الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
حم ﴿1﴾
أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿2﴾ " أي هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم ، فهو كتابٌ أنزله الله تعالي العزيز الحكيم ، ولذا فهو يَتَّصِفُ بصفةِ مَن أنزله سبحانه ، فهو كتابٌ كله عِزَّة وحِكْمَة لمَن يَتَّبعه ويتمسّك بكلّ أخلاقه التي فيه ، هو كتابٌ عزيزٌ حكيمٌ ، أيْ غالِبٌ لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَتَدَبَّره ويعمل به كله ويَلجأ إلي مُنزله تعالي ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالِك المُلْك كله القادر علي كل شيء الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعانِدين المُستكبرين ، وهو حكيمٌ أيْ كله حِكمة وصواب حيث كلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث ، وهو أيضا مُحْكَم أيْ كله إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيه أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وهو محفوظ بحِفظ الله تعالي ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل ، وهو كذلك حاكِم أي مَرْجِع شامل يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها .. هذا ، وفي الآية الكريمة تأكيدٌ علي أنَّ هذا القرآن العظيم المُعْجِز هو ليس مِن قول بَشَرٍ كشاعرٍ أو عالم أو غيره كما قد يَدَّعِي بعض المُكذبين المُعاندين المُستكبرين كذبا وزُورَاً وتخريفاً وسَفَاهَة وإنما هو بلا أيّ شكٍّ تنزيل من الله العزيز الحكيم
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ ﴿3﴾ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿4﴾ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴿5﴾ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة ، للساعة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ ﴿3﴾ " أيْ ما خَلَقْنا بقدْرتنا التامّة السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها ، ما خلقنا كلّ ذلك عَبَثَاً ولَعِبَاً ولَهْوَاً بلا حِكْمَة ! وإنّما خَلَقْناه لِحِكَم ومنافع كثيرة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. لقد خَلَقْنَاه بالحقّ والذي هو عكس الباطل أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه ، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه ، ولكي يَسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنّ خالقها هو الحقّ ، تعالي عمَّا يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن عُلُوَّاً كبيرا .. فهل يَتَوَهَّم أمثال هؤلاء أنّ حياتهم ستنتهي هكذا بكل عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلوا حينما يرجعون إليه في الحياة الآخرة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بعد موتهم بأجسادهم وأرواحهم ؟! تعالي سبحانه عن هذا اللعب وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو الذي وجوده حقّ أيْ صِدْق وقدْرته التامَّة وعلمه الكامل حقّ وكتبه ورسله حقّ ووعده حقّ وهو الخالق الحقّ وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَأَجَلٍ مُّسَمًّى .. " أيْ وأيضا ما خَلَقْنا كل ذلك ليكون دائما بلا نهاية فيَتَوَهَّم البعض أنه لن يَرْجع إلينا ولكن ما خَلَقْناه إلاّ لأجلٍ مُحَدَّدٍ مُعَيَّنٍ لكلِّ مخلوقٍ حيٍّ بموته ثم لجميع المخلوقات وجميع الناس بانتهاء آجال الجميع والحياة الدنيا كلها يوم القيامة حيث يجتمعون عندنا للحساب الختامِيّ لينال أهل الخير كل خير وسعادة وأهل الشرّ كل شرّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. " .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ ﴿3﴾ " أيْ ولكنْ مع كل هذه المُعجزات الدَّالاّت علي تمام قُدْرتنا وكمال عِلمنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة بلا أيّ شريك ، فإنَّ الذين كفروا أيْ لم يُصَدِّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار ، عن الذي أُنْذِرُوه من خلال كتب الله والرسل والدعاة له ولإسلامه بأنهم سيُعَذّبون في الداريْن بسبب كفرهم ، مُعْرِضُون ، أي يُعْطُون ظَهْرَهم لهذا الإنذار ولأيِّ إرشادٍ لأيِّ خيرٍ ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنه ويَتركونه ويهملونه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء !! فهم لم يُحسنوا الاستعداد للآخرة بالإيمان بربهم والعمل بأخلاق إسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم بل فعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ، وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ولمَن يتشبّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم قبل فوات الأوان وليسعدوا مثل سعادة المسلمين
ومعني " قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿4﴾ " أيْ قل يا أيها الرسول الكريم ويا كلّ مسلم مِن بَعده لهؤلاء المشركين أي الذين يعبدون آلهة غير الله تعالي كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها ، قل لهم أخبروني عن شركائكم ، عن آلهتكم هذه التي تَدْعونها أي تعبدونها غيره سبحانه وأرُونِي أي أطْلِعُوني وعَرِّفُوني بها وقد جعلتموها كذبا وزورا شريكا له في العبادة ، أروني إيّاها علي أرض الواقع حتي نَرَيَ سَوِيَّاً هل فيها صفات الألوهية كخَلْق كلّ شيءٍ والقُدْرة عليه والعلم به أم لا ؟! وفي هذا تعجيزٌ لهم وإخراس لألسنتهم وإنهاء لكل حجَجهم الوَاهِيَة حتي لا يَدَّعُوا بكلّ تَبَجُّح وافتراءٍ وجود آلهة أخري مع الله تعالي – ولعلّ بعضهم قد يَستفيق من غفلته حينما يُلام عمليا هكذا – لأنهم بالقطع لن يُطْلِعوه علي شيءٍ لأنهم يعلمون أنه يَرَيَ هذه الآلهة ويَعلمها بالفِعْل وأنهم يُصابون بالخِزْي والعار حينما يُواجههم أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويسألهم هل هي آلهة حقيقة أم لا ، وذلك لأنهم يعلمون تماما أنها لا تَقْدِر علي أيّ شيءٍ ولم تَخْلق شيئا من الأرض يرونه أمامهم بل هي مخلوقة مثلهم بل هي أضعف منهم ، وكيف يكون المعبود أضعف من العابد هكذا ؟! ولو كانت خَلَقَت شيئا فليُظهروه إذن ! وهل نَفَعَت بشيءٍ ما أو مَنَعَت ضَرَرَاً ما ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة ؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ .. " أيْ وأيضا أخبروني إذا كانوا لم يَخلقوا أيَّ شيءٍ من الأرض فهل حتي قد اشتركوا في خَلْق أيِّ شيءٍ فيها أو في السماوات حتي يَسْتَحِقّوا المُشَارَكَة معه تعالي في العبادة ؟! إنَّ الإجابة منهم بالقطع ستكون لا !! وهذا الاستفهام هو لَوْمٌ شديدٌ وتَأْنِيب آخر لهم ورفض لأفعالهم وأقوالهم .. " .. ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿4﴾ " أيْ وهذا أيضا تأنيب ولوْم ورفض ثالث لهم لعلهم يَستفيقون ، أيْ أخبروني هل أعطاكم خالقكم الكريم كتاباً ما كالقرآن مثلا أنزله مِن قَبْلِه علي أحدِ رسله فتأتوني به وتحضروه لي إنْ كنتم صادقين في أنكم أنتم الذين علي الحقّ وفي أنَّ عبادتكم لآلهةٍ غيره مُسْتَنِدَة لكتابٍ أُنْزِلَ مِن عنده فيه إقرار منه لكم بمُشَارَكَة هذه الآلهة المزعومة إيّاه في الخَلْق والعبادة فتكونوا بذلك علي بَيِّنَةٍ مِن الذي أنتم عليه مِن الشرك أيْ مُسْتَنِدين إذن بالتالي علي حجَّة واضحة ودليل ظاهر علي صواب ما أنتم فيه ؟! فإنْ لم تستطيعوا إحضار كتابٍ – ولن تستطيعوا قطعا – فأحضروا لي حتي أيّ أثارةٍ مِن علمٍ أيْ بَقِيَّة تَتَّخِذونها كالأَثَر مَوْروث عن الرسل السابقين مع أحدٍ منكم مِن أيِّ علمٍ مَوْثُوق يُؤَيِّدكم !! .. إنكم إذَن ليس لكم مُطلقاً أيّ حجَج أو أدِلّة علي شِرْكِكم بالقطع وأنتم بالتالي كاذبون حتما !! .. هذا ، ويُفْهَم من الآية الكريمة أنَّ علي المسلم دَوْمَاً أن يَتَثَبَّت تماما من كلامه ويكون له دليل عليه بشيءٍ مُشَاهَد مِن أرض الواقع أو بخَبَرٍ مَنْقول مُوَثّق
ومعني " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴿5﴾ " أيْ وهل هناك أحدٌ أضَلّ ، أيْ لا أحدَ أشدّ وأكثر وأعجب ضلالا ، أيْ ضياعا ، مِن الذي يَدعو أيْ يعبد غير الله تعالي كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو نيران أو غيرها وهي لن تستجيب أبدا لتواصُله معها وطَلَبه منها عوْنا أو توفيقا أو تيسيرا أو أمنا أو رزقا أو قوة أو نصرا أو نحو هذا من مُتطلبات الحياة السعيدة ولا تنفع ولا تَضرّ بأيّ شيءٍ حتي لو ظلّ يُناديها حتي موته ثم غيره مِن بعده حتي نهاية الدنيا ووصولها إلي يوم القيامة لأنها غافِلَة ساهِيَة عن عبادتهم لا تَشعر بها أصلا لأنها لا تَدري ولا تَسمع ولا تُبْصِر ولا تَعقل شيئا فهي جماد وبلا عقل وفهم وحَوَاسّ !! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! .. وفي هذا ذمّ ولوْمٌ شديدٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. هذا ، واستخدام القرآن للفظ " مَن " الذي يُستَخْدَم للعاقل وليس لغير العاقل للتعبير عن الآلهة مع أنها لا تعقل هو مُجاراة لهم لأنهم يتعاملون معها كأنها تعقل !! كما أنّ بعضهم يعبد بالفِعْل بَشَرَاً عاقلا ، رغم أنه يراه مثله ضعيفا يصيبه المرض والفقر والموت كأيّ بَشَرٍ فكيف يكون إلها ؟!!
ومعني " وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴿6﴾ " أيْ وإذا جُمِعَ الناس يوم القيامة للحساب كانت هذه الآلهة التي عبدوها في الدنيا لهم أيْ للعابدين لها أعداء ، وكانوا هم أيضا أعداء لها ، فالجميع يُعادِي ويَسُبّ ويَلعن بعضهم بعضا ، الآلهة تَسبّهم لأنهم أغلقوا عقولهم وعبدوا غير الله تعالي وهم يَسبّونها لأنها كانت سبَبَاً لِمَا هم فيه ، وستكون هذه الآلهة كافرة أيْ مُكَذّبة بعبادة مَن عَبَدَها أيْ تَتَبَرَّأ وتَتخلّص منها أمام الله وأنها لم تأمرهم أبدا بعبادتها ولم تشعر حتي بعبادتهم إيّاها وأنها لن تنفعهم بأيِّ شيءٍ ولن تنقذهم من عذابهم وذلك لإضافة مزيدٍ من الحسرة والندم والألم لهم كعذاب نفسيّ مع العذاب الجسديّ في النار ، وأيضا العابدون لها سيَكفرون بعبادتها أيْ يُكَذّبون بما ادَّعوه في دنياهم أنها كانت آلهة لهم يعبدونها حينما يرون أمامهم أنها ليست بآلهة حيث لا قُدْرة لها علي أيّ شيء !!
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿7﴾ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿8﴾ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿9﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿10﴾ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴿11﴾ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ﴿12﴾ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿13﴾ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿7﴾ " أيْ وحينما تُقْرَأ علي الذين كفروا ، أي الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ، آياتنا واضِحات في القرآن – وحين يُذَكَّرُون بآياتنا أيْ مُعجزاتنا الظاهرات في مَخلوقاتنا في الكوْن حولهم أو التي أيَّدنا بها رسلنا إليهم لتأكيد صِدْقهم – قالوا للصِّدْق هذا بمجرّد وصوله إليهم وسماعه دون أيّ تَدَبّرٍ وتَعَمّق وتَعَقّل ، هذا القرآن – وغيره من الأدِلّة – سحر مُبِين أيْ واضح !! أي ليس وَحْيَاً ودليلاً مِن الله تعالي ليُسعد البشرية في الداريْن ، وإنما هو سحر يسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يَفعل السحر بالعقل ! وأنَّ الرسل ما هم إلا سَحَرة ولا يُوحَيَ إليهم أيّ شيء ! .. إنه إذا كان القرآن والإسلام سحراً والرسول ﷺ ساحر ، كما يَدَّعون كذبا وزورا ، فلماذا لم يسحرهم هم أيضا ليُسْلِموا مثلما أسلمَ الآخرون ؟! فهم إذن كاذبون أشدّ الكذب بكلّ تأكيد !!
أما معني " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿8﴾ " أيْ هل يُصَدِّقُون ويَعترفون بأنَّ هذا القرآن العظيم هو من عند الله تعالي بلا أيّ شكّ أم يقولون أنَّ الرسول ﷺ هو الذي افتراه أي اختلقه كذبا من عنده ؟! إنه استفهام للتَّعَجُّب وللنفي الشديد لِمَا يقولون ، وهم يعلمون ويعترفون تماما أنه ﷺ هو الصادق الأمين !! .. " .. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا .. " أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم – ويا كلّ مسلمٍ مِن بعده – لو علي سبيل الفَرْض إن افتريت هذا القرآن وادَّعَيْتُ أنه مِن عند الله وهو مِن عندي لَعَاقَبَنِي سريعا حتما أشدّ العقاب ولا تُغْنُون ولا تَمْنَعون عِنِّي شيئاً مِن عقابه ولا تستطيعون لا أنتم ولا غيركم لأنه لن يَرْضَيَ قطعا ببقاء واستمرار مثل هذا الافتراء الذي سيُضِلّ خَلْقه ويُتعسهم في دنياهم وأخراهم فهذا ليس كأيِّ شرٍّ آخر يُمكن الانتظار علي مُعَاقَبَة فاعله لعله يَنْصِلح بل لابُدّ من سرعة إزالته لضَرَره الشديد المُتْعِس بالجميع وبالكوْن كله !! وما دام الأمر كذلك فكيف أفتريه وأنا متأكّد من عقابي ؟!! وما دُمْتُ لم أعَاقَب بل يَنصرني الله ويَنشر قرآنه ودينه الإسلام فهو إذن صِدْق وأنا صادق !! فلا يُعْقَل عند أيِّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُؤَيِّد ويَنصر سبحانه مَن يَفتري عليه الكذب !! .. " .. هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ .. " أيْ هو تعالى أعلم مِنِّى ومنكم ومِن أيِّ أحدٍ بالذي تَنْدَفِعُون فيه من الذمِّ في القرآن والتكذيب والعِناد له والاستكبار علي اتِّباعه والعمل بأخلاقه وسيُجازيكم على كل ذلك بما تَستحِقّونه مِن عقابٍ دنيويّ وأخرويّ .. " .. كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ .. " أيْ يَكفيني ويَكفي كلّ مسلم كفاية تامّة – ولا نحتاج أبدا لأيّ شهادة أخري منكم ولا مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أي الشاهد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بيني وبيننا وبينكم ، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك ، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم ، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به ، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم ، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها ، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بيننا وبينكم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أي خافية مِمَّا تقولونه أو تفعلونه أنتم أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا ومِمَّا يفعله المؤمنون أهل الخير .. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم ، وتمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين ، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن .. " .. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿8﴾ " أيْ ومع هذا كله إنْ رَجعتم إلي الله وتُبْتُم مِمَّا تقولونه وتفعلونه تابَ عليكم وعَفا عنكم وغفرَ لكم ورحمكم لأنه هو الغفور أي الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، الرحيم الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿9﴾ " أيْ قل لهم يأيها الرسول الكريم – ويا كلّ مسلم مِن بَعده – ما كنتُ أنا أوّل رسولٍ من الرسل أرسله الله تعالى إلى الناس وإنما سَبَقني كثيرون أنتم تعرفون من أخبارهم وأقوامهم ، كنوح وإبراهيم وموسي وغيرهم ، فليس الأمر إذَن ابْتِدَاعَاً أيْ اخْتراعَاً لا مِثال سابِق له ! ومادام كذلك فكيف تُكَذّبون وتَرْفضون أني أنا أيضا رسول مثلهم وتُشَكِّكون في دعوتي لعبادة الله وحده واتِّباع دينه الإسلام وكلهم قد جاءوا بمِثْل ما جِئتكم به ؟! .. " .. وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ .. " أي ولا أحد إلا الله يعرف الغيب في الدنيا لا أنا ولا أيّ رسول ، فلا أعرف ما يُصْنَع ويُعْمَل بي وإيّاكم ويَحْدُث لنا في المستقبل مِن مرضٍ وصحةٍ ورُخْصٍ وغلاء وغِنَى وفقر ونحو هذا ، فلا تَطلبوا مِن رسولكم أن يُخبركم بما هو مستقبليّ ، أمَّا في الآخرة فالقرآن الكريم قد دّلَّ الجميع علي أنّ أهل الخير لهم كل خير وسعادة وأهل الشرّ لهم كل شرّ وتعاسة بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم .. " .. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿9﴾ " أيْ إنّما أتَّبع ما يُنزله الله عليَّ مِن الوَحْي ، أيْ أقْصَيَ ما أعْلَمه هو اتِّباع ما يُعَلِّمه لي ، أيْ ما أنا بالذي يَملك شيئا لنفسه أو لغيره من نَفْع أو ضُرّ حاليا أو مستقبلا فأنا بَشَر مثلكم وهو تعالي وحده النافع الضارّ الذي يملك أسبابهما وييسرها أو يمنعها ، وإنى لا أخبركم بشيءٍ ولا أقول لكم قولا ولا أتصرّف معكم تَصُرّفا إلا اتِّباع ما يُوحيه إليّ وليس شيئا من عندي فاتَّبعوا هذا الوحي ففيه مِن خالقكم العالِم بكم كلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم ، وما مهمّتي أنا إلا فقط نذيرٌ مُبَيِّن مُوَضِّح لكم الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة لتسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ومُحَذّرٌ لكم من تمام التعاسة فيهما إذا خالفتم ولم تُصَدِّقوا بربكم ولم تَتَّبعوا إسلامكم ، ثم أنتم إمّا تَقبلوا فتسعدوا أو تَرفضوا فتتعسوا ، بكامل حرية اختيار إرادة عقولكم دون أيّ إكراه ، ثم لِيَتَحَمَّل كلّ فردٍ نتيجة اختياره
ومعني " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿10﴾ " أي قلْ يا أيها الرسول الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده لهؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أخبروني إنْ كان هذا القرآن مِن عند الله تعالى ، وهو قطعا كذلك ، ثم مع هذا كذّبتم به رغم الأدِلّة والبراهين القاطِعَة علي صِدْق ذلك ، والتي منها أنَّ الذي جاءكم به تعرفون صِدْقه تماما وتُسمّونه الصادق الأمين ﷺ ، وأنه مُوافِق للعقل المُنْصِف العادِل وللفطرة بداخل عقولكم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، وأنه لم يستطع أيّ أحدٍ أن يأتي بمثله رغم تحديه لكم فهو إذن ليس من كلام البَشَر ولو كان من كلامهم لكنتم أنتم أول مَن يأتي بمثله لفصاحتكم وبلاغتكم ، وأنه لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، ولكنكم مع كل تلك الدلائل ووضوحها وقطعيتها كفرتم أيْ كذّبتم فإذَن لا أحد أضلّ أيْ أكثر ضياعاً مِمَّن كان مثلكم هكذا يعيش في شقاقٍ بعيد أيْ في شِقٍّ أيْ جانبٍ بعيدٍ كلّ البُعْد عن جانب الحقّ والعدل والخير والسعادة ، وبالتالي فمَا الذي تَنتظرونه مِن الله أن يَفعله بكم ؟! ألستم في هذه الحالة تكونون ظالمين لأنفسكم ولهذا الحقّ الذي جئتكم به من عند خالقكم ؟! .. " وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ .. " أيْ هذا تأكيد وإثبات لظلمهم ، أيْ لقد كفرتم به مع أنَّ شاهداً مِن بنى إسرائيل الذين تثقون بشهادتهم وهم حولكم – والشاهِد هو كلّ مَن آمن مِن بني إسرائيل بموسى ﷺ والتوراة – قد شَهِدوا على مِثْل هذا القرآن بأنه صِدْق لاتِّفاقه مع التوراة التي أُنْزِلَت إليهم على أنَّ الله تعالى هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيّ شريكٍ وعلي التمسّك والعمل بكلّ خُلُقٍ حَسَنٍ وعلى أنّ البعث والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار حقّ ، فآمَنَ هذا الشاهِد بالقرآن وبمَن جاء به وهو الرسول ﷺ لأنه أحسن استخدام عقله ، وأصبحوا مسلمين ، واستكبرتم أنتم عن الإيمان ، فلماذا لا تؤمنون مثلهم ؟! ألستم في هذه الحالة تكونون من الظالمين المُكذبين لكلّ ما هو حقّ ؟! .. " .. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿10﴾ " أيْ إنَّ الله تعالي لا يُمكن أن يهدي له وللإسلام مِثْل هؤلاء الظالمين لأنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من ظلم – سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاء للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – دون أيّ خطوة منهم نحو أيّ خير حتي يساعدهم ربهم علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّه لهذا بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ ، فهم قد شاءوا الضلالة بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم فشاءها الله لهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ ولوْمٌ شديدٌ لهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم ، وتذكيرٌ لهم بأنَّ العقلاء لابُدَّ أنْ يُسْلِموا مثل شاهِد بني إسرائيل ، لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
أمَّا معني " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴿11﴾ " أيْ وهذا شكلٌ آخرٌ من أشكال المُرَاوَغَة والتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والتحَجُّج بحجَج سفيهةٍ ساقطةٍ لا قيمة لها مُطلقا لمحاولة تبرير ما هم فيه .. أيْ وأيضا يقول الذين كفروا للذين آمنوا ﴿إضافة إلي ما ذكر عنهم في الآيات السابقة﴾ ، مباشرة لهم أو في شأنهم وهم غائبون ، أنه لو كان هذا القرآن والإسلام خيرا ، أي نافعا مفيدا للناس في دنياهم وكان حقا أيْ صِدْقا ، لم يسبقونا إليه حتما حيث نحن بمَكَانتنا ورَجَاحَة عقولنا وسعة إدراكنا وحُسْن تقديرنا وخبرتنا أعرف بالخير وبالصدق من هؤلاء الذين آمنوا الضعفاء عقلا ومَكَانَة ومالا وقوة !! وبما أنهم هم الذين سارَعوا إليه وليس نحن فهو إذن ليس خيرا وليس صِدْقاً لأنّ مَعَالي الأمور لا يَصِل إليها أمثالهم بل أمثالنا !! هكذا بكل سطحية وسفاهة وإقلابٍ لحقائق الأمور !! .. وما ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. بينما الذين يحتقرونهم من المسلمين قد أحسنوا استخدام عقولهم فانتفعوا بهذا الخير وسعدوا به تمام السعادة في الداريْن !! .. " .. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴿11﴾ " أي وحينما لم يهتدوا بهذا القرآن للخير ، وهم الذين كذّبوه واستكبروا عليه وتَرَكوه ، فلابُدَّ إذَن وقطعا من أن يكون العَيْب فيه ما داموا لم يهتدوا به ولم يمكنه إقناعهم بطاعته لأنهم لا يُمكن مُطلقا أن يُخطئوا وهم الذين في نَظَر أنفسهم أو فيما يُريدون أن يُوهِموا ويَخدعوا به مَن حولهم مَعصومون لا يُخطئون ولا عَيْب فيهم! ! وبالتالي فسيَطعنون في القرآن العظيم وسيقولون عنه أنه إفكٌ قديمٌ أي كذب من أخبار وقصص السابقين !! ولو كان غير ذلك وكان خيرا لكنا اهتدينا به !!
ومعني " وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ﴿12﴾ " أيْ وكيف تَصِفُون القرآن العظيم بهذا الوَصْف السَّيِّء أنه إفك قديم مع أنه قد سبقه كتاب موسى الذي تعرفونه ، وهو التوراة ، والذي وافَقَ القرآن في عبادة الله تعالى وحده بلا أيّ شريك وفي اتِّباع أخلاق الإسلام والذي كان إِماماً لمَن أُنْزِلَ عليهم وقتها وهم بنو إسرائيل ومَن حولهم أيْ قائدا وقُدْوة يَقتدون به حيث يُرْشِد لكل خير وسعادة في الدنيا والآخرة وبالتالي كان رحمة من الله لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه ، فلماذا تُكَذّبون إذَن القرآن والرسول الكريم محمد الذي جاءكم به ؟! فهو كتاب مثل التوراة وهو رسول مثل موسي ﷺ !! .. " .. وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ .. " أيْ وهذا القرآن هو كتاب مُصَدِّق أيْ مُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لمَا قبْله من الكتب السابقة كالتوراة وغيرها والتي أوحيناها للسابقين من خلال رسلهم – وليس مُخَالِفا لها بل يُصَدِّق الحقّ الذي فيها وهي صَدَّقته حيث بَشَّرَت به قبل مَجِيئه وكان فيها ما يَتَطَابَق معه وذلك حتي يَثق فيه مَن كانوا مُتَّبِعِين لها سابقا فيَتَّبِعُوه – والتي كانت تُناسِب عصورها ليكون القرآن خاتما لها وصالِحا مُناسِبا مُسْعِدَاً لكلّ البَشَريّة في كل الأزْمِنَة والأمْكِنَة بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة .. " .. لِّسَانًا عَرَبِيًّا .. " أيْ وقد جعلناه بلسان العرب أيْ باللغة العربية لأنها أقوي لغة ، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني ، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر ، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة .. " .. لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ﴿12﴾ " أيْ لكي يُحَذّر الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم بمخالفتهم للإسلام بصورةٍ ما من صور الظلم سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صنمٍ أو حجر أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا ، يُحَذّرهم من التعاسة في الداريْن إذا استمرّوا علي ظلمهم ، ولكي يكون أيضا في ذات الوقت بُشْرَيَ للمُحسنين أيْ للمُتقنين المُجيدين المُتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم .. والبُشْرَيَ هي الخَبَر السَّارَّ منه تعالي لهم لينتظروه دائما مُستبشرين مُتفائلين سعداء ويزدادوا به هِمَّة ونشاطا في التمسّك بدينهم ليزدادوا خيرا علي خيرٍ وسعادة علي سعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿13﴾ " ، " أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿14﴾ " أي يُبَيِّن سبحانه أحوال المؤمنين المُحسنين السعيدة تمام السعادة في الدنيا والآخرة ليكون كلّ الناس كذلك .. أيْ هؤلاء الذين قالوا بكل صدقٍ واعترفوا ورضوا أنّ الله وحده بلا أيّ شريك هو ربنا أيْ مُرَبِّينا وخالقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشدنا لكلّ خيرٍ وسعادة في دنيانا وأخرانا وأنه هو المُستحِقّ وحده للعبادة فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ثم بعد هذا القول والإقرار تَرْجَموه عمليا بأن استقاموا أيْ تمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم واستمرّوا وثَبَتوا عليها دون أيّ انحرافٍ عنها ، استمرّوا علي هذا الطريق المستقيم ، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب ، طريق الله والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن ، وكانوا مُخلصين مُحسنين في كل ذلك (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿13﴾ " أيْ فهم بالتالي حتما دائما مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم ، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام ، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أي ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) .. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَة وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا .. " أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿14﴾ " أيْ هؤلاء هم حتما المُسْتَحِقّون لأن يكونوا أصحاب الجنة أي مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿15﴾ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿16﴾ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿17﴾ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿18﴾ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿19﴾ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴿20﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُحْسِنا إلي والديك ، وإلي جميع الناس ، بل وإلي جميع المخلوقات .. والإحسان هو تمام الإتقان لكل أقوالك وأعمالك بحيث تكون دائما حَسَنَة علي أكمل وجه مُمكِن يحبه الله ورسوله ﷺ والإسلام ، كما يُفهَم من قوله ﷺ عن الإحسان في الحديث المعروف : " .. أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. " ﴿جزء من حديث أخرجه مسلم﴾ فاستشعار هذا بالعقل سيَدْفَع كل عاقل حتما لإجادة ما يقوم به تمام الجودة ، فيَسعد الجميع بذلك في الداريْن .. والعكس صحيح بالتأكيد ، فعدم الإحسان يُتعسهم فيهما .. وبالجملة فالإحسان هو حُسْن الخُلُق ، هو التمسُّك بكل أخلاق الإسلام وإتقانها .. والإحسان للوالدين يكون بكل قولٍ طيّبٍ وفعلٍ جميلٍ ، والسؤال عنهما وعونهما وخدمتهما والإنفاق عليهما عند الحاجة ، وكل ذلك حسب الاستطاعة ، وإرضائهما ما أمكن بفعل ما يريدون ، إلا إذا كان طلبهما في غير معروفٍ ، أي في غير خيرٍ ، أي في شرٍّ أو سوء ، كالشرك بالله مثلا أي عبادة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه ، أو كالزواج مثلا مِمَّن لا يرغب الإبن أو تعلّم علم ما لا يريده أو ماشابه هذا مِمَّا قد يفعله أحيانا بعض الآباء استغلالا سَيّئا لِمَا أعطاهما الإسلام من مَكانة وتشريف واستبدادا بآرائهما علي أبنائهما ، فهنا يكون الاعتذار بأدبٍ ولُطْفٍ وتوضيح أنَّ الإسلام كما أعطي لهما فضلا وعُلُوَّا أعطي أيضا للأبناء بل لكل إنسان حرية اختيار اتجاه حياته والتصرُّف فيها .. ولا تنس الاستغفار سريعا مِن أيّ هفوة مُسيئة قد تظهر منك نحوهما والعودة بسرعة للإحسان .. وهما أيضا يستغفران الله إذا نسيا برَّ أبنائهما .. ليَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم .. وستَسعد كذلك إذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة ، للساعة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك !
هذا ، ومعني " وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿15﴾ " أي ألزمناه وحمَّلناه أمانة وعَهْد وَوَصِيَّة الإحسان بالوالدين ، والإحسان والحُسْن معناهما متقارب ، أي قِمَّة الإتقان والجمال في أيّ قولٍ أو عملٍ عند التعامُل معهما ، لأنهما سببا وجوده بإذن الله وقد بَذَلَا ما استطاعا من إنفاقٍ وإشفاقٍ وحبٍّ لحُسْن رعايته وتربيته .. " .. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا .. " أيْ مِن أسباب طَلَب تمام الإحسان لهما هو ما تَحَمَّلته أمه منه مِن المَكَارِه والمَشَاقّ والآلام المعروفة أثناء حمله ووَضْعه حيث حَمَلته بِكُرْهٍ ومَشَقّةٍ وألمٍ ووَضَعَتْه أيْ ولدته كذلك ، ثم رضاعته وخدمته وحضانته ورعايته ، وكل هذا يكون بكل حب وشفقة ، ولم يكن لمدة قصيرة بل طويلة قَدْرها ثلاثون شهرا ، منها ما يَقرب من سِتَّةِ إلي تِسعةِ أشهرٍ في المتوسط للحمل والباقي للرضاعة حتي وقت فِصَاله أي انفصاله عن لبن ثَدْيها أيْ فطامه خلال عامين .. ثم رعايتهما له طويلا حتي يَكبر ولا يعتمد عليهما ، فكان من الوفاء وحُسن الخُلُق إذَن أن يُقابِل ذلك بالإحسان والإكرام التامّ لهما .. " .. حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿15﴾ " أيْ عليَ الإنسان لكي يَسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ويُسعد مَن حوله أن يكون طوال حياته دائم التواصُل مع ربه ودعائه والتوكّل عليه والشكر له دائم الإحسان لوالديه ولعموم الناس بل ولجميع الخَلْق ، وأن يستمرّ علي ذلك حتي يبلغ أشُدّه أيْ إلي أنْ يَصِل إلي أقوي أحواله مِن حيث قوة العقل والبَدَن ، وهو سنّ عادة بين العشرين والثلاثين وهو أفضل سنِّ النفع للنفس وللغير وهو السنّ أيضا الذي قد يَنشغل فيه بأحواله أو بما هو سوء فلا يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة كيف للمسلم أن يُحَقّق حُسن طَلَبهما معا في الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ، وكذلك يستمرّ حتي يَبلغ أربعين سنة حيث تمام اكتمال العقل والحِكْمة والقوّة .. وعلي هذا الإنسان المسلم الصالح حينها أن يقف وَقْفَة طويلة مع ذاته لتقييمها ومراجعتها وتصويبها ، إضافة قطعا إلي وَقَفَاته التي كان يَقِفُها معها منذ صِغره كمُرَاجَعَةٍ وتَصْويبٍ نحو الخير بَعْدَ كل قولٍ وعملٍ وبعد كل يومٍ وكل فترةٍ ليُطَهِّرها أوّلاً بأوّل مِن أيِّ أخطاءٍ لها مراراتها وتعاساتها ، فيَعيش بذلك صافيا سعيدا كامل السعادة بلا أيّ شوائب تعيسة .. وعليه أيضا خلال حياته كلها أن يدعو ربه دائما أنْ أوْزِعْنِي أي ادْفَعْنِي وحَبِّبني وألْهِمني ووَفّقني وأعِنِّي ويَسِّر لي أن أشكر نِعَمك التي لا تُحْصَيَ عليَّ وعليَ والديّ وعلي الخَلْق جميعا ، ولفظ " نِعْمَتك " يُفيد أنَّ كلَّ نِعْمة عند تَدَبّرها فيها العديد من النِعَم التي يَصعب حسابها وعَدّها ، أشكرها بعقلي باستشعار قيمتها وبلساني بحمدك وبعملي بأن أستخدمها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ حتي أجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدْتَ سبحانك ووَعْدك الصِّدْق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وكذلك أوزعني أن أعمل دائما في كل لحظات حياتي عملا صالحا خَيْرِيَّاً مُسْعِدَاً لي ولغيري تحبه مِنّي وتَرْضَيَ به عَنّي فتزداد بذلك عليَّ رعاياتك وخيراتك وتيسيراتك وسكيناتك وسعاداتك ، واجْعَل بفضلك وكرمك ذرِّيتي صالحين أيْ متمسّكين بكل أخلاق إسلامهم مستمرّين علي ذلك حتي يعود صلاحهم عليَّ وعليَ الآخرين بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة ، وتَقَبَّل مِنِّي واسْتَجِب لي لأني قد تُبْت واستغفرت وعُدْت إليك من كلّ شرّ ولأني مُجتهد في أن أكون دوْماً من المسلمين المتمسّكين بإسلامهم .. فمَن فَعَلَ كلّ ذلك سَعِدَ حتما تمام السعادة في الداريْن
ومعني " أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿16﴾ " أي هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات الطيِّبة الحَسَنة والذين ذُكِرُوا في الآية السابقة هم الذين نَقْبَل منهم ما قاموا به في دنياهم من أعمالٍ حَسَنةٍ أي خيريّة مُفيدة مُسْعِدَة مع جزائهم عليها بجزاءٍ أحسن من الذي عملوه أي بأفضل كثيرا وكثيرا منه ، فهو سبحانه بكرمه ورحمته ووُدِّه يُضاعِف جزاء الأعمال الحسنة أضعافا مُضَاعَفة ، بل ويمحو تماما ما بينها من سيئات ويعفو عنها ، بل ويَتخَيَّر أحسنها وأفضلها وأعظمها في الأجر ويرفع لدرجة ثوابها الأعمال الأخري الأقل حُسنا فيُثيب فاعلها عليها كأنها هي أيضا كانت أحسن وأفضل وأعظم ! وما شابه هذا من صور كرمه وسخائه وعطائه الدائم الذي لا ينقطع ، سبحانه الوهّاب الرزّاق الذي يرزق بغير حساب .. " .. وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ .. " أيْ ونَعفو عن شرورهم أيْ نسترها ونَمْحُوها ونُزيلها ولا نُحاسبهم ونُعاقبهم عليها لكثرة توبتهم منها وعودتهم إلينا .. " .. فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ .. " أيْ ونجعلهم في عِدَاد وجُمْلة أصحاب الجنة أيْ مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالهم الحَسَنة .. " .. وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿16﴾ " أيْ مُحَقّقين ومُوَفّين لهم بذلك الوَعْدَ الصادق الذي لا شكّ فيه والذي لا يُخْلَف مُطْلَقاً بدخول الجنة والذي كانوا يُوعَدون به مِنّا في الدنيا من خلال رسلهم وكتبهم
ومعني " وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿17﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. فبَعد أنْ ذَكَرَ سبحانه حالَ المؤمنين الصالحين ذوي الأعمال الحَسَنَة البارِّين بوالديهم يَذْكُر حال الكافرين الفاسدين ذوي الأعمال السَّيِّئة العاقّين لهم ، فيقول تعالي واذْكُر يا كلّ عاقل هؤلاء الذين يقولون لوالديهم حينما يدعونهم للإيمان بالله وللتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام ليسعدوا في الدنيا والآخرة أُفٍّ لكما وهي كلمة تدلّ علي استقذار وقُبْح عقولهم وأقوالهم وأفعالهم والتأفّف والغضب والضيق منها .. " .. أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي .. " أيْ يَسألهما مُتَعَجِّباً مُسْتَبْعِدَاً مُسْتَهْزِئاً هل تقومان بوَعْدِي بأن أُخْرَج مستقبلا من قبري بعد موتي وبعد أنْ أصبحتُ ترابا وأُبْعَث بجسدي وروحي لحياةٍ آخرةٍ حيث حساب وعقاب وجنة ونار ؟!! وهو سؤال وحوار يدلّ علي أنه مِن المُكذّبين بوجود الله وبكلّ ذلك المُعانِدين لتصديقه المُستكبرين عليه المُستهزئين به !! كيف يكون ذلك وقد انتهت وذهبت الأمم والأجيال الكثيرة مِن قبلي ولم نَرَ أحدا قد أُخْرِج مِن قبره حيّاً بعد موته !! وهي حجّة سفيهة لا قيمة لها ، لأنّ الوعد بالبعث ، بكل بساطةٍ وعمُقْ ، هو في الآخرة بعد انتهاء الدنيا وليس فيها ويكون للحساب لا للعمل !! كما أنه لا بُدَّ أن يكون أمرا غَيْبِيَّاً ليكون مِن علامات الإيمان لمَن يُصَدِّق به !! وإلا لو كان حاضرا مَرْئيَّاً للجميع في دنياهم فكيف يُعْرَف المُصَدِّق مِن المُكَذّب ؟!! ثم هو لكي يتحقّق العدل به إذ هل يُعْقَل ألاّ يُعطِي الخالق العادل للمظلوم حقّه مِن ظالمه ولم يستطع أخذه منه في دنياه ؟! وهل يُعقل أن ينتهي كل هذا الكوْن المُعْجِز الدقيق الحكيم ونظام الحياة المُحْكَم هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يَصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر دون نهايةٍ دقيقة مثله بحسابٍ دقيق علي كل الأقوال والأفعال والمُجازاة عليها بالخير خيرا وبالشرّ شرَّا ؟! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) .. إنَّ هدفه ومَن يشبهه مِن سؤالهم وحوارهم هذا هو مجرّد المُرَاوَغَة للاستمرار في تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ، وحتي لو فُرِضَ وأحيا الله لهم آباءهم كما يَطلبون لم يؤمنوا ! لأنهم مُصِرّون علي ما هم فيه لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ .. " أيْ ووالداه مِن شِدَّة حرصهما علي هدايته ليسعد مثلهما ولا يتعس في دنياه وأخراه ومن شدّة استعظامهما لجريمته يدعوان الله بلَهْفَةٍ وشَفَقَةٍ ويطلبان الإغاثة والنجدة والإعانة منه أن يُوَفّقه لإحسان استخدام عقله ليختار الإيمان ، قائلين له مُحَذّرين مُشَجِّعين مُشفِقين عليه هلكتَ إن لم تؤمن ، أي آمِنْ ، أيْ صَدِّقْ واعمل صالحا حتي لا يصيبك الوَيْل أيْ الشرّ والعذاب والهلاك في الداريْن ، لأنَّ وَعْد الله صِدْق سيَتحقّق حتما يوما ما بالبَعْث وبالآخرة وبكل خيرٍ وسعادة للمؤمنين في دنياهم وأخراهم وبكل شرٍّ وتعاسة فيهما للكافرين .. " .. فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿17﴾ " أيْ فيَرُدّ عليهما رَدَّاً فيه استمرار لمزيدٍ من التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والتَّبَجُّح والاسْتِبْعاد والاستكثار علي الله فِعْله أنَّ ما هذا الذي تَعِدانِني به إلا أساطير السابقين أيْ قصصهم الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها !!
