الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴿82﴾ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿83﴾ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴿84﴾ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴿85﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿86﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُعَمِّمُون، لأنَّ التَّعْمِيم نوعٌ من أنواع الظلم، إذ كيف تُحَمِّل أحداً شيئاً لم يفعله لمجرّد أنَّ غيره الذي فَعَلَه يَنْتَسِب إليه بصورةٍ من الصور كقرابةٍ أو صداقةٍ أو زمالة أو جِيرَةٍ أو تَخَصُّصٍ أو ديانةٍ أو جنسيةٍ أو نحو ذلك؟! إنَّ انتشار المَظَالم بسبب التعميم لا شكّ سيَنْشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع بين الناس فيَتعسون حتما في الداريْن، بينما بالعدل، وبتحديد المسئوليات، وعلاج الأخطاء، يسعدون فيهما
هذا، ومعني "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴿82﴾"، "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿83﴾"، " وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴿84﴾" أيْ بالتأكيد ستَجد وستَلْمس وستَرَي وستَعْلم واقعاً في معاملاتك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أنَّ أكثر الناس كراهية وإرادة للسوء للمؤمنين، اليهود والذين أشركوا مع الله غيره في العبادة كأنْ يعبدوا أيْ يُطيعوا مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو كوكباً أو غيره، ومَن يَتَشَبَّه بهم، لأنَّ أمثال هؤلاء قد أغلقوا وعطّلوا عقولهم تماما عن التفكير في الخير واتّباعه بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فاحذروهم تمام الحَذَر عند تعاملكم معهم.. مع مراعاة أنهم لو استفاقوا وأحسنوا استخدام عقولهم سيَتوبون ويَرْجعون إلي ربهم ويُسْلِمون ويكونون مع المسلمين في كلّ حبٍّ وخيرٍ وسعادةٍ كما يُثبت الواقع ذلك من بعضهم.. وبالتأكيد ستَجد وستَلمس وستَري وستَعلم واقعاً في معاملاتك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في مُقابِل هؤلاء أنَّ أكثر الناس حُبّاً للمؤمنين، الذين قالوا إنّا نصاري أيْ نَصَروا المَسِيح عيسي ابن مريم ﷺ واتّبعوا الإسلام الذي كان في الإنجيل قبل نزول القرآن الكريم، ويُطْلَق عليهم أيضا المَسِيحِيِّين نسبة للمسيح، والسبب في ذلك أنهم لم يُعَطّلوا عقولهم مثل اليهود والذين أشركوا لأنَّ منهم قِسِّيسين أيْ أصحاب علمٍ ورهباناً أيْ مُنْقَطِعين للذكر ولعمل الخير ونحوه، وأنهم لا يَتَعالون علي شرع الله ولا علي خَلْقه، فهم في الغالِب صالحون مُلتَزِمون يقومون بالأخلاق الحَسَنة التي أمرهم بها ربهم في دينهم الأصليّ قبل تحريفه من بعض المُسيئين منهم، ثم هم لم يَصِلْهم بَعْدُ الإسلام أو وَصَلَهم بصورةٍ مُشَوَّهَة مَنْقوصَة، ولو أحسنَ المسلمون عَرْضه عليهم ودعوتهم إليه بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ لأَسْلَمُوا، ومَن لم يُسْلِم منهم بعد ذلك فهو كافر حتما.. والآية الكريمة تُفِيد أنَّ التّواضُع والإقبال على العلم وعمل الخير أمور حَسَنة وإن كانت من كافر وسيَجزيه الله عليها بعدله خيراً بقَدْرها في دنياه فقط إنْ ظلّ كافراً لأنه لا يُؤْمِن بآخرة وستجعله أقرب لاتّباع الإسلام يوماً مَا فيَسعد لو أسْلَمَ حينها في دنياه وأخراه معا.. هذا، ويُرَاعَيَ أنَّ النصاري لو افتقدوا هذه الصفات الحسنة وتَشَبَّهوا باليهود والذين أشركوا ابْتَعَدُوا قطعاً عن مَوَدّتهم للمؤمنين واقتربوا لعداوتهم.. "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿83﴾" أيْ ومِمَّا يدلّ على قُرْب مَوَدَّتهم للمسلمين أنَّ بعضهم إذا استمعوا لِمَا أُوحِيَ إلي الرسول الكريم محمد ﷺ وهو القرآن الكريم تُشاهِد أيها الناظِر إليهم المُتابِع لحالهم عيونهم تَسِيل منها الدموع بكثرةٍ من أجل ما عَرَفوه من الحقّ الذي عَرَّفه وبَيَّنَه لهم هذا القرآن بعد أن كانوا غافلين عنه وذلك مِن شِدَّة تأثّر مشاعرهم بداخل عقولهم وفرحهم الكبير به وبما تَعَرَّفوا عليه فيه وحبّهم الشديد له فيقولون دَاعِين ربنا صَدَّقنا بك وبرسولك الكريم محمد ﷺ وبذلك القرآن العظيم وأسْلَمْنا وسنَعمل بكل أخلاق الإسلام التي فيه فاكْتُبْنا مع الشاهدين أيْ فاجْعَلْنا برحمتك وكرمك وفضلك مع المسلمين الذين شَهِدوا بأنك الحقّ وعَبَدُوك وحدك وبصِدْق رسلهم وأطاعوهم وعملوا بإسلامهم في كل زمنٍ وآخرهم أمة محمد ﷺ والذين كانوا شهداء علي الناس حولهم أيْ قادَة مُعَلّمِين مُعِينِين مُقَوِّمِين مُصَحِّحِين لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن – كالشاهد في المحكمة يُعِين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَتمكّن أن يحكم فيها حُكْمَاً صحيحاً عادلا – ثم في الآخرة يكونوا شهداء عليهم يشهدون أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم رسالات ربهم إليهم ونَصحوهم بما يَنفعهم والذين لا يشهدون إلا بالحقّ والعدل التامّ لارتباطهم بك وبإسلامهم، وفي هذا عظيم التكريم والتشريف لنا في دنيانا وأخرانا.. "وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴿84﴾" أيْ ولماذا لا نُصَدِّق بالله تعالي وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وأيّ شيءٍ يَمنعنا من الإيمان به وبما وَصَلَ إلينا من الصدق في القرآن العظيم مع رسوله الصادق الأمين والذي يُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا ونحن نرجو ونأمل ونحرص حِرْصَاً شديداً ونرغب رَغْبَة كبيرة أن يجعلنا ربنا بسبب ذلك إذا فعلناه مع القوم الصالحين الذين صَلحت كل أفكارهم وأخلاقهم وأحوالهم بالإسلام الذين هم يحيون أسعد حياة دنيوية ثم أتمّ سعادة أخروية في نَعيمٍ لا يُوصَف بجناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر؟! والاستفهام للاسْتِنْكار وللاسْتِبْعاد وللتّعَجُّب، أيْ كيف لا نؤمن وأيّ عائقٍ يَعوقنا وسبب الإيمان وأثره العظيم العاجِل والآجل واضح لكل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل؟! أليس ذلك دافِعَاً قوياً لكلّ أحدٍ للإسراع للاستجابة للإيمان وعدم التّأخّر عنه؟!
ومعني "فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴿85﴾" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لأمثال هؤلاء المؤمنين الصادقين بسبب ما قالوا وفي مُقابِل صفاتهم وأفعالهم وأقوالهم الطيّبة هذه أنْ جزاهم وأعطاهم وكافأهم الله في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴿85﴾" أيْ وذلك كله الذي يُعطيهم الله تعالي إيَّاه هو حتماً ودائماً والمُتَوَقّع أجر وعطاء ومكافأة كلّ مُحْسِنٍ مِثْلهم أيْ مُتْقِنٍ مُجِيدٍ مُخْلِصٍ في كلّ قولٍ يقوله وكلّ عملٍ يعمله حيث هو متمسّك عامل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾.. إنهم سيُعطون قطعا من فضل ربهم من الخير التامّ ما يُسعدهم سعادة تامّة في دنياهم وأخراهم، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا
ومعني "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿86﴾" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكَذّبوا بآياتنا أي لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب الجحيم أيْ النار الشديدة الاشتعال التي لا تُحْتَمَل، أيْ الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد جحيم وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿87﴾ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿88﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُحَرِّم ما أحَلَّه الله تعالي لخَلْقه، فهو سبحانه أحَلَّ لهم كل طَيِّب، وقد بَيَّنَه لهم، أنه كل نافع غير ضارّ، مُفيد مُسْعِد، لينعموا وليسعدوا به، وهو أعلم بخَلْقه وما يُصلحهم ويُسعدهم وما يَضرّهم ويُتعسهم، فكيف يَتَجَرَّأ أحدٌ عليه ويُحَرِّم ما أحَلَّه؟! وهو الذي يقول أيضا "قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ.." ﴿الأعراف:32﴾ (برجاء مراجعة تفسير الآية الكريمة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿87﴾"، " وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿88﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تمنعوا أنفسكم وغيركم من طيباتِ ما سَمَحَ الله لكم ولهم به مِن مأكولاتٍ ومشروباتٍ وملبوساتٍ وزواجٍ وإنجابٍ وعملٍ وعلمٍ وربحٍ ونحو ذلك من مُتَع الدنيا الحلال التي لا تُحْصَيَ، إلا إذا كان المَنْع لشيءٍ مَا بسببٍ فرديٍّ كمرضٍ أو غيره لكنه ليس بتحريمٍ من الله ثم يعود السماح بعد انتهائه، والطيّبات هي النافعات لا الضارَّات التي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي خَلَقها في أرضه ورزقها خَلْقه والتي أحَلّها لهم لنفعها ولإسعادها والتي لم يَحْصُلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة.. ".. وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿87﴾" أيْ ولا تَعتدوا أبداً بتحريم ما حَلّل الله، أو تحليل ما حَرَّمه، بأيِّ صورةٍ من صور الاعتداء، سواء أكان مثلاً عن طريق مُخَالَفَةِ خُلُقٍ أو قانونٍ من قوانين الإسلام أو عن طريق الإسراف أيْ المُبَالَغَة بتحريم شيءٍ غير مُحَرَّمٍ أو حتي التّعَامُل مع شيءٍ حلالٍ لكنْ بإسرافٍ يُؤَدّي لضَرَرٍ مَا للنفس أو للغير أو عن طريق التقصير بواجبٍ مَا أو عن طريق العدوان على حقوق الآخرين أو ما شابه هذا، لأنَّ الله بالقطع لا يحب مُطلقا المُعْتَدِين أيْ المُجَاوِزِين لِمَا حَرَّمه أيْ مَنَعه فيفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب ما قام به من اعتداء.. "وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿88﴾" أيْ وكلوا واشربوا وانتفعوا وتَمتّعوا من كل ما أعطاكم الله من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ والتي خَلَقها في أرضه مِمَّا أحَلّه أيْ سَمَحَ به لكم ولم يُحَرِّمه أيْ يَمْنَعَه لضَرَره وتعاسته عليكم ولم تحصلوا عليه بمُعامَلَةٍ مُحَرَّمَة، ومِمَّا كان طيّباً أيْ نافعاً لا ضارَّاً تَستطيبه وتَستسيغه النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، ولا تأكلوا ولا تشربوا ولا تفعلوا أبداً مَا حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. واشكروه علي كل خيره هذا الذي لا يُحْصَيَ ليُبْقِيه لكم ويزيدكم منه.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿88﴾" أيْ واتقوا الله دائماً ما دُمْتُم مؤمنين به لأنَّ إيمانكم يُوجِب عليكم تَقْواه لأنَّ الإيمان لا يَتِمّ إلاّ بذلك، أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿89﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يَحفظون أيْمانهم فلا يُقْسِمون بالله إلا عند الاحتياج للقَسَم حتي لا يَصِل الأمر إلي الاستهانة بهذا القَسَم من كثرة استخدامه دون مُبَرِّرٍ أو احتياج، ثم الأصل أنك مُصَدَّق دون قَسَمٍ فكثرته قد تَدْفع للتّشَكُّك فيما تقول فتنتشر الشكوك والظنون السيئة بين الناس فيتعسون
هذا، ومعني "لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿89﴾" أيْ لا يُحاسبكم ويُعاقبكم الله ولا يُلْزِمكم بكفّارة يَمينٍ بسبب أيْمانكم اللّاغِيَة أيْ التي لا تَقصدونها أنها أيْمان والتي قد يَعتاد بعضكم عليها أثناء كلامه كقوله مثلا "لا والله" أو قَسَمه على شيءٍ يعتقد حصوله وهو لم يَحصل ونحو هذا.. ".. وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ.." أيْ ولكن يُعاقِبكم فى الدنيا والآخرة بسبب عدم الوفاء بما قَصَدْتم ووَثَّقْتُم من الأَيْمان.. ".. فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.." أيْ فإذا لم تَفُوا باليمين فإثم ذلك يَمْحوه الله بما تقدِّمونه مِمَّا شَرَعَه لكم كَفّارة من إطعامِ عشرةِ فقراء من مُتَوَسِّط ما تُطْعِمون منه أهلكم مِمَّا جَرَت العادة بأنْ تأكلوه أنتم وأقاربكم في الجَوْدَة والمِقْدار من غير إسرافٍ ولا تَقْتِيرٍ فلا هو من الأعلي ولا من الأقلّ، أو بأنْ تَكْسُوا عشرة من الفقراء كِسْوَة مُعْتَادَة، أو بأنْ تُحَرِّروا إنساناً من العبودية إنْ كنتم في زمنٍ فيه عبيد، واختاروا من هذه الأمور ما يَتَيَسَّر لكم، فإذا لم يَتَمَكَّن الحَالِف من أحدِ هذه الأمور فعليه أن يصوم ثلاثة أيامٍ تطهيراً لنفسه وتكفيراً لذنبه وتقوية لإرادة عقله ليُعينه ذلك علي حُسْن التّعامُل مع الأَيْمان مُسْتَقْبَلَاً.. ".. ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ.." أيْ ذلك المَذْكور من الإطعام والكساء وتحرير الرقبة والصوم والذي شَرَعْناه لكم ووَصَّيْناكم به هو كفّارة لأيْمانكم إذا حَلَفْتم ولم تَفُوا باليمين فهو مُكَفّرٌ لهذا الذنب فلا تُعَاقَبُون عليه من الله في مُقابله بما يُناسبه في الداريْن.. ".. وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ.." أيْ وصُونُوا أيْمَانكم أيها المسلمون بتَجَنّب الحَلف أو بالوفاء إنْ حَلَفْتم أو بالكَفّارة إنْ لم تَفُوا بها وبالجملة لا تُكثروا منها فتكونوا أكثر احتمالا لعدم الوفاء بها فتأثموا فتجب عليكم الكفّارة لذلك.. ".. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ.." أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ ما سَبَقَ ذِكْرُه، يُوَضِّح الله لكم آياته في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿89﴾" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." ﴿إبراهيم:7﴾.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿90﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴿91﴾ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿92﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَجَنّبْتَ تماما الخمر والمُخَدِّرَات وما شابهها، والقِمَار وما شابهه، فكلها أمور تؤدي إلي ذهاب العقول وسوء التصرّفات والضغائن والأحقاد والأمراض الاجتماعية والنفسية والجسدية وهلاك الأموال والأعمال والتّخَلّف والتّراجُع وفقدان الأمان وبالجملة تؤدي إلي كل ما هو كئيب تعيس في الدنيا والآخرة.. وما قد يحدث منها من بعض النفع فهو أمر وَهْمِيّ مُؤَقّت مَغشوش قليل أو نادر، كالشعور مثلا ببعض النشوة أو كسب بعض مالٍ أو نحو ذلك، يَتْبَعه سريعا مرارات وتعاسات يُثْبِتها الواقع كثيرا.. فإيّاك إياك أن تقربها لتسعد في الداريْن ولا تتعس فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿90﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – ليس تَعَاطِي الخمر وما يشبهها كالمُخَدِّرات ونحوها شُرْبَاً وأكلاً وبيعاً وشراءً وتصنيعاً ونحوه، وليس القِمَار وهو كلّ لَعِبٍ فيه مُرَاهَنَة أيْ يشترط أن يأخذ الغالِب من المَغْلُوب شيئًا من المال سواء أكان بالوَرَق أم بغيره من الألعاب وهو عموما كل ما يَتَخَاطَر فيه الناس من مُعَامَلَة فيها خطر الكسب المُطْلَق أو الخسارة المُطْلَقَة، ويُسَمَّيَ المَيْسِر من التيسير لأنَّ المال يَصِل للكاسِب له بكلّ يُسْرٍ دون أيّ جهدٍ حقيقيٍّ نافع، وليس الأنصاب وهي ما يُنْصَب ويُقام تَقَرُّبا لغير الله تعالي من حجرٍ أو صَنَمٍ أو غيره ويذبح عليه الذبائح وكل ما يُنْصَب ليُعْبَد، وليس الأزلام وهي السِّهَام والحَصَىَ والورق ونحو هذا مِمَّا يتّخذه الدَّجَّالون كأنهم يتعرّفون به علي الغَيْب المستقبليّ من خيرٍ أو شرٍّ من خلال بعض الشعْوَذات أو الخُرَافات التي يفعلونها ﴿لمعرفة المزيد عن الأزلام برجاء مراجعة الآية ﴿3﴾ من سورة المائدة ".. وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ.."﴾، ليس كل ذلك وما يُشبهه إلا رِجْساً أيْ أمراً مُسْتَقْذَراً أيْ شرّاً وفسادً وضَرَراً يَتْبَعه تعاسات في الدنيا والآخرة يَرْفضه كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، لأنه من عمل الشيطان الذي هو أشدّ أعداء الإنسان أيْ مِن تَزْيينه وتَحْسِينه لفاعله، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء أيضا مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له﴾.. ".. فَاجْتَنِبُوه.." أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم فبالتالي إذَن اتركوا هذا الرجس وابتعدوا وامتنعوا عنه تماماً ولا تقربوه أبداً ولا تقربوا مطلقاً أيّ سببٍ يُؤَدّي إليه لضمان الأمن من الوقوع فيه.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿90﴾" أيْ لعلكم بذلك الاجتناب تفلحون أي تكونون من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتَجَنّبِين لكلّ رِجْسٍ العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴿91﴾" أيْ لا يريد ولا يَهْدِف الشيطان بذلك إلاّ أن يُوجِدَ بينكم أسباب العَداء والكُرْه بسبب شرب الخمر ولعب المَيْسر وغيره من الرجس، وأن يمنعكم عن ذكر الله بكل صوره والتي منها الصلاة بأهميتها الكبيرة وآثارها العظيمة المُسْعِدَة (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن صور الذكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾، وذلك لأنَّ تَعَاطِي الخمور والمُخَدِّرَات وما شابهها، ولعب القِمَار وما شابهه، وفِعْل الشرور عموما، كلها أمور تؤدي إلي ذهاب العقول وسوء التصرّفات والضغائن والأحقاد والأمراض الاجتماعية والنفسية والجسدية وهلاك الأموال والأعمال والتّخَلّف والتّراجُع وفقدان الأمان وبالجملة تؤدي إلي كل ما هو كئيب تعيس في الدنيا والآخرة.. ".. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴿91﴾" أيْ فهل أنتم مُمْتَنِعون؟ والاستفهام والسؤال للأمر لا للاستعلام وللعَرْض بعَرْضٍ لا يُمكن رفضه من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، أيْ فبَعْد كلّ هذا التوضيح لكلّ هذه الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات هل أنتم ممتنعون عنها أم لا؟! امْتَنِعُوا، فلا يملك أيّ عاقلٍ إلا أن يقول انتهينا يا رب ويكون امتناعه تامّاً سريعاً وعن تمام اقتناعٍ فيَحْدُث التمسّك بهذا الامتناع والحرص عليه والاستمرار فيه بلا أيّ تراجُعٍ عنه فيَسعد في دنياه وأخراه ولا يَتعس فيهما
ومعني "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿92﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ضرورة الانتهاء.. أيْ واستجيبوا ونَفّذوا ما وَصَّاكم به الله واستجيبوا ونفذوا ما وصاكم به الرسول ﷺ مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، واحذروا أيْ وكونوا دائما حَذِرين أشدّ الحَذَر أيْ مُتَيَقّظِين مُنْتَبِهين تماما لعدم الطاعة ومُخَالَفَة أخلاق الإسلام حتي لا تتسعوا فيهما.. ".. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿92﴾" أيْ فإن استجبتم فلكم كل الخير والسعادة في الداريْن، وإنْ تَوَلّيتم أيْ أعطيتم ظهوركم لله ولرسولكم الكريم ﷺ والْتَفَتم وانْصَرَفتم وابْتَعَدُتم عنها وعن الإسلام وتَرَكتم أخلاقه وأهملتموها وفعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار، فاعلموا أيْ فاعْرَفوا وتأكّدوا وتذكّروا تماما ولا تنسوا مطلقاً أنه ليس علي رسولنا إلا البلاغ المبين أيْ ليس مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليه ربه، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، وليتحمَّل المُخالفون إذَن نتيجة مخالفاتهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿93﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتستطيبه النفس السليمة ولا تستقذره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر
هذا، ومعني "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿93﴾" أيْ ليس علي الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُذَكّرهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – جناحٌ أيْ إثمٌ وضيقٌ وتَحَرُّجٌ وعقوبة في الداريْن فيما سَبقَ أنْ طَعِمُوه أو شَرِبُوه أو فَعَلوه من المُحَرَّمات قبل عِلْمهم بتحريمها، إذا خافوا الله وابتعدوا عنها بعد علمهم بتحريمها – أو حتي فَعَلوها بعد هذا العلم وتابوا منها – ثم استمرّوا على خوفهم من الله وتصديقهم بما شَرَعَه لهم من أحكامٍ في الإسلام، ثم واظَبُوا واستمرّوا على خوفهم من الله في كل حالٍ وأحسنوا أيْ وكانوا دَوْمَاً من المُحسنين أيْ الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام، فإنَّ الله حتماً يحبّ المُحسنين أي المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ومَن أَحَبَّه كان سَمْعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه، وكَفَيَ بذلك جزاء عظيما للمُحسنين.. كذلك من معاني الآية الكريمة أنه ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المَأْكَل والمَشْرَب مهما كان إذا اتقَوْا أن يكون في ذلك شيءٌ من المُحَرَّمات (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة﴾.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿94﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴿95﴾ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿96﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما صاحب إرادةٍ قويةٍ لا تَنْكَسِر أبداً وصاحب هِمَّة عالية لا تضعف مطلقاً مهما كانت الظروف والأحوال، في كل شئون حياتك، صغرت أم كبرت، الاقتصادية والعلمية والعملية والاجتماعية والسياسية وغيرها، والتي منها الحج والعمرة (برجاء لمعرفة كل فوائدهما وسعاداتهما غير تقوية الإرادة مراجعة الآيات ﴿196﴾ حتي ﴿203﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولقد نَبَّهنا تعالي لاختباراته لنا، قبل وقوعها، لنستعدّ لها عقليا وجسديا، من رحمته وحبه لخَلْقه ليَرْقوا ويَكملوا وتَقْوَيَ إرادة عقولهم، فإذا ما عادوا لحياتهم الطبيعية بعد الاختبار انطلقوا قطعاً فيها بهذه الإرادة القوية بكل قوة يستكشفونها فيسعدوا فيها بكل خيراتها ثم في آخرتهم، فهي اختبارات سَهْلَة مَيْسُورَة مَقْدُور عليها لها حتماً نتائجها السعيدة في الداريْن
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿94﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – سيَختبركم الله في فترةِ إحرامكم وأنتم في الحجّ أو العمرة أو داخل منطقة الحَرَم بتحريم بعضٍ من الحيوان والطيور يَسهل عليكم اصطياده بأيديكم ورماحكم – وذلك لتعظيم شأن الحَرَم والإحرام وأن يكون الكلّ آمِنَاً حتي الحيوانات والطيور – ليظهر الذين يراقبونه ويخافونه منكم في غيبة من أعين الناس.. إنه تعالي بصورةٍ عامّةٍ وبالتأكيد يختبر المسلمين بين الحين والحين باختبارٍ ما بما يُناسب كلاًّ منهم، فهذه هي طريقته مع كل المؤمنين السابقين منذ أبيهم آدم، وذلك لمصلحتهم ولسعادتهم، ليستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات، وهو يُنَبّههم لها قبلها الآن حتي يُحسنوا الاستعداد لها فيَنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياهم وأخراهم.. وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لهم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – أعمالهم وأقوالهم وأحداثهم وتصرّفاتهم كلها فيَتَبَيَّنَ لهم الحَسَن منها مِن السَّيِّء (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الابتلاء والصبر عليه وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، فيَتَبَيَّنَ بذلك لهم مَن هم في درجاتٍ عالية تامَّة مِن الخير ومَن هم في مستوياتٍ أقل ليقوموا بتصويب أنفسهم ليرتفعوا هم كذلك ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم.. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يَعلم كلٌّ مِنَّا ذاته، يَعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته، ويعلم مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب ليَسعد حاله وإلا تَعِس في دنياه وأخراه.. ثم في الآخرة بعد ذلك، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا، لا يكون لأيّ أحدٍ حُجَّة أو جدال حينما يَنال المُقَصِّرُون ما يستحِقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة لكلّ أحد!.. وهذا هو معني ".. لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ.."، ومعني بالغَيْب أيْ وهم غائبون عن الناس لا يَراهم أحد (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) كما أنهم مُصَدِّقون تماما بكلّ ما غابَ عنهم من ماضٍ ومستقبلٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والحساب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿94﴾" أيْ فمَنْ تَعَدَّىَ وتَجَاوَز وخَالَف منكم حدود الله والتي عليه ألاّ يَتَخَطّاها بعد ذلك البيان والتوضيح والإعلام بالتحريم أثناء فترة الإحرام وقام بالصيد، فله عذاب مُؤْلِم مُوجِع في دنياه بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْله كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في أخراه سيكون له ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره.. وذلك لأنَّ التّعَدِّي بعد الإنذار، دليل على عدم المُبَالَاة بأوامر الله وعقاباته ومَن لم يُبَالِ بها ساءت حتماً حياته في الداريْن
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴿95﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من التحريم أثناء الإحرام مع بيان كفّارة ذنب مَن فَعَلَ ذلك.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تَصْطادوا صَيْدَ البَرّ وأنتم مُحْرِمُون بحجٍّ أو عُمرةٍ أو كنتم داخل منطقة الحَرَم حتي وأنتم غير مُحْرِمين، تعظيماً للحرم وللإحرام وتأمينا للناس وحتي للحيوانات وللطيور، ومَن قتل منكم أيَّ نوعٍ من صيد البرِّ قاصداً متعمدًا – أمّا مَن صَادَ مُخْطِئاً جاهلاً بالمَنْع فلا شيء عليه – فجزاء ذلك أن يذبح مِثْل هذا الصيد الذي اصطاده مِمَّا يُماثِله ويُقارِبه ويُشْبهه في الحجم والمَنْظَر أو في القيمة من الأنعام كالإبل أو البقر أو الغنم، بعد أن يُقَدِّر قيمة ما صاده اثنان عادلان خبيران، وأن يجعله هَدْيَاً أيْ مِمَّا يُهْدَي ويَبْلغ أيْ يَصِل لفقراء الكعبة، أو أن يشتري بقيمة مثله طعاماً يهديه لهم والذين يُحَدِّد عَدَدهم أيضا الخبيران ويقوم بتقسيمه بينهم، أو يصوم أياماً تُعادِل ذلك العَدَد من الفقراء الذين كانوا يستحِقّون الطعام لو أخرجه.. ".. لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ.." أيْ وقد شَرَعَ الله ذلك ليَتَذَوَّقَ ويَتَجَرَّعَ ويحِسّ ويَستشعر المُخَالِف وَبَالَ أمره أيْ شدّة حاله السَّيِّء وسوء نتائج فِعْله وآلامه ومراراته وعذاباته وتعاساته إذ خَالَفَ ما نَهَيَ الله عنه ليُدْرِكَ عَمَلِيَّاً هذا وليَعلم تماماً أنَّ أيَّ مُخَالَفَةٍ لأيِّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام تؤدى إلى خسارةٍ وتعاسةٍ بمقدارها في الدنيا والآخرة.. ".. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ.." أيْ هذا بيانٌ لمَظْهَرٍ من مَظاهِر رحمته تعالي.. أيْ عَفَا وسَامَح الله ولم يُعاقِب عَمَّا سَبَقَ لكم من المُخَالَفَة قبل عِلْمكم بتحريمها.. ".. وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴿95﴾" أيْ ومَن رَجَع إلى المُخَالَفَة مُتَعَمِّداً بعد علمه بالتحريم، فإنه مُعَرَّضٌ لانتقام الله منه حيث يُعاقِبه بما يُناسب فِعْله بكلّ شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه وأخراه، لأنَّ الله المُتَّصِف بكلّ صفاتِ الكمال بكل تأكيدٍ عزيزٌ صاحبُ انتقامٍ من كلّ مُخَالِفٍ أيْ غالِب لا يُغْلَب يُعِزّ ويَنصر ويُكْرِم أهل الحقّ والخير ويذلّ ويَهزم ويُهين أهل الباطل والشرّ ويَنتقم منهم أي يُعاقبهم بغضبٍ بمِثْل ما فَعَلوا إذا لم يتوبوا ويعودوا له ولإسلامهم.. فلْيَحذر إذن مثل هؤلاء وليستفيقوا قبل فوات الأوان
ومعني "أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿96﴾" أيْ سَمَحَ الله لكم أيها المسلمون في حال إحرامكم صيد البحر وهو ما يُصاد منه حَيَّاً، وطعامه وهو المَيِّت منه والذي يَقْذِفه، ليكون متاعاً لكم أيْ انتفاعا وسعادة إنْ كنتم مُقِيمين وكذلك للسَّيَّارَة منكم أيْ للذين يَسيرون مُسافرين، وحَرَّمَ عليكم صيد البَرِّ ما دُمْتم مُحْرِمِين بحجٍّ أو عُمْرة، وهذا مزيدٌ من التأكيد والبيان أنَّ التحريم الذي ذكر في الآيتين السابقيتن هو مُخْتَصّ بصيد البَرِّ فقط أثناء الإحرام وفي منطقة الحَرَم، وذلك لأنَّ صيد البحر لا يَنْتَهِك ولا يَخْدِش حُرْمتها وعظمتها وأمنها لأنها ليس بها بحار أو أنهار فهي بعيدة عنها كما أنَّ المُحْرِم قد يُحْرِم في منطقةٍ قد تكون فيها بحار وأنهار فيكون تحريم صيد البحر والنهر إجهاداً وحَرَجَاً وضيقاً عليه من غير فائدة تعود على المُقيمين حول البيت الحرام.. إنَّ ذلك يَتَطَلّب منكم حتماً شكره تعالي علي نِعَمه هذه وغيرها التي لا تُحْصَيَ ليَحفظها لكم ويزيدكم منها.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها تَجَنُّب صيد البَرِّ أثناء الإحرام، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿96﴾" أيْ واستعينوا على تَقْواه بعِلْمكم وتَذَكّركم دَوْمَاً أنه هو الذي إليه وحده لا إلي غيره تُحشرون أيْ تُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليُحاسبكم علي أعمالكم وأقوالكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿97﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتَّخِذون بيت الله الحرام في أرضه رمزاً يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا.. فهذا هو أصل وحدة الناس وتَقَارُبهم وتلاقِيهم وتعاونهم.. وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿97﴾" أيْ من رحمة الله تعالي بالناس وكرمه وفضله عليهم أنْ جَعَلَ الكعبة المُشَرَّفَة وهي البيت الذي عَظّمه وحَرَّم الاعتداء فيه وفيما حوله علي الإنسان والحيوان والطير قياماً للناس أيْ مِمَّا تقوم به وعليه حياتهم أيْ صلاحها ومِن أُسُسِها وبدونها تَفْسَد هذه الحياة وتَتْعَس، لأنه أصل وحدتهم وتَقَارُبهم وتلاقِيهم وتعاونهم، وهو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿196﴾ من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن فوائد وسعادات وجود الكعبة والحجّ والعمرة لها﴾.. ".. وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ.." أيْ وكذلك جعل الله الأشْهُر الحُرُم قياماً للناس، فهي مِمَّا تقوم به الحياة، لأنه تعالي حَرَّمَ فيها القتال لو فُرِضَ وحَدَثَ اقتتال بين الناس، كفرصةٍ لتهدئةِ العقول ولمراجعة الأحوال فيعودون لحياتهم الطبيعية المُسْعِدَة دون القتالية المُتْعِسَة المُنْهِكَة المُهْلِكَة لهم، والأشهر الحُرُم أربعة، ثلاثة مُتَتَابِعَة هي ذو القِعْدَة وذو الحِجَّة والمُحَرَّم، وواحد مُنْفَصِل هو رَجَب، وسُمِّيّت بذلك لتحريم القتال فيها لحفظ الحياة.. ".. وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ.." أيْ وأيضا جعل الهَدْي وهو ما يُهْدَيَ للمُحتاجين كغنمٍ أو بقرٍ أو نحوه والقلائد والتي هي نوع من الهَدْي تُوضَع له قِلادَات في أعناقه لمزيدٍ من تمييزه وتشريفه وتعليمه بأنه مَخْصُوص بالحَرَم، جعلها قياماً للناس لأنها تُذَكّرهم بفِعْل الخير والتعاون والتّحابّ والتّآخِي فيَنتشر كل ذلك بينهم وتُتَبَادَل المَنافع فيسعدون في الداريْن.. ".. ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿97﴾" أيْ ذلك الذي جَعَله الله تعالي مِمَّا سَبَقَ ذكره، وغيره مِمَّا شَرَعه لكم في الإسلام، هو بعض أدِلّة وأمثلة لكي تعلموا بها أيْ تَعرفوا وتتأكّدوا تماما لو تَفَكّرتم وتَدَبَّرتم وتَعَمَّقتم فيها أنَّ الله خالقكم وخالق الكوْن كله يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده علم أكثر منه كل ما في السماوات وما في الأرض، وأنه بكل شيءٍ عليم عن خَلْقه وكَوْنه – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي كمال علمه وقُدْرته وحكمته ورحمته – وبالتالي يعلم كل ما يقوم بمصالحكم ويُكْمِلكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وبالتالي إذَن فاعبدوه أي أطيعوه وحده واتّبِعوا الإسلام الذي جَعَله لكم نظاماً لحياتكم لا غيره مِمَّا يُخَالِفه من أنظمةٍ ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿98﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء، بين خوف عذاب الله وعقابه وغضبه وعدم توفيقه في الدنيا ثم ما هو أعظم في الآخرة، وبين رَجَاء أيْ طَلَب وتَمَنّي وتَأَمُّل حبّه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه ونصره ورحمته وإسعاده فيهما، فهذا سيَدْفعك حتماً ويَدْفع كل عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فإنْ تمسّكتَ وعملتَ بها كلها، غَلَبَ الرجاء عندك علي الخوف كثيرا، وعِشْتَ حياتك كلها مُسْتَبْشِرَاً آمِنَاً مُطمئناً مُستقرّاً سعيداً في دنياك مُنْتَظِرَاً أعظم سعادة وأتمّها وأخلدها في أخراك.. إلاّ إذا فعلتَ شَرَّاً مَا – علي سبيل الاستثناء – فغَلّب الخوف حينها كثيراً علي الرجاء ليَدْفَعك للتوبة لتُنْقِذَ ذاتك سريعاً مِمَّا وَقَعْتَ فيه وذُقْته من مَرارات وتعاسات هذا الشرّ لتعود مُسْرِعَاً للسعادة التامَّة التي كنتَ فيها قبل فِعْله بلا أيِّ شوائب، وليَغْلِب رجاؤك المُمْتِع المُريح المُسْعِد مرة أخري علي خوفك، وسيساعدك ربك قطعاً عندما تُضيف لهذا الخوف الإيجابيّ المُفِيد رجاء رحمته التي وَسِعَت كلّ شيءٍ والتي دائما تَسْبِق غضبه.. بهذا تَحْيَا مُتَوَازِنَاً وباعتدالٍ بين الخوف والرجاء بلا إفراطٍ أو تفريطٍ في أحدهما علي الآخر.. علي حسب حالك.. فالأصل الرجاء الدائم.. ثم الخوف عند الاحتياج، لدَفْع الشرّ، مع أن تُضيف له الرجاء الواسع في رحمة الله الواسعة.. ثم العودة للأصل.. للرجاء.. وهكذا.. مع مقاومتك لكل شرّ وتقليله تدريجيا حتي ينعدم عندك تقريبا.. فتكون كل أو معظم حياتك رجاءً.. وخوفك قليلا!.. فتَسعد في الداريْن
هذا، ومعني "اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿98﴾" أيْ اعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما أيها الناس أنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿98﴾" أيْ واعْرَفُوا وتَذَكّروا دائما كذلك في ذات الوقت وفي المُقابِل أنَّ الله حتماً غفورٌ أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة ما كُتِبَ تحت عنوان بعض الأخلاقِيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴿99﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا كنتَ مُتّقِيَاً لله في السِّرِّ والعَلَن، بمفردك ومع الآخرين، فيما تُظْهِره وما تُخْفِيه، فهو سبحانه يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
هذا، ومعني "مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴿99﴾" أيْ ليس علي الرسول إلا البلاغ، أيْ ليس مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليه ربه، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، وليتحمَّل المُخالفون إذَن نتيجة مخالفاتهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴿99﴾" أيْ والله حتماً يعلم بتمام العلم كل ما تُظهرونه أيها الناس في العَلَن من أقوالكم وأفعالكم وكل ما تُخفونه منها في السِّرِّ وبداخلكم؟.. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿100﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُسَاوِ أبداً بين الخبيث والطيِّب في كل شيءٍ في حياتك، حيث الخبيث هو كل مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن والطيِّب هو كل مُفيد مُسْعِد فيهما، ولا مُقَارَنَة حتماً بينهما!
