكيرٌ لها – بعد رفضه القاطِع – بألطف أسلوبٍ بحقوق الله تعالى وبحقوق زوجها، لأنَّ هذا الفِعْل الفاحِش يُؤَدِّى حتماً إلى غضبه وعقابه في الداريْن، وغضب زوجها عليها ومُعاقبته لها، لعلها تستفيق ولا تعود لمِثْل فِعْلها.. إنَّ هذا بيانٌ لسبب الرفض لِمَا دعته إليه والاستعاذة بالله منه، أيْ معاذ الله أن أفعل الفحشاء والمُنْكَر بعد أن أكرمنى ربي بمعني الله تعالى بما أكرمنى به من النجاة من القتل والموت في البئر ومن تهيئة الأسباب التى جعلتنى أعيش مُعَزَّزَاً مُكَرَّمَاً وإذا كان سبحانه قد أنْعَمَ عليَّ كل هذه النِّعَم فيكف ارتكب ما يُغضبه وأستحقّ به عقابه؟! إنَّ العقل المُنْصِف العادِل يُقابِل ذلك بشكره لا بمعصيته!!.. كذلك ربى بمعنى مُرَبِّينِي وسَيِّدِي وهو العزيز زوجها أيْ معاذ الله أن أقابِل مَن اشترانى بماله وأحسن إقامتي بمنزله بخيانته مع زوجته!!.. ".. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)" أي هذا مزيدٌ من بيان سبب رفضه واستعاذته.. أيْ بكل تأكيدٍ لا يفلح الظالمون أيْ لا يفوزون ولا ينجحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)" أيْ ولَمَّا صَدَّها هكذا، والمُفْتَرَض أنها سيدته وهو خادمها وعَبْدها، وكانت تَتَوَقّع أن يَطلبها هو لا أن تطلبه هي ثم يَصْدِمها ويَكْسرها بمِثْل هذا الامتناع الشديد، إذَن فلابُدَّ من الانتقام منه، فهَمَّتْ به أيْ نَوَتَ وأرادت محاولة الإيذاء به، وهَمَّ بها (ص) أيْ بأنْ يَرُدَّ إيذاءها.. أو هَمَّتْ به ولولا أنْ رأىَ برهان ربه لَكَانَ هَمَّ بها أيْ قَصَدَتْ وعَزَمَتْ بالفِعْل به وهو (ص) لولا استعاذته بالله تعالي لَكَانَ هَمَّ بها أيْ فَعَلَ بها فِعْلها.. أو هَمَّتْ به بالسوء وهو (ص) هَمَّ بخاطِرِه ما هو يَحْدُث عادة لأيِّ بَشَرٍ في مِثْل هذه الأحوال من خواطر بعقله، والمُرْتَبِط بربه يَستعيذ بالله منها ولا يُنَفّذها حتماً، كالصائم مثلاً يَرَيَ ماءً بارداً فيُفَكّر فيه دون أنْ يُقْدِم بالقطع علي شُرْبِه، ويكون له الأجر العظيم علي صَبْره وامتناعه.. إنَّ هذا لا يُخالِف أنَّ الأنبياء مَعْصُومون من الخطأ ولا يُسيء إليهم وهُمْ مِن البَشَر بأيِّ شيء، بل لو قال تعالي ولم يَهِمَّ بها لَكَانَ من المُمكن أنْ يَتَشَكَّك بعض المستمعين للقرآن الكريم أنَّ به مثلاً مَرَضَاً مانِعَاً أو نحو هذا فلذلك لم يَهِمّ بها ولو كان سليماً لفَعَل!.. هذا، وخواطر السوء بالعقل يُعْفَيَ عنها ما دامَت لم تُتَرْجَم لتخطيطٍ وعملٍ لقوله (ص) " إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عن أمتي ما حَدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" (أخرجه البخاري ومسلم)، كما أنَّ مَن هَمَّ بسَيِّئة فلم يعملها كُتِبَت له حسنة لامتناعه عن فِعْلها كما يقول (ص) ".. ومَن هَمَّ بسيئةٍ فلم يعملها كَتَبَها اللَّه له عنده حسنةً كاملةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعملها كَتَبَها اللَّه له سيئةً واحدة" (أخرجه البخاري).. ".. لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ.." أيْ لولا أنْ رَأَيَ يوسف دليل ربه لَكَانَ أساءَ وفَعَل، أيْ لولا أنْ تَذَكّرَ بعقله دين ربه الإسلام وما فيه من تعاليم ووَصايا وأخلاق تمنعه من السوء لَكَانَ عَصَيَ، أو رأي جبريل جاءه يُذَكّره، أو تَخَيَّلَ أباه يعقوب يُعاتِبه، أو فطرته كانت تُؤَنّبه وتُخَوِّفه عذاب ربه، أو نحو هذا من صُوَرِ عَوْن الله له لِمَنْعِه، حيث لم يُحَدِّد القرآن ما هو هذا البرهان.. ".. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ.." أيْ هكذا أَرَيْناه مِثْل هذا البُرْهان الذي أَرَيْنَاه إيَّاه وثَبَّتْناه مِثْل هذا التثبيت لكي نَصْرِف أيْ نُبْعِد عنه الوقوع في السوء والفحشاء في هذا الموقف.. كذلك من المعاني كما أريناه بُرْهَانَاً صَرَفَه أيْ أَبْعَده عمَّا كان فيه كذلك نَقِيه السوء والفحشاء في جميع أموره بكل شئون حياته.. والسوء هو الشرّ الذي يَسُوء الإنسان ويُصِيبه أو غيره بالضرَر والتعاسة ويشمل كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار، والفحشاء هي الشرّ الفاحِش أي المُضِرّ ضَرَرَاً شديداً بالذات وبالغَيْر.. ".. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)" أيْ لأنه من عبادنا الذين خَلّصْناهم من أيِّ شائبةٍ مِن شَرٍّ ومِن فِعْله لَمَّاَ تَمَسَّكُوا وعملوا بأخلاق إسلامهم فأَعَنّاهم علي التمسّك والعمل بها كلها والاستمرار عليها.. إنه من عبادنا الذين أَخْلَصْناهم لطاعتنا أيْ اسْتَخْلَصْناهم أيْ اخترناهم لها وعَصَمْناهم مِن كل ما يُغْضِبنا وذلك لحُسْن خُلُقِهم بسبب تمسّكهم وعملهم بإسلامهم وهم الذين من أخلاقهم الحَسَنَة أنهم مُخْلِصِين حتماً فلا يقولون قولا ولا يعملون عملا إلا لله لا لغيره (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء).. إنَّ ذلك قطعاً سيكون حال كل مَن يَفعل مِثْله من المسلمين حيث سيكون من الذين يُصْرَف عنهم السوء والفحشاء ويكون من المُخْلَصِين.. إنَّ يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوّتنا ورسالتنا.. إنَّ مَن أخْلَصه الله لنفسه من المسلمين فاختاره فهو حتماً مُخْلِصٌ له في عبادته، ومن أخلص فلم يشرك بالله شيئاً فهو بالقطع مِمَّن أَخْلَصه الله.. إنَّ كل مَن كان مُخْلِصَاً صارَ بفضل الله وكرمه مُخْلَصَاً.. إنَّ هذا التوفيق للإخلاص من هؤلاء المُخْلَصِين جاء بعد اختيارهم هم أولا لاتّباع ربهم وإسلامهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيَسَّرَ لهم سبحانه بعد ذلك كلّ هذا الخير ووفّقهم له (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)" أيْ وتَسَابَقَ كلٌّ منهما مُسْرِعَاً إلي الباب، يوسف (ص) يريد الابتعاد عنها والخروج، وهي تريد أن تسبقه لمَنْعه من ذلك، وقَطَعَت قميصه من خَلْفٍ أثناء جَذْبه حتي لا يَخرج، ووَجَدَا زوجها عند الباب، فقالت حينها عندما فوجِئَت به بكل مَكْرٍ وجُرْأَةٍ علي الافتراء والكذب والظلم لتُغْضِبه علي يوسف ليُعاقبه لتَنْتَقِمَ منه ولتُبَرِّيء نفسها: لا جزاء لمَن أراد بزوجتك سوءاً أيْ زِنَاً إلا أنْ يُسْجَنَ بالسجن أو عذاب مؤلم يُعَذّب به كضربٍ وغيره بسبب جريمته