ومعني " أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿18﴾ " أيْ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم هم الذين حقّ عليهم القول أيْ ثَبَتَ ووَجَبَ عليهم العذاب بسبب أنهم لا يُؤمنون بعد أن عُرِضَ عليهم الإسلام بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة ولفترات طويلة ، أي بسبب إصرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم كلّ الشرور والمَفاسد والأضرار .. هذا ، والمراد بلفظ " القَوْل " هو ما تَوَعَّدهم الله به من عذابٍ في أقواله في كُتُبه وآخرها القرآن الكريم .. هذا ، والعذاب يكون في الدنيا بدرجةٍ ما مِن درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة بكلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ثم يكون في الآخرة بما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأخلد .. " .. فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ .. " أيْ في جُمْلةِ ومع ومِثْل الأمم التي ذَهَبَت وانتهت وعُذّبَت وهَلَكَت قبلهم والتي كانت مُشَابِهَة لهم .. هذا ، وهناك في الآخرة سيكون في النار أمم كثيرة من الجنّ تكون وقودا لإشعال النار ، والجنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين ، فهؤلاء المُكَذّبون سيكونون مع هذه المخلوقات الجِنِّيَّة التي تشتعل بها النار ، فهم إذن في أشدّ عذابها .. " .. إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿18﴾ " أيْ خسر كلّ هؤلاء وكل مَن يَتشبَّه بهم ، في دنياهم وأخراهم ، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما مِن صور العذاب ، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة حيث مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ وأعظم عذابا
ومعني " وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿19﴾ " أيْ ولكلِّ فريق من أهل الخير وأهل الشرّ منازل ومَراتِب حاصِلَة مِمَّا عملوه مِن خيرٍ أو شرٍّ في حياتهم الدنيا ، ولقد جَعَلَ سبحانه أجرهم هكذا في صورةِ درجاتٍ ليُوَفّيهم جزاء أعمالهم فلا يُظْلَمون شيئا أيْ لكي يُعطيهم حقّهم عنها وافيا تامَّاً بكلّ عدلٍ بغير أيّ نقصٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته
أمَّا معني " وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴿20﴾ " أيْ واذكر أيها العاقل لتَعْتَبِر وتَتَّعِظ يوم يَقِف الذين كفروا على النار فيرونها ثم يُقذفون فيها ويُقالُ لهم على سبيل الذمّ واللّوْم والتأنيب الشديد أضعتم وأتلفتم الطيّبات التي أنعم الله بها عليكم في حياتكم الدنيا في الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ولم تشكروها بأن تستخدموها في الخير ولم تُحسنوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا بل نسيتموها تماما ولم تُصَدِّقوا بوجودها ففعلتم ما فعلتم لأنه لا بَعْث بعد الموت ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار من وجهة نظركم ! (برجاء مراجعة كيف يُحسن المسلم طلب الدنيا والآخرة معا في الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. لقد استوفيتم إذَن كل طيّباتكم بما حَصَل لكم من نعيم الدنيا ومتعها فلم تَبْقَ لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنَيْل طيبات الآخرة ، وهو توضيحٌ لهم وتقريرٌ أنهم لا يُظْلَمون كما ذُكِرَ في الآية السابقة بل هذا هو تمام العدل .. لقد أذهبتم طيباتكم في الآخرة بمعاصيكم في الدنيا والتي شغلتكم عن عمل الخير .. لقد أذهبتم مُتعة طيباتكم في الدنيا وكأنكم لم تتمتّعوا بشيءٍ يُذْكَر حينما ترون ما تستحِقّونه من عقاب معاصيكم في الآخرة .. " .. فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴿20﴾ " أيْ فإنْ كان الحال كذلك ، فاليوم ، يوم القيامة ، لم يَبْق لكم إذَن إلا جزاء أعمالكم السيئة حيث تُجزون وتُعطون بسببها عذاب الهُون أي الإهانة والذلّة ، أي العذاب الذي يُهينكم ويذلّكم ويفضحكم ، بسبب أنكم كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحقّ أيْ تتعالون علي خلْق الله فتستعبدوهم وتظلموهم وتعتدوا عليهم وتذيقوهم أسوأ أنواع العذاب وتنهبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم ، وتتعالون علي رسل الله فتكذبوهم وتعاندوهم وتستهزؤا بهم ولا تتّبعوهم وتؤذوهم وتقاوموهم وتمنعوا الناس ما استطعتم من اتّباعهم ، وتنشروا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ، بل وتتعالون علي الله ذاته فتُكذّبوا بوجوده سبحانه وتعبدوا غيره وتساووه بخَلْقه وتصفوه بما لا يليق ، تعالي الله عمَّا تقولون وتفعلون عُلُوَّا كبيرا .. وكل ذلك كان بغير حقّ أيْ بكل اعتداءٍ وظلم ، لأنَّ العِزَّة تكون بحقّ حينما تُستَخْدَم في إقامة العدل بين الناس وحفظ حقوقهم ومنع أيّ أحدٍ من الاعتداء عليهم وبالتالي إسعادهم في دنياهم وأخراهم .. إنكم أيضا قد تَكَبَّرتم بغير استحقاقٍ لهذا التّعالِي لأنكم بَشَرٌ كبقية البَشَر تنتظرون جميعا رزق ربكم ولا زيادة لكم عليهم والجميع يَمرض ويَضعف ويَشيخ ويموت فلم يكن لكم إذن أيّ حقٍّ في أن تتكبَّروا ! .. وكلّ ما سَبَق بسبب أنهم كانوا يتشكّكون في وجود الله وفي رجوعهم إليه في حياةٍ آخرةٍ عنده بعد حياتهم الدنيا ويتوهَّمون أن لا بعث ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ، وذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، ولم يستجيبوا لنداء الفطرة – وهي المسلمة أصلا – بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ .. " .. وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴿20﴾ " أيْ وعذاب الهُون هو بسبب أيضا ، إضافة إلي استكباركم ، أنكم كنتم تفسقون أيْ تَخرجون عن طاعة الله أيْ تفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار بسبب هذا الاستكبار الذي دَفَعَكم لذلك ، فكان هو العذاب المُناسب لاستكباركم وفسوقكم
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿21﴾ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿22﴾ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴿23﴾ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿24﴾ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿25﴾ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿26﴾ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿27﴾ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿28﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع وبصورةٍ من الصور – أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستفاد من قصة سيدنا هود عليه السلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصته ﷺ في سورة الأعراف وهود والشعراء وغيرها ، من أجل اكتمال المعاني﴾
هذا ، ومعني " وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿21﴾ " أيْ واذْكُر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس ما حَدَث للآخرين لكي يَتَّعِظ فيَفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه ولا يكون مصيره مثل مصيرهم فيتعس فيهما ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك رسولنا هودا أخا قومِ عادٍ حين أنذرهم أيْ حَذّرهم من عقاب الله إذا عبدوا غيره ولم يَتَّبعوا دينه الإسلام وهم الذين كانوا يعيشون بمنطقةٍ تُسَمَّيَ الأحقاف وهي الأرض الرملية جنوب الجزيرة العربية قرب حضرموت واليمن .. " .. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .. " أيْ ولم يكن هودٌ هو أول رسول ولم يكن قومُ عادٍ هم أول مَن يُنْذَر وإنما قد خَلَت أيْ سبَقَت النذر جمع نذير أيْ الرسل من بين يديه أي مِن قَبْله وجاءت أيضا مِن خَلْفه أيْ مِن بَعده وكلهم كانوا يدعون قومهم لشيءٍ واحدٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وهو ألا يعبدوا إلا الله تعالي وحده ولا يشركوا معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿21﴾ " أيْ وكلهم كانوا يقولون لقومهم إني أدعوكم لله وللإسلام لأني أحبكم وأشفق عليكم أنكم لو خالفتم سيُصيبكم عذابٌ هائلٌ شديدٌ لا يُمكن تصوّره في يومٍ عصيبٍ علي المُكَذّبين هو يوم القيامة ، إضافة إلي ما يُصيبكم في الدنيا من درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل الأمر إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ .. هذا ، ولفظ " أخَا عَادٍ " يُفيد ضِمْنَاً أنَّ الله تعالي يُذَكِّر الدعاة بأحدِ أهمّ أساليب الدعوة وهو البَدْء بتحريك وتأليف مشاعر الحب والتآلُف والتقارُب مع عقل المدعو بقوله " أخا " و " قومه " حيث هو أخوهم في الإنسانية والنسَب والجِيرَة والصُّحْبَة والصداقة والوطن وفي الفطرة المسلمة بربها أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وهم قومه فهو منهم وهم منه يُسعده ما يُسعدهم ويُتعسه ما يُتعسهم ، وذلك حتي يكون قريبا منهم ويكونوا عارفين به واثقين فيه وفي أخلاقه فيَسهل عليهم بالتالي تصديقه واتّباعه
ومعني " قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿22﴾ " أيْ قابَلوا دعوته لهم لله وللإسلام بالقُدْوة والحِكمة والموعظة الحسنة بكل تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء حيث قالوا له هل أتيتنا لكي تَصْرِفنا وتُبْعِدنا عن آلهتنا التي نَعبدها حيث كانوا يعبدون الأصنام ؟! وقالوا له أيضا مُتَحَدِّين مُسْتَهْزِئين مُسْتَعْجِلين مُسْتَبْعِدين عذابَ الله أنّنا مُصِرّون مُستمرّون علي ما نحن فيه ولو كنتَ صادقا فيما تدَّعِيه كذبا وزُورا فأحْضِر لنا الآن هذا الذي تَعِدُنا به من العذاب الدنيويّ ، أو الأخرويّ كما تَدَّعِي أنَّ هناك آخرة والتي لا نُصَدِّق بها أصلا !
ومعني " قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴿23﴾ " أيْ رَدَّ عليهم ﷺ بصبرٍ وحِكمة قائلا إنما العلم بوقت نزول العذاب بكم عند الله تعالى وحده وليس لي علم به إلا ما يُعَلِّمني إيّاه ولا أملك الإتْيان به ، وما مهمّتي فقط إلا تبليغكم وإعلامكم بما أرسلني به إليكم وهو عبادته وحده واتِّباع دينه الإسلام لتسعدوا في الداريْن وتحذيركم من مُخالَفَة ذلك وإلا تعستم فيهما ، ولكني بتَعَامُلِي معكم رأيتكم قوما تجهلون ولا تَعرفون ما يضرّكم وما ينفعكم ، تجهلون ولا تُدركون ما هو واضح وصدق وعدل وخير ، لا تَفهمون ولا تَعقلون ، لا تُحسنون استخدام عقولكم ، كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيَّ علمٍ نافع مُفيد ولا يملكون فهما جيدا فلا يَتدبّرون في الأمور ، رغم وضوحها تماما لكلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ! .. وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿24﴾ " أيْ فلمّا رأوا السحاب الذي يحمل العذاب مُعْتَرِضَاً أفق السماء مُقْبِلا عليهم مُتَوَجِّها نحو وِدْيَانهم ومزارعهم سَعِدُوا وتَوَهَّموا أنه عارِضٌ أيْ سحابٌ سيُمطرهم بالمطر الذي كانوا ينتظرونه المُفيد لا الغزير المُهْلِك ، فيَرُدّ عليهم الله تعالي ، أو هود ﷺ بما أوحاه سبحانه إليه ، صادِمَاً مُخَوِّفاً لهم ولإيقاع الحَسْرة بهم وقَطْع أملهم في أيِّ خيرٍ ليكون ذلك عذابا نفسِيَّاً شديدا قبل الجسديّ الذي سيُصيبهم ، قائلا لهم لكنَّ الأمر عكس ما تتوَقّعون حيث هو العذاب الذي كنتم تستعجلون حدوثه والذي سبب استعجالكم له أنكم كنتم تَسْتَبْعِدونه وتُكذّبونه وتَسخرون منه فقد جاءكم الآن كما طَلَبْتم مُتَمَثّلا في ريح شديدة مُهْلِكَة مؤلمة مُوجِعَة
ومعني " تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿25﴾ " أيْ مِن صِفات هذه الريح أنها تُحَطّم وتُخَرِّب وتُهْلِك كلَّ شيءٍ تَمُرّ عليه في طريقها مُتَعَلّقٍ بهؤلاء الظالمين من أرواح وممتلكات وأموال وثروات وزروع وغيرها ، وهي لم تأتهم مِن ذاتها وإنما بإذن خالِقها ومُحَرِّكها ومُوَجِّهها ومُؤَهِّلها لهذا سبحانه ، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك بالتالي أنهم صاروا هالِكين مُدَمَّرين وصار الناظِر إليهم لا يَرَىَ شيئا من آثارهم غير أنقاض وبقايا مساكنهم الخَرِبَة لتكون هذه المساكن عِبْرَة لغيرهم ليأخذوا الدروس فلا يفعلوا مثلهم فيتعسوا تعاساتهم في دنياهم وأخراهم .. " .. كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿25﴾ " أيْ كما جَزَيْنا عاداً المجرمين بسبب كفرهم بالله فأهلكناهم بعذابنا المُوجع المُهْلِك المُدَمِّر في الدنيا كذلك نجزي كلَّ الأقوام المُجرمين الآخرين .. أيْ هكذا دائما يكون جزاؤنا وعقابنا وعذابنا الدنيويّ قبل الأخرويّ للمجرمين بما يُناسب جرائمهم .. والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا .. إننا نُعاقِب كلّ مجرم بما يستحقّ في دنياه علي قَدْر جريمته قبل عقابه الأشدّ والأعظم والأتمّ في أخراه .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
أمَّا معني " وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿26﴾ " أيْ هذا مزيدٌ مِن ذِكْر العِبَر والعِظات لمَن أراد أن يَعْتَبِر ويَتَّعِظ ، أي ولقد مكنَّا عاداً وغيرهم من الأمم السابقة الذين أهلكناهم بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم في الذي ما مَكَّنَّاكم فيه ﴿ما بمعني الذي وإنْ هنا للنفي بمعني لم﴾ أي في الذي لم نُمَكِّنكم فيه أيّها المُكَذّبين المُعاصِرين الآن – أو ولقد مَكَّنَّاهم في مِثْل ما مَكَّنَّاكم فيه عند مَن يعتبر إنْ زائدة لغويا ، أو ولقد مَكَّنَّاهم فيما إن مَكَّنَّاكم فيه كان تكذيبكم وعِنادكم أشدّ – فأعطيناهم في الدنيا ما لم نُعطِكم مِن القوَيَ المختلفة البدنيّة والماليّة وغيرها ، أو علي الأقلّ مِثْلكم ، حيث كانوا أشدّ منكم قوّة ومالا وسلطانا ونفوذا ومع ذلك أهلكناهم ، فلْتَحْذَروا إذَن أنتم المُشابِهين لهم أو الأضعف منهم عقابنا وعذابنا وإهلاكنا ، فهذا الذي لابُدّ أن يَصِلَ إليه ويَفهمه كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ! .. " .. وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ .. " أيْ ولقد أعطيناهم أسماعا لكي يسمعوا بها الحقّ وهو الإسلام وأبصارا يُبصرون بها أدِلّته وأفئدة أيْ عقولا يُدركونه ويَتدبّرونه بها ، أيْ لم تنقصهم حاسَّة من الحَوَاسِّ التي يُمكنهم بها إدراك الخير حتي يتحَجَّجوا بأيِّ حجَّة أنهم لم يَتمكّنوا من الوصول إليه ، ولكن مع كل ذلك لم تُغْنِ عنهم أيْ لم تنفعهم بأيِّ شيءٍ بسبب أنهم كانوا يجحدون أيْ يُكَذّبون بكل آيات الله سواء في مُعجزاته في مخلوقاته في كوْنه أو في التي أيَّدَ بها رسله لتَصديقهم أو في كتبه التي أرسلها إليهم فيها تشريعاته ووصاياه ليَعملوا بها ليَسعدوا في الداريْن ، فمَنَعَ تكذيبهم هذا انتفاعهم بما أُعْطُوا – وأيضا لم تَنْفعهم في دَفْع العذاب عنهم حينما نَزَلَ بهم – وما كان ذلك التكذيب إلا بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم تماما بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿26﴾ " أيْ وبالتالي فالنتيجة الحتمِيَّة المُتَوَقّعة لذلك أنْ حاقَ أيْ أحاطَ بهم العذاب الذي كانوا يستهزؤن به ويسخرون منه ومِمَّن يُحَذّرهم بحدوثه من رسلهم وكتبهم والمسلمين حولهم ، عذاب في دنياهم بصورةٍ ما من صوره كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ مع قوم عاد وغيرهم (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ، ثم في أخراهم لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني " وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿27﴾ " أيْ هذا تذكيرٌ آخر وتوسيعٌ لدائرة التّذَكّر لمَن أراد أن يَتَذَكَّر ، أي ليس أمر العذاب والإهلاك كان قاصرا علي قوم عادٍ فقط أيها المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المَوجودون المُعاصرون الآن ، فقد أهلكنا قبلكم سابقا ، ولا زِلْنا نُهْلك ، قري وبلدانا أخري وأمما آخرين يشبهونهم في سوئهم في الأرض حولكم تعرفونها أو تسمعون عن أخبارها وترون آثارها ، أهلكناهم بزلازل أو فيضانات أو أعاصير أو صواعق أو بحروبٍ فيما بينهم أو ما شابه هذا .. " .. وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ .. " أيْ ونَوَّعْنا وعَدَّدنا وأكثرنا من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه ، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا ، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما .. والآيات هي في كتبه تعالي إلي الناس من خلال رسلهم الكرام وآخرها القرآن العظيم والرسول محمد ﷺ ، وكذلك الآيات في كيفية إيقاع العذاب والهلاك بالمُكذبين حولهم كما يرونه في واقع حياتهم اليومية بصوره المختلفة ليَعتبروا به فلا يكونوا مثلهم .. " .. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿27﴾ " أيْ هذا التصريف للآيات هدفه لكي يَرجعوا إلي ربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم أيْ لكي يَستفيقوا ويستقيظوا ويُحسنوا استخدام عقولهم ويزيحوا الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ولفظ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن مُنتفعين ممّا يُصيبهم في دنياهم بسبب أفعالهم السَّيِّئة فيكونوا مُصَوِّبين دوْما لأخطائهم
ومعني " فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿28﴾ " أيْ هذا ذمٌّ وتسفيهٌ وتأنيبٌ شديدٌ للمُكذبين الذين يعبدون غير الله تعالي لعلهم يستفيقون حينما يرون المُهْلَكِين حولهم فيعودون لربهم ولإسلامهم قبل أن يُهْلَكُوا هم أيضا مثلهم .. أيْ فلوْ كانت الآلهة التي يعبدونها كأصنامٍ وغيرها ويَدَّعون كذباً وزوراً ومُرَاوَغَةً أنها قرباناً أيْ تُقَرِّبهم إلي الله حتي يَتَهَرَّبُوا من عبادته وحده ويستمرّوا علي عبادتها لتحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو غيره ، لو كانت آلهة بحقٍّ كما يَدَّعُون لكانت نَصَرَتهم حينما نَزَلَ بهم عذاب الله ومَنَعَتْهم وأنقذتهم منه ومِن إهلاكهم !! .. أيْ فلْتَنْصُرهم إذَن هذه الآلهة التي اتَّخَذوها مِن دون الله وادَّعوا أنها قُرْباناً له !! .. ولكنها قد ضَلَّت عنهم أيْ ضاعَت وغابَت وتَخَلّت عنهم ولم تنفعهم بأيِّ شيءٍ قطعا ، لا في الدنيا ، ثم لا في الآخرة حتما ، في وقتٍ هم في أشدّ الاحتياج إليها !! لأنها بالقطع ليست آلهة !! .. " .. وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿28﴾ " أيْ وذلك العذاب والهَلاك وحَسْرتهم بتَخَلِّي آلهتهم المَزْعُومَة عن نُصْرَتهم وإنقاذهم هو حتما كان أثَرَ ونتاجَ كذبهم وإفترائهم علي الله بعبادتهم آلهة غيره سبحانه وادِّعاء أنها قُرْبان له ، والافتراء هو أشدّ وأقبح درجات الكذب ويكون مُخْتَلَقَاً لا أصل له .. لقد خابوا وخسروا وتعسوا في الداريْن بسبب عبادتهم لها واعتمادهم عليها
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴿29﴾ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿30﴾ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿31﴾ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿32﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴿29﴾ " ، " قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿30﴾ " ، " يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿31﴾ " ، " وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿32﴾ " أيْ واذْكُر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك حين وَجَّهْنا وبَعَثْنا إليك مجموعة من الجنّ لكي تستمع للقرآن الكريم فلمّا حَضَرَت أوْصَت بعضها بعضا بالإنصات أيْ الصمت والتدبّر ، والجنّ في لغة العرب كل مخلوق خفيّ لا تراه العين ، والمقصود أنّ هذا ذمّ شديدٌ للمُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أنّ الجنّ – وهي المخلوقات التي ليس لها عقول وإنما تُدْرِك فقط ما وَهَبَها الله إيّاه من الإدراك الذي يُعينها علي أداء مهمّتها في نَفْع الإنسان كما نبَّه لذلك القرآن في مواضع كثيرة مثل حديث هُدْهد سليمان والنمل وتسبيح الطير مع داود وغير ذلك من مخلوقاتٍ مَرْئيّة وغير مرئية لها لغتها وإدراكها ولا يعلمها إلا خالقها سبحانه " .. وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. " ﴿الإسراء : 44﴾ – تستمع للقرآن بإنصاتٍ فتُصَدِّق به أنه من عند الله ربها وأنه نَفْعٌ وسعادة لها وللخَلْق كله لو عمل به البَشَر حيث سيُحسنوا للجميع ، ولا تكتفي بذلك بل لمّا تنتهي قراءته تنتشر فيما بينها تُحَذّر بعضها بعضا بأن تؤدِّي مهامّها التي أمرها ربها بها علي أكمل وجه ولا تخالفها ، وفي هذا إنذارٌ للبَشَر علي ألسنة الجنّ يَذْكُرها القرآن لتحذيرهم من عذاب وتعاسة الداريْن لمَن يُخالِف الله تعالي وقرآنه ودينه الإسلام ، لكن أنتم أيها البَشَر أصحاب العقول يُصِرُّ بعضكم على تكذيبه والاستعلاء عليه وعدم الاستجابة له والعمل بأخلاقه !! أين العقول المُنْصِفة العادلة ؟! ألم تتدبَّروا فيه أنه يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم قبل أخراكم ؟!! .. " قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿30﴾ " أيْ هذا يدلّ علي أنّ كلّ المخلوقات تستمع لآيات الله تعالي حينما تُقْرَأ والتي أنزلها للناس في كتبه مِن خلال وَحْيها لرسله وتُتَابِع نزولها منذ بَدْء الخَلْق لتَتَذَكَّر هي الأخري بها وتتناصَح بنصائحها فيما بينها ، حيث كلها يُصَدِّق الذي بين يديه أيْ قَبْله ولا يُكَذّبه بل يُؤَيِّده ويُؤَكِّده ويُبَيِّنه ويُتَمِّمه بما يُناسِب عصره لأنها كلها تُرْشِد إلي الحقّ وهو عبادة الله تعالي وحده بلا أيّ شريك ، وإلي طريقٍ مستقيم وهو الإسلام بما يُناسب كلّ عصر ، تُرْشِد إلي طريق الله ، طريق تمام الاستقامة والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة بلا أيّ انحرافٍ عن ذلك .. وهذا أيضا تَوْصِيَة ضِمْنِيَّة للبَشَر بالتمسّك والعمل بكل آيات الله ليسعدوا ، بالقرآن العظيم ، يَذْكُرها لهم خالقهم الكريم سبحانه علي لسان بعض خَلْقه ، لأنه إذا كانت المخلوقات ذات الإدراك المحدود تَفعل هذا ، فالبَشَر إذن أصحاب العقول أولي ! .. كما يَتَّضِح ويَتَأَكَّد في الآيتيْن بَعْدها في قوله تعالي : " يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿31﴾ " أيْ فلْتَسْتَجِيبوا إذَن أيّها البَشَر لكلّ داعي يدعوكم لله وللإسلام وتُصَدِّقوا به وبرسولكم الكريم ﷺ وبكل الذي جاءكم به في قرآنكم حتي تسعدوا برحمته تعالي ووصاياه في دنياكم ثم بمغفرته لكم ذنوبكم وعفوه عنها ومسامحتكم فيها وإنقاذكم من عذابٍ مؤلمٍ مُوجع يوم القيامة في النار ، وحتي تَنْعَموا بنعيم الجنة الخالد حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. هذا ، ولفظ " مِن " يُفيد حُسن التأدُّب في التعامُل مع الله تعالي حيث تَرْك مغفرة الذنوب له وهو أرحم الراحمين حسبما يراه برحمته التي وَسَعَت كلّ شيءٍ وتَسْبِق دائما غضبه فقد يَغفرها كلها أو يُحاسِب علي بعضها لأنه كان يَحتاج إلي توبةٍ ولم يُتَب منها ولم تُرَدّ الحقوق لأصحابها وما شابه ذلك .. وكما يَتَّضِح ويَتَأَكَّد أيضا في قوله تعالي : " وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿32﴾ " أيْ وأمَّا الذي لا يَستجيب للداعي لله وللإسلام ، فليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذّبا مُعَانِدا مُستكبِرا ، أم حتي مؤمنا ، أم أيّ مخلوق ، يستطيع أن يُعْجِز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه ! فهو مُلكه ! وهو خالقُ كلّ شيءٍ وقادرٌ تماما عليه ! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا ، كل الخلق في الأرض ، وكل الخلق في السماء ، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا ! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك ! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه ! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء ! .. وفي هذا تحذيرٌ من عقابه تعالي ليَتَّعِظ مَن أراد الاتِّعاظ ويفعل كلَّ خيرٍ ويترك كل شرّ .. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ – هي أنّه ليس لكم غير الله تعالي وَلِيَّا ، أيْ وليّا لأموركم يديرها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿255﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل) ، وإن اتَّخذتم غيره وليّا فلكم تمام التعاسة فيهما (برجاء مراجعة الآية ﴿257﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل) ، وكذلك ليس لكم أيّ نصيرٍ ينصركم ويعزّكم ويرفعكم إذا ابتعدتم عنه ولجأتم لغيره ، ستنهزمون في الدنيا ، ثم في الآخرة لن ينصركم أيْ ينقذكم أيّ أحدٍ مِن عذابه لمَن يستحقّه منكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سينصرهم الله في كل شئون حياتهم ، ثم الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ من سورة آل عمران أيضا ، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده﴾ ، فمَن يريد إذن ولاية الله المُسْعِدَة ونصره المُسْعِد ، في دنياه وأخراه ، فليتّخذ أسباب ذلك بأن يؤمن بربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه .. " .. أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿32﴾ " أيْ هؤلاء الذين لم يَستجيبوا لداعي الله هم حتما في ضلالٍ أيْ في ضياع أيْ في شرّ وفسادٍ مُبِين أيْ واضح لا يَخْفَيَ علي كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل .. إنهم بالتالي قطعا في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿33﴾ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿34﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة ، للساعة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك ! .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿33﴾ " أيْ ألم يُشاهِد الناس ويَنظروا ويَتدَبَّر كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ – والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم ، أيْ لقد رَأوا وتأكّدوا ، كما أنه للتّعَجُّب وللرفض للذين يُكَذّبون ذلك والذي هو في مُنْتَهَيَ الوضوح – وهل بَلَغَ العَمَىَ وإغلاق العقول بالمُكذبين منهم المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُسْتَبْعِدين لحدوث البَعْث أنهم لم يَرَوْا ولم يعقلوا أنَّ الله تعالى الذي خَلَق السموات والأرض أيْ أوجدهما مِن عدمٍ بإبداع أيْ علي غير مثالٍ سابقٍ بتمام قُدْرته وعلمه بكل ما فيهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لا يعلمها إلا هو ولم يستطع أيّ أحدٍ أن يخلق مثلها أو يَتَجَرَّأ فيَدَّعِي أنه هو الذي خَلَقها ولم يَعْيَ بخَلْقهِنَّ أى ولم يَتْعَب حتما بسبب أنه خلقهما بل بمجرّد أن قال لهما كن فكانتا كما يريد ، ألم يروا أنه قادر بكل تأكيدٍ علي إحياء الموتي من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الختاميّ حيث يُعطِي لأهل الخير كل خير وسعادة علي حسب درجات أعمالهم ولأهل الشرّ كل شرّ وتعاسة بما يستحِقّونه بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ؟! .. هل الذي خَلَقَ السماوات والأرض والتي هي أكبر مِن خَلْق الناس كما قال تعالي في الآية الأخري " لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ " ﴿غافر : 57﴾ وذلك لأنها باقِيَة منذ القِدَم وتستمرّ حتي يوم القيامة دون أيّ تغييرٍ بينما الناس يَتغيَّرون ويَمرضون ويَضعفون ويَشيخون ويَموتون فهي إذن أكبر وأعظم وأدْوَمَ منهم ، هل الذي خَلَقَ الأكْبَرَ لا يقْدِر علي خَلْق الأصْغَرَ والأقلّ ؟!! إنه بكلّ تأكيدٍ ومِن باب أوْلَيَ يُمكنه بسهولة خَلْق الأقلّ ، خَلْق مِثْلهم أيْ الناس .. وفي هذا ذمٌّ شديدٌ لأمثال هؤلاء الذين يُكذبون بالبعث لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. " .. بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿33﴾ " أيْ نَعَم قطعا بكل تأكيدٍ هو قادر ليس فقط علي البعث بل علي كل شيءٍ بتمام قدْرته وعِلمه سبحانه الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ
ومعني " وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿34﴾ " أيْ هذه صورة أخري من صور عَرْض الذين كفروا علي النار بعد الصورة التي عُرِضَت في الآية ﴿20﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، وهي أيضا مزيدٌ من التأكيد علي تذكير الناس بالأحوال السيئة للمُكذبين حتي لا يكونوا مِثْلهم ولا يَتشبَّهوا بهم .. أيْ واذكر أيها العاقل لتَعْتَبِر وتَتَّعِظ يوم يَقِف الذين كفروا على النار فيرونها ثم يُقْذَفون فيها ويُقالُ لهم على سبيل الذمّ واللّوْم والتأنيب الشديد هل ليس صِدْقَاً هذا الذي ترونه واقعيا الآن والذي كنتم تَدَّعون في حياتكم الدنيا أنه كذب ولن يَحدث ؟! .. " .. قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا .. " أي رَدُّوا بكلّ استسلامٍ وذُلٍّ وعارٍ قائلين حالِفين بالله ربهم نَعَم قطعا بكل تأكيد !! " .. قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿34﴾ " أي لقد اعترفتم في وقتٍ لا ينفع فيه الاعتراف فتَذَوَّقوا إذَن طعم العذاب المُؤلم المُوجع المُذِلّ بسبب أنكم كنتم تُكَذّبون بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففعلتم الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴿35﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنَا لكم مِن معاني طيِّبة في هذه السورة الكريمة فبالتالي فكن أيها الرسول الكريم وكونوا أيها المسلمون مِن بعده مِن الصابرين أي الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيِّبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .. " أيْ كونوا صابرين كما صَبَرَ كلّ الرسل الكرام أصحاب العزائم أيْ أصحاب الإرادات العقلية القويّة الصادقة والهِمَّة العالية المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم حتي تَتَشَبَّهوا بهم فتَحْيُوا مِثْل حياتهم فتنالوا مثل أجرهم ومَكانتهم وسعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم .. " .. وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ .. " أيْ أنَّ أيام المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يُشبههم مَعدودة ثم سيَأتيهم عذابهم في الدنيا أولا ، فالأمر قريب ، وكل ما هو آتٍ فهو قريب مهما ابتعد ، فلا يستعجل أحدٌ العذاب لهم ، وإنما سيأتي به الله حتما بأنسب توقيتٍ وأسلوب بما يُحِقّق أفضل النتائج لأهل الخير .. وفي هذا تسلية لهم وتبشير بأنه تعالي بالتاكيد سيَنصرهم علي أهل الشرّ .. وذلك سواء أكان بعذابٍ يَتَمَثّل في قلقٍ أو تَوَتّرٍ أو غيره ، أو في استئصالٍ تامٍّ من الحياة بإهلاكهم برياح أو زلازل أو فيضانات أو صواعق أو حروب فيما بينهم أو نحو هذا .. ولعلهم يَستفيقون قبل هذا ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن ، فهذا من رحمة الخالق ، حتي بأسوأ خَلْقه ، فلا يستعجل أحد قَدَر الله ، فهو مُقَدَّر مَحسوب بكل حكمةٍ ودِقّة دون أيّ عَبَث ودون أيّ تقديمٍ أو تأخير عن موعده المُحَدَّد (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾ .. هذا ، وبالقطع مَن مات مُصِرَّاً علي تكذيبه وعِناده واستكباره واستهزائه فله أتمّ التعاسة وأعظمها وأشدّها في الآخرة ، فهي آتية لابُدّ آتية .. " .. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ .. " أيْ عندما يَرَوْنَ العذاب الذي كانوا يُوعَدون به في دنياهم وكانوا يُكَذّبونه ويَنْزِل بهم واقعيا في النار يوم القيامة حينها سيَستشعرون كأنهم لم يَبْقُوا في حياتهم الدنيا إلا وقتا قليلا جدا كأنه مثلا ساعة فقط مِن يومٍ بما يَدلّ علي استصغار مدة الحياة مهما طالَت لأنّ شدّة هذا العذاب والموقف تُنسيهم كل مُتَع الدنيا التي كانوا قد تَمَتّعوها .. وفي هذا مزيدٌ من العذاب النفسيّ قبل الجسديّ حيث تمام الحَسْرة والندم في وقت لن ينفعا فيه بشيء .. " .. بَلَاغٌ .. " أي هذا القرآن العظيم هو بلاغ أيْ إعلام وبيان وإنذار كافٍ لكم أيها الناس في وعظكم وإنذاركم حيث يُبَلّغكم جميعا أين الخير والسعادة وأين الشرّ والتعاسة في دنياكم وأخراكم لو تَدَبَّرتم فيه وعملتم بكلّ أخلاقه .. " .. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴿35﴾ " أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي لا يُهْلِك الله بعذابه إلا القوم الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعته الذين يَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار فهؤلاء يُعَذّبون في دنياهم بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ، ثم في أخراهم لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم .. أمَّا المُطِيعون لله تعالي أيْ المُتمسّكون بأخلاق إسلامهم فهم حتما علي العكس من ذلك تماما حيث تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة ، فمَن يَزرع حُسْناً لابُدّ حتما أن يَحصد حُسْناً ، أن يحصد كل خير وسعادة ، ومَن يزرع سوءاً لابُدّ حتما أن يحصد سوءا ، أن يحصد كل شرٍّ وتعاسة ، فهذا هو القانون الإلهيّ العادِل للحياة الدنيا وللآخرة والذي نبَّهنا له ربنا تعالي بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿1﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿2﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴿3﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿1﴾ " أيْ الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا برسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولم يَكْتَفُوا بذلك في ذواتهم بل أيضا صَدّوا عن سبيل الله أيْ مَنَعوا غيرهم قَدْر استطاعتهم عن طريق الله أي عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. " .. أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿1﴾ " أيْ أضاعَ وأذْهَبَ وأبْطَلَ وأحْبَطَ أعمالهم وحَكَمَ بذلك ، في الداريْن ، ففي الدنيا لا قيمة لأعمالهم التي يعملونها ولا نفع ولا سعادة حقيقية منها لأنها كلها أو معظمها في الشرّ ومِن أجله ، في ضلالٍ وعلي غير هُدَيَ ، وحتي ما قد يفعلونه مِن خيرٍ – وهو قليل أو نادر – غالبا أو دائما يَخلطونه بِشَرٍّ كَطَلَبِ سُمْعَةٍ أو جاهٍ أو رياءٍ أي ليَرَاهم الناس ليَمدحوهم بكذا وكذا من المَدْح الكاذِب المُضِرّ المُتْعِس للمادِح وللمَمْدوح لأنهم لا يطلبون ثواب الله بل ويُنْكِرونه أصلا والإنسان لابُدّ أن يَطلب بعمله هَدَفاً ما .. وإذا لم ينالوا شيئا من هذا تَوَقّفوا وامْتَنَعوا حتي عن هذا الخير القليل ! فمِن شِدَّة غضب الله عليهم يُضِلّهم أي يُذْهِبهم ويُبْعِدهم حتي عن هذا الخير القليل الذي كانوا سيَستفيدون منه في دنياهم بل ويَسيرون في حياتهم مِن شَرٍّ وتَخَبّطٍ وتعاسةٍ إلي شرّ وتخبّط وشقاءٍ آخر ولا يُنقذهم سبحانه منه ! إلا إذا استفاقوا وأحسنوا استخدام عقولهم وأرادوا أن يعودوا لربهم ولإسلامهم فحينها برحمته يُعينهم ويُوَفّقهم .. ومع كل ذلك فالله تعالي من تمام عدله لو فُرِضَ وفعلوا خيرا حقيقيا خالصا مِن الشرّ الذي سَبَقَ ذِكْره فإنه يُعطيهم خيرا مُقابِل له في دنياهم كمنصبٍ أو مال أو صحة أو غيره ، ثم في الآخرة لا أجر لهم حتما لأنهم لا يؤمنون بها أصلا ولم يعملوا لها ولأنه في ميزان الحسنات والسيئات فالكفر هو أعظم سيئة تُزيل أيّ حسنات أمامه مهما كان ثقلها ! .. كذلك من معاني الآية الكريمة أنَّ الله تعالي في الدنيا بتمام قُدْرته وعلمه أضَلَّ ولا زال يُضِلّ أعمالهم الكَيْدِيَّة ضدّ الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير فلا قيمة تُذْكَر لها فتَرَاهم يَنهزمون في نهاية المَطَاف ويَتَحَسَّرون علي ما أنفقوا من جهودٍ وأموالٍ وغيرها ويَنتصر المسلمون ويَتقدَّمون لَمَّا يُحسنوا اتِّخاذ أسباب النصر والتَّقَدّم والتطوّر