هذا، ومعني "قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿100﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُحَذّرِاً من أيِّ شَرٍّ مُحَبِّبَاً في أيِّ خير، لا يُمْكِن أبداً أنْ يَتَسَاوَيَ عند الله والإسلام بل وعند كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ الخبيث وهو السَّيِّء الرَّدِيء الدَّنِيء الخَسِيس المُنْحَطّ الكَرِيه الفاسِد والطيِّب وهو الحَسَن القَيِّم العزيز الفَخْم السَّامِي الكريم الصالح!! إنه لا مُقارَنَة حتماً بينهما فالأمر مستحيل إذ الفرق شاسِع!! وكيف يُقَارَنَا وأحدهما يُؤَدِّي قطعاً إلي كلّ شرٍّ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة والآخر يؤدي بالقطع إلي كل خير وسعادة فيهما!! وذلك في كل شئون الحياة المختلفة، فلا يُمكن مُطلقاً أنْ يتساوَيَ الإيمان والكفر، والإسلام واللّاإسلام، والأخلاق واللّاأخلاق، والحُسْن والسوء، والعلم والجهل، والخير والشرّ، والنفع والضرر، والحلال والحرام، والصلاح والفساد، والجَوْدَة والرَّدَاءَة، والسعادة والتعاسة!!.. ".. وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.." أي حتي ولو كَثُر الخبيث وصارَ مَصْدَرَ تَعَجُّبٍ لك أيها المسلم كيف يَكْثُر وهو خبيث وحتي لو أبْهَرَ وأثارَ عقول ولَفَتَ أنظار بعض الناس لانتشاره بين بعضهم في بعض الأوقات والأزمنة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم، فهما أيضا لا يَسْتَوِيَانِ بالقطع، فإنَّ الخبيث من الأقوال والأفعال يظلّ خبيثاً مهما كَثُرَ وانتشر ولا يُمكن مُطلقا أن ينقلب خيراً بكثرته وانتشاره، وما هو طيِّب يظلّ طيِّباً مهما قَلّ ولا يُمكن أبداً أن يَتَحَوَّل خبيثاً بسبب قِلّته، عند كل صالحٍ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، والعِبْرَة دائما عند الحكم علي الأشياء تكون بالجَوْدَة والرَّدَاءَة لا بالقِلّة والكَثْرة فإنَّ الجَيِّد القليل خير في نتائجه قطعاً من الرَّدِيء الكثير، وعند اختيار بضاعةٍ مَا يَختار العقل السليم دائما الجيد لا الرديء، فلا تخدعكم أبداً كثرة الخبيث عن الانتباه والتأمّل والتّعَمُّق في خُبْثِه فتَتّبِعوه ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها وليس فقط بأشكالها ومبانيها، والخبيث لا ينفع صاحبه شيئاً بل يَضُرّه كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا وسيُتعسه حتماً علي قًدْر خُبْثِه في دنياه وأخراه، وعلي العاقل ألاّ يَنْخَدِعَ به مُطلقاً ولا يُؤَثّر في عقله ومَشاعره كثرته وانتشاره فإنه مهما كثر وظَهَر وانتشر فإنه سَيّء تَعيس النتائج سعادته وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيراً مَا يَتْبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروره وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا، وعلي العاقل أن يختار دوْمَاً الطيِّب ويكون علي الدوام مع أهله مهما كانوا قليلين أحيانا لأنَّ نتائجه مضمونة عميقة مستمرّة السعادة من الله في الدنيا – ثم الآخرة – كما يُرَيَ ذلك واقعيا علي أهل الطيِّب والصلاح، والذين عليهم أن ينشروا خَيْرهم الذي هو كل أخلاق الإسلام بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة حتي يكون هو الأكثر والأغلب والأعَمّ وحتي يَنْزَوِي الشرّ ويزول وينعدم تدريجيا، ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، ولهم أجرهم العظيم علي ذلك فيهما.. ".. فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.." أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم فخافوا الله بالتالي إذَن يا أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة – والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها – وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿100﴾" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿101﴾ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴿102﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتمسّكين العامِلين بخُلُق حُسْن السؤال وأدبه، فلا تسأل سؤالاً لا يُؤَدِّي إلي خيرٍ من وراء سؤاله
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿101﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تسألوا عن أمورٍ لا فائدة ولا نفع ولا خير لكم في السؤال والبحث والتفتيش عنها، لأنها إنْ ظَهَرَت لكم تلك الأمور ربما ساءتكم أيْ أحْزَنتكم وضايَقْتكم وأضَرَّتكم ووَضَعْتكم في حَرَجٍ وضيقٍ وأشْقَت حياتكم وأتعستكم ومَن حولكم.. وأيّ عاقلٍ لا يَفعل حتماً مَا يُسِيء إليه ويُتْعِسه مِن سؤالٍ أو قولٍ أو فِعْلٍ.. هذا، ومن أخلاق الإسلام التي علي المسلم مُرَاعاتها عند السؤال عن شيءٍ مَا في أيِّ شأنٍ من شئون الحياة ألاّ يُؤَدِّي إلي ضَرَرٍ بالذات أو الغير، أو إتعاسهم، أو كشف أسرارهم والأمانات عندهم، أو استفزازهم لإيقاعهم في الخطأ، أو إحراج الذي يُسْأَل أو إفشاله أو للسخرية منه أو للتعالِي والافتخار عليه أو للتّبَاهِي بالعلم ضِدّه وتحقير علمه أو لمجرّد الجدال والإصرار علي الباطل، أو ما شابه هذا مِمَّا ينشر الغَمّ والكآبة والتعاسة، وقد يَنشر النفاق والكفر والفساد، وقد ينشر المُغَالاة والتّشَدُّد بزيادة ما ليس في الإسلام، وبالجملة لا يَسأل السائل حين يَسأل إلاّ ونواياه بداخل عقله لا تكون إلا في كل خيرٍ ومن أجل كل خيرٍ مُفِيدٍ مُسْعِدٍ في كل مجال من مجالات الحياة المختلفة، من أجل السعادة في الداريْن.... ".. وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ.." أيْ وإنْ تسألوا عن أمورٍ لا تفهمونها حين يُنَزَّل عليكم القرآن أيْ وأنتم تقرأونه بعد أنْ نَزَلَ بها تُظْهَر وتُوَضَّح وتُبَيَّن لكم من أهل التّخَصُّص إذا سألتموهم عنها.. والمقصود أنه لا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ كلّ الأسئلة ممنوعة حيث قد نَهَيَ تعالي في أول الآية عن أن تسألوا عن أشياء إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكُم وإنما أيّ سؤالٍ لا يُسيء بل يُحَقّق خيراً مَا سواء أكان السؤال في القرآن أو غيره أو أيّ شأنٍ من شئون الحياة لا يمنعه الإسلام قطعاً بل يَطْلبه ويُشَجِّع عليه لنفعه ولإسعاده للجميع في دنياهم وأخراهم كما وَصَّيَ سبحانه بقوله ".. فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" ﴿النحل:43﴾.. ".. عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿101﴾" أيْ هذا بيانٌ لمَظْهَرٍ من مَظاهِر رحمته تعالي.. أيْ عَفَا وسَامَح الله ولم يُعاقِب عَمَّا سَبَقَ لكم من أسئلة مُسِيئة سألتموها قد تُبْتُم منها فلا تعودوا لمِثْلها لتسعدوا ولا تتعسوا في الدارين، لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾، وهو تعالي حليم أيْ كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الحليم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴿102﴾" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للمسلمين مِن سوءِ نتائج مَن لا يعمل بأخلاق الإسلام، ومِن التّشَبُّه أبداً بهم، وإلاّ حَدَثَت التعاسة حتماً في الداريْن.. أيْ قد سَأَلَ أناسٌ مِن قبلكم سابقين لكم أيها المسلمون أمثال هذه الأسئلة التي لا خير يُتَوَقّع ويُنْتَظَر ويُطْلَب مِن وراء سؤالها، ثم أصبحوا بعد إظهار ضَرَرها كافرين بها أيْ مُكَذّبين بالنصائح والوصايا التي أُخْبِرُوا ونُصِحُوا بها في الإسلام والتي تَنْصحهم بعدم فِعْلها، أيْ أصبحوا كافرين بسببها لأنهم لم يَستجيبوا لها ويعملوا بها بل تركوها ورفضوها هي وغيرها تكذيباً لها وعدم تصديقٍ بنفعها وإسعادها للناس وتَعَالِيَاً عليها وعَمَلاً بغيرها من الأخلاق مِمَّا يَضُرّ ويُتْعِس في الدنيا والآخرة
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿103﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تُحَرِّم شيئاً أحَلّه الله تعالي، وإلا قد كذبت عليه كذباً شديداً، وكنتَ من الذين عَطّلوا عقولهم وأساءوا استخدامها حيث قد أضَرُّوا بذواتهم وبالآخرين وأتعسوا الجميع في دنياهم وأخراهم، لأنَّ الأصل في كل الأشياء أنها حلال، أيْ لمَنْفَعَة بني آدم وإسعادهم، إلا القليل الذي حَرَّمه سبحانه لضَرَره (برجاء مراجعة الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿103﴾" أيْ هذا بيانٌ لمَثَلٍ مِن أمثلة ما يُحاول فِعْله بعض المُكَذّبين المُعَانِدِين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين المُرَاوِغِين الذين لا يَتّبِعُون الإسلام مِن تشريعِ تشريعاتٍ غيره مُخَالِفَةٍ له لم يُشَرِّعها الله تعالي وهي سَفِيهة بلا أيِّ دليلٍ علي صِحَّتها وفائدتها ولا يُمكن مُطلقاً لأيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يَقبلها وهي مُضِرَّة مُتْعِسَة للناس وهم يَدْعونهم إليها أو يُجْبرونهم أحيانا علي اتّباعها وأحيانا يَدَّعون أنَّ الله هو الذي شَرَعها لخِداعهم ليستجيب لهم منهم مَن يريد بفطرته اتّباع شرع الله مُحاوِلِين يائِسين مَنْعهم من اتّباع الإسلام ليَتَمَكّنوا بذلك من اسْتِعْبادهم ونَهْب ثرواتهم وخيراتهم حيث الإسلام هو الذي يجعلهم يحافظون عليها، فيُبَيِّن الله للمسلمين بعضها لكي يحذروها وأمثالها ويُقاوموها ويَقوموا بتصحيحها بحُسْن دعوتهم للآخرين للإسلام بكلّ قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة ولكي يتمسّكوا ويعملوا بنظام إسلامهم وحده لا بغيره مِمَّا يُخَالِفه لأنه يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لأنه مِن خالقهم الذي يعلم تماما مصلحة خَلْقه ولكي لا يَتَشَبّهوا بهم بالقطع فيفعلوا مثل أفعالهم فيتعسوا قطعاً فيهما.. أيْ مَا جَعَلَ الله في شَرْعه الإسلام أبداً تحريم هذه الدوابّ التي حَرَّمَ هؤلاء المُكَذّبون علي الناس أكلها أو استخدامها، بل هم الذين حَرَّموها مِن تلقاء أنفسهم لتقديسها ولعبادتها أو لذبحها وتقديمها تَقَرُّبَاً لأصنامهم وللآلهة التي يعبدونها غيره تعالي ليَرضوا عنهم ولذا حَرَّمُوها ومَنَعُوا الاستفادة منها!! إنَّ مِمَّا يُحَرِّمه هؤلاء مِن الدوابّ ما يُسَمُّونه بَحِيرَة وهي دوابّ تُبْحَر أذنها أيْ تُشَقّ بعد عَدَدٍ مُعَيَّنٍ من الولادات، وما يُسَمّونه سائبة وهي ناقة أو بقرة أو شاة وَصَلَت عُمْرَاً مُعَيَّنَاً فيُسَيِّبونها ولا يركبونها أو يحملون عليها أحمالا أو يأكلونها، وما يُسَمُّونه وَصِيلَة وهي التي تلد تَوْأَمَيْن ذكراً أو أنثي فيقولوا عنها وَصَلَت أخاها، وما يسمونه حَامَاً وهو جَمَل يُحْمَيَ ظهره من الركوب إذا بَلَغَ عُمْرَاً مَا، وهكذا سَفَهٌ علي سَفَهٍ وتَخْريفٌ علي تخريف!!.. ".. وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿103﴾" أيْ ما شَرَعَ الله تعالي حتماً أيَّ شيءٍ مِن ذلك السَّفَه ولكنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، هم الذين يَفترون أيْ يَخْتَلِقون علي الله الكذب الذي ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، ويَنْسِبونه إليه سبحانه، وأكثر أمثال هؤلاء لا يَعقلون الإسلام وما فيه من الحقّ والعدل والرشاد والخير والسعادة ولا يُمَيِّزون بين ما يَنفعهم وما يَضرّهم فيندفعون وراء الشرور والمَفاسد والأضرار بدون إدراكٍ لنتائج الأمور، ولو كانوا يَعقلون ما فَعَلوا ذلك، فبسبب عدم عَقْلِهم فَعَلُوه.. إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد أنَّ بعضهم يؤمنون فيسعدون في دنياهم وأخراهم
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴿104﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُقَلّدَاً لكلّ خيرٍ مُتَّبِعَاً لكلّ حقّ وعدلٍ مُحْسِنَاً استخدام عقلك مُهْتَدِيَاً بكلّ خُلُقٍ حَسَنٍ من أخلاق الإسلام، أمّا إنْ كنتَ مُقَلّدَاً لشرٍّ مُتَّبِعَاً لباطلٍ مَا مُسِيئاً لاستخدام عقلك سائراً كالدابّة دون فكرٍ مَسْلُوب الإرادة خَلْفَ قريبٍ أو زعيمٍ أو مديرٍ أو زميلٍ أو صديقٍ أو غيره، حَرَجَاً أو تَعَصُّبَاً أو طَلَباً لثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا تنتظر إلا الشقاء والكآبة والتعاسة في الداريْن بمقدارٍ يُساوِي قَدْر إساءتك
هذا، ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴿104﴾" أيْ وحينما يقول المسلمون ناصِحين لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم أقْبِلُوا واستجيبوا لِمَا أنزل الله في القرآن العظيم ولِمَا بَيَّنَه ووَضَّحَه الرسول ﷺ واعْمَلوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، قالوا يَكفينا أن نَتّبِع ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا السابقين في عبادةِ مَا يَعبدون وفِعْل ما يَفعلون، فلسنا في حاجةٍ إلي غيره!!.. ".. آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴿104﴾" أيْ يتّبِعونهم حتي ولو كانوا لا يعلمون أيَّ شيءٍ عن الحقّ ولا يَهتدون أيْ لا يَسيرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق الله والإسلام، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة..!! يَتّبعونهم حتي ولو كانوا لا يعقلون شيئاً من أمور الدين الصحيح ولا يهتدون إلى طريق الصواب!! حتي ولو كانوا ليس لهم أيّ عقلٍ مُفَكّرٍ مُتَدَبِّرٍ مُتَعَمِّقٍ في الأمور ولا هادٍ يهتدون بهَدْيه نحو الخير!! حتي ولو كانوا لم يُحسنوا استخدام عقولهم وهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أيْ كالمجانين والسفهاء لا يفهمون شيئا!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿105﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُجْتَهِدين في إصلاح ذاتك وإكمالها وإسعادها بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا دعوتَ غيرك لمِثْل هذا ليسعدوا مِثْل سعادتك في الداريْن، فإنَّ هدايتك، وسعادتك، لا تكتمل إلاّ بهذا (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿105﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – عليكم الاجتهاد دائماً في إصلاح أنفسكم وإكمالها وإسعادها بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، والحِرْص التامّ الدائم المستمرّ علي ذلك.. ".. لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.." أيْ وأنتم إنْ أصلحتم أنفسكم، لا شيء عليكم من ذنوب غيركم مِمَّن ضَلّوا أيْ ضاعوا ولم يَهتدوا للإسلام وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، فهم لا يَضُرُّون أساساً إلا أنفسهم أو مَن يَفعلون مِثْلهم حيث التعاسة في الداريْن، ما دُمْتُم أنتم مُهْتَدِين أيْ قد وَجَدْتم الهداية أيْ الإرشاد لطريق الخير والسعادة فيهما أيْ مُتّبِعِين للإسلام، لأنه لا تَزِرُ وَازِرَة وِزْرَ أخري أيْ لا تَحمل حَامِلَة حِمْل أخري غيرها حيث الوِزْر يعني الحِمْل الثقيل، أيْ لا تَحمل شخصية حِمْل شخصية أخري، أي لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله إنْ خيراً فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإن شرَّاً فله كل الشرّ والتعاسة فيهما.. لكنْ انتبهوا إلي أنه من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحُسْن دعوة هؤلاء الضالّين هم وجميع الناس لله وللإسلام بما يُناسبهم بكلّ قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة قَدْر الاستطاعة فإنْ تَرَكتم ذلك لا تُعْتَبرون من المُهْتَدِين حيث بتَرْكِه يَكْثُر الشرّ وينتشر ويُؤَدّي غالباً إلى أن تَضِلّوا وتَفقدوا هدايتكم.. إنه مَن يَضِلّ بعد حُسْن دعوتكم له بما يُناسبه فلا يَضُرّكم بالتالي ضَلاله.. فليس معني الآية الكريمة مُطلقاً تَرْك دعوة الآخر بمجرّد أن يتمسّك ويَعمل المسلم بكل أخلاق إسلامه، فإنَّ مِن تَمام تمسّكه وعمله بها وهدايته دعوته!.. فعَلَيَ المسلمين ألاّ يُسِيئوا فهمها ويُقَصِّرون في تطبيقها (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿105﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إصلاحهم لأنفسهم وحُسْن دعوتهم لغيرهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ إلي الله وحده لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ﴿106﴾ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿107﴾ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿108﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُوصُون بخيرٍ مَا لمَن حوله، خيرٍ ماليٍّ أو علميٍّ أو اجتماعيٍّ أو غيره، فهذا مِمَّا يستمرّ أثره لك بعد موتك وتُثاب عليه من فضل ربك وكرمه، وهذا مِمَّا شَجَّعَ عليه الإسلام ليقوم المسلم بتعويض ما قد يفوته من خيرٍ أثناء حياته أو قَصَّرَ فيه لسببٍ مَا، لكن دون أن يَضُرّ أحداً بهذه الوصية قطعاً، وإلاّ نَالَ إثماً علي قَدْر ضَرَره لا ثواباً!.. هذا، والإسلام يَحرص حِرْصَاً شديداً علي توصيل الحقوق لأهلها، لأنَّ حِفْظ الحقوق يُسعد، بينما أكلها يُتعس، في الداريْن، لأنه ينشر الأحقاد والمُشاحنات والانتقامات.. فعَلَيَ مَن حَضَر الوَصِيَّة حُسْن تنفيذها وإيصال كلّ حقّ لصاحبه لينال ثوابه ولا يأثم بتقصيره في ذلك
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ﴿106﴾" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – مِمَّا أُمِرْتُم به في الإسلام شهادة بعضكم علي بعض فيما بينكم، فإذا وَصَلَ أحداً منكم الموتُ وظَهَرَت عليه علاماته وأراد أن يُوصِيَ بخيرٍ مَا فَوَقْت الوصية يشهد عليها رجلان عادلان أمينان صالحان منكم أيها المسلمون، أو آخران من غيركم أيْ مِن غير المسلمين إنْ أنتم ضربتم في الأرض أيْ كنتم مسافرين وظهرت علامات الموت ولم تستطيعوا إشهاد مسلمَيْن اثنيْن، وذلك للحاجة لهذا.. وإنْ ارْتَبْتم أيْ شَكَكْتُم في شهادتهما فاحبسوهما أي فقِفُوهما مِن بعد الصلاة أيْ في وقتٍ تَرِقّ فيه المَشاعِر، فيُقسمان بالله لا يأخذان به أيْ بقَسَمِهما هذا ثمناً من أثمان الدنيا الرخيصة بأن يكذبا فيه حتي ولو كان المَشْهُود عليه ذا قرابة فلا يُراعِيَانه ولا يُحَابِيَانه ولا يَكتمان شهادة الله التي أمر بأدائها كاملة بصدقٍ بل يقولان ما شاهَدَاه وسَمِعَاه كاملاً صادقاً بلا أيِّ نُقْصانٍ أو تغيير، وأنهما يُقِرَّان علي نفسيهما إنْ فَعَلا شيئاً من ذلك فهما من المُذنِبِين وسيُعَاقَبَان من الله علي هذا بما يُناسب في الداريْن، فهما صادقان تماما فيما يُقْسِمان عليه فلا يُقسمان كذباً لتحقيق غَرَضٍ مَا مِمَّا سَبَقَ ذِكْره أو غيره.. وكل ذلك هو من الحرص الشديد في الإسلام علي أن تَصِلَ وَصِيَّة المَيِّت إلى أهلها كاملة غير منقوصة.. هذا، وإنْ لم يُشَكّ في شهادتهما فلا حاجة بالتالي لأنْ يُقْسِما
ومعني "فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿107﴾" أيْ فإنْ تَمَّ العثور بعد ذلك أيْ الاطّلاَع والحُصُول علي ما يُثْبِت أنَّ هذين الشاهدين يستحِقّان الذنب في الآخرة والعقوبة عليه فيها وفي الدنيا بما يُناسب بسبب أنهما قد كذبا في شهادتهما أو أخْفَيَا شيئاً مَا، فحينها رجلان آخران صالحان أمينان عادلان يَحِلّان مَحلّهما ويَقِفان مَوْقفهما في الحَبْس بعد الصلاة والحَلِف ويكون هذان الرجلان الآخران هما الأوْلَيَان أيْ الأحَقّان بالشهادة لأنهما من الذين استحقّ عليهم الإيِصَاء أيْ من الذين استحقّت عليهم الوَصِيَّة وهم من الذين استحقّ عليهم – أيْ بسببهم – الإثم هذان الشاهدان الكاذبان السابقان فهما من المُتَضَرِّرين أيْ مِن المَجْنِي عليهم أيْ حَقّت ووَقَعَت آثار هذا الإثم السيئة التعيسة عليهم، وهؤلاء هم المُسْتَحِقون للمال بعد وفاة المتوفى بوصية المُوَرِّث أو بوصية الله تعالى بالميراث، فهم أحقّ بالشهادة من غيرهم، ولكنْ لأنَّ المال يعود عليهم فلا يُقْبَل قولهم إلا بَقَسَم، فيُقْسِمان بالله أيْ فيَحْلِفان بالله هذان الأوْلَيَان أنَّ الشاهديْن السابقيْن قد كَذَبَاَ وأنَّ قَسَمَنا وما نَشهد به من الصدق أوْلَىَ بالقبول من قَسَمِهما وما شَهِدا هما به من الكذب، وما اعْتَدَيْنا أيْ وما تَجَاوَزْنا الحقّ في قَسَمِنا وشهادتنا وفيما نَسَبْنَاه إليهما من خيانةٍ ولا نَتّهِمها زُورَاً، إننا بالتالي لو فَعَلْنا ذلك بالتأكيد نكون من الظالمين أيْ المُسْتَحِقّين لعقاب الله تعالي في الداريْن بما يُناسب من عذابٍ لمَن يَظلم غيره
ومعني "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿108﴾" أيْ ذلك الحُكْم الذي شَرَعَه الله تعالي عند الشكّ في الشاهدَيْن من القَسَم بعد الصلاة وعدم قبول شهادتهما، أقْرَب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها بلا كذبٍ أو خيانةٍ فيها، مُحَافَظَة منهم على قَسَمِهم بالله وخوفاً من عذابه في الدنيا والآخرة، أو خوفاً من أنْ تُرَدَّ أيْ تُرَجَّع أيْمانٌ إلي الوَرَثة بعد أيْمانهم التي لم تُقْبَل فيَظْهَر كذبهم ويَفتضح أمر خيانتهم للعَلَن، فيكون ذلك الخوف دافعاً لهم إلى النطق بالحقّ وتَرْك الكذب والخيانة، فأيّ الخَوْفَيْن حَصَلَ عندهم سيَقُودهم إلى التزام الحقّ وتَرْك الخيانة وإيصال الحقوق لأصحابها كاملة غير منقوصة حيث مَن لم يَمنعه خوف الله مِن أن يكذب أو يَخون لعدم عمله بأخلاق الإسلام مَنَعَه خوف الفضائح وعقوباتها وتعاساتها في دنياه.. ".. وَاتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، والتي منها أيْمانكم وأداء شهاداتكم وأماناتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَاسْمَعُوا.." أيْ واستمعوا جيداً لِمَا في القرآن العظيم من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسْعَدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿108﴾" أيْ واعلموا أيْ واعْرَفوا وتَذَكّروا دائما أنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام، وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن فِسْق – سواء أكان هذا الفِسْق كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم سبحانه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾.. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿109﴾ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿110﴾ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴿111﴾ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿112﴾ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴿113﴾ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿114﴾ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿115﴾ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿116﴾ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿117﴾ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿118﴾ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿119﴾ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿120﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿109﴾" أيْ تَذَكّروا أيها الناس يوم يجمع الله أمامه كلَّ الرسل في كل الأزمنة والأمكنة وذلك يوم القيامة ويسألهم قائلا لهم ماذا أجابَتْكم به أُمَمُكم الذين أرسلتكم إليها، هل أجابُوكم أيْ استجابوا لكم بالإيمان أيْ بالتصديق بكم وبالعمل بالإسلام أم رَدُّوا عليكم بالتكذيب وعدم العمل به؟ وهو سبحانه حتماً يعلم كل شيءٍ ولذا فهو سؤال تشريفٍ وتكريمٍ وتمييزٍ لهم عن غيرهم وذمٍّ شديدٍ وزيادةِ رُعْبٍ لمَن كذّبوهم ولم يَتّبعوهم لأنه إذا سُئِلَ الرسول فلا شكّ أنَّ هذا إرهاباً شديداً للمُكَذّب به والمُخَالِف له وما ينتظره من سؤالٍ وحسابٍ يُناسب تكذيبه ومُخَالَفاته.. ".. قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا.." أيْ أجابوا قائلين لا علم لنا يُذْكَر حتماً إلي جانب علمك أنت سبحانك، ولا علم لنا قطعاً بما لست تعلمه، ولا علم لنا مُطلقاً بما في عقول الناس فلا نعلم إلا ما هو ظاهر منهم وأنت تعلم ظواهرهم ودواخلهم، ولا علم لنا أبداً بما فعلوه بَعْدنا فعِلْمنا قاصِر فقط علي مَن شاهدناهم وعاصَرْناهم.. ".. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿109﴾" أيْ إنك أنت تعالي وحدك القادر علي ذلك وعلي كلّ شيءٍ لأنك علاّم الغيوب أي العالِم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكلّ ما هو غائب أيْ سِرّ في أيّ مكان فلا يَخفيَ عليه شيء حتي بما هو في النوايا بداخل العقول.. ومَن عَلِمَ المَخْفِيّ فهو بالتأكيد بلا أيِّ شكّ يعلم ما هو ظاهر والذي منه استجابة الأمم لرسلهم.. فلْيُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿110﴾" أيْ هذا بيانٌ لمِثَالٍ من أمثلة بعض تفاصيل حديثه تعالي مع رسله وسؤالهم عن استجابة الناس لهم يوم القيامة، لتشريفهم وتكريمهم وتمييزهم عن غيرهم وللذمِّ الشديد ولزيادة الرُّعْب لمَن كذّبوهم ولم يَتّبعوهم لأنه إذا تَمَّ الحديث مع الرسول وسؤاله عن بعض أحواله فلا شكّ أنَّ هذا سيكون إرهاباً شديداً للمُكَذّب به والمُخَالِف له وما ينتظره من سؤالٍ وحسابٍ يُناسب تكذيبه ومُخَالَفاته.. أيْ اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَعْتَبِروا وتُحْسِنوا الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، اذكروا حين يقول الله لعيسي ابن مريم – والتعبير جاء عن القول في الماضي مع أنه سيكون مستقبلا في الآخرة للدلالة علي تحقيق الوقوع وأنَّ هذا القول سيَحصل بلا أيِّ شكّ يومها فهو تعالي يعلم المستقبل – تَذَكّر نِعَمِي التي لا تُحْصَيَ عليك وعلي والدتك في الدنيا حيث اصطفيتها على نساء العالمين وبَرَّأتها مِمَّا نُسِب إليها إذ اتّهموها بالزنا، واذكر نِعَمِي حين قَوَّيْتُك ونَصَرْتُك بالروح المُقَدَّس أيْ المُطَهَّر من كل شَرّ والمقصود به جبريل عليه السلام الذي كان يُجْرِي علي يدِ عيسي ﷺ مُعْجِزاته بأمر الله أو يُقْصَد به الإسم الأعظم لله تعالي الذي كان يَذْكُره عيسي عند إحياء الموتي وفِعْل المُعجزات.. ".. تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا.." أيْ وحينما أعطيتك بقُدْرَتي مُعجزة خارِقَة للعادة وهي أن تُكَلّم الناس وأنت رضيع في المَهْد أيْ الفراش الذي يُمَهَّد أيْ يُجَهَّز ليَنام فيه الرضيع، وكذلك وأنت كَهْل أي في سِنٍّ بين الشباب والشيخوخة، فأنتَ كنتَ تَتكلّم بكلام الله تعالي وهَدْيِه الذي يُوحِيهِ إليك فيَهتدي بك الناس ويَقتدون بأخلاقك حيث جعلتك رسولا كريما من عندي لهم داعيا لي وللإسلام تتكلّم بكلامِ الرسل الكرام سواء أكنتَ صغير السِّنِّ أم كبيرا.. ".. وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.." أي وحينما علّمتك الكتاب الذي أرْشَدْتُك لاتّباعه – والذي يشمل أصول كتب الرسل السابقين لك – بأنْ بَيَّنْتَ لك معانيه وأخلاقياته وكيفية تطبيقها في حياتك أنت والناس حولك الذين ستَدعوهم للإسلام الذي فيه لتسعدوا به في الداريْن، وعلّمتك أيضا الكتاب بمعني الكتابة والخط حيث كنت في بيئة مُتَعَلّمة فتكون أعلمهم، وعلّمتك كذلك الحكمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّتك أيْ طريقتك في كلّ أقوالك وتصرّفاتك والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في الكتاب الذي علمتك إيّاه، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ثم يُحَدِّد تعالي الكتاب الذي أرْشَده لاتّباعه وهو التوراة التي أُنْزِلَت علي موسي ﷺ قبله ومعها عَلّمه الإنجيل الذي أوحاه إليه بعدها وفيه من الإسلام ما يُناسب عصره.. ".. وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.." أيْ وحينما كنتَ تَصْنع وتُصَوِّر من الطين مثل شكل الطير بإذن الله فتنفخ فيها فتَحِلّ بها الحياة فتكون طيراً حقيقياً مُتَحَرِّكَاً بإذن الله أيْ بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كن فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. هذا، والإكثار من لفظ "بإذني" في الآية الكريمة هو للتأكيد التامّ علي أنَّ كل هذه المُعجزات التي تمَّت علي يديه ولا يستطيعها أيّ بَشَرٍ هي من عند الله تعالي وأنه الخالق الإله وليس عيسى كما ادَّعَيَ ذلك كذباً وزُورَاً بعض السفهاء.. ".. وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي.." أيْ وتُشْفِي مَن وُلِد أعمى، ومِن باب أولي مَن كان مُبْصِرَاً وفَقَدَ بصره فذلك أخفّ، ومَن به بَرَص، وهو مرض جلديّ مُزْمِن مُنَفّر يَصعب شفاؤه، بإذني، وحينما كنتَ تُخرج الموتي من قبورهم أحياء بإذني.. ".. وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿110﴾" أيْ وحينما مَنَعْتُ اليهود عنك عندما حاولوا قتلك حين أتيتهم بالمُعْجِزات الدالّة علي صِدْقك ليُؤمنوا فأَعْرَضَ بعضهم الذين كفروا منهم أيْ كذّبوا قائلين ما هذا الذي أحضرته لهم من معجزاتٍ ومن تشريعاتٍ تسعدهم في الإنجيل إلاّ سِحْر واضح يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وليست من الله تعالي وأنك ساحر لا رسول يُوحَيَ إليك، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه من إغلاقٍ لعقولهم وعدم إيمانهم رغم كل الأدِلّة الواضحة التي لا يمكن رفضها من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل
ومعني "وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴿111﴾" أيْ وتَذَكّر كذلك نِعَمِي التي لا تُحْصَيَ عليك حين أيَّدْتُك بأنصارٍ لك، بالحواريِّين – والحواريِّون هم أصحاب وأنصار ومُؤَيِّدُوا بكل إخلاصٍ وصفاءٍ الرسل الكرام – بأنْ أوْحَيْتُ إليهم بمعني ذَكّرْتُهم وبَيَّنْتُ لهم من خلال دعوتك لهم كما دعوتَ غيرهم أنْ آمنوا بي وبرسولي أيْ بك – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه ليس إلاهاً كما يَدَّعِي بعض السفهاء – فاستجابوا ولم يكونوا كغيرهم الذين كفروا فعَاوَنْتُهم ووَفّقتهم ويَسَّرْتُ لهم أسباب الاستجابة وذلك لمَّا أحسنوا هم أولا استخدام عقولهم واختاروا بكامل حرية إرادة هذه العقول الاستجابة حتي صاروا بهذا التوفيق والتيسير والعَوْن حواريِّين لك وقالوا آمنّا أيْ صَدَّقْنا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملنا بأخلاق إسلامه وأكّدُوا إيمانهم هذا بقولهم واشهد علينا يا ربنا واشهد لنا يا عيسى يوم القيامة بأننا مسلمون أيْ مُسْتَسْلِمون لوَصَاياك وتشريعاتك يا ربّ أيْ مُتَمَسِّكَيْن عامِلَيْن بكل أخلاق الإسلام ثابتيْن دائميْن عليها مُخلصين مُحسنين فيها (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن﴾
ومعني "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿112﴾" أيْ واذكر حين قال الحواريون يا عيسي ابن مريم هل يستطيع لك أيْ هل يُطيعك أيْ هل يُجيبك ربك أيْ يَستجيب لك إذا دعوته وطَلَبْتَ منه أن يُنَزِّل علينا طعاماً من السماء أم لا؟.. كذلك من المعاني هل يَقْدِر ربك أن يفعل ذلك، وهم في طَلَبهم هذا حتماً لا يَتَشَكّكون لأنهم مؤمنون حواريّون فهم متأكّدون تماماً من استطاعة الله تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ أن يفعله بقول كن فيكون ولكنهم كما قال إبراهيم ربّ أرِنِي كيف تُحيي الموتي يريدون مشاهدة الكيفية لحدوث ذلك فقد كانوا عالِمين باستطاعته وقُدْرته سبحانه علي ذلك وغيره علم إخبارٍ من عيسي مع تَدَبُّرٍ عقلِيٍّ منهم فأرادوا إضافة علم مُعايَنَة ومُشَاهَدَة كذلك لأنَّ المشاهدة لا يمكن أن يَدخل إليها أيّ شكّ ولذلك قالوا بعدها وتطمئنّ قلوبنا كما قال إبراهيم ولكنْ ليطمئنّ قلبي أيْ ليَزداد تأكّدِي تأكّدَاً وعِلْمي علماً ولكي أسْكُن وأهْدَأ مِن التطلّع والتَّشَوُّق إلى الكيفيّة.. ".. قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ.." أيْ هذا إرشادٌ إلى ما ينبغي للإنسان أن يُوقِف عقله عنده وما عليه أن يَكتفي به في الأمور الغَيْبِيَّة والتي هي أصلا مُوَافِقَة للعقل وللفطرة والتي عليه أن يعتمد فيها أساسا علي ما جاء في كتب الله وآخرها القرآن العظيم فلا يَتَعَدَّاه إلى ما ليس من شأنه ولا ينشغل بالبحث فيه لأنه تعالي قد انفرد به ولا يَليق به البحث عنه حيث لن يَصِلَ لشيءٍ لأنه خارج إمكاناته فليُوَفّر إذَن جهده لِمَا هو أنْفَع وأسْعَد له في الداريْن.. أيْ قال عيسي ناصحاً لهم اتقوا الله ولا تطلبوا مِثْل هذه الطلبات، أيْ خافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، ولا تسألوا مثل هذه الأسئلة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿112﴾" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴿113﴾" أيْ قال الحواريّون لعيسي لا يعني طَلَبنا نزول مائدة طعام من السماء أننا نشكّ في قُدْرَة الله تعالي أو أنك رسول من عنده، وإنما لنا أهداف صالحة، أوّلها أننا نريد أن نأكل منها لننالَ بركتها فنحيا سعداء ولأننا في حاجةٍ إلى الطعام بعد أن ضَيَّقَ علينا أعداؤك وأعداؤنا الذين لم يُسْلِموا، وثانيها أننا نريد أن تطمئنّ قلوبنا أيْ عقولنا أيْ ليزداد تأكّدنا تأكّداً وعِلْمنا عِلْماً ولكي نَسْكُن ونَهْدَأ من التّطَلّع والتّشَوُّق إلي كيفية حدوث ذلك لأنَّ إضافة عِلْم المُعَايَنَة والمشاهدة إلي علم الإخبار منك مع تَدَبُّرٍ عقلِيٍّ مِنّا لا يمكن حينها أن يَدخل إليه أيّ شكّ في كمال قُدْرته وعِلْمه تعالي، وثالثها لكي نعلم عِلْمَاً تامَّاً كاملاً أكيداً لا يُخالِطه أيّ شكّ أو وَهْم أو تَرَدُّد أنك قد صَدَقتنا تماما في أنَّ الله يُجيب دعاءنا وفيما تُبَلّغه لنا عن ربك من إسلامٍ فنزداد اطمئناناً وعلماً وعملاً لأنَّ نزولها من السماء يُعْتَبَر إضافة وتكميلاً لِمَا أتيتنا به من معجزاتٍ أرضيةٍ لأننا وإنْ كنّا قد عَلِمْنا صِدْقك بكل المعجزات الأخري ولكن إذا شاهدنا هذه المُعجزة ازداد التأكّد والاطمئنان والعلم، ورابعها لكي نكون من الذين يَشهدون على هذه المُعجزة أنها من عند الله تعالي عند الذين لم يَحضروها ويُشاهدوها غيرنا ليَزداد الذين أسْلَموا مِثْلنا عَمَلاً بكل أخلاق إسلامهم وليُسْلِم غيرهم
ومعني "قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿114﴾" أيْ قال عيسي ابن مريم حينها لَمَّا استمع منهم لأهدافهم الحَسَنة السابق ذِكْرها مُسْتَجيباً لطَلَبهم داعياً الله تعالي مُتَوَسِّلاً إليه، يا الله، يا مُسْتَحِقّ وحدك للعبادة أيْ الطاعة، يا ربنا أيْ يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا، يا مُجيب الدعاء بفضلك وكرمك ورحمتك، أنزل علينا مائدةَ طعامٍ من السماء تكون لنا يوم نزولها عيداً أيْ سروراً للمسلمين عائداً إلينا كل عام نُعَظّمه ونَتَدَبَّر ونَتَذَكّر فيه نِعَمك علينا التي لا تُحْصَيَ فنستمرّ علي شكرك دائماً بعدها حتي يَحِلّ علينا ثانياً بسروره وفرحه فيُعيد تَذْكِرتنا بخيراتك، تكون لنا عيداً لأوّلنا أيْ لأوّل أمتنا وآخرها أيْ لنا نحن الحالِيِّين الذين شاهدناها وللمتأخّرين القادمين بعدنا، وتكون كذلك مُعجزة منك تُحْفَظ ويَتَذَكّرها الجميع دَوْمَاً بلا نسيانٍ تدلّ علي صِدْق رسلك وصِدْقي فيُصَدِّقونى فيما أُبَلّغه عنك من إسلامٍ ويزداد تأكّدهم بكمالِ وعظيمِ قُدْرتك وعِلْمك ورحمتك فتزداد عبادتهم أيْ طاعتهم لك ويزداد تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن، وارزقنا أيْ وأعْطِنا مِن عندك مِن كل أنواع أرزاقك أيْ عطاءاتك وخيراتك ومنافعك الطيّبة الوفيرة المُسْعِدَة المُبَارَك فيها التي لا تُحْصَيَ فأنت خير الرازقين أي أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالق بالمخلوق؟! فرِزْقك سبحانك بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا وأنت خالِق رزقك من عدمٍ وتَملكه كله وتَملك أسبابه وأصوله وخاماته كالماء والهواء والطاقات والخلايا ونحوها وخزائنك لا تنتهي مُطلقا، أمّا غيرك من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزقك يا خالقهم وخالق كل شيءٍ ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورِزْقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مرزوقون به منك قد مَلّكتهم إيّاه لفتراتٍ وأنت الذي يَسَّرتَ لهم أسبابه وأَعنتهم عليها بما أعطيتهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا.. وفي هذا تذكيرٌ بأنْ يَطلب الخَلْق من خالقهم وحده سبحانه الرزق، وأنْ يُحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما يستطيعون، وسيُيَسِّره لهم حتماً، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لهم ويُعينهم عليه مِن خَلْقه
ومعني "قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿115﴾" أيْ قال الله له إني سأنزل مائدة الطعام عليكم من السماء استجابة لدعائك ولطَلَبِكم، فأيّ أحدٍ يكفر منكم أيها الطالِبون لها بعد إنزالها، أيْ يُكَذّب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَستكبر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار وكلّ سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظره، فإني حتماً بالتأكيد أعذّب هذا الكافر عذاباً لا أعذب مثله أحداً من العالمين في زمانه أو من العالمين جميعا، وذلك لأنه كَفَرَ بعدما شاهَدَ مُعْجِزة مُبْهِرَة تدلّ كلَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله وكمال قُدْرته وعِلْمه – إضافة قطعاً إلي ما يراه حوله كل لحظة من مخلوقاته سبحانه في كل كوْنه والتي هي كلها مُعْجِزات مُبْهِرات – فكُفْره يدلّ علي تمام إصراره علي عِناده وتكذيبه واستكباره بعدم اتّباعه للإسلام وبفِعْله كل سوءٍ وعلي أنَّ المشكلة ليست في نَقْصِ الأدِلّة حوله وإنما فيه هو حيث أغْلَقَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فمِثْل هذا يستحقّ بالقطع بسبب ذلك أشدّ العذاب
ومعني "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿116﴾" أيْ هذا استمرارٌ لبيان مِثَالٍ من أمثلة بعض تفاصيل حديثه تعالي مع رسله وسؤالهم عن استجابة الناس لهم يوم القيامة حين يجمعهم جميعا، لتشريفهم وتكريمهم وتمييزهم عن غيرهم وللذمِّ الشديد ولزيادة الرُّعْب لمَن كذّبوهم ولم يَتّبعوهم لأنه إذا تَمَّ الحديث مع الرسول وسؤاله عن بعض أحواله فلا شكّ أنَّ هذا سيكون إرهاباً شديداً للمُكَذّب به والمُخَالِف له وما ينتظره من سؤالٍ وحسابٍ يُناسب تكذيبه ومُخَالَفاته.. أيْ واذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَعْتَبِروا وتُحْسِنوا الاستعداد لهذا اليوم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، اذكروا حين يقول الله لعيسي ابن مريم – والتعبير جاء عن القول في الماضي مع أنه سيكون مستقبلا في الآخرة للدلالة علي تحقيق الوقوع وأنَّ هذا القول سيَحصل بلا أيِّ شكّ يومها فهو تعالي يعلم المستقبل – هل أنت قلتَ للناس حولك اجعلوني وأمّي إلاهَيْن أيْ مَعْبُودَيْن يُعْبَدَا غير الله؟! ولفظ "أمّي" يُفيد أنه مخلوقٌ مولودٌ من رَحِم أمٍ وبالتالي فهو ليس إلاهاً كما يَدَّعِي بعض السفهاء.. إنه سبحانه حتماً يعلم كل شيءٍ ولذا فهو سؤالٌ للذمِّ الشديد لمَن فَعَلَ ذلك كما أنه للتقرير أيْ لكي يُقِرّ عيسي بالحقّ عَلَنَاً للجميع والذي هو عكس ذلك تماماً حيث لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليُخْرِس بذلك ألْسِنَة الذي يفترون علي الله الكذب، وأنه لا هو ولا أمّه آلهة ولا شركاء لله في أُلُوهِيَّته تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً بل الجميع عباد له سبحانه وهو ربهم وهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريك.. ".. قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ.." أيْ رَدَّ عيسي علي الفور نافِيَاً ذلك نَفْيَاً قاطِعَاً قائلاً بكل أدبٍ وخشوعٍ سبحانك أيْ نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك يا ربَّنا عن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فلك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، لا يكون مُتَصَوَّرَاً لي ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لرسولٍ كرَّمه الله بأنْ يكون مَبْعُوثاً منه إلي الناس ليَنالَ شَرَفَ حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة لهم وهدايتهم لربهم، لا يُعْقَل بعد كل هذا الإنعام والتكريم والتشريف العظيم لي أن أقول ما ليس لي ولا لأيِّ أحدٍ أيّ حقّ في أن يَنْطِق به ويَطلبه أبداً لأنَّي عابدٌ لا مَعْبُود ولأنَّ الجميع مَخْلوقون بقُدْرتك وكلهم كذلك عِباد لك.. ".. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿116﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي النفي المُطْلَق لأنْ يكون قد قال مِثْل هذا القول القبيح والاستشهاد بالله علي براءته من ذلك وأنه بَشَر لا إله مع التأكيد علي كمال علمه تعالي بكل شيء.. أيْ لو كنتُ قلتُ ذلك لَعَلِمْتَه حتماً سبحانك، لأنك تعلم ما أُخْفِيه في نفسي – فكيف بما أُعْلِنه من قولٍ وعمل – ولا أعلم ما تُخْفِيه عنّي وعن خَلْقك من عِلْمك وغَيْبك وقولك وفِعْلك إلا بما تُعَلّمنا إيّاه، لأنك أنت علاّم الغيوب أيْ العالِم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكلّ ما هو غائب أيْ سِرّ في أيّ مكان فلا يَخفيَ عليه شيء حتي بما هو في النوايا بداخل العقول.. ومَن عَلِمَ المَخْفِيّ فهو بالتأكيد بلا أيِّ شكّ يعلم ما هو ظاهر
ومعني "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿117﴾" أيْ ما قلتُ لهم إلا ما أمرتنى بقوله وتبليغه إليهم وهو أن أطيعوا الله لأنه هو ربي وربكم أيْ هو وحده لا غيره حتما ربّي وربّ جميع الناس وكلّ الخَلْق أيْ خالقهم ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. هذا، وقد ابتدأ بنفسه أنَّ الله هو ربه لكي يقطع أيَّ طريقٍ علي مَن قد يَدَّعون كذبا أنه ابن الله لأنه وُلِدَ مِن غير أبٍ أو أنه شريك هو وأمه مع الله ليكون المعبود ثلاثة أو ما شابه هذا مِن تخريفاتٍ تعالي سبحانه عنها عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ.." أيْ وكنتُ عليهم مُشَاهِدَاً مُرَاقِبَاً مُعَلّمَاً مُعِينَاً مُقَوِّمَاً مُصَحِّحَاً مُوَجِّهَاً لهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في الداريْن مانِعَاً حافظاً من أن يتّخذوا إلاهَاً غيرك لا أنا ولا غيري، وذلك ما بَقيتُ فيهم وحين كنتُ بينهم.. ".. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿117﴾" أيْ فلمَّا اسْتَوْفَيْتَ أجَلِي ناهِيَاً إيَّاه علي الأرض ورفعتني إليك بجسدي وروحي لأكون في جنات السماء حيث مكان الكرامة التامّة لي والإنعام الكامل عليّ، وانتهت مهمّتي ولم أَعُدْ بينهم شهيداً عليهم، كنتَ أنتَ حتماً مِن قَبْل ذلك وبَعْده المُراقِب عليهم المُطّلِع علي كل شيءٍ من أحوالهم الحفيظ لها تمام الحِفْظ لتُحاسِبهم عليها، لأنك أنتَ يا ربنا علي كل شيءٍ شهيد أيْ كثير الشهود أيْ شاهِد علي الدوام لكلّ شيءٍ مِن أقوالهم وأفعالهم وكلّ خَلْقك مِن خيرٍ أو شرٍّ سواء أكان ظاهراً أم خَفِيَّاً، تراه بتمام الرؤية وتسمعه بتمام السمع ولا تنسَيَ شيئاً ولا يَخْفَيَ عليك أيّ خافيةٍ في كوْنك كله
ومعني "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿118﴾" أيْ إنْ تُعَذّبهم يا ربّ بسبب ما فعلوا من سوءٍ فإنهم عبادك تَتَصَرَّف فيهم كما تريد بعَدْلِك، وأنت وحدك الأعلم تماما بكل أحوالهم، ولا اعتراض على المَالِك المُطْلَق فيما يَفعل بملْكِه، وهُمْ بالفِعْل يَسْتَحِقّون ما يُناسب من عذابٍ لأنهم في الأصل عبادك ولكنهم عَبَدوا أي أطاعوا غيرك حيث فَعلوا ما فَعلوا من شرور ومَفاسد وأضرار، ولولا ذلك لَمَا عَذّبتهم وقد حَذّرتهم في دنياهم فلم يستجيبوا.. ".. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿118﴾" أيْ وإنْ تُسَامِحهم فلا تُعاقِبهم علي ذنوبهم وتَمْحُها كأنْ لم تكن وتَمْحُ عنهم آثارها المُتْعِسَة وتَرحمهم وتُدخلهم جنتك فذلك إليك وحدك لأنَّ عَفْوَك عَمَّن تشاء من عبادك هو عَفْو العزيز أيْ الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الحكيم أيْ الذي في كلّ أموره يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة ويَضع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه دون أيّ عَبَث، فهو ليس كعَفْوِ مَن يَعفو عن عجزٍ وعدم قُدْرَةٍ وعدم حِكْمة، ولا يَلْحَقك بذلك أيّ عَجْزٍ ولا اسْتِقْبَاح، ولا يُنْقِص ذلك شيئاً من عِزّك وحِكْمتك، فإنك القويّ القادر على الثواب والعقاب الذي لا يُثيب ولا يُعاقب إلاّ عن حِكْمةٍ وصَواب، فإنْ عَذّبْتَ فعَدْل وإنْ غَفَرْتَ ففَضْل.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بتمام عَدْل الله تعالي وعِلْمه وعِزّته وحِكْمته