ومعني "قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)"، "وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)" أيْ قال يوسف (ص) مُبَرِّئاً نفسه إنى ما أردتُ أبداً بها سوءاً كما تَدَّعِي كذباً وزُورَاً وإنما هي التي أرادَت وطَلَبت مِنّي بصورةٍ فيها تِكْرار وذِهَاب وعَوْدَة وخِداع ومُرَاوَغَة ورِفْق ولِين، أرادت بصورةِ طلبها وهيئتها أن تُحَوِّلني عن نفسي وإرادتي الطاهرة إلى إرادتها هي الفاسدة فأَرْتَكِب فاحشة الزنا معها، فرَفَضْتُ وامْتَنَعْتُ وخَرَجْت.. ".. وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)" أيْ وحَكَمَ حَكَمٌ من أهلها بينهما يَسَّرَه الله تعالي لتَبْرِئة رسوله الكريم يوسف (ص)، وكان عاقلاً حكيماً خبيراً عادلاً فقال مساعداً للعزيز علي معرفة الحقّ والوصول إليه: إنْ كان قميصه قَدْ قُطِعَ من أمامٍ فقد صَدَقَت فى أنه أراد بها سوءاً لأنَّ ذلك يدلّ على أنها حاولت دَفْعه من الأمام أثناء اعتدائه عليها وهو يكون من الكاذبين فيما يقوله.. هذا، وقد جَعَلَ الله تعالي هذه الشهادة مِمَّن هو مِن أهلها لتكون أشدّ دليلا عليها وأقوي نَفْيَاً للتهمة عنه.. "وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)" أيْ وإذا كان قميصه قَدْ قُطِعَ مِن خَلْفٍ فهي قد كذبت في اتّهامها له وهو من الصادقين في قوله أنها هي راودته عن نفسه فجذبته من الخَلْف عند امتناعه وخروجه
ومعني "فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)" أيْ فلما رأى زوجها، العزيز، قميص يوسف قَدْ قُطِعَ من خلفٍ تأكَّدَ تماماً بلا أيِّ شكّ من براءته وصِدْقه (ص) وقال لزوجته إنَّ هذا الكذب الذي اتَّهَمْتِ به يوسف هو نوع مِن مَكْرِكنّ أيتها النساء اللاتي هُنَّ مِثْلك، إنَّ مَكْرَكنّ عظيم قويّ شديد، والمقصود أنَّ هذا الكَيْد، أيْ التدبير الخَفِيّ للشرّ، هو ليس بمُسْتَغْرَبٍ عند بعض النساء لغَلَبَة العاطفة عندهنّ وأحيانا للفراغ الكثير، إضافة لعظيم فِتْنَتهنّ وتَأثيرهنّ علي الرجال بلُطْفِ ولِينِ الكلمات والنظرات ونحوها، وعموماً فبعض النساء لهنّ في هذا المجال من المَكْر والحِيَل ما لا يكون للرجال وكَيْدهنّ حينها يُوَرِّث من العار ما لا يُوَرِّثه كَيْد الرجال
ومعني "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)" أيْ قال العزيز – أو الشاهد – تَطْييبَاً لنَفْس يوسف وتكريماً له بعد ثُبُوت براءته يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، بمعني لا تَهْتَمّ به ولا تَحزن له فقد ثَبَتَت براءَتُك المُؤكّدة، وبمعني اسْتُرْه بحُسْن خُلُقِك واكْتُمْه واتْرُكْ ذِكْره لأيِّ أحدٍ حتي لا يَنْتَشِر فنَفْتَضِح ونُضَرّ وتُهان كرامتنا وتَتأثّر مَكَانتنا، واستغفري أنت لذنبك أيْ تُوبِي لله تعالي لسبب خَطَئك الذي ثَبت وتَأكّد، بالاستغفار وبالندم بالعقل وبالعزم علي عدم العودة، وبطَلَب عَفْو زوجك حتي يُسامِحك ولا يُعاقبك، لأنكِ كنتِ من الخاطئين أيْ من الناس المُذْنِبين أيْ الذين يرتكبون الذنوب أي الشرور والمَفاسد والأضرار.. هذا، ورَدّ الفِعْل الفاتِر الغير المُتَوَقّع من العزيز مع ذلك الحَدَث الشديد وتمريره بلا عقابٍ مُناسِبٍ لعلّه يكون لحِكْمته أو لبُرُودِه أو لقوة تأثيرها عليه أو لأنه مِمَّا هو يَحَدُث كثيراً بين طَبَقَة المُتْرَفِين وكأنه أمرٌ طبيعيٌّ أو ما شابه ذلك
ومعني "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)" أيْ وقال مجموعة من النساء في المدينة التي حَدَثَ فيها الحَدَث وهي في مصر حيث يُوجَد العزيز الذي اشتري يوسف، وقد انتشر الخبر إذ هذا يَحدث كثيراً بين مشاهير النساء واللاتي يَتَتَبّع أخبارهن الكثير وتُنْقَل غالباً عَمَّن يُحيطون بهنّ، قُلْنَ علي سبيل التعجّب والاستغراب والذمّ واللّوْم والرفض والنقد والتشهير، امرأة العزيز صاحبة المَكانة العالية وَصَلَ بها الحال فى خروجها عن العِفّة أنها تُراوِد فتاها أيْ خادمها وعَبْدها عن نفسه أىْ تريد وتطلب منه بصورةٍ فيها تِكْرار وذِهَاب وعَوْدَة وخِداع ومُرَاوَغَة ورِفْق ولِين، تريد بصورةِ طلبها وهيئتها أن تُحَوِّله عن نفسه وإرادته الطاهرة إلى إرادتها هي الفاسدة فيرتكب فاحشة الزنا معها، وقد شَغَفها حُبّها إيّاه أيْ وصل إلي شِغاف قلبها أيْ غشائه أيْ تحبه حبّاً شديداً يملأ كل مشاعرها، والمقصود تكرير لَوْمها وذَمِّها وتأكيد انقيادها لشهواتها.. ".. إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ نحن بالتأكيد بهذا نظنّها ونعلمها في ضياعٍ وخطأٍ وبُعْدٍ عن الحقّ واضحٍ حيث تَفعل ذلك
ومعني "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)" أيْ فعندما سمعت امرأة العزيز بسُوءِ كلامِهِنّ عنها ووَصَلها وعلمت به، بَعَثَتْ إليهنّ تدعوهنّ لزيارتها ببيتها، وأَعَدَّتْ وجَهَّزَت لهنّ ما يَتّكِئْنَ أيْ يَسْتَنِدْنَ عليه من وَسَائِد أيْ مِخَدَّات وغيرها من المَفَارِش الفَخْمَة المُرِيحَة، وأعطتْ كل واحدةٍ منهنّ سكيناً لتقطيع الطعام المُقَدِّم لهنَّ من لحومٍ وفواكه وغيرها، وقالت ليوسف اخرج عليهنّ، لخِدْمَتهنّ أو للمرور والسلام عليهنّ أو لنحو هذا مِمَّا يُحَقّق أنْ يَرَيْنَه، فحينما شاهَدْنَه أكْبَرْنَه أيْ جَعَلْنَه في مَوْضِع الإكْبار أيْ التعظيم والتكريم والتشريف أيْ أعْظَمْنَه وأجْلَلْنَ شأنه وقَدْره في نفوسهنّ أيْ شَعُرْنَ بعظمته وهَيْبَته ومَكَانته بسبب ما أضْفَيَ وأنْعَمَ عليه الله تعالي من جمال الخُلُق والخِلْقَة، وقَطّعْنَ أيديهنَّ أيْ جَرَحْنَها بالسكاكين وهُنَّ يُقَطّعْنَ الطعام دون أن يَشْعُرْنَ مِن شِدَّة انْبهارهِنّ ودَهْشَتِهِنَّ وذُهُولِهِنَّ وانشغالهنَّ به، وقُلْنَ مُنْدَهِشَات مُتَعَجِّبات حاشَاَ لله أيْ نُحاشِيه أيْ نُبْعِده ونُنَزّهه عن كلّ نَقْصٍ، تَنْزِيهَاً له سبحانه وتَعَجُّبَاً من حُسْن وبديع خَلْقِه المُبْهِر المُعْجِز، وما هذا الذى نراه أمامنا بَشَرَاً ككُلِّ البَشَر لأنَّ البَشَر لا يمكن أن يكونوا علي مِثْل هذا الحُسْن والجمال الشديد وإنما هو مَلَك كريم من الملائكة الكرام علي الله تعالي تَمَثّل فى هذه الصورة البديعة التى تُبْهِر العقول