ومعني " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿2﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التّعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ والذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، وعملوا الصالحات أيْ تمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل .. " .. وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ .. " أيْ وصَدَّقوا بالقرآن العظيم الذي أوْحاه لهم وأنزله علي رسولهم الكريم محمد ﷺ وآمنوا بسُنَّته لأنها وَحْيٌ إلهيٌّ فهو ما يَنْطِق عن الهَوَيَ وعملوا بكلّ أخلاقهما .. هذا ، والتركيز علي الإيمان بالقرآن وبسُنَّة الرسول ﷺ رغم أنهما داخِلَيْن ضِمْنِاً وتلقائيا في الإيمان عموما هو للتنبيه الشديد علي أهميتهما فهما أصلُ كلّ خيرٍ وسعادة .. " وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ .. " أيْ وهذا القرآن وهذا الإسلام وهذا القول والفِعْل للرسول محمد ﷺ هو الصِّدْق الثابِت الذي لا يَتَغَيَّر حتما بكلّ تأكيدٍ لأنه ليس من عند أحدٍ من البَشَر بل من عند الله تعالي خالق الخَلْق كامل الصفات الحُسْنَيَ العليم بتمام العلم بما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم .. " .. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿2﴾ " أيْ فمِثْل هؤلاء بالقطع قد مَحَاَ ويَمْحُو عنهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح والذي منه التوبة من الذنوب أوّلا بأوّل ما فعلوه من سيِّئاتٍ وسَتَرَها عليهم ولم يُعاقبهم عليها لا في دنياهم ثم حتما لا في أخراهم فعاشوا حياتهم بسبب هذا العَفْو والستْر في استشعارٍ للرحمات واستبشارٍ بانتظار كلّ أنواع الخير والرعاية والأمن والرضا والعون والتوفيق والتيسير والرزق والقوة والنصر .. وأيضا ، وإضافة لكل هذا الخير ، فقد أصْلَحَ سبحانه بالَهم من فضله وكرمه وحبه لهم وعاوَنهم ووَفّقهم ويَسَّرَ لهم كل أسباب ذلك ، أيْ جَعَلَ أفكارهم ومشاعرهم وبالتالي كل أقوالهم وأفعالهم في كل أحوالهم وكل شئون حياتهم في تمام الصلاح والنجاح والاطمئنان والسكون والهدوء والاستقرار والراحة والبركة والأمل والتفاؤل وبالجملة في تمام الخير والسعادة في دنياهم مع انتظارهم لِمَا هو أعظم مِن هذا وأتمّ وأخلد في أخراهم .. وما سَبَقَ ذِكْره هو نِعْمة عظمى لا يحسّ بها إلا مَن اجتهد في اتِّخاذ أسباب تحصيلها بالتمسّك بكل أخلاق إسلامه فيُيَسِّرها الله له ويَهبه إيّاها برحمته وكرمه ، فإنَّ كل ثروات الدنيا لا تنفع صاحبها حتما إذا كان مُشَتَّت الفِكْر قَلِقَاً مُتَوَتِّرا مضطربا مُمَزِّق الأحاسيس والأحوال كما يُثْبِت الواقع ذلك
ومعني " ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴿3﴾ " أيْ ذلك الذي ذَكَرْناه لكم في الآيتين السابقتين (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني﴾ مِن أنَّ الذين كفروا يُضِلّ الله أعمالهم والذين آمنوا يَغفر لهم ويُصْلِح بالَهم ، سَبَبه أنَّ الذين كفروا ساروا خَلْف الباطل وسَلَكوا طريقه أيْ اختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم لأنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، وبالتالي فلم يساعدهم ربهم علي الخير لإصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ، بينما الذين آمنوا اختاروا السَّيْر خَلْف الحقّ الذي أوْصاهم به قرآنهم وإسلامهم وسَلَكوا طُرُقَه دائما في كل شئونهم لأنهم أحسنوا استخدام هذه العقول ، وبالتالي عاوَنهم ربهم ويَسَّر لهم فِعْل الخير دوْما فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴿3﴾ " أيْ هكذا دائما يَذْكُر ويُبَيِّن الله للناس أحوالهم في كل شئون حياتهم بمِثْل هذه الأمثال أيْ التوْضيحات والتشبيهات في القرآن الكريم مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿4﴾ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴿5﴾ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴿6﴾
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿4﴾ " أيْ فإذا كان الأمر كما ذَكَرْنا لكم في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ عن حال الكفار التعيس وصَدِّهم عن سبيل الله وحال المؤمنين السعيد ، فبالتالي فإذا لقيتم الذين كفروا في ساحات القتال لو اعتدوا عليكم وعلي الإسلام والحقّ والعدل والخير بالقتال بالسلاح فحينها عليكم بضَرْب الرِّقاب أيْ قَطْع الأعناق أيْ قتالهم بكلّ قوةٍ نُصْرَةً للحقّ ، حتى إذا أضعفتموهم وأنهكتموهم بكثرة الضرب والقتل فيهم فأحْكِمُوا قَيْد الأسرى الذين تأسرونهم منهم لضمان عدم هروبهم أو قتلكم .. " .. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً .. " أيْ فإمَّا تَمُنّون عليهم بَعْدَ الأسْرِ مَنَّاً بأنْ تُطلقوا سراحهم بدون مُقابِل ، وإمَّا أنْ تفدوهم فداءً بأن تأخذوا منهم فِدْيَة مِن مالٍ أو مِن تبادُلٍ للأسري أو ما شابه هذا في مُقابِل إطلاق سراحهم ، وذلك حسبما ترونه من مصلحةٍ وحسبما تتطلّبه المُعامَلَة بالمِثْل مع الأعداء .. " .. حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا .. " أيْ استمرّوا علي ذلك مع المعتدين عليكم المقاتلين لكم حتي تضع الحرب أثقالها ومساوئها ومشقّاتها أيْ تنتهي .. " .. ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ .. " أيْ ذلك هو حُكْم الله فيهم وإرشاده إليكم ، ولقد كان من المُمْكِن حتما لو أراد وبمجرّد قول كن فيكون أن يأخذ الله النصر لكم منهم بلا قتال ودون جهد بأن يَخسف بهم مثلا أو يهلكهم بزلازل أو فيضانات أو صواعق أو ما شابه هذا فهو علي كل شيء قدير ، ولكن لم يفعل ذلك سبحانه ليَختبر بعضكم ببعض ، أيْ ليَختبركم بهم فيُظْهِر لكم وتُمَيِّزُون بهذه الاختبارات في الدنيا المجاهدين منكم والصابرين وتعلمون ذواتكم وتُصَحِّحون أخطاءكم لتَكْمُلوا وتَصلحوا وتَسعدوا في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، ثم في الآخرة بعد ذلك ، بعد هذه الاختبارات الكاشِفَة في الدنيا ، لا يكون للكاذبين أيّ حجّة أو جدال حينما ينالون ما يستحقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراضٍ حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم ، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة للجميع ! .. وكذلك يَختبرهم بكم فيُعاقِب مَن يَستحِقّ منهم العقوبة بأيديكم ويعفو عمَّن يتوب منهم كذلك حيث انتصاركم عليهم ووقوعهم تحت سلطانكم قد يساعدهم علي أن يستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا مثلكم .. وأيضا لم يَفعل ذلك سبحانه حتي يتحقّق أحد قوانينه العادلة التي وضعها في أرضه وهو قانون الأسباب والنتائج حيث لابُدّ للناس عموما وللمسلمين خصوصا من اتِّخاذ الأسباب لتحقيق النصر والتقدّم وإلا لو لم يتّخذوها وانتصروا لكان ذلك ضررا عليهم حيث يتكاسَلون فيتخلّفون ويتعسون .. وكذلك لم يَفعل هذا حتي تتحقّق فوائد وسعادات القتال في الإسلام في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن ذلك﴾ .. " .. وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿4﴾ " أيْ والذين استشهدوا وهم يُقاتِلون في سبيل الله أيْ في طريق الله أيْ في سبيل ومن أجل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير فلن يُضيع ويُذْهِب أعمالهم حتما بلا أجرٍ عليها أعظم منها وكأنها لا قيمة ولا أثَرَ لها وكأنهم لم يَفعلوا شيئا ، فهذا أمر يستحيل فِعْله علي الخالق العادل الكريم الرحيم الوهّاب ، وإنما يُكثرها ويُنَمّيها ويُضاعِف أجورها لهم ويغفر كلّ ذنوبهم وهم أحياء عنده يُرْزَقون في أعلي درجات جناته مع النبيين والصِّدِّقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقا ، لأنهم قد قدَّموا أغلي ما عندهم وهي أرواحهم
ومعني " سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴿5﴾ " ، " وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴿6﴾ " أيْ سيُرْشِدهم وسيُوَجِّههم حتما بعد استشهادهم إلي الطُرُق المُؤَدِّية إلي الجنات ونعيمها ، تكريما وتشريفا لهم ، فهذا هو وَعْده تعالي معهم الذي لا يُخْلَف مُطلقا أنه سيُوصلهم إلى طريق تمام سعادتهم ونعيمهم وصلاح حالهم كله .. " وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴿6﴾ " أيْ وهو سبحانه بكرمه ورحمته يُحَقِّق لهم وَعْده المُؤَكَّد ويُدخلهم الجنة التي كان قد عَرَّفها ووَصَفَها لهم في حياتهم الدنيا في كتبه وعلي ألسنة رسله وعَرَّفهم كيفية دخولها بالعمل بأخلاق الإسلام والتي كانوا يعملون لها بتوفيقه وتيسيره ويَنتظرون مُشتاقين مُتَلَهِّفين نَيْل وَعْده بأنْ يدخلوها ، وعَرَّفهم أيضا بعد دخولها قصورهم فيها وبساتينهم وخَدَمهم وكلّ ما يَخُصّهم من طيَّباتٍ مُجَهَّزَةٍ لهم لتمام راحتهم وسرورهم ، فإذا ما دخلوها فكأنهم كانوا يعرفونها تماما مِن قبل دخولهم فيها !!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴿7﴾ " أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وجنته وناره وحسابه وعقابه ، إنْ تَنصروا دين الله ، الإسلام ، بالتمسّك والعمل به كله وتَرْك أيِّ أنظمةٍ مُخالِفَة له ، فهذا نَصْرٌ للإسلام عليها ، وبنشره بكل قدوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حَسَنة ، وبالدفاع عنه ضدّ كل مَن يعتدي عليه سواء أكان اعتداءً فكريا أم اقتصاديا أم سياسيا أم عسكريا أم غيره ، وقبل كل ذلك وبعده نَصْر الله بعبادته هو وحده بلا أيّ شريك ، وهذا نَصْرٌ علي كل ما قد يَدَّعِيه البعض ظلما وزورا آلهة غيره ، تعالي عن ذلك علوا كبيرا ، فإنْ فَعَلْتم هذا سيَنصركم الله حتما بكل تأكيدٍ في كل شئون حياتكم فتُحَقِّقوا كل نجاح وفوز ونصر وخير وأمن وسعادة ، وسيُثَبِّت أقدامكم أيْ وسيُعينكم ويُوَفّقكم ويُيَسِّر لكم أن تستمرّوا علي ذلك بكلّ هِمَّة وعزمٍ بلا أيّ تغيير ، فهو القويّ المتين القادر علي كلّ شيءٍ العزيز الذي له كل العِزَّة والرِّفْعَة والكرامة والسلطان والنفوذ الذي يُعطي من قوّته وعِزَّته للذين آمنوا به الذين يجتهدون في العمل بكلّ أخلاق إسلامهم .. ثم يوم القيامة يَنصركم حتما بما هو أعظم وأروع نصرا حيث دخول الجنة ويُثَبِّت أقدامكم عند الحساب وأثناء المرور علي الصراط أيْ الطريق إليها فيكون الأمر في غاية اليُسْر والبِشْر والسرور فتدخلوها علي حسب درجات أعمالكم حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿8﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿8﴾ " أيْ وأمَّا الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا برسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، فحالهم علي العكس تماما من حال الذين آمنوا ، فالتَّعْس لهم كله في دنياهم وأخراهم ، أيْ التعاسة والشقاء والشرّ والحزن والكآبة والانحطاط والهزيمة والخيبة والذلّة والإهانة والانكسار والقُبْح والهلاك .. " .. وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴿8﴾ " أيْ وأيضا أضاعَ وأذْهَبَ وأبْطَلَ الله أعمالهم وحَكَمَ بذلك ، في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿1﴾ من هذه السورة للشرح والتفصيل)
ومعني " ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿9﴾ " أيْ ذلك الإتْعاس والإضْلال الذي هم فيه سببه أنهم لم يُحِبّوا ولم يُريدوا ولم يَقبلوا ما أنزل الله من كتبٍ وآخرها القرآن العظيم والتي فيها كلّ خُلُقٍ وشَرْع ونظامٍ يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، وكذّبوه ولم يَعملوا به ، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المَنْطِقِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك أنْ أحبط أيْ أضَلَّ الله أعمالهم في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿1﴾ من هذه السورة للشرح والتفصيل عن معني إحباط العمل﴾ .. والسبب في أنهم قد كرهوا ما أنزل الله أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴿10﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿11﴾ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه ، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به ، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين ، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴿10﴾ " أي هل لم يَتَنَقّلوا في كلّ جَوانِب الأرض ما استطاعوا وينظروا ويشاهدوا بأبصارهم ويتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم والذين كانوا يُكذبون ويُعاندون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها ؟! .. وفي هذا السؤال في الآية الكريمة توسيع لدائرة التدبُّر ، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته ، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه .. " .. دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .. " أيْ عذّبهم وأهلكهم إهلاكا شديدا مُدَمِّرَاً مُخَرِّبَاً مُحيطا بهم تماما مُطْبِقَاً علي رؤوسهم وممتلكاتهم من كل مكان مُسْتَأْصِلاً لهم تماما من الحياة مُخَلِّفَاً منهم فقط آثاراً خَرِبَة .. " .. وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴿10﴾ " أيْ وللكافرين ومَن يَتَشَبَّهَ بهم في كل زمانٍ ومكان حتي يوم القيامة أمثال هذه العقوبات والعذابات والنتائج السيئة المُؤلمة المُدَمِّرَة المُهْلِكَة التي نزلت بسابقيهم الذين كفروا ، إذا استمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ودينه الإسلام ليسعدوا وليَنْجُوا قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿11﴾ " أيْ ذلك الفِعْل الذي فَعَلْناه بالفريقين ، فريق المؤمنين حيث نصرناهم وأسعدناهم في دنياهم وأخراهم ، وفريق الكافرين حيث أتعسناهم وعذّبناهم ودَمَّرناهم فيهما ، بسبب أنّ الله هو مَوْلَيَ الذين آمنوا أيْ الذي يَتَوَلّيَ كل أمورهم فيُديرها لهم علي أكمل وأسعد وَجْه ، ومَن يَتَّخِذ الله تعالي دائما وَلِيَّاً أيْ وَلِيَّاً لأمره فهنيئا له إذ سيُوَفّر له الرعاية كلها ، والأمن كله ، والعوْن كله ، والتوفيق والسداد كله ، والرزق كله ، والتيسير كله ، والسَّلاسَة كلها ، والقوة كلها ، والنصر كله ، والسعادة كلها .. أمَّا الكافرون فليس لهم بالقطع أيّ وَلِيّ مِثْل الله مالِك المُلك أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم علي أكمل وجهٍ ولا مَن ينصرهم عليه وينقذهم مِن عذابه لهم ، وبالتالي فليس لهم أيّ شيءٍ مِن هذا الخير ، بل لهم حتما تمام الشرّ والعذاب والتعاسة في الداريْن
ومعني " إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴿12﴾ " أيْ أنَّ الله الخالق الكريم الودود الغفور الرحيم يوم القيامة يُدْخِل الذين صَدَّقوا بوجوده وتمسّكوا بأخلاق إسلامهم جنّاتٍ أيْ بساتين ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع ، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. " .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴿12﴾ " أيْ وفي المُقابِل الذين كفروا أيْ لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا برسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، هم في دنياهم كالحيوانات لا هَمَّ لها إلا الأكل والتّمتّع دون تفريقٍ بين حلالٍ نافع مُسْعِدٍ وحرامٍ ضارٍّ مُتْعِسٍ لأنها لا عقل لها حيث انْحَطّوا بإنسانيتهم وتَشَبَّهوا بها لأنهم قد ألغوا أهمّ ما كرّمهم به ربهم ومَيَّزَ الإنسان عنها وهي العقول إذ قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فلم يؤمنوا بربهم ولم يعملوا بدينه الإسلام وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ، ولذلك فمِثْل هؤلاء حتما في أخراهم النار مثوي لهم أيْ ستكون مكان إقامةٍ واستقرار دائم خالد لهم حيث تمام العذاب والتعاسة .. وفي الآية الكريمة مُقَارَنَة بين حال السعداء في دنياهم وأخراهم وحال التعساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِنَ الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴿13﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴿13﴾ " أيْ وكَمْ مِن قريةٍ بما فيها مِن أهلها وممتلكاتهم من قُرَي ومُدُن المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين مِن السابقين أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم كانت هي أشدّ قوة في الأموال والأعْوَان والنفوذ والسلطان ونحو هذا مِن قريتك التي طَرَدَتْكَ منها ظلما وعدوانا دون وجه حقٍّ يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلمٍ مِن بَعده مطرود مثله فكانت نتيجة ظلمهم وعدوانهم علي الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين وإصرارهم علي ذلك وعلي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار أنْ عذّبناهم وأهلكناهم حتما بصور العذاب والإهلاك المختلفة كزلازل أو عواصف أو فيضانات أو نحوها فلم يكن لهم أيّ ناصرٍ أو مُنْقِذٍ أو مُعِينٍ يَنصرهم وينقذهم من عقابنا ، فلم تَنفعهم وتَحْمِهم كلّ هذه القوَيَ التي كانوا يتملكونها بأيّ شيء ! فما بال مَن هم أقلّ منهم قوة مِن المُكذبين المُعاصِرين لكم !! فَعَلَيَ هذا الأضْعَف إذَن أن يكون أشدَّ حَذَرا !! وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينه الإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم ﴿14﴾ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴿15﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مُتمسّكا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم ﴿14﴾ " أيْ هل يُتَصَوَّر أنَّ الله تعالي بعَدْله التامّ وحِكمته ورحمته التامَّة مِن المُمْكِن أن يساويَ بين المؤمن والفاسِق في الدنيا والآخرة ؟! بين مَن هو مُسْتَنِد بكلّ ثقةٍ علي حجَّةٍ واضحةٍ ودليلٍ ظاهرٍ مُؤَكَّدٍ بلا أيّ شكّ علي صوابِ ما هو فيه جاءه من ربه أيْ خالقه ومُرَبِّيه ورازقه وراعِيه وهو القرآن العظيم وما فيه من دين الإسلام وسُنَّة رسوله الكريم ﷺ وكلّ الأدِلَّة العقلية الكوْنية فسارَ بكلّ عقلٍ وتَدَبّرٍ علي نورِ وإرشادِ ذلك وتمسَّكَ وعمل به كله وثَبَتَ واستقرَّ عليه بلا أيّ تَغَيّر ، وبَيْنَ الذي زُيِّنَ له سوءُ عمله واتَّبَعَ هَوَاه أيْ زَيَّنَ له التفكير الشَّرِّيّ بعقله وصاحبه السَّيِّء حوله الأعمال السَّيِّئة أيْ حَسَّنَها له فاتَّبَعَ الهَوَيَ بسبب هذا التزيين أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية اختيار إرادة عقله وهو في ذلك وأمثاله قد أكَّدُوا بالفِعْل أنهم قد اتَّبَعوا أهواءهم لأنه ليس عندهم أيّ دليلٍ عقليّ أو غيره يَدلّ علي صِحَّة ما هم فيه ؟! كلا لا يُمْكِن أبدا بكلّ تأكيدٍ أن يَتَساووا !! فالمؤمن أي المُصَدِّق بوجود الله المُتمسّك بكل أخلاق إسلامه حياته كلها خير في خيرٍ وسعادة في سعادةٍ ثم له في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. بينما الفاسِق ، أي الخارِج عن طاعة الله ، سواء أكان كافرا أي يُكَذّب بوجود الله أصلا أم مُشركا أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقا أي يُظْهِر الخير ويخفي الشرّ أم ظالما أي يعتدي علي الآخرين ولا يعدل بينهم أم فاسدا ينشر الفساد والشرّ أم ما شابه هذا ، حياته الدنيا كلها قَلَق أو توتّر أو ضيق أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلها ألم وكآبة وتعاسة بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور ثم له حتما في آخرته ما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم .. إنَّ المؤمن بكلّ تأكيدٍ قد اتّخَذَ أسباب هذه السعادة فيَسَّرَها الله له ، إنه قد زَرَعَ حُسْنَاً فحَصَدَ حُسنا أفضل منه ، بينما الفاسق قد اتّخذ أسباب التعاسة ، إنه قد زرع سوءا فحصد سوءا أسوأ منه ، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل للحياة والذي نَبَّهَنا له تعالي بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾
أمَّا معني " مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴿15﴾ " أيْ صِفَة الجنة التي وَعَدَ اللهُ المُتَّقِين في كتبه من خلال رسله ، أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، ووَعْده لا يُخْلَف مُطْلَقَاً ، وهي لا يُمكن وَصْفَها لأنَّ فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر ، ولكن يُوصَف لكم بعض ما فيها مِمَّا يُشبه أشياء ترونها في دنياكم لتتشوَّقوا ولتعملوا أكثر لنَيْل أعلي درجاتها ، صِفَتها أنَّ فيها أنهاراً أيْ سوائل جارية بين بساتينها وقصورها للتّمَتّع والتّنَعُّم لا يُصيبها ما يُصيب سوائل الدنيا مِن تَغَيُّراتٍ تُفسدها ، فبعضها من ماءٍ غير آسِنٍ أيْ غير مُتَغَيِّرٍ بروائح سيِّئة أو بمَرارة أو عكارة أو غيرها بل هو أعذب المياه وأصفاها وأطيبها ، وبعضها من لبن لم يتغيّر طعمه بحموضة أو نحوها بل في غاية البياض والحلاوة ، وبعضها من خمر ليست كريهة الطعم والرائحة مُضِرَّة مُذْهِبَة للعقل كخمر الدنيا بل حَسَنة المنظر والمَذَاق والرائحة والأثَر حيث يشعر مَن يشربها بلذة ومتعة عظيمة نافعة مُنْعِشَة ، وبعضها من عسل مُصَفَّيَ أي في غاية الصفاء والحُسن في اللون والطعم والشكل والريح .. ولأهل الجنة فيها من كل الثمرات أيْ من جميع أنواع الفواكه الكثيرة المتنوِّعة المُسْعِدَة التي يتمنّونها والتي يُحْضِرها لهم خَدَمُهم بمجرّد تَمنّيها في ذِهْنهم دون أيّ تَعَبٍ ، والأهمّ من ذلك كله ، والذي هو مَصْدَر كلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادة ، أنَّ لهم جزاءً معنويا أعظم من الجزاء المادِّيّ الذي هم فيه وإضافة إليه ، وهو مغفرة من ربهم ، أى لهم ثواب عظيم وفضل كبير منه تعالي حيث سَتَرَ عليهم ذنوبهم وأزالها عنهم وزادَ وضَاعَفَ من حسناتهم ورضي تمام الرضا عنهم بعفوه ورحمته وكرمه وإحسانه وفضله .. " .. كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴿15﴾ " أيْ هل مَن هو خالد في نعيم الجنة هذا بلا نهاية والذي ذُكِرَ بعضه ، وهو المؤمن ، كمَن هو خالد في النار وهو الكافر والذي مِن بعض عذابه أنه يُسْقَيَ بالإكراه هو وأمثاله ماءً حميما أيْ مَغْلِيَّاً بَلَغَ أقصي درجات الحرارة يشربونه فيُقَطّع ويُذيب أمعاءهم مِن شدّة حرارته ؟ ليس هؤلاء كهؤلاء حتما ! لا شكَّ أنَّ أيَّ صاحب عقل مُنْصِفٍ عادلٍ سيَرَيَ الفرق الشاسع واضحا بين حُسْن حال المؤمنين وسوء حال الكافرين .. فعليه إذَن أن يُحْسِن الاختيار
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴿16﴾ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴿17﴾ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴿16﴾ " أيْ والبعض مِن المنافقين حولكم وهم الذين يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرَّ ، ومِن الكافرين وهم الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله أصلا ، ومَن يَتَشَبَّهَ بهم ، يستمعون أحيانا إلي بعض آيات القرآن العظيم فإذا انصرفوا وابتعدوا عن سماعه قالوا للمسلمين حولهم الذين يتدبّرونه ويتعلّمونه ويُطَبِّقون أخلاقه ليسعدوا في الداريْن ، يقولون لهم ماذا كان يُقال الآن في هذا الوقت منذ قليل ؟! بما يُفيد الاستهزاء والاستهانة والاستعلاء والتكذيب والعِناد وعدم الاهتمام أو الحرص علي الاستماع إليه وإغلاق العقول عن فهمه لعدم فائدته !! .. " .. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ .. " أيْ هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول ، أي مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير ، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير !! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك !! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .. " ﴿الرعد : 11﴾ ، فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴿16﴾ " أيْ وهم السبب في ذلك حيث قد ابتعدوا عن الخير مُتَّبِعين لأهوائهم أيْ لأفكارهم الشَّرِّيَّة في عقولهم ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم وأصَرّوا عليها فتَسَبَّب هذا في الوصول لمرحلة الطبْع ، ثم هذه المرحلة تؤدّي بهم لمزيدٍ من اتِّباع الأهواء ، ثم مزيدٍ من الطبْع الأشدّ والأطْوَل زَمَنَاً ، وهكذا .. وأيضا هم في كل ذلك قد اتَّبَعوا أهواءهم بمعني أنهم لم يكن عندهم أيّ دليلٍ عقليّ أو غيره يَدلّ علي صِحَّة ما هم فيه
ومعني " وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴿17﴾ " أيْ وأمَّا الذي اهتدوا – في مُقابِل الذين ذُكِرُوا في الآية السابقة – أيْ أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الهداية أيْ الرُّشد والصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة ، أيْ اختاروا اتِّباع خالقهم وإسلامهم لأنهم تأكّدوا بلا أيّ شكّ أنّ ذلك فيه تمام صلاحهم وكمالهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم .. " .. زَادَهُمْ هُدًى .. " أيْ أمثال هؤلاء حتما وبكل تأكيدٍ وبسبب أنهم هم الذين بدأوا السعي للهداية واجتهدوا في طَلَبها والحرص الصادق الدائم التامّ عليها والتمسّك والعمل بها زادهم الله خالقهم العالِم تمام العلم بهم هُدَيً علي هُداهم وفاءً بوعده تعالي الذي لا يُخْلَف مُطلقا أنه سيَزيد المُحْسِنين فِعْلاً لكلَّ خيرٍ وإحسانٍ وثواباً عليه في الداريْن كما يقول " .. وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِين " ﴿البقرة : 58﴾ وحبَّاً فيهم وتكريماً لهم بسبب صَلاحهم وهُداهم ، أيْ زادهم رشادا وصوابا وحقا وعدلا وخيرا وإحسانا وصِدْقا وإخلاصا وحرصا واجتهادا وقُرْبَاً منه وحبا له وللقرآن وللإسلام وفَهْمَاً لفوائدهما ولسعاداتهما في دنياهم وأخراهم وتمسّكا بهما وبسُنَّة رسولهم الكريم ﷺ ، وذلك بأنْ وَفَّقَهم وعاوَنهم ويَسَّرَ لهم أسباب كلّ هذا وثَبَّتهم عليها .. " .. وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴿17﴾ " أيْ وأيضا بأنْ أعطاهم مِن قوة الإرادة العقلية والصبر والحِكْمة والعَوْن ووَضَّحَ لهم وبَيَّنَ ومَيَّزَ ما يَتَّقون به أي يَتَجَنَّبون كلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة .. وبالتالي وبسبب زيادة الله لهداهم وإعطائهم تقواهم فقد وَجدوا حتما في دنياهم البيان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، ووَجدوا النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحقّ كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، والقوة كلها ، والرزق كله ، والنصر كله ، وبالجملة وَجدوا السعادة كلها .. ثم في أخراهم سيَجدون قطعا ما هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
أمَّا معني " فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴿18﴾ " أيْ المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن لم يَتذكَّروا بما حَدَث للأمم السابقة أمثالهم مِن عذابٍ بصورٍ ودرجاتٍ مختلفة وَصَلَ أحيانا لدرجة إهلاك بعضهم واستئصالهم تماما من الحياة ، ولم يتذكّروا بما ذَكَّرهم به الرسل الكرام والمؤمنون بهم مِن بَعدهم عن الساعة أيْ ساعة انتهاء الحياة الدنيا وقيام يوم القيامة والحياة الآخرة وما فيها من عذابٍ مؤلمٍ مُهينٍ لا يُتَصَوَّر يَنتظر أمثالهم الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، إذن فهل يَنظرون أيْ ينتظرون الساعة ذاتها ؟! يبدو كذلك أنهم لا يَنظرون إلا الساعة نفسها !! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم ؟!! إنها لو جاءت وهم علي هذا الحال فلابُدَّ أنها ستأتي بَغْتَة لهم أي فجأة بحيث لا تتركهم ليستعدوا لها بالتوبة وفِعْل الخير وترك الشرّ – وساعة كل إنسان التي تُنْهِي حياته هي لحظة موته والموت يأتي فجأة كما هو معلوم للجميع – خاصة وأنه قد جاء أمامهم أشراطها أيْ علاماتها ولم يتذكّروا ويَتَّعِظوا بها أيضا !! وأهم علاماتها مَجيء الرسول الكريم محمد ﷺ والذي أخْبَرَ أنه هو خاتم الأنبياء بما يدلّ علي أنّ الحياة لم تَعُد تحتاج رسلا آخرين بما يعني ضِمْنَاً قُرْب نهايتها وقد أكَّدَ ذلك ﷺ بقوله : " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ " وأشار بالسَّبَّابة والوُسْطَيَ ﴿رواه البخاري ومسلم﴾ وهما أُصْبُعان قريبان من بعضهما .. " .. فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴿18﴾ " أيْ فكيف إذن يَحْدُث لهم ذِكْراهم أي تذَكّرهم واتِّعاظهم إذا جاءتهم الساعة بَغْتة ؟! إنها لن تتركهم ولو للحظة لكي يتذكّروا ويَتَّعِظوا ويستفيقوا ويعودوا لربهم وللإسلام !! لقد فات وقت التذكّر وحَدَثت المفاجأة والوقت الآن وقت الحساب ! .. وفي الآية الكريمة استهزاءٌ وإنذارٌ وتهديدٌ شديدٌ لهم ونُصْحٌ أيضا ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان ، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها ؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته !! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴿19﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا ، ومعني " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴿19﴾ " أيْ إذا عَلِمْتَ يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلمٍ مِن بَعده أنَّ السعادة التامَّة في الدنيا والآخرة أساسها – كما ذُكِرَ لكم كثيرا في الآيات السابقة وفي القرآن العظيم عموما – عبادة الله تعالي وحده بلا أيّ شريك فهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وكذلك التمسّك بكلّ أخلاق دينه الإسلام وأنَّ تمام التعاسة فيهما بعكس ذلك ، فاعلم هذا جيدا أيْ فاذْكُره دائما واثْبُت وداوِم واستَمِرّ عليه بلا أيّ تَغَيُّر وازْدَدْ علماً منه وتَدَبُّراً وتَعَمُّقاً فيه وعملا به ودعوةً وتذكيراً وتعليماً لغيرك له ليَعملوا هم أيضا به لتسعدوا جميعا في دنياكم وأخراكم .. هذا ، ومِن معاني الآية الكريمة أيضا أنه مَن لم يعلم ذلك ولم يَتَدَبَّر فيه ولم يُؤمِن به فعليه أنْ يَعلم ويَتَعَمَّق ويَتَعَقَّل ويَتَفَكَّر ويَتَدَبَّر فيه ليُؤمِن ليَسعد هو الآخر في الداريْن .. " .. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .. " أيْ وأصْلِح دَوْماً أحوالك وأقوالك وأفعالك يا أيّها المسلم بدوام الاستغفار مِن أيّ ذَنْبٍ أوّلاً بأوّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ ، وكذلك ذَكِّرْ المؤمنين والمؤمنات حولك بمِثْل هذا واستغفروا جميعا بعضكم لبعض وتعاونوا فيما بينكم علي ذلك وعلي كلّ خيرٍ وكونوا علي الدوام من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات (برجاء مراجعة معني الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة في الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) لتَتِمّ سعادتكم في الداريْن .. " .. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴿19﴾ " أيْ وتَذَكَّروا دائما أنَّ الله تعالي خالقكم العالِم بكم وبكلّ شيءٍ يعلم تَصَرّفكم وتَحَرّككم في يقظتكم نهارًا وفي دنياكم عموما ، ويعلم أيضا مثواكم أيْ مُسْتَقَرّكم في نومكم ليلا وفي أخراكم ، أيْ يعلم حتما كلّ أحوالكم وأقوالكم وأفعالكم وكلّ حَرَكاتكم وسَكَنَاتكم في كلّ مكانٍ وزمانٍ في حياتكم الدنيا إذ لا يَخْفَيَ عليه شيءٌ منها ويعلم قطعا نهايتكم في حياتكم الآخرة حين يُحاسِبكم علي أعمالكم ويكون مَثْوَيَ أهل الخير في كلّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ في كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم .. فلْيَحيا المسلم إذن حياته مُتَوَازِنَاً بين طَلَب رحمة الله وعَوْنه وتوفيقه وتيسيره ورعايته وبين الخوف من مُخالَفته (برجاء مراجعة كيف يحيا المسلم بتَوَازُنٍ بين الخوف والرجاء في الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ولْيُحْسِن الإعداد لمَثْوَاه الأخير في آخرته بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿20﴾ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ﴿21﴾ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴿22﴾ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ﴿23﴾
بعض الأخلاقيات التي تستفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا لم تكن منافقا (برجاء مراجعة الآيات ﴿8﴾ ، ﴿9﴾ ، ﴿10﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿20﴾ " ، " طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ﴿21﴾ " أيْ هذا بيانٌ لحال المؤمنين الصادقين المجتهدين في التمسّك والعمل بكل آيات القرآن العظيم وحبّهم ومُسارَعَتهم وحِرْصهم وتَطَلّعهم وتَمَنّيهم لذلك لأنهم متأكّدون بلا أيّ شكّ أنّ فيه ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ، وهم يَتَمَنّون هذا حتي لو وَصَلَ الأمرُ للتضحية ببذل دمائهم وأرواحهم وأموالهم وكل ما يملكون من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامهم ونشرها والدفاع عنها حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي عليهم بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ ، لأنّ في جهادهم هذا عِزّة ونصرا وتَمْكِيناً وسعادة لهم في الدنيا ولو قُتِلُوا في سبيل ذلك فهم في الآخرة شهداء سعداء أحياء عند ربهم يُرْزَقون في أعلي درجات الجنّات .. " .. فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿20﴾ " أيْ بينما المنافقون ، وهم الذين في قلوبهم أيْ عقولهم مرض ، أيْ يُظْهِرون الخير ويُخفون الشرّ ، وهذا الشرّ قد يكون عند بعضهم كفراً أيْ عدمَ تصديقٍ بوجود الله وبكتبه وبرسله وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره فيكونوا كافرين ، وبعضهم قد يكون مسلما لكنه يترك أخلاق إسلامه كلها أو بعضها بل ويعاون الكافرين ضدّ المسلمين ، وهم يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ، فحالهم قطعا علي العكس تماما من حال الذين آمنوا ، فهم يَكرهون الإسلام ويَسْتَثْقِلون أخلاقه (برجاء مراجعة الآية ﴿9﴾ من هذه السورة " ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، خاصة إذا طلب منهم الجهاد في سبيل الله والتضحية بالأموال والممتلكات والأرواح حيث حينها ينكشف أمرهم ! لأنهم قد يُصَلّون ويُزَكّون مُرْغَمِين مُظْهِرين أنهم مع الإسلام والمسلمين لإيقاع الفتن بينهم فالتكلفة بهذا تكون بسيطة نسبيا لكن لا يَصِل الأمر لأن يدفعوا هذه الكُلْفَة الباهظة الثمن وهي الموت !! .. فهؤلاء ومَن يُشبههم إذا ذُكِرَ القتال في سبيل الله من أجل الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين ، في آياتٍ مُحْكَمَاتٍ أيْ لا تحتمل أيَّ معني آخر فهي ليست مُتشابهات تَحتمل أكثر من معني فيُمكنهم الإفلات من حُكْمها الواضح الحاسم وتأويل معناها حسبما يريدون ليَهربوا من المشاركة في القتال ، حينها تراهم ينظرون إليك كنظر المُغْمَيَ عليه من خوف الموت فصار بصره كأنه عليه غشاء لا يتحرّك ولا يَرَيَ وذلك من شدَّة خوفهم وجُبْنهم مِمَّا يُطْلَب منهم وكراهيتهم الشديدة له .. " .. فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿20﴾ " أيْ فالعقاب الدنيويّ والأخرويّ إذَن أحَقّ لهم !! لا يستحِقّون إلا ذلك في مُقابِل أفعالهم هذه ، وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينه الإسلام ليسعدوا في الداريْن .. وكذلك من المعاني أنه كان الأوْلَيَ والأفضل والأصْوَب والأحَقّ لهم بدلا من هذا المرض الذي هم فيه وهو الكفر والنفاق وتَرْك الإسلام ، طاعة الله والتوبة والرجوع إليه والقول الصالح الخيريّ الحقّ العدل المُسْعِد الذي يُقِرّه ويَعْرِفه الإسلام والعقل المُنْصِف العادل ويُوافِقهما ليسعدوا في الداريْن ، وفي هذا المعني تشجيعٌ ضِمْنِيّ لهم للعودة للخير ، وهذا هو معني الآية الكريمة " طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ .. " والتي مِن معانيها أيضا أنَّ طاعة أمثال هؤلاء معروفة أيْ معلومة أنها خديعة وقولهم كذلك معروف أيْ معلوم أنه خِداع ونِفاق .. " .. فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ﴿21﴾ " أيْ فإذا جاء أمرٌ يحتاج إلي عزمٍ وإرادةٍ قوية ، كقتالٍ للأعداء مثلا وكصبرٍ علي إيذاءِ بعض المَدْعُوين عند دعوتهم لله وللإسلام وكشأنٍ ما مِن شئون الحياة المختلفة والتي كلها تحتاج عزيمة وهِمَّة وجدِّيَّة ، فالذين سيَصْدُقون الله حينها أيْ سيُوفون تمام الوفاء بما عاهدوا الله عليه أيْ بما وعدوه به سبحانه مِن التمسّك بكل أخلاق إسلامهم في كلّ أمرٍ ومِن التأييد لرسوله ﷺ والدعوة لدينه بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ومِن الثبات في كلّ موقفٍ بما في ذلك القتال والدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ونحو هذا من كلّ أنواع الوفاء حتي ولو وَصَلَ الأمرُ للاستشهاد بالفِعْل في ساحات القتال والحروب ومَن لم يستشهد فهو مستمرّ على الوفاء التامّ بالتمسّك الكامل بكلّ أخلاق إسلامه ويَنتظر موته ونهاية أجله أو استشهاده وهو علي هذا الحال دون أيّ تغييرٍ لأيِّ شيءٍ مِمَّا عاهَدَ ربَّه عليه .. فمِثْل هؤلاء لابُدَّ صِدْقهم التامّ هذا سيكون حتما خيراً لهم ، سيَنالون به تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم .. وكذلك الحال أيضا بالنسبة لأمثال هؤلاء المنافقين السابق ذكرهم ، من الأوْلَيَ لهم أن يَصْدُقُوا الله هم أيضا بالإيمان به والعمل بإسلامه وأن يُخْلِصُوا ويُحْسِنوا في ذلك ويُوفُوا به (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ولا يُخَادِعُوا ، ليَنالوا هم أيضا خيرا وسعادة في الداريْن