ومعني "قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿119﴾" أيْ يقول الله إنَّ هذا اليوم هو اليوم الذي يَنتفع الصادقون فيه بصِدْقهم في إيمانهم وأعمالهم، لأنه يوم الجزاء والعطاء الذي لا يُوصَف على ما قَدَّموا من خيراتٍ في دنياهم، والصادقون هم الذين كانوا في الدنيا عابدين أيْ مُطِيعين لله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ عاملين بأخلاق إسلامهم ويُوافِق فِعْلهم قولهم المُخلصين المُحسنين في كل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) الذين يَنطقون بما يُطابِق الواقع تماما ولا يَكذبون ولا يقولون إلا حَقّاً وصِدْقَاً ولا يَخلفون وعودهم ومواعيدهم وعهودهم ولا يَخونون الأمانات بكلّ أنواعها ويَصْدقون في نواياهم بداخل عقولهم علي الاستمرار دائما علي أخلاق الإسلام ويَصْدقون في مشاعرهم ويجتهدون في أن تكون دَوْمَاً ظَوَاهرهم مثل بَوَاطِنهم.. هذا، وهو اليوم كذلك الذي يَضُرُّ فيه الكاذبون كذبهم، وهم الذين اتّصَفُوا بعكس هذه الصفات، حيث سيجدون حتماً ضَرَر كذبهم بما يُناسبه من شرور وعذاباتٍ وتعاساتٍ في نارٍ عذابها لا يُوصَف.. ".. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.." أيْ هذا بيانٌ لهذا النفع وتفصيله وكيفيته.. أيْ هؤلاء الصادقون لهم حتماً في حياتهم الآخرة جناتٍ من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. وكل هذا العطاء هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم وصِدْقهم في ذلك.. ".. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.." أيْ هذا مدحٌ وتكريمٌ وتشريفٌ لتشجيع ولدَفْع كلّ بني آدم ليكونوا كلهم كذلك ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أيْ بكلِّ تأكيدٍ لقد أحبهم الله وقَبِلَ أعمالهم ورَعَاهم وأمَّنهم ووَفّقهم وقَوَّاهم ونَصَرهم ورزقهم وبالجملة أرضاهم وأسعدهم في الداريْن.. ".. وَرَضُوا عَنْهُ.." أيْ وهم في المُقابِل في تمام الرضا والارتياح بسبب كل هذا الخير والسرور الذي أرضاهم تعالي به في الدنيا ثم الذي يرضيهم به في الآخرة، فهم راضون عن ربهم الكريم الرحيم المُعين الوَهَّاب وراضون عن كل عطائه الذي لا يُوصَف ولا يُحْصَيَ، وكيف لا يَرضون وهم في هذه الحالة التامَّة من السعادة والاستقرار والأمان؟!.. ".. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿119﴾" أيْ ذلك النفع والعطاء الذي لا يُوصَف هو بكلّ تأكيدٍ أعظم فوزٍ يُمكن تحقيقه والذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿120﴾" أيْ لله تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿120﴾" أيْ وهو حتماً علي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿1﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿2﴾ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿3﴾ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴿4﴾ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿5﴾ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴿6﴾ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿7﴾ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴿8﴾ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿190﴾، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿1﴾" أيْ هذا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولاً وقوة وصحة وخَلَقَ وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها.. وبما أنَّ كل ما فيهما ملك له سبحانه فليطمئنوا إذَن بالتالي فلا أحد آخر يمتلكهما إذ لو فُرِضَ وامتلكهما غيره لَكَانَ مِن المُمكن أن يَحرمهم من خيراتهما!! كما أنَّ هذا مِن المُفْتَرَض أنْ يزيدهم حمداً لله لأنها كلها ملكه وليست ملكهم ومع ذلك يُمَلّك لهم بعضها فترة حياتهم ويجعلهم ينتفعون ويسعدون بما معهم تمام الانتفاع والسعادة.. ".. وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.." أيْ وبَيَّنَ لهم في الإسلام أين النور والخير والسعادة وأين الظلام والشرّ والتعاسة ليتمسّكوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وكذلك من المعاني أنه جعل الليل والنهار بدَوَرَان الشمس وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. ".. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿1﴾" أيْ ثم الذين كفروا من الناس – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم – بعد كلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ والأدِلّة الواضحة القاطِعَة التي يقبلها كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يَرْفضها إلاّ كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعَانِدٍ مُكَابِرٍ والتي تدلّ علي كمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته تعالي وأنه الخالق لكل هذا الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللشكر وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، مع كل هذا، بربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم للخير – يَعْدِلون أيْ يُساوون به غيره فى العبادة ويُشْرِكون معه آلهة أخرى لا تَنفع ولا تَضُرّ كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها!! لا تستطيع نفع ذاتها أو منع الضرَر عنها فكيف تنفع أو تضرّ غيرها بل العابدون لها هم أقوي منها!! يُساوون بينه سبحانه وبين آلهتهم!! والتي هي خَلْقٌ من خَلْقِه!! ظلماً وزُورَاً وانحرافاً عن الحقّ، وهم متأكّدون أنهم يعدلون عن هذا الحقّ الأكيد أيْ ينحرفون عنه، بداخل عقولهم، حيث فطرتهم تذكّرهم دائما به لأنها مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معاني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، والسبب في ذلك أنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. تعالي الله عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا
ومعني "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿2﴾" أيْ هذا مزيد مِن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وللشكر وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. أيْ مِمَّا يَدُلُّ علي أنه سبحانه قادرٌ علي كلّ شيءٍ وعالِمٌ به تمام العلم وقادرٌ علي بَعْثكم يوم القيامة بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا حيث يُحاسبكم الحساب الختاميّ علي كل أقوالكم وأعمالكم بالخير خيرا وسعادة ويزيد وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفو، أنه تعالي خَلَقكم أيّها الناس من طين أي أوجدكم من تراب وماء، فأبوكم آدم من طين، وأنتم جميعا من سلالته، ثم تَتَكَوَّنون كأجِنَّة علي مراحل دقيقة في بطون أمهاتكم من ماءٍ مَهين تعرفونه يَحمل نُطْفَة هي المَنِيّ من الرجل لتَتَّحِدَ مع بويضة من المرأة، فتَتَكَوَّن عَلَقَة أي مجموعة خلايا دقيقة تتعلّق بجدار الرحم الداخلي، ثم تتطوّرون وتَنمون وتُولَدون أطفالا لا تعلمون ولا تستطيعون أيّ شيء، ثم تَبلغون أشُدَّكم أي تمام القوة العقلية والجسدية وتَكبرون وتَقوون وتُرزقون وتَنتشرون في الأرض تَنتفعون من خيراتها وتَسعدون بها ثم تشيخون وتضعفون وتموتون، ومنكم بالقطع من يُتَوَفّيَ قبل ذلك أي تسقطه أمه سَقْطَاً أو يتوفّى صغيرا أو شابا أو قبل الشيخوخة.. ".. ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ.." أيْ ثم قَدَّرَ لحياة كلٍّ منكم في الدنيا وقتاً يتمتّع فيه بها ينتهى بموته لا يزيد عنه ولا يقلّ.. وأجلٌ آخرٌ مُحَدَّدٌ عنده أيْ في عِلْمه وحده لا يَعلمه إلا هو تعالي قَدَّره وحَدَّده للبعث من القبور بالأجساد والأرواح وهو يوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلْتم.. والخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قدْر ما تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. وفي هذا تذكيرٌ للإنسان بالآخرة والبَعْث والحساب والذي سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لحُسْن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، كما أنَّ فيه تذكيراً له بالتواضُع، حيث أصله مَخْلوق من طين، ثم من نُطْفةٍ ضعيفة مهينة، وله أجَل محدود في الحياة ثم يعود مرة أخري للطين والتراب والدود بعد موته، فعَلَيَ ماذا يَتَعَالَيَ إذَن ويَتَكَبَّر علي خَلْق الله أو علي خالقه ذاته ورسله ودينه الإسلام؟!.. إنه بانتشار التواضُع، الاحترام، المساواة، الأدب، حُسْن التعامُل، يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، وبعكس ذلك يتعسون فيهما.. ".. ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿2﴾" أيْ بعد كلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ والأدِلّة الواضحة القاطِعَة التي يقبلها كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يَرْفضها إلاّ كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعَانِدٍ مُكَابِرٍ والتي تدلّ علي كمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته تعالي وأنه الخالق لكل هذا الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيّ شريكٍ وللشكر وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنه القادر علي كلّ شيءٍ وعلي بَعْثِكم بعد موتكم لحسابكم يوم القيامة والذي هو حقّ بلا أيِّ شكّ، مع كلّ هذا أنتم تَمْتَرُون أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتكبرون من الناس!! أيْ تَشُكّون في ذلك وتُجادِلون المسلمين فيما تَشكّون فيه مُخَالِفين بذلك الذي يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وليس معكم أيِّ علمٍ ولا مَنْطِقٍ ولا فِكْرٍ ولا فهْمٍ ولا استنادٍ لأيِّ دليلٍ عقليٍّ مَنْطِقِيٍّ مُقْنِعٍ بل بكل جَهْلٍ وسَفَهٍ وخَبَلٍ ولا مَنْطِقِيَّة.. والسبب في ذلك أيضا كما في الآية السابقة أنَّ أمثال هؤلاء قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿3﴾" أيْ هذا تكذيبٌ لكلّ سَفِيهٍ يَدَّعِي كذباً وزُورَاً أنَّ لله شريكاً في مُلْكِه أو ولدا أو مُعِيناً أو نحوه، أيْ وهو الله وحده لا غيره المُسْتَحِقّ للعبادة في أيّ مكانٍ بالكوْن بلا أيّ شريكٍ لا في السماء كما يَعبد البعض الكواكب والملائكة وغيرها ولا في الأرض كالأصنام والنيران ونحوها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) ومِن بعض دلائل ذلك ومِمَّا يُؤَكّده أنه هو وحده يَعلم سِرَّكم أيها الناس أيْ يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ما تُخفون بداخل عقولكم مِن خيرٍ أو شرٍّ وما تَنْوُون فِعْله منهما، ويعلم جَهْركم أيْ ما تُظْهِرون من أقوالٍ وأعمال خيرية أو شَرِّيَّة سواء بمفردكم أم مع غيركم، فلا يَخْفَيَ عليه قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقه، ويعلم كل ما تَكسبون أي تعملون وتقولون وسيُحاسبكم علي كلّ هذا في الداريْن بالخير خيرا وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فانتبهوا لذلك إذَن وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ في السِّرِّ والعَلَن لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴿4﴾" أيْ وإذا دُعِيَ المُكَذّبون المُعَانِدون المُستكبرون المُستهزؤن من الناس إلي الخير وترْك الشرّ، وإذا جاءتهم أيُّ آيةٍ في الكوْن أيْ دلالة وعلامة يرونها واضحة أمامهم والتي هي حجّة ظاهرة كافية قاطعة حاسمة علي قدْرة الله تعالي التامّة، وكذلك حين تُقْرَأ وتُعْرَض عليهم كلُّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم والتي فيها كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم، إذا هم يُعْرِضون عنها أيْ يُعطونها ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!!.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿5﴾" أيْ لقد كذّبَ هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُراوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم بالحقّ لَمَّا وَصَلَ إليهم عن طريق رسل الله تعالي، كذّبوا بالصدق، كذّبوا بوجود الله وكتبه وآخرها القرآن العظيم ورسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ولم يعملوا بالإسلام الذي بَلّغُوهم إيّاه ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، وبالتالي وفي مُقابِل ذلك فسوف يَصِل إليهم ويَنْزِل عليهم مع الوقت أنباء أيْ أخبار وأمثلة من أنواع العذاب المختلفة جزاء استهزائهم وتكذيبهم، والتي حَدَثَت لسابقيهم مِمَّن كذّبوا واستهزأوا، والتي نَبَّأَ أيْ أخْبَرَ بها القرآن ولكنهم كانوا يَستهزئون بها ويَسخرون منها، لأنهم لم يكونوا يُصَدِّقونها أصلاً ولا يَتَصَوَّرون أنها من المُمْكِن أنْ تَحْدُث لهم حيث هم أقوي من هؤلاء السابقين! ثم هم لا يُصَدِّقون بوجود الله أصلا! ولو كان موجوداً فهو غير قادر علي تعذيبهم!! إنهم سَيَرَوْن حتماً بسبب هذا الاستهزاء والتكذيب – إنْ لم يَتوبوا ويُسْلِموا – درجة مَا وصورة مَا من درجات وصور العذاب بما يُناسب أفعالهم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ علي المسلم أن يكون من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فَعَلَ مثله بما يُناسبه وازدادَ منه وطوَّرَه وسَعِدَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبه تماما فلا يَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروساً وعظات وخبرات هائلة يمكن تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
ومعني "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴿6﴾" أيْ ألم يُشاهِد هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا أنّنا كثيراً ما أهلكنا من القرون السابقة قبلهم – والقَرْن هم مجموعة من الناس تعيش في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض – وقد سَمِعوا عنهم واشتهرَت أخبارهم وتناقلوها فيما بينهم ومَرُّوا علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة كعادٍ وثمود وغيرهم، وقد أعطيناهم التمكين في الأرض أيْ أسباب القوة والبقاء ما تمكَّنُوا بها من أنواع التّصَرُّف فيها ما لم نُعطِكم أيها المُكَذّبون الحَالِيُّون مِن كل أنواع القُوَيَ الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها، حيث كانوا أشدّ منكم قوة ومالاً وسلطاناً ونفوذاً، وأنزلنا عليهم بقدرتنا وفضلنا ورحمتنا من السماء مطرا مِدْرَارَاً أيْ كثير الدُّرُور أيْ السَّيَلان أيْ غزيراً مُتَتَابِعَاً بلا أضرار لينتفعوا وليسعدوا بكل خيراته وأرزاقه من زروع وثمار وحيوانات وغير ذلك فى كل شئون حياتهم، وجعلنا الأنهار تجري من تحت مساكنهم وأراضيهم بالمياه السَّهْل الحصول عليها يسقون منها زروعهم وثمارهم وحيواناتهم لينتفعوا بخيراتها ويَتمتّعون بمناظرها الجميلة وينتقلون بسُفُنِهم من خلالها وينقلون تجاراتهم فيَربحون.. لكنَّ كلّ هذا لم يستطع أن يَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم!! فهل كان لهم أيّ مَهْرَب ومَفَرّ ومَلْجَأ ونَجاة؟! بالقطع لا، فمَن كان أضعف منهم مثلهم فليكن إذن أكثر حَذَرَاً فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوَان ونزول العذاب! ألا يَتَّعِظون؟! هل عَمُوا عن هذه الحقائق؟! ولكنَّ السبب أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.." أيْ فكَذّبوا ولم يَشكروا نِعَم الله عليهم بأنْ يُحْسِنوا استخدامها بل استخدموها في كلّ شَرٍّ فعاقبناهم علي ذلك بأنْ أَبَدْنَاهم وأَفْنَيِنَاهم بزلازل وصواعق وفيضانات وأوْبِئَة وأمراض وحروب وغيرها بسبب كثرة ذنوبهم وأهمها تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وإصرارهم التامّ علي هذا بلا أيِّ خطوةِ عَوْدَةٍ لربهم ولإسلامهم.. ".. وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴿6﴾" أيْ وأوْجَدْنا وخَلَقْنا من بعدهم أناساً غيرهم، وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم أنه تعالي كما قَدَرَ على أن يهلك مَن كذّبوا قبلهم ويُنْشِيء مكانهم آخرين يَقْدِر قطعاً أن يفعل ذلك بهم.. ولو آمنَ هؤلاء الذين سيَخلفوهم سعدوا في الداريْن لكن إنْ كانوا مثل سابقيهم تعسوا وهلكوا أيضا مثلهم فيهما.. إنه تعالي قادرٌ تمام القدرة علي إذهابهم وإنهائهم من الحياة الدنيا في أيّ وقت، بقوّته سبحانه التي يَرَوْنها ويَعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره، والإتيان بعدهم بخَلْقٍ جديدٍ آخرين من ذرِّيَّاتهم وذرِّيَّات غيرهم كما خلقهم هم، فيعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم، وهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيز أي صعبٍ أو بعيد التحقّق.. فلينتبهوا لهذا تماما إذَن هم وجميع الناس وليعبدوه وحده وليتوكّلوا عليه وحده وليتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾.. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم.. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان.. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ الله تعالي حتماً علي ذلك الذهاب بهم والإتيان بآخرين قدير أيْ كثير عظيم القُدْرة الذي لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فعله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد.. إنَّ في هذه الآية الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشيراً للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿7﴾" أيْ إنَّ الذين كفروا أي كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، لا يَنْقصهم الدليل على صِدْقك يا رسولنا الكريم محمد ولكن الذي ينقصهم هو إحسان استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فإننا لو نَزّلنا عليك كتابا من السماء في قِرْطاسٍ – وهو ما يُكتب فيه من ورقٍ أو جلدٍ أو غيره – دفعة واحدة كاملا في ورقة واحدة فشاهدوه بأعينهم وهو نازِلٌ عليك ولَمَسُوه بأيديهم منذ وصوله إلى الأرض وتأكّدوا منه بعد ذلك بجميع حواسِّهم وبكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ بحيث لا يبقي عندهم أيّ شكّ، لو أننا فعلنا ذلك لقالوا مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين ما هذا الذي شاهَدْناه ولَمَسْناه وأدْرَكناه إلاّ سحر مبين!! أيْ إلاّ سِحْر واضح يَسْحر العقول بأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وليس من الله وأنك ساحر لا رسول يُوحَيَ إليك، بما يدلّ علي إصرارهم التامّ علي ما هم فيه من إغلاقٍ لعقولهم وعدم إيمانهم رغم كل الأدِلّة الواضحة التي لا يمكن رفضها من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴿8﴾"، "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴿9﴾" أيْ هذا بيانٌ لمزيدٍ من مُرَاوَغَتِهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وغَلْقهم لعقولهم.. أيْ وقال هؤلاء المُكَذّبون أيضا لو أنزل علي هذا الرسول من ربه مَلَكٌ من السماء يَشهد بصِدْقه ويُساعده ويُؤَيِّده ونسمع كلامه ونراه لكُنّا آمنّا به أيْ صَدَّقناه!!.. ".. وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴿8﴾" أيْ ولو استجبنا لهم وأرسلنا معه ملكاً كما يقترحون ويطلبون، ثم عانَدُوا ولم يؤمنوا لأُنْهِيَ وتُمِّمَ ونَفَذَ الأمر بإهلاكهم وإنهاء حياتهم ثم لا يُمْهَلُون أيْ لا يُؤَخَّرون ولا يُتْرَكون ولو للحظة حتي يُراجِعوا أنفسهم ويَتوبوا ويُؤمنوا، بل يأخذهم العذاب فوراً، فهذه هي طريقة الله تعالي مع مِثْل هذا النوع من المُكَذّبين أمثالهم والذين سَبَقوهم أنهم كانوا إذا اقترحوا وطلبوا مُعجزة واستجابَ لهم وأعطاهم إيّاها ولم يؤمنوا يُعذّبهم بالإهلاك لأنَّ هذا هو أسوأ أنواع التكذيب ويدلّ علي تمام الإصرار وألاّ أمل في الاستجابة بعد ذلك، وهو تعالي لا يريد أن يهلك هذه الأمة التي بَعَث فيها خاتم رسله نبي الرحمة للعالمين ﷺ ومعه آخر كتبه القرآن العظيم المستمرّ معهم يهديهم لكل خير وسعادة حتي يوم القيامة بسبب إجابة مقترحات أولئك المُعانِدين المُستكبرين، بل من رحمته يَتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن.. إنَّ عدم الاستجابة لمِثْل هذا الطلَبَات التي تُظْهِر شِدَّة العِناد والتكذيب والغَلْق للعقول والجهل التامّ بسوء وضَرَرِ وتعاسة نتائج مِثْل هذه الأحوال من بعض الناس حين يَكفرون ويُخَالِفون ربهم وإسلامهم، يُظْهِر عظيم رحمة الله تعالي بخَلْقه وحِلْمه علي المُسيئين منهم وإرادته لإصلاحهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴿9﴾" أيْ ولو افْتِراضَاً جعلنا الرسول المُرْسَل إليهم مَلَكاً كما طَلَبوا لأنهم لم يقتنعوا بالرسول الكريم محمد ﷺ لأنه بَشَرٌ مثلهم، لجعلنا ذلك المَلَك رجلاً أيْ في صورةِ بَشَرٍ أيضا، فالحِكْمَة تَتَطَلّب ذلك، حتى يستطيعوا مشاهدته وسماع أخلاق الإسلام منه ومُخاطَبته والتفاهم معه وسؤاله والتّعَلّم منه، لأنَّ البَشَرَ في الدنيا ليسوا مُؤَهَّلِين لرؤية المَلَك والتعامُل معه وهو على صورته الملائكية، ولَخَلَطْنا عليهم بهذا الفِعْل مِثْل ما يَخْلِطون هم على أنفسهم بسبب اسْتِبْعادهم أن يكون الرسول بَشَرَاً مثلهم كالرسول الكريم محمد ﷺ أيْ سيقولون لهذا المَلَك المُرْسَل إليهم في صورةِ بَشَرٍ لستَ مَلَكَاً لأنهم لا يُدْركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تَمَثّل بها أمامهم وحينئذٍ يَقعون في ذات اللبس والاشتباه والخَلْط الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جَعْل الرسول بَشَرَاً وبالتالي لن يؤمنوا به أيضا!! فالمشكلة إذَن ليست في كَوْن الرسول مَلَكَاً أو بَشَرَاً بل المشكلة فيهم هم وفي مُراوَغتهم وتكذيبهم وعنادهم واستكبارهم حتي لا يتّبعوا الإسلام الذي لو اتّبعوه لأسعدهم في الداريْن لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولاً من البَشَر ثم لو جاءهم بَشَرَاً لطَلَبوا مَلَكَاً وهكذا مُرَاوَغَة بعد مراوغةٍ لا تنتهي!!.. إنه من رحمة الله تعالي وفضله وكرمه ورزقه ووُدّه علي الناس جميعا أن يُرْسَل إليهم رُسُلَاً منه أيْ مَبْعُوثين يكونون منهم بَشَرَاً مثلهم يعرفونهم فيُصَدِّقونهم ويَثقون بهم وبحُسن خُلُقهم ويُطَبِّقون الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم ولو كان الرسل ملائكة لكان من المُمْكِن أنْ يَسْتَثْقِل بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!!
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿10﴾ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد ﷺ قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿10﴾"، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿11﴾" أيْ ولقد سَخِرَ الكفار كثيراً – ومَن يَتَشَبَّه بهم – برسلٍ كرامٍ مِن قبلك سابقين لك يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده، فكان نتيجة ذلك الحَتْمِيَّة وبسببه أنْ عاقبناهم بأنْ حاقَ أيْ أحاطَ وحَلَّ ونَزَلَ بالساخرين المُستهزئين المُسْتَخِفّين منهم مِن كلّ جانبٍ العذاب المُوجِع المُهين المُستمرّ المُتَنَوِّع، بسبب استمرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وعدم اتّباعهم للإسلام، عذاب في الدنيا بدرجةٍ مَا مِن الدرجات كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة سيُحيط بهم حتماً ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. فاصبروا أيها المسلمون حتي يأتيكم النصر ولكم أجركم العظيم علي ذلك في الداريْن.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وإنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل).. "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿11﴾" أيْ اذْكُر لهم وذَكِّرْهم يا محمد ﷺ ويا كلّ مسلمٍ ويا كلّ قاريءٍ للقرآن الكريم واطلب منهم أن يَتَنَقّلوا في كل جوانِب الأرض ما استطاعوا وينظروا ويشاهدوا بأبصارهم ويتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم والذين كانوا يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟!.. وفي هذا الطلب توسيع لدائرة التدبُّر، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك لأنهم كانوا يُكَذّبون ويظلمون بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كان لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ﴾، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿12﴾ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿13﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿12﴾" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لمَن كلّ ما في السماوات والأرض وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد بمجرد أن يقول له كن فيكون ولا يصعب عليه شيء، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، وبالتالي فمَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بذلك، كما أنَّ فيه ذَمَّاً علي تكذيبهم وعنادهم.. ".. قُلْ لِلَّهِ.." أيْ سواء سألوا مُسْتَفْسِرين لمَن يكون ما فيهما أم أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بأنه لله وحده أم امتنعوا عن الإجابة فسَارِع أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد لا يحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِرٍ وقل لهم هو لله فهو مَالِكه وحده بلا أيِّ شريكٍ له فهذه هي الإجابة الصحيحة التي يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أنَّ جميع المخلوقات لله رب العالمين كما يُؤَكّد ذلك سبحانه بقوله "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" ﴿لقمان:25﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني﴾ حيث لم يَخْلِق ما فيهما حتماً أيُّ أحدٍ غيره ولا بالقطع آلهتهم التي يَزْعُمونها كأصنامٍ أو غيرها!.. فاعبدوه أيْ أطيعوه بالتالي إذَن وحده.. إنَّ الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه.. ".. كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ.." أيْ وأنه هو الذي قد أوْجَبَ علي نفسه الرحمة بالناس وبكلّ خَلْقِه في كلّ كَوْنِه في الدنيا والآخرة أيْ التزمَ وقَضَيَ وحَكَمَ ووَعَدَ أنْ يَرحم وَعْدَاً أكيداً لا يُخْلَف أبداً منذ بدء خَلْقهم تَفَضُّلاً منه وكرماً وإحساناً، فهذه من صفاته تعالي والذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وذِكْر النفس هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وَعْده وأنه لا واسِطَة بينه وبينهم، وذِكْر لفظ "كَتَبَ" يُفيد كأنَّ الرحمة قد سُجِّلَت في كتابٍ لمزيدٍ من تأكيدها ووجوب تنفيذها، وفي هذا اجتذاب منه تعالى للمُبْتَعِدين عنه لكي يعودوا مُسرعين إليه وإلي إسلامهم ليسعدوا تماما في الداريْن حيث باب التوبة مفتوح دائما ورحمته وَسِعَت كل شيءٍ ودائماً تَسْبِق غضبه، ومِن مظاهر هذه الرحمة الواسعة التي لا تُوصَف، في الدنيا أولا قبل أخراهم، أنه يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم، ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. ".. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ.." أيْ وأنه هو الذي سيَجمعكم بكل تأكيدٍ في يوم القيامة الذي لا شكّ فيه حيث يَبعثكم جميعا منذ آدم ﷺ وحتي نهاية الحياة الدنيا بأجسادكم وأرواحكم مِن قبوركم بعد كوْنكم تراباً ويُخبركم بكل ما عملتم وقلتم في دنياكم ليُحاسبكم عليه بتمام العدل بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة حيث قد حَصَره وجَمَعه وحَفِظه سبحانه تمام الإحصاء والحفظ وسَجَّله في كتبٍ خاصة بكل واحد منكم بكل دِقّةٍ ، فانْتَبِهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿12﴾" أيْ الذين لا يؤمنون هم الذين خسروا أنفسهم أيْ أهلكوها وأضاعوها حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شَكّ.. كذلك من المعاني أنَّ الذين خسروا أنفسهم بسبب تعطيلهم لعقولهم وهي أهم ما يُمَيِّزهم عن بقية المخلوقات بأنْ عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فهم لا يؤمنون أيْ لا يمكنهم بالقطع أن يؤمنوا وهم هكذا بعقلٍ مُعَطّل! وبالتالي سيَخْسَرُون قطعا، لأنهم قد ضَيَّعُوا أنفسهم وعَرَّضُوها للعذاب في هذا اليوم بسبب كفرهم أيْ تكذيبهم بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فهؤلاء حتماً هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿13﴾" أيْ ولله تعالي جميع ما اسْتَقَرّ وتَحَرَّك – ولم يُذْكَر التَّحَرُّك لأنه معلومٌ بالضرورة للسامع – وَوُجِدَ في كل زمانٍ ومكانٍ من إنسانٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ وغيره من المخلوقات، وبالجملة، كما في الآية السابقة، له كلّ ما في السماوات والأرض، ساكِن أو مُتَحَرِّك ظاهِر أو خَفِيّ، وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد بمجرد أن يقول له كن فيكون ولا يصعب عليه شيء، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، وبالتالي فمَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿13﴾" أيْ وهو الذي له كلّ صفات الكَمَال الحُسْنَيَ والتي منها أنه السميع أيْ الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو العليم بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل الأقوال والأفعال لجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿14﴾ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿15﴾ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الله تعالي دائماً وَلِيَّا ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئاً لك نِعْمَ الاختيار هذا، حيث سيُوَفّر لك الرعاية كلها، والأمن كله، والتوفيق والسَّدَاد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ من المُسَارِعين إلي الإسلام، إلي التمسّك والعمل بكل أخلاقه في كل شئون حياتك لتسعد بذلك في الداريْن.. وإذا كنتَ عابِدَاً أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿14﴾" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، اسألهم علي سبيل الذمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك، قل لهم هل أتّخِذ وَلِيَّاً غير الله تعالي أيْ وَلِيّاً لأمري وناصراً ومُعِينَاً لي في كل شئون حياتي؟! هل أعبد أيْ أطيع غيره وأتّبِع غير دينه الإسلام لأفقد سعادتي في دنياي وأخراي مثلكم؟! إنَّ هذا لن يكون أبداً!! وكيف يكون ذلك والحال والواقع أنه هو وحده سبحانه فاطر السماوات والأرض أيْ خالِقهما ومُبْدِئهما – وكلّ الخَلْق فيهما – مِن عدمٍ وعلي غير مثالٍ سابقٍ أيْ لم يُقَلّد أحداً وإنما مِن إبداعه واختراعه تعالي؟! وأنتم تُقِرُّون وتَعترفون بذلك ولا يُنكره أحدٌ منكم كما يُؤَكّد ذلك سبحانه عنكم بقوله "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" ﴿لقمان:25﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني﴾، وكذلك هو يُطْعِم ولا يُطْعَم أيْ يَرْزق خَلْقه بكلّ أنواع الأرزاق ولا يُرْزَق من أيِّ أحدٍ منهم – وتَمَّ تخصيص الطعام لشِدَّة ولكثرة الاحتياج إليه – لأنه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ وهو الذي يُغْنِي كلّ مخلوقاته ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ يرزقهم به والجميع يحتاجون احتياجا تامّا له الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ.." أيْ اذْكُر لهم وذَكّرهم كذلك – بعد كل هذه الأدِلّة القاطِعَة لكل عاقلٍ علي أنَّه تعالي وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة ولاتّخاذه وَلِيَّا – أنَّ الله أمرني أنْ أكون أول مَن يُسَارِع إلي الإسلام أيْ الاستسلام لوصاياه وتشريعاته أيْ إلي التمسّك والعمل بكل أخلاقه والثبات دائما عليها في كل شئون حياتي لأسعد بها ثم بالآخرة ولأكون قُدْوَة لغيري فيتّبعوني بكل سهولةٍ ويُسْرٍ ووَعْيٍ وإقبالٍ وبكل اختيارٍ ودون أيّ إجبارٍ لَمَّا يَروا أثر الإسلام علي إسعاد الحياة، وكذلك علي كل مسلم أن يكون هكذا ليسعد فيهما هو أيضا وليكون كذلك قدوة لغيره فينال أعظم الأجر حيث يَدُلّهم علي هذا الخير وهذه السعادة في الداريْن فيسعد ويسعدوا جميعا فيهما كما يقول ﷺ مُنَبِّهَاً لهذا ووَاعِدَاً به ووَعْده الصدْق حتي ينتشر الخير والسرور " إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" ﴿رواه الترمذي﴾، فهو لا يدعو إلي خُلُقٍ لا يَعمل به بل هو أول عاملٍ به وإلا لم يَثِق به ويَتّبعه أحدٌ وابتعدوا عن الإسلام الذي يدعوهم إليه وعُوقِبَ من الله علي ذلك في دنياه وأخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيتين ﴿2﴾، ﴿3﴾ من سورة الصَّفّ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿2﴾"، "كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿3﴾"﴾.. ".. وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿14﴾" أيْ ونَهَانِي أيْ مَنَعَنِي وحَذّرَنِي أن أكون أبداً بالتأكيد من المشركين به أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه، وإلا تعستَ تمام التعاسة مِثْلهم في دنياي وأخراي بسبب بُعْدِي عنه وعن ديني الإسلام
ومعني "قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿15﴾"، "مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴿16﴾" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس ولأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم وذَكّرهم بخوفك من معصية الله أيْ عدم طاعته في اتّباع أخلاق الإسلام وترْكها بعضها أو كلها أو الابتعاد التامّ عن الإسلام بكفرٍ أي تكذيبٍ بوجودِ الله أو شركٍ أي عبادةٍ لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أو نفاقٍ أي إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ أو اعتداءٍ وعدم عدلٍ أو فسادٍ ونشرٍ له أو ما شابه هذا، ذَكِّرْهم حتي لا يقعوا في هذه المعاصي فيتعسوا في دنياهم وأخراهم، ذَكِّرْهم بعذابِ يومٍ عظيمٍ وهو يوم القيامة حيث العذاب الشديد في نار جهنم علي قدْر الشرور والمَفاسِد والأضرار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وذَكِّرْهم أيضا بعذاب الدنيا الذي يكون فيه الفاسِد بدرجةٍ مِن الدرجات وبصورةٍ مِن الصور بسبب فساده وضَرَره حيث يكون في قَلَقٍ أو تَوَتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين.. هذا، ومن المُفيد تذكرتهم بأنّ الرسول ﷺ وهو مَن هو ومع عظمته لو فُرِضَ وعَصَيَ فإنه لن يَأْمَن مِن العذاب فكيف بهم هُم ؟!.. "مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴿16﴾" أيْ من يُبْعِد ويُذهِب الله عنه ذلك العذاب الشديد الذي لا يُوصَف يومها أيْ يوم القيامة، بسبب تَجَنّبه له في حياته من خلال إسلامه وعمله بأخلاقه، فقد رحمه الله حتماً ونَجَّاه وأنْعَمَ عليه بدخول الجنة حيث نعيمها الدائم الذي لا يُوصَف، وسيكون ذلك الإبعاد والنعيم والرفق بالقطع هو الفوز والنجاح المُبِين أي الظاهِر الواضِح الذي لا يُقَارِبه أيّ فوزٍ آخر وليس بعده أيّ فوزٍ أعظم وأكبر منه يُمكن تحقيقه حيث هو تمام الخَلاَص مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ والتحصيل لكلّ خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما ناله مِن أعظم فوزٍ في دنياه تَمَثّل في سعادته التامّة بتواصُله الدائم مع ربه ودينه
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿17﴾ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ تَقْدير وتَدْبير الله هو دائما الخير والسعادة لك ولمَن حولك وللخَلْق جميعا، حتي وإنْ ظَهَرَ لك في ظاهرِ أمرٍ مَا بعض الشرّ لفترةٍ مَا فسَتَجِد كله الخير مع الوقت تدريجيا إنْ تَعَمَّقْتَ في باطنه.. وإذا تأكّدتَ بلا أيِّ شكّ أنَّ الله تعالي علي كل شيءٍ قديرٌ وهو يفعل ما يشاء، فهذا سيُعطيك حتماً دَوْمَاً الأمان والاستقرار والاستبشار والسعادة في الدنيا مع حُسْن الاستعداد للآخرة من أجل مزيدٍ من السعادة.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا، ومعني "وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿17﴾"،"وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿18﴾" أيْ وهذا، إضافة للآيات السابقة، مزيدٌ من بيان أنه تعالي وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ولاتّخاذه وَلِيَّاً فهو وحده لا غيره النافع الضارّ، والجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. أيْ وإذا حَدَثَ ولَمَسَك وأصابك الله بضَرَرٍ مَا أيها الإنسان، أيْ بشيءٍ مَا يَضُرّك ويُسيء إليك في صحتك أو مالك أو عملك أو أحبابك أو ما شابه هذا، سواء بسبب خطأٍ منك أو من غيرك أو بسببٍ عامٍّ من الله تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له وللخير، مع مراعاة أنَّ معظم الضرر الذي يصيب الناس هو في الغالب يكون بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التي كسبوها وحَصَّلوها وفعلوها بأيديهم وأرجلهم وعقولهم وسوء تصرّفاتهم، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، فلا كاشِفَ له مطلقاً أيْ لا رافِع ولا مُذْهِب ولا مُزِيل له عنك إلا هو سبحانه، فهو الذي يُيَسِّر لك أسباب التّخَلّص مِمَّا قد يَقَع بك من أضرار، إمَّا بتوفيقك مباشرة لها، أو يُيَسِّر لك خَلْقَاً من خَلْقه ليُعاونوك.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أنْ يكونوا من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي – أيْ المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أيْ مِمَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وفيه أيضا تنبيهٌ وتحذيرٌ لهم ألاّ يعبدوا أو يتوكلوا علي غيره عند إصابتهم بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبار ما (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا﴾، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فيدعوا أو يعتصموا أيْ يَتَحَصَّنوا بغيره ويلجأوا إليه مُتَيَقّنِين أنه هو الذي سيُنجيهم وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينهم أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية ﴿76﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك﴾.. ".. وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿17﴾" أي وإنْ يَمْنَحك خيراً مَا وهو ما يَنفعك ويُسعدك بأنْ يُيَسِّر لك أسبابه فلا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يَمنع عنك خيره وفضله وكرمه إلا إذا أراد هو مَنْعه وإذهابه وعدم حِفْظه لك لأنه وحده على كل شيءٍ قدير، علي النفع والضرّ، بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يَمنعه مانِع ولا يَصعب عليه شيء.. "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿18﴾" أيْ وهو الغالب لكلّ شيء، فالجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. ".. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿18﴾" أيْ وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم، الخبير بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، العليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة ودرجة تقواهم وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، فليجتهدوا إذَن في تحصيل أعلي درجاتها وسيُجازيهم بما يستحِقّون في الدنيا والآخرة.. وكل هذا يَدلّ علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة لأنه هو وحده لا غيره تعالي المُتَّصِف بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿19﴾ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20﴾ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿21﴾ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿22﴾ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴿23﴾ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿24﴾ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿25﴾ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿26﴾ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿27﴾ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿28﴾ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴿29﴾ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿30﴾ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴿31﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿19﴾" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم حين يطلبون منك شهادة أحدٍ من الناس علي صِدْقك فيما تُبَلّغهم به من إسلامٍ وعلي أنَّ الله تعالي هو الواحد الأحد المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريك، قل لهم أيّ شيءٍ عندكم في هذا الكوْن شهادته هي أعظم وأصدق وأعدل وأقوي وأنْقَيَ شهادة بحيث تُقْبَل شهادته ولا يُمكن أبداً أن تُرْفَض وتُثْبِت صِدْقي فيما أخبركم به؟.. ولفظ "شيء" يعني أيّ موجودٍ في الوجود ويُفيد الشمول والإحاطة والاسْتِقْصاء وبلوغ الغاية في البحث.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بذلك كما أنَّ فيه ذَمَّاً علي تكذيبهم وعِنادهم.. ".. قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.." أيْ قل لهم سواء أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بما ستقوله لهم أم امتنعوا عن الإجابة مُبَادِرَاً مُسَارِعَاً أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد صحيح لا يَحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِر، حيث الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه، قل لهم إنَّ الله الذي أقررتم أنه وحده له مَن في السماوات والأرض كما في الآية ﴿12﴾ هو أعظم شاهد بينى وبينكم على صِدْق ما جئتكم به، وكفي به شهيداً أيْ يَكفيني ويَكفي كلّ مسلم كفاية تامّة – ولا نحتاج أبداً لأيّ شهادة أخري منكم ولا مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أيْ الشاهد الذي يَشهد والحاكِم الذي يَحكم بيني وبيننا وبينكم، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك لأنه يستحيل عليه الكذب أو الخطأ أو السهو أو المُحَابَاة أو المُجَامَلَة أو غير ذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها، وسيكون حُكمه بيننا وبينكم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه خالق الخلق الذي يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أي خافية مِمَّا تقولونه أو تفعلونه أنتم أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا ومِمَّا يفعله المؤمنون أهل الخير.. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم، وتمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. إنني لو كنتُ كاذباً فلا يَليق بحكمته وقُدْرته سبحانه أن يُقِرَّ مَن يكذب عليه! بل ويُؤَيِّده بمُعجزاته التي تُعينه وتَنصره!! إنَّ هذا يَستحيل أن يقبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل!! إنه سيَسْحَقه حتي لا ينتشر كذبه والشرّ ويَبْقَيَ الخير!! فبما أنه تَرَكَنا نحن المسلمين ندعو له وللإسلام بل ونَصَرَنَا وأيَّدَنا ونَشَرَ الإسلام علي أيدينا فنحن إذَن علي الحقّ بكل تأكيد!! وهذه أعظم شهادة منه تعالي لرسوله الكريم ﷺ وللمسلمين أنهم علي الحقّ التامّ، فأيّ شهادة أكبر مِن هذه الشهادة؟.. هذا، ومِمَّا يُؤَكّد كذلك شهادة الله له علي صِدْقه ﷺ ما أوحاه إليه في آيات القرآن العظيم مِن أنّه قد أرسله بالهُدَىَ ودين الحقّ ولذا قال ".. وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.." أيْ وقد أنْزَلَ الله علىّ هذا القرآن ليكون دليلاً قاطِعَاً علي صِدْقِى لأنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمِثْله إذ قد أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، ولأُحَذّركم به أنتم وكل مَن بَلَغَه خَبَره ووَصَلَ إليه في كل زمانٍ ومكانٍ إلي قيام الساعة، أحذّركم مِن الشرّ والتعاسة لمَن لا يعمل بأخلاق الإسلام التي فيه في دنياه وأخراه علي قَدْر ما تَرَك منها وخَالَفَها، وأُبَشّركم بتمام الخير والسعادة فيهما لمَن يعمل بها.. هذا، ولم يُذْكَر التبشير لأنَّ سياق الآية يتعامَل مع المُكَذّبين.. ".. أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿19﴾" أيْ هذا إعلانٌ قويٌّ صريحٌ من الرسول الكريم ﷺ ومن كل مسلمٍ بالبراءة من كل مَعْبُودٍ يُعْبَد غير الله تعالي ومزيدٌ من التأكيد علي عبادته هو وحده بلا أيَّ شريكٍ فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، قل لهم هل أنتم تُقِرُّون وتَعترفون أنَّ مع الله آلهة أيْ مَعْبُودات تُعْبَد غيره كأصنامٍ وأحجار وكواكب وغيرها؟ ثم قل لهم لا أشهد بذلك أبداً ولا أقوله ولا أعترف به ولا أُقِرّكم عليه، وإنما المَعْبُود بحقّ إله واحد لا شريك له وهو الله تعالي، وإننى بَرِيء مِمَّا تُشركون به أيْ بعيد كل البُعْد من أيِّ شريكٍ تعبدونه معه أيْ مُتَبَرِّيء مِمَّا تعبدونه غير الله تعالي من آلهةٍ كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نار أو غيره رافض لها غير مُعْتَرِف بها ولا راض عنها ولا صِلَة بيني وبينها وأنا ضِدَّها وأعاديها
ومعني "الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20﴾" أيْ هذا بيانٌ لشهادةٍ إضافيةٍ علي صِدْق الرسول ﷺ وهي شهادة أهل الكتاب.. أيْ الذين أعطيناهم الكتاب قبل القرآن كالتوراة لليهود والإنجيل للنصاري يعرفونه أي الرسول ﷺ أنه رسول الله حقاً وصِدْقَاً بأوصافه المذكورة في كُتُبهم، وكذلك يعرفونه أي القرآن العظيم الذي أوحِيَ لهذا الرسول الكريم الصادق الأمين وما فيه من دين الإسلام أنه أيضا حقّ وصِدْق، تماماً مِثْل معرفتهم بأبنائهم التي ليس فيها أيّ شكّ.. ".. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20﴾" أيْ الذين لا يؤمنون هم الذين خسروا أنفسهم أيْ أهلكوها وأضاعوها حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شَكّ.. كذلك من المعاني أنَّ الذين خسروا أنفسهم بسبب تعطيلهم لعقولهم وهي أهم ما يُمَيِّزهم عن بقية المخلوقات بأنْ عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فهم لا يؤمنون أيْ لا يمكنهم بالقطع أن يؤمنوا وهم هكذا بعقلٍ مُعَطّل! وبالتالي سيَخْسَرُون قطعا، لأنهم قد ضَيَّعُوا أنفسهم وعَرَّضُوها للعذاب في هذا اليوم بسبب كفرهم أيْ تكذيبهم بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فهؤلاء حتماً هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. وبالتالي فإذا لم يَشهد أمثال هؤلاء بصِدْقه ﷺ أو شهدوا بعدم صِدْقه ولم يُسْلِموا فلا قيمة لهم ولا لشهادتهم فهم كاتِمون للحقّ أصلا
ومعني "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿21﴾" أيْ لا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله الكذب أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل ما، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذبا وزورا وتخريفا أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه! أو أتَيَ بكتابٍ غير القرآن الكريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. ".. أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ.." أي كذّب ولم يُصَدِّق بآيات الله سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حوله أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّق بالبَعْث أيْ إحيائه بعد موته لمُلاقاة ربه في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿21﴾" أيْ بكل تأكيد لا يفلح الظالمون أي لا يفوزون ولا ينجحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم.. والظالم هو كل مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوعٍ من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشر أم ما شابه هذا
ومعني "وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿22﴾" أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي جميع البَشَر، ثم يُخاطِب الذين أشركوا أيْ كانوا يَعبدون غيره سبحانه كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها، ليكون ذلك الخطاب نوعا من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ في النار، حيث تَبدأ الحقائق في التّكَشُّف ويبدأ تَبَرُّؤ الذين كانوا يُعْبَدون مِمَّن كانوا يَعبدونهم فتكون بهذا الحجَّة عليهم أقويَ وأشدّ ولا يكون لهم أيّ دفاع يدافعون به عن أنفسهم، يُخاطِبهم قائلا لهم علي سبيل الذمّ والتحقير والترهيب أين آلهتكم التي كنتم تدَّعون أنها شركاء مع الله تعالى في العبادة؟! أين هي الآن حتي تَنفعكم وتُنقذكم في هذا اليوم الشديد عليكم؟!