ومعني "قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)" أيْ قالت امرأة العزيز وهي مُصِرَّة علي سُوئها بلا أيِّ خَجَلٍ أو ستْرٍ بل بما يُفيد أنها مُحِقّة مَعْذُورَة فيما فَعَلَت وستَفعل! فذلك الشاب الذي أَبْهَرَكُنَّ حُسْنه فقُلْتُنَّ ليس ببَشَرٍ بل هو مَلَك كريم وأَذْهَلكُنَّ عن أنفسكنّ حتى قطعتنّ أيديكنّ من شدّة انشغالكنّ بجماله هو الذي قُمْتُنَّ بلَوْمِي وذَمِّي في شأنه وفي حبّه قبل رؤيته ولو كُنْتُنَّ قُمْتُنَّ برؤيته قبل لَوْمي لكنتنّ قمتنّ بعُذْري!.. ".. وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ.." أيْ ثم أعْلَنَتْ واعترَفَتْ أمامهنّ ببَقِيَّة سِرِّها لَمَّا رأت منهنّ عُذْرَاً لها بأنها هي التي حاولت إغراءه ولكنه لم يستجب رافضاً رفضاً قاطعاً قائلة لهم ولقد أَرَدْتُ وطَلَبْتُ منه بصورةٍ فيها تِكْرار وذِهَاب وعَوْدَة وخِداع ومُرَاوَغَة ورِفْق ولِين أنْ أُحَوِّله عن نفسه وإرادته الطاهرة إلى إرادتي فيَزْنِي بي، لعلها بهذا الإعلان وبعد أنْ عَذَرْنَها يَقُمْنَ بمعاونتها علي إقناعه لكي يَلِين!.. ".. فَاسْتَعْصَمَ.." أيْ فامتنعَ واسْتَعْصَيَ امتناعاً وعِصياناً شديداً أكيداً مُعْتَصِمَاً أيْ مُتَمسّكَاً مُتَحَصِّنَاً بالله تعالي ثم بعِفّته وطهارته، وحرفا السين والتاء يُفيدان المُبالَغَة في الامتناع والعِصيان والتّحَصُّن.. ".. وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)" أيْ هذا بيانٌ لبَدْء استخدام الترهيب بعد فشل الترغيب من خلال استغلال مَكَانَة ونُفُوذ زوجها ونفوذها لعله بذلك يخاف ويتراجَع ويستجيب.. أيْ قالت بكل تَبَجُّحٍ وإصرارٍ علي سُوئها: وإذا لم يفعل ما آمره به من الزنا بي مستقبلا وأنا سيدته الآمِرَة الناهِيَة له لا غيري وعَصاني فسيُعاقَب بالتأكيد بأنْ يُسْجَن – واللام والنون للتأكيد – وسيكون من الذليلين المُهانين
ومعني "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)" أيْ حينها قال يوسف (ص) مُتَحَصِّنَاً بالله تعالي مُتوكّلاً عليه تمام التوكّل سائلاً إيّاه الاستمرار علي ثباته الذي هو فيه يا رب إذا كان لابُدّ من أحدِ الأمرين إمّا السجن وإمّا الزنا فإنَّ السجن الذى هَدَّدَتْنى به تلك المرأة ومَن معها علي ما فيه مِن شدّة، والتي ستكون حتماً في سبيلك وستُهَوِّنها عليَّ وسأكون أثناءها في قُرْبٍ منك واختلاءٍ معك ورضاً بأجرك العظيم في دنياي وأخراي، أفضل عندي وأسهل عليّ وأحب إلىَّ قطعاً مِمَّا يدعوننى إليه من ارتكاب الفواحش التي ستُؤَدِّي لغضبك عليَّ ولعقابي منك في الداريْن.. هذا، وقد قال أحبّ إلىَّ مِمَّا يدعوننى إليه ولم يقل مما تدعونى إليه امرأة العزيز وحدها لأنهنّ جميعا كُنّ مشتركاتٍ فى دعوته إلى فاحشة الزنا حيث قُمْنَ بتخويفه من عقابها وبنصحه بطاعتها والاستجابة لها.. ".. وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)" أيْ وإنْ لم تُبْعِد وتَمْنَع عنّي ياربّ كَيْدَهُنَّ أيْ تَدْبيرهنّ الخَفِيّ للمكائد ضِدّي بما يُوقِعني في الشرِّ والهلاك، أصْبُ أيْ أمِلْ إليهنّ، وأسْتَجِب لهنَّ فيما يُرِدْنَه مِنّي، لأنّي كأيِّ بَشَرٍ ضعيفٌ بدون عَوْنك وتأييدك وحِفْظك قَوِيٌّ به، وأكُنْ حتماً بذلك إنْ فَعَلْتُه من السفهاء الطائشين الذين يرتكبون السيئات والحماقات لأنهم من الجاهلين بنتائج أمور الشرِّ المُتْعِسَة في الداريْن وأمور الخير المُسْعِدَة فيهما حيث العلم النافع والعقل المُنْصِف العادل يدعو بالتأكيد دائماً لفِعْل الخير بسعاداته وتَرْك الشرِّ بتعاساته، وفِعْل العكس يعني بالقطع قِمّة الجهل والسَّفَه!.. والسفهاء جَمْع سَفِيه وهو ضعيف العقل مُعَطّل الذهن سَطْحِيّ الفكر رَدِيء الرأي لا يُحْسِن التَّعَقّل والتّعَمّق والتَّدَبّر والتَّصَرُّف في الأمور.. والجاهلون هم الذين يقولون أو يفعلون ما لا ينبغي قوله أو فعله والعاقل لا يفعل ذلك، ولا يعلمون ولا يدركون ولا يَتَعَقّلون ويَتَعَمَّقون ويَتَدَبَرّون في حقائق الأمور والأحداث وأعماقها وخَلْفِيَّاتها ولا يُحسنون تقديرها ونتائجها، كما يَحدث من الجاهلين غير العالمين بما ينفعهم ويُسعدهم وغيرهم من علم، الذين يَجْهلون ولا يُدْركون ولا يُقَدِّرون رقابة الله تعالي لخَلْقه وهَيْبَته وعقابه وإتعاسه للمُسِيئين في الداريْن وإسعاده للمُحْسِنين فيهما، الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجَهَلَة سواء