ومعني " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴿22﴾ " أيْ فهل يُتَوَقّع مِمَّن يَتَوَلَّي أيْ يَبتعد عن الله والقرآن والإسلام إلا أن يُفْسِد في الأرض فيَرْتَكِب كلّ أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات له ولغيره وللكوْن كله ويُقَطّع الصِّلاَت بين الأقارب والأحباب بل وبين الناس عموما ؟! إنَّ هذا هو المُتَوَقّع حتما من أمثال هؤلاء !! .. هذا ، ومِن معاني التَّوَلِّي أيضا تَوَلِّي إدارة شئون الناس بدرجةٍ من الدرجات ، فمَن يَتَوَلاّها وهو علي هذا الحال مِن البُعْد عن ربه ودينه فالنتيجة الحَتْمِيَّة هي واحدة وهي الفساد في الأرض بكلّ أشكاله !! .. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ من فِعْل ذلك حتي لا يَتعس الجميع تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم
ومعني " أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ﴿23﴾ " أيْ هؤلاء المَذْكُورون في الآية السابقة ، ومَن يُشبههم مِمَّن ذُكِرُوا في كل الآيات التي سَبَقَت مِن السورة ، الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ، الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم التَّوَلِّي أيْ البُعْد عن الله وقرآنه وإسلامه ، هم الذين بسبب ذلك لعنهم الله أيْ طردهم من رحمته وأبعدهم عنها ، وبالتالي فكانت النتيجة الطبيعية الحَتْمِيَّة المُتَوَقَّعَة لذلك أن ازدادوا بُعْدَاً عن ربهم ودينهم فأصبحوا كالصُّمِّ الذين لا يَسمعون شيئا حولهم وكالعُمْي الذين لا يُبصرونه لأنهم لا يُدركون ولا يَعقلون ما يَنفعهم وما يَضُرّهم والخيرَ وسعاداته والشرَّ وتعاساته في دنياهم وأخراهم لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، فكأنَّ الله هو الذي أصَمَّهم وأعْمَاهم ولكنهم في الواقع هم الذين اختاروا ذلك وأصَرّوا عليه فلم يساعدهم علي النجاة منه لإصرارهم الشديد علي ما هم فيه ، فإنْ رجعوا إليه عاوَنَهم وعادت إليهم رحماته وخيراته في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿1﴾ من هذه السورة " .. أَضَلَّ أعْمَالَهُم " ، والآية ﴿16﴾ منها " .. أولَئِكَ الذيِنَ طَبَعَ اللهُ عَلَيَ قُلُوبِهِم واتَّبَعُوا أهْوَاءَهُم " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴿24﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴿24﴾ " أيْ ما لهم هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ؟!! لماذا لا يَقرأون ويَتدبَّرون القرآن العظيم الذي فيه كلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم حتي لا يَقعوا فيما وَقَعُوا فيه من شرور ومَفاسد وأضرار وحتي تَتَحقّق لهم السعادة التامّة فيهما ؟!! هل لا يَتدبّرون ويَتعَقّلون ويَتَعَمّقون فيه لأنهم قد غفلوا وانشغلوا عنه وأهملوه أم لأنهم في حقيقة الأمر قد وَضَعوا الأقفال علي قلوبهم أيْ عقولهم بحيث تكون مُغْلَقَة تماما كما تُغْلَق الأبواب بأقفالها بحيث لا يَدخلها أيّ خيرٍ ولا يخرج منها أيّ شرّ ؟!! وكلٌّ مِن الحاليْن سَيِّء ، سواء الغَفْلَة من الأصل أم غَلْق العقل عن تدبّره ، والحال الثاني أشدّ سوءا لأنه يَدلّ علي العِناد والإصرار التامّ علي عدم التدبّر !! .. والاستفهام للذّمِّ الشديد وللرفض وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء التعيس وللنَّهْي والمَنْع حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتعس مثلهم ، وأيضا لتشجيعهم علي تَدَبُّره – حيث لفظ " أفلا " من معانيه أنه يُفيد الحَضَّ والحَثَّ – لعلهم يستفيقون ويعودون للتفَكُّر فيه وللعمل به كله ليسعدوا في الداريْن .. فلْيَتَدَبَّرُوه إذَن ولا يَنشغلوا عنه أو يُهملوه لِيَتِمّ لهم ذلك .. لقد عَطّلوا عقولهم تماما بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ﴿25﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿26﴾ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴿27﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿28﴾ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴿29﴾ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴿30﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا تَجَنَّبْتَ أشَدَّ التَّجَنُّب أن ترتدَ عن إسلامك وأخلاقه وأنظمته أو حتي مجرّد التفكير في ذلك ولو للحظة بعدما ذُقْتَ سعاداته ، فإنك لو فعلتَ هذا فستصبح حتما خاسرا ضائعا تعيسا تمام التعاسة في دنياك وأخراك .. وستسعد كذلك إذا كنتَ دائما حَذِرا تمام الحَذر من الشيطان واتّخذته دوْما عدوا لك (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ﴿25﴾ " أيْ إنَّ الذين رَجَعوا مُدْبِرين أيْ مُعْطِين أدْبارهم أيْ ظهورهم للقرآن وللإسلام أيْ تَرَكوهما وكفروا بالله وبهما بعد تصديقهم بهم واتَّبعوا دياناتٍ وتشريعاتٍ وأنظمة مُخَالِفَة لهم مُضِرَّة مُتْعِسَة لذواتهم ولغيرهم وللكوْن كله ، بعدما اتَّضَحَ لهم تماما أين الهُدَيَ أي الرشاد من الضياع والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وذاقوا سعادة ذلك في الفترة التي كانوا فيها مسلمين ، هؤلاء ومَن يُشبههم لم يكن لهم أيّ عذر في الارتداد ولا أيّ دليل علي صحة ما يفعلونه بل كان السبب في ذلك الخَبَل والسَّفَه الذي وَصَلوا إليه أنَّ الشيطان أيْ تفكيرهم الشَّرِّي بداخل عقولهم – والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه – قد سَوَّلَ أيْ حَسَّنَ لهم هذه الأعمال السيئة وأمْلَيَ لهم أي مدَّ وأطال ووَسَّعَ لهم في أفكارهم وآمالهم وأمانيهم الفاسدة هذه ليَستمرّوا ولِيَتَمَادُوا فيما هم فيه (برجاء مراجعة الآيات ﴿27﴾ حتي ﴿30﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه﴾ ، واختاروا هم هذا التكذيب وعبادة غير الله تعالي والإصرار علي الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿26﴾ " أيْ ذلك الارتداد عن الإسلام وذلك الذي هم فيه مِن شدّة الضياع والتعاسة وتمام سيطرة التفكير الشَّرِّيّ علي عقولهم حتي وَصَلُوا إلي ما وصلوا إليه كان من أسبابه ومن بعض مظاهره وصوره والتي أدَّت بهم إلي هذا الانزلاق السريع الشديد أكثر من أيِّ شرور ومَفاسد وأضرار أخري يفعلونها أنهم كانوا يقولون للذين يكرهون ما أنزل الله من الإسلام سواء أكانوا كافرين يُكَذّبون بوجود الله أصلا أو كتبه أو رسله أو حسابه أو عقابه أو جنته أو ناره أم مشركين يعبدون آلهة غيره تعالي كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو نحوها أم مَن يُشبههم ، يقولون لهم سنُطيعكم وسنَتبعكم وسنُؤيدكم وسنُعاونكم في بعض الأمور التي تُخالِف الإسلام وفي بعض ما تأمرون به من عداوة الإسلام والمسلمين والحق والعدل والخير وما شابه هذا مِمَّا يُناسب ظروفنا وإمكاناتنا وحتي لا ينكشف أمرنا لو أطعناكم في كلّ الأمور ، وذلك لكي يُحققّوا منهم ثمناً ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿26﴾ " أيْ والله تعالى حتما يعلم كل ما يُسِرُّونه ويُخفونه من أقوالٍ وأفعالٍ سَيِّئَة ، ويعلم كلّ شيءٍ عن كلّ خَلْقه ، وسيَكشف أمرهم السَّيِّء وسيُضْعِفه وسيَمنعه في التوقيت وبالأسلوب المناسب الذي يهزمهم وينصر أهل الخير وسيُعاقبهم حتما عليه بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في دنياهم قبل أخراهم ، فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في الداريْن ، ولْيَحْذَر المسلم تماما من طاعة ما يُخالِف الإسلام وإلا كان له ذات المصير
ومعني " فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴿27﴾ " أيْ فكيف يكون حال أمثال هؤلاء عندما تَتَوَفّاهم ملائكة الموت أيْ تقبض أرواحهم عند حلول موعد موتهم ليُقابلوا ربهم ويدخلوا قبورهم ويبدأوا أول مراحل الآخرة التي كانوا يُكذّبونها والتي سيُعَذّبون فيها أشدّ العذاب ؟! لا شكّ أنّ حالهم سيكون أسوأ وأقبح حال حيث الملائكة تبدأ معهم بعذابٍ تمهيديّ فتضرب وجوههم وظهورهم أيْ كل مكانٍ في أجسادهم من الأمام والخلف ضربا مُؤلما مُوجِعَاً مُذِلَّاً مُهِينَاً قبل بدء عذاب القبور المُتنوِّع المستمرّ والذي هو مَبْدَئِيّ وتحضيريّ حتي يأتي عذاب يوم القيامة الأعظم والأتمّ والأخلد .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿28﴾ " أيْ ذلك العذاب الذي اسْتَحَقّوه ونالوه هو بسبب أنهم ساروا خَلْف كلّ ما أغضب الله عليهم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نارٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ما شابه هذا مع فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ، وكانوا كارهين لا يُحِبّون أسباب ما يُرضيه ولا يَرغبون فيها ولا يفعلونها وهي الإيمان أيْ التصديق به وبكتبه وبرسله وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعمل بأخلاق دينه الإسلام الذي شَرَعَه للناس ليسعدوا به تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. " .. فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿28﴾ " أيْ فكانت النتيجة المَنْطِقِيَّة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة هي أنه سبحانه قد أحبطَ أعمالهم أيْ أضَلَّ وأذْهَبَ أعمالهم في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿1﴾ من هذه السورة للشرح والتفصيل عن معني إحباط وإضلال العمل﴾ .. والسبب في أنهم قد اتَّبَعوا ما أسْخَطَ الله وكرهوا رضوانه أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴿29﴾ " أيْ هل تَوَهَّمَ هؤلاء الذين في قلوبهم مرضٌ ما كالشكّ مثلا في وجود الله أو الترَدّد بين الإيمان والكفر به سبحانه أو عدم التمسّك بأخلاق الإسلام بعضها أو كلها وتفضيل غيرها عليها ممّا يَضرّ ويُتْعِس أو كالرياء أي ليسوا مُخلِصين صادقين في قولهم أو عملهم مِن أجل الخير وإنما فقط يُحِبّون أن يَراهم الناس فيمدحوهم علي فِعْلهم (برجاء مراجعة معاني الإخلاص في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، أو ما شابه هذا من التفكير المَرَضِيّ غير السَّوِيّ ، وبالجملة الذين لا يُحسنون استخدام عقولهم فيُعَطّلونها بسبب الأغشية التي يضعونها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، هل يَتَوَهَّمون أنَّ الله تعالى غير قادر على إظهار أضغانهم هذه التي يحملونها بدرجاتٍ مختلفة أيْ أحقادهم وعداواتهم وكراهياتهم الشديدة داخل عقولهم لغيرهم وللإسلام وللمسلمين وللحقّ والعدل والخير ؟! إنَّ تَوَهُمَّهم هذا يدلّ علي تمام خِفَّة عقولهم لأنه سبحانه لا يَخْفَىَ عليه شيءٌ فهو العالم بكوْنه كله بتمام العلم القادر عليه بتمام القُدْرَة ، وسيُظْهِر حتما خباياهم السَّيِّئَة هذه وسيَكشفها وسيُضعفها وسيَمنعها في التوقيت وبالأسلوب المناسب لأهل الخير ليَحْتاطوا منها وليُضَادُّوها فيَنتصروا عليهم وسيُعاقبهم حتما عليها بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في دنياهم قبل أخراهم ، فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ حتي لا يَتعس مثل تعاساتهم في الداريْن ، ولْيَحْذَر المسلم تماما من فِعْل مثل أفعالهم وإلاّ كان له ذات المصير فيهما .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا فيهما قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴿30﴾ " أيْ وهذا أيضا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد للذين في قلوبهم مرض الذين ذُكِرُوا في الآية السابقة ومَن يُشبههم (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ أنَّ الله تعالي يعلم عن الجميع كلّ شيءٍ ولو أرادَ كشف ما بداخلهم وفضحهم ليراهم وليعلمهم الناس علي حقيقتهم ويعرفونهم بسيماهم أيْ بعلامتهم وملامحهم الشَّرِّيَّة التي سيُمَيِّزهم بها والتي ستَدُلّ علي أنهم حتما أهل شرٍّ بلا أيِّ شكّ ، لَفَعَلَ ذلك ، ولكنه لا يفعله للستر علي الجميع حيث الستر يُعين علي مراجعة الذات لتُصْلِح حالها فتَسعد في الداريْن وذلك من رحماته عليهم فهو السَّتَّار الرحمن بينما الكشف والفضح يؤدي كثيرا لمزيدٍ من الشرور والمَفاسد والأضرار إذ لم يَعُد هناك شيء يُحَافَظ عليه فلْيُفْعَل إذَن كلّ شرّ !! .. " .. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ .. " أيْ ومع هذا السَّتْر الإلهيّ الرحيم فهم مُعَرَّضُون بالتأكيد ودائما لكشف شرورهم هم بأنفسهم من خلال لحن قولهم أيْ مضمونه ومعناه أي في فَلَتَات ألسنتهم التي يقولونها وفي تصرّفاتهم التي يفعلونها والتي تُظْهِر أحيانا أو كثيرا ما يدور في عقولهم من شرور ومَفاسد وأضرار !! .. " .. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴿30﴾ " أيْ والله تعالى يعلم كل أعمالكم وأقوالكم أيها الناس سواء في العَلَن أم في السِّرّ علما تامّا وسيُحاسبكم عليها بما تستحِقّون فيكون لأهل الخير كلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ولأهل الشرّ كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما .. فلْيَحْذَر إذَن أمثال هؤلاء وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴿31﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت مُستعِدَّا دائما للامتحان والاختبار في أي وقت ووَاضِعاً ذلك في حساباتك ، سواء أكان هذا الاختبار بسببٍ منك ، وهذا هو الغالب ، أو من غيرك ، وهو كثير الحدوث أيضا ، أو من ربك تعالي والذي سيكون فيه حتما المصلحة والسعادة لك ولمَن حولك حيث ستخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة مُفيدة مُسْعِدَة لكم في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن فوائد الابتلاء والصبر عليه وسعاداته في الدنيا والآخرة ، ثم مراجعة الآيات ﴿155﴾ ، ﴿156﴾ ، ﴿157﴾ من سورة البقرة أيضا للشرح والتفصيل عن كلمة " بشيء " والتي تُفيد أنَّ الاختبار هو يَسيرٌ جدا إلي جانب الخير الكثير الذي أنت فيه﴾
إنك إذا كنت مستعدا دائما للاختبار فحالك سيكون مثل حال الطالب المُتفوِّق المُتَمَيِّز الذي يَسعد بالامتحان ولا يخافه لتظهر قدراته فيطمئن عليها ويُنمّيها أكثر وليكتشف نقائصه فيجتهد في علاجها فيزداد رُقِيَّا وكمالا وسعادة
إنه من رحمة الله تعالي بخَلْقه وفضله عليهم أن يُخبرهم بالشِدَّة قبل وقوعها حتي يَسهل عليهم احتمالها بينما قد تكون صعبة غير مُحْتَمَلَة سيئة العوَاقِب والأضرار إذا كانت مُفاجِئة
إنه من حكمته سبحانه في كوْنه ومع خَلْقه ألا يتركهم في الرخاء والسعادة دوْما وإلا أدَّيَ ذلك إلي شِدّة استرخائهم وعدم انطلاقهم في الحياة واستثقالهم لاستكشاف خيراتها والتَّنعُّم بها وقد لا يستطيعون في هذه الحالة رَدَّ اعتداء مَن قد يعتدي عليهم فيَذِلّون ويتعسون ، ولذا فهو بين الحين والحين ، حيث الأصل دائما السعادة والخير ، والاستثناء هو الشِدَّة بصورة قليلة أو حتي نادرة ، يختبرهم ببعض الصعوبات ، ليُمَيِّزَ كلٌّ ذاته ، فيُنَمِّي خيره ويحمد ربه عليه ليزيده منه ويُعالِج شَرَّه وقصوره فيَصِلَ يوما بهذا لمرحلة الكمال والسعادة التامَّة بعوْن ربه وتوفيقه ، وليَتَمَيَّز الطيّب عن الخبيث ، يَتَمَيَّز الصادقين أهل الخير المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم عن الكاذبين أهل الشرّ الذين يُفَرِّطون فيها بعضها أو كلها فيَسهل بذلك التعامُل معهم بما يُناسبهم وبما يُصَوِّبهم .. فيَسعد الجميع بكل هذا
إنه مِن حِكَم الله تعالي أيضا أن أخفَيَ الغيب عن خَلْقه ، أي أخفَيَ ما يحدث في المستقبل ، وذلك لتمام مصلحتهم وسعادتهم ، لِيَجِدُّوا ويجتهدوا وينطلقوا ويعملوا ويعلموا ويستكشفوا ويتنافسوا ويتشاوروا ويتحاوَروا ويتسامَحوا ويُصَوِّبوا أخطاءهم ويتآلفوا ويتحابُّوا ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد حياتهم وممّا يجعل لهم درجات في آخرتهم علي قَدْر خيرهم الذي قدَّموه ، بينما لو علموا الغيب ، لو علموا ما سيحدث لهم مستقبلا لقعَدوا عن كل ذلك الخير انتظارا لما يعلموه فيُصيبهم المَلَل أو اليأس والقعود والاستسلام إن كان هناك شرٌّ ما مُنْتَظَر أو نحو هذا ولا يكون بذلك لحياتهم طَعْم أو معني !! ويكون حينئذ الموت كالحياة بل قد يكون أفضل !! لكنه سبحانه يُطلعهم علي بعض الغيب عن طريق رسله وقرآنه ، أيضا لمصلحتهم ولسعادتهم ، كبعض أحوال الجنة والنار والحساب والعقاب وما شابه هذا ممَّا يُعينهم علي حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴿31﴾ " أيْ وبالتأكيد سنَختبركم أيها المؤمنون بين الحين والحين باختبارٍ ما بما يُناسب كلاًّ منكم ، فهذه هي طريقتنا مع كل المؤمنين السابقين منذ أبيكم آدم ، وذلك لمصلحتكم ولسعادتكم ، لتستفيدوا خبرات واستفادات كثيرة من هذه الاختبارات والتي هي علي فترات ، ونحن نُنَبِّهكم لها قبلها الآن حتي تُحسنوا الاستعداد لها فتَنجحوا في عبورها والاستفادة منها في دنياكم وأخراكم .. وبذلك سيُظهِر الله ويُمَيِّز لكم بهذه الاختبارات – في الدنيا أولا – المجاهدين أيْ الذين يَبذلون كل أنواع الجهود في حياتهم في سبيل كل خيرٍ بما في ذلك القتال في سبيل الله والدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ضد المعتدين بالسلاح وغيره مِن صور الاعتداء والصابرين علي ذلك وعلي كل ما يُصيبهم أيْ الثابتين الصامدين المستمرّين عليه بكلّ هِمَّةٍ دون أيّ تراجع ، وأيضا لكي نَبْلُوَ أخباركم أي نُظْهِرَ أعمالكم وأقوالكم وأحداثكم وتصرّفاتكم كلها فيَتَبَيَّنَ لكم الحَسَن منها مِن السَّيِّء (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة للشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة .. ثم مراجعة الآية ﴿143﴾ منها أيضا للشرح والتفصيل عن الابتلاء والصبر عليه وفوائده وسعاداته فيهما﴾ ، فيَتَبَيَّنَ بذلك لكم مَن هم في درجاتٍ عالية تامَّة مِن الخير ومَن هم في مستوياتٍ أقل ليقوموا بتصويب أنفسهم ليرتفعوا هم كذلك ليسعد الجميع في الداريْن .. إنَّ الله تعالي بالقطع يعلم أحوال الجميع ونتائج اختباراتهم قبل أن يختبرهم ! ولكنَّ هذه الامتحانات المُتَنَوِّعَة هي لكي يعلم كلٌّ مِنَّا ذاته ، يعلم المسلم المتمسِّك بكل أخلاق إسلامه أنه علي الخير والحقّ والصواب فيزداد تمسُّكا به لتتمّ سعادته ، ويعلم مَن يترك الإسلام بعضه أو كله أنه علي شرٍّ وباطلٍ وخطأٍ فيُصَوِّب حاله وإلا تَعِس في دنياه وأخراه .. ثم في الآخرة بعد ذلك ، بعد هذه الاختبارات الكاشفة في الدنيا ، لا يكون لأيّ أحدٍ حجّة أو جدال حينما ينال المُقَصِّرُون ما يستحِقّون من عقابٍ ولا يكون لهم أيّ اعتراض حينما ينال الصادقون ثوابهم العظيم ، لأنَّ الأمور كانت في حياتهم الدنيا معلومة ظاهرة واضحة لكلّ أحد !
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ﴿32﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴿33﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴿34﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ﴿32﴾ " أيْ إنَّ الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا برسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولم يَكْتَفُوا بذلك في ذواتهم بل أيضا صَدّوا عن سبيل الله أيْ مَنَعوا غيرهم قَدْر استطاعتهم عن طريق الله أي عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. " .. وَشَاقُّوا الرَّسُولَ .. " أيْ وكانوا في شِقٍّ أيْ جانبٍ ، وهو ﷺ في شِقٍّ مُقَابِل ، أيْ خالَفوه وعانَدوه وتكبَّروا عليه وآذوه وعادوه وحاربوه هو والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير .. " .. مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ .. " أيْ وفَعَلوا كلّ ذلك بعدما اتَّضَحَ لهم تماما أين الهُدَيَ أي الرشاد من الضياع والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة من خلال رسل الله الكرام وآخرهم محمد ﷺ وكتبه وآخرها القرآن العظيم والمسلمين حولهم الذين يَدْعونهم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُوافِق كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، فليس لهم أيّ عذرٍ إذَن فيما يفعلونه ويَدَّعونه كذبا وزورا من عدم معرفتهم أو نحو هذا من مُرَاوَغَات بل هم حتما مُعانِدون مُكَذّبون مُستكبرون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه .. " .. لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا .. " أيْ حتما وبكل تأكيدٍ لن يضرّوا الله تعالي في أيّ شيءٍ ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه ، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفر الناس جميعا ! بل هم الذين سيَتعسون حتما تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم ، ولن تُفْلِح مُعاداتهم له بالقطع بأيّ شيء ! وهل يُقَارَن الخالِق بمخلوقه ؟! فسيَهزمهم قطعا وسيَنصر أهل الخير عليهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدَاً لهم .. " .. وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ﴿32﴾ " أيْ وستكون النتيجة المَنْطِقِيَّة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة بالتأكيد هي أنه سبحانه سيُحْبِطَ أعمالهم أيْ سيُضِلَّ وسيُذْهِب أعمالهم في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿1﴾ من هذه السورة للشرح والتفصيل عن معني إحباط وإضلال العمل﴾ .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا فيهما قبل فوات الأوان ونزول العذاب
ومعني " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴿33﴾ " أي يا أيّها الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، أطيعوا ونَفِّذوا ما وَصَّاكم به الله ورسوله ﷺ مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، ولا تُذْهِبوا ثواب أعمالكم الخيريّة بفِعْلِ أيٍّ مِن الشرور والمَفاسد والأضرار حتي لا تَتعسوا فيهما ، لأنه يوم القيامة في الميزان ستَخْصِم السيئاتُ التي لم تَتوبوا منها مِن حَسَناتكم ، فانتبهوا لهذا تماما واجتهدوا في أن تكونوا مِن الذين كلّ أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴿34﴾ " أي إنَّ الذين لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا برسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولم يَكْتَفُوا بذلك في ذواتهم بل أيضا صَدّوا عن سبيل الله أيْ مَنَعوا غيرهم قَدْر استطاعتهم عن طريق الله أي عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .. " .. ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ .. " أيْ واستَمَرّوا علي حالهم السَّيِّء التعيس هذا حتي ماتوا عليه من غير أن يتوبوا منه ويعودوا لربهم ولإسلامهم .. " .. فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴿34﴾ " أيْ فحتماً لن يَغفر الله لهم مُطلقا لأنَّ كفرهم مَنَعَ هذه المغفرة حيث كانوا لا يُصَدِّقون بوجوده أصلا ولا بآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلوا ونشروا في الأرض كلّ الشرور والمَفاسد والأضرار ومعلوم أنه في الميزان يوم القيامة ثِقَل الكفر في كفّة السيئات لا يُساويه أيّ حسناتٍ مهما كثرت وثَقُلَت كانوا قد فعلوها في دنياهم إنْ كانوا قد فَعَلوا حَسَنة ما ! .. لكنَّ الآية الكريمة في ذات الوقت تُفيد ضِمْنَاً أنهم لو تابوا قبل حلول سكرات موتهم لَغَفَرَ لهم ، وذلك من عظيم رحمته سبحانه الغفور الحليم الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ ودائما تَسْبِق غضبه .. إنَّ الآية الكريمة استكمالٌ لوَصْف حالهم الذي قد ذُكِرَ في الآية قبل السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ، وهما كذلك تحذيرٌ شديدٌ للمسلمين للوقاية تماما من كلّ الأسباب التي قد تُقَرِّبهم مِن طريق الكفر هذا المُتْعِس الخطير في الداريْن
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ قويا شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال ، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن القتال في الإسلام ومتي يكون وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ دائما ذا إرادةٍ عقليةٍ قويةٍ لا تَنْكَسِر وذا هِمَّةٍ عاليةٍ لا تضعف أبدا مهما كانت الظروف والأحوال
هذا ، ومعني " فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴿35﴾ " أيْ هذا تَبْشِيرٌ وطَمْأَنَة وتثبيتٌ وتشجيعٌ للمسلمين أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. أيْ إذا كان الأمر هكذا فبالتالي إذَن لا تَهِنوا أيْ لا تضعفوا أمام أهل الباطل والشرّ حين يعتدون عليكم بالقتال وغيره من صور الاعتداء وتَطلبوا الصلح والسلام معهم مِن موقفِ ضعفٍ وذِلّةٍ وعجزٍ وخوفٍ منهم فإنَّ ذلك سيكون نوعاً من الاستسلام والإهانة التي يرفضها الإسلام تماما وليست من أخلاقه فإمَّا النصر والعِزَّة والكرامة والتمكين في الأرض من أجل نشر الخير والعدل والسعادة فيها للجميع وإمَّا عِزَّة وكرامة الاستشهاد في سبيل الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل ونَيْل أعلي درجات الجنات .. هذا ، وإذا كانت الدعوة إلى السَّلْم أحيانا لا تَضرّ بمصلحة المسلمين بل تُحَقّقها فلا مانع من فِعْلها وقبولها عَمَلاً بقوله تعالى : " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ .. " ﴿الأنفال : 61﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ .. " أيْ وخاصة وأنتم حالكم أنكم الأَعْلَوْن أيّها المسلمون أهل الحقّ والخير أيْ أنتم حتما أعليَ مِن أيِّ غيرِ مسلمٍ لأنكم علي تَوَاصُلٍ دائمٍ بربكم تَطلبون منه حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسَدَاده ورزقه وقوَّته ونصره ، وهم ليسوا كذلك ، وأنتم حتما أعلي منهم لأنكم تطلبون دوْماً أعلي وأغلي شيءٍ وهو أعلي درجات الجنة بينما هم قد لا يعرفونها أصلا وكلّ أهدافهم في حياتهم أثمان دنيوية رخيصة دنيئة زائلة يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، وأنتم الأعلون إذ معكم كلّ الحقّ والعدل والحِكْمَة والهُدَيَ في القرآن والإسلام وهم يَفتقدون كلّ هذا ، فأنتم بكلّ ذلك بحقٍّ الأعلون وهم بحقٍّ الأَدْنَوْن ، أنتم حتما الأَسْعَد في الدنيا والآخرة وهم حتما الأَتْعَس فيهما .. " .. وَاللَّهُ مَعَكُمْ .. " أيْ وفوقَ كلّ ذلك وقبله وبعده فإنّ الله خالِق الخَلْق القويّ المَتِين مالِك المُلك كله القاهِر الناصر الذي يقول للشيء كن فيكون ، معكم بعوْنه وتأييده وتوفيقه وتيسيره ونصره ، ومَن كان حاله كذلك فهو في أعلي قوّةٍ وهِمَّةٍ واستبشارٍ ولا يُمكن أبداً أن يَضْعُف وهو المُنْتَصِر دائما في نهاية الأمر حتي ولو حَدَثَ له أحيانا واستثنائيَّاً بعضُ هزيمةٍ بسبب ترْك بعض أسباب النصر فسَيَسْتَدْركها سريعا بعوْن الله .. " .. وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴿35﴾ " أيْ وأيضا لن ينقصكم شيئا ولا ذرَّة أو أقلّ من أجور أعمالكم وما تستحِقّونه من خيرٍ في مُقابِلها لا في دنياكم ولا في أخراكم بل سيُضاعفها لكم أضعافا كثيرة لتنالوا تمام الخير والنصر والسعادة فيهما .. إنَّ كل ما سَبَقَ ذِكْره من حوافز تَدْفَع المسلمين بكلّ تأكيدٍ وبلا أيّ شكّ للانطلاق في الحياة بكلّ قوّة وعِزَّة لتحقيق خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴿36﴾ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴿37﴾ هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴿38﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا ، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا ، ومعني " إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴿36﴾ " أي احذروا تمام الحَذَر أيها المؤمنون أي المُصَدِّقون بربكم المتمسّكون بكل أخلاق إسلامكم المُوقِنون بحساب الآخرة ونعيمها الخالد أن تحيوا حياتكم مثل هذه الحياة الدنيا أي الدنيئة الحقيرة التي يحياها المُكذبون المُعانِدون المُستكبرون البعيدون عن ربهم وإسلامهم ، حيث حياتهم كلها لعب أيْ عَبَث أيْ بلا أيّ فائدة كالأطفال التي تَحْبُو وتجتمع للعب ثم تنفضّ بلا هدف ! كما أنها حياة كلها لَهْو أي انشغال بما هو حقير عمَّا هو كبير وبما هو شرّ غالبا أو دائما عَمَّا هو خير .. ثم تذكّروا دائما ولا تنسوا أبدا أيها المؤمنون المتمسّكون بكل أخلاق إسلامهم أنَّ هذه الحياة الدنيا – أي القريبة والأدني نسبة للأعلي وهي الآخرة – حتي ولو كانت كلها خير وسعادة كحياتكم فهي لا تُذْكَر بالنِسْبة إلي الحياة الآخرة الخالدة والتي أنتم مُوقِنون بها والتي فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، فأحْسِنوا تمام الإحسان الاستعداد لها حيث هي الحياة بحقّ ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية ، بلا أيّ موت ، بلا أيّ تَعَب ، بلا أيّ ذرّة تعاسة ، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين .. ولو كان هؤلاء الذين يُكذبون ويُعَانِدون ويَستكبرون والذين ينسون آخرتهم ، لو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم فيَتدبَّرون في هذا ، ولا يتصرَّفون وكأنهم كالجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد ولا يعلمون أنَّ هذا هو حال الحياة الدنيا ، ولو كانوا يَتعَمَّقون في الأمور ويعلمون عنها بحقٍّ وليس بصورةٍ سَطْحِيَّةٍ ويستشعرونها بجدِّيَّة ، لَأَحْسَنوا الاستعداد بالإيمان بربهم والتمسّك بإسلامهم ولَمَا عاشوا حياتهم هكذا بعيدين عنهما في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة .. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴿36﴾ " أيْ وإنْ تُؤمنوا أيها الناس حقَّ الإيمان أيْ تجتهدوا ما استطعتم في التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام وتَتَّقوا أيْ تَتَجَنَّبوا كلّ شرٍّ يُبعدكم ولو للحظة عن حبّ ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم ، وتستمرّوا علي ذلك طوال حياتكم ، لو فَعلتم هذا سيُعطيكم حتما أجور أعمالكم هذه تامَّة بلا أيِّ نُقصان في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة فيهما ، ولا يَأخذ منكم أيَّ شيء في المُقابِل ، فهو لا يَسألكم أموالكم ولا غيرها ، وما يُوصيكم به من إنفاقِ مالٍ أو جهدٍ أو فكرٍ أو غيره فهو حتما ليس لذاته أو لحاجةٍ منه إليها ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه ، إنما يُوصيكم بالإنفاق في سبيله أيْ في طريقه أيْ من أجل كلّ خيرٍ مُسْعِدٍ علي قَدْر استطاعتكم بما لا يَضرّكم بل يُسعدكم بالارتقاء بالجميع فيَنفع بعضكم بعضا ليَرْجِع ثواب كلّ ذلك إليكم في الداريْن ، رغم أنَّ كلّ ما تنفقونه هو أصلا أمواله وأرزاقه التي رزقكم إيَّاها ! وكلّ هذا من كرمه وفضله ورحمته تعالي
ومعني " إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴿37﴾ " أيْ هذا بيانٌ لجانبٍ من جوانِب حِكمته تعالي ورحمته بخَلْقه عند تشريعه الإسلام لهم ليُسعدهم بأخلاقه في دنياهم وأخراهم لا ليَشُقّ عليهم ويُتعسهم بها فيهما ، أيْ إنْ يَطلب منكم إيَّاها أيْ أموالكم وجهودكم وغيرها ويُحْفِكم أيْ يُلِحّ عليكم ويُبالِغ في طَلَبها فيَطْلُبها كلها أو أكثرها أو بما لا يُناسِب أو نحو هذا ، فحينها غالبا أو قطعا ستَبْخَلوا أيْ ستَمْنَعوا إعطاءها وبذلك سيُخْرِج أضغانكم أيْ سيُظْهِر هذا الطلَب بهذا الأسلوب كراهيتكم لهذا الخُلُق والتشريع لأنه فطَرَكم أيْ خَلَقكم تُحِبّون حِفْظَ ممتلكاتكم لِمَا فيها من منافع وسعاداتٍ لكم ، ولكنَّ طَلَب إنفاق اليَسير المُعْتَدِل المُناسِب منها دون مَشَقَّةٍ وضَرَرٍ لإسعاد ولنفع الآخرين ليَسعد الجميع في الداريْن هو أيضا من الفطرة ولذا جَعَلَ الإسلامُ هذا الطلَبَ المُسْعِد للجميع مُوافِقَاً لها ، بينما لو كرهتموه ولم تعملوا به لَتَعِسْتُم جميعا بمُخَالَفتكم له وقد يُؤدّي بكم هذا الكُرْه إلي أن تُخالِفوا غيره من وصايا إسلامكم بعضها أو كلها فتتعسون بذلك حتما في الدنيا والآخرة بتعاساتٍ علي قَدْر مُخالَفاتكم
ومعني " هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴿38﴾ " أيْ والدليل على أنه لو أَحْفَاكُم لَبَخِلْتُم وكَرهتم العطاء أنكم أنتم هؤلاء – ولفظ " ها " يفيد شَدّ الانتباه لِمَا سيُذْكَر – الذين تُدْعَون أيْ تُوَجَّه إليكم الدعوة لكي تكونوا من المُنفقين في سبيل الله أيْ في طريقه أيْ في كلّ خير أي الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم .. " .. فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ .. " أيْ فعند دعوتكم لهذا الإنفاق فأنتم الذين يكون منكم مَن يَبْخل أيْ يَمتنع عنه بصُوَرِهِ المُتَعَدِّدَةِ بدرجةٍ من الدرجاتِ وبشكلٍ من الأشكال ، فإذا كان هذا في الإنفاق اليسير المُعْتَدِل المُناسِب فما بالكم لو أحْفَاكم أيْ ألَحَّ عليكم وطَلَب منكم الكثير كما ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ ! إنكم ستَبخلون بكل تأكيد !! والذي يَبْخَل فإنَّ نَفْع الإنفاق وضَرَر البُخْل سيعود قطعا علي نفسه حيث سيَحرمه الخير والأجر في دنياه وأخراه وحتما وبكل تأكيدٍ لن يضرّ الله تعالي في أيّ شيءٍ ! لأنَّه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه ، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ وبَخلَ الناس جميعا بكل شيء ! فهو لا يُشَجِّعهم على الإنفاق لحاجته إليه حتما ولكن لفقرهم هم لهذا الإنفاق أيْ لاحتياجهم له ولأجره في الداريْن إذ بالتعاون فيما بينهم يَسْعَد ويَقْوَيَ ويَرْقَيَ الجميع بينما بعدم الإنفاق تَحدث الأحقاد والمنازعات فيَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون ، والجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم الفقر وكلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في الدنيا والآخرة .. " .. وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴿38﴾ " أيْ وإنْ ترجعوا عن الإسلام إلى الكفر يستبدل الله بكم قوما غيركم كما خَلَقَكم أنتم فهو قادرٌ علي كلّ شيء ، أيْ يُذهبكم ويأتِ بآخرين ، إمَّا بإهلاكٍ سريع واستئصالٍ تامٍّ من الحياة بزلازل وصواعق وفيضانات ونحوها إنْ كانت شروركم ومَفاسدكم وأضراركم تستحِقّ ذلك كما يَحدث أمامكم واقعيا كثيرا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ، وإمَّا بأن يأتي تدريجيا مع الوقت مِن بعدكم مِن ذُرِّيَّاتكم وذُرِّيَّات غيركم بأناسٍ لا يكونوا أمثالكم في سوئكم بل يكونوا صالحين عابدين لربهم وحده مُجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فيسعدون في الداريْن ، وهذا أمرٌ سهلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس عليه بعزيز أيْ صعب أو بعيد التحقّق .. وفي هذا حثّ للناس علي الاجتهاد التامّ في العمل بكل أخلاق الإسلام ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ولا يتعسوا تماما فيهما ويُسْتَبْدَلوا بغيرهم ويُعَذّبوا ويُهْلَكوا بسبب بُعدهم عن ربهم وإسلامهم