ومعني "ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴿23﴾" أيْ ثم لم تكن نتيجة فتنتهم أيْ اختبارهم بسؤالهم عن شركائهم ونتيجة مِحْنَتِهم ومُصيبتهم الشديدة التي هم فيها في هذا الموقف الذي لا يُوصَف وعند رؤيتهم للحقائق التي لا يُمكنهم إنكارها إلا محاولة التّخَلّص من شِرْكهم السابق في دنياهم بالكذب مُتَوَهِّمِين أنَّ التّبَرُّؤ من الشّرْك في الآخرة سيُنجيهم من العذاب فقالوا حَالِفين بالله كذباً ما أشركنا في العبادة أحداً غيرك يا ربنا
ومعني "انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿24﴾" أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف كذب هؤلاء المشركون علي أنفسهم حين أقسموا بالله ما كانوا مشركين مُتَبَرِّئين مِن شِرْكهم مُسْتَخْدِمِين الأخلاق السيئة التي كانوا يَتّصِفون بها في الدنيا من الكذب والافتراء والذي لن يَنفعهم حتماً في الآخرة لأنه تعالي لا يَخْفَيَ عليه شيء فَهُم إذَن لا يكذبون إلا علي ذواتهم لأنَّ كل الأمور حينها ستكون واضحة مكشوفة للجميع، فالإنسان قد يَكذب لصالحه في دنياه مُخْفِيَاً الحقيقة عن غيره لكنَّ كذبه أمام الله في أخراه سيكون على حسابه قطعا لا له لأنه سيزيده فضيحة وعاراً وعذاباً نفسياً قبل الجسديّ في النار.. ".. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿24﴾" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يعبدون غير الله تعالي ما كانوا يعبدونه في دنياهم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعهم قطعا بأيّ شيء ولن تنقذهم ممّا هم فيه، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم كلّ أدِلّة علي ما كانوا يدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياهم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعهم أو تمنع الضرَرَ عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿25﴾" أيْ وبعضٌ مِن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالي كأصنامٍ وغيرها، ومِن المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُستهزئين المُرَاوِغِين، ومِمَّن يَتَشَبَّه بهم، يستمع إليك أحيانا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم عند قراءتك لبعض آيات القرآن العظيم استماع استهزاءٍ واستهانةٍ واسْتِعْلاءٍ وتكذيبٍ وعِنادٍ وعدم اهتمام، ولا يستمع استماع تَعَقّلٍ وتَدَبُّرٍ وتَفَهُّمٍ لِمَا فيه من إسلامٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه.. ".. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا.." أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله أن يكون هكذا، أن يَستمع ولا يَنتفع، أن يكون في الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد، فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه، هو الذي جَعَلَه وأمثاله كذلك، يستمعون للقرآن بلا تَعَقّلٍ وانتفاع، ولكنَّ الواقع أنهم في الحقيقة هم الذين جعلوا أنفسهم هكذا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، إلاّ أنْ يستفيقوا ويتركوا إصرارهم وعِنادهم ويعودوا لربهم ودينهم حينها يُعاونهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وهذا هو معني "وجعلنا"، ومعني علي قلوبهم أكِنّة أيْ علي عقولهم أغشية وأغْلِفَة حتي لا يفهموا ويَتَدَبّروا ما فيه وينتفعوا ويعملوا ويسعدوا به، وفي آذانهم وَقْراً أيْ صَمَمَاً أيْ عدم قُدْرَةٍ علي السَّمْع أيْ لا يفهمون ما يسمعونه، ولن يستجيبوا بذلك لأيِّ داعي يدعوهم لأيِّ خير، وإنْ يَرَوْا كلَّ آيةٍ من الآيات أيْ أيَّ مُعجزةٍ من المُعجزات ودليلٍ من الأدِلّة التي تدلّ على صِدْقك لا يُصَدِّقوا بها بسبب هذا العِناد والإغلاق للعقول الذي جَعَلوا أنفسهم فيه سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في القرآن الكريم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يَدَيْك لتأكيد صِدْقك.. ".. حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿25﴾" أيْ حتى ينتهي ويَصِلَ بهم هذا التكذيب والعِناد الشديد إلى أنهم إذا حَضَروا إليك لا يَحضرون لكي يهتدوا للإسلام ولكن لكي يُجادلوك ولم يَكتفوا بعدم إيمانهم بل يقول هؤلاء الذين كفروا بسبب تكذيبهم وعِنادهم وإغلاقهم لعقولهم ما هذا الذي نسمعه من القرآن العظيم إلاّ قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها!! والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءا إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم
ومعني "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿26﴾" أيْ وهؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرُهم ومَن يَتَشَبَّه بهم كذلك يمنعون الناس عن القرآن الكريم، عن سماعه واتّباعه والعمل بأخلاق الإسلام التي فيه وعن اتّباع سُنَّة رسوله الكريم ﷺ الذي جاء به، قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!! ويَنْأوْن عنه أيْ ويبتعدون عنه بأنفسهم، فهم لم يكتفوا بأنهم لم ينتفعوا ويسعدوا به بل أيضا لم يتركوا غيرهم ينتفع ويسعد به! لقد جَمَعوا بين عَمَلَيْن قَبِيحَيْن لهما عقابهما الحَتْمِيّ من الله تعالي بما يُناسب في الدنيا والآخرة حيث كانوا ضالّين مُضِلّين فاسِدين مُفْسِدين.. ".. وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿26﴾" أيْ وهم في حالتهم هذه في حقيقة الأمر لا يُدَمِّرُون ولا يُضَيِّعُون إلا ذواتهم دون أن يَحسُّوا لأنهم هم الذين سيَزدادون ضَرَرَاً وتعاسة بانغماسهم واستدراجهم أكثر في فسادهم وضلالهم دون انتباهٍ لإصلاح أنفسهم مع إضافة فسادٍ زائدٍ وهو محاولاتهم الفاشلة معظمها لإفساد غيرهم والذين سيَجتهدون في أن يُقاوموهم ولا يَتّبعوهم فلا يَحصلون إلا علي مزيدٍ من العمل الفاسد يعملونه فيَتعسون به وبنتائجه في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿43﴾ من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.."، ثم الآية ﴿54﴾ من سورة آل عمران " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿26﴾" أيْ وهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!.. إنَّ هذا النّهْي والنّأي عنه يُثْبِت تأكّد أمثال هؤلاء تماماً مِن صِدْق القرآن العظيم وقوة تأثيره فيمَن يستمع إليه لأنه يُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ والفطرة فيه والتي هي مسلمة أصلا وبالتالي فهم يحاولون فِعْل ذلك لأنه لو كان كما يَدَّعون كذباً وزُورَاً أنه أساطير الأولين لَتَرَكُوا الناس يسمعونها ليتأكّدوا هم بعقولهم من أنها خُرافات وأوْهام!!
ومعني "وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿27﴾" أيْ ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال السَّيِّء الشديد يوم القيامة الذي يكون فيه أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم حين حُبِسُوا وحُجِزُوا علي غير إرادتهم علي النار والتي كانوا يُكَذّبون بوجودها يُعانون أهوالها مُنْتَظِرين حسابهم وعذابهم فيها، يُحاسَب كلٌّ علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا، ولم يَذْكر القرآن جوابَ الشرط لأداة الشرط "لو" ليَترك للقاري أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْبٍ وذِلّةٍ ونَدمٍ ولوْمٍ شديدٍ فيما بينهم حيث يَرُدّ بعضهم علي بعض بالكلام الذي يحمل كل الندم والحسرة والكراهية والغيظ وكلّ فريقٍ يُلْقِي باللائمة والسبب لِمَا هم فيه علي الآخر، ويقولون حينها يا ليتنا نُرْجَع إلي الدنيا لنُصْلِح ما أفسدنا، ولا نُكَذّب بآيات ربنا التي كنّا نُكَذّب بها في القرآن الكريم أو في الكوْن حولنا أو معجزات الرسل المُؤَيِّدة لهم، ونكون من المؤمنين أيْ المُصَدِّقين العامِلين بكل أخلاق الإسلام! ولا ينفعهم حتماً أيّ نَدَمٍ وقتها حيث يومها يوم حسابٍ لا عمل بلا أيّ عودة للدنيا
ومعني "بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿28﴾" أيْ ليس الأمر كما يُوهِمه كلامهم أنهم يَتَمَنّون العَوْدة للدنيا للهداية والصلاح والعمل بالإسلام ولكنَّ الحقيقة أنهم تَمَنّوا عَوْدتهم لها بعد أن بَدَا أيْ ظَهَرَ لهم في الصحف التي كانت تُسَجَّل فيها أقوالهم وأفعالهم ما كانوا يُخفونه من قبل ذلك سابقا في دنياهم من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ ومُرَاوَغَةٍ ومن شرور ومفاسد وأضرار وتعاسات كانوا يفعلونها وبعد أن ظهر لهم سوء نتائج كل ذلك حيث سيُعَذّبون بالعذاب المناسب بالنار التي لا تُوصَف، وبعد أن ظهر لهم ما كانوا يعلمونه في أنفسهم جيدا ويتأكّدون منه من صِدْق ما جاءت به الرسل في الدنيا عن وجود الله والآخرة والجنة والنار والحساب والعقاب وسعادة مَن يؤمن به ويَتّبِع شرعه الإسلام في دنياه وأخراه وتعاسة مَن يُخالِفه لأنَّ هذا يُوافِق تماما كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافق ما في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا ولكنهم كانوا يُخفون كل ذلك بداخلهم ويُظهرون لأتباعهم وللناس خِلافه من كفرٍ وعِنادٍ ونحوه لتحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿28﴾" أيْ ولو فَرْضَاً رُجِعُوا للدنيا بمُتَعِها وشهواتها وهو أمرٌ مُستحيلٌ بالقطع لأنها قد انتهت وحانَ وقت حسابهم فإنهم سيَعودون بالتأكيد للذي مُنِعُوا منه من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة ومن الشرور والمفاسد والأضرار والتعاسات التي كانوا يفعلونها، لعِلْم الله تعالى بهم أنهم لا يؤمنون لو رُدُّوا إليها، لأنَّ المشكلة هي في عقولهم المُغْلَقة والتي ستكون هي هي وفي فِكْرهم المريض وكذبهم والذي سيكون هو هو! ومِمَّا يُؤَكّد ذلك أنهم كانوا في دنياهم مُصِرِّين تمام الإصرار علي إغلاق عقولهم وقد أَخَذوا الفُرْصَة بعد الأخري بتذكيرِ الصالحين لهم ولكنهم لم يَتركوا سوءهم واستمرّوا وأصَرُّوا عليه حتي موتهم من أجل تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا الرخيصة، وبالتالي فهم كاذبون بالقطع فيما يقولون ويَعِدُون به أنهم لا يُكَذّبون بآيات ربهم وسيكونون من المؤمنين عند عودتهم لها حيث هم يريدون فقط بأيِّ وسيلةٍ وكلامٍ مَنْع العذاب عنهم والإفلات منه والذي هو مُصِيبهم حتما.. إنَّ علي المسلم ألاّ يَتَشَبَّه أبداً بهذه الصفة القبيحة حيث لو أصابه ضَرَرٌ مَا وشَعر بقُرْب أجله يتوب ويعود لربه ولإسلامه ويفعل كل خيرٍ ثم لو عافاه سبحانه عادَ لِشَرِّه كما يَحدث واقعياً كثيراً من بعض المسلمين!!
ومعني "وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴿29﴾" أيْ وقال هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون، قالوا أثناء حياتهم الدنيا مُكَذّبين بالبَعْث أيْ بإحياء الموتي بأجسادهم وأرواحهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا في قبورهم ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلوا، قالوا مُكَذّبين بوجود الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب، ولذا يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، قالوا على سبيل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحيا فيها وما نحن بمَبْعُوثين بعدها أيْ وليس هناك حياة أخري نُبْعَث إليها بعد موتنا كما تَدَّعون أيها المسلمون لكي نُحَاسَب ونُعَاقَب علي الخير والشرّ بجنةٍ أو نارٍ ونحيا حياة أخري فيهما، فكلّ هذه أمور لا يُمكن تصديقها ومُسْتَبْعَدَة تماما!! فنحن نموت ثم يحيا أولادنا مِن بَعْدِنا ويموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن مُعَيَّن، وَما يُهلكنا عند انتهاء آجالنا إلا الدَّهْر أيْ إلا مرور الزمن والأيام والسنين والعُمْر ومَجِيء الموت، وهم بذلك يُكَذّبون وجود ربٍّ لهم يَخلقهم ويرعاهم ويرزقهم ويُرشدهم بشرعه الإسلام لكل خير وسعادة ويُميتهم ويَبعثهم ويُحاسبهم، وهو أسلوب يدلّ ضِمْنَاً علي شدّة التكذيب بالبعث وغَلْق العقل عن الحديث والتفكير فيه والاستبعاد التامّ له والاستكثار علي الله سبحانه القدْرة عليه!!.. والسبب في قولهم هذا هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿30﴾" أيْ ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال السَّيِّء الشديد يوم القيامة الذي يكون فيه أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم حين حُبِسُوا وحُجِزُوا علي غير إرادتهم علي حُكْم ربهم فيهم ووقفوا أمامه وعنده والذي كانوا يُكَذّبون بوجوده يُعانون أهوال هذا الموقف مُنْتَظِرين حسابهم وعذابهم، حيث يُحاسِب سبحانه كلاّ منهم علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا، ولم يَذْكر القرآن جوابَ الشرط لأداة الشرط "لو" ليَترك للقاري أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْبٍ وذِلّةٍ ونَدمٍ ولوْمٍ شديدٍ فيما بينهم حيث يَرُدّ بعضهم علي بعض بالكلام الذي يحمل كل الندم والحسرة والكراهية والغيظ وكلّ فريقٍ يُلْقِي باللائمة والسبب لِمَا هم فيه علي الآخر، ويقول حينها تعالي لهم علي سبيل الذمّ والتخويف وهم يشاهدون الأهوال التي لا تُوصَف أمامهم كنوعٍ من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ في النار سائلا إيّاهم ليُقِرُّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم هل ليس هذا الذي تشاهدونه الآن هو الحقّ والصدق الذي كنتم تكذبوه في دنياكم وقد حُذّرْتُم منه؟.. فيُقِرُّون مُعْتَرِفِين مُسَارِعِين بالإجابة مُؤَكّدين إيّاها بالقَسَمِ بسبب وضوح الأمر غاية الوضوح بحيث لا يُمكنهم غير الاعتراف قائلين مُتَذَلّلِين نعم يا ربنا إنه الحقّ الذي ليس فيه أيّ شكّ ولكنّا كنّا قوماً ضالّين شاهِدين بذلك علي أنفسهم أنهم كانوا كافرين أيْ مُكَذّبين فاعِلِين للسوء في دنياهم.. هذا، ولفظ بَلَيَ في اللغة العربية يُفيد نَفْيَ النّفْي أيْ نَفْي ما يكون بعد الاستفهام أيْ لنَفْي "أليس هذا بالحقّ" والذي يعني تصديق أنه الحقّ.. ".. قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿30﴾" أيْ قال الله لهم حينها إذا كان الأمر كما ذَكَرْتُم وشَهِدْتُم على أنفسكم، فاستشعروا إذَن ألم وتَذَوَّقوا عمليا مَرارة وشدّة وفظاعة العذاب في النار بكل أشكاله المُتَنَوِّعَة المُتَزَايِدَة غير المُتَصَوَّرَة المُؤْلِمَة المُذِلّة بسبب وفي مُقابِل كفركم واستمراركم وإصراركم عليه حتي موتكم وفِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
ومعني "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴿31﴾" أيْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد خسر الذين لم يُصَدِّقوا بمُقابَلَة الله يوم القيامة لحسابهم علي أقوالهم وأفعالهم حيث يُعطي المُحسنين كل خيرٍ وسعادةٍ في درجات جناته علي حسب أعمالهم ويُعاقِب المُسيئين بكل شرٍّ وتعاسةٍ في عذاب ناره علي قَدْر شرورهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، الذين يَستبعدون البَعْث بالأرواح والأجساد بعد موتها وكوْنها ترابا في قبورها، ولذلك يفعلون في دنياهم ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار لتَوَهُّمهم أنْ لا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار.. لقد خسروا حتما في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. إنهم بالقطع سيُحْرَمون بسبب كفرهم السعادة الدنيوية التي وَعَدَها سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم لأنهم لا يُصَدِّقون بوجودها أصلا وبالتالي فَعَلوا كلّ سوءٍ لأنه لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا.." أيْ واسْتَمَرُّوا علي تكذيبهم هذا وما هم فيه من سوءٍ إلي أن وَصَلتهم الساعة فجأة وهم غير مُستعِدّين لها، لحسابها ولنتائجها، ساعة موتهم ونهاية أجلهم في الدنيا حيث دخول القبر وبدء الحساب المَبْدَئيّ، ثم ساعة نهاية الدنيا كلها وقيام يوم القيامة وبَعْثهم للحساب الختاميّ حيث ينالون كل ما يستحِقّونه من عذابٍ تامٍّ علي سوئهم، حينها يقولون نادِمين عند رؤيتهم للأهوال يومها في وقتٍ لا ينفع فيه أيّ نَدَمٍ يا حَسْرتنا أيْ يا نَدَمنا وألَمنا الشديد علي ما ضَيَّعنا وقَصَّرنا وأهْمَلنا في الحياة الدنيا وفي الاستعداد للحياة الآخرة حيث كذّبنا بوجود الله وآخرته ولم نَتّبِع الإسلام وفَعَلنا كلّ شرّ.. ".. وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ.." أيْ وهؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم يأتون يوم القيامة وهم يحملون ذنوبهم على ظهورهم – وأوْزَار جَمْع وِزْر والوِزْر هو الحِمْل الثقيل – أيْ سيتحَمّلون نتيجة أقوالهم وأفعالهم الشديدة السوء هذه التي كانوا يفعلونها في دنياهم بذنوبٍ هائلةٍ ثقيلةٍ وبحسابٍ تامٍّ ثقيلٍ دقيقٍ كاملٍ دون أيّ نُقْصانٍ في أخراهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴿31﴾" أيْ ما أسوأ ما يحملون، إنهم سيَتَحَمَّلون نتائج شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، عاجِلاً في الدنيا حيث كل قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم آجِلاً في الآخرة حيث ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. هذا، ولفظ "ألا" في اللغة العربية يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحْسِنُون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿32﴾" أيْ ولا يَبْعُد عنكم وليَكُن في علمكم وفِكْركم دائما أيّها الناس جميعا واحذروا تمام الحَذَر أيها المؤمنون أي المُصَدِّقون بربكم المتمسّكون بكل أخلاق إسلامكم المُوقِنون بحساب الآخرة ونعيمها الخالد، أنه ليست الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، أيْ لا تَحْيُوا أبداً حياتكم مِثْل هذه الحياة الدنيا أي الدنيئة الحقيرة التي يحياها المُكذبون المُعانِدون المُستكبرون البعيدون عن ربهم وإسلامهم، حيث حياتهم كلها لَعِب أي عَبَث أيْ بلا فائدة كالأطفال التي تَحْبُو وتجتمع لِلّعَب ثم تنفضّ بلا هدف!.. كما أنها كلها لَهْو أي انشغال بما هو حقير عمَّا هو كبير وبما هو شرّ غالبا أو دائما عَمَّا هو خير.. وكلها زينة أيْ تَزَيُّن وتَجَمُّل بمُتعها والاستمتاع بها علي أيّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيرا.. وكلها تَفَاخُر بينهم وبين غيرهم أيْ ذِكْر للإمكانات من أموالٍ ومناصب وأعمال وأنساب ونحوها مصحوب بتَكَبُّرٍ وتَعَالٍ علي الغير واحتقارٍ وإذلالٍ وإساءةٍ له في الأقوال والأعمال وإضاعةٍ للحقوق وإيذاءٍ للمشاعِر ونحو ذلك من شرورٍ تؤدّي إلي التباغُض والتنازُع والتصارُع وحتي الاقتتال بين الناس.. وكلها تَكَاثر في الأموال والأولاد أيْ تَزَايُد فيها لأنَّ كل أحدٍ منهم يريد أن يكون أكثر من غيره منها ليَتَفَاخَر ويَتَبَاهَي بها عليه.. ثم تذكّروا دائما ولا تنسوا أبدا أيها المؤمنون المتمسّكون بكل أخلاق إسلامهم أنَّ هذه الحياة الدنيا – أيْ القريبة والأدني نسبة للأعلي وهي الآخرة – حتي ولو كانت كلها خير وسعادة كحياتكم فهي لا تُذْكَر بالنِسْبة إلي الحياة الآخرة الخالدة والتي أنتم مُوقِنون بها والتي فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأحْسِنوا تمام الإحسان الاستعداد لها، فهي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية، بلا أيّ موت، بلا أيّ تَعَب، بلا أيّ ذرّة تعاسة، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين.. ولو كان هؤلاء الذين يُكذبون ويُعَانِدون ويَستكبرون والذين ينسون آخرتهم، لو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم فيَتدبَّرون في هذا، ولا يتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد ولا يعلمون أنَّ هذا هو حال الحياة الدنيا، ولو كانوا يَتعَمَّقون في الأمور ويعلمون عنها بحقٍّ وليس بصورةٍ سَطْحِيَّةٍ ويستشعرونها بجدِّيَّة، لَأَحْسَنوا الاستعداد بالإيمان بربهم والتمسّك بإسلامهم ولَمَا عاشوا حياتهم هكذا بعيدين عنهما في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ.." أيْ وإنَّ الدار الآخرة حتماً بسبب ما سَبَقَ ذِكْرُه حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف هي بالقطع بلا أيّ شكّ أعظم خيرا، وخَيْرِيَّتها لا تُقَارَن بكلّ خيرِ الدنيا الزائل يوماً مَا، ولكنها ليست لأيِّ أحدٍ بل هي فقط للذين يتّقون أيْ يخافون الله ويراقبونه ويُطيعونه ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿32﴾" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك أيها الناس؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تمنعكم من هذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴿33﴾ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴿34﴾ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿35﴾ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿36﴾ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿37﴾ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴿38﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم.. وإذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحْسِن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. وإذا كنتَ متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴿33﴾" أيْ إننا نعلم وقد أَحَطْنا علماً قطعاً ونحن بالتأكيد بلا أيِّ شكّ دَوْمَاً نُحيط بتمام العلم أنك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم تَشعر بالحُزن من الذي يقولون هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم عن الله والإسلام من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ تكذيباً لك وتشويهاً للإسلام لإبعاد الناس عنه فلا يَتّبعوه وأنك تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول ﷺ "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" ﴿رواه الترمذي﴾.. ".. فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴿33﴾" أيْ فلا تَحزن، واطمئنوا واصبروا أيها المسلمون، فإنَّ النصر لكم قريبا، لأنهم في الحقيقة بداخل عقولهم وبفطرتهم بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وفيما بينهم وبين بعضهم يُصَدِّقونك تماماً ويعلمون صِدْقك وصِدْق ما جئتَ به من قرآنٍ وإسلامٍ ولكنَّ الظالمين هذا دائما حالهم – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – يَجحدون أيْ يُنكرون ويُكَذّبون بألسنتهم بآيات الله مع تأكّدهم بدواخلهم بأنها الحقّ والصدق والجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ، سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في القرآن العظيم تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يديك لتأكيد صِدْقك، وذلك حتي لا يَتّبِعوا الإسلام هم وغيرهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴿34﴾" أيْ هذا – إضافة للآية السابقة – مزيدٌ من التسلية والطَمْأَنَة للرسول ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده والتخفيف عنهم والتبشير والإسعاد لهم.. أيْ ولا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم وعلي تكذيبهم وإيذائهم بكل أنواع الإيذاء القوليّ والفِعْلِيّ حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم حتي تُنْصَرُوا مِثْلهم.. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾.. ".. وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ.." أيْ ولا مُغَيِّر أبداً لكلام الله في آياته في كل كتبه التي أرسلها مع رسله منذ خَلَقَ الخَلْق وآخرها القرآن العظيم والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ﴿الحِجْر:9﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها﴾ (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" ﴿غافر:51﴾، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" ﴿فاطر:43﴾، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" ﴿الصافات:171،172،173﴾، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" ﴿المجادلة:21﴾﴾.. ".. وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴿34﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولقد وَصَلَك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من أخبار وأنباء المرسلين السابقين فيما قصصناه عليك في القرآن العظيم ما فيه العظات والدروس والعِبَر التي تُثَبِّتك وتُعينك وتُطمئنك وتُسعدك، فلقد صَبَروا فكافأهم الله علي ذلك بعوْنهم ونَشْر إسلامهم ونصرهم والتمكين لهم وهزيمة أعدائهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم، فكونوا مِثْلهم واقتدوا بهم لتسعدوا كسعادتهم
ومعني "وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿35﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء المُكَذّبين السابق ذِكْرُهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنك لو أحْضَرْتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهم كلّ آيةٍ عظيمةٍ مُمْكِنَةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئيّة أيْ دليلٍ قاطعٍ حاسمٍ سواء أكان هذا الدليل في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم كان دليلا حاسما في القرآن العظيم، فإنَّهم يُصِرُّون علي تكذيبهم وعدم إسلامهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. أيْ وإنْ كان كَبُرَ عليك إعراضهم أيْ عَظُمَ وصَعُبَ وثَقُلَ واشْتَدَّ عليك وأحْزَنَكَ كثيراً التفاتهم وانصرافهم وابتعادهم عن الإيمان وتَرْكه وإهماله بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ومقاومتهم لنشره وإيذاؤهم لمَن يَتّبعه، لأنك رحمة للعالمين تحب أن يؤمنوا جميعا، فإنْ تَمَكَّنْتَ فَرْضَاً أن تَطْلُبَ وتَتَّخِذ طريقاً فى باطِن الأرض أو سُلَّمَاً أيْ مِصْعَدَاً تَنْصبه في السماء فتَصعد به إليها لكي تأتيهم بأعظم آية لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يرفضها لكي يؤمنوا فإنهم أيضا حينها لن يؤمنوا!! لأنهم لا يريدون الإيمان!! لأنهم قد أغلقوا عقولهم تماما عن أيِّ خير!! فأَرِحْ نفسك إذَن ولا تَحزن علي أمثال هؤلاء كل هذا الحزن واصْبِر واستمرّ في حُسن دعوتهم وجميع الناس بما يُناسبهم حتي ينصرك الله وينشر إسلامه.. وفي هذا بيانٌ لشِدّة حرصه ﷺ واستعداده لفِعْل الصعاب ليُسْلِم الجميع وبيانٌ في المُقابِل لشِدّة إصرارهم علي ما هم فيه.. ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ.." أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يجمع الجميع علي الهُدَيَ أيْ علي الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴿118﴾"، ثم الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."﴾.. ".. فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿35﴾" أيْ وإذا كان الأمر كذلك فاحْذَر وانْتَبِه أيها المسلم وإيّاك ثم إيّاك أبداً بالتأكيد أن تكون من الذين يجهلون أيْ لا يعلمون ما سَبَقَ ذِكْرُه من حِكَمِ الله وسُنَنَه في خَلْقِه وكَوْنِه أيْ طُرُقه وأساليبه فيهما ولا يعلمون ولا يدركون ولا يَتَعَقّلون ويَتَعَمَّقون ويَتَدَبَرّون في حقائق الأمور والأحداث وأعماقها وخَلْفِيَّاتها ولا يُحسنون تقديرها ونتائجها، وإلاّ لم تُحْسِن التّصَرُّف في حياتك وتَعِسْتَ فيها وفي آخرتك علي قَدْر سوء تَصَرُّفك كما يَحدث من الجاهلين غير العالمين بما ينفعهم ويُسعدهم وغيرهم من علم.. وبالتالي، وبعد عِلْمك بذلك، لم يَكْبُر عليك إعراض مَن أعرض عن الله والإسلام ولم تَحرص علي ما لا يكون وتَجزع حيث يُطْلَب الصبر لأنَّ ذلك من عادة الجَهَلَة، فلا تَتَشَبَّه مُطلقاً بهم واحرص علي كل علمٍ مُفيدٍ مُسْعِد لك ولغيرك
ومعني "إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿36﴾" أيْ هذا مزيد من التأكيد علي ما سبق ذكره والتوضيح والتفصيل له.. أيْ لا يُسارع من الناس بالإجابة وبالتّلْبِيَة وبالانقياد وبالطاعة إلى ما يدعوهم إليه ربهم من خلال رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ وكتبه وآخرها القرآن العظيم مِن الإيمان به أي التصديق بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ومِن التمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامه ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن لو فَعَلوا ذلك، إلا فقط الذين يسمعون أيْ يستمعون إلي ما يدعوهم إليه ربهم من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسْعَدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فلْيَجْتَهِد كلّ عاقلٍ إذَن أن يكون من الذين يَسمعون حتي يكون حَيَّاً حياة حقيقية سعيدة لا كالمَيِّت.. ".. وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿36﴾" أيْ وأمَّا الموتي، موتي العقول، الذين عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولذلك فهم لا يسمعون سماع تَدَبُّر وتَقَبُّل، وهم المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم، سيَبعثهم الله من قبورهم يوم القيامة بأجسادهم وأرواحهم ثم يُرْجَعون إليه ليُحاسبهم حساباً عَسِيرَاً على كل أقوالهم وأفعالهم السيئة.. وفي هذا تَحْقِيرٌ لشأنهم حيث يُعْتَبَرون في عِدَاد الموتي غير الأحياء لأنَّ الحياة الحقيقية السعيدة لا تكون إلا بالإسلام وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان.. هذا، وجميع الموتي من البَشَر منذ خَلْق آدم وحتي قيام الساعة سيَبْعثهم الله تعالي وسيُرْجَعون حتماً يومها إليه وحده لا إلي غيره، وهو أعلم بهم تمام العلم، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسة في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. فليُحْسِن إذَن كل عاقلٍ الاستعداد بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿37﴾" أيْ وقال المُكَذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم، لو نُزّلَ علي محمد آية من ربه أيْ دليل ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْقه تكون مَرْئيَّة مَحسوسة كما حدث مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من آيات، لكُنَّا آمَنَّا علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ الله تعالي قادر قطعا علي أن يُنَزّل كلّ آية في أيِّ وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!! إنهم إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتماً بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وَقْتِيَّة لا دائمة وأقلّ منها مهما عظمت!.. إنَّ معجزة القرآن حتما كافية لأنه أعجزَ ويَستمرّ يُعْجِز أيَّ أحدٍ أن يأتي بما أتَيَ به من نُظُمٍ وأخلاقيات وتشريعات تُسعد كل البَشَر في كل مكان وكل زمان بكل المُتَغَيِّرات حتي يوم القيامة؟!! وهو يُتْلَيَ عليهم أيْ يُقرأ باستمرارٍ ويَستمعون له ويُمكنهم كلهم الرجوع إليه إذا أرادوا في أيّ وقتٍ وهو إعجاز مستمرّ مع الإنسانية كلها حتي يوم القيامة لأنه محفوظ بينهم بحفظ الله له بينما أيّ معجزة أخري حِسِّيَّة ستنتهي بانتهاء وقتها رغم عظمتها ولا يراها إلا فقط مَن كان حاضرا حينها شاهدا عليها وقد كانت فقط مُناسِبة لعصرها أمَّا بعد ذلك فلم تَعُد مُلائِمة! فأيّ المعجزات إذن أعظم وأكثر استمراريّة في تأثيرها؟!! إنها حتما معجزة هذا القرآن العظيم!! فهذا ما يُقِرّ به أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل!.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿37﴾" أيْ ولكنَّ كثيرا مِن هؤلاء وأشباههم لا يعلمون أيْ لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! إنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله ﷺ والقرآن والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴿38﴾" أيْ ومن بعض معجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه وأنه القادر علي أنْ يُنَزّل آية بل آياتٍ وعلي البَعْث والحساب وعلي كل شيءٍ العالِم به لأنّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، مِمَّا يَدلّ علي كل هذا أنه ليس هناك من دابةٍ في الأرض وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك عليها وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه ولا طائرٍ من الطيور التي تطير بأجنحتها ولا غيرها من مخلوقات لا يعلمها إلا هو تعالي إلا وهي أمم أيْ مجموعات مُتَجَانِسَة الخَلْق مُمَاثِلَة لكم في أنه خَلَقَها وتَكَفّل بأرزاقها ورعايتها وحِفظها وجَعَلَ لها خصائصها ومُمَيِّزاتها ونظام حياتها ولغة تفاهمها وآجالها وانتفاعها وإسعادها بحياتها وسَخّرها كلها لنفعكم ولسعادتكم فهو لا يشغله شأنٌ عن آخر.. ".. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ ما تَرَكْنا في القرآن مِن شيءٍ مِن خُلُقٍ ولا تشريعٍ ولا نظامٍ ولا توجيهٍ ولا تحذيرٍ يُصْلِح الناس ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء.. إنَّ القرآن الكريم سعادة، وإنَّ الإسلام سعادة، كما يقول تعالي ".. فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا.." ﴿يونس:58﴾، لأنه يُنَظّم كل شئون الحياة صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، ولهذا، فالقرآن، والإسلام، بكل أخلاقه وأنظمته الكاملة الشاملة للحياة كلها، ليس أبداً تَقْيِيداً لها، وإنما هو لتيسيرها وإسعادها، ولهذا فهو يَصْلُح لكل زمانٍ ومكانٍ ولكل الناس علي اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم، بكل مُتَغَيِّراتهم، إلي يوم القيامة، فهو يضع القواعد والأصول المُسْعِدَة ويترك للمُتَخَصِّصين في كل عصرٍ ومكانٍ وَضْع تفاصيل حياتهم بما يناسبهم ويسعدهم وبما لا يخرج عن هذه الأصول كما نَبَّهنا لذلك الرسول ﷺ بقوله " أنتم أعلم بأمور دنياكم" ﴿رواه مسلم﴾.. كذلك من معاني الكتاب أنه اللوح المحفوظ، وهو الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مشتمل على كل ما يحدث في العالم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة، أيْ ما تَرَكْنا في الكتاب شيئاً لم نُحْصِه ولم نُثْبِته وإنما أَحَطْنَا بكلِّ شيءٍ علما.. فهل يُعْقَل بعد ذلك أن يَعْجَز سبحانه عن إنزال آية مع كل هذا الكمال في العلم والقُدْرَة والرحمة والفضل والرزق والرعاية لخَلْقه؟!.. ".. ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴿38﴾" أيْ ثم جميع الخَلْق وفيهم هؤلاء المُكَذّبون السابق ذِكْرُهم إلي ربهم وحده لا لغيره يُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليُحاسبهم علي أعمالهم وأقوالهم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿39﴾ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿40﴾ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴿41﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابداً أيْ طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿39﴾" أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله ﷺ أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً هم صُمٌّ أيْ كالذين لا يسمعون لأنهم قد فَقَدوا منافع السمع إذ لا يسمعون الحقّ والصدق والعدل والخير الذي في الإسلام سَمَاع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهم بُكْمٌ أي كالذين لا ينطقون لأنهم لا يتكلمون بما هو خير، وهم حائرون يَعيشون مُنْغَمِسين مُتَخَبِّطِين في الظلمات والتعاسات والتّخَبُّطات الناتجة بصورةٍ حَتْمِيَّةٍ عن الكفر وغيره من السَّيِّئات – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – بعيدين عن نور وسعادات الإيمان وأخلاق الإسلام حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿39﴾" أيْ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل) وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.."﴾.. وأمّا مَن يَشاء الهداية لله وللإسلام مِن البَشَر بكامل حرية إرادة عقله فيَشاء الله له هذا الهُدَيَ بعد ذلك أي يُوَفّقه له ويُيَسِّر إليه أسبابه بسبب حُسْنِ اختياره هو بإحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ويجعله علي صراط مستقيم أيْ طريق مُعْتَدِل صحيح صواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة
ومعني "قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿40﴾"، "بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴿41﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي علمكم حالكم إنْ نَزَلَ بكم عذاب الله في الدنيا أولا في أيِّ وقتٍ مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، أو نَزَلَ بكم عذابه في الآخرة حينما تأتيكم الساعة أيْ يقوم يوم القيامة ويُحاسِبكم ويُعاقِبكم علي أقوالكم وأفعالكم – وكل مَن مات فقد أتته ساعته وقامَت قيامته إذ قد انتهي وقت عمله في دنياه – حيث سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿40﴾" أيْ هل تَدْعُون غير الله تعالي خالِقكم حينها؟! ألستم في هذه الأحوال تَلْجأون مُتَلَهِّفِين مُتَوَسِّلِين إليه وحده وتَنْسون آلهتكم المَزْعُومَة التي تعبدونها؟! لأنَّ فِطْرَتكم وقتها هي التي تَنْطِق على ألسنتكم بدون شعورٍ من عقولكم وتَحَكُّمٍ في هذه الفطرة والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)! وما دام الأمر كذلك فلماذا تعبدون أيْ تُطيعون آلهة غيره سبحانه؟! إنَّ أحوالكم تَدْعُو إلى العَجَب لأنكم تلجأون إليه وحده عند الشدائد ومع ذلك تعبدون غيره بعدها في الرخاء مِمَّا لا يستطيع مَنْع أيّ ضَرَرٍ عن ذاته فكيف بغيره؟! فإنْ كنتم صادقين في إدِّعائكم والذي هو كاذب حتماً أنَّ هذه الآلهة تنفعكم بشيءٍ فادْعُوها والْجَأوا إليها إذَن لتُنْقِذكم!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لهم ولمَن يُشبههم، ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل أن ينزل بهم العذاب والشقاء فيهما.. "بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴿41﴾" أيْ لا تَدْعُون حتماً بالتأكيد حينها أيَّ آلهةٍ غيره لكنْ إيَّاه وحده تدعون وتستغيثون فيُزيل ويُذْهِب عنكم ما تَطلبون كَشْفه إنْ أراد أنْ يتفضَّل عليكم بكَشْفه في الدنيا لأنه القادر علي كل شيءٍ العالِم به وقد لا يشاء لمصلحةٍ ما لا تعلمونها كأنْ يُعاقِبكم مثلا لإيقاظكم أو أنَّ في كشفه إضراراً بغيركم وإتعاساً له ونحو هذا من حِكَمِه العليم الحكيم سبحانه، وفي حال هذه الشِّدَّة تَنْسون وتَغِيب عن عقولكم من هَوْل الموقف ما تجعلونه لله شركاء تعبدونه ولا تَنْطِق هذه العقول إلا بالخير الذي في فطرتها!!