ومعني "فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)" أيْ فاستجاب ربه الكريم الرحيم الودود لدعائه، أي مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام، والفاء تُفيد سرعة الاستجابة بلا تأخير، فأَبْعَدَ ومَنَعَ عنه كَيْدَهُنَّ بقدرته وفضله ورحمته وعوْنه وتيسيره وتوفيقه بأنْ أدْخَلَ اليأس فى نفوسهنّ من الطمع فى استجابته لهنّ وبأنْ زاده ثباتاً وقوّة علي ثباته وقوّته.. وهو سبحانه يَستجيب حتماً لكل مَن يَدعوه ويَرجوه مُحْسِنَاً مع دعائه اتّخاذ الأسباب لِمَا يريده قَدْر استطاعته، لأنه هو السميع العليم أيْ السميع الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهو السميع لِمَا يَقُلْنَه من سوءٍ العليم بما يُدَبِّرْنَه من مَكائد، والسميع لأقوالكم ودعائكم يا مسلمين العليم بأحوالكم واحتياجاتكم (برجاء أيضا مراجعة الآية (36) من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)" أيْ ثم ظَهَرَ لهم رأيٌ، للعزيز ومُسْتَشاريه حوله، من بعد ما شاهَدوا وعايَنوا الدلالات الواضِحات القاطِعات الدامِغات المُتَعَدِّدات التي تُثبت صِدْق وطهارة وعِفّة يوسف (ص)، كانشقاق قميصه من دُبُرٍ وقول امرأة العزيز نفسها ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وشهادة الشاهِد بأنها هو الصادق وهى الكاذبة، بَدَاَ لهم بعد كل ذلك أن يُغَيِّروا رأيهم فى شأنه من كتمان الأمر إلي تأكيد أن يَسجنوه بالسجن حتي حين أيْ إلى زمنٍ غير محددٍ بمُدَّةٍ مُعَيَّنَة، أيْ إلي أنْ تُنْسَيَ الحادِثَة تدريجيا بين الناس، ولكى يَدْفع بسجنه قول السوء عن امرأته ويُبْعدها عن الفساد والغِوَايَة، فكان سجنه (ص) ظلما وزُورَاً رغم ثُبوت براءته الأكيدة لمُجَرَّد الاستجابة لانتقام امرأة العزيز مُدَّعِيَة الجريمة ولاحتواء الموقف ولتحجيم الأمور فلا تزيد الفضيحة عن ذلك حيث بدأ الحديث يَنتشر أكثر فأكثر والفضيحة تَزداد إعلاناً، فبسجنه يُنْسَيَ الأمر
ومعني "وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)" أيْ فنَفّذوا ما بَدَا لهم فسَجَنُوه ودخل السجن مع يوسف شابّان قال له أحدهما إني رأيت نفسي في مَنامِى أنى أعصر عنباً ليكون خمراً وقال له الآخر إني أري نفسي أحمل فوق رأسى خبزاً تأكل منه الطير، خَبِّرنا يا يوسف بتفسير ما رأيناه وما سيَؤُول وسيَنْتَهي إليه – حيث كان تأويل وتفسير الرؤَيَ مُنْتَشِر في زمنهم فكان من مُعْجِزات يوسف (ص) حُسْن وصِحَّة تفسيرها وكيفية حُدُوثها واقعياً كنوعٍ من الغيب الذي يُوحِيه ويُعَلّمه سبحانه له كدليلٍ علي صِدْقِ أنه رسولٌ من عنده تعالي – لأننا نراك من المُحسنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. كذلك من المعاني إنّا نُشاهِدك ونَعْلَمك من الذين يُحْسِنون تأويل الرؤَيَ كما كان منك سابقا مع بعض المَسجونين
ومعني "قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ يوسف (ص) رسول الله تعالي للناس الداعي إليه وللإسلام ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن لم يَنْسَ أبداً دعوته حتي في أصعب الظروف، في السجن، فأحسن استغلال هذه الفُرْصَة، إذ هم في حاجة لعَوْنه ولعِلْمه وهم بالفِعْل قد وَثَقوا فيه وفي حُسْن خُلُقه وتوجيهاته ونصائحه، فالأحوال مُهَيَّأة إذَن لعَرْض دعوة الإسلام عليهما لعلهما يُسْلِمان فيسعدان، فقال لهما لتَشْويقهما ولتأكيد صِدْقه فيما يقول وفيما عَلِمَاهُ عنه: لا يَصِلكما طعام تُرْزَقانه أيْ تُطْعَمَانه وتُعْطَيَانه في أيِّ حالٍ من الأحوال إلا أخبرتكما مستقبلاً بما هو وكَيْفِيَّته وصَنْعته وتوقيته وكل أحواله قبل أن يَصِل إليكما.. ".. ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.." أيْ ذلك العلم الذي أقوله لكما، أيْ ذلك التفسير الصحيح للرؤَيَ والإخبار عَمَّا هو غَيْب مستقبليّ ككيفية حُدُوث هذه الرؤيَ واقِعِيَّاً قبل حُدُوثها وكإخباركما عن أحوال طعامكما قبل أن يَصِلَ إليكما هو بعض مِمَّا عَلّمني ربي وأوْحَيَ به إليَّ من العلم الكثير الذي عَلّمني إيّاه بفضله وكرمه – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – وهو ليس عن طريق الكهانة أيْ الادِّعاء كذباً معرفة المستقبل أو الشَّعْوَذَة أيْ الاحتيال والخِداع والإيهام بغير الحقيقة أو ما شابه ذلك كما يَفعل غيري.. إنه (ص) بذلك يَلْفِت نظرهما ويقوم بتَجْهِيزهما لدعوتهما لعبادة الله تعالي وحده حيث وقتها كان البعض من قومهما مؤمناً والكثيرون يعبدون آلهة غيره سبحانه كأصنامٍ ونجومٍ وغيرها.. ".. إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.." أيْ هذا مزيدٌ من لَفْت الأنظار للإيمان وتَرْك الكفر.. أيْ إني لم آخُذ ولم أتّبِع وتَجَنَّبْتُ ورَفَضْتُ دين قومٍ لا يُصَدِّقون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِدون ويَستكبرون ويَستهزؤن ويفعَلون كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ.. وفي هذا مزيدٌ من حُسْن دعوتهما لله وللإسلام واسْتِمَالَتهما إليهما حيث يُذَكّرهم بالإيمان دون رَمْيِهما هما مباشرة بالكفر.. وهكذا يجب علي كل مسلمٍ أن يكون مُتَشَبِّهَاً بالرسل الكرام في دعوتهم بالقُدْوَة والحكمة والموعظة الحسنة.. ".. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)" أيْ وهم أيضا في دنياهم لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة وبلقاء الله فيها وبالبعث بعد الموت بالأجساد والأرواح وبحسابه سبحانه وثوابه وعقابه وجنته وناره بل وبعضهم يُكَذّب بوجوده هو ذاته!! تعالَيَ عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا، والذي لا يؤمن بها يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي الشرّ وفِعْله.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وتكرير لفظ "هُم" هو لتأكيد كفرهم.. بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه