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴿1﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴿1﴾ " أيْ هذا تَبْشِيرٌ وطَمْأَنَة وتثبيتٌ وتشجيعٌ للمسلمين أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَفتح الله لهم فتحا ظاهرا واضحا عظيما ، والفتح هو النصر والإنجاز والغنيمة وتوسيع الأرزاق والحُكْم والسلطة والنفوذ والعلم والهُدَي والرشاد وانشراح العقل للخير وتيسير أسبابه والتنبيه والتحذير من الشرِّ والعَوْن علي عدم اتِّباعه ، أيْ بالجملة سيَنصرهم في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وسيُساعدهم وسيُيَسِّر لهم نشر دعوة الإسلام وسيَفتح لهم العقول وسيُقَوِّي حجَجَهم وبَراهِينهم وسيُنصرها علي غيرها من الدعوات والأنظمة المُخالِفة لها المُضِرَّة المُتْعِسَة ليسعدوا ويسعد الجميع ويَطْمَئِنّ بانتشارها ما داموا أحسنوا الدعوة لها بالحِكمة والموعظة الحَسَنة وصَبَروا علي أذَيَ المَدْعُوين (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وسيُمَكِّن لهم إدارة وحُكْم الأرض بنظام الإسلام وسيَفتحها عليهم وسيَنصرهم علي مَن يُعادِيهم بأيِّ شكلٍ مِن أشكال الاعتداء وسيُوَفّر لهم كلّ الأرزاق وسيَفتح عليهم بالعلوم والأفكار والإلهامات المُتَعدِّدة المُتطوِّرة إذا أحسنوا اتِّخاذ أسباب ذلك (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿55﴾ من سورة النور " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وفي المُقابِل سيَهزم أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿2﴾ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴿3﴾ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿4﴾ لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿5﴾ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿6﴾ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿7﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. وإذا كنتَ دائما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ دوْما من المتمسّكين العاملين بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾
هذا ، ومعني " لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿2﴾ " ، " وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴿3﴾ " ، " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿4﴾ " أيْ هذه بعض مَظاهِر الفَتْح المُبِين الذي يَفتحه الله علي المسلمين والذي ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ والتي تُفيد مزيدا من التبشير والطمْأَنَة والتثبيت والتشجيع والسعادة للمسلمين .. فهو حتما الغفور الرحيم الذي برحمته يغفر الذنوب جميعا لمَن يستغفره ويتوب إليه ، فاستغفروه ليغفرَ لكم ما سَبَقَ منها واستغفروه عندما تَحدث مستقبلا لأنَّ كلَّ ابن خَطّاء وخير الخطائين التوابون ، استغفروه باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين ، لتعودَ لكم سعادتكم التامّة بإسلامكم وخيره مِن غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ ، فتعيشون بذلك دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ .. وهو حتما المُنْعِم الرزّاق الوهّاب الكريم الذي يُتِمّ كلّ نِعَمه عليكم بكلّ أشكالها والتي لا يُمكن حصرها لتسعدوا بها تمام السعادة في دنياكم وأخراكم .. وهو حتما المُرْشِد الهادي المُوَفّق المُيَسِّر لكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ حيث يهديكم صراطا مستقيما أي يُثَبِّتكم طوال حياتكم علي هذا الطريق المستقيم الذي أنتم عليه ، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف ، طريق الله والقرآن والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن .. وهو حتما الناصِر القويّ القاهِر الذي يَغْلِب ولا يُغْلَب الذي يَنصركم نصرا عزيزا أي ذا عِزٍّ بلا ذُلٍّ قويا مَنِيعَاً لا يَغلبه أيّ غالِبٍ ولا يُمكن أن يَمنعه أيّ مانع لأنه نصرٌ من الله تعالي الذي يَفعل ما يريد ، وذلك حينما تُحسنون اتِّخاذ أسبابه بحُسن الإعداد له مِن كلّ الجوانب البشرية والمادية والعلمية والسياسية والعسكرية وغيرها .. وهو حتما الذي يُنزل ويُودِع في عقول المؤمنين السكون والطمأنينة والثبات ويُيَسِّر لهم أسباب كلّ ذلك عندما تُصيبهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما فيَصبروا عليه بهذه السكينة ويستعينوا بربهم ويلجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ ، ومن أهم هذه الاستفادات أن يزدادوا بذلك إيمانا علي إيمانهم أيْ يزدادوا تصديقا بربهم علي تصديقهم الذي حَقّقوه بحُسن استخدامهم لعقولهم ويزدادوا حبا له وُقرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره ويزدادوا عِلْمَاً بدينه الإسلام وعَمَلاً بكلّ أخلاقه وتَمَسّكا علي تمسّكهم الذين كانوا يقومون به فيَصِلُوا بهذا إلي تمام السعادة في الدنيا والآخرة ، وذلك لأنهم قد أحسنوا وهو قد وَعَدَ المُحسنين بوَعْده تعالي الذي لا يُخْلَف مُطلقا أنه سيَزيدهم فِعْلاً لكلَّ خيرٍ وإحسانٍ وسيزيدهم ثواباً عليه في الداريْن كما يقول " .. وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِين " ﴿البقرة : 58﴾ حبَّاً فيهم وتكريماً لهم بسبب إحسانهم وصبرهم ، فهو بالجملة سيزيدهم رشادا وصوابا وحقا وعدلا وخيرا وإحسانا وصِدْقا وإخلاصا وحرصا واجتهادا وقُرْبَاً منه وحبا له وللقرآن وللإسلام وفَهْمَاً لفوائدهما ولسعاداتهما في دنياهم وأخراهم وتمسّكا بهما وبسُنَّة رسولهم الكريم ﷺ ، وذلك بأنْ يُوَفَّقَهم ويُعاوَنهم ويُيَسِّرَ لهم أسباب كلّ هذا ويُثَبِّتهم عليها .. هذا ، وكلّ الذي سَبَقَ ذِكْره في هذه الآيات الكريمة من أفضال الله ورحماته هو بسبب أنَّ لله كلّ جنود السماوات والأرض مِن مخلوقاتٍ خَلَقَها لا يعلمها إلا هو سبحانه تُنِفّذ أوامره التي يريدها ويَفعل بها ما يشاء لمصلحة ولسعادة خَلْقِه ، وبسبب أنه كان قبل خَلْقِهم ولا يزال وسيَظلّ قطعا عليما دائما بتمام العلم بكلّ شيءٍ وبكلّ ما يُصْلِح البَشَرَ ويُكملهم ويُسعدهم ويَعلم كلّ ما يقولونه ويفعلونه في السرّ والعَلَن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته وسيُحاسبهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيرا وعلي الشرّ شرَّا ، وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
أمَّا معني " لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿5﴾ " أيْ فاشكروه شكرا كثيرا أيّها المؤمنون والمؤمنات علي كلّ هذا الفَتْح المُبِين الذين سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ وكلّ هذه النِّعَم النافعة المُسْعِدَة والتي لا يُمكن حصرها – اشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق : " .. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ – ليُدْخِلَكم بذلك أيضا يوم القيامة إضافة إلي فَتْح الدنيا جناتٍ أيْ بساتين ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالكم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع ، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. وكذلك لكي يُكَفِّر عنكم ما فَعَلْتم مِن أيّ سَيِّئات أيْ شرور ومَفاسِد وأضرار أيْ يَسترها ويَمحوها ويزيلها ولا يُحاسبكم ويُعاقبكم عليها لكثرة توبتكم منها وعودتكم إليه سبحانه .. " .. وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿5﴾ " أيْ وكان ذلك الإدخال الخالِد للجنة بكلّ نعيمها والتكفير التامِّ لكلّ الذنوب والنجاة من عقابها حتما نجاحا بالِغا باهرا في غاية العَظَمة لا يُقَدَّر ولا يُساوَيَ بأيِّ شيءٍ موجودا عند الله لكم وفي أمانه وحبه ورعايته وفي عِلْمه وحُكْمِه وتَقديره ، وهو فوز عظيم بحقٍّ لأنكم نِلْتُم وحَقَّقتم ما كنتم تأملونه وتَتَطَلّعون وتَسعون إليه طوال حياتكم من السعادة التامَّة الخالدة
ومعني " وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿6﴾ " أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وأمَّا مَن كان مِن المنافقين والمنافقات أيْ مِمَّن يُظْهِرون الخير ويخفون الشرّ ، ومِن المشركين والمشركات أيْ مِمَّن يشركون في العبادة مع الله آلهة أخري كأن يعبدوا أصناما أو أحجارا أو كواكب أو نيران أو نحوها ، وكلّ مَن يتشبه بهم ويفعل مثلهم الشرور والمَفاسِد والأضرار ، والذين هم مِن أهم صفاتهم أنهم " .. الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ .. " أيْ المُتَوَهِّمِين المُتَخَيِّلِين بالله تعالي كلَّ تَوَهُّمٍ وتَخَيُّلٍ سَيِّءٍ أيْ رَدِيءٍ فاسدٍ شَرِّيٍّ مَذمُومٍ غير حقيقيّ غير مُؤَكَّد ، مثل أن يَتَوَهَّم أو يَتَخَيَّل بعضهم مثلا أنه سبحانه غير موجود أصلا !! أو أنه موجود لكن له شركاء يُعينوه في إدارة الكوْن وهؤلاء يُمْكِن عبادتهم !! أو أنَّ القرآن مِن وَضْع البَشَر وليس وحيا منه !! أو عدم وجود بعثٍ بعد الموت بالأرواح والأجساد بعد كوْنها ترابا ليوم القيامة وللحساب والعقاب والجنة والنار !! أو أنه لن يَنصر المسلمين عليهم أبدا ويَنشر الإسلام بل سيَتَخَلَّيَ عنهم وهم الذين سيَنتصرون لأنهم الأقوي !! وما شابه هذا من الأوهام السَّيِّئَة غير الحقيقية ، والتي كلها بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿6﴾ " أيْ أمثال هؤلاء ومَن يشبههم ، وفي مُقابِل سوئهم الشديد هذا ، يُقابلهم الله بما يُناسبه مِن عذابٍ سَيِّءٍ في دنياهم قبل أخراهم ، ففي الدنيا تُحيط بهم دائرةٌ مِن العذاب السَّيِّء الشَّرِّيِّ المُهْلِك – مِثل الدائرة الهندسية – بحيث لا يُمكنهم أبدا الإفلات منه ، وكل ما يظنّونه مِن سوءٍ يَدور ويَلِفّ ويَعود عليهم هم ويُحيط بهم مع الوقت مِن سوءِ تصرّفاتهم ، بسببِ وبصُحْبَةِ غضبه تعالي عليهم – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المثل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ شِدَّة كراهيته لأفعالهم وانتقامه منهم بعقابهم إضافة لِلَعْنَتِه لهم أيْ طَرْدهم من رحمته ورعايته وأمنه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده ، وهذا العذاب يكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك﴾ ، ثم في أخراهم لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم ، وما أسوأ هذا المصير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني " وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿7﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية ﴿4﴾ لمزيدٍ من التبشير والطمْأَنَة والتثبيت والتشجيع والسعادة للمسلمين أنه تعالي له كلّ جنود السماوات والأرض مِن مخلوقاتٍ خَلَقَها لا يعلمها إلا هو سبحانه تُنِفّذ أوامره التي يريدها ويَفعل بها ما يشاء لمصلحة ولسعادة خَلْقِه ، فهو كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا لأنَّ له كل صفات الكمال قويا علي فِعْل كلّ أمرٍ يريده ومنه نصر أهل الحقّ والخير حتي دون قتالٍ عزيزاً أيْ غالِبا لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالِك المُلك كله القادر علي كلّ شيءٍ الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين .. وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم .. هذا ، ومِن المُناسِب في الآية ﴿4﴾ أن تنتهي بقوله تعالي عليما حكيما لأنَّ الحديث في الآيات السابقة يُرَكِّز علي بَيَان أنه المُدَبِّر لكلّ شئون هذا الكوْن وعلي ما يَفتحه علي المسلمين مِن خيراتٍ وبُشْرَيَاتٍ وسعادات ، بينما في هذه الآية الكريمة فالحديث يدور حول تهديد المنافقين والمشركين وأشباههم وهزيمتهم ونصر المسلمين فناسَبَ قوله تعالي عزيزاً حكيماً لأنَّ العِزَّة مِن معانيها قَهْر وغَلَبَة المُستكبرين المُعتدين الظالمين
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿8﴾ لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿9﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يُحْسِنون دعوة الآخرين لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿8﴾ " أي بعثناك قائداً مُعَلِّما مُعِينَاً مُقَوِّمَاً مُصَحِّحَاً لغيرك ، كالشاهِد في المحكمة يُعين القاضي ويُصَحِّح له رؤيته في قضيته ليَحكم فيها حُكْما صحيحا عادلا ، فكونوا كذلك جميعا أيها المسلمون ، كونوا شاهِدين مثل قدوتكم ﷺ ، أي كونوا دعاةً هُدَاةً للعالَمين ، تدعونهم لعبادة ربهم وحده (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ ، وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وتدعونهم للتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، ليَسعد الجميع بذلك في دنياهم وأخراهم ، تدعونهم بكلّ حِكمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدارين﴾ .. ثم يوم القيامة ستكونون في أعلي مَكَانَة مع رسولكم الكريم ﷺ ومع كلّ الرسل ، ستكونون شاهِدين علي مَن آمنَ بربه مثلكم أي صدَّق به وبآخرته وعمل بأخلاق إسلامه فسَعِد في دنياه ثم سيَسعد أكثر وأعظم في أخراه ، وعلي مَن كَذّبَ وتَرَكَ إسلامه كله أو بعضه فتَعِس في دنياه أشدّ التعاسة ثم سيَتعس أكثر وأعظم في أخراه ، وذلك لِصِدْقكم ولمَكَانتكم عند ربكم وثقته بكم وحبّه وتكريمه لكم .. " .. وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿8﴾ " أيْ تُبَشِّر – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدك وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أي تأتي بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك بأخلاق إسلامه ، وتُحَذّر بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما ، كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه ، حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿9﴾ " أيْ هذا الإرسال لهذا الرسول الكريم ﷺ ليكون شاهِداً ومُبَشِّرَاً ونذيراً ولهذا القرآن العظيم والدعوة للإسلام بواسطة المسلمين مِن بعده بكلّ قدوةٍ وحِكْمة وموعظة حَسَنة هو لكم أيها الناس جميعا لكي تؤمنوا أيْ تُصَدِّقوا بوجود الله تعالي وتُصَدِّقوا رسوله ﷺ وتُؤَيِّدوا وتنصروا وتُقَوُّوا وتُعَظّموا وتُقَدِّروا وتَحترموا وتُقَدِّسوا دينه سبحانه ورسوله ﷺ بتمام الاتِّباع للإسلام وعدم اتِّباع أيّ دينٍ ونظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له مُضِرٍّ مُتْعِسٍ (برجاء مراجعة معني أنْ تَنصر الله ورسوله في قوله تعالي " .. إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " ﴿محمد : 7﴾ ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَتُسَبِّحُوهُ .. " أيْ ولكي تسَبِّحوه تعالي ، أيْ تنَزّهوه ، أيْ تُبْعِدُوه عن كل صفةٍ لا تليق به ، فله كلّ صفات الكمال ، وبالتالي لكي تعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ ، وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. " .. بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿9﴾ " أي اذكروه وصَلّوا له واعبدوه وافعلوا كل خيرٍ في كل الأوقات ، في كل لحظات حياتكم ، حين الصباح وحين المساء وفي كل وقت ، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم .. هذا ، وتخصيص الله تعالي للتسبيح رغم أنه نوعٌ مِن الذكْر وذلك للتنبيه لأهميته (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن معاني الذِكْر وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ ، وكذلك تخصيص الصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن ، ثم كلّ الأيام ، ثم بالتالي كلّ الحياة .. وكلّ ذلك – لو فعلتموه – هو لكي تسعدوا تمام السعادة في حياتكم وآخرتكم .. فافعلوه إذَن لِيَتِمّ لكم هذا
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿10﴾ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿11﴾ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا ، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا ، ومعني " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿10﴾ " أيْ هذا مدحٌ وتكريمٌ وتشريفٌ لتشجيع ولدَفْع كلّ المسلمين ليكونوا كلهم كذلك ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. أي إنَّ الذين يُعاهِدون علي بذل الجهود ما استطاعوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والتأييد لرسوله ﷺ والدعوة لدينه بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ والثبات في كلِّ موقفٍ بما في ذلك القتال والدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ونحو هذا من كل أنواع الوفاء حتي استشهد بعضهم بالفِعْل في ساحات القتال والحروب ومَن لم يستشهد فهو مستمرّ على الوفاء التامّ بالتمسّك الكامل بكل أخلاق إسلامه وينتظر موته ونهاية أجله علي هذا الحال أو الشهادة في سبيل الله تعالى في الوقت الذي يُريده سبحانه ويَختاره ، فمِثْل هؤلاء قد صَدَقُوا صِدْقَاً تامَّاً في عهودهم مع الله حتى آخر لحظةٍ مِن لحظات حياتهم وما غَيَّروا شيئا مِمَّا عاهدوه سبحانه عليه .. " .. إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ .. " أي هم في حقيقة الأمر لا يُعاهِدون أحداً إلاّ الله – حيث طاعة الرسول ﷺ والإسلام هي أصلاً طاعة لله تعالي – يريدون بذلك فقط حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوَّته ونصره وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة ، وهم مُخْلِصون مُحْسِنون في كل عهودهم (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وفي هذا تذكيرٌ ضِمْنِيّ بضرورة الوفاء بما عاهَدوا عليه لأنَّ الأمر مع خالقهم الكريم الذي يعلم كلَّ شيءٍ عنهم ما ظَهَرَ وما خَفِيَ والذي سيُحاسِبهم علي كلّ عهودهم وَفّوا بها أم لا .. " .. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ .. " أيْ كأنهم بايَعُوا الله وصافَحُوه بتلك المُبايَعَة ! فالله حاضرُ هذا العهد لا يَغيب عنه وهو صاحبه ويده فوق يَدِ مَن يُعاهِده وهو علي كلّ شيءٍ مُراقِب ! وكلّ هذا لمزيدٍ مِن التأكيد والتكريم والتشريف والتشجيع على الوفاء بالعهود ، أيْ قوَّة الله ونصره وتوفيقه وتيسيره ونِعَمه معكم فوق قوَّتكم وهي حتما أعظم وأعلي منها ومِن قوة خصومكم وتُؤَيِّدكم وتُعينكم فتَعاوَنوا وتَلاحَموا لكن لا تعتمدوا علي قوَّتكم فقط بل استعينوا بقوة ربكم القويّ المَتِين واطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا واعلموا أنكم لو بدأتم بالوفاء فستُعَانُون علي إكماله دون نقصانٍ أو إخلافٍ وأنَّ يَدَه وكَرَمه في ثوابه وعطائه لكم في الداريْن فوق وأكثر وأعظم قطعا مِن عطائكم في أفعالكم هذه .. هذا ، ولله المَثَل الأعلي فله سبحانه يَد ولكنها ليست كيَدِ البَشَر ولا أحد يعلم حقيقتها إلا هو تعالي .. " .. فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ .. " أيْ فمَن نَقَضَ عهده مع ربه ولم يُوفِ به وخالَفَ ما عاهَده عليه فلا يعود ضَرَر ذلك حتما إلاّ علي نفسه وبكلِّ تأكيدٍ لن يَضُرَّ الله تعالي في أيِّ شيءٍ لأنه كامل الصفات كامل الغِنَي لا يحتاج من خَلْقه لأيِّ شيءٍ فلا ينفعه قطعا وفاؤهم بعهودهم ولا يَضُرُّه عدم وفائهم ! إنه سيَضُرّ نفسه أولا ثم كل مَن حوله بل وكل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بقَدْر سُوءِ مُخالَفاته في أقواله وأفعاله ، إنه سيُصاب في حياته الدنيا بغضبِ الله فيُحْرَم حبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده ورزقه وقوَّته ونصره وسعادته بسبب بُعده عن ربه وإسلامه ، لأنَّ مَن يَزرع سوءاً لابُدّ أنْ يحصد سوءاً كما هو القانون الإلهيّ العادل الذي نَبَّهنا له ربنا بقوله : " إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. " ﴿الإسراء : 7﴾ ، ويَتَمَثّل ذلك في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة ، ثم سيكون له في حياته الآخرة حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم .. " .. وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿10﴾ " أيْ وفي المُقابِل مَن يُوفِي بما عاهَد الله عليه وفاءً تامَّاً ما استطاع فسيُعطيه بالقطع أجرا هائلا لا يُوصَف غاية في العِظَم غير مُحَدَّدٍ وبلا عَدٍّ وحسابٍ حيث تمام الخير والأمن والسعادة في دنياه ، ثم له في أخراه أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
أمَّا معني " سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿11﴾ " أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ وتأنيبٌ للذين يَتَخَلّفون بغير عذرٍ مقبول عند الله يوم القيامة عن فِعْل الخير وعن الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام والدعوة له والدفاع عنه وعن المسلمين والحقّ والعدل والخير حتي ولو بالقتال وبَذْل الأرواح ضد المعتدين (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن صور الجهاد ودرجاته وفوائده وسعاداته في الدارين﴾ ، سواء أكان هؤلاء المُخَلّفون مِن الأعراب أي البدو الذين يعيشون في الصحراء قليلي العلم والخبرة أم مِن الحَضَر أي المُدُن والعلم والتطوّر ، الذين يَتَخَلّفون بسبب جُبْنٍ أو بُخْلٍ أو نفاقٍ – أي إظهارٍ للخير وإخفاءٍ للشرّ – أو بما شابه هذا من أسبابٍ يَعتذرون ويَدَّعون بها أعذاراً ضعيفة ساقطة كاذبة لا قيمة لها لكي يتهرَّبوا من إحراجهم أو مُساءلتهم أو مُحاسبتهم عن تَخَلّفهم بغير عُذْرٍ مقبول ، فلعلهم بهذا الذمِّ يَستفيقون ولا ينشغلون عن فِعْل الخيرات والواجبات المطلوبة ويُعالِجون بعض الأخلاقيات السيئة فيهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم .. " .. شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا .. " أيْ سيقولون لكم أيها المسلمون أنَّ عُذْرَنا في التَّخَلّف كان شديدا حيث كنا مُنشغِلين بالقيام بحقِّ رعاية الأموال والأهل وكنا مُضطّرِّين لذلك لأنه لا يُمكن لغيرنا القيام بهذا وليس تَخَلّفنا بسبب جبنٍ أو بُخْلٍ أو نفاقٍ أو نحوه ، ولذا فسنَستغفر من ذنوبنا .. فإن كانوا صادقين في أعذارهم فسيَغفر الله للصادق منهم إنْ عَزَمَ بعقله عَزْمَاً صادقا علي ألاّ يعود ، وأمّا الكاذبون المنافقون فلن يَستغفروا أصلا !! ولذا يقول تعالي في أمثالهم " .. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ .. " أيْ هم كاذبون وما يقولونه هو مجرّد كلام بالألسنة لدَفْع الإحراج والمُسَاءَلَة عنهم وليسوا مُقْتَنِعين به حقيقة في عقولهم وصادقين فيه .. " .. قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا .. " أيْ اذكروا أيها المسلمون لأمثال هؤلاء واسألوهم مَن هذا الذي يُمكنه أن يَمنعكم ويَحميكم من الله تعالي إذا أراد أن يُنزل بكم شرَّاً ما كمرضٍ أو فقر أو خوف أو قتل أو غيره ، أو حين يريد أن يُنزل بكم خيرا ما ؟! إنه لا يوجد أيّ أحدٍ يمكنه أن يَنفع أو يَضرّ إلا بإذن الله تعالي لأنه هو وحده حتما الذي يُيَسِّر الأسباب أو يَمنعها بما يُحقّق مصلحة خَلْقه وسعادتهم فهو وحده النافع الضارّ سبحانه (برجاء مراجعة الآيات ﴿72﴾ حتي ﴿76﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) .. فلماذا تَتَخَلّفون إذَن انشغالا برعاية الأموال والأهل والأمر كله بيد الله ألَاَ تَنْتَبهون لذلك ؟! ألَاَ تُدْرِكون أنَّ الجُبْن لا يُطيل عُمْرَاً ولا يَمنع ضَرَرَاً وأنَّ الإقْدام لا يُقَصِّره ولا يَمنع نفعا !! .. " .. بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿11﴾ " أي لكنَّ الله يعلم بتمام العلم والخِبْرة جميع أسراركم الكاذب منها والصادق وسيُجازيكم بما تستحِقّون في الدنيا قبل الآخرة .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستقيظون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
ومعني " بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴿12﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ والتأنيب الشديد لهؤلاء المُخَلَّفِين لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن ، أيْ ليس الأمر كما ادَّعَيْتُم كَذِبَاً مِن أنَّ أموالكم وأولادكم هي التي شغلتكم وكانت سبب تَخَلّفكم ولكنَّ السبب الحقيقيّ أنكم تَوَهَّمتم خاطِئين أنَّ العدو سيُهْلِك المسلمين تماما وأنهم لن يعودوا بعد ذلك إليكم وإلي أهلهم وبلدهم وممتلكاتهم أبدا ، وخشيتم أن يَحدث ذلك لكم أنتم أيضا ولذلك جَبُنْتُم عن الإقدام علي الدفاع عن الحقّ والعدل والخير فكنتم من المُخَلّفِين وانشغلتم بأنفسكم فقط غير مُبَالِين بهم ، وحَسَّنَ لكم تفكيركم الشَّرِّيّ بعقولكم هذا الأمر فسيطر عليكم تماما وأحببتموه ولم تحاولوا مقاومته والتخلّص منه ، وأيضا ظَنَنتم ظنَّ السَّوْء أيْ تَوَهَّمتم التَّوَهُّم السَّيِّء الرَّدِيء الفاسِد أنَّ الله لا يَنصر المسلمين ويَهزم أعداءهم وينشر إسلامه ، وبالتالي كنتم بهذا كله قوما بُورَاً أيْ كالأرض البُور الفاسِدة الهالِكَة التي لا خير فيها ولا قيمة لها ولذا ستُهْلَكُون وستُعَذّبون بسبب هذا بعقاب الله الدنيويّ والأخرويّ بما يُناسِب أفعالكم .. وكلّ ذلك بسبب تعطيلكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ﴿13﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ﴿13﴾ " أيْ وكلّ مَن لم يُصَدِّق بوجود الله تعالي وبكتبه وآخرها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد ﷺ وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ، ولم يعمل بأخلاق الإسلام الذي جاءه به الرسل الكرام ، فإنّا قد أعْدَدنا وجَهَّزنا لأمثال هؤلاء سعيرا أيْ نارا شديدة الاشتعال ، وسيكون كلّ منهم في درجةٍ تُناسب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم يستقيظون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
هذا ، ومعني " وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿14﴾ " أيْ هو تعالي وحده له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك ، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء ، ولذا فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه ، ومَن يفعل ذلك يَسعد في الدنيا والآخرة .. " .. يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ .. " أيْ الذي يتوب من ذنوبه يُسقطها عنه ويزيلها ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُسامحه بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده .. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الرحيم الودود باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناسُ ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسة ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير ! (برجاء أيضا مراجعة الآية " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " ﴿الزمر : 53﴾ ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ .. " أيْ وأمَّا مَن يَفعل الشرور والمَفاسِد والأضرار ولا يتوب منها فهذا في دنياه يُعَذّبه بكلّ شرّ وتعاسة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره ، ثم في أخراه يُعَذّبه بعذابٍ هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. هذا ، ومَن يشاء من الناس الهداية لله وللإسلام ، ويشاء نَيْل رحمة الله ، أيْ سعادته التامَّة في دنياه وأخراه ، بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه ، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويوفقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها ، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن ، والعكس صحيح تماما ، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة ، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله ، فيكفر بربه ويترك إسلامه ، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها ، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿14﴾ " أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفورا أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم ، وكان رحيما أي كثير الرحمة أي الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾ .. هذا ، ومع أنَّ الآية الكريمة تتحدَّث عن المغفرة والعذاب إلاّ أنها تُخْتَم بالمغفرة والرحمة للدلالة علي أنهما حتما الأغْلَب والأقْرَب من العقاب لأنه تعالي الغفور الرحيم الودود الكريم
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿15﴾ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما مُتَجَنِّبا لصفةٍ خَسِيسةٍ دنيئةٍ وهي الحرص علي المَغانِم دون المَغارِم ، أيْ الحرص علي الأخذ فقط دون أيّ عطاءٍ يُذْكَر ، أيْ تَهْرَب وتَختفي وتَتضاءَل وتَتباطَيء عند طَلَب بَذْل الجهود وتَتقدَّم وتَظهر وتَتضخَّم وتُسارِع عند جَنْي الثمار !! رغم أنَّ هذا مُخالِفٌ لفطرة الإنسان التي خلقه الله تعالي عليها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) والتي تحب الأخذ والعطاء معا وتَسعد كثيرا بهما مُجتَمِعَيْن ، لأنه بالعطاء فقط تُجْهَد وتَضعف مع الوقت وتَمَلّ وتَمتنع عن فِعْل الخير لأنه لا نتائج مُسْعِدَة له فتَتعس بالتالي هي ومَن حولها ، ومع الأخذ فقط تُصاب كذلك بالمَلَل وضَعْف الهِمَّة والفكر والتنافس في الخير فيَتخَلّف الجميع ويتعسون أيضا ، في الدنيا والآخرة .. وقد يَتْبَع ذلك بدء بعض صفات النفاق مثل تَرْك بعض أخلاق الإسلام عندما لا يكون هناك عطاء ماديّ فوريّ وفِعْلها فقط عند وجوده ثم تركها بعد تحصيله دون الحرص عليها لذاتها لأنها مُسْعِدَة في الداريْن
هذا ، ومعني " سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿15﴾ " أيْ هذا ذمّ شديدٌ آخر للذين يَتخلّفون عن فِعْل الخير وعن الجهاد في سبيل الله والذين ذُكِرُوا سابقا في الآية ﴿11﴾ (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ لعلهم يستفيقون ويتوبون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن ، وذلك الذمّ لأنهم يريدون الأخْذَ فقط دون العطاء حيث يقولون للمسلمين المجتهدين في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ويبذلون الجهود في أثناء ذلك حينما يرونهم ينطلقون لأخذ ثمار جهود الخير التي بذلوها وزرعوها سابقا اتركونا نأتي خَلْفكم لننال نحن أيضا منها مِثْلكم ، رغم عدم مشاركتهم فيها وتَهَرّبهم منها واختفائهم عند دعوتهم إليها !! إنهم بذلك يَتَّصِفُون بصفةٍ خسيسةٍ دنيئةٍ وهي صورة من صور النفاق ودرجة من درجاته حيث يَتركون بعض صفات الإسلام حينما يرون فيها بَذْلاً لبعض الجهود ويعتذرون بأيِّ عذرٍ حتي ولو كان واهيا بينما يفعلون ما يرون فيه أخذا بدون عطاء يُذْكَر ويسارعون إليه ولا يتحجّجون حينها بأيّ حجَج !! .. " .. يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ .. " أيْ هذا عقابٌ لهم لفترة أن يُمْنَعُوا من الامتيازات والعطايا والغنائم التي سيأخذها مَن شاركوا في فِعْل الخير وفي القتال في سبيل الله لعلهم بهذا يستيقظون ويعودون للخير هم أيضا فيسعدوا في الداريْن ، أي يريدون بقولهم ذرونا نَتَّبعكم أن يُغَيِّرُوا حُكْم الله تعالى الذي حَكَمَ به وهو أنَّ غنائم قتال المعتدين في المعارك تكون لمَن حضرها أمّا الذين يَتخلّفون عنها فلا نصيب لهم فيها ، ولذلك فقولوا لهم أيها المسلمون علي سبيل التيئيس والمَنْع أنكم لن تسيروا خلفنا لتنالوا منها أيَّ شيء ، هكذا قال الله وحَكَم وأمَرَ مِن قَبْل سؤالكم لنا أن تَتَّبعونا .. " .. فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا .. " أيْ فسَيَرُدّون عليكم بقولهم السَّفِيه غير المُؤَدَّب أنَّ الأمر ليس كما تقولون أنَّ هذا هو حُكْم الله ولكنَّ حقيقة أمركم أنكم تحسدوننا !! أيْ تَتمنّون زوال النِعَم عنّا والتي كنا سنأخذها معكم فأنتم الذين تمنعون عنا حقّنا لا الله حيث تَكرهون أن نشارككم فيما تأخذونه ! .. " .. بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿15﴾ " أيْ ليس الأمر كما يَدَّعون أنه حَسَدٌ لهم ولكنَّ حقيقة الأمر أنهم لا يعلمون إلا علما قليلا عن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وأنه بالأخذ والعطاء يسعد الجميع فيهما بينما بالأخذ فقط يتعسون ، ولو أحسنوا استخدام عقولهم لعلموا أنَّ أمر الله لابُدَّ أنْ يُنَفَّذ وأنَّ حرمانهم من الخير هو بسبب مخالفاتهم للإسلام وأنَّ لهذه المخالفات حتما عقوبات دنيوية قبل الأخروية ، إنهم لا يدركون هذا ، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه ، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم ، والسبب الأساسي أنهم قد عطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. وفي هذا تنبيه لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن
أمَّا معني " قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿16﴾ " أيْ هذا فتحٌ لباب التوبة العملية للذين يَتخلّفون عن فِعْل الخير وعن الجهاد في سبيل الله بإعطائهم فرصة لتحقيقها باختبارٍ عَمَلِيٍّ لإثبات صِدْقهم في عودتهم للخير وللعطاء ولبَذْل الجهود وليس الأخذ فقط كما ذُكِرَ في الآيات السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني ، مع مراعاة أنه تعالي قد كَرَّرَ ذِكْرهم بالمُخَلّفين من الأعراب للتنبه علي فظاعة التخلّف وحَثّاً لهم علي التخلّص من هذا الوصف بالمُسارعة في التوبة﴾ ، أيْ قولوا لهم أنكم ستُطْلَبون في المستقبل لقتالِ مُعتدين أصحاب قوةٍ شديدةٍ دفاعا عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، والمطلوب منكم هو أن تصبروا وتستمرّوا علي قتالهم حتي تقتلوهم وتهزموهم أو أن يُسْلِموا ويكونوا مسلمين ، لا بديل آخر لكم غير الثبات علي ذلك حتي يَتحقّق أحد الأمرين .. " .. فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا .. " أيْ فإنْ نَفّذتم ذلك سيُعطيكم الله حتما عطاءً طيبا عظيما هائلا من فضله وكرمه ورحمته ، في دنياكم أولا حيث النصر والعِزَّة والكرامة والرِّفْعَة والتمكين في الأرض وإدارتها بأخلاق الإسلام والانتفاع والسعادة بخيراتها ، ثم في أخراكم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. " .. وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿16﴾ " أيْ وأمَّا إنْ أَدَرْتُم ظهوركم وتَرَكْتم هذا الأمر وأهملتموه وخالَفتموه ولم تُنَفّذوه كما فَعلتم في مواقف سابقة فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك هو أن يعذبكم تعالي عذابا مُوجعا ، في دنياكم أولا لعلكم به تستفيقون وتعودون للخير لتسعدوا ، كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراكم إن استمَرَّيْتم علي التَّوَلّي دون عَوْدة عنه وتوبة منه بما هو أشدّ ألما وأتمّ وأعظم
لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿17﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المجاهدين في سبيل الله ، إضافة بالقطع لإيمانك وتمسّكك بكل أخلاق إسلامك ، والجهاد عموما هو بذل الجهد ، وفي سبيل الله يعني في كل خير ، والجهاد صور ودرجات ، فكل ما فيه بذل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته ، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجة وهو الجهاد بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة ، لمزيد من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. إلا إذا كان لك عُذْر قَهْرِيّ مقبول ، أيْ تقبله أنت لذاتك أولا وأنت الصادق في نواياك المجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامك ، ثم يقبله منك ربك تعالي ورسولنا الكريم ﷺ في الآخرة ، ففي هذه الحالة لا يكون عليك إثم ، علي أن تكون في هذه الأحوال نواياك بعقلك بكلّ صِدْقٍ يعلمه الله بداخلك أنه لولا هذا العُذر لكنت مع المجاهدين ، وأنك مع وجوده ستُقَدِّم لهم ما استطعت مِمَّا تملك كدعواتٍ وخدماتٍ أو أموال أو نحو ذلك
هذا ، ومعني " لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿17﴾ " أيْ ليس علي كلّ مَن كان له عُذْر حقيقيّ لا وَهْمِيّ مقبول عند الله تعالي يوم القيامة أيّ مُؤَاخَذَة أو عِتاب أو ضيق أو إحراج أو نحوه في الدنيا ولا إثم في الآخرة في أنْ يَتَخَلّف عن الجهاد في سبيل الله بصوره المُتعدِّدَة (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان : بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) ، كأن يكون مثلا أعمي لا يَرَيَ أو أعرج لا يُحسن التحرّك بقدمه أو ما شابه هذا من أعذار دائمة ، أو مريضا مرضا يمنع الجهاد فإنْ شَفاه الله منه انتهي عُذره أو نحو هذا من أعذار مؤقتة ينتهي العذر بانتهائها .. هذا ، ويُراعَيَ أنَّ أمثال هؤلاء لا يُكَلّفون إلا بما يستطيعون من أعمال الحياة .. " .. وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ .. " أيْ والذي يُنَفِّذ كلّ ما وَصَّيَ به الله تعالي ورسوله ﷺ من أخلاق الإسلام – بما فيها الجهاد في سبيل الله – والتي مَن يعمل بها كلها فإنها حتما تُصلحه وتُكمله وتُسعده في دنياه وأخراه ، فأمثال هؤلاء لابُدَّ حتما سيُدخلهم سبحانه في الآخرة جناتٍ أيْ بساتين ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع ، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. " .. وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿17﴾ " أيْ وأمَّا كلّ مَن يُدِرْ ظهره لأخلاق الإسلام ويَتركها كلها أو بعضها ويهملها ويُخالِفها ولا يُنَفّذها ويفعل الشرور والمَفاسد والأضرار ويَتَهرَّب من الجهاد في سبيل الله بلا عُذْرٍ مقبول ، فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك هو أن يتعس بقَدْر ما تَرَكَ منها وما فَعَل مِن سوء ، فهو تعالي يُعَذّبه عذابا مُوجعا هو السبب فيه بأفعاله السيئة ، في دنياه أولا لعله به يستفيق ويعود للخير ليسعد ، يُعذّبه بما يُناسبه ويُحَقّق مصلحته ، كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراه إن استمَرّ علي التَّوَلّي دون عَوْدة عنه وتوبة منه بما هو أشدّ ألما وأتمّ وأعظم
لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿18﴾ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿19﴾ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿20﴾ وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴿21﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا ، مع الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام ، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا ، ومعني " لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿18﴾ " ، " وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿19﴾ " أيْ هذا مدحٌ وتكريمٌ وتشريفٌ لتشجيع ولدَفْع كلّ المسلمين ليكونوا كلهم كذلك ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم .. أيْ واللهِ وبكلِّ تأكيدٍ إنَّ الله تعالي يَرْضَيَ – أيْ يُحبّ ويَختار ويَقبل أعمال ويَرْعَيَ ويُؤَمِّن ويُوَفّق ويُقَوِّي ويَنصر ويَرزق ويَزيد وبالجملة يُرضِي ويُسْعِد تمام السعادة في الداريْن – عن المؤمنين أيْ المُصَدِّقين بوجوده المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم ، حين يُعاهِدون في أيِّ مكانٍ وزمانٍ علي بَذْل الجهود ما استطاعوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والتأييد لرسوله ﷺ والدعوة لدينه بكل قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ والثبات في كلِّ موقفٍ بما في ذلك القتال والدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ونحو هذا من كل أنواع الوفاء حتي استشهد بعضهم بالفِعْل في ساحات القتال والحروب ومَن لم يستشهد فهو مستمرّ على الوفاء التامّ بالتمسّك الكامل بكل أخلاق إسلامه وينتظر موته ونهاية أجله علي هذا الحال أو الشهادة في سبيل الله تعالى في الوقت الذي يُريده سبحانه ويَختاره ، فمِثْل هؤلاء قد صَدَقُوا صِدْقَاً تامَّاً في عهودهم مع الله حتى آخر لحظةٍ مِن لحظات حياتهم وما غَيَّروا شيئا مِمَّا عاهدوه سبحانه عليه .. " .. فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ .. " أيْ وهو تعالي يعلم بتمام العلم ما في عقولهم ومشاعرهم بداخلها من الإخلاص والإحسان والحرص والتصميم علي الثبات والاستمرار علي ذلك حتي يوفوا وفاءً كاملاً بما بايَعوا عليه (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وفي هذا تذكيرٌ ضِمْنِيّ بضرورة الوفاء بما عاهَدوا عليه لأنَّ الأمر مع خالقهم الكريم الذي يعلم كلَّ شيءٍ عنهم ما ظَهَرَ وما خَفِيَ والذي سيُحاسِبهم علي كلّ عهودهم وَفّوا بها أم لا .. " .. فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿18﴾ " أيْ فبالتالي وفي مُقابِل خَيْرِهم هذا أفاضَ عليهم برضاه وكرمه ورحماته في دنياهم السكينةَ أيْ الشعور بالسكون والاطمئنان والأمن والهدوء والاستقرار والصبر والثبات وحُسْن التَّعَقّل والتَّدَبّر وتمام السرور والرضا والراحة والثقة التامّة الدائمة في تَحَقّق وَعْد الله بكلّ خير ، وأعطاهم إضافة إلي هذا العطاء المعنويّ الهائل الكافي والذي لا يُقارَن والذي لا يُساويه أيّ شيء ، عطاءً ماديا أيضا هو فتح قريب أيْ عاجِل سريع ، وهو مُستَمِرّ مُتَزَايِد ما داموا مُستمِرِّين علي عهدهم ، والفتح هو النصر والإنجاز والغنيمة وتوسيع الأرزاق والحُكْم والسلطة والنفوذ والعلم والهُدَي والرشاد وانشراح العقل للخير وتيسير أسبابه والتنبيه والتحذير من الشرِّ والعَوْن علي عدم اتِّباعه .. ثم يثيبهم في أخراهم الفتح العظيم الكامل والرضا التامّ حيث جنات فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. وهذا هو أيضا معني " وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا .. " أيْ وسيكون لهم كذلك مَكَاسِب وأرباح كثيرة متنوعة في كلّ مجالٍ لا حدود لها ولا تُحْصَيَ ولا تُعَدّ .. وهذا تأكيدٌ وزيادةٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره والذي حتما سيَتحقّق لأنه وَعْد الله الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطلقا .. " وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿19﴾ " أي كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال ، كان قويا علي فِعْل كلّ أمرٍ يريده ومنه نصر أهل الحقّ والخير حتي دون قتالٍ عزيزاً أيْ غالِبا لا يُغلَب يُعِزّ ويُكْرِم ويَنصر مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه فهو القويّ المتين مالِك المُلك كله القادر علي كلّ شيءٍ الذي يَهزِم ويَسْحَق المُكذبين المُعاندين المُستكبرين .. وهو الحكيم دائما في كلّ تدبيره وتصرّفه حيث يَضع كلّ أمرٍ في موضعه بتمام الدِّقّة دون أيّ عَبَثٍ بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم
ومعني " وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿20﴾ " أيْ وهذا أيضا مزيدٌ من الوَعْد والتبشير والتأكيد والاستمرارية والزيادة للمَكَاسِب التي ستأخذونها إلي يوم القيامة أيها المسلمون لو استَمَرَّيْتم علي عهودكم ووفائكم بها ، وستكون هذه المَغَانِم بعضها عاجِلا وبعضها آجلا في توقيتاتٍ تُناسِب نفعكم وسعادتكم .. " .. وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿20﴾ " أيْ ومِن هذه المكاسب كذلك والتي عليكم أن تتذكَّروها ولا تنسوها وتشكروا ربكم عليها أنه يمنع عنكم كثيرا أذَيَ الناس المُعادِين لكم الذين يريدون إيذاءكم .. " .. وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿20﴾ " أيْ وأعطيناكم كلَّ هذه المَغانِم الحالية والمستقبلية وكل هذه الحماية من السوء وكل هذه الانتصارات لكم والهزائم لأعدائكم لكي تكون آية مُؤَكَّدَة أيْ علامة ودلالة من العلامات والدلالات الحاسِمَة التي يُظهرها الله للمسلمين المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم المُوفِين بكل عهودهم الذين يُحِبّهم ويُحِبّونه ليتأكَّدوا من صِدْق وعوده تعالي والتي لا يُمكن أن تُخْلَف وأنه معهم دوْماً بالحبّ والتأييد والعوْن والتوفيق والتيسير والرعاية والرضا والأمن والقوة والرزق والنصر وأنه مُرْشِدهم طريقاً مستقيماً لا انحراف فيه ومُثَبِّتهم عليه وهو طريق الإسلام والقرآن طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة التامّة في الداريْن .. فاطمئنّوا إذَن لذلك أيها المسلمون واستبشروا وازدادوا قُرْبَاً من ربكم وحبّا له وتوكّلا عليه وتمسّكا وعَمَلاً بدينه واسعدوا بهذا تمام السعادة في دنياكم ثم انتظروا مُسْتَبْشِرين سعداء ما أعَدَّه لكم بالقطع في أخراكم مِمَّا هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد
أمّا معني " وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴿21﴾ " أيْ ويَعِدُكم أيضا مَغَانِم أخري كثيرة عظيمة لا يَخطر ببالكم نَوَالها عاجِلة وآجِلة مستقبلية لم تستطيعوا الحصول عليها قبل ذلك لبُعْدها عن أن تنالها إمكاناتكم لأنها صعبة المَنَال ولكنَّ الله تعالي القادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ قادر حتما عليها وهو محيط بها تماما من كل جانبٍ بكل تأكيدٍ لأنها في مُلْكه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه ولا يصعب عليه شيء وبالتالي فهي حصريا لكم مَحفوظة مُصَانَة لن تضيع وليست لأحدٍ غيركم حتي ولم تغنموها الآن فستغنموها مستقبلا في أفضل وقتٍ يختاره الله لذلك لتنتفعوا ولتسعدوا بها تمام الانتفاع والسعادة ، فهو الرزّاق الوهّاب الذي يرزقكم من حيث لا تَحتسبون ولا تَتَوَقّعون .. " .. وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴿21﴾ " أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال ، كان قديرا أيْ كثير كاملِ القُدْرَة علي كلّ شيءٍ بلا أيّ شكّ ولا يَتَعَذّر عليه فِعْل كلّ ما يريد .. فاطمَئِنّوا واسْتَبْشِروا
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿22﴾ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴿23﴾ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴿24﴾ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿25﴾ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿26﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿22﴾ " ، " سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴿23﴾ " أيْ هذا تَبْشِيرٌ وطَمْأَنَة وتثبيتٌ وتشجيعٌ للمسلمين أنَّ الله القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب حتما سيَنصرهم .. أيْ وإذا اعتدي عليكم بالقتال الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله ورسله وكتبه وآخرته وجنته وناره وحسابه وعقابه ، وأنتم قد أحسنتم اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة استعدادا لقتالهم دفاعا عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير ، فتأكّدوا أنكم ستَنتصرون قطعا وأنهم سيُوَلّون الأدْبار أيْ سيُعطونكم ظهورهم هَرَبَاً وفرارا منكم أيْ سيَنهزمون شَرّ هزيمة ، ولن يجدوا بعد هزيمتهم أيَّ وَلِيٍّ أيْ صديق أو قريب أو زميل أو نحوه يَتَوَلّي أمرهم ويدافع عنهم ولا أيّ نصير يَنصرهم ويُعينهم ويَنْجدهم أيْ ستكون هزيمة ساحِقَة لا يمكنهم بعدها إعادة تجميع أنفسهم وعودة قتالكم ، لأنَّ الله معكم .. " سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴿23﴾ " أي هذه هي طريقة الله تعالي وأسلوبه وعادته دائما التي قد مَضَت وذهبت وانتهت وحَدَثَت في كلّ السابقين قبل ذلك ولن تتبَدَّل أيْ تَتَغَيَّر مطلقا إلي يوم القيامة ، أنَّ أهل الحقّ لابُدَّ حتما وبلا أيّ شك سيَنصرهم الله في كلّ شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
أمّا معني " وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴿24﴾ " أي هذا تذكيرٌ بنِعَم الله تعالي التي تستحِقّ الشكر والتي لا تُحْصَيَ علي المسلمين المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم ، ومزيدٌ من التَبْشِيرٌ والطَمْأَنَة والتثبيت والتشجيع لهم أنَّ الله القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب حتما سيُحَقِّق لهم أفضل المَكاسِب بأقلّ الجهود ، ففي بعض الأحيان حينما يكونوا في مَوْضِع قوّة وظَفْر أيْ قد حقّقوا الأهداف التي يريدونها أمام عدوهم فإنه برحمته وفضله وبتمام علمه بالمستقبل وكمال قُدْرته وحِكْمته حيث يَضَع كلّ أمرٍ في مَوْضِعه بكلّ دِقّةٍ دون أيّ عَبَث يَكفيهم القتال ويَحفظ عليهم جهودهم وأرواحهم وممتلكاتهم ويحِقّق لهم انتصاراتٍ علي مَن يُعاديهم ويُعافيهم من شرورهم دون احتياج لقتالهم ، وذلك من خلال صُلْح مثلا يُحَقّق نفعا عظيما أو يمنع ضررا كبيرا أو ما شابه هذا من تعاملاتٍ واتفاقاتٍ ومعاهداتٍ وغيرها .. ولهذا فهو سبحانه أحيانا يُيَسِّر لهم أسبابا تُؤَدِّي إلي منع العدو من قتالهم وأيضا منعهم من قتاله ، في بعض الأماكن والأزمنة – ومعني بَطْن مكة أيْ وسطها – مِن بَعد أن يُعينهم علي الظفْر وهو أشمل من النصر في معركةٍ من المعارك لأنه يعني الفوز والنَّيْل بالمطلوب الذي يحَقّق المنفعة والعُلُوّ في مجالاتٍ كثيرة إضافة للعسكرية كسياسيةٍ واقتصاديةٍ ودعويةٍ وغيرها ، أيْ قد أعانهم سبحانه علي تحقيق أهدافهم ونَصَرَهم علي عدوهم وجَعَلَهم في وَضْع أعلى منهم في القوة والحجَّة والمَكَانَة وأن يكون أعداؤهم هم الذين يَسْعون لمُصالحتهم وللتواصُل معهم بسبب قوّتهم في مُقابِل ضعفهم .. ولذا فعلَيَ المسلمين أن يستسلموا تماما لتقدير الله ما داموا قد اتَّخذوا ما استطاعوا من أسبابٍ لتحقيق مصالحهم ويَتركون النتائج له تعالي متوكّلين عليه تمام التوكّل فسيُحَقّقها لهم حتما علي أفضل وأسعد وَجْهٍ مُمكنٍ في التوقيت وبالأسلوب المُفيد المُسْعِد لهم تماما في دنياهم وأخراهم ، وحتي لو ظَهَرَ أحيانا شَرَّاً مَا لفترةٍ ما فإنَّ في باطنه وبَعده سيكون كلّ الخير بكلّ تأكيد (برجاء مراجعة الآية ﴿216﴾ من سورة البقرة " .. وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴿24﴾ " أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال ، كان مُطّلِعَاً عالِما بكلّ ما يجري بينكم وغيركم فهو معكم مُتَوَلّيَاً لكلّ شئونكم ولا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة لا منكم ولا منهم ويختار لكم عن علمٍ وسمع وبَصَرٍ تامٍّ وحِكْمةٍ وخِبْرة كاملة كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم وسيُعطيكم كلَّ خيرٍ في الدنيا والآخرة وسيُحاسبهم هم فيهما علي شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بما يُناسب ويستحِقّون بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني " هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿25﴾ " أيْ هذا بيانٌ لبعض حِكَمِ الله تعالي في تأجيل ومَنْع أحيانا قتال المسلمين للكافرين وكفهم عنهم كما ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ .. أيْ رغم أنَّ هؤلاء الكافرين المعتدين الظالمين الفاسدين يستحِقّون القتال لصَدِّ اعتدائهم لأنهم هم الذين كفروا أيْ لم يُصَدِّقوا بوجود الله ولا برسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتي منها صَدّ الناس أيْ مَنْعهم عن اتِّباع الإسلام بكلّ وسائل الصَّدِّ المُمْكِنَة الترغيبيّة والترهيبيّة ووصول الأمر بهم أحيانا إلي منعهم حتي عن زيارة المسجد الحرام ولم يكتفوا بذلك بل ومنعوا أيضا الهَدْي وهو ما يُهْدَيَ للمحتاجين من أبقار وأغنام ونحوها والذي يكون مَعْكُوفا أيْ مَحْبُوسَاً مع الزائرين من أجل ذلك الخير وصَدّوه عن أن يَصِلَ إلي مَحِلّه أيْ مكان ذبحه ثم توزيعه لنَيْل الثواب .. رغم كلّ هذا السوء وغيره الكثير ، لكنَّ الحِكْمة والمصلحة الهامّة من الكفّ عن قتالهم في وقتٍ من الأوقات هي أنه لولا وجود أحيانا رجال ونساء مؤمنين ومؤمنات يكتمون إيمانهم يعيشون بينهم في الأماكن التي كنتم تَرَوْن قتالهم فيها ، وأنتم لا تعلمونهم ، وخشية أن تَطَأوهم أيْ تَدُوسُوهم أيْ تُهلكوهم فتُصَابون حينها منهم أيْ بسببهم بالمكروه والأذيَ والضَرَر أنكم قتلتم إخوانا لكم مسلمين ، لولا هذا لَكَانَ الأصلح والأنفع بالقطع قتالهم لإيقاف اعتداءاتهم .. " .. لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ .. " أيْ كان ذلك الكفّ عن القتال من أجل أن يُدْخَل هؤلاء المؤمنين والمؤمنات في رحمته فلا يُضَرُّوا ويَنْجُوا بإسلامهم من بين الكفار حينما تَعقدوا معهم المعاهدات ونحوها ، وكذلك يكون فُرْصَة لعلّ بعض الكافرين يشاء الهداية حينما يُحْسِن استخدام عقله فيُشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويُدْخِله في رحمته هو أيضا ويُسْلِم فيَسْعَد في الداريْن (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. " .. لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿25﴾ " أيْ أنهم لو تَمَيَّزُوا وتَفَرَّقوا عن بعضهم البعض ، المؤمنون عن الكافرين ، لكُنَّا في هذه الحالة عذّبناهم عذابا مُوجِعَاً بتيسير أسباب قتالكم لهم والانتصار عليهم وقتلهم وأسْرِهم وممتلكاتهم .. ثم هم حتما في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم
أمَّا معني " إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿26﴾ " أيْ واذْكُر يا كلّ مسلم ويا كلّ قاريءٍ للقرآن ويا كلّ مَن يريد الاعتبار والاستفادة مِن دروس ما حَدَثَ للآخرين لكي يَتَّعِظ فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ فيَسعد في دنياه وأخراه ، اذْكُر وذَكِّر مَن حولك حين يضع الكفار في عقولهم وبصورةٍ لا تَقْبَل التراجُع الحَمِيَّة أيْ الحماسَة والغضب للشرّ لا للخير والأنَفَة والتّأَفّف مِن اتِّباعه والتكَبّر والتَّعالِي عليه والتي هي حماسة الجهلاء لا العاقلين حتما وصفة من صفاتهم لأنها لا تستند لأيِّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو خُلُق حيث يَأبون تماما أيْ يرفضون اتِّباع الإسلام ويُكذّبونه ويُعاندونه ويَستكبرون عليه ويُعادونه والمسلمين ويُؤذونهم ويُقاتلونهم ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ويَصدّون غيرهم عنه وعن المسجد الحرام وعن كل خير ، وكل ذلك لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " .. فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ .. " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال الذين كفروا التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وفي المُقابِل يُنْزِل ويُودِع سبحانه في عقول المؤمنين السكون والطمأنينة والثبات والتّأنِّي والتَّعَقّل ويُلزمهم كلمة التقوي أي يُيَسِّر لهم أن يكونوا مُلْتَزِمين بما تتطلّبه كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله من اجتهادٍ في العمل بكل أخلاق الإسلام ويكونوا مُلازِمِين لها لا يُفارقونها أبدا وهي تكون كذلك مُلازِمَة لهم لا تُفارقهم وهي الكلمة التي تَقِيهم أيَّ سوءٍ وتُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم ، ويجعل هذه السكينة وهذا الالتزام عوامل تُعينهم علي ألاّ يتأثّروا مطلقا بالحماسة الجاهلية لأعدائهم أيَّاً كانوا ويُحسنون التعامُل معها والانتصار حتما عليها .. " وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا .. " أيْ هذا مدحٌ وتشريفٌ وتشجيعٌ شديدٌ لهم للاستمرار علي ما هم فيه لتتمّ سعاداتهم في الداريْن .. أيْ هم يستحِقّون مُلازَمَة كلمة التقوي لهم ونزول السكينة عليهم وكلّ هذه الخيرات ومُؤَهَّلُون لها ، وذلك لأنهم قد أحسنوا استخدام عقولهم فآمنوا بربهم واجتهدوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم فزادهم سبحانه في كل هذا الخير ، وهو قد وَعَدَ المُحسنين بوَعْده تعالي الذي لا يُخْلَف مُطلقا أنه سيَزيدهم فِعْلاً لكلَّ خيرٍ وإحسانٍ وسيزيدهم ثواباً عليه في الداريْن كما يقول " .. وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِين " ﴿البقرة : 58﴾ حبَّاً فيهم وتكريماً لهم بسبب إحسانهم وصبرهم ، فهو بالجملة سيزيدهم رشادا وصوابا وحقا وعدلا وخيرا وإحسانا وصِدْقا وإخلاصا وحرصا واجتهادا وقُرْبَاً منه وحبا له وللقرآن وللإسلام وفَهْمَاً لفوائدهما ولسعاداتهما في دنياهم وأخراهم وتمسّكا بهما وبسُنَّة رسولهم الكريم ﷺ ، وذلك بأنْ يُوَفَّقَهم ويُعاوَنهم ويُيَسِّرَ لهم أسباب كلّ هذا ويُثَبِّتهم عليها .. " .. وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿26﴾ " أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال ، كان عليماً بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه لا يَخْفَىَ عليه خافية من أمور خَلْقه ومنها علمه التامّ بأهْلِيَّة المؤمنين وأحَقِّيتهم بنزول السكينة عليهم وباستمرارهم علي كلمة التقوى وبكلّ خير ، وبما يستحِقّه المُكذبون من عقابٍ دنيويّ وأخرويّ في مُقابِل شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿27﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿27﴾ " أيْ إنَّ كلَّ ما يَعِدُكم به الله تعالي أيّها المسلمون مِن خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم هو حتما صِدْق وسيَتَحَقّق كله بلا أيّ شكّ وهو كله مُمْتَزِج بالحقّ أيْ بالصِّدْق وبالعدل الكامل المُسْعِد وبالحِكْمة التامّة التي ليس فيها أيّ عَبَث ، كما تَحَقَّقَ وعْدُه سابقا لرسوله الكريم محمد ﷺ والمسلمين معه وقتها حيث وَعَدَهم في رؤيا مُخْتَلِطَة كلها بالحقّ رآها في مَنَامِه أنهم سيَدخلون المسجد الحرام – وكان حينها تحت سيطرة كفار مكة وكانوا يمنعونهم من دخوله حتي ولو بالقتال – وقد تَحَقَّق الوعد بالفِعْل لأنه صِدْق والله لا يُخْلِف وَعْده مُطلقا وأصبح للمسلمين حتي يوم القيامة وأصبحوا جميعا يمكنهم دخوله مُطمئنّين مِن أيّ عدوّ أو خوف بعضهم يَحْلِق شعر رأسه كاملا وبعضهم يُقَصِّره للدلالة علي كمال الأمن لا يخافون بعد ذلك أبدا وهم مُقيمين فيه ولا عند الانصراف منه وهذا مزيد من التأكيد أنهم حتما آمنين لأنّ عناية الله معهم ترعاهم .. فتَأَكَّدوا إذَن أيّها المسلمون مِن حَتْمِيَّة تَحَقّق وعوده كلها لكم في الدنيا والآخرة حيث أعلي درجات الجنّات بعد ما يكون لكم في دنياكم من النصر والإنجاز والغنيمة وتوسيع الأرزاق والحُكْم والسلطة والنفوذ والعلم والهُدَي والرشاد وانشراح العقل للخير وتيسير أسبابه والتنبيه والتحذير من الشرِّ والعَوْن علي عدم اتِّباعه ، أيْ بالجملة سيَنصركم في كل شئون دنياكم صغرت أم كبرت ما دمتم تحسنون اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وسيُساعدكم وسيُيَسِّر لكم نشر دعوة الإسلام وسيَفتح لكم العقول وسيُقَوِّي حجَجَكم وبَراهِينكم وسيُنصرها علي غيرها من الدعوات والأنظمة المُخالِفة لها المُضِرَّة المُتْعِسَة لتَسعدوا ويَسعد الجميع ويَطْمَئِنّوا بانتشارها ما دُمْتم تُحسنون الدعوة لها بالحِكمة والموعظة الحَسَنة وتصبرون علي أذَيَ مَن تدعونهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، وسيُمَكِّن لكم إدارة وحُكْم الأرض بنظام الإسلام وسيَفتحها عليكم وسيَنصركم علي مَن يُعادِيكم بأيِّ شكلٍ مِن أشكال الاعتداء وسيُوَفّر لكم كلّ الأرزاق وسيَفتح عليكم بالعلوم والأفكار والإلهامات المُتَعدِّدة المُتطوِّرة إذا أحسنتم اتِّخاذ أسباب ذلك (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿55﴾ من سورة النور " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وفي المُقابِل سيَهزم أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. هذا ، وقوله تعالي " .. إِن شَاءَ اللَّهُ .. " يُفيد تعليم المسلمين ما يُحبّ سبحانه لهم أنْ يقولوه ويسمعه منهم ويعملوا به في حياتهم فيَتَوَكّلوا تمام التوكّل عليه أنَّ تحقيق الوعود يكون بمشيئته أيْ بإرادته بتيسير أسبابها في التوقيت وبالأسلوب الذي يُحَقّق لهم أفضل النتائج المُسْعِدَة في الداريْن وأنَّ البعض قد يُدْركه الموت قبل تَحَقّق الوعد له فيناله في آخرته وما شابه هذا من أحوال ، وليس معناه مُطلقا أنَّ الله قد يَفِي بوعده أو لا يَفِي لأنه حتما لا يُعْجِزه شيءٌ يشاؤه !! بل هو في حَقِّ الله غير البَشَر يعني تأكيد التَّحَقّق ! (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿23﴾ ، ﴿24﴾ من سورة الكهف " وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا ﴿23﴾ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا .. " أيْ وهو تعالي يعلم بتمام العلم المستقبليّ الذي لا تعلموه أنتم قطعا الحَكْمة والمصلحة والخير في تأخير تَحَقّق بعض الوعود حتي تكون في أفضل وأنفع وأسعد توقيتٍ لكم وللجميع (برجاء مراجعة أيضا الآية ﴿216﴾ من سورة البقرة " .. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. " .. فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿27﴾ " أيْ وهو تعالي لتمام عِلْمه ولعظيم كرمه وفضله وحبه لكم يجعل لكم من غير ذلك الذي تريدون تحقيقه ومِن قبله فتوحاتٍ قريبة أيْ خيراتٍ أخري كثيرة متنوِّعة مُسْعِدَة إلي حين أن يُيَسِّر أسباب تحقيق الهدف الأكبر الموعود الذي تريدونه في أنْسَب وأنْفَع وأسْعَد وقتٍ لكم ولغيركم .. فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا واسْعَدوا وانتظروا من ربكم دائما كلَّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴿28﴾ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴿29﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴿28﴾ " أيْ هذا تَبْشِيرٌ وطَمْأَنَة وتثبيتٌ وتشجيعٌ للمسلمين أنَّ الله القويّ الغالِب الذي لا يُغْلَب حتما سيَنصرهم وسيَنصر دينهم الإسلام .. أيْ الله بذاته العَلِيَّة مالِك المُلك كله الذي له كل صفات الكمال هو الذي بَعَثَ رسله الكرام وآخرهم رسوله الكريم محمد ﷺ بكتبه وآخرها القرآن العظيم – وفي هذا تعظيمٌ وتقديسٌ لهم لِنِسْبَتهم إليه سبحانه – بما يتَحَقّق به الهُدَيَ ومُمْتَزِجَاً به ومِن أجله أيْ بالإرشاد وقواعده العامة لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة ، وأرسله بتفاصيل هذا الهُدَيَ في دين الإسلام الذي هو دين الحقّ أيْ الصِّدق والعدل والحِكْمة أي النظام الذي يُنير للبشرية كلها وللخَلْق كلهم وللكوْن كله حياتهم ويسعدها تمام السعادة في الداريْن .. " .. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ .. " أيْ لكي لا يكون مجرّد نظام من الأنظمة في حياة الناس ولكن من أجل أن يُعْليه علي كلّ الأديان والأنظمة والأخلاقيات الأخري المُخَالِفَة له والمُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في دنياهم وأخراهم وتكون كلمته هي العليا أيْ يَرْجع الجميع إليه لو أرادوا أن يسعدوا تمام السعادة الحقيقية فيهما ، وسَيَعْلُو في الأرض كلها رغم أنف وعِناد وكِبْر وتكذيب ومحاربة المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يشبههم ، وذلك الإظهار والعُلُوّ يكون بجنوده سبحانه التي لا يعلمها إلا هو ، ثم بجهود المسلمين المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم والذين يُحسنون دعوة غيرهم للإسلام بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ ، والذين يُدافعون عنه ويُضَحّون ويُجاهدون في سبيله بكل ما يَملكون بل ويُقاتلون من أجله إن احتاج الأمر لذلك (برجاء مراجعة الآيات ﴿190﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿218﴾ منها ، للشرح والتفصيل عن القتال والجهاد في سبيل الله وفوائدهما وسعاداتهما في الدارين﴾ ، ويَصبرون علي كل ذلك (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿155﴾ ، ﴿156﴾ ، ﴿157﴾ منها ، للشرح والتفصيل عن الصبر ونتائجه وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴿28﴾ " أيْ ويَكفي المسلمين كفاية تامّة – ولا يحتاجون أبدا لأيّ شهادة أخري مِن أيّ أحد – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أي الشاهد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بينهم وبين غيرهم أنَّ هذا الدين هو أعلي وأعظم دين المُؤَيَّد تماما منه المَنصور دوْماً به وأنَّ رسوله ﷺ الذي جاء به هو أصدق الصادقين ، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك ، وسيُعْطِي بالقطع كل فريق ما يستحقّ ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم ، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به ، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم ، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها ، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بينهم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أيّ خافية مِمَّا يقوله أو يفعله أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا وما يفعله المؤمنون أهل الخير .. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم ، وتمام القَلَق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين ، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
أمّا معني " مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴿29﴾ " أيْ هذا مدحٌ عظيمٌ وتكريمٌ وتشريفٌ كبيرٌ للرسول الكريم محمد ﷺ والصحابة الكرام معه أنهم بأكمل الصفات ليَتَشَبَّه بهم جميع المسلمين ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم أخراهم .. فهُم من صفاتهم أنهم " .. أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ .. " أيْ أشدّاء أقوياء أعِزَّاء في غير كِبْرٍ أو ظلمٍ مع كلّ مَن يَعتدي علي الحقّ والعدل والخير والإسلام والمسلمين ، أمَّا مَن لم يَعتدِ مِن عموم الناس من غير المسلمين فيُحْسَن إليه قطعا بإحسان الإسلام وعدله لعله يعود للخير ويُسْلِم ليَسعد في الداريْن كما نَبَّهنا تعالي بقوله : " لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " ﴿المُمْتَحَنَة : 8﴾ .. بينما هم فيما بينهم كمسلمين في تمام الرحمة والشفَقَة والرأفة والرِّفق واللين والسهولة واليُسْر والقُرْب والمَحَبَّة والوُدّ والبَشَاشَة والنصح والتعاون والخدمة .. فهم إذَن يتصرّفون في كل موقفٍ بما يُناسبه كما وَصَّاهم الإسلام وبما لا يَخرج أبداً عن أخلاقيَّاته .. " .. تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا .. " أيْ ومِن أهم صفاتهم أيضا أنهم دوْمَاً في كلِّ خيرٍ مُتَّبِعِين أخلاق الإسلام في كل تصرّفاتهم وأقوالهم فالناظر إليهم يَراهم فيما بين صلاةٍ راكعين ساجدين متواضعين خاشعين ساكنين فيها وما بين سجودٍ بمعناه العام وهو الخضوع والاستسلام التامّ والتطبيق الكامل بكل هِمَّةٍ وحماسةٍ وإقبالٍ لوصايا الله تعالي في قرآنه وإسلامه في كل شئون حياتهم والتي تُسعدهم تمام السعادة حيث يَتَّبعونها كلها في عملهم وكسبهم وإنتاجهم وعلمهم وترويحهم وكل علاقاتهم الاجتماعية والمالية وغيرها .. " .. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا .. " أيْ وهم في كل أقوالهم وأفعالهم وشِدّتهم علي الكفار ورحمتهم بينهم مُخْلِصون مُحْسِنون لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ثوابا وعطاءً هائلا عظيما مُتزايدا من الله ورضاً تامَّاً منه في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر .. " .. سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ .. " أيْ ويظهر أثر سجودهم أيْ استسلامهم لربهم ولإسلامهم وعملهم بكل أخلاقه علي سِمات ومَلامِح وعلامات وتعبيرات وجوههم حيث الحُسْن والبِشْر والضياء والنضارة بما يُفيد تمام الاستقرار العقلي والمشاعر الآمنة الهادئة السعيدة بداخله ، ثم لهم بالقطع في جنات الآخرة كمال كلّ ذلك .. " .. ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ .. " أيْ ذلك الذي ذُكِرَ من صفاتهم الطيّبة هو وَصْفهم الحَسَن الذي يُذْكَر دائما في كل كتب الله التي أرسلها لرسله قبل القرآن الكريم كالتوراة التي أوحِيَت لموسي ﷺ وكالإنجيل الذي أوحي لعيسي ﷺ والتي فيها أيضا إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره أنهم في تَلاحُمهم وتعاونهم وتكاتفهم وتقويتهم لبعضهم البعض ونشرهم لدعوة الإسلام لغيرهم مثل الزرع في بداية نموه تكون سُوقه أيْ سيقانه رفيعة ثم مع الوقت يَخرج منها الشَّطْء أي الفروع والأوراق التي تنمو من شواطئه أيْ جَوَانبه والتي بدورها تَكْبَر فتُؤَازِر أي تُقَوِّي الفرع الأصلي وتَسْتَغْلِظ أيْ تَتَضَخَّم وتَسْتَوِي أيْ تكتمل حوله ، وهذا تشبيهٌ لحالهم حينما يَدْعون مَن حولهم بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة فيَقتنع بالإسلام أهلهم وأقاربهم وجيرانهم وزملاؤهم وأصدقاؤهم وعموم الناس فيزدادون قوة علي قوتهم ويزداد الإسلام قوة علي قوته وانتشارا علي انتشاره ويزداد عدد السعداء به في دنياهم وأخراهم .. " .. يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ .. " أيْ هذا حتما يُعجبهم ويُسعدهم حيث رسلهم الكرام وهم مِن بَعْدهم هم الزُّرَّاع الذين زَرَعوا في الأرض تدريجيا كلّ هذا الخير فوجدوا من الله في المُقَابِل كلَّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ، وهذا بالقطع وبكل تأكيدٍ يكون سببا لكي يَغيظ الكفار الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله ولا يعملون بالإسلام حينما يرون انتشار كلّ هذا الخير وانتصاره علي شَرِّهم في كلّ المجالات الفكرية والعلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها حيث هم يريدون نشر شرورهم ومَفاسدهم لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. هذا ، ولعلّ بعضهم حينما يَرَيَ حال المؤمنين السعيد فيُحَرِّك ذلك عقله نحو الاتجاه الخيريّ الصحيح بدلا أن يغتاظ ويبدأ في إزالة ما عليه من أغشية ويُحْسِن استخدامه فيُسْلِم ليَسعد مثلهم ، وقد حَدَثَ هذا بالفِعْل كثيرا علي أرض الواقع .. " .. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴿29﴾ " أيْ وَعَدَ سبحانه بفضله وكرمه ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا كلّ مَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاق إسلامه مِن أمثال هؤلاء مغفرة لكلّ ذنوبه أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم ، وَوَعَدَه كذلك عطاءً هائلا حيث سيُحَقِّق له تمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه ، حيث سيكون بكلّ هذا مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ (برجاء أيضا مراجعة الآية ﴿55﴾ من سورة النور " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. " ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. فكن أيها المسلم حريصا دوْما علي هذه المغفرة وتلك العطايا بفِعْل كلّ خير مُجتهدا في ألاّ تخرج عنها أبدا بفِعْل أيّ شرّ وإنْ فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات مِن علمٍ وعملٍ وكسب وكرم وبِرٍّ وَوُدٍّ وتعاونٍ وغيره