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴿42﴾ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿43﴾ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴿44﴾ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿45﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ﴿46﴾ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴿47﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴿42﴾" أيْ ولقد بعثنا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إلي الناس من قبلك السابقين لك رُسُلَاً يدعونهم إلى الله والإسلام ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم فكَذّبوهم فعاقبناهم بالبأساء أيْ بالبؤس كفقرٍ وغيره وبالضَّرَّاء أيْ بالضرَر كمرضٍ ونحوه.. ".. لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ" أيْ لعلهم بعد حُدُوث هذا الذي قد يُوقِظهم وبسببه أن يَتَضَرَّعوا – حيث الشدّة تَجعل الإنسان حتماً يُرَاجِع ذاته كما يُثْبِت الواقع ذلك – أيْ لكي يتضرّعوا، أيْ لكي يلجأوا إلينا ويَدْعُونا ويَرجونا ويَطلبوا عَوْننا وتوفيقنا وتَيْسيرنا ورزقنا وقوَّتنا وأمننا وحُبّنا ورضانا وإسعادنا لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة لكي يعبدونا أي يطيعونا وحدنا ويَخضعوا ويَستسلموا لنا ويعودوا عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليسعدوا.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك متضرعين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. فاصبروا أيها المسلمون حتي يأتيكم النصر ولكم أجركم العظيم علي ذلك في الداريْن.. إنَّ هذه الآية الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وإنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً مُسْعِدَاً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾، ﴿13﴾، ﴿116﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران، ثم الآيات ﴿151﴾، ﴿152﴾، ﴿160﴾ منها أيضا، للشرح والتفصيل)
ومعني "فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿43﴾" أيْ هذا بيانٌ أنَّ تلك الأمم لم تَعْتَبِر وتَتَّعِظ بما أصابها من شدائد فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يتعس مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ ولو كانوا حين وَصَل إليهم عذابنا تَضَرَّعوا بأنْ آمَنوا لكان خيراً لهم حتماً حيث كنّا سنَرْحمهم بالقطع فيسعدون في الداريْن بتضرّعهم هذا ولكنْ لم يفعلوا بل اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم أن يستمرّوا علي ما هم فيه من قسوة قلوبهم أي تَصَلّب وتَشَدُّد عقولهم ومشاعرهم وأفكارهم بداخلها فلم تكن مَرِنَة رَقِيقَة لَيِّنَة مِن بعد ذلك كله الذي رأوه أمام أعينهم من عذاب، فمنعتهم هذه القسوة عن الإيمان والعودة لله والعمل بأخلاق الإسلام حتي في مِثْل هذه الأحوال التي كانت من المُفْتَرَض أن تساعدهم عليه، كما منعهم عنه تزيين الشيطان أيْ تَحْسِينه لِمَا كانوا يعملونه من سوء، أيْ تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، حيث اختاروا أيضا بكامل حرية إرادة عقولهم اتّباع هذا التزيين فكذّبوا بوجود الله وعبدوا غيره وأصَرُّوا علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه﴾، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لهذه العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴿44﴾" أيْ فلمَّا نَسُوا ما ذَكّرهم الله به من البأساء والضرَّاء ولم يَتَذَكّروه ويَتّعِظوا به ويَستفيدوا منه بمُراجَعَة ذواتهم والعودة إليه، ونسوا ما ذَكّرهم به من خلال رسله وكتبه التي أرسلها معهم إليهم من العمل بأخلاق الإسلام وأعْرَضوا عنه أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانصرفوا وابتعدوا عنه وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه.. ".. فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ.." أيْ حينها، وبعد كل هذه العِبَر التي لم يستفيدوا بها، وبعد كل هذا الإصرار علي الإعراض، وبعد كل هذا النسيان لربهم ودينهم وآخرتهم، ولاسْتِدْرَاجهم بجَذْبهم لمزيدٍ من السوء كعقابٍ لهم بتيسير أسبابه أمامهم أو لعلهم يستفيقون باختبارهم بالخير والرحمة بعد الشرّ والشدّة فيشكروا ربهم ويعودوا إليه (برجاء لاكتمال المعاني عن الاستدراج حتي يَحْذره المسلمون ولا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ مراجعة الآية ﴿44﴾ من سورة القَلَم ".. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ"﴾، فتحنا عليهم أبواب كل شيءٍ من رزقٍ واسعٍ وَفِيرٍ وقوة ونفوذ وسلطان وغيره، لفترة.. ".. حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ" أيْ استمرّت هذه الفترة إلي أنْ وَصَلُوا لمرحلةِ أنْ فرحوا بما أُعْطُوا من الله تعالي أيْ سُرُّوا سُرورَاً شديداً بالأرزاق الواسعة بما أدَّيَ بهم إلي الكِبْر أي التّعالِي علي الناس والتفاخُر عليهم واحتقارهم وعدم الاعتراف بحقوقهم وظلمهم وإيذائهم بالقول والفِعْل وما شابه هذا من سوءٍ مع سهولة فِعْلهم لمزيدٍ من الشرور والمَفاسِد والأضرار بَدَلَاً أن يشكروا الله عليها ويستخدموها في الخير ليحفظها لهم ويزيدهم منها مع اطمئنانهم لحالهم هذا وعدم تفكيرهم بأيِّ توبةٍ وعودةٍ لربهم ودينهم الإسلام وتَوَهُّمهم أنهم إنما أُعْطُوا ما أُعْطُوه لكَوْن ما هم فيه هو الحقّ والصواب، حينها اسْتَحَقّوا العذاب حيث لم يَتّعِظوا لا ببأساء وضرَّاء ولا بسَرَّاء ورَخَاء، وبالتالي أخذناهم بَغْتَة أيْ فجأة بعذابٍ لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له ليكون تأثيره أعظم ولتكون حسرتهم أشدّ ويندمون حيث لا ينفع الندم.. ".. فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ" أيْ فإنهم حينئذ يائسون من أيِّ أملٍ في أيِّ نجاةٍ أو خير، مَحْزُونُون مُتَحَيِّرُون مُتَحَسِّرون مَخْذُولون
ومعني "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿45﴾" أيْ فقَطَعَ الله دابِرَ القوم الذين ظلموا، ومعني دابر أيْ آخر، والدُّبُر هو المُؤَخّرة، أيْ فأبادهم جميعا عن آخرهم بحيث لم يُبْقِ منهم أحداً وانتهي أمرهم بعذابٍ مناسبٍ مُهْلِكٍ لهم دنيويّ قبل الأخرويّ، كزلازل مثلا أو براكين أو عواصف أو أوبئة أو حروب أو نحو هذا، والذين ظلموا هم الذين سَبَقَ ذِكْرُهم وهم كلّ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.." أيْ وحمداً كثيراً له تعالي علي أنْ نَصَر أهل الخير وأعَزّهم وأسعدهم وصَدَق وَعْدَه معهم وطهَّرهم من أهل الشرّ وأذَلّهم وأذاقهم ما يستحِقّونه بسبب ما فعلوه من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات.. ".. رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿45﴾" أيْ احمدوه لأنه هو مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال شَرْعه الإسلام، والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا.. إنَّ إنهاء الآية الكريمة بهذا الحمد هو تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولاً وقوة وصحة وخَلَقَ وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها
ومعني "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ﴿46﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي علمكم حالكم إنْ أخذ الله منكم سمعكم وأبصاركم فأصبحتم صُمَّاً لا تَسمعون عُمْيَاً لا تُبْصِرون وغَطّيَ علي عقولكم فكنتم لا تَعقلون ولا تَفهمون ولا تُدْرِكون ولا تتحرّكون ولا تَنتفعون بالحياة، مَن إله أيْ أيّ مَعْبُود تعبدونه غير الله تعالي يأتيكم بهذا الذي أخَذَه منكم أيْ يُعيده إليكم؟! والجواب حتماً لا أحد!! إذَن فكيف تَتركون عبادة مَن يَملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويَملك كلّ شيءٍ فيكم وعندكم وتعبدون ما لا يَملك مِن ذلكم أيّ شيء؟! فأيّ سَفَهٍ وخَبَلٍ أشدّ مِن هذا؟! إنّما يَسْتَحِقّ العبادة الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ القادر على كلّ شيءٍ لا العاجز الذي لا يَقْدِر على شيء، فأين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ.." أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف نُنَوِّع ونُعَدِّد ونُكْثِر من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. والآيات هي التي في كتبه تعالي إلي الناس من خلال رسلهم الكرام وآخرها القرآن العظيم والرسول الكريم محمد ﷺ ، وكذلك الآيات في كيفية إيقاع العذاب والهلاك بالمُكذبين حولهم كما يرونه في واقع حياتهم اليومية بصوره المختلفة ليَعتبروا به فلا يكونوا مثلهم، وبالجملة هي الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ﴿46﴾" أيْ ثم هم بَعد كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة يُعْرِضُون عن تَدَبُّرها والانتفاع بها!! أيْ يُعْطُون ظهورهم ويَلْتَفِتون ويَنْصَرِفون ويَبتعدون عنها ويَتركونها ويُهملونها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ويُقاومون نشرها ويُؤذون مَن يَتّبعونها.. وفي هذا مزيدٌ من التّعَجُّب من حالهم والرفض والذمّ الشديد له لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴿47﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل شاهدتم وَوَصَلَ إلي علمكم حالكم إنْ نَزَلَ بكم عذاب الله، والذي تَستحِقّونه بسبب أنكم صَدَفْتُم أيْ أَعْرَضْتُم عن الإسلام، في دنياكم قبل أخراكم مُتَمَثّلاً في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾.. ".. بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً.." أيْ سواء أكان هذا العذاب فجأة بغير مُقَدِّماتٍ أو واضحاً بمقدمات تُؤَكّد حُدُوثه.. ".. هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴿47﴾" أيْ هل يُهْلِك أي يُبِيد الله تعالي بهذا العذاب أحداً غير القوم الظالمين؟! إنه حتماً لا يُهْلَك به إلاّ هم! إلاّ أنتم لأنكم منهم! ولن يُمكنكم إيقاف العذاب أو الهروب منه علي أيِّ صورةٍ أتاكم لأنكم ظالمون تَسْتَحِقّونه! والقوم الظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. أمَّا المُطِيعون لله تعالي أيْ المُتمسّكون العامِلون بأخلاق إسلامهم فهم حتما علي العكس من ذلك تماما حيث تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فمَن يَزرع حُسْناً لابُدّ حتما أن يَحصد حُسْناً، أن يحصد كل خيرٍ وسعادة، ومَن يزرع سوءاً لابُدّ حتما أن يحصد سوءاً، أن يحصد كل شرٍّ وتعاسة، فهذا هو القانون الإلهيّ العادِل للحياة الدنيا وللآخرة والذي نبَّهنا له ربنا تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿48﴾ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿49﴾ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴿50﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿48﴾" أيْ هذا بيانٌ لمهِمّة الرسل الكرام ولحِكْمة إرسالهم.. أيْ ولا نَبْعَث المَبْعُوثين للناس أي الرسل إلا ليكونوا مُبَشِّرين أيْ يُبَشّرُون – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدهم وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أي يَأْتُون بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك وعمل بأخلاق إسلامه، ومُنْذِرين أيْ مُحَذّرين بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما، كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه، حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. فَمَنْ آمَنَ.." أيْ فأيّ أحدٍ صَدَّق بوجود ربه وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعمل بكل أخلاق إسلامه فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. وَأَصْلَحَ.." أيْ وعمل الصالحات من الأعمال وإذا عمل شرا ما تاب وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿48﴾" أيْ فقطعاً مِثْل هؤلاء بالتالي حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيِّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يُوعَدون بها من ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا
ومعني "وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿49﴾" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين لم يُصَدِّقوا بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله ﷺ أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ.." أيْ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم لابُدّ حتماً بالتأكيد أن يُصِيبهم العذاب الأليم أيْ المُؤْلِم المُوجِع في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْلهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿49﴾" أي وذلك بسبب أنهم كانوا في الدنيا يَفسقون أيْ يَخرجون عن طاعة الله والإسلام
ومعني "قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴿50﴾" أيْ هذا بيانٌ لمُرَاوَغَة المُكَذّبين وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وغَلْقهم لعقولهم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. إنهم لا يَنْقصهم الدليل على صِدْق الرسول الكريم محمد ﷺ حيث كانوا هم بأنفسهم يعترفون بصِدْقه ويُسَمُّونه الصادق الأمين ولكن الذي ينقصهم هو إحسان استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنهم يَطلبون مُعْجِزَة حِسِّيَّة يرونها بأعينهم تدلّ علي صِدْقه كالتي أيَّدَ بها رسله السابقين كعَصَيَ موسي مثلا أو إحياء الموتي لعيسي، ولو جاءهم بها لآمَنوا!! وفي هذا تكذيبٌ ضِمْنِيّ وعدم اعتراف بمعجزة القرآن العظيم واستهانة بشأنها رغم أنَّ المُعجزات الحِسِّيَّة هي حوادث تنتهي بانتهاء وقتها ولا تُؤَثّر إلا فيمَنْ حضروها وشاهَدوها أمّا معجزة القرآن فإنها باقية خالدة تَتَحدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. إنهم لا يُصَدِّقون الرسول إلا إذا كان عنده خزائن الخيرات والمُعجزات فيأتيهم بما يَطلبون من أرزاق ومعجزات وأن يُخبرهم بالغيب وما يَحدث لهم في مستقبلهم حتي يَستزيدوا من خيره ويَتَجَنّبوا شَرَّه وأن يكون مَلَكَاً لا بَشَرَاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق مثلهم وأن يكون عظيماً غَنِيَّاً لا يتيماً وإلا فهو ليس برسول!!.. إنهم يَعتبرون من وِجْهَة نَظَرهم السطحية ومن مقاييسهم الخاطئة أنَّ المال والسلطان هو أول مُقَوِّمات النبوة والرسالة وليس حُسن الخُلُق أولا ثم بقية المُوَاصَفات!! والرسول ﷺ كان نَسَبه في القِمَّة من الشرف والسّمُوّ بين قومه وكانوا يُلَقِّبونه بالصادق الأمين وهو أكمل الرجال خُلُقَاً وعقلا ورأيا وعَزْما وحَزْما ورحمة وشفقة وتقوي ولا يُقارَن قطعا بمَن يَدَّعِي أنه عظيم غنيّ وهو سَفِيه يعبد صَنَمَاً لا يَسمع ولا يُبصر ولا يَنفع ولا يَضرّ! إلاّ أنه ﷺ لم يكن أكثرهم مالا وسلطانا وهم يريدون أن تكون النبوة في زعيمٍ من زعمائهم أو غنيّ من أغنيائهم!.. فهذه الطلبات وما يُشْبِهها هي من وسائل مُرَاوَغاتهم من أجل ألاّ يُسْلِموا ومن أجل تشويه صورة القرآن والرسول ﷺ والتشكيك فيهما والتنفير من الإسلام حتي لا يَتِّبعه الناس ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، فقُل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم "قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ.." أيْ ليس عندي أبداً ولا أمْلِك أيَّ تَصَرُّفٍ في خزائن الله – جمع خزينة وهي ما تُخَزَّن فيها الأشياء – بحيث أتَصَرَّف فيها وأعطيكم ما تطلبونه مِنّي من أرزاقٍ ومعجزات، فهو له وحده سبحانه مَفاتيح خزائن كل ما في السموات والأرض التي فيها رحماته وخيراته وأرزاقه وتقديراته وتدبيراته وترتيباته للناس وللخَلْق جميعا في كوْنه من أجل منافعهم وسعاداتهم حيث هو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها، أمَّا غيره من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزق خالقهم ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورزقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مرزوقون به من ربهم قد مَلّكَهم إيَّاه لفتراتٍ وهو الذي يَسَّرَ لهم أسبابه وأعانهم عليها بما أعطاهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا، فاطلبوا أيها الخَلْق من خالقكم وحده سبحانه الرزق، وأحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما تستطيعون، وسيُيَسِّره لكم حتما، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لكم ويُعينكم عليه مِن خَلْقه.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين ليطمئنوا تماما علي ضَمَان أرزاقهم.. ".. وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ.." أيْ وكذلك لا أعلم كلّ ما غابَ عنكم من ماضٍ وحاضرٍ لا تعلمونه ومستقبلٍ آتٍ بحيث أخبركم به لتَسْتَعِدُّوا له، فهو وحده سبحانه عالم الغيب أيْ عالمٌ بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وهو لا يُطْلِع علي الغيب والعلم الذي يَملكه ويَعلمه هو وحده أحداً من خَلْقه، إلا مَن رَضِيَه وقَبِلَه سبحانه واختاره مِن خَلْقه أن يكون رسوله للناس ليبلغهم الإسلام سواء مِن البَشَر أو الملائكة كجبريل فإنه يُطْلِعه مِن خلال الوَحْي إليه علي بعض الغيب والعلم مثل كتبه وآخرها القرآن العظيم وبعض ما يَحدث في المستقبل ليكون ذلك مُعجزة له تدلّ علي صِدْقه عند المُرْسَل إليهم فيؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا به ويَتَّبِعوا الإسلام الذي جاء به ليسعدوا في الداريْن.. ".. وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ.." أيْ وأيضا أنا لستُ مَلَكَاً من الملائكة حتى تَطلبوا مِنّي أفعالاً خارِقَة للعادة تستطيعها هي ولا يُطيقها البَشَر!!.. ".. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ.." أيْ قل لهم ما أتّبع فيما أقول وأعمل به وأدعوكم إليه إلاّ وَحْي الله الذي يُوحِيه إليّ وتنـزيله الذي يُنـزله عليّ في القرآن العظيم، ثم أنا لم أقل لكم يوماً أبداً أنّي إله عندي خزائن السماوات والأرض وأعلم الغيب أو أنّي مَلَك لي صِفَته الخارِقة وإنما ما أقوله لكم دوْمَاً هو أني فقط بَشَر مثلكم لكني رسول مُرْسَل منه إليكم بالإسلام الذي يُوحِيه إليَّ لأبَلّغكم إيَّاه ليسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، وقد أتيتكم بالأدِلّة القاطِعَة من الله على صِحَّة قولي هذا، وليس الذي أقوله مرفوض في عقولكم ولا يستحيل حُدُوثه، بل يَقبله كلُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتَقبله فطرتكم التي بداخل هذه العقول، فما سبب تكذيبكم لي وعدم إسلامكم إذَن؟!.. ".. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّباع الوحي والعمل بكل أخلاقه لا بغيره، مع مزيدٍ من التأنيب واللّوْم لهم.. أي قل لهم أيضا مُتَسَائِلاً مُذَكّرَاً مُنَبِّهَاً لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلاّ تَعِسوا فيهما، هل يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين الأعمي الذي لا يَرَيَ ما حوله والبصير الذي يَرَيَ كلّ شيءٍ بوضوح؟! والمقصود الفرق الشاسع الذي لا يُقَارَن بين الكافر والمؤمن، أيْ بين المُصَدِّق بوجود ربه وبكتبه وخاتمها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره المتمسّك العامل بكلّ أخلاق إسلامه في كلّ أقواله وأعماله، وبين المُكَذّب بكل ذلك، أو الذي يَترك الإسلام بعضه أو كله، فالبصير وهو المؤمن، قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ وعَمل به ونَشَرَه لغيره، بينما الأعمي وهو الكافر فهو قطعاً في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحسن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام للنفي، أيْ حتماً لا يستويان.. ".. أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴿50﴾" أي هل لا تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَعَمَّقون في هذه الأمور وأمثالها وتَتدَبَّرون فيها فتستفيدون منها وتسعدون بها في دنياكم وأخراكم؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿51﴾ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿52﴾ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴿53﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا، ومعني "وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿51﴾" أيْ وحَذّر بهذا القرآن العظيم بما فيه من تحذيراتٍ وتَبْشِيراتٍ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم جميع الناس لكن الذين سيَنتفعون بأخلاقه وبهذا التحذير والتوجيه ويعملون به فيسعدون في الداريْن هم فقط المسلمون الذين يعلمون ويتأكّدون أنهم سيُجْمَعون إلي ربهم يوم القيامة لحسابهم ويَخافون أن يُحْشَروا وهم في حالةِ تقصيرٍ أو معصيةٍ أو عدم استزادةٍ من فِعْل كلّ خيرٍ وليس لهم حينها غير الله تعالي أيّ وليّ يَتَوَلّيَ أمرهم ويُدافع عنهم ولا أيّ شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده لكي يعفو عنهم وينقذهم مِمَّا هم فيه، إلا إذا أذِنَ هو سبحانه لمَن يَشفع لهم.. ".. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿51﴾" أيْ لكي يَتّقوا الله بهذا التحذير والتوجيه والتذكير أيْ لكي يَخافوه ويُراقِبوه ويُطيعوه ويَجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونوا دوْمَاً من المُتّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿52﴾" أيْ ولا تُبْعِد يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، ولا تَبْتَعِد عن، الذين يَدْعون أيْ يَعبدون أيْ يُطيعون ربهم بأوَّل النهار وآخره أيْ طوال اليوم وبالتالي طوال حياتهم حتي مماتهم، يريدون وجهه سبحانه أيْ ذاته تعالي أي ثوابه وعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وإسعاده في الداريْن، أيْ يَعبدونه مُخلصين مُحْسِنين أيْ لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ودائما وباستمرارٍ وبرغبةٍ قويةٍ أكيدةٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو توجيهٌ وإرشادٌ لكل مسلم أن يكون دائما مع الصالحين المُصْلِحين، أيْ مع الصحبة الصالحة ما أمكنه هذا، في مجتمع الصلاح والخير والحقّ والعدل، المجتمع الذي يُعين بعضه بعضاً ويَتناصح فيما بينه علي التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد السعادة التامّة في دنياه وأخراه، وهذا المجتمع يقوم بواجبه – فُرَادَيَ وتَجَمُّعات ومؤسّسات – بدعوة الآخرين لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ مع الصبر علي أذاهم لتسعد البشرية كلها مثل سعاداتهم في دنياها وأخراها.. كما أنَّ الآية الكريمة تُوَجِّه ضِمْنَاً الدعاة لله وللإسلام لعدم التفرقة أبداً بين المَدْعوين، بمعني أن يُبْعِدوا مثلا الفقراء الضعفاء ولا يَهْتَمّوا بهم ويُقَرِّبوا الأغنياء الأقوياء ويُعطونهم مزيداً من الاهتمام لأنهم من وجهة نظرهم قوة للإسلام والمسلمين وهذا قد يكون صحيحا أحيانا لكن دون تفرقةٍ في دعوتهم والأمر يرجع لتقدير الداعي فلعلّ فقير ضعيف لكنه قوي التمسّك والعمل بالإسلام أفضل وأعظم وأنفع مِن غَنِيٍّ بعيدٍ عن ربه ودينه وأعلي وأكرم وأعزّ منه في الداريْن والواقع يُثبت ذلك كثيراً فعَلَيَ المسلم إذَن أن يبدأ بدعوة مَن يريد الاقتراب مِن ربه والعمل بإسلامه ويسعي لذلك سواء أكان غنيا أم فقيرا مُتَعَلّماً أم جاهلاً شريفا أم وضيعا أم غيره، ويُؤَجِّل دعوة المُعانِد المُكابِر سواء أكان غنيا أم فقيرا أيضا، ويتّخِذ من أساليب الدعوة ما يراه مناسبا لتحريك فطرة عقله وتغييره تدريجيا، وأن يحرص علي دعوة الجميع لكن مع حرصه الشديد هذا وحبه العظيم لهم ليعملوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا مثله تمام السعادة في دنياهم وأخراهم عليه أن يكون مِثْل الرسول الكريم ﷺ مُتَوَازِنَاً في دعوته لهم مُحْسِنَاً في تصنيفهم مِن حيث درجة إقبالهم وكيفية معاملتهم مُوسِعَاً جهده وفِكْره وصبره للجميع داعياً كلاّ منهم بما يُناسب أحواله وظروفه وبيئته وثقافته، مُجْتَهِدَاً ألاّ يَصِل إلي المرحلة التي يُعَاتِب فيها الله تعالي الدعاة إذا وَصَلُوا إليها أحيانا حينما تَكْثُر عليهم جهود الدعوة والتَّعامُل مع المَدْعُوِين وهي مرحلة ما وَرَدَ في سورة عَبَس "عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿1﴾"، "أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿2﴾" أيْ تَغَيَّرَ وَجْهُه وكَشَّرَ جَبِينَه بما يُظْهِر بعض الضِّيق مِن تَصَرُّفات مَن يَدْعوه، وتَوَلّي عنه أيْ أعطاه ظَهْره والْتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ وتَرَكَه وأهمله، وذلك بسبب أنْ أتَاهُ مثلا مَدْعُو أعمي أو جاهل أو فقير أو مَن يُسِيء التَّصَرُّف أو القول أو مَن يُشبه هؤلاء مِمَّا يَصعب حَصْره مِن أحوال الناس الذين يحتاجون الصبر عليهم لتعريفهم بربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿3﴾"، "أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿4﴾" أيْ وأيّ شيءٍ يَجعلك دَارِيَاً عالِمَاً بحقيقة أمره أيها الداعي إلي الله والإسلام حتي تَتَوَلّي عنه فلعلّ هذا المَدْعُو الذي قد عَبَسْتَ في وجهه وتَوَلّيْتَ عنه يَتَزَكَّي أيْ يَتَطَهَّر من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأن يعمل بأخلاق الإسلام فيَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعره فيَسعد – والتزكية هي التَّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمعاملات – ويَتَذَكَّر ما كان في غَفْلَةٍ عنه ويَتَّعِظ ويَنتفع بما سَتُذَكِّره به من ذِكْرَيَ وعِظَة مِن كل خيرٍ في الإسلام، لو كنتَ صَبَرْتَ عليه وأحسنتَ دعوته بما يناسبه، فتنالَ بذلك أعظم الثواب، فإنَّ الذي يُيَسِّر أسباب الهداية للناس ويهديهم إليها هو الله تعالي خالقهم وما أنت إلا سبب من هذه الأسباب، فلو دَرِيتَ كلّ هذا وتَنَبَّهْتَ له لَمَا حَدَثَ ذلك منك، "أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ﴿5﴾"، "فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿6﴾"، "وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿7﴾" أيْ أمَّا مَن كان مُسْتَغْنِيَاً عن الله تعالي والإيمان به وطَلَبَ عَوْنه وتوفيقه وتيسيره وعن الإسلام والعمل بأخلاقه وتَوَهَّمَ أنه ليس مُحتاجا لهما فأَعْرَضَ عنهما أيْ ابْتَعَدَ بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وحَسبَ وعَدَّ نفسه غنيا بثرواته وقُوَاه المُتَعَدِّدَة فاغْتَرّ وتَكَبَّرَ بها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار "فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿6﴾" أيْ فأنتَ تُقْبِل عليه وتَتَقَدَّم إليه وتَتَعَرَّض له وتَهْتَمّ بدعوته لله وللإسلام، وكان مِن المُفْتَرَض ألاّ تَهتمّ به إلاّ بالقَدْر الذي يُناسبه علي حَسَب تقديرك لحاله، لأنَّ الإقبال على المُعْرِض قد يكون فيه تضييع للجهود والأوقات فيكون من الأفضل توفيرها لغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات ﴿7﴾ حتي ﴿12﴾ من سورة عبس﴾.. ".. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ.." أيْ فإنْ أحسنتَ أيها المسلم دعوة غيرك لله وللإسلام ونصيحته بكل الوسائل المُمْكِنَة ما استطعت، فلا شيء عليك بعد ذلك، لا شيء عليك إنْ أساءوا أو أحسنوا، وهم لا شيء عليهم إنْ أحسنتَ أو أسأت، فلكلٍّ عمله، ولكلٍّ حسابه، فأنتَ لا تُحاسَب عنهم، وهم لا يُحاسَبون عنك، فليس عليك من حسابهم أيّ شيءٍ وليس من حسابك عليهم أيّ شيء، فأنتَ لستَ مسئولا أمام الله عن شيءٍ من أعمالهم، كما أنهم ليسوا مسئولين عن شيءٍ من أعمالك، فمَن أحسنَ فله كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ومَن أساءَ فله ما يُناسب من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما، فلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخري، أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ شرور أحد، فكلٌّ مسئولٌ عن عمله، فهذا هو عَدْل الله تعالي، وهو وحده الذي يُحاسِب الجميع، ولا يَملك أحدٌ غيره ذلك، كما أنه لا يملك أحدٌ مَنْع الإسلام عن إنسانٍ مَا وطرده منه ومن رحمة الله لأنه فقير أو مريض أو جاهل أو أساء مثلا والسماح لآخر!! فلا دَخْل للفقر والغني والقوة والضعف بقضية الإيمان!! وليس أحدٌ عبداً لأحد!! وإنما الجميع عبادٌ لله أيْ طائعين له، وهو وحده سبحانه الذي يعلم دواخلهم ونواياهم وما يُسِرُّون وما يُعْلِنون ولا أحد يعلمها غيره، وبالجملة لو كنتَ أنت الذي تُحاسبهم لجَازَ لك أن تطردهم!! فلا تكن قاضيا علي الناس تُقَيِّم إسلامهم وتُحاسبهم عليه بل أنت فقط داعي لهم للخير وتأخذ منهم ما ظَهَرَ منهم وتَقْييمهم هو عند خالقهم تعالي الذي يعلم السرّ وما هو أخفي منه.. ".. فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿52﴾" أيْ فإنْ طَرَدتهم، فإنْ جَعَلْتَ ونَصَّبْتَ نفسك أيها المسلم قاضياً تَحْكُم علي هذا بالإيمان والآخر بالكفر وتُبْعِد هذا لفقره وضعفه وتُقَرِّب ذاك لِغِنَاه وقُوَّته، وما شابه هذا من سوءِ تَصَرُّف، فأنت بالتالي لا تَزِن بمَوَازين الله تعالي ولا تُقَيِّم بقِيَمِه وتَتدخّل فيما هو خاصٌّ به، فتكون حينها حتماً من الظالمين لأنفسهم – وأيضا لغيرك بوَضْعِه في مَوْضِعٍ سَيِّءٍ لم يَسْتَحِقّه – بتعريضها لعقابٍ مُناسبٍ من الله في دنياك وأخراك لسوء فِعْلك هذا، فلا تَفعل ذلك إذَن فتَتْعَس فيهما
ومعني "وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴿53﴾" أيْ وهكذا دائما بمِثْل هذه الفتنة وغيرها من الفِتَن أيْ الاختبارات فَتَنَّا أيْ اختبرنا ونَختبر بعض الناس ببعضٍ منذ بدء الخَلْق وحتي يوم القيامة، بتَغَيُّر أرزاقهم وقُوَّاتهم ومُمْتلكاتهم وغيرها علي حسب ما يتّخِذونه من أسباب، ومن هذه الاختبارات ومن مظاهرها اختبار الأغنياء بالفقراء وعلاقة كلٍّ من الفريقين بالإسلام، حيث هو اختبار كبير قد لا ينجح فيه بعضهم، وهو أنَّ الأغنياء قد يَأْنَفون ويَمتنعون من دخول الإسلام إذا رأوا أنه يُسَاوِي بين الجميع ولا فضل لأحدٍ علي آخر سواء أكان غنيا أم فقيرا قويا أم ضعيفا إلا بمَدَيَ تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه، فإنْ أحسنوا استخدام عقولهم أسْلَموا حتماً وسعدوا في الداريْن وعَاوَن الغنيّ الفقير ليَغْتَنِي هو الآخر ليَرْقَيَ الجميع ويَسعدون، أمَّا إنْ عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فإنهم سيقولون بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء ومُرَاوَغَة وتحَجُّج بحجَج سفيهةٍ ساقطةٍ لا قيمة لها مُطلقا حتي لا يُسْلِمُوا هل هؤلاء مَنَّ الله عليهم أيْ أعطاهم الإسلام من بيننا أيْ غيرنا وتَرَكَنا نحن فلم نُسْلِم ولم يُيَسِّر لنا ذلك؟! إنه لو كان الإسلام خيراً أيْ نافِعَاً مُفيداً مُسْعِدَاً للناس في دنياهم وكان حقاّ أيْ صِدْقَاً ما كان أمثال هؤلاء الفقراء الضعفاء سبقونا إليه حتماً حيث نحن بمَكَانتنا ورَجَاحَة عقولنا وسعة إدراكنا وحُسْن تقديرنا وخبرتنا أعرف بالخير وبالصدق من هؤلاء الذين آمنوا الضعفاء عقلا ومَكَانَة ومالا وقوة!! وبما أنهم هم الذين سارَعوا إليه وليس نحن فهو إذن ليس خيراً وليس صِدْقاً لأنّ مَعَالي الأمور لا يَصِل إليها أمثالهم بل أمثالنا!! هكذا بكل سطحية وسفاهة وإقلابٍ لحقائق الأمور!! وما ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم.. هذا، وفتنة الفقراء بالأغنياء تكون حين يَروا سعة أرزاقهم حيث قد يحقدون عليهم ويُسيئون إليهم ويَتضايقون من فقرهم وسوء أحوالهم ويَتَوَهَّمون أنَّ إسلامهم سَبَبٌ فيها رغم أنهم لو صَبَروا وأحسنوا اتّخاذ أسباب الرزق والتّوَكّل علي ربهم لصاروا غالبا أغنياء صالحين.. ".. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴿53﴾" أيْ هل لا يعلم هؤلاء أنَّ الله لا يحتاج إلي مثل هذه الادِّعاءات الكاذبة والمُرَاوَغات منهم لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ما بداخل كل خَلْقه مِمَّا حتي لا يعلموه هم عن ذواتهم؟!! ألا يعلم الناس جميعا أنه تعالي يعلم تماما ما يقولونه ويقصدونه بداخل عقولهم ويفعلونه من خيرٍ أو شرٍّ سواء في الظاهر أمام الآخرين أم بمفردهم؟!! إنه سبحانه حتما يعلم الشاكرين لربهم علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." ﴿إبراهيم:7﴾.. إنَّ الشاكرين هم المُسْتَحِقّون قطعاً لإنعام الله بكل خيرٍ وسعادةٍ وأمّا الكافرون فلا يُعْطَون ولا يُزَادُون لكفرهم النِّعَم وعدم شكرهم لها ولو زادهم فلا بَرَكة فيها ولا سعادة بها بل كل شقاء دنيويّ وأخرويّ بسببها.. إنه تعالي أعلم بالمسلم الشاكر فيُوَفّقه ويزيده وبالكافر لوجوده ولِنِعَمِه فلا يُوَفّقه ولا يُسعده فليس الأمر إذَن لِغِنَي وقوة أو لفقرٍ وضعفٍ وإنما علي قَدْر الشكر يكون الفضل والكرم والإسعاد من الله في الداريْن
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿54﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. وإذا كنتَ من الذين ينشرون السلام والرحمة والخير والحقّ والعدل والبِشْر والسعادة بين عموم الناس خاصة المسلمين الصالحين منهم.. وإذا كنتَ من الذين يَدْعُونهم لسرعة التوبة من أيِّ سوءٍ وشَرٍّ تَمَّ في وقتِ غفلةٍ وجهلٍ بعواقبه الدنيوية والأخروية، والعودة للصلاح، ولرحمة ربهم الغفور الرحيم ولكَرَمِه ولحُبِّه، وللسعادة التامة في الداريْن
هذا، ومعني "وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿54﴾" أيْ وإذا حَضَرَ إليك وقابَلْتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم الذين يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ويتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. بِآَيَاتِنَا.." أيْ بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسلنا وأنهم من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسلنا وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.." أيْ فقل لهم تكريماً وتَبْشِيرَاً وطَمْأَنَة وإسعاداً لهم سلامٌ عليكم أيْ تحية لكم من الله خالِقكم وبِشَارَة منه بمغفرته ورضوانه ورحمته وكرمه وعطائه مادُمْتُم مُتّبِعين لدينه الإسلام عامِلين به في كل شئون حياتكم وأطلب منه وأدعوه أن يعطيكم السلام والأمن والاستقرار والخير كله والسلامة مِن كلِّ سوءٍ قوليّ أو فِعْلِيّ والطمأنينة والسعادة في أعلي درجات الجنات بعدما يُعطي لكم ذلك في دنياكم، وهذه التّحِيَّة وهذا الدعاء دلالة علي الحب والصفاء والأمان والترحيب والتعاون بين الناس، وفيها ما يُشَجِّع علي فِعْل كل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن وتَرْك كل شَرٍّ مُتْعِسٍ فيهما من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.." أيْ وأخْبِرهم وبَشّرْهم أنَّ ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – هو الذي قد أوْجَبَ علي نفسه الرحمة بالناس وبكلّ خَلْقِه في كلّ كَوْنِه في الدنيا والآخرة أيْ التزمَ وقَضَيَ وحَكَمَ ووَعَدَ أنْ يَرحم وَعْدَاً أكيداً لا يُخْلَف أبداً منذ بدء خَلْقهم تَفَضُّلاً منه وكرماً وإحساناً، فهذه من صفاته تعالي والذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وذِكْر النفس هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وَعْده وأنه لا واسِطَة بينه وبينهم، وذِكْر لفظ "كَتَبَ" يُفيد كأنَّ الرحمة قد سُجِّلَت في كتابٍ لمزيدٍ من تأكيدها ووجوب تنفيذها، وفي هذا اجتذاب منه تعالى للمُبْتَعِدين عنه لكي يعودوا مُسرعين إليه وإلي إسلامهم ليسعدوا تماما في الداريْن حيث باب التوبة مفتوح دائما ورحمته وَسِعَت كل شيءٍ ودائماً تَسْبِق غضبه، ومِن مظاهر هذه الرحمة الواسعة التي لا تُوصَف، في الدنيا أولا قبل أخراهم، أنه يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم، ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. ".. أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿54﴾" أيْ ومِن مَظاهِر هذه الرحمة كذلك أنه مَن عمل منكم شَرَّاً مَا أيْ معصية مَا أيْ ذنباً مَا بجهالةٍ أيْ يعمله بسبب جَهْلٍ منه بنتائجه الضَّارَّة المُتْعِسَة له ولمَن حوله حيث يفقد حب ربه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه وسعاداته في دنياه وأخراه، وبالتالي فكلّ عاصٍ لله مُخْطِئَاً أو مُتعمِّداً فهو جاهل حتي وإن كان عالماً بالتحريم، لأنه قد عَطّلَ عقله وقت فِعْلها فكان كالجاهل السَّفِيه الذي لا عِلْم له، وبالتالي فكلّ شرٍّ يُفْعَل لا بُدَّ وأن يكون مَصْحُوبَاً بجَهَالَة! وبناءً علي ذلك فالذنوب جميعا يَقْبَل الله التوبة منها!.. والتوبة هي الرجوع لله ولطاعته من خلال العمل بأخلاق الإسلام وتكون بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود للمُسِيء سعادته التامّة بإسلامه وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ، وهذا هو معني ".. ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ.." أيْ تابَ مِن بعد عمله للسوء.. ".. وَأَصْلَحَ.." أيْ وعمل الصالحات من الأعمال وقام بإصلاح كلّ ما أفسده قَدْر استطاعته بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقام بإظهار خلاف ما كان عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاع من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿54﴾" أيْ فشأن الله معه أنه حتماً يَقبل توبته ويعفو عن ذنوبه ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُزيل عنه آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسْتره ويُعينه ويُسعده، لأنه هو غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴿55﴾ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴿57﴾ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴿58﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾
هذا، ومعني "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴿55﴾" أي وهكذا دائما بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، وكما فَصَّلنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، ولكي كذلك تَسْتَبينَ أيْ تَتّضِح وتَظْهَر بها تماما لهم طريقُ المجرمين فلا يَتّبعوها لأنها طريق كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن حيث هي طريق الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُجْرِمين، للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إني مُنِعْتُ، مَنَعَنِي ربي لمصلحتي ولسعادتي، بما أنزله لنا من إسلامٍ بفضله ورحمته وبما أعطاه للجميع من عقلٍ وفطرةٍ مسلمةٍ بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أنْ أعبدَ أيْ أطِيعَ (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾ الذين تَعبدون أيْ تُطِيعون غير الله تعالي من آلهةٍ كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، وقل لهم أيضا لا أسيرُ خَلْفَ ولا أطيعُ شروركم ومَفاسدكم وأضراركم وأتْرَك أخلاق الإسلام، فإنْ فَعَلْتُ ذلك فقد ضَلَلْتُ بالتالي إذَن حتماً أيْ ضِعْتُ ضَيَاعَاً كبيراً أيْ ابْتَعَدَتُ عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام بُعْدَاً شديداً، وأنا لستُ أبداً بالتأكيد من فريق المُهْتَدِين – وهذا مزيدٌ من التأكيد علي الضلال – أيْ من الراشدين المُصِيبين للخير والسعادة المُحَقّقين للربح في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴿57﴾" أيْ قل لهم كذلك إني سائِرٌ علي شريعةٍ واضحةٍ وهي الإسلام مُتَمَسِّكٌ مُتَّبِعٌ عامِلٌ بها لا أفارقها أبداً مُنَزّلَة من ربّي في قرآنه العظيم الذي يُبَيِّن ويُوَضِّح للناس أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها حيث يُنَظّمها لهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. كذلك من المعاني أنْ قل لهم إني علي بَيِّنَةٍ أيْ دلاَلَةٍ واضِحَةٍ قاطِعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ بلا أيِّ شكٍّ ويقينٍ لا يتزعزع بوجود ربي ووجوب عبادته أيْ طاعته وحده لا غيره وبصِدْق قرآنه ووجوب اتّباعه لا غيره وهي واضحة تماماً لأنها تُوافِق أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله.. ".. وَكَذَّبْتُمْ بِهِ.." أيْ وأنتم لم تُصَدِّقوا برَبّي – أيْ مُرَبِّيني وخالِقي ورازِقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – فلم تعبدوه بل عبدتم غيره وكذّبتم بقرآنه فلم تعملوا بالإسلام الذي فيه وعملتم بغيره من أنظمةٍ مُخَالِفَةٍ له مُتْعِسَةٍ لكم.. ".. مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.." أيْ ما أمْلِك وما في قُدْرَتِي إنزال عليكم ما تستعجلون به من عذابِ الله تريدون حدوثه سريعا لإثبات صدقي فيما أقوله لكم أنَّ مَن يُكَذّب يُعَاقَب في الدنيا بعقابٍ مَا ثم في الآخرة بتمام العقاب!! فما الحُكْم والأمر والسلطان والتقدير لهذا التقديم أو التأخير للعذاب – وكل شأنٍ من شئون الخَلْق والكَوْن وإنزال معجزاته لبيان كمال قُدْرته وعِلمه ونصر دينه الإسلام ونشره وما شابه هذا – إلا لله تعالي وحده يُنزله ويُحْدِثه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسباً ليُحَقّق الخير والمصلحة والسعادة للبشرية بنزول مُعجزاتٍ خارقاتٍ وبنصر أهل الخير وبتطهيرها من شرور أهل الشرّ.. وهذا رَدٌّ علي المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين السُّفَهاء الجُهَلاء الذين يستعجلون من الرسول والمسلمين نزول العذاب بهم كما يقولون أو المُعجزات وإلا فهم كاذبون وهم بالتالي لن يَستجيبوا لهم ويُسْلِموا!!.. إنهم كانوا في دنياهم يستعجلون حدوثه لأنهم كانوا لا يُصَدِّقون به بل ويَستبعدونه ويَعتبرونه مُستحيلا ويقولون ساخرين منه مُسْتَهْتِرين به مُكَذّبين له متي هذا الوعد الذي تَعِدوننا به أيها المسلمون إنْ كنتم صادقين؟!.. إنهم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا ويَتَدَبَّروا في القرآن العظيم ويُحسنوا استخدام عقولهم ليهتدوا به للخير وللسعادة في الداريْن كما هو يُتَوَقّع أن يَحْدُث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون الهلاك لإثبات صِدْقِه!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟!.. ".. يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴿57﴾" أيْ وهو واقعٌ بكلّ تأكيدٍ بلا أيّ شكّ لأنَّ الله تعالي دوْماً يقول القول الحقّ ويَقُصّ القصص الحقّ ويُخْبِر الخَبَر الحقّ في القرآن العظيم الحقّ ومن خلال رسوله الكريم الحقّ ويَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير الفاصِلين أيْ القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث
ومعني "قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴿58﴾" أيْ قل لهم كذلك لو أنَّ في قُدْرَتِي وأملك إنزال عليكم ما تستعجلون به من عذابٍ – أو في استطاعة أيّ مسلم – لأنزلته ولأنزله المسلمون عليكم ولَتَخَلّصْنا منكم سريعا، لأنكم تَسْتَحِقّونه، وغَضَبَاً لربنا، وعقاباً لتكذيبكم وفِعْلكم الشرور والمَفاسد والأضرار، وإراحة لأهل الخير منكم ومِن تعاساتكم، ولَاَنْتَهَىَ الأمر حينها بينى وبينكم بذلك، ولكنَّ الأمر لله وهو أعلم مِنِّي ومِن أيِّ أحدٍ بما يَسْتَحِقّه الظالمون من العذاب العاجِل أو الآجِل، وبمتي يُعَاقِبهم، وبمَن يَسْتَحِقّ أن يُعَذّب منهم فَوْرِيَّاً وبمَن ينبغي أن يُتْرَك لفترة لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب، لأنه العليم الخبير القدير علي كل شيءٍ الذي عنده ما تستعجلون به ويعلم أحوال كل خَلْقه، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿59﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا وَثَقْتَ ثِقَة تامَّة وصَدَّقْتَ صِدْقَاً كاملاً بما يُخبرك به الله تعالي، الحقّ العدل الصدق الذي هو بكل شيءٍ عليم، من خلال رسله وكتبه التي أرسلها للبَشَر، من الغيب، وهو كل ما غابَ عن إدْرَاكِك وحَوَاسِّك، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا تعلمه أم من المستقبل، لأنك بذلك ستُحْسِن الاستفادة مِمَّا مَضَيَ، وستُحْسِن الاستعداد لِمَا هو قادِم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿59﴾" أيْ وعند الله تعالي مَخَازِن الغَيْب ومَفاتيحه – مَفاتِح جَمْع مَفْتَح أيْ مَخْزَن وجمع مِفْتاح أيْ آلة الفَتْح للأبواب – أيْ كلّ علوم الغَيْب، لا يملكها كلها بالتأكيد ولا يُحيط بها علما ولا بطُرُق الوصول إليها وفتحها وكَشْفها إلا هو وحده سبحانه ومَن يريد أن يعطيه بعضها كرسله الكرام، والغَيْب هو كل ما غابَ عن إدْرَاك وحَوَاسِّ البَشَر، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل كالآخرة والبَعْث للناس فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار وما يَحْدُث في الكَوْن من أحداثٍ تَغِيب عنهم أو في مستقبلهم ونحو هذا.. ".. وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴿59﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي إحاطة علمه تعالي بكل شيءٍ وبَيَان أنه لا يعلم الغيب فقط بل يعلم حتماً أيضا المُشَاهَد المَرْئِيّ المُدْرَك لحَوَاسّ الناس وبالتالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ وللشكر وللتوكّل عليه وحده، فهو سبحانه يُحيط علمه كذلك بجميع الموجودات في البرّ والبحر المَرْئِيَّة والمَخْفِيَّة ولا تسقط أيَّة ورقة كانت إلا يعلمها، وهذا مزيدٌ من المُبَالَغَة في العلم والتأكيد علي كماله وشموله لكلّ شيءٍ صَغُرَ أم كَبُر، ولا تسقط ولا توجد حبَّة مَا في باطن وخفايا الأرض ولا شيء رطب ولا يابس إلا وهو سبحانه يعلمه علماً تامَّاً شامِلاً لأنَّ كل ذلك مكتوبٌ مُثْبَتٌ مَحْفُوظ في كتابٍ واضِحٍ وهو اللوح المَحْفُوط أيْ الكتاب المُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما فهو مُشْتَمِل على كل ما يَحْدُث في العالم من الكبير والصغير من الأحداث ولم يُهْمَل فيه أمرُ إنسانٍ ولا حيوانٍ ولانباتٍ ولا جَمَادٍ ولا غيره ظاهراً وباطناً بل قد سُجِّلَ وأُثْبِتَ فيه حتي قيام الساعة
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿60﴾ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴿61﴾ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴿62﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿60﴾" أيْ ومِن بعض مُعجزاته ودَلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكلّ خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) أنه هو وحده الذي يَقبض ويَستردّ أرواحكم بالليل حين نومكم، أو إذا نِمْتُم نهارا، بما يُشبه قَبْضها عند موتكم، ثم يُوقِظكم.. وهذا دليلٌ قاطعٌ واقِعِيٌّ أمامكم علي تمام قُدْرَته تعالي علي بَعْثكم لحسابكم يوم القيامة.. ".. وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ.." أيْ يعلم ما تفعله وتكسبه جَوَارِحكم – أيْ أيديكم وأرجلكم وألسنتم وأعضاؤكم – بالنهار، أيْ يعلم بتمام العلم ما تعملونه وتكسبونه من أعمالِ خيرٍ أو شرٍّ فيه وفي أيِّ وقتٍ بعد استيقاظكم.. ".. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى.." أي ثم بعد أن يَتَوَفّاكم بالنوم يُوقِظكم ويُرْسِلكم في النهار وفي يومكم وفي عُمْرِكم ويَستمرّ الحال هكذا لأجل أن يَقْضِىَ كلُّ فردٍ منكم أجَلَه المُسَمَّىَ أيْ وقته المُحَدَّد له في هذه الحياة الدنيا في علم الله تعالى والذي لا يعلمه إلا هو وحده حيث قد جَعَلَ سبحانه لأعماركم آجالا مُحَدَّدَة لا بُدّ من قضائها أيْ إتمامها وإنهائها قبل موتكم.. ".. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿60﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ثم إلي الله وحده لا إلي غيره رجعوكم جميعا أيها الناس يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنون والمُسِيئون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِركم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كنتم تعملون في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ومعني "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴿61﴾" أيْ وهو الغالب لكلّ شيء، فالجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. ".. وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً.." أيْ وهو الذي يَبْعث عليكم أيها الناس ملائكة تَحْفَظ لكم تمام الحِفْظ كل أقوالكم وأفعالكم خيرها وشَرّها وتُحْصِيها وتُسَجِّلها لكم كاملة تامّة بكل أمانةٍ لتُحَاسَبُوا عليها يوم القيامة.. هذا، ومن معاني حفظة أيضا أنها تحفظ نظام الكوْن تنفيذا لأوامر الله تعالي بما يَحفظ لكم – ولكل خَلْقه – منافعكم وقُوَاكُم ليتحقّق لكم تمام الراحة والطمأنينة والسعادة.. ".. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴿61﴾" أيْ يستمرّ هذا الحال إلي أن يأتي الموت لكلّ أحدٍ منكم في موعده المُحَدَّد له مِنّا وينتهي أجله في الحياة الدنيا حينها تَقْبِض روحه ملائكتنا التي نرسلها لذلك وهي لا تُفَرِّط أيْ لا تُقَصِّر مُطلقاً فيما تُؤْمَر به ويُوكَل إليها ولا تُضَيِّعه ولا تُؤَخّره ولا تَتَهَاوَن فيه
ومعني "ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴿62﴾" أيْ ثم أُعِيد هؤلاء الموتي وجميع الخَلْق بعد موتهم وبعد نهاية الحياة الدنيا إلي الله مالِكهم وخالِقهم ومُتَوَلّي أمورهم الحقّ الذي لا يُخالِطه أيّ شكّ المُتَحَقّق تماماً وجوده وسلطانه فلا سلطان ولا حُكْم ولا ولاية لأيِّ أحدٍ غيره المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ العدل الذي لا يَحكم إلا بالحقّ، ليَتَوَلّي حسابهم ومُجازاتهم.. ".. أَلَا لَهُ الْحُكْمُ.." أيْ لله تعالي وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا الحُكْم أيْ هو الذي سيَحكم أيْ سيَقْضِي وسيَفْصِل بينهم جميعا في يوم القيامة يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم فيُبَيِّن لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴿62﴾" أيْ والله تعالي هو أسرع الذين يُحاسِبُون ويُجَازُون، لأنه لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿63﴾ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴿64﴾ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴿65﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿63﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوِغِين ولمَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَن الذي ينْقِذكم ويُخَلّصكم من أهوال ومَخَاوِف البرّ والبحر إذا حَدَثَت لكم؟! كزلازل مثلا وبراكين وعواصف وأمواج جارفة ورياح شديدة ومخلوقات مُرْعِبَة مُهْلِكَة وما شابه هذا مما يُعَرِّضكم للخطر وللخوف وللهلاك ويَحْدُث واقعاً كثيراً أمامكم.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث منهم.. ".. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً.." أيْ إنكم فى هذه الحالة تلجأون بالدعاء والسؤال إلى الله تعالي وحده لا إلي أيِّ أحدٍ غيره، تدعونه عَلَنَاً تَضَرُّعَاً أيْ بتَذَلّلٍ وتَوَسُّلٍ وخُضُوعٍ واستسلامٍ وتدعونه كذلك خُفْيِة أيْ في الخفاء وإسراراً بدواخلكم، تدعون خالقكم وحده وقتها بكل إخلاصٍ أيْ صِدْقٍ في دعائكم وفي طاعتكم له مُخْلِصين مُحْسِنين وتَتركون وتَلفظون وتَنسون آلهتكم! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تنطق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، إنكم حينها تَنسون بل تَحتقرون عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلِّ شيءٍ لأنكم متأكّدون أنها لن تنفعكم بأيِّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. ".. لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿63﴾" أي تدعونه حينها قائلين وَاعِدِين وَعْدَاً لئن أنْقَذنا الله مِمَّا نحن فيه فسنكون بكل تأكيدٍ من الشاكرين له بأن نعبده أيْ نطيعه وحده بلا أيِّ شريكٍ له في العبادة وبأنْ نَتّبِع دينه ونظامه الإسلام كله بلا أيِّ نظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له
ومعني "قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴿64﴾" أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم الله وحده خالِقكم القادر علي كلّ شيءٍ الغفور الرحيم الكريم الودود ينقذكم من هذه الشدائد والمَخَاوِف ومن كلّ أمرٍ شديدٍ مُحْزِنٍ مُؤْلِمٍ مُتْعِسٍ آخَر، ثم أنتم مع ذلك وبعد هذا الإنقاذ وفي حال الرخاء تُشركون معه في العبادة أي الطاعة غيره مِمَّا لا يَمنع شَرَّاً ولا يُحَقّق خيراً، مُخْلِفين بذلك وَعْدَكم، فبَدَلاً أن تشكروه تعالي علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والتي منها نعمة نجاتكم مِمَّا أنتم فيه إذا أنتم تُشركون!! أيْ تعودون لِشَرِّكم ولشِرْككم وتعبدون آلهتكم بل ويَنسب بعضكم النجاة لها أو لغيرها! فلماذا لا تستمرّون علي عبادة ربكم لتسعدوا في الداريْن وقد جَرَّبتم أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض الناس من المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتَرْكهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم! فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴿65﴾" أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم الله تعالي وحده القادر علي إنجائكم من كلِّ كَرْبٍ هو أيضا وحده الذي يَقْدِر علي أن يُرْسِل عليكم وعلي المُسيئين أمثالكم عذاباً بأيِّ شكلٍ من الأشكال وبأيِّ درجةٍ من الدرجات ومن أيِّ مكانٍ من الأماكن من أعلاكم كأمطارٍ غزيرة وصَوَاعِق شديدة مثلا أو من أسفلكم كزلازل وفيضانات وغيرها أو مِن حولكم مِمَّا لا تَتَوَقّعونه ولا يمكنكم بأيِّ حالٍ الفرار منه أو مقاومته أو حتي تقليله.. ولكنه تعالي الرحيم الحليم الودود لا يفعل، إلا إذا ظَلَلْتم مُصِرِّين علي سُوئكم بلا أيِّ توبة وعودة للخير فتَوَقّعوا ذلك حتي تستفيقوا وتعودوا له فتسعدوا في الداريْن.. ".. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ.." أو قادر أيضا علي أن يَخْلِطَكم فِرَقاً وطوائف ومجموعات تختلف وتتصارَع فيما بينها ويجعل بعضكم يَتَذَوَّق عَمَلِيَّاً مَرَارَة وفَظَاعَة بأس أيّ شَرّ وعذاب وقتل بعضٍ آخرٍ منكم بسبب هذا الاختلاف والصراع والاقتتال فيزول الأمن وينتشر الخوف وتَعُمّ التعاسة فيما بينكم.. ".. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ.." أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف نُنَوِّع ونُعَدِّد ونُكْثِر من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. والآيات هي التي في كتبه تعالي إلي الناس من خلال رسلهم الكرام وآخرها القرآن العظيم والرسول الكريم محمد ﷺ ، وكذلك الآيات في كيفية إيقاع العذاب والهلاك بالمُكذبين حولهم كما يرونه في واقع حياتهم اليومية بصوره المختلفة ليَعتبروا به فلا يكونوا مثلهم، وبالجملة هي الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴿65﴾" أيْ لعلهم بذلك التصريف يفقهون، أي لكي يفقهوا، أي يعلموا شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين مُتَدَبِّرين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. وفي هذا تنبيه لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴿66﴾ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿67﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴿66﴾" أيْ ولم يُصَدِّق بالقرآن العظيم فلم يَعمل بأخلاق الإسلام التي فيه بعض الناس حولك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم – من المُكَذّبين المُعَانِدِين المُسْتَكْبِرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم والحال والواقع أنه هو الحقّ عند كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ يَتَدَبَّر فيه – وبالتالي فالتكذيب به يدلّ علي قُبْحٍ وسَفَهٍ وخَبَلٍ وعِنادٍ وإغلاقٍ للعقل عظيم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة – أيْ هو الصِّدْق الثابِت الذي لا يَتَغَيَّر حتما بكلّ تأكيدٍ لأنه ليس من عند أحدٍ من البَشَر بل من عند الله تعالي خالق الخَلْق كامل الصفات الحُسْنَيَ العليم بتمام العلم بما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم، والذي لا يُخالطه أيّ كذبٍ أو سوءٍ أو ضلالٍ أو شَرٍّ أو ظلم، بل كله صدق وعدل وخير وأمن وسعادة، وكلّ ما يُوَافِقه ويَرْجع إليه مِن نُظُمٍ وقوانين يضعها البَشَر فهو صدق مثله بينما كلّ ما يُخالِفه فهو الكذب التامّ المُتْعِس فيهما، وهؤلاء الذين يُكَذّبون به يعلمون ذلك تمام العلم بداخل عقولهم وبفطرتهم بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴿66﴾" أيْ قل لأمثال هؤلاء لستُ مُطلقاً بوكيلٍ علي أيِّ أحدٍ منكم، فليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا
ومعني "لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿67﴾" أيْ لكلِّ خَبَرٍ جاء به القرآن العظيم بالتبشير أو الإنذار وقتٌ يَسْتَقِرّ ويَحْدُث فيه حتماً لا يَتَقَدَّم عنه ولا يَتَأَخَّر فيَتَبَيَّن الحقّ من الباطِل، حتي ولو بعد حين، وسوف تعلمون أيها الناس جميعا مسلمون مُصَدِّقون أو كافرون مُكَذّبون صِدْق هذه الأخبار عند وقوعها في الدنيا والآخرة.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿68﴾ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿69﴾ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿70﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يحضرون المجالس التي تتكلّم في الباطل والضلال والفساد والشرّ والسوء، لأنه بانتشارها تنتشر التعاسات والكآبات بين الجميع في الداريْن، إلا إذا كنتَ مُتَمَسِّكَاً بقوةٍ عاملاً بكل أخلاق إسلامك وغَلَبَ علي ظنك وتقديرك المَبْدَئِيّ أنك تستطيع التخفيف من شرِّها والنصح بالخير ما أمكن أو حتي التغيير بالكامل للخير بالحكمة والموعظة الحسنة وبعوْن الله وهو المطلوب
هذا، ومعني "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿68﴾" أيْ وإذا حضرتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مجالس الذين يَنْغَمِسون ويَنْدَفِعون بالأقوال والأفعال السيئة من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ ونحوه في آيات الله تعالي أيْ في قرآنه الكريم وفي تشريعاتِ وأنظمةِ وأخلاقِ الإسلام التي فيه فأعرض عنهم أي ابْتَعِد عنهم واتركهم وقُمْ عنهم ولا تُجَالِسهم ولا تُقْبِل عليهم لكي يستشعروا اعتراضك ورَفضك لأقوالهم وأفعالهم السَّيِّئة ولا تَعُدْ إلي مَجالسهم حتي يتكلّموا في حديثٍ آخر غير هذا الحديث السيء.. وفي هذا تذكيرٌ لكل مسلم أن يتجنّب تماما مجالس الكفر والنفاق والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، لأنها كلها مجالس مُضِرَّة مُتْعِسَة، لأنَّ فيها استهزاءً بأخلاق الإسلام وأنظمته المُسْعِدَة لكل لحظات الحياة لأنها تُنظّم كل شئونها صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، إلا إذا حَضَرَها وكان قوياً متمسّكاً عاملاً بكل أخلاق إسلامه ويَغْلِب علي ظنه حُسْن الرَّدّ والقُدْرَة علي الإقناع والدعوة بالقُدْوة وبالحكمة والموعظة الحسنة، فإنْ ظَهَرَ عليهم تغيير الحديث والفِعْل وتحسينه فمِن المُمْكِن البقاء معهم والاستمرار لعلهم ينتفعون وينتهون ويعودن للخير فيسعدون، وإلاّ إنْ لم يستطع فلْيَنْصَرِف كارِهَاً لكل ذلك داخل نوايا عقله عازماً علي حُسْن دعوتهم في توقيتٍ ومكانٍ وبأسلوبٍ آخر مناسب.. ".. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿68﴾" أيْ وإنْ أنْسَاكَ الشيطان هذا الأمر بأن انشغلتَ بما يُنْسِيك إيَّاه بسببٍ من الأسباب – والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلِّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – وجَالَسْتَهم في أثناء حديثهم السَّيِّء ثم تَذَكَّرْتَ أمر الله بالبُعْد عنهم فلا تَقْعُد بعد تَذَكّرك مع القوم المُعْتَدِين الذين يَخوضون في آيات الله.. والقوم الظالمون عموما هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿69﴾" أيْ وما على الذين يَتّقون الله أيّ شيءٍ من حساب الذين يَخوضون في آياته على ما يرتكبون من جرائم وآثام ما داموا قد أعرضوا أي ابتعدوا عنهم، ولكنْ أمَرْنا المُتّقِين بالإعراض عنهم ليكون ذلك ذِكْرَىَ أيْ تَذْكِرَة لهم لِمَا هم فيه، ولكن أيضا عليهم مع هذا الإعراض ذِكْرَيَ هؤلاء الخائضين ومَنْعهم عن قبائحهم بما أمكن من عِظَةٍ وتَذْكِيرٍ لعلهم بهذا الإعراض وبهذه الذكري يتّقون الله في أقوالهم وأفعالهم، ولعلّ كذلك الذين يَتّقون الذين يُذَكّرونهم يَثْبُتون علي تقواهم ويُدَاوِمون عليها ويزدادون منها بفِعْلهم هذا.. إنَّ الذين يَتّقون لو أحسنوا دعوتهم لله وللإسلام ونصيحتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة ما استطاعوا، فلا شيء عليهم بعد ذلك، فهم ليسوا مسئولين أمام الله عن شيءٍ من أعمالهم، فمَن أحسنَ فله كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ومَن أساءَ فله ما يُناسب من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما، فلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخري، أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ شرور أحد، فكلٌّ مسئولٌ عن عمله، فهذا هو عَدْل الله تعالي، وهو وحده الذي يُحاسِب الجميع، ولا يَملك أحدٌ غيره ذلك، فهو وحده سبحانه الذي يعلم دواخلهم ونواياهم وما يُسِرُّون وما يُعْلِنون ولا أحد يعلمها غيره.. هذا، والذين يتقون هم الذين يخافون الله ويُراقبونه ويُطيعونه ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿70﴾" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثال المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ولا تُقْبِل علي ولا تَتَأَثّر وتَنْشَغِل كثيراً بالذين جعلوا دينهم الحقّ الذي جاءهم به الرسول الحق ﷺ ويُدْعَوْنَ إليه وهو دين الإسلام لعباً أي عَبَثاً أيْ بلا فائدة كالأطفال التي تَحْبُو وتجتمع لِلّعَب ثم تنفضّ بلا هدف! أي لا يستفيدون منه أيّ فائدة وهو الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن! أيْ يتعامَلون معه بغير جِدِّيَّة وبجَعْله مَسْلاَة يَتَسَلّون بها ويضحكون عليها بَدَلَاً من تعظيمه بالعمل به.. ولَهْوَاً أيْ استهزاءً وسُخْرِيَة واحتقاراً حيث يَسْخَرون مِمَّا فيه ويحتقرونه، بما يُفيد شدّة تكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم واسْتِخْفافهم واحتقارهم.. وغَرَّتهم الحياة الدنيا أيْ وخَدَعَتْهُم فلم يُحسنوا طَلَبَها مع طَلَب الحياة الآخرة كما نَصَحَهم الله والإسلام بل فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات (برجاء مراجعة كيفية إحسان طلب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. والمقصود أن اتركهم فلا تُقْبِل عليهم يا رسولنا الكريم ويا أيها المسلم لكي يستشعروا اعتراضك ورَفضك لأقوالهم وأفعالهم السيئة فإنَّ هذا قد يُوقِظهم فيَعودون لربهم ولإسلامهم لكنْ مع ذلك وفي ذات الوقت عِظْهم أيْ ذَكّرهم بتوقيتٍ وبأسلوبٍ يُناسبهم بمَوَاعظ وأقوالٍ وأفعالٍ بليغةٍ مُؤَثّرة في نفوسهم أيْ عقولهم ومشاعرهم تَبْلُغ بهم للعودة للخير وتُحَذّرهم أنَّ الله تعالي حتماً يعلم ما في قلوبهم وأنهم سيُصيبهم التعاسة في الداريْن إذا استمرّوا علي ما هم فيه من بُعْدِهم عن ربهم وأخلاق إسلامهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، عِظْهم فيما بينك وبين أنفسهم أيْ لا تَفضحهم، أو بأسلوبٍ عامٍّ غير مباشر، حتي يكونوا أسرع استجابة، لأنَّ السَّتْر يُؤَدِّي غالبا إلي مراجعة النفس بينما الفَضْح لها في الغالب يَدْفعها إلي الجرأة علي المعاصي واللامبالاة بفِعْلها حيث قد انكشف كل شيء.. عِظْهم ليسعدوا بهذا الوَعْظ في دنياهم وأخراهم، قبل أن يتعسوا بنزول العذاب بهم فيهما.. ".. وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا.." أيْ وذَكّر دائما جميع الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بهذا القرآن العظيم وبهذا الإسلام الذي فيه، والذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم إذا عملوا بكل أخلاقه، ذَكّرْهم بأفضل وأنْسَب أسلوبٍ وتوقيتٍ وبكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، وذلك حتي لا تُبْسَل نفسٌ بما كسبت أيْ تُهْلَك أيّ نفسٍ إنسانيةٍ بسبب ما فَعَلَت من شرور ومَفاسد وأضرار إذا هي خَالَفَت إسلامها ولم تَسْتَجِب لهذا التذكير حيث سيُصيبها حتماً شَرٌّ وتعاسة كعقابٍ وعذابٍ علي قَدْر سُوئِها في دنياها وأخراها، وليس لها حين حُدُوث العقاب غير الله تعالي أيّ وليّ يَتَوَلّيَ أمرها ويُدافِع عنها ولا أيّ شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عنده لكي يعفو عنها وينقذها مِمَّا هي فيه، إلا إذا أذِنَ هو سبحانه لمَن يَشفع لها، وحينها أيضا إنْ تَعْدِل كلّ عدلٍ لا يُؤْخَذ منها أيْ ولو فُرِضَ واستطاعت وقتها أن تدفع أيّ عدلٍ أيْ فِداء – أو فِدْيَة – أو بَدَل أو تَعْويض يُعادِل أيْ يُساوِي نجاتها من العذاب، وهو ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن سوءٍ ما، مهما كان عظيما، حتي لو فُرِضَ وجاءت إحداها يومها بمِلْءِ الأرض ذهبا وأضعافه لتَفتدي به من عذاب الله فلن يُقْبَل منها.. وفي هذا قَطْعٌ لأيِّ أملٍ لأيِّ نفس غير مسلمة في النجاة مِمَّا هي فيه إلا أن تتوبَ وتَرْجِع لربها وإسلامها قبل موتها، أمَّا النفس المسلمة فرحمة الله واسعة لها.. ".. أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ.." أيْ هؤلاء الذين أُهْلِكُوا بسبب ما عملوا من سوءٍ في دنياهم سيكون لهم حتماً في أخراهم شراب من حميمٍ أي ماءٍ مَغْلِيّ لا يُطاق يُقَطّع بطونهم ولهم كذلك عذاب مُوجِع مُهين مُتْعِس لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة قطعا إلي عذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾.. ".. بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴿70﴾" أيْ وكل ذلك بسبب أنهم كانوا في دنياهم يكفرون وماتوا علي ذلك أيْ يُكَذّبون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعاندون ويستكبرون ويستهزؤن ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿71﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿71﴾" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين من أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم، والذين يحاولون إبعاد المسلمين عن إسلامهم بل ورَدّهم عنه للكفر ولعبادة غير الله ربهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل نَدْعُو أيْ نَعْبُد أيْ نُطيع غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلنا يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تستطيع أن تَضرّنا بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعنا بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، لأنَّ الضّرّ والنفع من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المَضارّ أو المنافع هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسان أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾.. ".. وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ.." أيْ ونَرْجِع علي أعقابنا – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ نرجع علي أقدامنا للخَلْف هاربين مُبْتَعِدين والمقصود نَرْتَدّ عن إسلامنا ونعود كافرين تُعَسَاء في الداريْن بعد أن هدانا الله له أيْ أرْشَدَنا إليه من خلال قرآنه ورسوله ﷺ وعقولنا وفِطْرَتنا ويَسَّرَ لنا أسباب ذلك ووَفّقنا إليها لنسعد به في دنيانا وأخرانا وذلك بعد أن اخترناه نحن أولا بكامل حرية إرادة عقولنا؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا.." أيْ ونكون مثل الذي طلَبَت الشياطين هَوَاه أيْ شَرَّه أيْ أغْوَته أيْ دَعَتْه للغِوَايَة أيْ للضلالَة أيْ للشرّ والفساد فذهب في الأرض حائراً في حَيْرَةٍ لا يعرف أين طريق الخير والسعادة – والشياطين جمع شيطان ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – وله حوله أصحاب وأصدقاء مُهْتَدون راشِدون يدعونه إلي الرشاد، إلي الطريق المستقيم، إلي الإسلام، إلي كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، قائلين له تعال إلينا لتسعد مثلنا وتنجو من تعاستك، فلا يَستجيب لهم ولا يأتي إليهم لشدّة حيرته وضلالته؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى.." أيْ قل لأمثال هؤلاء وللناس جميعا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إنَّ إرشاد الله في دينه الإسلام هو حتما بكل تأكيد بلا أي شك الإرشاد الحقيقي الذي ليس بعده أيّ إرشادٍ أكمل وأعظم وأفضل وأصْوَب وأصْلَح منه حيث يُرْشِد لكل ما يُصلح ويُكمل ويُسعد تمام السعادة في الدنيا والآخرة وكلَّ مَن يَعمل به كله سيُحَقّق قطعاً ذلك، وليس ما يَدَّعِيه أمثال هؤلاء المُكَذّبين من تعاليم مَكْذُوبَة مُحَرَّفَة مُخَالِفَة لهُدَيَ الله تعالي يَسترشدون بها هي الهُدَيَ بالقطع بل هي الهَوَيَ المُؤَكّد أيْ الشرّ والفساد والضرَر والتعاسة في الداريْن!!.. ".. وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿71﴾" أي وقل لهم أيضا أننا قد أَمَرَنَا ربنا جميعا بأن نُسْلِمَ له أيْ نَستسلم لوصاياه وتشريعاته لأنه ربّ العالمين أيْ رب الخَلْق كلهم – أي مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – أيْ نتَمَسَّك ونَعْمَل بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتنا ونَثْبُت دائما عليها، وقد أسلمنا نحن المسلمون، فأَسْلِموا أيها الناس لتسعدوا في الداريْن
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿72﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُدَاوِمِين علي إقامة الصلاة.. وإذا كنتَ من المُتّقِين لله تعالي في كل شئون حياتك.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿72﴾" أيْ أمرنا أنْ نُسْلِمَ لرب العالمين وكذلك أنْ أقيموا الصلاة أيْ أنْ واظِبُوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليكم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وأيضا أن اتقوه أيْ خافوه تعالي وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿72﴾" أيْ وآمِنوا أيْ صَدِّقوا واعْلَمُوا واعْرَفوا وتَذكّروا دائما أنه هو الذي إليه وحده لا إلي غيره تُجْمَعون ليوم الحَشْر أيْ يوم القيامة ليحاسبكم علي أعمالكم وأقوالكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿73﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية ﴿7﴾، ﴿8﴾ من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران، ثم الآية ﴿14﴾، ﴿15﴾ منها، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿87﴾، ﴿88﴾ من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿73﴾" أيْ هذا بيانٌ لتمام قُدْرته وكمال علمه سبحانه وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة والقادر علي بَعْث الناس لحسابهم حين إليه يُحشرون يوم القيامة.. أيْ وهو الله تعالي ربّ العالمين الذي أمرنا أن نُسْلِم له وحده الذي خَلَقهما – بكلّ ما فيهما مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَةٍ مُبْهِرَةٍ – بالحقّ، أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ولكي تسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنَّ خالقها هو الحقّ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ.." أيْ واذكروا دائما ولا تنسوا أبداً يوم القيامة حين يقول كن فيكون، وهذا بيانٌ أنَّ بَعْثَ الناس ليس شيئاً صعباً عليه تعالي، بل إنه يكون بمجرّد كلمة كُن منه فإنه يكون كما يريد فوراً بلا أيِّ تأخيرٍ أو امتناعٍ بتمام قُدْرَته وكمال علمه ويكون كل شيءٍ قد حَضَر وتَجَهَّزَ فيُجْمَعون من قبورهم من أيِّ مكانٍ كانوا للحساب والجزاء بالجنة أو النار.. إنه سبحانه إذا أراد إيجاد شيءٍ أو إحداثَ فِعْلٍ ما في الدنيا أو الآخرة، فإنه بمجرّد أنْ يقول له كُن فإنه يكون ويَحْدُث في لحظةٍ تماماً كما يُريد، فهو لا يحتاج مثلا إلي أدوات وخامات وخطوات وغيرها ممَّا يحتاجه البَشَر!.. ".. قَوْلُهُ الْحَقُّ.." أيْ قول الله تعالي كله حتماً دائماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ هو الصدق العدل الكامل الثابِت الذي لا يَتَغَيَّر ولا يكون فيه أيّ خطأ الواقِع المُتَحَقّق مُؤَكّدَاً في توقيته بلا أيِّ تقديمٍ أو تأخيرٍ سواء أكان تبشيراً أم إنذاراً أم خلقا للمخلوقات أم ذِكْرَاً لغَيْبٍ مَا لا يَعلمه إلا هو في الماضي أو الحاضر أو المستقبل أم بَعْثَاً للحساب والعقاب والجنة والنار، قوله الحقّ دوْمَاً في كل كتبه وآخرها القرآن العظيم، وفي يوم القيامة.. ".. وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.." أيْ وله وحده سبحانه المُلْك كله الثابت الذي لا يزول فليس لأيِّ أحدٍ غيره أيّ مُلْك حيث كل أملاكهم التي مَلّكَهم إيَّاها في دنياهم تزول يوم القيامة يوم يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتاً يُعْلِن بدء البعث أيْ إحياء الموتي من قبورهم بأجسادهم ويُنْفَخ بالأرواح في الصُّوُر جَمْع صُورَة أيْ في صُوَرِ الأجساد لتحيا مرة أخري ويبدأ يوم القيامة والحساب، ولا يَعلم كيفية حدوث النّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلا بأمره.. ".. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.." أيْ وهو وحده سبحانه عالمٌ بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ، وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط !.. إنه بالتالي وقطعاً يعلم في دنياكم وعندما يبعثكم في أخراكم أيها الناس كل ما تسِرّونه وتُعلنونه كبيره وصغيره من أعمالكم وأقوالكم بتمام العلم والرؤية، لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿73﴾" أيْ وهو وحده لا غيره الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم، الخبير بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، العليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة ودرجة تقواهم وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، فليجتهدوا إذَن في تحصيل أعلي درجاتها وسيُجازيهم بما يستحِقّون في الدنيا والآخرة.. وكل هذا يَدلّ علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة لأنه هو وحده لا غيره تعالي المُتَّصِف بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿74﴾ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿76﴾ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿77﴾ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿78﴾ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿81﴾ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿82﴾ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿83﴾ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿84﴾ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿85﴾ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿86﴾ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿87﴾ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿88﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴿89﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿90﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة﴾.. وإذا كنتَ مِن المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿74﴾" أيْ واذْكُر لهم وذَكِّرْهم أيها الرسول الكريم، وتَذَكَّر يا كلّ مسلم ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس ما حَدَثَ للآخرين لكي يَتَّعِظ فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه، واذكر لمَن حولك مِمَّن يُقَلّدون آباءهم في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء بلا أيّ تَفَكّر أو تَدَبّر وذَكِّرهم حين قال إبراهيم لأبيه الذي اسمه أو لَقَبه آزر هل تجعل أصناما – جَمْع صَنَم وهو تمثال من حَجَرٍ أو غيره – آلهة لك أيْ معبودات تعبدها أيْ تطيعها غير الله تعالي؟! لا تستطيع أن تَضرّك وغيرك بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره ولا أن تنفعكم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله، إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حاله السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظه ليعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن.. ".. إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿74﴾" أيْ إني أشاهِدُك وأعلم يا أبي أنك مع قومك في ضياعٍ واضحٍ حيث تركتم عبادة الله تعالي وحده ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار التي تُتعسكم تمام التعاسة في دنياكم وأخراكم سواء أكانت كفراً أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أيْ إظهاراً للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْراً للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿75﴾" أيْ وكما أَرَيْنَا أيْ أظْهَرْنا وبَيَّنَّا وأوْضَحْنا بتوفيقنا وتيسيرنا لإبراهيم الحقّ في بُطلان عبادة أبيه وقومه للأصنام لَمَّا أحْسَنَ هو أولا استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) نُريه أيضاً مظاهر تمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا التي تدلّ علي أننا المُسْتَحِقّين وحدنا للعبادة أي الطاعة، في مُلْك السموات والأرض وما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزَاتٍ مُبْهِراتٍ لا يَقْدِر علي خَلْقها إلا نحن وحدنا الخالق القادر علي كل شيء، والمَلَكُوت صيغة مُبَالَغَة من المُلْك أي المُلك الهائل العظيم التامّ الذي يشمل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن المُعجزة.. ".. وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿75﴾" أيْ فَعَلْنا ذلك لكي يَسْتَدِلَّ بذلك علي وحدانيتنا ولكي نُيَسِّرَ له ونُعينه علي إقامة الدليل علي قومه فيُمكنه إقناعهم ولكي يكون من المُوقنين أيْ المتأكّدين بلا أيّ شكّ بهذا التوحيد وبوجود ربهم وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وبالصلاحية الكاملة لأخلاق الإسلام لإسعاد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة وذلك إذا عملوا بها كلها لأنها من عند ربهم خالقهم الذي يعلم خَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن فيكون بذلك من المُتَمَسِّكين العامِلين بأخلاق إسلامهم عن يقينٍ وتَأَكُّدٍ وعلمٍ وثباتٍ ورُسُوخٍ لا يَتَزَعْزَع.. لقد وَصَلَ إبراهيم إلي عبادة ربه وحده بلا أيِّ شريكٍ والعمل بأخلاق الإسلام بمجرّد إحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا وذلك قبل أن يأتيه الوحي منه تعالي رغم أنه كان شابا صغير السِّنّ.. وهكذا حتماً سيكون حال كلّ مَن يُحْسِن استخدام عقله ويَستجيب لفطرته ويَعبد الله وحده ويعمل بإسلامه حيث سيَنال قطعاً توفيقه وتيسيره وإسعاده له في دنياه وأخراه
ومعني "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿76﴾" أيْ هذا بيانٌ لكيفية توضيح إبراهيم لأبيه وقومه ما هم فيه مِن بُعْدٍ عن ربهم بكلِّ حِكْمَةٍ وتَدَرُّج، فقد كان بعضهم يَعْبُد الكواكب بجانب الأصنام، فنَظَرَ معهم واستمع لهم، وهكذا حال الداعي مع بعض المَدْعُوين الذين يَدْعوهم لله وللإسلام في بعض الأحوال، يُسَايِرهم في بعض فِكْرهم ويَنْظُر فيه معهم ويَستمع إليهم جيدا حتي يَصِلَ بهم إلي أن يقتنعوا هم بذواتهم بعدم صِحَّته.. هذا، وعند بعض العلماء لم يكن إبراهيم مُسَايِرَاً لقومه بل كان في مرحلة الاستكشاف والبحث عن الأدِلّة للوصول لحقيقة وجود الله تعالي فأَوْصَله سبحانه لَمَّا أحْسَنَ استخدام عقله ولم يُعَطّله كما يَفعل البعض بالأغشية التي يَضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ فلَمَّا أظلمَ عليه الليل بحيث جَنَّ الأشياء أيْ أخْفَاها شاهدَ نَجْمَاً في السماء، قال هذا ربي أيْ خالِقِي ومُرَبِّيني ورازِقِي وراعِيني ومُرْشِدِي لكلّ خيرٍ وسعادةٍ ومُسْتَحِقّ عبادتي، فلَمَّا أفَلَ أيْ غابَ بسبب طلوع ضوء النهار قال لا أقبل ولا أرْضَيَ عبادة الآلهة التي تَغِيب لأنَّ الإله الحَقّ الذي يَسْتَحِقّ العبادة هو الذي لا بُدّ ألاّ يغيب لحظة بل يكون دائم الرعاية والحِفْظ والمُرَاقَبَة والإدارة والتوجيه والإرشاد لتدبير كلّ شئون كوْنه وخَلْقه وإلاّ تَخَبَّطوا وتاهُوا وضاعوا وهَلَكوا وتَعِسُوا! فكيف يُتّخَذ بالتالي إذَن مِثْل هذا الكوكب إلاهاً؟!