ومعني "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)" أيْ هذا مزيدٌ من التمهيد لدعوتهم لله وللإسلام من خلال إظهار أنه من سُلالَةِ أنبياء لتَقْوَىَ رغبتهما في الاستماع إليه ولتَزداد ثقتهما فيه.. إنه لم يترك فقط مِلّة الذين لا يؤمنون بالله لشَرِّها وضلالها بل كان إيجابياً واتّبع الخير والرُّشْد والصواب.. أيْ إني تَرَكْتُ مِلّة هؤلاء الكافرين واتَّبَعْتُ أيْ سِرْتُ خَلْفَ ونَفّذْتُ وعملتُ بكل أخلاق دين آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والذي هو دين الإسلام، فعَبَدْتُ أيْ أَطَعْتُ الله تعالي وحده وعملتُ بأخلاق دينه.. ".. مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لنا نحن الأنبياء الذين أرسلهم الله للناس بالإسلام لإسعادهم به في الداريْن أن نشرك بالله في العبادة غيره تعالي مِن أيِّ شيءٍ كان كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها لن تَضرّ ولن تَنفع أيّ أحدٍ بأيِّ شيءٍ حيث هي كما يري الجميع واقِعَاً لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟!.. ".. ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من الترغيب في الإيمان واتّباع الإسلام ببيان أنه أفضل النِّعَم.. أيْ ذلك الإيمان بالله تعالي وذلك التوحيد بعبادته وحده بلا أيِّ شريكٍ وذلك الدين دين الإسلام هو من فضل الله أيْ عطائه وإحسانه وكرمه وإشفاقه وإسعاده الزائد علينا نحن الأنبياء وعلي الناس جميعا حيث يُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)" أيْ ولكنَّ كثيراً من بني آدم لا يشكرونه على نِعَمِه التي لا يُمكن حصرها ولا يُنكرها إلا كل كاذِب ناكِر، وهؤلاء الذين لا يشكرون هم المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن سواء أكانوا كافرين يُكذّبون وجود الله أصلا، أم مُشركين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه، أم مَن شابههم.. إنّ سبب عدم شكرهم هو تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ القليل من الناس هم الذين يَشكرون الله تعالي حقّ الشكر العمليّ المطلوب، بعقولهم باستشعار قيمة نِعَمه عليهم وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، ولو فعلوا ذلك لوجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. والقليل كذلك هم الذين يشكرونه كثيرا طوال الوقت وعلي كلّ حال.. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الشاكرين لله تعالي كثيرا ودائما وبما يستحِقّه، بما استطاعوا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيرا فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه
ومعني "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)" أيْ هذا تحريكٌ لعَقْلِيْهما ولفِطْرتَيْهما بداخلهما والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ يا رَفِيقيّ في السجن المُصاحِبَيْن لي فيه، وفي هذا النداء الطيِّب اللّيِّن مزيدٌ من التّوَدُّد والتّقَرُّب إليهما ليَقبلوا دعوته حيث الصاحب الصادق يحب الخير والسعادة لصاحبه كما يحبّها لنفسه، هل أرباب – جمع ربّ – أيْ آلهة مُتَفَرِّقون أيْ مُتَعِدُّدون بما يعني ضِمْنَاً أنهم ضعافٌ لا يَنفعون ولا يَضُرّون ولا يَملكون شيئاً، كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه أو كبَشَرٍ ضعيفٍ مثلهم أو أضعف يُصيبه ما يُصيبهم من فقرٍ ومرضٍ وضعفٍ وموتٍ وغيره، خيرٌ أيْ نَفْعٌ وحُسْنٌ وصلاحٌ وسعادةٌ في الداريْن، أم عبادة الله تعالي الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ المُسْتَحِقّ وحده للعبادة الإله المَعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، القَهَّار أي الكثير القَهْر أي الغَلَبَة لكلّ شيء، أي الغالِب لكل شيء، فجميع الخَلْق تحت سلطانه لأنه خالقهم، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره أو يحتاج لاتّخاذ ولدٍ أو زوجة أو شريك يكون له مُعينا أو وزيرا أو مستشارا؟! إنَّ الإجابة المَنْطِقِيَّة المُتَوَقّعَة مِن أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ليست إلا إجابة واحدة مَعْلُومَة مُؤَكَّدَة هي أنَّ الله الخالق الكريم القادر علي كلّ شيءٍ حتماً خير!! إذ هل يكون العابَد وهو الإنسان أقوي من المَعْبُود والذي هو آلهتهم المَخْلُوقُة أصلا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!! ولكنه العِناد والتكذيب والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الأمر واضحٌ وضوح الشمس لكل صاحبِ عقلٍ سليمٍ أنَّ عبادة الله الواحد القهَّار الذي لا يجعل الإنسان يَتَشَتَّت ويَتَخَبَّط في حياته بين أنظمةٍ مُتْعِسَةٍ مُضِرَّةٍ له تُخَالِف وصاياه وتشريعاته في الإسلام والذي يُدَبِّر حياته علي أكمل وأسعد وَجْهٍ لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، هي خيرٌ وأسعد حتماً في الداريْن من عبادة أيِّ شيءٍ غيره.. إنَّ مَن يُشْرِك بالله لاشكّ هو في تمام التعاسة في دنياه وأخراه، لأنه لا تُوجَد مُقارَنَة قطعاً بين عبادة الخالق وعبادة المَخْلُوق، بين الكمال والنقصان، بين الخير والشرّ، بين الأمن والخوف، بين السعادة والتعاسة! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (29) من سورة الزمر "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)" أيْ هذا خطابٌ لهما ولجميع مَن معه في السجن ومَن يَتَشَبَّه بهم خارجه.. أيْ ما تعبدون غير الله من أصنامٍ وغيرها من الآلهة التي تعبدونها غيره تعالي (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) إلا عِبَارَة عن مجرّد فقط أسماء وليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القدرة والعلم والرزق ونحو ذلك بل هي مَخْلُوقة لا خالِقة مَرْزُوقة لا رازِقة زائلة لا باقية وما كان كذلك لا يَستحقّ ويَستحيل أن يكون إلاهاً، لكنكم أنتم وآباؤكم الذين تَلَقّيتموها عنهم بلا أيِّ تَفَكُّرٍ وتَدَبُّرٍ منكم الذين سمَّيتموها آلهة من عند أنفسكم وقُمْتُم بعبادتها دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمور هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْيٍ مثلاً أو كتابٍ أنزله مع رسله إليكم، ولا توجد عندكم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي يقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه وآخرها القرآن العظيم ومع رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.." أيْ ما الحُكم إلا لله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ أيْ هو الحاكم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقياته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله، ثم الجميع سيُرْجَعُون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادة من إحسان وخير وسعادة ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقاب علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم، لأنه وحده المُسْتَحِقّ لذلك لأنه هو الخالق لكل شيءٍ العالم به وبما يُصْلِحه ويُكْمِله ويُسْعِده القادر عليه سبحانه، فلا حُكْم إذَن أبداً لآلهتكم المَزْعُومَة في أيِّ شيءٍ بالكَوْن إذ هو ملكه وحده.. ".. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.." أيْ لذلك قد أمَرَكم – وجميع خَلْقه – في الإسلام الذي أرسله إليكم من خلال رسله الكرام ألاّ تُطيعوا إلا إيّاه وحده لا غيره، وذلك لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسْعَدوا تمام السعادة في الداريْن وإلاّ لو عَبَدْتُم غيره ستَتْعَسون حتماً فيهما.. ".. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.." أيْ ذلك الدين، ذلك الإسلام، هو النظام المستقيم أي المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، وهو ذو القيمة العالية، وذو القِيَم الأخلاقية السامية، التي تُصْلِح الناس وتُكْمِلهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)" أيْ ولكنّ كثيراً من الناس لا يُدْرِكون هذا الذي سَبَقَ ذِكْره، ولا يَعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلَة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، وذلك لأنّ بعضهم يَكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا، وبعضهم يُشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه، وبعضهم يُنافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ، وبعضهم مسلم لكنه تاركٌ لكثيرٍ من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيرا يَنْسَيَ قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يُدرك ويَتفهَّم ويَعلم ويَستخرج الخير الكثير المَخْفِيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم، تعاسة تكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، ما لم يَستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلَّة مِن هؤلاء المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين والفاسدين وأشباههم في كل زمنٍ من الأزْمِنَة يعودون لربهم ولإسلامهم فيعلمون ذلك
ومعني "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)" أيْ يا رَفِيقيّ في السجن المُصاحِبَيْن لي فيه، إليكما تفسيرَ رؤياكما، أمّا أحدكما الذي رَأَىَ نفسَه في مَنامِه يَعْصِر خَمْراً فإنه سيخرج من السجن وسيكون ساقي الخمر للمَلِك، وأمّا الآخر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً فإنه سيُقتل وسيُصْلَب ولا يُوضَع في قَبْرٍ بل سيُتْرَك فتأكل الطير من رأسه، فعَبَّرَ عن الخبز الذي تأكله الطير بلحم رأسه.. ".. قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)" أيْ تَمَّ وانتهيَ ونَفَذَ الأمر الذي تَطْلبان الفتوَيَ والعلم والحُكْم فيه، أيْ قد تَمَّ التفسير الصادق الصحيح لرؤيا كلٍّ منكما اللتيْن سألتمانى عن تأويلهما، ووَجَبَ وثَبَتَ حُكْم الله عليكما الذي أخبرتكما به والذي سيَقع بكلِّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ ولا مجال للرجوع عن حُدُوثه لأنه تعالي عالِم الغَيْب وحده هو الذي علّمني إيّاه وأوْحاه إليّ
ومعني "وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)" أيْ وقال يوسف (ص) للفتَىَ الذي تَوَقّع أنه سيَنْجُو منهما وهو ساقِى المَلِك: بعد خروجك من سجنك وعودتك لعملك اذكرني عند مُرَبِّيك وسيِّدك المَلِك بأن تُخْبِره أني مظلومٌ مَحْبُوسٌ بلا ذنبٍ ظلماً وزُورَاً.. وذلك من باب اتّخاذه أسباب الخروج من السجن لعله يُعاد التّحَقّق والحُكْم في الأمر ويَعودون للحقّ ويُثْبِتون براءته ويُعطونه حقّه ويُعَوِّضونه، وهو (ص) يعلم قطعاً أنَّ أمر خروجه سيكون فقط بفضل الله ورحمته وقُدْرَته وما يُيَسِّره من أسبابٍ وجنودٍ لإخراجه لا يعلمها إلا هو سبحانه.. هذا، ولفظ الظنّ يُطْلَقُ علي ما لم يَحْدُث واقِعِيَّاً بَعْد، رغم أنه مُتَيَقّنٌ من حُدُوثِه لأنه مِمَّا عَلّمه الله تعالي إيّاه وأوْحاه إليه.. ".. فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)" أيْ فأنْسَىَ الشيطان ذلك الشابّ ذِكْر حال يوسف عند ربه أيْ مُرَبِّيه وسَيِّده المَلِك فكانت النتيجة أن مَكَثَ في السجن بِضْع سنين، والبِضْع هو من ثلاث سنوات حتي تِسْع، فانشغل بانشغالاته لتَتَحَقّق الفترة التي يريدها الله تعالي لبقاء يوسف في السجن ليَتَرَبَّيَ فيه الصبر والصمود والتوكّل علي الله ليتأهَّل للمهمّة الكبري، مهمّة إدارة المُلْك، وحين يَرَيَ سبحانه أنه قد أتَمَّ فترة التأهيل والتدريب سيُخْرجه وقتها بأَهْون الأسباب لمهمته، فهو تعالي لا يحتاج لأسبابٍ كثيرةٍ كالبَشَر بل لا يحتاج لأسبابٍ أصلا ولكن يقول للشيء كن فيكون!! إضافة إلي أنَّ وجوده بين المَسْجُونين لهذه المُدّة من السنوات كان مَصْدَر خيرٍ للكثير منهم حيث أسلم الكثيرون بحُسْن دعوته لهم وبخروجهم نَشَرُوا إسلامهم بين أقوامهم