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿1﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿2﴾ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿3﴾ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿4﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿1﴾ " أيْ يا مَن صَدَّقتم بالله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وهو النداء المُحَبَّب لعقولهم ولمَشَاعِرهم بداخلها من ربهم ويَدْفعهم دَفْعَاً شديدا ويُشَجِّعهم علي العمل بما سيُقالُ بَعْده – لا تُقَدِّموا نظاماً بين يَدَيِ الله ورسوله أيْ قَبْلَه وأمامه يكون مُخَالِفاً لنظامهما وهو الإسلام ، أيْ اسْتَمِرّوا دائما طوال حياتكم علي اتِّباع نظامه وتشريعه وأخلاقه وكونوا دوْماً سائرين خَلْف قواعده وأصوله تماما بلا أيِّ انحرافٍ عنها لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، واحذروا تمام الحَذَر أن تَتَقَدَّموا وتَسيروا أمامه بمعني بَعيدين عنه وعن توجيهاته وإرشاداته مُتَسَرِّعين مُتَقَدِّمين في أقوالكم وأفعالكم دون الرجوع إليها في كلّ شئون حياتكم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ فتُخالِفوها فتَتعسوا تمام التعاسة في الداريْن ، وهل أنتم أعلم من الله خالقكم العالِم بكم وبما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم حتي تَفعلوا ذلك ؟! .. " .. وَاتَّقُوا اللَّهَ .. " أيْ وكونوا دائما من المُتَّقِين لله أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم " .. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿1﴾ " أيْ هو وحده الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه ، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة ، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، وبالتالي أيضا فهو وحده تعالي المُسْتَحِقّ للعبادة ولإخلاصها له (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
ومعني " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿2﴾ " أيْ هذا نداءٌ للمرة الثانية للذين آمنوا لمزيدٍ من التأكيد علي المُوَاظَبَة والاستمرار في تقديس وتعظيم الرسول الكريم ﷺ والإسلام الذي جاء به والاهتمام التامّ بذلك ، وقد تَمَّ تخصيص هذا الأمر رغم أنه مشمول في الآية ﴿1﴾ لمزيدٍ من الاهتمام والحذر الشديد من مُخالَفته لأنه ﷺ ليس إنسانا عاديا وإنما هو مُمَثّل لله تعالي في الأرض فهو رسول مَبْعُوث منه ومَن لم يحترم المبعوث فقد استهان بمَن بَعَثَه وهو الله سبحانه ، ولذلك فكل ما يقوله أو يفعله ﷺ في سُنَّته الكريمة هو وَحْي من الله ولهذا فلها قُدْسيتها التامّة بعد القرآن الكريم لأنها تطبيقٌ عمليّ وتفصيل وتوضيح له ، فلا أحد إذَن يَرْفع نظاما فوق نظامه الذي هو الإسلام مُخَالِفا له ولا صوت يَعلو فوق صوته ﷺ أيْ لا تَرَفُّع وتَعَالٍ مُطلقا علي سُنَّته ولا رَفْع لأيِّ صوت عليها عند قراءتها بل كلّ الإنصات لها كما يُنْصَت للقرآن كأنها تُسْمَع من فَمِه ﷺ كما لو كان حيا ولا انشغال عنها بأيّ شيءٍ أو إهمالٍ وعدم تطبيقٍ وتنفيذٍ لها .. هذا ، ويُقاسُ علي هذا الاحترام احترام وتقدير العلماء لأنهم وَرَثة الأنبياء يُعَلِّمون الناس الخير ، وكذلك المسئولين في كل شئون الحياة ومواقعها ، لأنّ الاحترام والتقدير هو مِمَّا يُعينهم علي حُسن إدارة شئون مَن يَرْعُونهم ، ولا يُتَبَسَّط معهم ويُدْعَوْنَ بألفاظٍ وألقابٍ تُقَلّل مِن هَيْبتهم ، وهم عليهم في ذات الوقت التّبَسُّط والتواضع معهم وقضاء حَوَائجهم لأنهم سيُسْأَلون عنها يوم القيامة ، وبالأوْلَيَ وحتما يكون ذلك مع الرسول الكريم ﷺ ، وهذا هو بعض معاني " .. وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ " أيْ عند الحديث أمامه وقت حياته وعند قبره بعد مماته وعنه ﷺ في أيّ زمانٍ ومكانٍ خَفِّضوا أصواتكم وتكلّموا بكل أدبٍ ولِينٍ وتعظيم وتكريم وحب وحرص علي تنفيذ ما قَالَ وفَعَلَ ، فلا تتحدّثوا عنه كما يَتحدَّث بعضكم مع بعض بتَبَسُّطٍ وبصوتٍ جهُورِيّ مُرتفع لا يُناسب الحديث عن العظماء بل تحدّثوا بكل حذر وانتباه وتوقير ولا تنادوه كما يُنادي بعضكم بعضا فلا تقولوا مثلا محمداً ولكن قولوا رسول الله .. " .. أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿2﴾ " أيْ حَذَرَاً مِن وحتي لا تَحْبَط أعمالكم أيْ تذهب وتضيع وتكون لا قيمة لها ولا أجر لكم عليها في الدنيا والآخرة بسبب عدم احترامكم له مِمَّا قد يؤدّي إلى الاستهانة به وبما جاء به من إسلامٍ والذي سيكون إثما كبيرا في الميزان لا تعادله أيّ حسناتٍ فيكون سببا في إحباط أعمالكم الحسنة ، ثم يقودكم عدم الاحترام هذا تدريجيا وخطوة بخطوة وشيئا فشيئا وبطريقة تَرَاكُمِيَّة لا شعوريّة إلي كلّ سوء ، وقد يَصِل بكم الأمر إلى الابتعاد حتي عن الإيمان ذاته فتكفروا بالله دون أن تُحِسُّوا وتَدْرُوا بل تُفاجأوا بأن تَجِدوا أنفسكم بهذه الحالة وحينها يكون تمام الحَبْط لأعمالكم لأنه ليس هناك أعظم من ذنب الكفر ، لأنَّ الذي ينتقل من سيّىءٍّ إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخِذٌ في الازدياد من السوء بحُكْم التعوّد بالشيء قليلاً قليلاً حتى يَنْغَمِس تماما فيه ويَصِل إلي أقصيَ مَدَيً به .. هذا ، وليس المقصود من عدم الشعور هو أن يفعل الإنسان الشرَّ دون أن يدري ويشعر لأنه لو كان كذلك لكان لا إثم عليه لأنه قد فَقَدَ عقله ولكنَّ المقصود أنكم لا تشعرون بالحُبُوط لا بالعمل السَّيِّء .. فانتبهوا لذلك واحذروا منه تمام الحذر لتسعدوا في الداريْن ولا تتعسوا فيهما
ومعني " إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿3﴾ " أيْ هذا مدحٌ وتكريمٌ وتشجيعٌ وتبشيرٌ للمسلمين الذين يُخَفّضُون أصواتهم عند رسول الله ﷺ أيْ يُعَظّمُونه والإسلام الذي جاء به ويَتَّبِعونه ولا يَتَّبِعون مُطلقاً أيَّ نظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له (برجاء مراجعة الآيتين السابقتين لتكتمل المعاني﴾ ، أولئك الذين يفعلون ذلك هم لا غيرهم الذين قد أنعمَ الله عليهم بأن امتحن قلوبهم للتقوي أيْ أخْلَصَ وصَفَّيَ عقولهم للتقوي وهي اتِّقاء وتَجَنّب كلّ ما يُخالِف الإسلام أيْ قد تَشَبَّعَت تماما بها ولا يوجد فيها غيرها وتَخَلّصَت مِمَّا يُخالِفها وأصبحت فقط مملوكة للتقوي تابعة لها ، وتلك النعمة العظيمة وذلك التكريم بسبب أنهم قد اختاروا هم أولا بكامل حرية إرادة عقولهم طريق الله والإسلام واتقوا غيره فسَهَّله لهم ووَفّقهم لاتِّباعه وأنعمَ عليهم بتمام التقوي والعوْن علي تمام التمسّك بكل أخلاق الإسلام .. وكذلك من معاني الآية الكريمة أنه سبحانه يُشَرِّفهم ويُكْرِمهم بأنْ يَمتحن قلوبهم للتقوي أيْ يَختبر عقولهم من أجل التقوي أيْ ليكونوا أتقياء أيْ ليُجَهِّزهم للتقوي وليُدَرِّبهم عليها ، أيْ هو يَختبرهم بين الحين والحين ببعض الاختبارات أو الصِّعَاب فيَصبرون عليها ويَستعينون بربهم ويَلْجَأون إليه فيُعاونهم فيَخرجون منها مُستفيدين استفاداتٍ وخبراتٍ كثيرة في حياتهم الدنيا فيُصبحون أتقياء بحَقٍّ ومُؤَهَّلِين للتقوي التامَّة أيْ لا يوجد غيرها بعقولهم والتي تَتَشَبَّع بها وتَتَخَلَّص من أيِّ شيءٍ آخر بداخلها يُخالِفها وبالتالي يَسْتَحِقّون أن يُنْعِم الله عليهم بتمام التقوي (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. " .. لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿3﴾ " أيْ وبالتالي وفي مُقابِل ذلك يُبَشِّرهم الله ببُشْرَيَاتٍ عظيمة من فضله وكرمه أنَّ لهم حتما مغفرة لكلّ ذنوبهم أيْ عَفْوَاً عنها ومَحْوَاً لها كأن لم تكن ومَنْعَاً لأيِّ عقوبة عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم ، ولهم كذلك عطاءً هائلا بالِغَاً غاية العِظَم ولا يُساويه شيء حيث سيُحَقِّق له تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم ، حيث سيكونون بكلّ هذا مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر
أمَّا معني " إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴿4﴾ " أيْ هذا ذمّ لبعض المسلمين الذين يتصرَّفون بتَصَرُّفاتٍ فيها مُخَالفات لبعض أخلاقيات الإسلام والتي قد تُؤْذِي الآخرين وتُتعسهم ، حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحد ، وحتي يستفيقوا فيعودوا لأخلاق دينهم ليَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، كالذين مثلا يُصِيحون بصوتٍ مرتفع علي غيرهم من خارج حجراتهم – جمع حُجْرَة – بصورةٍ تُزعجهم وغيرهم وتَخْدِش حياءهم وتقتحم خصوصِيَّاتهم حيث قد يكونوا في راحةٍ أو شُغلٍ مَا ، مع ما قد يُصاحِب هذا مِن غِلْظَةٍ وعدم احترامٍ وعدم تقديرٍ لمُناسبة الوقت والمكان ونحو هذا ، خاصة مع العلماء والمسئولين وكبار السنّ ونحوهم ، وما يُشابه ذلك من سوء أدبٍ في أمورٍ مُشابِهَةٍ بكلّ شئون الحياة مُخالِفَةٍ لأدب الإسلام المُسْعِد في الداريْن .. فمِثْل هؤلاء الذين يفعلون هذا كثير منهم لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيَتدبَّرون في فوائد هذه الآداب وسعاداتها فيفعلونها وفي أضرار وتعاسات مُخالَفتها فلا يُخالِفونها ، فمِن علامات حُسْن العقل حُسْن الأدب ، والعكس صحيح .. هذا ، ولفظ " أَكْثَرُهُم " يُفيد تمام الدِّقّة والعدل حيث قد يَتواجَد معهم أحيانا مَن يُفَاجَأ بسوء تصرَّفهم وهو لا يَرضاه ولا يَفعله بل ويَنصحهم بعدم فِعْله
ومعني " وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿5﴾ " أيْ هذا إرشادٌ للمسلمين إلي الخُلُق الأفضل ، أيْ ولو أنهم انتظروا حتي يكون الوقت مناسبا فيَخرج إليهم مَن كانوا يُصيحون عليه في الموعد الذي اعتاد الخروج فيه دون استعجالٍ له بعد أن يكون قد قَضَيَ شُغله أو راحته أو نحوها حيث للنفس حقّ وللأهل حقّ والحقوق كثيرة وعليه أن يُعطي لكلّ صاحبِ حقٍّ حقّه وبعد أن يكونوا قد اتفقوا معا مثلا علي موعدٍ مُحَدَّدٍ أو ما شابه هذا ، لكان ذلك حتما خيرا كثيرا لأنه تطبيقٌ لخُلُقٍ هامٍّ من أخلاق الإسلام وهو مراعاة أحوال الآخرين ومشاعرهم ومشاغلهم ولأنه قطعا بهذا الخُلُق سيَخرج لهم وسيُقابلهم مطمئنا مرتاحا غير مضطربٍ ولا مُنْشَغِلٍ ولا في ضيقٍ أو حَرَج أو تَأَفّفٍ أو نحوه مُتَفَرِّغ الذهن لهم تماما فتكون بكل ذلك قطعا نتائج اللقاء كلها مُثْمِرَة مُفيدة مُسْعِدَة للجميع في الداريْن .. " .. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿5﴾ " أيْ هذا دعوة لكلّ مُسِيءٍ للتوبة وللعودة للخير ليَسعد في دنياه وأخراه ، أي وهو سبحانه مع كلّ ذلك الذي يَفعله البَشَر مِن سوءٍ بصورٍ وبدرجاتٍ مختلفة غفور أي كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، رحيم كثير الرحمة رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴿6﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دوْما من الذين يَتَأنّون ولا يَتَعَجَّلون ويَتَثَبَّتون في كل شئون حياتهم حيث بهذا يتحقّق الصواب دائما ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴿6﴾ " أيْ يا مَن صَدَّقتم بالله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وهو النداء المُحَبَّب لعقولهم ولمَشَاعِرهم بداخلها من ربهم ويَدْفعهم دَفْعَاً شديدا ويُشَجِّعهم علي العمل بما سيُقَالُ بَعْده – حينما يَصِل إليكم أيّ نَبَأٍ أيْ خبرٍ عن طريقِ أيِّ فاسقٍ أيْ خارج عن طاعة الله أيْ غير مُلْتَزِمٍ بأخلاق الإسلام حيث من المُمْكِن والمُحْتَمَل أن يكون صادقا أو كاذبا لأنَّ مَن لا يَحتاط من الفسوق يُتَوَقّع منه الكذب ، فعليكم أن تَتَثَبَّتوا وتَتأكّدوا مِن صِحَّة هذا الخبر من مَصادر أخري مُتَعَدِّدة وتَتَأنّوا ولا تَتَعَجَّلوا عند التَّعامُل معه – ويزداد هذا التَّثَبُّت والتَّبَيُّن مع الأخبار الهامَّة – فإنْ دَلَّت الدلائل على صِدْقه يُصَدَّق ويُعْمَل به وإنْ دَلّت على كذبه يُكَذّب ولم يُعْمَل به .. هذا ، والصادق المشهور عنه الصدق يُؤْخَذ بخَبَرِه بينما المعروف عنه كثرة الكذب لا يُؤْخَذ منه خَبَره بالقطع .. " .. أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴿6﴾ " أيْ حَذَرَاً مِن وحتي لا تُؤْذوا وتَضُرُّوا بعضاً مِن الناس بالخطأ وأنتم تجهلون حقيقة أمرهم لظَنِّكم أنَّ النَّبَأ الذي جاء به الفاسق صِدْق فتَصِيرُوا نادِمين نَدَمَاً شديداً وفي حَسْرَةٍ وألمٍ كبيريْن علي الذي فعلتموه فيهم وما حَدَثَ بحَقّهم من النتائج السيئة التي تَرَتَّبَت على تصديق خَبَر هذا الفاسق وعلي التَّعَجّل وعدم التَّأنِّي في التصرّف معه .. فالآية الكريمة تُرْشِد المؤمنين في كلّ زمانٍ ومكانٍ إلى كيفية استقبال الأخبار استقبالا سليما والتعامُل معها تعامُلاً حكيما .. وبهذا يحيا الجميع في أمنٍ وخير واستقرار بعيدين تماما عن الندم والتَّحَسّر علي ما قد يتَّخذونه من بعض مواقف وتصرّفات قد تُؤذي بعضهم البعض فيَسعدون بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴿7﴾ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿8﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل ، هم دائما مَرْجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، فسَتَجِد البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء ، وستجد الشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، وستجد النور كله ، والهُدَي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والرحمة كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴿7﴾ " ، " فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿8﴾ " أيْ وانْتَبِهُوا وتَذَكَّرُوا وتَدَبَّرُوا وتَعَقَّلُوا وأَدْرِكُوا دائما ولا تَنْسوا مُطلقا واهْتَمّوا بشدّة واقْدُرُوا الأمرَ حقَّ قَدْره – ومِن مُتَطَلّبات هذا العلم ألاَّ تُقَدِّمُوا بين يَدَيِ الله ورسوله (برجاء مراجعة الآية ﴿1﴾ من هذه السورة لتكتمل المعاني﴾ – أيّها المؤمنون وأيّها الناس جميعا أنَّ فيكم وبينكم ومعكم دوْماً ما جاءكم به رسول الله ﷺ وهو القرآن العظيم وما فيه من الإسلام الحنيف أيْ البعيد عن أيِّ باطل ، وهو الذي فيه كلّ الحقّ والعدل والخير الثابت الذي لا يَتَغَيَّر أبدا والذي يُرْشِدكم لتمام الخير والسعادة في دنياكم وأخراكم لو اتَّبعتموه كله ، وتَذَكّروا واحْذَروا تماما أنه علي سبيل الافتراض – ولن يَحدث قطعا – لو يُوافِقكم الإسلام ويستجيب لكم فيما يريده كثيرٌ مِن تفكيركم الشَّرِّيّ أو غير الصحيح غير الصواب بداخل عقولكم لَعَنِتُّم حتما أيْ لَحَدَثَ لكم العَنَت أيْ كلّ أنواع المَشَقَّة والتَّعَب والضيق والحَرَج والإيذاء والألم والشقاء والتعاسة وتَخَبُّط أموركم وهلاككم في الداريْن ، ولكنَّ الله تعالي مِن نِعَمه عليكم التي لا تُحْصَيَ ورحمته الواسعة بكم أيّها المؤمنون وبكلّ خَلْقه وحُبّه لكم ولهم وحرصه علي إسعادكم جميعا أيها البَشَر نَجَّاكم من هذا بأنْ جعل في فطرتكم التي خَلَقَكم عليها (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) حُبَّ الإيمان به أيْ التصديق بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وحُبّ خُلُق الإسلام ونظامه وحَسَّنه لكم في عقولكم وجَعَلَ في الكوْن من الأدِلّة والشَّوَاهِد الدالّة على خَيْرِيَّته الكثير الذي يقبله العقل المُنْصِف العادِل بكلّ سهولةٍ ويُسْرٍ وإقبالٍ وحماس ، فأحسنتم استخدام عقولكم وقَبِلْتُمُوه فأسْلمتم ويَسَّرَ لكم أمور ذلك ، لأنَّ فيه تمام أمنكم وخيركم وسعادتكم في الدنيا والآخرة ، وجَعَلَ أيضا في فطرتكم الكراهية التامَّة والنفور والبُعْد الكامل عن الكفر وهو عدم التصديق بوجوده سبحانه ، والفسوق وهو الخروج عن طاعته بتَرْك أخلاق إسلامه بعضها أو كلها وفِعْل الشرور الكبيرة المُضِرَّة ضَرَرَاً كبيراً ، والعِصْيان وهو فِعْل الشرور ذات الضَرَر الأقلّ ، وجَعَلَ في الكوْن مِن الأدِلّة والشواهِد الدالّة علي فساد ذلك وضَرَره بحيث لا يَقبله أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل ، فابتعدتم بتوفيقه عن كلّ هذا السوء لأنَّ فيه تمام الخوف لكم والقَلَق والتوَتّر والضيق والاضطراب والشرّ والتعاسة في الداريْن .. إنه تعالي بهذا قد جَعَلَ فِعْل الخير هو الأسهل الأيْسَر للإنسان لأنه يُوافِق فطرته وعقله بينما فِعْل الشَّرِّ هو الأصعب له ومَن يفعله يحتاج إلي جهودٍ عَسِيرَةٍ لأنه يُعَاكِس ويُصَادِم ما في الفطرة والعقل !! مع سهولة وسرعة العودة منه عند فِعْله !! .. " .. أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴿7﴾ " أيْ هؤلاء الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَستجيبون لنداء الفطرة بداخلها فيُؤمنون ويَتمسّكون ويعملون بكلّ أخلاق إسلامهم لا شكّ أنهم بالتأكيد هم وحدهم لا غيرهم الراشدون أيْ المُستقيمون السائرون المُسْتَمِرُّون الثابتون دوْماً علي طريق الاستقامة أي الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف ، طريق الله والقرآن والإسلام ، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن .. وبالتالي فهم حتما السعداء تماما في دنياهم وأخراهم .. " فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿8﴾ " أيْ ذلك الخير العظيم الذي سَبَقَ ذِكْره ، وغيره الكثير من خيرات وأرزاق الله المتنوِّعة المُسْعِدَة في الكوْن كله لكلّ خَلْقه والتي لا يُمكن لأحدٍ أن يُنكرها ، كلّ هذا هو فضل أيْ خير زائد هائل من الله الكريم الرحيم الودود الوهَّاب الرَّزَّاق وهو مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها .. فقابِلُوا ذلك إذَن بأن تكونوا دوْماً من الشاكرين ، بعقولكم باستشعار قيمة هذه النعم وبلسانكم بحمده وبعملكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " ﴿إبراهيم : 7﴾ ، وبأن تستمرّوا علي تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتتمّ سعادتكم في دنياكم وأخراكم " .. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿8﴾ " أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه ، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده ، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿10﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ دائما مِن المُصْلِحين الذين يُحسنون تقديم النصيحة والمَشُورَة المُخلصة للمُتَخاصِمِين إن كنتَ مُستطيعا مُؤَهَّلاً لذلك ، لأنَّ الصلحَ وحُسن توجيه أطراف الخصام بكل صدقٍ أمرٌ خيرٌ مُسْعِدٌ في الداريْن يحفظ حُسن العلاقات بين كل أفراد المجتمع فيقوَيَ ويَرْقَيَ ويَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما بالخلاف والنزاع وسوء التوجيه والإرشاد والنُّصح يَضعفون ويَتخلّفون ويَتعسون فيهما .. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها (برجاء مراجعة الآيات ﴿103﴾ حتي ﴿110﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾ " أيْ وإنْ حَدَثَ – علي سبيل النّدْرَة لأنه مِن المُفْتَرَض ألاّ يَحْدُث أبدا – أنْ اقتتل مجموعات أو أفراد من المسلمين قَلّوا أم كَثروا فيما بينهم ، فإنَّ على الحُكماء العُقلاء الأمناء العادِلِين المُؤَهَّلِين لِمِثْل هذه الأمور المُتَخَصِّصين فيها من المسلمين أن يُسارعوا إلي تَجَنّب هذا الشرّ العظيم بالإصلاح بينهم وبَذْل أفضل وأقْصَيَ أساليب النُّصْح وإزالة أسباب الخِلَاف والتَّوَسُّط بذلك على أكمل وجهٍ مُمْكِنٍ مُحَقِّقٍ للصلح بكل الوسائل السلمية المُمْكِنَة حتي لا يَتعس الجميع في الداريْن ، فإنْ حَدَثَ الصلح ورجعت الأمور للخير الذي كانت عليه سابقا فبِهَا ونِعْمَت حيث قد عادت السعادة والطمأنينة للجميع ، لكنْ إنْ بَغَتْ مجموعة علي غيرها أيْ اعتدت عليها وظَلَمتها بأنْ لم تقبل الصلح واستمرّت في القتال أو قَبِلَته ثم لم تنفذه وعادت للتقاتُل مرة أخري أو ما شابه هذا من أنواع الظلم ، وتمَّ التأكّد من أنها هي الباغِيَة بوسائل مُتَعّدِّدة ، ففي هذه الحالة يَتَجَمَّع ضِدَّهم ما يُناسب ويَكفِي من المسلمين العاملين في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية ونحوها لقتال هذه المجموعة المُعتدية ، وذلك رغم أنه أمر سَيِّء وضَرَر ولكنه أخَفّ الضَرَرَيْن لأنَّ السكوت سيُؤَدِّي إلي مزيدٍ من الدماء والخراب والتعاسة ، ويستمرّ قتالها حتي تَفِيء أيْ تَرْجِع إلي أمر الله أيْ إلي الحقّ والعدل وحُكْمِه تعالي بالصلح وتسوية الخلافات ، ثم بعد رجوعها يتمّ الصلح بتمام العدل دون أيّ ذرّة ظلم وبتمام التَّراضِي بين الأطراف حتي تَتَصَافَيَ كلّ المشكلات ويَسعد الجميع في الداريْن ولا يتعسون فيهما وإلاّ لو كان هناك أيّ ظلمٍ أو عدم رضي لاستمرّت الخلافات والضغائن ولَعَادَ القتال بسهولة ثانية في أيّ وقت .. " .. وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾ " أيْ وعموماً وليس فقط في الإصلاح بين المُتَنَازِعِين كونوا دائما مُقْسِطِين أيْ عادِلِين في كلّ تصرّفاتكم وأحكامكم وأقوالكم وأفعالكم وكل شئون حياتكم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم حتي يحبكم الله تعالي الذي يُحِبّ المُقسطين ومَن أحبّه كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يتصرّف بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سأله أيَّ مسألةٍ أعطاه إيّاها أو ما هو أفضل منها ولئن استعاذه من أيّ شرٍّ أعاذه أيْ حفظه منه وأعانه عليه وبالجملة سيكون في تمام الخير واليُسْر والأمن والسعادة في دنياه قبل أخراه .. وكفي بذلك جزاء عظيما للمقسطين
ومعني " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿10﴾ " أيْ جميع المؤمنين أيْ المُصَدِّقين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وجنته وناره وحسابه وعقابه المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامه هم إخوة في الله والإسلام ، فهم يجمعهم أصل واحد وهو الإيمان كما يَجْمَع الإخْوَة من الوالدين أصل واحد وهو النَّسَب ، وكما أنَّ أُخُوَّة النَّسَب تدعو إلى الحبّ والتواصُل والتراحُم والتناصُر والتعاون ونحوه وتحصيل كل خيرٍ ومنع كل شرٍّ وتحقيق كل سعادة في الدنيا والآخرة ، فكذلك حتما الأخُوَّة في الدين تدعو إلي كل ذلك لكل مؤمن في أيّ مكانٍ وزمانٍ فيُحبّ المؤمنون له كل ما يُحبّونه لأنفسهم ويكرهون له ما يكرهون ويكون الجميع كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تألّمَت له بقية الأعضاء وتعاوَنَت علي تخفيف ومَنْع ألمه ، بل هي أقوي وأثبت من أخُوَّة النَّسَب والتي قد تضعف بمُخَالَفة الدين ، وبالتالي فأصْلِحوا سريعا بين كلّ مسلميْن أو أكثر تَخَاصَمُوا حتي لا تَتعسوا في الداريْن بالخصام بل تسعدوا بالوِئَام .. " .. وَاتَّقُوا اللَّهَ .. " أيْ وكونوا دائما من المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. " .. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿10﴾ " أيْ لكي تُرْحَموا ، أي لو فَعلتم ما سَبَقَ ذِكْره كنتم مُؤَهَّلِين لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة .. هذا ، ولفظ " لعلّ " يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك إخوة مُتحابِّين مُتصالِحين مُتراحِمين مُتواصِلين مُتآلِفين مُتعاونين مُتناصرين فاعِلين لكل خيرٍ مُتَّقِين لكلّ شرٍّ ليسعدوا برحمات ربهم وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿11﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴿12﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، مُجتهداً في ألاّ تترك منها شيئاً وإلاّ تَعِسْتَ تعاسة تُساوِي مقدار ما تتركه
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿11﴾ " أيْ يا مَن صَدَّقتم بالله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وهو النداء المُحَبَّب لعقولهم ولمَشَاعِرهم بداخلها من ربهم ويَدْفعهم دَفْعَاً شديدا ويُشَجِّعهم علي العمل بما سيُقالُ بَعْده – لا يَستهزيء ويَجعل مَثَارَاً للضحك ويَنتقص ويَحتقر أحدٌ مِن الرجال منكم ولا مِن النساء أحداً آخر بأيِّ قولٍ أو فِعْلٍ لأنَّ ذلك يُثير الأحقاد والضغائن والصراعات والأضرار بينكم ويُتعسكم في الداريْن بينما بترك السخرية يَحترم بعضكم بعضا وتتآلفون وتتعاونون وتتقدّمون وتسعدون فيهما ، فقد يكون مَن سُخِرَ منه خيرا عند الله مِن الساخِر والعِبْرَة قطعا بالمَكَانَة عنده تعالي لا بما عند الناس ، فقد يُصَغِّر ويَحْتَقِر أحدٌ أحداً عَظَّمه اللّهُ فيُعاقِبه سبحانه بما يُناسب فِعْله في دنياه وأخراه فالمطلوب إذَن ألاَّ يَتَجَرَّأ أحدٌ أبداً على الاستهزاء بأحد .. " .. وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ .. " أيْ وأيضا لا يَعِبْ بعضكم بعضا بأيِّ عَيْبٍ من العيوب ، لا بالقول ولا بالإشارة ولا بما شابه هذا ، فإنكم كشخصٍ واحدٍ فمَن عابَ غيره فكأنما عابَ نفسه كما أنَّ المُعَاب قد يَرُدّ العَيْب بعَيْبِ مَن عَابَه ، وهكذا ينتشر الغَيْظ والغِلّ ويتعس الجميع في الداريْن .. " .. وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ .. " أي وكذلك لا يُنادِ بعضكم بعضا بالألقاب الكريهة السيئة المُتعسة المُثيرة للكراهية والتَّبَاعُد .. " .. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ .. " أيْ مَن يَفعل ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره وما يشبهه يَفْسُق بعد إيمانه وما أسوأ هذا الحال ، أيْ ما أسوأ أن يجتمع مع الإيمان بالله الفُسُوق وهو الخروج عن طاعته سبحانه بمُخالَفة أخلاق الإسلام فهما من الصعب أن يجتمعا ! لأنَّ وجود بعض الفِسْق يمنع في المُقابِل العمل ببعض أخلاق الإسلام ! والإسلام لا يَقبل أبدا الفِسْق ويبتعد تماما عنه ! أيْ هذا ذمّ للفِسْق وللفُسَّاق لكي يتجنّبه كل مسلم حريص علي سعادتيّ الدنيا والآخرة لأنه بالفسق يتعس فيهما علي قَدْر فِسْقه .. أيْ بِئْس – أيْ ما أسوأ وأقْبَحَ – اسم الفسوق أن يُطْلَقَ علي الإنسان بعد إيمانه والتزامه بالإسلام فيُسَمَّيَ بالفاسِق بسبب أنه لم يلتزم ببعض أخلاقه حيث سَخر من الآخرين وعابَهم وناداهم بألقابٍ سيئة وما شابه هذا من مُخالفات ، فتَجَنَّبوا ذلك إذَن أيها المسلمون حتي لا تكونوا في حال الفِسْق هذا السَّيِّء المُتعس لكم في دنياكم وأخراكم .. كذلك في المُقابل ما أسوأ أن يَنْبِزه أيْ يُناديه ويَدْعُوه أحدٌ باسْمِ يا فاسق أو يا فاسد أو يا كافر مثلا بسبب شرٍّ قديم قد تابَ منه وبعد أن أصبح مؤمنا مسلما مُجتهدا في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام .. كما أنَّ المنادِي له بألقابِ السوءِ هذه يُعَدّ هو أيضا فاسقا وبئس الاسم له أن يكون فاسقاً بعد إيمانه بالله وعمله بالإسلام .. كلّ هذا مِن معاني الآية الكريمة .. " .. وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿11﴾ " أي ومَن لم يتبْ أيْ يَرجع عن هذه الشرور السابق ذِكْرها ، وغيرها ، بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين ، فمِثْل هؤلاء هم حتما الظالمون بكلّ تأكيدٍ لأنهم قد ظلموا الناس بالاعتداء عليهم وظلموا أنفسهم بأن عَرَّضُوها للعقاب الدنيويّ والأخرويّ بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم رغم استطاعتهم منع ذلك بسهولة من خلال التوبة
ومعني " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴿12﴾ " أيْ يا مَن صَدَّقتم بالله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وهو النداء المُحَبَّب لعقولهم ولمَشَاعِرهم بداخلها من ربهم ويَدْفعهم دَفْعَاً شديدا ويُشَجِّعهم علي العمل بما سيُقالُ بَعْده – ابْتَعِدوا تماما عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين وهي الخواطر الشَّرِّيَّة التي تَمُرّ بالعقل أحيانا بهم ولا تستند إلى أيِّ دليلٍ إنما هي مجرّد أوهام وتُهَم وشكوك ، وانتبهوا واحذروا تماما لأنَّ بعض هذه الظنون قد تؤدى إلى الإثم أيْ الشرّ الذي يستحِقّ عقوبة تناسبه دنيوية وأخروية من ربكم إنْ تَمَّت ترجمتها عمليا إلي أقوالٍ أو أفعالٍ سيئة بالمَظْنُون بهم بناء علي أنَّ الظنَّ قد استقرّ بالعقل وتحوّل إلي أمرٍ مؤكَّدٍ رغم أنه مجرّد وَهْم ، وسبب الإثم أنه حينها ستَحدث بينكم الضغائن والتقاطعات والأضرار وستختلفون وتتفرّقون وتضعفون وبالتالي ستتعسون في دنياكم ثم أخراكم .. هذا ، ولفظ " كثيرا " ولفظ " بعض " يُفيد أنَّ هناك ظنونا لا إثم عليها مثل الظنون التي لها دليل قاطع وتحتاج إلي التفكير فيها للوقاية من شرورها وأضرارها لتجنّب تعاساتها ولحصول السعادة أو الظنون التي تَمُرّ بالخاطر دون أن تُتَرْجَم لقولٍ أو عملٍ سيَّءٍ بل يَتِمّ مقاومتها ومنعها والدعاء بالخير لمن يُظَنّ به السوء وكذلك الظنون الخيرية المُسْعِدَة للنفس وللغير وما شابه ذلك من خواطر عقلية فهي غير ممنوعة قطعا بل يطلبها الإسلام لآثارها الطيبة للجميع في الداريْن .. " .. وَلَا تَجَسَّسُوا .. " أيْ وأيضا لا تُفَتِّشوا ولا تَبحثوا عن عيوب الناس وتَتَتَبَّعُوها ، ولكن خُذوا ما ظَهَرَ لكم من أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم ، لأنَّ التَّجَسّس عليهم قد يَدفعهم هم أيضا إلي تَتَبُّع عيوب مَن عَلِموا بتَجَسّسهم عليهم فتَنتشر بالتالي هذه الصفة السيئة وتكثر العداوات والأحقاد وتنكشف الفضائح ويَنكسر الحياء منها فيَنتشر السوء والفساد أكثر وأكثر ويَتعس الجميع في دنياهم وأخراهم ، بينما السَّتْر وعدم التَّجَسّس يُعين علي مراجعة كلّ فردٍ لعيوبه وعلاجها فيَسعد الجميع فيهما .. " .. وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا .. " أيْ وكذلك لا يَذْكُر أحدٌ أحداً في غيابه بما يُسِيء إليه ويَكرهه ، سواء أكان هذا الذكْر بقولٍ أم بإشارةٍ أم بما شابه ، لأنَّ هذا أيضا مِمَّا يُثير بينكم الكراهات والصراعات والانشغالات بالتفاهات وبالتالي التعاسات في الداريْن .. " .. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ .. " أيْ هذا تشبيهٌ يُنَفّر ويُبْعِد عن الغِيِبَة أشدّ الإبعاد ، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّ المُستمع به ، أيْ هل يُعْقَل أن يحب أحدٌ منكم أن يأكل لحم أخ له خاصة بعد موته وتَغَيّره وتَلَفه وعدم قدرته علي الدفاع عن نفسه ؟! إنَّ الإجابة حتما بكل تأكيدٍ ستكون لا ! فإنْ لم تُحِبّوا ذلك وكرهتموه واستقذرتموه أعظم الكراهية والاستقذار فكما كرهتموه فاكرهوا واستقذروا إذَن أكل لحمه حيا المُتَمَثّل في اغتيابه ، وكما كرهتم غِيِبَة الناس لكم فاكرهوا أنتم أيضا غِيِبَتكم لهم ، فمثل مَن يَغتاب أخاه المسلم كمثل مَن يأكل لحمه وهو ميت ، ولا شكّ أنَّ أيَّ عاقلٍ يَكره ذلك ويَبتعد عنه كل البُعْد .. " .. وَاتَّقُوا اللَّهَ .. " أيْ وكونوا دائما من المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. " .. إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴿12﴾ " أي الله سبحانه كثير عظيم التوبة على مَن تاب إليه ورجع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين .. وهو أيضا رحيم أيْ كثير واسع الرحمة بالعالمين والذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب﴾
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿13﴾ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿14﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿15﴾ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿16﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنتَ استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما في كل أقوالك وأعمالك من المُخْلِصين المُحْسِنين (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان﴾ .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من المُتّقين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. وإذا كنتَ دائما من المُتواضِعين أيْ الذين لا يَتعالون علي الآخرين ويُحسنون التعامُل معهم ولا يَتحقرونهم ويحفظون حقوقهم وبذلك يَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالتَّعَالِي والظلم والشرّ ونحو ذلك يتعسون فيهما
هذا ، ومعني " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿13﴾ " أيْ هذا نداءٌ من الخالق الكريم سبحانه إلى خَلْقه مِن الناس جميعا يُذَكِّرهم فيه بأصلهم وبميزان درجتهم عنده ، أىْ خلقناكم جميعا أيها البَشَر من أبٍ واحدٍ هو آدم ومن أمٍ واحدةٍ هي حَوَّاء ، فأنتم جميعكم تنتسبون إلى أصل واحد ، فكلكم إذَن متساوون ، وما دام الأمر كذلك فلا مجال إذن ولا مُبَرِّر ولا سبب للتفاخُر فيما بينكم كما يفعل البعض منكم بالأحْساب والأنْساب وللتعصّب لها ولا للتَّعالِي بعضكم علي بعض بسببها وبالأموال والمناصب وما شابه هذا من سوءٍ يؤدي بكم حتما إلي التقاطُع والتَّعَادِي والتصارع والتقاتل والاختلاف والتفرّق والخصام والانقسام وبالتالي إلي التعاسة بدرجات مختلفة في دنياكم وأخراكم .. " .. وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا .. " أيْ ووضعنا فيكم صفة التناسُل فتكاثرتم فأصبحتم شعوبا – جمع شَعْب – وهي المجموعات الكبيرة من الناس التي تَشَعَّبَت وانتشرت في مكانٍ ما وتجمعهم علاقات فيما بينهم ، وأصبحتم قبائل وهي المجموعات الأقل من الشَّعْب ، وأقل منها كالفصائل ونحوها والعائلات والأسر الكبيرة والصغيرة ، وكل ذلك من أجل أن تتعارفوا ، أي لكي يعرف بعضكم بعضا بإمكاناته وطاقاته وأفكاره وكل أنواع المعرفة المُمْكِنَة التي تؤدي بكم إلي التعاون والتكامل والتآخِي والتآلف والتَّحابّ والتناصُر ونحوه فيما بينكم فتحيون حياتكم الدنيا في تمام الأمن والخير والسعادة قبل حياتكم الآخرة حيث ما هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة في جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر (برجاء مراجعة الآيات ﴿11﴾ حتي ﴿25﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام﴾ .. " .. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .. " أيْ إنَّ أرفعكم مَنْزِلَة وأعلاكم درجة عند الله في الدنيا والآخرة أتقاكم له ، أيْ أكثركم تمسّكا وعملا بأخلاق الإسلام ، فمَن عمل بها كلها كان كامل التقوي تامّ السعادة والخير والأمن في دنياه وأخراه ، وكلما تَرَك منها كلما قَلّت درجة تقواه وبالتالي سعادته فيهما .. فالتقوي إذَن هي المقياس والميزان الحقيقي الوحيد لتقييم الناس وليس مقاييسهم التي اعتادوها كالنّسَب والعائلة والمال والمنصب والقوة وما شابه هذا ، فكلها عوامل مساعدة للتقييم بعد التقوي ، والأتقياء حتما سيكون له أيضا نسبة كبيرة منها من إكرام الله المؤكَّد لهم .. إذن فليس لِلّوْن ولا للجنس ولا للجاه ولا لغيره من وزنٍ وحسابٍ في ميزانه سبحانه وإنما هو ميزان واحد ثابت لا يتغيّر تتحَدَّد به الأخلاق ويُعْرَف به فضل الناس وكرمهم ونفاستهم عند الله وهو مقياس التقوي ، فمقياس الطاعة لله هو وحده إذَن مقياس الترجيح والتفاضل بينهم جميعا في الدنيا والآخرة .. إنه الميزان الوحيد الذي يجب علي البَشَر أن يَتحاكَموا ويَرجعوا إليه ويُسقطوا كل الفوارِق الأخري بينهم .. وليتسابقوا إذن جميعا لتحقيق هذا الهدف العظيم المُسْعِد لهم في الداريْن وهو كمال التقوي .. " .. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿13﴾ " أيْ عليمٌ خبيرٌ بكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم ، عليم بكلّ شيءٍ عن أحوالكم وأقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة أيها الناس ودرجة تقواكم وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ، خبير بها بكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها ، فاجتهدوا في تحصيل أعلي درجاتها وسيُجازيكم بما تستحِقّون في الدنيا والآخرة