ومعني "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿77﴾" أيْ هذا بيان لدليلٍ ثانٍ من إبراهيم لقومه علي أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة لا غيره.. أيْ وحين رأى إبراهيم القمر طالِعَاً بعد ذلك قال هذا ربي، فلمَّا غابَ هو الآخر بطلوع ضوء النهار وظهر عدم استحقاقه للعبادة مثل الكوكب الذي أفَل، قال مُسْمِعَاً مَن حوله لتَنْبِيههم لضلالهم ولتَجْهيزهم لقبول الحقّ الذي سيقوله لهم قريبا لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما بسبب ضلالهم وفِعْلهم للشرور، قال إذا لم يهدني ربي أيْ لم يُرْشِدني ويُوصلني لطريق الهداية له أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، سأكون بالتأكيد تلقائيا بالتالي في الطريق الآخر المُعَاكِس مع الأناس الضائعين المُبْتَعِدين عن طريقه الحائرين الذين لا يَعرفون أين الصواب من الخطأ التعيسين في الداريْن.. وفي هذا بيانٌ أنَّ كلَّ مَن أراد الهداية لله وللإسلام والثبات والاستمرار عليها مَدَيَ حياته فعليه أنْ يُحْسِن استخدام عقله مع اللجوء الكامل له تعالي ليُيَسِّر له أسباب ذلك ليَتِمَّ تحقيقه ولا بُدَّ سيُحَقّقه له حتماً ما دام صادقاً في طَلَبِه لأنَّ هذا وَعْده الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً كما يقول تعالي "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" ﴿العنكبوت:69﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾، وبدون ذلك لن تتحقّق هدايته واستمراره عليها
ومعني "فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿78﴾" أيْ هذا بيان لدليلٍ ثالثٍ من إبراهيم لقومه علي أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة لا غيره.. أيْ وحين شاهَدَ إبراهيم الشمس طالِعَة بعد ذلك قال هذا ربي هذا أكبر أيْ أكبر من الكوكب الصغير والقمر اللذيْن أفَلَاَ سابقا وهي أكبر الكواكب حَجْمَاً وأعظمها قوة وتأثيراً في الكوْن والمخلوقات بأَشِعَّتِها وبالتالي فهذا الكوكب هو الأحقّ بأن يكون هو الإله بسبب مَا له مِن حجمٍ وتأثيرٍ كبير!! فلمَّا غابَت هي الأخري بحلول ظلام الليل وظَهَرَ عدم استحقاقها للعبادة مثل الكوكب الصغير والقمر اللذين أفَلَاَ سابقا، قال حينها مُسْمِعَاً الجميع بكل قوةٍ وثِقَةٍ وطمأنينةٍ مُعْلِنَاً النتيجة التي يريد الوصول إليها يا قوم إنى بَرِيء مِمَّا تُشركون به أيْ بعيد كل البُعْد من أيِّ شريكٍ تعبدونه معه أيْ مُتَبَرِّيء مِمَّا تعبدونه غير الله تعالي من آلهةٍ كصنمٍ أو حجرٍ أو نجم أو نار أو غيره رافض لها غير مُعْتَرِفٍ بها ولا راض عنها ولا صِلَة بيني وبينها وأنا ضِدَّها وأعاديها، حيث قد ظَهَرَ أمامكم واقعياً الدليل القاطِع الواضِح علي عدم استحقاقها مُطلقاً للعبادة
ومعني "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾" أيْ إنّي وَجَّهْتُ عقلي وقَصْدِي وكِيَانِي كله واتّجَهْتُ بعبادتي أيْ طاعتي وأسلمتُ نفسي إلي الذي خَلَق السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ وما عليهما من خَلْقٍ وبَشَرٍ وحده بلا أيِّ شريكٍ ولم اتّجِه نحو غيره وهو الله تعالي فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. لقد اتّجَهَ إبراهيم بالعبادة إلي خالقه لأنه عَرَفه من خلال ما خَلَق، فأيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لا بُدّ أن يقول أنَّ هناك خالقا قد خَلَقَ كل هذا ويديره، فإنَّ الأثر علي الأرض يدلُّ علي سَيْرِ أحدٍ عليها حتما!.. ".. حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾" أيْ وَجَّهْتُ وجهي له وكنتُ حنيفاً أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام وما كنتُ أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه
ومعني "وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾" أيْ وجَادَلَه قومه والناس حوله في عبادة الله وحده، بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره، والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءاً إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم.. ".. قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ.." أيْ قال لهم إبراهيم بكلّ قوّةٍ وثِقَةٍ وطمأنينةٍ هل تُجَادِلوني في شأن الله تعالي وفي أدِلّة وجوده وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَقَدْ هَدَانِ.." أيْ والحال والواقع أنه تعالي قد أرْشَدَنِي وأوْصَلَنِي لطريق الهداية له أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فكيف ألْتَفِتُ بعد ذلك إلى جِدالكم وقولكم الفاسد؟!.. وهذا تأكيدٌ لرفضه السابق لجِدالهم له بغير حقّ وقطعٌ لأيِّ أملٍ لهم في أن يَعبد غير الله تعالي مِثْلهم حيث قد حَسَمَ الأمر بتوفيق الله له للهداية وتيسيره أسبابها له بعدما أحسنَ هو استخدام عقله واختارها بكامل حرية إرادته.. والمقصود إبلاغهم وإعلامهم أنه ليس هناك أيّ فائدةٍ من مُجَادَلَتِي بعد أن هداني الله إلى الطريق المستقيم.. ".. وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.." أيْ ولا أخاف مُطْلَقَاً غضب وضَرَرَ ما تُشركون به في العبادة غير الله تعالي مِن آلهةٍ تَدَّعُونها كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها، لأنها لن تَضرّني ولن تَنفعني ولا أيّ أحدٍ بأيِّ شيء، فهي لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟! إلاّ إذا شاء ربى شيئاً من الضرر وَقَعَ ذلك الضرر حينما يشاء، لأنه وحده القادر علي كل شيءٍ من نَفْعٍ أو ضَرَرٍ وعلي إحداث هذا الضرر بي وعلي عَوْنِي علي مقاومته ليَرْفعه عنّي وعلي حمايتي منه من الأصل وقد أحاط عِلْم ربى بالأشياء كلها فلا تَخْفَيَ عليه خافِيَة في كل كَوْنه وخَلْقه ولا عِلْم لآلهتكم بأيِّ شيءٍ منها، فلا يُسْتَبْعَد أن يكون في عِلْمه أن يَحْدُث لي ضَرَرٌ مَا بسببها، فإنَّ ذلك إنْ حَدَث فإنه يَقع بقُدْرَة ربي وإرادته لحكمةٍ مَا لا بقدرة أصنامكم أو إرادتها.. ".. أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾" أيْ ألاَ تتدبَّرون ما تقولون فتعرفوا خطأه فتمتنعوا عنه؟! هل لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن؟!.. وهو سؤال أيضا كالسؤال السابق للتَّعَجُّب من ذلك ولإنكاره أي عدم قبوله وطَلَب فِعْل عكسه
ومعني "وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿81﴾" أيْ وهذا أيضا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وكيف تَتَصَوَّرُون وتَتَوَهَّمون أني أخاف ما أشركتم به في العبادة غير الله تعالي مِن آلهةٍ كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها لن تَضرّني ولن تَنفعني ولا أيّ أحدٍ بأيِّ شيءٍ حيث هي كما ترون واقعا لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟! في حين أنكم لا تخافون الإله الحقّ الذي أشركتم به غيره في العبادة وهو الأحقّ أن يُخَافَ منه كل الخوف لأنه القادر على الانتقام مِمَّن أشرك معه غيره وسوَّى بينه وبين مخلوقاته فأنتم أحقّ بالخوف لأنكم أشركتم بالله ما لم يُنَزّل به عليكم سلطاناً أيْ ما لم يُنَزّل بإشراكه عليكم دليلا، أيْ جعلتموها واتّخذتموها آلهة من عند أنفسكم دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم، فالله تعالي ما أخبر عنها بأنها آلهة بأىِّ شكلٍ من أشكال الإخبار، وما أنزل بأمر هذه الآلهة أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ من الأدِلَّة علي كوْنها آلهة بحَقٍّ وتَسْتَحِقّ العبادة كوَحْي مثلا أو كتاب أنزله مع رسله إليكم، ولا يوجد عندكم أيّ حجّة واحدة من الحجَج العقلية العلمية المَنْطِقِيَّة أو المَقْروءة أو المكتوبة حتى ولو كانت ضعيفة تُشير إلى ألوهيتها، بل أيّ عقل مُنْصِفٍ عادل لا يَقْبَل مُطلقا عبادتها لأنَّ ذلك مُخَالِف بالقطع لِمَا هو موجود مستقرّ في فطرته بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. وكلّ أمرٍ لم يُنْزِل الله به أيّ سلطانٍ فهو فاسد ليس له أيّ قيمة، لأنَّ الدليل المُؤَكَّد لا يكون إلا من عند خالِق الأشياء يُنزله علي خَلْقه وهو لم ينزل بذلك أيّ شيءٍ يدلّ علي صواب العبادة التي تقومون بها لغيره سبحانه بل الذي أنزله مُؤَكَّدَاً في كتبه السابقة مع رسله السابقين أنه هو الإله الواحد الذي ليس معه أيّ شريك، ولو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ.." أيْ فأىُّ الفريقين، فريق المُوَحِّدِين أم فريق المُشركين أحقّ بالأمن أيْ يَسْتَحِقّ الأمن والسلام والاطمئنان والاستقرار يكون فيه في حياته؟! والجواب حتماً معروف لكلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، ففريق المسلمين العابدين لله وحده الخالِق القادِر علي كل شيءٍ وكل نفعٍ وضَرَرٍ العاملين بكل أخلاق إسلامهم هم بالقطع في كل خيرٍ وسعادةٍ حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف، بينما فريق البَعيدين عن ربهم وإسلامهم يفتقدون لكل ذلك بدرجاتٍ مختلفة علي حسب درجة ابتعادهم.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿81﴾" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به
ومعني "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿82﴾" أيْ هذا جوابٌ فاصِلٌ للسؤال السابق وبيانٌ لسبب كمال الأمن والاطمئنان والاستقرار والسعادة في الحياة الدنيا والآخرة، وهذا من كلام الله تعالي أو من بقية كلام إبراهيم مع مَن حوله.. أيْ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، ولم يَخْلِطوا إيمانهم هذا بظلمٍ مَا مُتْعِسٍ للنفس وللغير من أيِّ نوعٍ من أنواعه سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ.." أيْ هؤلاء المذكورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الحَسَنة هم حتماً بكل تأكيدٍ وحدهم الذين لهم كل الأمن والاطمئنان والاستقرار والسعادة في دنياهم وأخراهم، فهم لهم كل خيرٍ وسعادةٍ حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف.. ".. وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿82﴾" أيْ وهم كذلك حتماً وحدهم سائرون علي طريق الهُدَيَ والرشاد والصواب التامّ، طريق الله والإسلام، طريق كل خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ وصدقٍ وسعادة تامّةٍ في الدنيا والآخرة
ومعني "وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿83﴾" أيْ وتلك الحُجَّة أيْ الدلاَلَة علي أننا المُسْتَحِقّين وحدنا للعبادة أيْ الطاعة والتي سَبَقَ ذِكْرها والتي لا يُمكن مُطلقاً رفض أو مُجَابَهَة أو مُغَالَبَة الحقّ الذي فيها والتي حاجَّ بها إبراهيم قومه هي حُجَّتنا التي أعطيناه وعلّمناه إيّاها ووَفّقناه وأرْشدناه إليها من خلال عقله السليم وفطرته لتكون حُجَّة أيْ دليلاً على قومه لتكون له الغَلَبَة عليهم.. ".. نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ.." أيْ كما رَفَعنا إبراهيم درجاتٍ ومَقامَاتٍ عظيماتٍ عالياتٍ فكان في كل أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه بسبب إحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله وحُسْن إسلامه وحُسن دعوته له ونشره ودفاعه عنه، نَرْفع كذلك كلّ مَن يَتَشَبَّه به ويَشاء أن يكون مِثْله ويَجتهد في اتّخاذ أسباب ذلك بإحسان استخدام عقله هو أيضا وإحسان عمله فنَشاء له هذا بأنْ نُعينه ونُيَسِّر له هذه الأسباب بعد أن اختار هو هذا الطريق أولا بكامل حرية إرادة عقله واستعان بنا وتوكّل علينا وذلك من خلال توفيقه لمزيدٍ من التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وللعلم والحِكْمة وحُسن التصرّف، إننا حتماً سنَرْفع مِن شأنه بسبب كل ذلك، في دنياه أولا، حيث المَكَانَة والعلم والفهم والحكمة وحسن التدبير والتيسير والعوْن والتوفيق والسَّدَاد والرعاية والأمن والحب والرضا والرزق والقوة والنصر والسعادة التامّة، ثم له في آخرته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿269﴾ من سورة البقرة " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.."، والآية ﴿11﴾ من سورة المجادلة ".. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.."﴾.. ".. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿83﴾" أيْ إنَّ ربك أيها الرسول الكريم وأيها المسلم وأيها الإنسان بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وعليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي حكيمٌ في رَفْعه وخَفْضِه عليمٌ بمَن يَسْتَحِقّ الرفع ومَن لا يستحِقّه بل يستحقّ الخفض
ومعني "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿84﴾"، "وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿85﴾"، "وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿86﴾" أيْ وعَوَّضه ربه الكريم الوهَّاب عن صبره وتحمّله الأذي من أجله بسبب الإيمان به وتوصيله أمانته ودينه الإسلام للآخرين وثباته وصموده علي ذلك دون أيّ ترَاجُع، عَوَّضه تعالي في مُقابِل كل ذلك ما هو أعظم منه وبما يُناسِب كرمه وفضله سبحانه وبما يُنْسِيه كل أذيَ وأسيَ، فأعطاه ابنه اسحق – بعد إسماعيل – وأعطي اسحق يعقوب وجعل الأنبياء كلهم مِن هذه الذرِّيَّة الصالحة وأوْحَيَ إليهم كل الكتب التي تحمل الإسلام ليكونوا هم الهُداة لكل البَشَر لربهم ولدينهم، لكل خيرٍ وسعادة، ويكون لإبراهيم كلّ هذا الخير في ميزان حسناته يوم القيامة لأنه كان هو السبب فيه.. وليس ذلك التكريم المعنويّ حيث أرفع مَكَانَة لأيّ بَشَر علي وجه الأرض وفقط، بل أعطاه الله تعالي أيضا أجره في دنياه أي أعطاه كلَّ خيرٍ وسعادةٍ وما يتمنّاه أيّ إنسان في حياته من الرزق الوفير والمسكن الفسيح المُرِيح والزوجة الصالحة الحسنة والذرية الصالحة البارَّة النافعة والذِكْر الحَسَن فكل مَن يَذْكُره يحبه وبالجملة أعطاه تمام السعادة في الدنيا، ثم في الآخرة بالقطع سيكون من الصالحين أي من الذين يُعطيهم الله أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر.. أيْ وأعطينا لإبراهيم إسحق ابناً ويعقوب حفيداً، إذ في رؤية الأحفاد الصالحين سعادة، كلا منهما قد هديناه أيضا مثل أبيهما إبراهيم أيْ أرْشَدناه وأوْصَلناه لطريق الهداية لله أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وجعلناهما رسوليْن مثله، وهدينا من قبلهم رسولنا نوحاً إلي ذلك، فهم من سلالةٍ كريمةٍ شريفةٍ وشرف الآباء يعود حتما بالآثار الطيّبة المُسْعِدَة علي الأبناء، وهدينا من ذرية نوح – أو إبراهيم – داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وجعلناهم رُسُلَاً كذلك.. وهذا العطاء الوفير المُسْعِد في الداريْن من ربٍّ كريمٍ سيكون حتما نصيب كل مسلمٍ يجتهد في أن يتشبَّه برسله الكرام في إيمانهم بربهم وتمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم وصبرهم علي أذاهم، وهذا هو معني ".. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿84﴾" أيْ وكما أعطيناهم من كرمنا وفضلنا العظيم كلّ هذا الخير الكثير بسبب إحسانهم، فهكذا دائما سيكون جزاؤنا وعطاؤنا الذي لا يُوصَف وبلا حسابٍ للمُحسنين، فهذا سيكون دوْمَاً حال كل مُحسِن، كل مُتقِن مُجيد، كل متمسّك عامل بكل أخلاق إسلامه، سيُؤْتَيَ حتما من فضل ربه من الخير والسعادة التامة ما يُسعده ومَن حوله في دنياه وأخراه، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا.. "وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿85﴾" أيْ وكذلك هدينا زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وكل هؤلاء الأنبياء من الكامِلِين في صلاحهم، الذين صَلُحَت أحوالهم فسعدوا في الدنيا بسبب ذلك ثم سيكونون في الآخرة مع الصالحين في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. هذا، والصلاح هو قول وفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ في كل شأنٍ من شئون الحياة.. "وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿86﴾" أيْ وهَدَيْنا كذلك إسماعيل واليسع ويونس ولوطا، وكل هؤلاء الرسل فضَّلناهم على كل الناس حيث اخترناهم لكمال أخلاقهم رُسُلَاً أيْ مَبْعُوثين مِنَّا لهم ليُبَلّغوهم شَرْعَنا الإسلام ليسعدوا به في الداريْن
ومعني "وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿87﴾" أيْ وكذلك هَدَيْنَا بعضاً مِن آباء هؤلاء وذرِّيَّاتهم أيْ أبنائهم وأحفادهم وإخوانهم، وهم الذين بَدَأوا هم أولا بإحسان استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فلَمَّا فَعَلوا ذلك يَسَّرْنا لهم أسباب الهداية لنا وللإسلام (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، ولفظ "مِن" يُفيد التبعيض أيْ أنَّ البعض مِن هؤلاء فَعَلَ ذلك، كَثُر أو قَلّ عددهم باختلاف الأزمنة، لكنَّ البعض الآخر لم يُحسن استخدام عقله وكان كافراً تعيساً في الداريْن.. ".. وَاجْتَبَيْنَاهُمْ.." أي واخترناهم بسبب حُسْن إسلامهم هذا ليكونوا دعاة لنا وللإسلام لمَن حولهم من الناس واخترنا بعضهم ليكونوا أنبياء مِثْل الذين ذَكَرْنا أسماءهم سابقا.. ".. وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿87﴾" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي هدايتهم والتوضيح للذي هُدُوا إليه وتَيْسِير الله لهم أسباب ذلك.. أيْ وأرْشَدْناهم وأوْصَلْناهم إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة
ومعني "ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿88﴾" أيْ ذلك الهُدَىَ أيْ الإرشاد والتوصيل إلي صراطٍ مستقيمٍ والذي اهتدىَ إليه أولئك الأخيار ومَن تَشَبَّه بهم هو هُدَىَ الله الذي يَهْدِى به مَن يَشاء هدايته مِن عباده وهم الذين شاءوا وأرادوا هم أولا هذه الهداية واختاروها بكامل حرية إرادة عقولهم حيث أحسنوا استخدام هذه العقول واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا فشاءها تعالي لهم بسبب ذلك، أيْ وَفّقهم لها ويَسَّر لهم أسبابها وسَدَّدَ خُطاهم نحوها، ومَن لم يشأ من الناس أن يهتدي بسبب تعطيله عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لم يشأ قطعا له الله ذلك، أيْ لم يُيَسِّر له أسباب الهداية (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿88﴾" أيْ ولو علي سبيل الفَرْض أشركَ هؤلاء المَهْدِيُّون المُخْتَارُون مع الله تعالي غيره في العبادة أي الطاعة كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو غيره أو كَفَروا به أيْ كذّبوا بوجوده وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وماتوا علي شِرْكِهم أو كفرهم، والمقصود تشديد الأمر أنه لو أيّ أحدٍ من الناس حتي ولو كان رسولاً أشركَ بالله، سيَحْبط عنهم ما كانوا يعملون بكل تأكيد، أيْ سيَضيع فيَذهب عنهم أجرُ أعمالهم التي كانوا يعملونها، أيْ ستَفسد أعمالهم فسادا تامّا، حيث خَلَطوها بأعظم وأثقل ذنبٍ يُطيح بأيِّ حسناتٍ سابقةٍ ولاحقةٍ مهما ثَقلَت وكثرَت في الميزان يوم القيامة وهو الشرك أو الكفر، وسيُحْرَمون بعد شِرْكهم أو كُفرهم جزاء ما كانوا يعملونه مِن خيرٍ يَتَمَثّل في سعادةٍ دنيوية علي قدْر نواياهم كما وَعَدَ سبحانه أهل الخير في دنياهم ووَعْده الصدْق الذي لا يُخْلَف مُطلقا بقوله "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ﴿النحل:97﴾ والحياة الطيبة هي الحياة الدنيوية السعيدة، ثم قطعا سيُحْرَمون أيّ خيرٍ في الآخرة بل سيكونون مع المُخَلّدِين في عذاب جهنم
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴿89﴾" أيْ هذا بيانٌ لمَكَانَة هؤلاء الأنبياء والصالحين مِمَّن اتّبعوهم الذين عملوا بكل أخلاق الإسلام وبيانٌ لِمَا أنْعَمَ الله عليهم من وَحْي كتبه إليهم وتعليمهم إيّاها والتي فيها هذه الأخلاق وذلك لتشجيع الناس لاتّباعها ولاتّباع سُنَن هؤلاء الرسل والصالحين وطُرُق حياتهم ليسعدوا مثلهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فمَن تَشَبَّهَ بهم وعمل بها سَعِدَ فيهما ومَن لم يعمل تَعِس.. أيْ هؤلاء الأنبياء الأخْيَار المُخْتَارون بسبب كمال أخلاقهم هم الذين قد أعطيناهم الكُتُب التي فيها قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسبة لعَصْرِهم لكي تُصلحهم ومَن حولهم وتُكملهم وتُسعدهم في حياتهم وآخرها القرآن العظيم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ ، وأعطيناهم أيضا الحُكْم أيْ المُلْك والفقه والفهم والعلم للأحكام حتى يتمكّنوا من القضاء العادل بين الناس وإدارة كل شئونهم علي أكمل وجه، وأعطيناهم كذلك النّبُوَّة وكَرَّمناهم بها بأن يكون منهم ولهم كثير من الأنبياء لينالوا شرف حَمْل الإسلام والحقّ والعدل والخير والسعادة للناس وهدايتهم لربهم.. ".. فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴿89﴾" أيْ فإنْ يُكَذّب بهذه الآيات التي في كتبنا والتي فيها الأخلاق والتشريعات والأنظمة المُسْعِدَة لكل شئون الحياة فلا يُصَدِّقها ولا يَعمل بها أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين حولكم أيها المسلمون فلا تَهتّموا ولا تَتأثّروا بهم فلا تأثير لكفرهم لأننا قد وَكّلنا بها، أيْ وَفّقنا للإيمان بها وجعلنا وكلاء عنّا كلّفناهم برعايتها وحِفْظها والعمل بها ونَشْرها والدفاع عنها للسعادة بها إلي يوم القيامة، قوماً ليسوا بها بمُكَذّبين أبداً ودائماً طوال حياتهم بل مُصَدِّقين صالِحين عارِفين بعِظَمِ قيمتها وإسعادها لهم متمسّكين عامِلين بها أشدّ التمسّك والعمل، وهم أنتم أيها المسلمون المُتّبعون لرسلكم ولإسلامكم في كل عصر.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد ﷺ وللمسلمين من بعده وتكريم وتشريف لهم أنهم حَمَلَة دينه كالرسل الكرام وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس له تأثير مُعَوِّق وأنَّ المُكَذّبين هم وحدهم الخاسرون التّعِيسون في الداريْن.. إنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿90﴾" أيْ هؤلاء الأنبياء الأخْيَار، ومَن اتّبَعهم مِن الصالحين الذين أحسنوا استخدام عقولهم فأسْلَموا وعملوا بكل أخلاق الإسلام، هم الذين قد أرْشَدَهم وأوْصَلَهم الله لطريق الهداية له أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وسَهَّلَ لهم أسباب هذه الهداية لَمَّا اختاروها هم بعقولهم، فاقْتَدِي بهُداهم هذا بالتالي إذَن أيها المسلم لا بأيِّ هُدَيً غيره لأنه هُدَيَ الله وليس هناك هُدَي إلاّ منه تعالي أيْ كُنْ مُقْتَدِيَاً بهم مُتّخِذَاً إيّاهم قُدْوَة لك مُتّبِعَاً لهم في حُسْن إسلامهم لتَسْعَدَ مثل سعاداتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا.." أي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين ولمَن يَتَشَبَّه بهم، ولعموم الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أنَّ مِن علامات صِدْقي أني لا أسألكم أيّ أجرٍ علي بَلاغِي ودعوتي لكم لله وللقرآن وللإسلام بحيث تَغرمون شيئا إذا تمسّكتم بأخلاقه!! أو أنَّي سأخسر مَكْسَبَاً مَا كنتُ سآخذه منكم إذا لم تستجيبوا!!.. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة.. فلعلّ هذا القول لهم يساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. ".. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿90﴾" أيْ ما هذا القرآن العظيم إلاّ تذكير للناس جميعا، وذلك لأنَّ فيه بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴿91﴾ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿92﴾ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿93﴾ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴿91﴾" أيْ وما عَظّموا الله حقّ تعظيمه وما أعطوه ما يَستحِقّه ويُناسبه تعالي من التقدير والتعظيم والقيمة والطاعة والتنزيه عمّا لا يَليق به، وما قَدَّرُوا حِكْمته ورحمته وحبّه لخَلْقه وإرادته السعادة التامّة لهم في دنياهم وأخراهم وعدم تَرْكِهم يَتيهون ويَتعسون في حياتهم بلا توجيهٍ وإرشادٍ حقّ التقدير، وبَعدوا عن الحقّ والعدل والخير والصواب والسعادة بُعْدَاً شديداً، هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، حين كذّبوا إرسال الرسل وإنزال الكتب من الله تعالي وقالوا هذا القول الشنيع الذي يدلّ علي الإساءة للخالق الكريم أنه يَترك خَلْقه بلا هدايةٍ للخير وللسعادة وعلي عدم شكره علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليهم وأعظمها تشريعاته التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تماماً في الداريْن وبما يدلّ علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والإصرار علي عدم اتّباع الإسلام حيث قالوا ما أنزل الله علي بَشَرٍ أيَّ شيءٍ من وحيٍ وكتابٍ فيه تشريع منه ونظام للحياة قاصِدين بذلك تكذيب الرسول الكريم محمد ﷺ والتكذيب بالقرآن العظيم وعدم اتّباعه حتي يفعلوا ما يريدون من شرور ومَفاسد وأضرار، وما كلّ ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ.." أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين من أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم، والذين يُحاولون إبعاد المسلمين عن إسلامهم بل ورَدّهم عنه للكفر ولعبادة غير الله ربهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم بما يُخْرِس ألسنتهم حيث لا بُدّ من اعترافهم بما ستقوله لأنه أمرٌ لا يستطيعون تكذيبه لانتشار أخباره بينهم وللكثيرين وهو إرسال بَشَرٍ هو موسي ﷺ وإنزال وَحْيٍ عليه هو التوراة وقد صَدَّقَ به وبها اليهود حينها، قل لهم إذا كان الأمر كما تَدَّعون كذباً وزُورَاً فمَن إذَن الذي أنزل التوراة وهي الكتاب الذي جاء به موسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أيْ فيها كلّ إرشادٍ للخير لهم وهي نور يكون سَبَبَاً لهدايتهم، أيْ لإرشادهم لكلّ خيرٍ وسعادة، بأنْ يُنير لعقولهم طريقهم في الحياة، ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرّ والصواب والخطأ، وذلك حتي يسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿122﴾ من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. لقد كانت بما فيها من إسلامٍ يُناسِب عصرها نوراً أيْ ضياءً للبَشَر من ظلامِ وتعاساتِ الكفر والفساد وهُدَيً أيْ إرْشاداً يَعصمهم أيْ يَحميهم ويَمنعهم من ذلك.. ".. تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا.." أيْ هذا بيانٌ لشدّة قَسْوَة وانغلاق عقول بعض اليهود وما ينتج عنها من سوءٍ حيث بَلَغ حالهم في القسوة وعدم التأثّر بتهديدِ الله بعذابه الدنيويّ والأخرويّ أنهم يجعلون كتابه التوراة قراطيس جَمْع قِرْطاس وهو ما يُكْتَب فيه من ورقٍ أو جلدٍ أو غيره أيْ يجعلونه أوراقاً مَكْتُوبَة مُفَرَّقة مُتَوَهِّمِين أنهم بذلك يَتَمَكّنون من التّحَكّم في شرع الله فيُبدون أيْ يُظهرون للناس بعضه مِمَّا يريدون إظهاره ويُخفون كثيراً منه حسبما يُحَقّق لهم الإبداء أو الإخفاء ثمناً مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ومن الكثير الذي يُخفونه اتّباع أخلاق الإسلام والإيمان بالرسول محمد ﷺ عند مَجيئه وبالقرآن الذي يُوحَيَ إليه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿159﴾ من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ"﴾.. والمقصود ذمّ أمثال هؤلاء الكاتِمين لكتاب الله ولتشريعاته المُحَرِّفين لمعانيها الذين يقصدون من وراء ذلك تكذيب الرسول ﷺ والقرآن قائلين ما أنزلَ الله علي بَشَرٍ من شيءٍ حتي لا يُسلموا ويمنعوا غيرهم من الإسلام، فذمّهم هذا يَفضحهم فيُخْرِس ألسنتهم فلا يَجْرُؤون علي رَمْي القرآن والرسول ﷺ بالكذب وهم بكل هذا الكذب والخيانة والاحتيال والسوء واللاأخلاق!!.. ".. وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ.." أيْ وقل لهم أيضا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم بما يُخْرِس ألسنتهم حيث لا بُدّ من اعترافهم بما ستقوله لأنه أمرٌ لا يستطيعون تكذيبه، قل لهم ومَن أنزل القرآن العظيم الذي جاء به محمد ﷺ والذي عَلّمكم الله فيه مِن خَبَرِ ما سَبَقَ وما يأتي ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم قبل إنزاله؟! حيث فيه الإسلام المُكْتَمِل الذي يُناسب البشرية في كل عصورها وأماكنها بكل مُتَغَيِّراتها إلي يوم القيامة إذ فيه تشريعات فيها كل ما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في الداريْن بينما كان كل كتابٍ سابقٍ له فيه من الإسلام ما يُناسب البشرية في عصرها.. كذلك من المعاني وعُلّمتم بهذه التوراة أيها اليهود ما لم تكونوا تعلمونه لا أنتم ولا آباؤكم قبل إنزالها من تشريعاتٍ حيث كان فيها الإسلام الذي يناسب العصر الذي نَزَلَت فيه إذ كانت مُشْتَمِلَة علي الإسلام الذي كان في الكتب السابقة والذي كان يناسب البشرية في عصور نزولها مع إضافاتٍ تناسب زمن نزول التوراة.. وفي هذا تذكيرٌ لليهود وللنصاري وللناس جميعا بفضل الله وكرمه عليهم في إرسال رسله وكتبه التي فيها تشريعاته المُسْعِدَة لهم ليشكروا ذلك بألسنتهم وعَمَلِيَّاً بالتمسّك والعمل بها ونشرها ليسعد بها الجميع لا بإخفاء بعضها!!.. ".. قُلِ اللَّهُ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم: الله تعالي هو الذي أنزل ذلك الكتاب وهو التوراة علي موسى وهذا الكتاب وهو القرآن علي محمد وهو الذي عَلّمكم ما لم تكونوا تعلمون.. ".. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴿91﴾" أيْ ثم بعد هذا القول الفاصِل القاطِع الحاسِم الذي لا يُمكن الجِدال فيه من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، اترك أمثال هؤلاء المُصِرِّين علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم والذين قد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، اتركهم في خوضهم يلعبون أيْ في انْعِمَاسهم وتَوَغّلهم وسَيْرهم وازديادهم واستمرارهم في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين، حتي يحين الوقت الذي يُلاقون ويُقابلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وعدناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أقوالهم وأفعالهم ومصيرهم، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب.. كما أنَّه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشير للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني "وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿92﴾" أيْ وهذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد ﷺ للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. ".. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.." أيْ ومن صفاته الطيِّبَة الحَسَنَة كذلك أنه مُصَدِّقٌ لِمَا بين يديه أيْ لِمَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة والإنجيل وغيرهما مِمَّا يؤمن به اليهود والنصاري أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول ﷺ إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يرفض الخير حتي ولو كان الذي جاءه به لا يُحِبّه كالرسول الكريم محمد ﷺ فمِن المُفْتَرَض إذَن أن تشكروه وتُحِبّوه لا أن تكرهوه!.. ولكنَّ الذي ينتفع بهذا القرآن العظيم هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم.. ".. وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا.." أيْ ولكي تُحَذّر به يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِنَ بَعْدِه أهل أمّ القري وهي مكة، فتبدأ بهم حيث هم الأقرب لك، ثم الأبْعَد فالأبعد مِمَّن حولها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لجميع الناس في كل مكان، وسُمِّيَت أمّ القري لأنها قِبْلة كل البلاد وأعظمها وأعلاها شأنا وفي مقدمتها مَكانَةً لأنّ فيها بيت الله الحرام الذي يتَّجِه إليه جميع المسلمين، تُنْذرهم جميعاً مُوَضِّحَاً لهم أنك مُبَشِّرٌ بكلّ خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة لمَن عمل بكلّ أخلاق هذا الكتاب، هذا القرآن الكريم، ومُحَذّرٌ بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما لمَن يَترك بعضه أو كله أو يُكذب به أو يُعانده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره.. ".. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿92﴾" أيْ والذين يُصَدِّقون بالحياة في الدار الآخرة، بيوم القيامة، بيوم الحساب والجزاء، هم الذين يُصَدِّقون بهذا القرآن، حيث يَدْفعهم طَلَب الثواب والخوف من العقاب يومها علي الإيمان به والعمل بكل أخلاقه لينالوا سعادتيّ الداريْن، وهم لذلك يُحافِظون علي كل هذه الأخلاق وعلي أداء صلاتهم كاملة مُسْتَوْفَاة أي يُؤَدّونها بكلِّ إتقانٍ على أكمل وأفضل وجهٍ ويُداوِمُون عليها فلا يَتركون أيّ وقتٍ من أوقاتها الخمسة ولا يَنشغلون عنها بأيِّ شاغِل.. هذا، وتَخْصِيص الصلاة رغم أنها مِن ضِمْن أخلاق وإرشادات القرآن التي يُؤمنون ويَعملون بها كلها للتنبيه علي أهميتها وآثارها المُسْعِدَة في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿93﴾" أيْ لا أحد أشدّ ظلماً وأعظم عقوبة من الذي يَفْتَري علي الله الكذب أي يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذباً وزُورَاً وتَخْريفاً أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه وهو لم يُوح إليه أيّ شيء! أو سيُنْزِل كلاماً مثل ما أنزله الله من قرآنٍ كريم! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتخاريف.. ".. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ.." أيْ ولو رَأَيَ الرَّائِي هذا الوقت والحال السَّيِّء الشديد حين الظالمون يكونون في غمرات الموت أيْ في شدائده مَغْمُورِين مُنْغَمِسين فيها عند نَزْع أرواحهم من أجسادهم والملائكة المُوَكّلَة بقبضها تَمُدّ أيديها وقُدْراتها لهم لتعذيبهم ولنزعها بكلّ شِدَّةٍ بلا رحمةٍ قائلة لهم أخرجوا أنفسكم من عذابنا وخَلّصوها من أيدينا إنْ كنتم تستطيعون ذلك كمزيدٍ من التعذيب النفسيّ لهم إضافة للجسديّ – أمّا المُحْسِنون فتستقبلهم الملائكة عند موتهم بكلّ تَبْشِيرٍ وخيرٍ وتخرج أرواحهم سهلة سريعة لتستقرّ في رحمات وجنات وخيرات خالقها الرحيم الكريم – لَرَأَيَ أمراً مُخيفا مُرْعِبا، ولم يَذْكر القرآن جوابَ الشرط لأداة الشرط "لو" ليَترك للقاري أن يَسبح بخياله في شدّة العذاب الذي ينتظرهم وما هم فيه من رُعْبٍ وذِلّةٍ ونَدمٍ ولوْمٍ شديد.. هذا، والظالمون هم أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم في أول الآية الكريمة وهم كل الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿93﴾" أيْ في هذا اليوم، يوم الوفاة ودخول القبر ثم يوم القيامة، تُعطون بتمام العدل بلا أيّ ذرّة ظلمٍ ما تستحِقّونه من عذاب الهُون أي الإهانة والذلّة أي العذاب الذي يُهينكم ويذلّكم ويفضحكم، فليس الذي تُعْطَوْنَه منه سواء في دنياكم أم أخراكم إلا بسبب شروركم ومَفاسدكم وأضراركم التي تعملونها وعلي قدْرها وبما يُناسبها، بسبب ما كنتم تقولونه علي الله تعالي كذباً وزُورَاً كما ذُكِرَ بعض أمثلته في أول الآية الكريمة، وبسبب أنكم كنتم تستكبرون عن آياته أيْ تَسْتَعْلُون عن اتّباعها والإيمان أيْ التصديق بها واتّباع أخلاق الإسلام التي فيها.. هذا، وآيات الله قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ
ومعني "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94﴾" أيْ هذا بيانٌ لِمَا سيقوله الله تعالي لهؤلاء الظالمين يوم القيامة، بعد بيان ما تقوله لهم الملائكة عند موتهم كما في الآية السابقة.. أيْ ولقد حَضَرْتُم إلينا للحساب والجزاء فَرْدَاً فَرْدَاً كلّ فردٍ بمُفْرَدِه كما أوْجَدناكم في الدنيا أوّل مرّةٍ حُفَاة عُرَاة مُنْفَرِدِين بلا أملاكٍ ولا أولادٍ ولا أصحابٍ ولا أعوانٍ ولا آلهةٍ عَبَدَها بعضكم غيرنا ولا أيّ شيءٍ معكم إلاّ أعمالكم التي عملتموها في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، وتأكّدَ الآن بلا أيِّ شكّ لكلّ مَن ادَّعَيَ منكم كذباً عدم وجود بَعْثٍ ومَوْعِدٍ للحساب والعقاب والجنة والنار أنَّ الأمر حقيقيٌّ صادِقٌ.. ".. وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ.." أيْ وتركتم كلّ مَا أعطيناكم ومَلّكْناكم إيّاه ومَكّنّاكم منه من مُمتلكاتٍ وراءكم خَلْفكم ولم تَحضروا بأيِّ شيء، والمقصود ذمّهم ضِمْنِيَّاً لأنهم لم يستخدموه للخير في دنياهم ليكون نافعاً لهم وينالوا أجره في أخراهم.. ".. وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ.." أيْ ولا نُشَاهِد معكم اليوم في الآخرة شفعاءكم الذين ادَّعَيْتُم كذباً وزُورَاً أنهم فيكم أيْ في اسْتِحْقاق عبادتكم وعندكم شركاء لله تعالي، وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك، والشفعاء جمع شفيع وهو كلّ صاحب شَفَاعَة أي وَسَاطَة عند الآخرين لتحقيق المنافع أيْ له مَكَانَة وقوة، والمقصود هذه الآلهة المَزْعُومة التي كانوا في دنياهم يعبدونها أي يُطيعونها كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو بَشَر ضعفاء يَمرضون ويَفتقرون ويَموتون أمثالهم أو ما شابه هذا، والتي يَتَوَهَّمون أنها تنفعهم بأيّ شيءٍ أو تمنع عنهم أيّ ضَرَر!! أين هي الآن حتي تَنفعكم وتُنقذكم في هذا اليوم الشديد عليكم؟!.. والمقصود ذمّهم ذمّاً شديداً وتَحقيرهم علي سوء فِعْلهم هذا وبَثّ الندم والحَسْرَة فيهم حيث لا ينفع الندم فيكون ذلك لهم مزيداً من الرعب والعذاب النفسيّ قبل الجسديّ في النار.. ".. لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ.." أيْ لقد تَقَطّع ما بينكم من رَوَابِط وصِلَات ومَوَدَّات وعلاقات كنتم تَتَوَاصَلُون وتَتَناصَرُون بها في دنياكم فلن تَنفعكم بأيِّ شيءٍ الآن فلم يَعُدْ يَنفع أحدٌ أحداً شيئا.. ".. وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94﴾" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عنكم كل ما كنتم تَدَّعون كذباً وزُورَاً في الدنيا، ما كنتم تعبدونه في دنياكم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعكم قطعا بأيّ شيءٍ ولن تنقذكم ممّا أنتم فيه، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من أنه قد تَقَطّع بينهم، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنكم كلّ أدِلّة علي ما كنتم تدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياكم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعكم أو تمنع الضرَرَ عنكم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد تعلمون تمام العلم وتتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءكم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنكم كنتم كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿95﴾ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿96﴾ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿97﴾ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴿98﴾ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿99﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿95﴾" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ الله تعالى هو وحده الذي يَفْلق أيْ يَشقّ الحبّ الجافّ فيخرج منه الزرع الأخضر النّامِي بكل أنواعه ويَشقّ النّوَىَ الصّلْب – جمع نواة وهي التي تكون داخل التمر وغيره – فيخرج منه الشجر المُتَنَوِّع بكل أزهاره وثماره، لنفع الناس والخَلْق ولسعادتهم.. ".. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ.." أيْ هو الخالق سبحانه القادر علي كل شيء، علي فِعْل الشيء وضِدّه، وكليهما فيه المنفعة والسعادة التامّة لخَلْقِه إذا أحسنوا استخدامه، فهو يَخْلق مخلوقات حيّة فيها روح كالبَشَر والدوابّ مثلا مِمَّا هو ميّت بلا روح كماء الشرب، ويخلق بَيْضَاً مثلا لا روح فيه من طيرٍ متحرّك به روح، وما شابه هذا من إعجاز.. ".. ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴿95﴾" أيْ ذلكم المُتَّصِف بما ذُكِر بما يدلّ علي تمام قُدْرته وعِلْمه وأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ الخالِق لكلّ هذا الخَلْق المُعْجِز المُبْهِر المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم التي لا يُمكن حَصرها هو الله الذي لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُودَ يَستحِقّ العبادة والطاعة لنظامه وهو الإسلام إلا هو سبحانه، فأنّيَ تُؤْفَكُون أيْ فكيف بالتالي إذَن بَعْدَ كلّ هذه الأدِلّة الواضحة القاطِعة الحاسِمة تَنْصَرِفون وتَنْحَرِفون بعقولكم كلّ هذا الانصراف والانحراف عن الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن والتي هي في عبادة الله وحده وفي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه إلي الباطل والشرّ والتعاسة والإفك أي الكذب الشديد والذي هو في عبادة غيره واتّباع دينٍ غير الإسلام؟!.. أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!.. وفي هذا تَعَجُّب من حال الذين يَبتعدون عن الله وإسلامه ورفضٌ وذمٌّ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿96﴾" أيْ وأيضا من بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده الذي يَفْلق أيْ يَشقّ ضياء الصباح من ظلام الليل، ليَسْعَيَ الخَلْق لتحصيل سعادات أرزاقهم وأرباحهم.. ".. وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا.." أيْ وجَعَلَ سبحانه الليل يُسْكَن إليه أيْ مُسْتَقَرَّاً يَسْكن فيه الناس ويَرتاحون بعد تَعَب حركتهم وسَعْيهم فيكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادمٍ سعيدٍ مُرْبِحٍ في الداريْن بإذن الله.. ".. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا.." أيْ وجَعَلَ الشمس والقمر مَحْسُوبان بحسابٍ دقيقٍ بحيث لا يُمكن أبداً ولا يَحدث أنَّ الشمس تُزَاحِم القمر في غير وقت طلوعها وفي زمن وجوده، ولا هو كذلك يُزاحمها، ولكن كلاّ منهما له فَلَكه ومَدَاره الذي يَسبح ويسير ويدور فيه بكلّ دِقّةٍ دون أيّ خَلَلٍ بحيث يظهر في الوقت والمكان الذي حَدَّدَه خالقه له دون أيّ تَعَارُضٍ أو تَصَادُمٍ بينهما بل كلٌّ منهما يُكمل الآخر لنَفْع الخَلْق ولسعادتهم، حيث بضوء الشمس وظِلّها يُمكن حساب الساعات والدقائق والأيام، وبتَغَيُّر مواضِع القمر وانعكاساته إذ يكون هلالاً ثم مستديراً ثم يعود هلالاً وهكذا يُمكن حساب الأيام والأسابيع والشهور والأعوام والأعمار.. ".. ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿96﴾" أيْ ذلك الجَرَيَان للشمس والقمر وغيرهما من الكواكب بحُسْبَانٍ دقيق، وتَعَاقُب الليل والنهار، وذلك النظام المُحْكَم عموماً في كل الخَلْق في كل الكَوْن، هو نظامٌ مُقَدَّرٌ بكلّ دِقّة دون أيّ خَلَل، إنه نظامُ الله تعالي، العزيز الذي لا يُغَالَب ولا يُمَانَع فلا يَغلبه أو يَمتنع عن أوامره أيّ مخلوق، وهو العليم، أي بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه
ومعني "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿97﴾" أيْ وكذلك من بعض معجزاته أنه هو وحده سبحانه الذي خَلَقَ لكم أيها الناس النجوم المُضيئة بمواقعها في السماء والتي هي أساس علوم الفَلَكِ لتَسْتَرْشِدوا بهذه المواقع فتَعرفوا الاتّجاهات في أثناء ظلام ليل البر والبحر بما يَهديكم ويُرْشدكم ويُوصلكم إذا سِرْتُم في طرقٍ صحراويةٍ أو جَبَلِيَّةٍ أو بحريةٍ إلي حيث تريدون الوصول إليه من أماكن لتحقيق مصالحكم ومنافعكم وسعاداتكم.. ".. قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿97﴾" أيْ قد بَيَّنّا بكل تأكيدٍ ووَضَّحْنا وفَصَّلْنا بمِثْل هذا التفصيل الدقيق الشامل العميق الواضح المُقْنِع الحاسِم القاطِع الذي لا يَقبل أيّ جدال، الآيات أيْ الدلالات والمُعجزات في كَوْننا والتي تدلّ علي وجودنا وكمال قُدْرتنا وعِلْمنا ورحمتنا وعطائنا، وكذلك الآيات في قرآننا العظيم والتي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، لكنَّ الذي ينتفع ويسعد بها هم فقط الذين يعلمون أي الذين يُدْرِكون ويَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴿98﴾" أيْ وكذلك من بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه هو وحده لا غيره الذي ابتدأ خَلْقكم وأوْجَدكم جميعا رغم كثرتكم وانتشاركم وتَعَدُّد أشكالكم وألوانكم ولغاتكم مِن نفسٍ واحدةٍ أي آدم أبي البَشَر، وفي هذا تذكيرٌ أيضا ببعض نِعَم الله التي لا تُحْصَيَ علي الناس حيث رجوعهم إلى أصلٍ واحدٍ يجعل بينهم حبّ وتَرَاحُم وتعاون فيَسعدون بذلك.. ".. فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.. " أيْ وهو الذي أنشأكم من نفسٍ واحدةٍ فلكم استقرارٌ في أصْلاَب آبائكم – والمقصود مكان وجود المَنِيّ في الرجل وهو الخِصْيَتَيْن والذي يتكوَّن منه الجنين بعد اتّحاده مع بويضة المرأة – أو فوق الأرض لفترة حياتكم في الدنيا تنتفعون وتسعدون بها، ولكم استيداعٌ كالوديعة المُؤَقّتة في الأرحام أو تحت الأرض في القبور انتظاراً للمُسْتَقَرّ النهائيّ الأخير في الآخرة حيث السعادة التامّة لمَن أحسنَ والتعاسة التامّة لمَن أساء، أو لكم مكانُ استقرارٍ واستيداعٍ في كلّ ما ذُكِر، في الأصلاب والأرحام وسطح الأرض وداخلها بالقبور ثم المستقرّ الخالِد في الآخرة.. ".. قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴿98﴾" أيْ هذا استخدامٌ لذات الألفاظ كما في نهاية الآية السابقة (برجاء مراجعتها للشرح والتفصيل) لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيهما والتنبيه لهما والتذكير بهما وتثبيتهما وعدم نسيانهما، مع مراعاة أنَّ لفظ يفقهون يعني يعلمون لكنْ مع مزيدٍ من التّعَمُّق والتّدَبُّر والفهم والوَعْي والإدراك والبحث والتدقيق والكشف عمَّا هو غامض، وهو ما يُناسِب دِقّة خَلْق البَشَر وعقولهم وتَطوّرات حياتهم
ومعني "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿99﴾" أيْ وكذلك من بعض مُعجزاته ومن تمام قدْرته وعلمه ورحمته وعطائه يُنزل الماء من السُّحُب في السماء فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. ".. فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا.." أيْ هذا تفصيلٌ لبعض هذا الإخراج المُعْجِز.. أيْ فأخرجنا وأنبتنا من هذا النبات شيئاً أخضر أيْ مادة خضراء أو زرعاً صغيراً طَرِيَّاً أخضر هو أول ما يخرج من الزرع من الحبّ الصلب المزروع في الأرض، ونُخْرِج من هذا الشيء أو الزرع الصغير الأخضر بعد نموه حبَّاً مُتَرَاكِمَاً بعضه فوق بعض صلباً مرة أخري كما في سَنابِل القمح والأرز وما شابه هذا.. ".. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ.." أيْ وبقُدْرتنا يَخرج مِن طَلْعِ النخل – وهو أول ما يَطلع من ثمارها وهو كُوز أخضر يَتَفَتَّح وتَخرج منه السُّبَاطَة التي تحتوي على الأعواد التي تحمل حبَّات البلح – قِنْوانٌ دانية أيْ قريبة بحيث يَسهل الحصول علي ثمارها وهي جَمْع قِنْو وهو ما يحمل التمر.. ".. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ.." أيْ وكذلك بقُدْرتنا أخرجنا بهذا الماء جنّاتٍ أيْ بساتين من كل أنواع العِنَب والزيتون والرمان وغيره مِمَّا يَنفع ويُسعد الناس والخَلْق.. هذا، وقد تَمَّ تخصيص النخل وهذه النباتات بالذكر لاشتهارها حيث الجميع يعرفها ولكثير منافعها.. ".. مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ.." أيْ بعض ذلك الذي ذُكِر مُتَشَابِه ظاهرياً في الشكل أحياناً مع اختلاف الأطعم والفوائد، وبعضه لا يَتشابَه، بما يدلّ علي تمام قُدْرَة خالقه سبحانه وحُبّه للناس وتكريمه وإسعاده لهم بتنويع نِعَمه التي لا تُحْصَيَ ولا تُوصَف عليهم.. ".. انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ.." أيْ شاهِدوا بأبصاركم وتَدَبَّروا بعقولكم أيها الناس، انظروا نَظَر تَأَمُّلٍ وتَدَبُّرٍ وتَعَقُّلٍ وتَعَمُّقٍ واعتبارٍ إلى ثَمَرِ هذا النبات المُتَنَوِّع كله إذا أثمر في بداية خروج ثماره وانظروا إلي يَنْعِهِ أيْ نُضْجِهِ حين يَنْضُج كيف تَمَّ بعد أطوارٍ مُتَعَدِّدةٍ وصارَ نافعاً مُسْعِدَاً لكم.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿99﴾" أيْ إنَّ في ذلكم الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ".. لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿99﴾" أيْ لا ينتفع بمِثْل هذه الآيات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات إلا المؤمنون الذين يتدبَّرون فيها فتزيدهم حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقهم وتزيدهم حبا له وقُرْبا منه وطَلَبَا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الدنيا والآخرة.. بينما المُكَذبون المُعَانِدون المُستَكْبِرون المُصِرُّون علي ما هم فيه لا ينتفعون بها لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴿100﴾ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿101﴾ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿102﴾ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿103﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴿100﴾" أيْ ورغم كل هذه الدلالات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات الحاسمات السابق ذِكْرها التي تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، جَعَلَ المشركون وهم الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه، جعلوا له شركاء في العبادة مِن الجِنِّ يعبدونها أيْ يُطيعونها، أيْ كانوا يعبدون الجنّ أي الشياطين أيْ كلّ شرٍّ من عقولهم أو مِن عقول مَن حولهم – والجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل – ولذلك فَعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. والسبب في هذه العبادة للجِنِّ أو لغيرها هو تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَخَلَقَهُمْ.." أيْ وجعلوا لله شركاء من الجنّ والحال والواقع أنه تعالي هو وحده الذي قد خَلَقَهم وما يعبدون من الجنّ، فهو المُنْفَرِد وحده بخَلْق كل المخلوقات من عدمٍ فيجب أن يَنْفَرِدَ بالعبادة وحده بلا أيِّ شريكٍ له.. إنه قد خَلَقهم وليس الجنّ فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل مع علمهم ذلك داخل فطرتهم التي في عقولهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أن يعبدوا غيره وهو مَخْلوق مِثْلهم وليس له أيّ صِفَةٍ من صفات الخالِق كالقُدْرَة التامّة والعلم الكامل ونحو ذلك من صفات الكمال الحُسْنَيَ!.. وهل يُقارن الخالق بمَا خَلَقَه؟!!.. كيف يعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. وفي هذا تأكيدٌ علي شِدَّة قُبْحهم وسُوئهم وجهلهم، وفيه ذّمٌّ ولوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.." أيْ وزادوا في ضلالهم واخْتَلَقُوا له سبحانه أيْ كَذَبوا عليه كذباً شنيعاً ليس له أيّ أصل مُدَّعِين له أبناء من البنين والبنات كما ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وكما ادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله كأنه تعالي بَشَر يَتزوّج ويُنْجِب!!.. ".. بِغَيْرِ عِلْمٍ.." أيْ هؤلاء وأمثالهم ومَن يَتَشَبَّه بهم يفعلون كل ذلك وغيره من سوءٍ بغير عقلٍ ولا أيّ دليل! أيْ بغير تَعَمُّق وتَدَبُّر في نتائج الأمور كأنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم! وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴿100﴾" أيْ سَبِّحوه، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به وَصَفَهَا المُكَذّبون كَذِبَاً وزُورَاً، وتعالي أي عَظِمُوه واعلوا شأنه، فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
ومعني "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿101﴾" أيْ كذلك من الأدِلّة المَنْطِقِيَّة والعقلية علي أنه تعالي أرْفَع وأعظم قطعاً من أن يكون في حاجةٍ لمَن يُعينه من زوجةٍ أو ولدٍ أو شريكٍ أو غيره علي إدارة شئون الكوْن والخَلْق أنه هو وحده لا غيره بديع السماوات والأرض أيْ مُبْدِعهما وكل ما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ أيْ مُوجِدهما من عدمٍ ومُخْتَرِعهما على غير مثالٍ سابقٍ بلا تقليدٍ لشيء ومُتْقِنهما ومُحْسِنهما بأكمل إتقانٍ وإحسان.. ".. أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.." أيْ كيف يكون له ولد كما يَدَّعِي بعض المُكَذّبين وهو لم تكن له زوجة؟! وكيف أيضاً يكون له ولد وقد خَلَقَ كلّ شيءٍ فيكف يُتَصَوَّر أن يكون المخلوق وَلَدَاً لخالقه؟! وأيّ معني وفائدة لاتّخاذِ ولدٍ له وهو غنيّ عن كلّ شيءٍ لا يحتاج لأيِّ مُعِين؟!.. ".. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿101﴾" أيْ وهو تعالي فوق كل هذا عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهل لا يعلم سبحانه شأنَ وسِرَّ خَلْقه الذين خَلَقهم؟!.. حتماً يعلم، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أليس كل ما سَبَقَ ذِكْره هو من الدلالات التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه؟!
ومعني "ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿102﴾" أيْ ذلكم المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ هذه السابق ذِكْرها المُنْعِم بكلّ هذه النِعَم والتي لا يُمكن حَصرها هو الله ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – وهو الذي لا إله إلا هو أيْ لا مَعْبُودَ يَستحِقّ العبادة والطاعة لنظامه وهو الإسلام إلا هو سبحانه وهو وحده سبحانه خالقكم وخالق كل شيء في هذا الوجود وأوْجَده مِن عَدَمٍ ولم يستطع أيُّ أحدٍ ولم يَجْرُؤ علي أن يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقه وبالتالي فاعبدوه أيْ فأطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾، ﴿126﴾ من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. ".. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿102﴾" أيْ وهو وحده الوكيل علي كلّ شيء، لأنه خَلْقه وصَنْعَته، الوكيل بكمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته، أي الحافِظ والراعِي والمُتَكَفّل باحتياجاته والحارس له والمُدافع عنه والمُتَصَرِّف في شئونه علي أكمل وأسعد وجهٍ وبكل حِكمةٍ دون أيّ عَبَثٍ والمُرشد له لكل خيرٍ وسعادة، كمَن هو وكيل عن غيره في تصريف أعماله ولله المثل الأعلي، ولذا فهذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه وحده المُستحِقّ للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده وتمسّك بكلّ أخلاق إسلامه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. هذا، ومن معاني "وكيل" أيضا أيْ رقيب أيْ مُرَاقِب مُطّلِع على كلّ شيءٍ من أحوالكم أيها الناس حافِظ له تمام الحِفْظ وسيُحاسبكم عليه فاحذروا أن تتجاوزوا ما شَرَعَه لكم في الإسلام من وصايا وضوابط مُسْعِدَة، لأنّ هذا التجاوُز يُؤدِّى إلى عدم رضاه عنكم وبالتالي عدم عوْنكم وتوفيقكم فتتعسون حتماً في الداريْن
ومعني "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿103﴾" أيْ لا يُمكن لأحدٍ أن يراه ببصره في الدنيا – أمّا المُحْسِنون فيرونه في الآخرة في الجنة كتكريمٍ لهم – لشدّة عظمته وهيبته ولأنَّ العيون ليست مُؤَهَّلَة لرؤيته في دنياها رحمة بالخَلْق وإلاّ هَلَكوا لو رأوه وإنما تُدْرِك العقول وجوده لا حقيقته بالتّدَبُّر في مخلوقاته وآثار تَصَرُّفاته المُحْكَمَة في كوْنه، وهو تعالي يُدْرِك أيْ يعلم ويعرف تماماً كل الأعين وإمكاناتها وما فيها وما تراه وما تسمعه الآذان وما تُحِسّه الحَوَاسّ والأبْدَان وما تفكّر فيه العقول بعدما تراه وتسمعه وتُحِسّه فهو يري ويسمع ويعلم كلّ شيءٍ بكل إحاطةٍ وتفصيلٍ فلا تَخْفَيَ عليه أيُّ خافيةٍ من خَلْقه لأنه خالقهم، وهو اللطيف الخبير أيْ وهو وحده لا غيره الذي يَدخل بخِفّة إلي دقائق الأمور ويَعْرفها بعلمه التامّ سبحانه، وهو أيضا الخبير أيْ العليم بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول.. هذا، ومن معاني "اللطيف" أيضا أنه يُوصِل خيراته وأفضاله وإحساناته التي يشاؤها لأهل الخير – بل ولكلّ خَلْقه – بكلّ لُطفٍ أيْ مِن حيث لا يشعرون دون ثِقَلٍ عليهم وبأسباب مُيَسَّرة كثيرة قد يُدْرِكُون بعضها أو لا يُدركون وقد يكون بعضها ظاهِره شرّ لكنّ باطنه خير كثير فهو يجعل من المِحْنَة مِنْحَة ومن الصعب سَهْلَاً، وهو عزّ وجلّ اللطيف تمام اللطف أي الرقيق الرفيق تمام الرِّقّة والرفق.. إنه تعالي ليس كمِثْلِهِ شيء في صفات كماله الحُسْنَيَ، فهو بالتالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة.. فانتبهوا إذَن لكلّ ذلك وأحسِنوا التعامُل معه ومع دينه الإسلام ومع كل خَلْقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴿104﴾ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿105﴾ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴿106﴾ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴿107﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴿104﴾" أيْ لقد وَصَلَ إليكم أيها الناس من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – بصائر جَمْع بَصيرة أيْ إدراك العقل أيْ لكي تتبَصَّروا بها أيْ تَروا وتُدركوا وتَتدبَّروا بعقولكم وتُنير لكم طريقكم في حياتكم وتكون لكم هديً أيْ إرشاداً فتعرفوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وبالتالي تتحقق لكم الرحمة أيْ السعادة التامّة في الدنيا والآخرة، وهذه البصائر هي آيات الله والتي قد تكون دلالات ومُعجزات في الكوْن حول الناس لا يَقْدِر علي خَلْقها أحدٌ غيره سبحانه تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه واستحقاقه وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ أو آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ وآخرها القرآن العظيم أم مُعجزاتٍ علي يدِ الرسل لتأكيد صِدْقهم وآخرهم الرسول الكريم محمد ﷺ .. ".. فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا.." أيْ فمَن رَأَيَ وأدْرَكَ وتَدَبَّرَ وتَعَقّلَ واسْتَنَارَ بهذه البصائر، رَأَيَ الحقَّ والعدل والخير والسرور الدنيويّ والأخرويّ الذي في الإسلام الذي فيها وآمَنَ أيْ صَدَّقَ به واسْتَرْشَدَ بتوجيهه وسارَ خَلْفه وتمسّكَ بكلّ أخلاقه، فهو حتماً أول المُستفيدين ثم مَن حوله حيث سيكون له ولهم بحُسن التعامُل فيما بينهم السعادة كلها في الدنيا والآخرة، ولن يَنْفَعَ الله تعالي قطعا بأيّ شيءٍ لأنه مالِك المُلك كله الغنيّ عن كل شيء، ومَن عَمِيَ أيْ لم يُبْصِر ذلك ويَعقله أيْ ضَلَّ أيْ ضاعَ وانحرفَ عن إسلامه وتَرَكَ العمل به واتَّبَعَ كلَّ شرٍّ وفسادٍ فله قطعا التعاسة كلها فيهما، ولن يَضُرَّ بالقطع الله تعالي بأيِّ شيء!!.. إنه مَن يَجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خير وسعادة لنفسه أولا ثم لكلّ مَن حوله بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن، في حياته وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادهم جميعا في دوام ارتباطهم بربهم واستغفارهم من ذنوبهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم، ثم في آخرتهم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالهم وأقوالهم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر ﴿لمزيدٍ من الشرح والتفصيل، برجاء مراجعة الآية ﴿97﴾ من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ثم الآية ﴿55﴾ من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."﴾.. والعكس صحيح قطعا، فمَن تَرَكَ العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود علي نفسه أولا ثم علي كل مَن حوله بل وعلي كل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب سوء أقواله وأفعاله، في حياته الدنيا حيث غضب الله وعدم عوْنه وتوفيقه وحبه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره بسبب بُعده عن ربه وإسلامه، لأنَّ مَن يَزرع سوءاً لابُدّ أنْ يحصد سوءاً كما هو القانون الإلهيّ العادل الذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." ﴿الإسراء:7﴾، ويَتَمَثّل ذلك في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيكون له في حياته الآخرة حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴿104﴾" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ما أنا حفيظ عليكم أيْ حافظ لأعمالكم مُراقِب لها حتى أحاسبكم عليها مُوَكَّل بكم لا أفارقكم دون أن تؤمنوا! فليس لي إكراهكم على الإيمان (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿41﴾ من سورة الزمر ".. وَمَا أنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وخلاصة القول أنه ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا تحزن يا رسولنا الكريم أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب
ومعني "وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿105﴾" أيْ وهكذا دائما بمِثْل هذا التّصْرِيف أيْ التنويع والتّعَدُّد والتكثير من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، وكما صَرَّفنا كلّ ما سَبَق ذِكْره، كذلك تكون دائما كل آياتنا أيْ دلائلنا في قرآننا العظيم لكي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. ".. وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ.." أيْ ولكي كذلك في ذات الوقت نُبَيِّنَ الدليل ونُقِيم الحُجَّة علي المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين فيَنْكَشِف حالهم وأمرهم لأنهم بَدَلَاً أن تطمئنّ عقولهم بهذه الآيات الدامِغات المُعجزات المُتنوِّعات سواء في القرآن الكريم أم في مخلوقاته تعالي في كوْنه حولهم ويُسْلِموا ليسعدوا في الداريْن إذا بهم يُزَوِّرُون الحقائق ولا يَجِدُوا إلا أن يقولوا كذباً وزُورَاً دَرَسْتَ يا محمد أيْ ما جِئْتَ به من قرآنٍ ما هو إلا دراسات قد درستها علي يد مُدَرِّسِين فلاسِفة أو أهل الكتاب كاليهود والنصاري وليس وَحْيَاً من عند الله!! ليُشَكّكوا في القرآن والإسلام فلا يَتّبعوه ولا يَتّبعه أحد.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿105﴾" أيْ ولكي نُوَضِّحَ القرآن وما فيه من آياتٍ لقوم يُدْرِكون أهميته وفوائده وسعاداته ويَنتفعون ويَسعدون به في دنياهم وأخراهم لأنهم يَعقلون ويَتَعَمَّقون في الأمور وعلومها بحُسن استخدام عقولهم واستجابتهم لنداء فطرتهم بداخلهم، فهم فقط المُنْتَفِعِين السعيدين به وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد! وهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴿106﴾" أيْ سِرْ يا رسولنا الكريم خَلْف وسِيرُوا أيها المسلمون خَلْف القرآن العظيم وتمسّكوا واعملوا بكلّ ما فيه من أخلاق الإسلام في كلّ شئون ولحظات حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، فهو مُنَزّل إليكم مِن ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم ومُرشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال دينه الإسلام حيث هو العالِم تمام العلم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم الذي لا إله هو أيْ الذي لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية ﴿21﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴿106﴾" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُك المشركين واتركوهم أيها المسلمون وهم الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وابتعدوا عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا تلتفتوا لهم ولا تتأثّروا بتصرّفاتهم واستمرّوا في تمسّككم بإسلامكم وفي دعوتكم غيرهم لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسب إعراضهم وكونوا دائما من المُتَوَكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية ﴿51﴾، ﴿52﴾ من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴿107﴾" أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يجمع الجميع علي الهُدَيَ أيْ علي الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! ولو شاء ألاّ يُشْرِك هؤلاء المشركون ما أشركوا! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ﴿99﴾ من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾"، ثم الآية ﴿118﴾ من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴿118﴾"، ثم الآية ﴿56﴾ من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."﴾.. ".. وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.." أيْ وما جعلناك عليهم حافظا لأعمالهم مُراقِبا لها حتى تحاسبهم عليها مُوَكَّلا بهم لا تفارقهم دون أن يؤمنوا! فليس لك إكراههم على الإيمان، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴿107﴾" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد أنه ليس بحفيظٍ عليهم، أيْ ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مُسيطر عليه يُجبره علي اتِّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتِّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿256﴾ من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿108﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً عفيفَ اللسان لا تَتَلَفّظ بلفظٍ إلا إذا كان حَسَنَاً طيّباً لَيِّنَاً سَهْلاً مُتَوَاضِعَاً نافعاً مفيداً مُصْلِحَاً لا إساءة فيه لأيِّ أحدٍ ولا إيقاع لأيِّ خُصُومَة مَصْحُوبَاً بكل نوايا الخير المُمْكِنَة بداخل العقل.. إنه بانتشار عِفّة اللسان ينتشر الرُّقِيّ والتّطَوُّر والنّمُوّ والخير، ويَرْقَيَ الجميع ويتلاحَمون ويتحابُّون ويتكاتَفون ويتعاونون ويسعدون في دنياهم وأخراهم.. وإيّاك إيّاك أن تكون بَذِيء اللسان تقول السوء والشرّ والغليظ والفاحِش والمُغْرِض والمُسِيء والساخِر والمُوُقِع للخُصُومَات من الأقوال، لأنه بانتشار بَذَاءة اللسان والشَّتْم واللّعْن والطّعْن يَنتشر الانحدار والتّخَلّف والشرّ ويتقاطَع الجميع ويتخاصَمون ويَتَشاحَنون وقد يَقتتلون فيَتعس الجميع في الداريْن
هذا، ومعني "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿108﴾" أيْ ولا تَشْتِمُوا أيها المسلمون، أيْ لا تَتَلَفّظوا بألفاظٍ قبيحة، الآلهة التي يَدْعونها غير الله تعالي أيْ يَعبدونها أمثال هؤلاء الذين يعبدون غيره سبحانه، فيَتَسَبَّب ذلك في أن يَسُبُّوا الله عَزّ وجَلّ في المُقابِل انتصاراً وغَضَبَاً لآلهتهم، يَسُبُّونه عَدْوَاً أيْ تَعَدِّيَاً واعتداءً علي جلاله وعظمته وتجاوزاً الحقّ إلي الباطل والخير إلي الشرّ، بغير علمٍ أيْ بغير عقلٍ ولا أيّ دليلٍ أيْ بغير تَعَمُّقٍ وتَدَبُّرٍ في نتائج الأمور كأنهم كالجَهَلَة الذين ليس لديهم أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ أو مَنْطِقٍ أو فكرٍ أو فهم.. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم فلم يُحسنوا استخدامها بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ومن الممكن إطلاق بعض الأوصاف الصحيحة الحقيقية، وليس الشتائم والألفاظ البذيئة، التي ذكرها القرآن الكريم، بكل أدب الإسلام، علي الآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله، كأنها مثلا لا تَنفع ولا تَضُرّ ولا تَعْقِل ولا تَسمع ولا تُبْصِر ونحو ذلك من أوصاف، لكنْ إنْ أدَّيَ أيضا هذا التوصيف لها إلي ضَرَرٍ مَا، كسَّبِّ الله تعالي، أو إلي انقطاع التواصل مع مَن يدعوهم المسلمون لله وللإسلام منهم، أو ما شابه هذا من أضرارٍ يُقَدِّرونها بتقديرهم، فحينئذٍ يَمتنعون حتي لا يتحوّل العمل الصالح المُسْعِد المُثَاب عليه في الداريْن إلي عملٍ فاسدٍ مُتْعِسٍ مُعَاقَب عليه فيهما.. ".. كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ.." أيْ كما زَيَّنَّا لهؤلاء المشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم أعمالهم السيئة كذلك زيّنا لكل أمة عملهم أيْ زيّنا لأهل الخير الخير ولأهل الشرّ الشرّ، والتزيين هو التحسين، بمعني أنَّ الخير والشرَّ مُتَاحَان للجميع، والإنسان هو الذي يختار بكامل حرية إرادة اختيار عقله بينهما حسب رؤيته لهما، فإنْ أحسنَ استخدام عقله واستجابَ لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا ومُبَرْمَجَة من خالقها علي استحسان الخير لأنه يسعدها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ورَأَيَ الخير هو الحَسَن المُسْعِد له في الداريْن واختاره وسارَ فيه وعمل به أيْ عمل بكل أخلاق الإسلام سَعِد حتماً في دنياه وأخراه، والعكس صحيح قطعاً، فمَن أساء استخدام عقله وأغلقه وعانَدَ وعاكَسَ فطرته لتحصيل أثمان الدنيا الرخيصة فتَوَهَّم الشرَّ شيئاً حَسَنَاً واختاره وعمل به تَعِسَ بالقطع فيهما.. والمقصود من هذا الجزء من الآية الكريمة أنه هكذا دائماً لا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لمَن يَشاء الضلالة ولم يَشأ الهداية لله وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقله وبالتالي فلم يَشَأ الله له الهداية وتَرَكَه فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّه لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكه سبحانه ولم يُعِنْه.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذن، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿108﴾" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ثم إلي ربِّ الناس لا إلي غيره – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – رُجُعوهم جميعا يوم القيامة، المسلمون وغيرهم، المُهْتَدُون والضالّون، المُحْسِنون والمُسِيئون، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، حيث سيُخْبِرهم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة بما كانوا يعملون في دنياهم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منهم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منهم شرَّاً فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿109﴾ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿110﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات ﴿2﴾، ﴿3﴾، ﴿4﴾ من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾، ﴿7﴾ من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿109﴾" أيْ وحَلَفوا بالله تعالي علي آخر جهدهم وبكل ما يستطيعونه من أيْمانٍ، حلف المشركون الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم من المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه بهم أنهم إنْ وَصَلَتْهم آية أيْ دليل ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْق الرسول الكريم محمد ﷺ تكون مَرْئيَّة مَحسوسة كما حَدَثَ مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من آيات، فسيؤمنون بها بكل تأكيد علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. إنه تعالي قادر قطعا علي كل آية ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!! إنهم إن لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتما بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وقتية لا دائمة وأقل منها مهما عظمت! وهذا هو معني ".. قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ مَجِيء الآيات أيْ المُعْجِزات الخارِقات للعادات ليس إلاّ من عند الله وحده سبحانه لا من عند أيّ أحدٍ ولا حتي الرسل، وهو قادر قطعا علي إنزالها في أي وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. ".. وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿109﴾" أيْ وما يُدْرِيكم أيها المؤمنون لعلّ هذه المُعجزات إذا جاءت لا يُصَدِّقون بها أمثال هؤلاء، أيْ وما يُدْريكم أنها إذا جاءت لا يُؤمنون أو يؤمنون، أيْ لا تَدْرُون ما أعلمه مِن أنهم إذا جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون، أيْ لا تَدرون أيها المسلمون المُحِبُّون لأنْ يُسْلِم الجميع ليسعد مثلكم في الداريْن كما يَطلب منكم إسلامكم ما هم عليه من الإصرار والعِناد بداخل عقولهم بحيث لو جاءت لهم أعظم آية لا يؤمنون، لأنَّ الأمر ليس في نقصان الآيات وإنما في زيادة الإصرار بالعقول علي الاستكبار والعناد والزوغان!!
ومعني "وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿110﴾" أيْ وإنكم لا تَدْرُون أيضاً أننا نُقَلّب قلوبهم أيْ نُحَرِّك ونُحَوِّل عقولهم عن الحقّ والعدل والخير والصواب فلا تفهمه ولا تعقله وكذلك أبصارهم فلا تراه ولا تُدْركه فلا يُؤمنون ويَستمرّون علي تكذيبهم كما كان حالهم حينما لم يؤمنوا بالقرآن العظيم وبغيره من آيات الله حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه أول مرة لَمَّا دُعُوا إلى الإيمان به وبها سابقاً لفتراتٍ وبكل الوسائل.. وهذا التقليب للقلوب ليس حتماً إكراهاً وإجباراً من الله تعالي أو ظلماً منه لهم!! حاشَا لله وهو الذي يريد الهداية لجميع خَلْقه والذي ما خَلَقَهم إلا لإسعادهم، ولكنهم هم بالقطع السبب فيه، فهو بسبب إصرارهم التامِّ علي غَلْق عقولهم، فهم لمّا مَالُوا وانحرَفوا وابتعدوا عن الحقّ مع علمهم به وأصرّوا واستمرّوا على فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار دون أن يحسنوا استخدام العقل ويستجيبوا للخير أَمَالَ الله تعالى عقولهم عن قبوله، أيْ فلما تَرَكوا وأهملوا الإسلام، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الزَّوَغَان والانحراف والتَّرْك والإهمال والضلال أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد والضَرَر فإنَّ الله لا يَمنعهم منه ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." ﴿الرعد:11﴾، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا الزَّيْغ أي الانحراف والشرّ الذي هم فيه فكأنه هو تعالي الذي يُزيغهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم والذي يُسعدهم في الداريْن لكنَّ الواقع أنَّ هؤلاء الزائغين هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا الزَّوَغَان الذي هم فيه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ من سورة المائدة، ثم الآيات ﴿105﴾، ﴿268﴾، ﴿269﴾ من سورة البقرة، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. لقد نَسُوا أنفسهم حقا!! لقد زاغُوا وتاهُوا وذابُوا في كل شرّ!!.. ثم يوم القيامة يُعَذّبهم سبحانه حتما عذاباً مُناسباً لشرورهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿110﴾" أيْ ونَتركهم في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن نُيَسِّر لهم أسبابه وبأن نُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ونَتركهم دون عونٍ علي الهداية لله وللإسلام الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية ﴿10﴾ من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا﴾.. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.