ومعني "وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)" أيْ هذا بيانٌ لمَجِيء فَرَج الله تعالي ليوسف (ص) بخروجه من سجنه مُعَزَّزَاً مُكَرَّمَاً وكيفية حُدُوث ذلك – وهكذا حينما يريد سبحانه رَفْع اختباره عن أحدٍ حيث قد حَقّقَ هدفه يُيَسِّر له أسباب ذلك – والذي كان سَبَبَاً هَيِّنَاً إذ هو مُجَرَّد رؤيا للمَلِك، لكنها رؤيا هامة حيث تتناول المجتمع كله، ويفشل أهل الخبرة حوله في تأويلها، ليكون الذي ينجح في ذلك يوسف (ص)، بترتيبٍ وتيسيرٍ وفضلٍ ورحمةٍ ونصرٍ من الله تعالي، لتَظهر مَكَانته وحِكْمته وأهْلِيَّته لإدارة شئون البلاد.. أيْ وقال ملك مصر فى ذلك الوقت لكبار رجال ممكلته إنى رأيت فيما يرى النائم سبع بقرات قد امتلأن شَحْمَاً ولَحْمَاً ويأكل هذه البقرات السَّبْع السِّمَان سَبْع بقراتٍ أخرى عِجَاف أىْ نِحَاف ضِعاف غير سِمان ورأيت أيضا سبع سنبلات خضر قد امتلأت حَبَّاً – جمع سُنْبُلَة وهي الجزء الأعلي من النبات الذي يتكوّن فيه الحَبّ – يأكلهنّ سبع سنبلات أخري بجانبها يابسات أيْ جافّات قد ذهبت نضارتها وخُضْرتها.. يا أيها الملأ أي الزعماء والحُكَماء والعلماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – أجِيبُوني في رؤياي هذه وأعْلِمُوني وأخْبِرُوني بتفسيرها وبَيِّنُوا لى ما بها وما تَدُلّ عليه، إنْ كنتم تَعرفون وتَعلمون تفسير الرؤىَ وتُفتون فيها وتُفَسِّرون إيّاها تفسيراً سليماً
ومعني "قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)" أيْ قال الملأ للمَلِك رؤياك هذه ما هي إلا أخلاط أحلامٍ وهَوَاجِس وتَخَيُّلاتٍ تَدور بالعقل أثناء النوم ونحن لا نعلم تأويل أيْ تفسير وما ستَؤول وستَنتهي إليه مثل هذه الأحلام المُخْتَلطة من هنا وهناك وإنما نعلم تأويل الرؤيَ أيْ المَنامات المُكْتَمِلَة الصحيحة المَفْهُومَة التي لها دلالات.. وهذا من فضل الله تعالي علي يوسف (ص) وتيسيره لأسباب خروجه أن يَعْرِض رؤياه عليهم فيَفشلوا في تفسيرها فيَستشعروا بالتالي قيمة عِلْم يوسف حينما ينجح إذ لو لم يعرضها عليهم لَمَا كانت هناك مُقَارَنَة ولَمَا شعروا بعلمه والذي هو من ربه فيؤدِّي ذلك إلي إنصافه وتكريمه ولعلهم يعودون لربهم ويؤمنون به ويتّبعون دينه الإسلام
ومعني "وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)" أيْ وقال حينها الذي نجا من القتل وخرج من السجن من صاحبي يوسف – وهو ساقي المَلِك الذي رأيَ أنه يَعْصِر خَمْرَاً – وتَذَكَّر بعد مُدَّةٍ ما نَسِيَ من أمره ووَصِيَّته له أن اذكرني عند ربك بعَرْض مَظْلَمَتِي وتَذَكَّر كيف كان إحسانه وخُلُقه وصِدْقه وعِلْمه وحُسْن تأويله للرؤيَ، قال بكل ثِقَةٍ فيه أنا أخبركم بتفسير منام الملك فابعثونى إلى مَن عنده العلم الصحيح الصادق لآتيكم بتفسيره، يَقْصِد بالقطع يوسف، ولعله لم يذكر اسمه لكي يتفاجأوا بإمكاناته فيُبْهِرهم فيُنْصِفوه ويُكْرموه ويَرْفعوا مكانته، وكل ذلك من ترتيب وتيسير الله تعالي وفضله وكرمه ونصره له
ومعني "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)" أيْ فأَرْسَلُوه فلَمَّا وَصَلَ إليه في سجنه قال له يا يوسف يا أيها الصِّدِّيق أيْ الصادق دائماً في كل أقواله وأفعاله، بناءً علي ما رآه منه أثناء مُعايشته له بالسجن أيام كان مَسْجُوناً معه، أَجِبْنَا في هذه الرؤيا، وذَكَرَها له، لكي أرجع إلي المَلِك ووزرائه ومُستشاريه وأهل مصر فأخبرهم بفَتْواك فيها وتفسيرك لها لكي يعلموا معناها وما ستَؤول وستَنْتهي إليه فيَنتفعوا بها فإنهم مُهْتَمُّون مُنْشَغِلُون بتأويلها، ويعلموا كذلك علمك وفضلك ومكانتك فيُنْصِفوك ويُخْرِجُوك ويُكْرِمُوك
ومعني "قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)"، "ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)"، "ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية تفسير يوسف (ص) للرؤيا بما أوحاه الله تعالي له وعَلّمه إيّاه وكيفية وَضْع الخطط وإدارة الأمور علي أكمل وَجْهٍ مُمْكِنٍ لحَلّ الأزمات.. وفي هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ أن يكون دائما من الذين يُحسنون التخطيط لِغَدِهم ومستقبلهم، الدنيويّ وحتما الأخرويّ، حيث التخطيط مُسْعِد بينما العشوائية مُتْعِسَة، فهو جزء أساسي من الإسلام وأحد أهم أخلاقه إذ يوفر الأوقات وينظم الجهود ويستخرج الطاقات ويحدد الأهداف البعيدة المدي والقريبة ومراحل وتوقيتات تحقيقها ونحو ذلك مِمَّا يحقق سعادة الناس في دنياهم وأخراهم، أمّا العشوائية فهي علي العكس تماما حيث تضيع الأوقات وتُشَتّت المجهودات وتَكْبِت المهارات ولا تُحَقّق إلا القليل الضعيف من النتائج والطموحات.. لقد فَسَّرَ يوسف (ص) البقرات السَّبْع السِّمَان والسُّنْبلات السبع الخُضْر بسبع سنواتٍ خِصْبَةٍ ذات إنتاجٍ جيدٍ ثم السبع الأخري بالعكس والتي تحتاج إلي حُسْن تدبير.. أيْ قال يوسف لسائله عن رؤيا المَلِك: تفسير هذه الرؤيا أنكم تزرعون الأرض قَمْحَاً وشَعِيراً ونحوهما سبع سنين مُتتابعاتٍ دائِبِين أيْ جادِّين مُسْتَمِرِّين علي ما اعْتَدْتُم عليه بلا تَوَقّفٍ أو مَلَلٍ ليَكْثُر العطاء، فمَا حَصَدْتُم منه في كل مرةٍ فاتركوه في سُنْبله وادَّخِروه ليتمَّ حِفْظه من التَّسَوُّس وليكون أبْقَىَ وأدْوَم، إلا قليلا مِمَّا تأكلونه منه في هذه السنين، وبالجملة احْرِصُوا أن يكون ادِّخاركم أكثر من أكلكم لتنتفعوا به في السَّبْع الشّداد.. "ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)" أيْ ثم سيأتي من بعد ذلك الخِصْب أي النماء، أيْ من بعد ذلك الحال الذي ذُكِر، أيْ من بعد تلك السنين السبع المذكورات التى تزرعونها دَأَبَاً والتي هي خِصْبَة أيْ ذات زرعٍ كثيرٍ وإنتاجٍ وفيرٍ جَيِّدٍ، سبعٌ من السنين صِعَابٌ على الناس لِمَا فيهنَّ من القَحْط أيْ عدم وجود ماءٍ ولا زرع، يَأْكُلْنَ كل ما ادَّخَرْتُم لهنَّ مِن قَبْل، أيْ يأكل أهل تلك السنين الشّدَاد كل ما ادَّخَرُوه فى السنوات السبع المُتَقَدِّمَة من حبوبٍ فى سنابلها، إلا قليلاً مِمَّا تَحْفَظون وتَدَّخرون في الحُصون أيْ الأماكن الحَصِينَة التي يَصعب الوصول إليها والمقصود ما يحفظونه ويدَّخرونه ولا يَأكلونه ويُحافظون عليه تماماً ليكون بُذوراً للزراعة التي سيَزرعونها بعد ذلك مستقبلاً وإلا لو أكلوه كله لَمَا بَقِيَ لهم بذورٌ يَزرعونها فهو يُنَبِّههم لضرورة الاحتفاظ بهذا الجزء لتَسْتَمِرّ زراعتهم.. "ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)" أيْ هذا تبشيرٌ وإسعادٌ لهم بأنَّ الخير سيأتيهم بعد تلك السنوات الشداد فهذه هي سُنَّة الله تعالي أنه يُتْبِع العُسْر باليُسْر لمَن صَبَرَ وتَوَكّلَ عليه واستعان به وأحسن التعامُل مع الأحداث الشديدة بإحسان اتّخاذ ما أمكنه من الأسباب المُناسبة لها.. أيْ ثم يأتي من بعد ذلك الذي ذُكِر، أيْ من بعد ذلك القَحْط، أيْ من بعد تلك السنين السبع الشداد المذكورات، يأتي عام يُغاث فيه الناس بالمطر، ويَعصرون فيه الثمار كالعنب والزيتون وكل ما يُعْصَر، من كثرة الخِصْب، أيْ يُغيثهم الله تعالي من الشدَّة أيْ يُنجيهم ويُنقذهم منها بأنْ يُكْثِر حينها الأمطار ويزيد الحبوب والثمار والزروع والمحصولات والعصائر وكل أنواع الخيرات الوفيرة.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ هذا العام لم يُذْكَر في رؤيا المَلِك ولكنَّ يوسف (ص) قد أضافه في خطة العلاج والإصلاح بتعليم الله ووَحْيه له ليستبشر الناس وينتظروا خير ربهم ولعلهم بذلك يستفيقون ويعودون له ويعملوا بأخلاق دينه الإسلام ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما ببُعْدِهم عنهما
ومعني "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)" أيْ وقال الملك لأعوانه بعد أن سمع مِن ساقِيهِ ما قاله يوسف فى تفسير الرؤيا أحْضِرُوه لى لأراه وأسمع منه وأستفيد بعلمه، حيث تأكّد أنَّ لديه شخصية مُتَمَيِّزَة وعليه أنْ يُحْسِن استغلالها لرفاهية مملكته وتطويرها وعلاج أزماتها ومشكلاتها وبالتالي تَقَدُّمها وسعادتها.. فلمَّا جاء يوسف المَبْعوث من المَلِك ليُخْرِجه، امْتَنَعَ عن الخروج من السجن حتي تَتَبَيَّنَ براءته التامَّة وتُعْلَن علي العموم ويُعادُ الاعتبار له ليكون ذلك تمهيداً لهم ليَقبلوا منه دعوتهم لله وللإسلام، قائلاً له بكل تَمَهُّلٍ وعِزَّةٍ وصبرٍ عن التّلَهُّف للخروج رغم طول مُدَّة سجنه وظُلْمه ارْجِع إلي مُرَبِّيك وسيِّدك أيْ إلي مَلِكك فاطلب منه أن يسأل ما شأن وما قِصَّة النساء اللاتي جَرَحْنَ أيديهنّ لكي يُحَقّق معهنّ لإثبات براءتي أمام الناس، أمّا ربّي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – فإنه حتماً بتَدْبيرهنّ الخَفِيّ للمكائد ضِدّي بما يُوقِعني في الشرِّ والهلاك عليمٌ تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه سواء في سِرِّهنَّ أو علانيتهنَّ لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبهنّ علي ذلك بما يُناسب في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)" أيْ فاستجاب الملك لطلبه فأحضرهن وقال لهن ما كان حالُكُنَّ حين راوَدْتُنَّ يوسف عن نفسه هل وَجَدْتُنَّ منه استجابة لَكُنَّ؟! أي حين أرَدْتنّ وطَلَبتنَّ مِنه بصورةٍ فيها تِكْرار وذِهَاب وعَوْدَة وخِداع ومُرَاوَغَة ورِفْق ولِين، أردتنّ بصورةِ طَلَبِكُنَّ وهَيْئتكُنَّ أن تُحَوِّلْنَه عن نفسه وإرادته الطاهرة إلى إرادَتِكُنّ أنْتُنَّ الفاسدة فيَرْتَكِب فاحشة الزنا معكنّ، هل استجاب لهذه المُرَاوَدَة أم لا؟! قلنَ يُبَرِّئنَهُ تماماً جميعهنّ بقولٍ واحدٍ ولم يستطعنَ أيَّ إنكارٍ لشِدَّة وضوح الحقيقة حاشَا لله أيْ نُحاشِيه أيْ نُبْعِده ونُنَزّهه عن كلّ نَقْصٍ، تَنْزِيهَاً له سبحانه عن أنْ يَعْجَز أن يَخْلق بَشَرَاً عفيفاً مِثْله وتَعَجُّبَاً من قُدْرَته علي ذلك، ما علمنا عليه أيّ سوءٍ أبداً بل كلّ خيرٍ وبُعْدٍ عن كل شرّ.. ".. قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)" أيْ عند ذلك قالت امراة العزيز الآن ظَهَرَ الحقّ وثَبت واستقرّ وانْكَشَف انكشافاً تامَّاً بعد أن كان خافياً، فأنا التي حاولت فِتْنته بإغرائه فامْتَنَع، وإنه لمَن الصادقين في كل ما قاله، فهو بريءٌ تماماً.. وقولها هذا قد يكون لتَحَرُّك الخير فيها أو لأنها خافت أن يشهدنَ عليها فاعْتَرَفت هي أيضا، فلا يعلم ما بداخل العقول إلا خالقها سبحانه.. وهكذا شاء الله تعالى أنْ تثبت براءة يوسف (ص) أمام الجميع بأنْ تَنْطِق بها امرأة العزيز ذاتها مُدَّعِيَة الجريمة ظلماً وزُورَاً ويَنطق بها النسوة اللاتي حاوَلنَ مساعدتها فيها وبما أنّهُنَّ هُنَّ خُصومه وقد اعترف الخصم بأنَّ خصمه هو الذي علي الحقّ فلم يَبْقَ لأيِّ أحدٍ بعد ذلك أيّ حديث
ومعني "ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)" أيْ ذلك القول الذي قُلْتُه في تَبْرئته وتَنْزيهه والاعتراف على نفسي هو لكي يعلم زوجي أني لم أخنه بالكذب عليه، ولم تقع مِنّي الفاحشة، وأنني راوَدْتُه فقط، واعترفتُ بذلك لإظهار براءتي وبراءته، ولكي يعلم يوسف أيضا أني لم أخنه في غيابه بأنْ أذْكره بسوءٍ أو أتمادَيَ في اتّهامه استغلالاً لوجوده بالسجن لا يستطيع الدفاع عن نفسه بل شَهدتُ له بالحقّ وهو غائب.. كذلك من المعاني أنَّ هذا من كلام يوسف (ص) بمعني أنَّ ذلك الذي فَعَلْتُه من رَدِّي رسول المَلِك إليه هو لكي يَحْدُث التحقيق ويَتّضِح للجميع حقيقة براءتي لكي يعلم العزيز أني لم أَخُنْه في زوجته في حال غيابه.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)" أيْ وقلتُ ذلك أولاً وأخيراً لأنَّ الله لا يُنْجِح مَكَائِد الخائنين ولا يُوَفّقهم ولا يُرْشِدهم في خيانتهم ولا ينفذ كَيْدهم وغَدْرهم لمَن حولهم ولا يُسَدِّده بل يَفضحه ويُبْطِله ويُزْهِقه ولو بعد حينٍ من الزمان وكل خائن لا بُدَّ أن تعود خيانته ومَكْره على نفسه مع الوقت ولا بُدَّ أن يَنْكَشِف ويَنْفضح أمره بإذن الله وتدبيره ونَصْره للمظلومين.. والخائنون هم الغادِرون الخَسِيسون الذين يُنْكِرون الحقوق ويُضيعون الأمانات ولا يُحافظون علي العهود والمواثيق ولا يُوفون بها بل يُخْلِفون وعودهم ويَكِيدون المَكَائد ويَرْتَكِبون الجرائم