أمَّا معني " قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿14﴾ " أيْ هذا دعوةٌ من الله الخالق الكريم الذي يُرْشِد خَلْقه لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ألاّ يَتشبَّهوا ببعض الأعراب وأمثالهم وهم البَدْو الذين يعيشون في الصحراء ويَغلب عليهم قِلّة العلم والخبرة بسبب ظروف بيئتهم والذين يَتَّصِف بعضهم بصِفَة النفاق وهي إظهار الخير وهو بعض أخلاق الإسلام بينما يُخفون بداخل عقولهم الشرّ أو لا يؤمنون أصلا أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله ولا بكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وإنما يُظهرون الإسلام فقط لسببٍ ما كأنْ يمكنهم مثلا العيش بين المسلمين والتعامُل معهم أو ليَتَجَنَّبوا عقوبة ما أو ما شابه هذا ، فيَدعوهم تعالي لأنْ يُحسنوا استخدام عقولهم ويَستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) فيؤمنوا ويُطَبِّقوا هذا الإيمان عمليا باتِّباع كلّ أخلاق الإسلام وبالتالي يسعدون تمام السعادة في الداريْن .. " .. قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ .. " أيْ لو بَقِيتم علي حالتكم هذه فلا تقولوا إذَن أنكم مؤمنون لأنه سيكون قولا بألسنتكم فقط دون اقتناع داخل العقول ولكنْ قولوا أنكم مسلمون أيْ تُطَبِّقون بعض أخلاق الإسلام ظاهريا دون الاقتناع بأهميتها والاستفادة منها والسعادة بها والسبب أنه لم يَدخل بَعْد الإيمان في عقولكم ولو كان دَخَلَ واستقرّ فيها ما كان ذلك أبدا حالكم .. هذا ، ولفظ " لمَّا " يُفيد أنه لم يَحدث الإيمان حاليا ولكنه مُتَوَقّع الحدوث مستقبلا بما يُعطي الجميع الأمل في حدوثه ويُشجعهم علي المُسَارَعة إليه وعدم التأخير فيه وذلك حينما يُحسنون استخدام عقولهم .. هذا ، وحينما يُذْكَر في القرآن كلٌّ من الإيمان والإسلام وحده فإنَّ كلا منهما يعني المَعنَيَيْن أي التصديق بالعقل والتطبيق العمليّ لأخلاق الإسلام ، بينما إذا ذُكِرَا معا كما في هذه الآية الكريمة فإنَّ الإيمان يعني التصديق بالله عقليا والإسلام يعني التطبيق له بالأخلاق الإسلامية في واقع الحياة .. " .. وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا .. " أيْ هذا تشجيعٌ لكلّ الناس علي طاعة الله ورسوله بالإيمان والعمل بكل أخلاق الإسلام ما استطاعوا ، أيْ وإذا فعلتم هذا فإنَّ النتيجة الحتمية ألاّ يَلِتْكُم سبحانه أيْ ينقصكم من ثواب أعمالكم أيَّ شيءٍ بل ستأخذون أجوركم كاملة في دنياكم وأخراكم مُمَثّلة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ فيهما .. " .. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿14﴾ " أيْ هذا دعوةٌ لكلّ مُسِيءٍ للتوبة وللعودة للخير ليَسعد في دنياه وأخراه ، أيْ أنه سبحانه مع كلّ ذلك الذي يَفعله البَشَر مِن سوءٍ بصورٍ وبدرجاتٍ مختلفة غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكلّ مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم ، رحيم أيْ كثير الرحمة رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية ﴿119﴾ من سورة النحل ، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب﴾
ومعني " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿15﴾ " أيْ هذا بيانٌ للناس أنَّ الإيمان ليس مجرّد كلمة تُقال باللسان وفقط ولكنه لابُدّ أن يُتَرْجَم في الحياة الدنيا إلي أقوالٍ وأعمالٍ خيرية مُسْعِدَة للنفس وللغير وللكوْن كله .. أيْ ليس المؤمنون بصدقٍ – لا بكذبٍ وادِّعاءٍ ونطقٍ بالألسنة وفقط كما قد يفعله البعض – إلاّ الذين صَدَّقوا بعقولهم بوجود الله وبرسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ثم استمرّوا علي ذلك التصديق التامّ طوال حياتهم ولم يخطر بفكرهم أيّ رِيِبَة أيْ شكّ في هذا وأثبتوا ذلك عمليا بأن اجتهدوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ما استطاعوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، والجهاد عموما هو بذل الجهد ، وفي سبيل الله يعني في كل خير ، والجهاد صور ودرجات ، فكل ما فيه بَذْل جهدٍ مع استصحاب نوايا خيرٍ بالعقل أثناءه فهو صورة من صور الجهاد ودرجة من درجاته ، حتي يَصِلَ الأمر إلي أعلي درجةٍ وهو الجهاد بالقتال وبَذْل الدماء والأرواح ضدّ مَن يَعتدي علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير (برجاء مراجعة الآية ﴿218﴾ من سورة البقرة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾ .. " .. أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿15﴾ " أيْ هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم وحدهم وليس غيرهم الصادقون بحقٍّ في إيمانهم أيْ الذين تَرْجَموا بكل صدقٍ ما آمنوا به بداخل عقولهم وبَرْهَنوا عليه بتمسّكهم وعملهم بكلّ أخلاق إسلامهم ولم يكونوا أبداً كاذبين في قولهم أنهم مؤمنون وهم ليسوا كذلك كما قد يفعله بعض الناس ، وكانوا مُخلصين مُحسنين في ذلك كله (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، وبالتالي سيكون لهم أعظم الأجر من ربهم حيث تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم
أمَّا معني " قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿16﴾ " أيْ انتبهوا أيها الناس أنَّ الله يَعْلَمكم أكثر من أنفسكم ويَعلم كلّ ما خَفِيَ منكم ويَعلم الكوْن كله لأنه خالقكم وخالق كلّ شيء ! وقولوا يا أيها المسلمون لمَن حولكم مِمَّن ترونهم يقولون بألسنتهم فقط أنهم مؤمنون وهم يُخفون الكفر هل تُخَبِّرون الله تعالي بإيمانكم وتَتَوَهَّمون أنكم تخدعونه حين تخبرونه بأنكم مؤمنون وأنتم لستم كذلك وأنه لا يعلم كفركم وهو الذي يعلم سِرَّكم وما هو أخْفَيَ منه ؟! والاستفهام للذمِّ الشديد لعلّ أمثال هؤلاء يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم ليسعدوا في الداريْن ، إذ كيف يَتَوَهَّمون هذا والحال والواقع أنه تعالى لا يحتاج لإعلامِ أحدٍ بشيءٍ ما لأنه وحده الذي يعلم كل ما في السماوات وما في الأرض ولا يَخْفَىَ عليه أيّ شيءٍ من أحوال كل مخلوقاته فيهما بل هو بكلّ شيءٍ في كوْنه عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ؟! فليحذر الجميع إذَن أن يُظهروا الخير ويُخفوا الشرّ فيُعَاقَبُوا علي أقوالهم وأفعالهم الشَّرِّيَّة لأنه سبحانه لا تَخْفَيَ عليه خافِيَة وسيُجازِي أهل الخير بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن وأهل الشرِّ بكل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿17﴾ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنت مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿17﴾ " أيْ هناك البعض منكم أيّها الناس يُسْلِمون ويَمُنّون علي المسلمين بإسلامهم أي يُعَدِّدُون أفضالهم بصورةٍ مُؤْذِيَة عليهم وعلي الإسلام وعملهم به ونصرتهم لهم ودفاعهم عنهم ونحو هذا ويُذَكِّرونهم بذلك كثيرا أو أحيانا تَفَاخُرَاً وتَعَالِيَاً عليهم أو لطَلَبِ شكرٍ أو مدح أو لتحقيق غرضٍ دنيويّ رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره أو ما شابه هذا من أسباب المَنِّ المُضِرِّ المُؤْذِي .. " .. قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿17﴾ " أيْ قولوا لأمثال هؤلاء لا تَمُنُّوا علينا بإسلامكم إذ لا حقّ لكم مطلقا في ذلك لأنه نِعْمة عليكم أنتم أولا حيث تَسعدون به تمام السعادة في دنياكم وأخراكم وبدونه تتعسون حتما فيهما ، وهو سبحانه لا تنفعه أبدا طاعة أحدٍ ولا تَضرّه معصيته ، لكنَّه هو وحده الذي مِن حَقّه الأصيل أن يَمُنَّ عليكم أيْ يُعَدِّد نِعَمه عليكم وعلي كلّ خَلْقه والتي لا تُحْصَيَ ويُذَكِّركم بها لتشكروه عليها فيزيدكم نفعا بها وحفاظا عليها لأنه هو خالقكم الكريم الوَهَّاب ولأنه هو الذي هداكم أيْ أرشدكم للإيمان مصدر كلّ أمنٍ وخير وسعادة لكم في الداريْن بأنْ أنعمَ عليكم بأعظم نِعْمَةٍ تستحِقّ أكثر شكرٍ وهي نعمة وجوده في فطرتكم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، ونعمة العقل الذي مَن يُحْسِن استخدامه لابُدّ حتما يَهتدي ويَصِل به مِن خلال فطرته بداخله لضرورة اتِّباع الإسلام والثبات والاستمرار عليه من أجل تمام السعادة في الدنيا والآخرة ، ونعمة تيسير أسباب ذلك لمَن اختاره بكامل حرية إرادة عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. إنه لولا هذه النِعَم العظيمة لتعستم تمام التعاسة فيهما حيث ستنشر بينكم أخلاقياتٌ مُدَمِّرَة مُتْعِسَة كلها عكس الإسلام كالفساد والظلم والخداع والغدر والاعتداء والصراع والاقتتال ونحو هذا مما يُشْقِي ويُتعس مُؤَكَّدَاً في الداريْن .. وفي هذا دعوة لجميع الناس ليكونوا جميعا مسلمين ليسعدوا تماما فيهما مثل مَن أسلم .. " .. إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿17﴾ " أيْ إنْ كنتم صادقين حقيقة في إيمانكم ولستم كاذبين مُخادِعِين فسَتتأكّدون حتما أنَّ المِنَّة لله عليكم وعلي كلّ خَلْقه لا لكم .. فعَلَيَ كل مسلم أن يتجنَّب مثل هذا المَنِّ علي غيره وإلا كان سَيِّءَ الخُلُق تعيسا بسوء علاقاته مع مَن حوله وبالتالي سيتعس قطعا في دنياه وأخراه
أمَّا معني " إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿18﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية قبل السابقة من أنه سبحانه بكلّ شيءٍ عليم مع التركيز علي الغَيْب ، حتي لا يَتَوَهَّم أحدٌ أنه يعلم الظاهر فقط ! أيْ هو تعالي بكل تأكيدٍ يعلم كلّ شيءٍ في الكوْن بما فيه الغَيْب ، أيْ يعلم بكلّ ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم ، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل ، لا تَخْفَيَ عليه سبحانه أيّ خافِيَة ويعلم السرّ وما هو أخْفَيَ منه ، وهو عليم تمام العلم بكل ما بداخل البَشَر وعقولهم وفِكْرهم وكل أقوالهم وأعمالهم العَلَنِيَّة والخَفِيَّة ، وبصير بها أي يراها بتمام الرؤية ، وسيُجَازِي في الداريْن أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يستحِقّونه من كل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. فليكن الناس إذن شديدي الحَذَر بأنْ يفعلوا كل خيرٍ ويتركوا كل شرٍّ وليتأكَّدوا أنَّ حسابهم يوم القيامة سيكون بتمام العلم والبَصَر والدِّقّة والعدل حيث خالقهم يعلم عنهم كلّ شيءٍ بكلّ تفاصيله
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴿1﴾ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴿2﴾ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴿3﴾ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴿4﴾ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴿5﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كان الله تعالي ، ورسوله الكريم ﷺ ، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن ، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل ، هو دائما مرجعك في كل مواقف ولحظات حياتك ، لأن فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء ، والشفاء كله من كل سوء بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها ، والهدي كله ، والتذكرة كلها ، والمواعظ كلها ، والصدق كله ، والحق كله ، والعدل كله ، والخير كله ، والحكمة كلها ، والمكانة كلها ، والأمن كله في الأرض كلها ، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء لمزيد من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !
هذا ، ومعني " ق .. " أي هذا القرآن العظيم ، الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة ، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة ، فأتُوا بمثله لو تستطيعون !! .. فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتَمَسَّك بهذا الكتاب المُعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه .. " .. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴿1﴾ " أي يُقْسِم الله تعالي بهذا القرآن الذي بين أيديكم – بهذه الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة التي فيه والتي تُقرأ وتُتَّبَع ويُعْمَل بها – والذي صِفته أنه المَجِيد ، أيْ كثير المَجْد والشرف والقَدْر الرفيع والعَظَمَة والكرم والخير الوفير الذي يَجِد فيه كلّ طالبٍ ما يريده من تمام الخير والأمن والسعادة في الداريْن لأنَّ فيه أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البشرية كلها في دنياها وأخراها ، يُقْسِم علي أنَّ الرسول محمد ﷺ هو خاتم رسله الذين أرسلهم لخَلْقه بالإسلام لكي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن ، وهو سبحانه لا يحتاج ولا قرآنه المجيد حتما إلي قَسَم ! فكلامه قطعا مُقَدَّس مُعَظَّم مُصَدَّق ! ولكنه لإضفاء مزيدٍ من الهيبة والتعظيم والتصديق للرسول الكريم ﷺ ولدينه الإسلام ، فهو يُقْسِم علي صِدْقه وصِدْق ما جاء به للبَشَر ، وعلي أنه علي صراط مستقيم أي علي طريقٍ ليس فيه أيّ انحرافٍ نحو أيّ شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ بل هو موجَّه بكل دِقّة وسرعة ووضوح نحو كل خير مُفيد مُسعد في الدنيا والآخرة لكل مَن يَتبعه بكلّ أخلاقه .. ولكنَّ المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لم يُصَدِّقوا بذلك
أمَّا معني " بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴿2﴾ " ، " أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴿3﴾ " أيْ ورغم أنَّ القرآن مجيد عظيم مُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ويُوافِق كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ والفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) لكنَّ البعض من الناس لم يُصَدِّقوا به وكذّبوا وعانَدوا واستكبروا واستهزأوا ورَاوَغُوا لأنهم عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، وتَعَجَّبوا واستغربوا أنْ جاءهم رسول مُنْذِر لهم من بينهم بَشَر مثلهم وليس مَلَكَاً أو رجلا عظيما من وجهة نظرهم غير أمِّيٍّ كمحمدٍ ﷺ – وكلّ ذلك مِن باب مُرَاوَغتهم حتي لا يؤمنوا لأنَّ كوْن الرسول بَشَرَاً مثلهم فهذا من رحمات الله بالناس ليكون قُدْوة لهم حيث عرفوا صِدْقه وأمانته فيُصَدِّقونه بسهولة ويُطَبِّق هو الإسلام عمليا في واقع الحياة بينهم فيسهل عليهم هم أيضا تطبيقه مثله بينما المَلَك له طاقات ليست مثلهم فيُمكنهم أن يَتَحَجَّجُوا بعدم التطبيق أنه لا طاقة لهم مثله كما أنَّ أمِّيَّته ﷺ أكبر دليل علي صِدْقه لأنه لو كان عالما مُفَكِّرَاً مثلا لكان ادِّعاؤهم بأنه هو الذي كَتَبَ القرآن مقبولا بعض الشيء ! – يُنذرهم ويُحَذّرهم من عقاب الله حيث تمام التعاسة في الدنيا والآخرة لمَن لم يستجب للإسلام وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار ، بل وقالوا هذا البَعْث بعد الموت للبَشَر ورجوعهم بأجسادهم وأرواحهم بعد كوْنهم ترابا وهذا الحساب والعقاب والجنة والنار كل ذلك أمر ورجوع عجيب مُسْتَغْرَب مُسْتَبْعَد مُسْتَحِيل !! وهذا هو معني " أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴿3﴾ " .. والآياتان الكريمتان رفضٌ لتَعَجُّبهم بل وتَعَجُّب منه إذ كيف يُتَصّوَّر أن ينتهي هذا الكوْن بكل دِقّته هذه وإحكام نظامه وتنتهي حياة البَشَر عليه هكذا بنهاية عشوائية دون حسابٍ وعقاب ؟! إنه سيكون عَبَثَاً حتما وظلما لمَن لهم حقوق لم يأخذوها في دنياهم !! ثم الجميع يعترف بقدرة الله تعالى التامّة على خَلْق السموات والأرض وما بينهما وبأنه هو الذي خَلَقهم أول مرة من عدمٍ – فالخِلْقة الثانية يوم البعث إذَن أسهل لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة – ولم يَتَجَرَّأ أحدٌ منهم أن يَدَّعِيَ أنه فَعَلَ ذلك ، فكيف يَستبعدون ويَستغربون عليه قُدْرته علي البَعْث ؟! إضافة إلي أنَّ شهادة أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بأنه لابُدّ من الجزاء وإلاّ كان إنشاء الخَلْق عَبَثَا أصلا !
ومعني " قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴿4﴾ " أيْ هذا دَفْعٌ وإبطالٌ للحجَج الساقطة التي لا قيمة لها للمُكذّبين بحدوث البعث ، أيْ عملية إعادة أجسادهم تتِمّ بعلمٍ تامٍّ دقيقٍ حيث نحن نعلم بتمام العلم كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بما في ذلك ما تأكله الأرض مِن ذَرَّات أجسادهم بعد موتهم وأين ذَهَبَت وإلي أيّ شيءٍ تَحَلّلت وتَحَوَّلَت ونحو هذا ، ومَن عَلِمَ ذلك حتما لا يصعب عليه أن يَقْدِر قُدْرة تامّة علي إعادتهم إلى الحياة الآخرة مرة أخرى بأجسامهم وأرواحهم ، فتمام العلم والقُدْرة إذن يُبطِل كلّ حجّة ، إذ قد يكون من أسباب التشكّك في البعث عند البعض أنه لا يَتَصَوَّر كيف يكون وقد تَبَعْثَرَت جُزَيْئات الأجسام في شتَّيَ بِقاع الأرض ! فسبحان القادر علي كلّ شيء .. " .. وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴿4﴾ " أيْ وعندنا بجانب عِلْمنا الشامل الدقيق كتاب حافِظ لجميع أحوال الناس عظيم تامّ الحفظ في مكان محفوظ يحفظ من أيّ تغييرٍ أو تبديلٍ لِمَا فيه ومُسَجَّل به بكل دِقّةٍ وضبطٍ وثقةٍ كل أقوالهم وأفعالهم وكل تغيّراتهم وتحوّلاتهم في حياتهم الدنيا وبعد مماتهم ليكون إثباتا ودليلا وتوثيقا إضافيا وتأكيدا تامّا علي تمام عِلمنا وقُدْرتنا علي بعثهم ، وأيضا حتي لا يُمكن لأحدٍ أن يُنكر أيّ شيءٍ قاله أو فَعَلَه عند حسابه إذ كلّ الأمور مُثْبَتَة بالأدِلّة القاطعة
أمَّا معني " بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴿5﴾ " أيْ لم يَكْتفِ أمثال هؤلاء المُكَذّبون بالتَّعَجُّب من البَعْث وتكذيبه واستبعاده والاستهزاء به وفقط ولكنهم جاءوا بما هو أسوأ وأفظع حيث كذّبوا بما هو أعظم إذ كذّبوا بالحقّ وهو القرآن والإسلام الذي فيه والرسول الكريم ﷺ الذي أتاهم به ، وبالتالي فلا يُسْتَبْعَد عليهم التكذيب بما هو أقلّ وهو البعث ! ولقد كذّبوا بمجرّد أن جاءهم هذا الحقّ دون تَدَبُّرٍ وتَعَمُّقٍ وتَعَقُّلٍ فيه ، ولذلك فهم حتما في أمرٍ مَريج أيْ حالهم كله اضطراب وتَخَبُّط وقَلَق وعدم استقرار وفساد وابتعاد تامّ عن الصواب والصدق والعدل والخير والسعادة وبالتالي فهم في تمام التعاسة في دنياهم ثم فيما هو أشدّ وأعظم وأتمّ تعاسة في أخراهم لو استمرّوا علي ذلك دون أن يعودوا لربهم ولإسلامهم
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴿6﴾ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿7﴾ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴿8﴾ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴿9﴾ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴿10﴾ رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ ﴿11﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها ، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم ؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا .. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون ، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته !
هذا ، ومعني " أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴿6﴾ " ، " وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿7﴾ " ، " تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ " أيْ هل غَفَلَ أو عَمِيَ هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُنكرون للبعث (برجاء مراجعة الآيات السابقة لتكتمل المعاني﴾ فلم ينظروا حين كذّبوا إلي السماء أعلاهم نَظَرَ تَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ إذ الأمر يسير ولن يُكَلّفهم إلاّ مجرّد رفع رؤوسهم وعيونهم والتأمّل فيها فوقهم في أيّ وقتٍ مع إحسان استخدام عقولهم في كيفية بنائها وخَلْقها من عدمٍ وخَلْق ما فيها من عجائب وجَعْلها مُعَلَّقَة بدون أعمدة مَرْئِيَّة وتزيينها بالشمس والقمر والكواكب والنجوم وغيرها مِمَّا يَنفع الخَلْق ويُسعدهم وليس لها أيّ فروج أيْ شقوق حيث هي سليمة مِن أيّ عَيْبٍ أو خَلَل ؟! .. والسؤال هو للتعجّب من حالهم وللذمّ الشديد لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم .. إنهم لو فَعَلوا ذلك الأمر اليسير العميق الهامّ لَتَأَكَّدوا تماما أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) ، ولَتَأَكَّدوا أيضا بسبب قُدْرته علي خَلْق كلّ هذا أنه قادر حتما علي أن يَبعث البَشَر أي يُخرجهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا ويُعيدهم ويَخلقهم أحياءً مرة أخري بتمام أجسادهم وأرواحهم للحياة الآخرة وللحساب والعقاب والجنة والنار .. " وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿7﴾ " أيْ وأيضا مِن مَظاهِر كمال قدْرتنا علي كلِّ شيءٍ وتمام نِعمتنا علي خَلْقنا أنَّ الأرض قد وَسَّعْناها وجعلناها مُنْبَسِطَة مُمْتَدَّة واسعة ، وجعلنا ووضعنا فيها رواسي أي ما يُبقيها راسِيَة ثابتة ، كالجبال التي فوقها وكقُوَيَ الجاذبية التي بداخلها ونحوها ، حتي لا تَضطّرب وتهتزّ بمَن عليها بل تظلّ ساكنة ليتمكنوا مِن السَّكَن بأمانٍ علي سطحها والعيش فيها والانتفاع بخيراتها والسعادة بها .. " .. وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿7﴾ " أيْ وأخرجنا منها نباتاتٍ من كلّ صنفٍ نافع للخَلْق بَهِيج أيْ جميل حَسَن يُبْهِج ويُسْعِد مِن جماله وحُسْنه كلَّ مَن يَنظر إليه ويَنتفع به .. " تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴿8﴾ " أيْ هذه المُعجزات المُبْهِرات في كلّ كوْن الله والدالاّت علي كمال علمه وقُدْرته ونِعَمه علي البَشَر ستكون لهم دائما تَبْصِرَة وذكري أيْ تَبْصيراً وتوضيحا وتَوْعِيَة وتنبيها وتذكيرا مستمرّا بلا نسيانٍ في كلّ لحظةٍ أنه سبحانه هو المستحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل .. لكنْ لا يَنتفع ويَسعد بهذا التبصير والتذكير تمام السعادة في دنياه ثم أخراه إلاّ كلّ إنسانٍ منيبٍ أيْ دائم التوبة والرجوع إلي ربه والإقبال والاعتماد عليه واتِّخاذه تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيّ باطل دوْما مَرْجِعا له في كلّ مواقف ولحظات حياته (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وأمَّا المُكَذّب المُعانِد المُستكبِر المُستهزئ فلا ينتفع حتما بأيِّ شيءٍ من هذا التبصير لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴿9﴾ " ، " وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴿10﴾ " أيْ أنَّ الله تعالي مِن تمام قدْرته وعلمه ورحمته يُنَزِّل من السماء مطراً ماءً مباركاً أيْ كثير المنافع والخيرات للناس والدوابِّ والزروع فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج به جنات أيْ بساتين من أشجار كثيرة مملوءة بكل أنواع الثمار ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة ، ويُنبت به أيضا حَبَّ الزرع المَحْصُود أيْ الذي يُحْصَد بعد اكتمال نموه ليُنْتَفَع بحبوبه للطعام وغيره من الصناعات ، وهو غير الشجر الذي يُجْمَع ثمره فقط ويُتْرَك ليُثْمِر ثانية .. فسبحان الخَلاّق العليم ، فاشكروه علي كلّ هذه النِعَم التي لا يُمكن حصرها واعبدوه هو وحده لتسعدوا في الداريْن .. " وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴿10﴾ " أيْ وأنبتنا أيضا بهذا الماء المُبَارَك النخل العاليات المرتفعات التي لها طَلْع وهو أول ما يطلع من ثمارها وهو كُوز أخضر يَتَفَتَّح وتخرج منه السُّبَاطَة التي تحتوي على الأعواد التي تحمل حبَّات البلح ، وكلّ طلع يطلع وكلّ بلح يُثْمِر بداخله هو نضيد أيْ مَنْضُود أيْ مُرَتَّب ومُنَسَّق ومَصفوف بعضه فوق بعض بشكلٍ جميلٍ مُبْهِج .. وقد خَصَّ تعالي النخل رغم أنها مشمولة في الجَنَّات التي سَبَقَ ذِكْرها في الآية السابقة لأنها من الأشجار المشهورة المنتشرة ذات المنافع الكثيرة
ومعني " رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ ﴿11﴾ " أيْ خَلَقْنَا وأنْبَتنا وجعلنا وأخرجنا كلّ هذا الخير ليكون رزقا مُسْعِدَاً لكلّ الناس ولكلّ المخلوقات التي تحتاجه ، مِن كرمنا ورحمتنا بهم وعطائنا الوفير وحبنا لهم ، فهم خَلْقنا ونحن المُتَكَفّلون بهم سواء آمنوا بنا أم لا .. " .. وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا .. " أيْ وأحيينا بهذا الماء المُبَارَك الذي أنـزلناه من السماء بلادً ميتة أرضها مَلْساء لا زرع فيها ولا نبات فأنبتت به من كل أنواع الزروع النافعة المُسْعِدَة وارْتَوَيَ وعاشَ كلّ حَيٍّ فيها .. " .. كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ ﴿11﴾ " أيْ كما أحيا الأرض بعد موتها فكذلك أيضا سيُحْيِيكم ويُخرجكم من قبوركم بعد موتكم وكوْنكم ترابا ويَبعثكم بأجسادكم وأرواحكم يوم القيامة من أجل الحساب الختاميّ لينال أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ كلّ شرّ وتعاسة بما يناسب شرورهم بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم ، فالقادر علي هذا قادر علي ذلك حتما !! وكل العقول المُنْصِفَة العادِلة متأكّدة منه ، فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿12﴾ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ﴿13﴾ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴿14﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كلّ خيرٍ ويَتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تسلية وطَمْأَنَة للرسول ﷺ ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم
هذا ، ومعني " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿12﴾ " ، " وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ﴿13﴾ " ، " وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴿14﴾ " أي ليس قومك فقط يا محمد ﷺ وليس مَن حولكم أيها المسلمون مِن المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين هم أوّل مَن فَعَلَ هذا ، فقد سبقهم إلى هذا التكذيب أمّة نوح التي كانت نهايتها الإغراق بالطوفان .. وأصحاب الرَّسِّ أيْ البئر وهم مَن كذّبوا رسولا أرسل إليهم وقتلوه وألقوه في بئر عندهم .. وثمود قوم الرسول الكريم صالح الذين كذّبوه.. وعاد قوم هود ﷺ الذين اغترّوا بقوّتهم وكذّبوه .. وفرعون الذي أرسل الله إليه موسى ﷺ فكذّبه وقال لقومه أنا ربكم الأعْلَىَ .. وإخوان لوط ﷺ هم قومه الذين أتوا بفاحشة لم يَسبقهم أحدٌ إليها وهي الشذوذ أيْ أنْ يُجامِع الرجل رجلا مثله ووصفهم الله تعالى بأنهم إخوانه لأنه كانت تربطه بهم رابطة المصاهرة لأن امرأته كانت منهم ولكنها لم تؤمن .. وأصحاب الأيْكة أيْ مالِكي البساتين والأشجار الكثيفة ذات الخير الكثير وهم قوم شعيب ﷺ حيث كذّبوه كذلك .. وقوم تُبَّع وهم من اليمن وكانوا مُكذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي الشرور والمَفاسد والأضرار .. " .. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴿14﴾ " أيْ كلّ قومٍ مِن هؤلاء الأقوام كذّبوا رسولهم فكانت نتيجة ذلك الحَتْمِيَّة أنْ وَجَبَ وثَبَتَ عليهم ونَزَلَ بهم وعيد الله وهو العذاب الذي وَعَدَهم وأنذرهم به وحذّرهم منه فلم يُصَدِّقوا واستهانوا واستكبروا .. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك ، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده ، حين يُكذبك المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ، فهذا ليس بالأمر الجديد ، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك ، فالأمر ليس تقصيراً منكم ، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به ، فتَشَبَّهوا بهم .. إنَّ المُكذبين ما كَذّبوا إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فلا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. إنَّ كلّ الأمور بيده سبحانه وترجع إليه وحده دون غيره في تدبيرها وإدارتها ، أمور الكوْن كله والخَلْق كلهم ، وأموركم وأمورهم ، فاطمئنّوا واستبشروا دوْما .. ففي الدنيا سيكون لهؤلاء المُكذبين درجةٌ ما من درجات العذاب علي قدْر ما عملوا من شرور ومَفاسد وأضرار يَتمَثّل في قلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين أو حتي إهلاكٍ بريح أو سَيْل أو زلزال أو ما شابه هذا (برجاء مراجعة الآية ﴿11﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة﴾ ، وبالجملة سيكون لهم كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة ، ثم في أخراهم سيُنَبَّأون بالنتائج السيئة لسوء أعمالهم وسيَذوقون حتما في مُقابلها ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد .. أمّا أنتم أيها المسلمون فلكم حتما النصر وكل خيرٍ وسعادة في دنياكم واخراكم (برجاء مراجعة أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم ، وذلك في الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران .. ومراجعة أيضا أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. إنَّ في هذه الآيات الكريمة تهديد وتحذير شديد لمِثْل هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ، كما أنها تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿15﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !
هذا ، ومعني " أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿15﴾ " أيْ هل عَجزْنا وضَعُفَت قُدْرتنا عن القيام بالخَلْق الأول وهو خَلْق الكوْن ومخلوقاته والإنسان من عدمٍ تامٍّ حتي يَتَوَهَّم أحدٌ أننا نَعْجَز عن الخَلْق الجديد الثاني عند البَعْث من القبور للموتي بعد كوْنهم ترابا بالأجساد والأرواح يوم القيامة للحساب الختاميّ والعقاب والجنة والنار والذي هو عقليا ومَنْطِقِيَّاً سيكون أهْوَنَ لأنَّ الخامات موجودة والطريقة معروفة ؟!! فالواقع يُثبت ذلك ، والله تعالي يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا لأنه يسهل عليه بالقطع فِعْل كلّ شيءٍ يريده بقدرته التامّة بمجرّد قول كن فيكون كما يريد سواء أكان بَدْءَاً ابتداعاً أم إعادة !! .. والإجابة حتما لا بكل تأكيد والسؤال هو للذمِّ الشديد لمَن يُكَذّب بالبعث وللرفض لتكذيبه لعلّه يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن .. وفي الآية الكريمة مزيد من التأكيد علي حَتْمِيَّة البعث والذي ذُكِرَ في الآيات السابقة ﴿3﴾ ، ﴿4﴾ ، ﴿11﴾ من هذه السورة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني﴾ مع التركيز هنا علي قُدْرة الله تعالي علي كلّ شيءٍ ، وعلي إقامة الحجّة العقلية المَنْطِقِيَّة علي المُكذّبين للبعث بحيث لا يكون لهم أيّ عُذْرٍ أو طريقٍ لتكذيبهم ، وعلي وَصْف حالهم وموقفهم حيث يقول عنهم " .. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿15﴾ " أيْ لم نَعْجَز حتما لأنَّ قُدْرتنا لا يُعجزها شيء ، وهؤلاء المُكذّبون يعترفون تماما بذلك حينما يُسْأَلون عَمَّن خَلَقهم كما يؤكِّد هذا تعالي بقوله " وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. " ﴿الزخرف : 87﴾ (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني﴾ ولا يَتَجَرَّأ أيُّ أحدٍ منهم أبداً أن يقول غير هذا ، ومَن اعترف بالأصعب وهو الخِلْقَة الأولي فهو يعترف ضِمْنِيَّاً بالأسْهَل وهو الخَلْقَة الثانية عند البعث !! ولكنهم في شكٍّ مِن خَلْقٍ جديدٍ حيث يُخْلَقون ويُبْعَثون بعد موتهم لحسابهم – ولفظ جديد يُفيد تعظيم شأنه وليس لأنَّ كوْنه إعادة للخَلْق سيكون قليل الشأن ! – لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره ، مع أنهم لو أحسنوا استخدام العقول لتأكّدوا بلا أيّ شكٍّ أنَّ القادر على الخَلْق من العَدَم قادر حتما على إعادته مِن باب أوْلَىَ !!
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴿16﴾ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴿17﴾ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴿18﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دائما من المُتّقين لله في كل قولٍ وعمل لأنه يعلم كل ما يُخفيه الإنسان وما يُعلنه ، أي كنت دائما من المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴿16﴾ " أيْ ولقد أوْجَدنا وابْتَدَعنا الإنسان من عَدَمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ ووضعنا فيه روحا وعقلا وحَوَاسَّاً وقوىً متنوِّعة مُبْهِرَة ، وبالتالي وبما أنه صَنْعَتنا فنحن نعلم بتمام العلم الذي ليس بعده علم أكثر منه ما يُوسوس به عقله أيْ ما يَدور بفِكْره مِن خواطر وأفكار خَيْرِيَّة أو شَرِّيَّة حيث الوَسْوَسَة هي الصوت الخَفِىّ والمراد حديثه العقليّ الداخليّ ، وليس هذا فقط وإنما نحن أيضا أقرب إليه من أقرب شيء له بداخله ويلامسه وهو حبل الوريد أي أقرب إليه حتي من دمه الذي يَسْرِي في عِرْق الوريد هذا الذي في عنقه ثم في سائر جسده .. أيْ نحن نعلم تماما كلّ أحوال الناس والمخلوقات والكوْن كله إذ خالق الشيء وصانعه هو حتما أدْرَىَ بتركيبة جزئياته وبكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه ولذلك أرسلنا للبَشَر مع رسلنا دين الإسلام ليعملوا بكل أخلاقه ليَتحقّق لهم ذلك .. والمقصود مِن شِدَّة القُرْب هذه القُرْب عن طريق العلم والقُدْرة قطعا لا القُرْب في المكان لاستحالة ذلك عليه سبحانه لأنه ليس له مكان أو زمان بل هو فوقهما وخارجهما ومُسَيْطر عليهما ومُتَحَكِّم تَحَكّمَاً تامَّاً فيهما .. إنَّ في هذه الآية الكريمة تحذير وتخويف وتعاسة لأهل الشرّ إذ كل شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم مكشوفة معلومة سواء ظاهرة أم خَفِيَّة ، وفيها أمن وسكون وسعادة لأهل الخير حيث خالِقهم القويّ المُعين مالِك المُلك مُطّلِع عليهم يُيَسِّر لهم كل أمورهم ويعطيهم كل خير وسعادة في دنياهم وأخراهم .. كما أنَّ فيها دعوة للإنسان لمراقبة خالِقه المُطّلِع على كل داخله القريب منه في جميع أحواله فليَفعل إذَن كل خير وليترك كل شرّ ليَسعد في الداريْن من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامه
ومعني " إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴿17﴾ " ، " مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴿18﴾ " أيْ نحن أقرب إلي الإنسان مِن حَبْل وريده حينما يَتَلّقَىَ المُتَلَقِّيان وهما المَلَكان المُوَكَّلان منه تعالي لتَلَقِّيِ وتسجيل جميع ما يصدر عنه من أقوالٍ وأفعالٍ خيريّة وشَرِّيَّة واللذان كلٌّ منهما قعيد أيْ قاعِد مُلازِم له لا يُفارِقه أحدهما عن يمينه يُسَجِّل حسناته والآخر عن شماله يسجل سَيِّئاته ، والمقصود أنَّ كلّ أقواله وأعماله مُسَجَّلَة عليه تماما طوال حياته وسيُحاسَب عليها يوم القيامة فلْيَفعل إذَن كلّ خيرٍ ويترك كل شرٍّ ليَسعد في دنياه وأخراه .. هذا ، وهو سبحانه حتما لا يحتاج إلى كتابة هذين المَلَكَيْن لأنه يعلم كلَّ شيءٍ ولكن ليكون كتابه عند حسابه دليلا مُثْبَتَاً عليه بالأدِلّة القاطِعَة فلا يُمكِن لأحدٍ إنكار قولٍ قاله أو فِعْلٍ فَعَله .. " مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴿18﴾ " أيْ هذا تأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره ، أيْ ما مِن قولٍ صَغُر أم كَبُر ظَهَر أم خَفِي يَتلفّظ به الإنسان ، ولا عمل يعمله كذلك ، إلا له مُراقِب عليه مُعَدّ لحِفظه
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴿19﴾ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴿20﴾ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴿21﴾ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴿22﴾ وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴿23﴾ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴿24﴾ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ﴿25﴾ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ﴿26﴾ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴿27﴾ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ﴿28﴾ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿29﴾ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴿30﴾ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴿31﴾ هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴿32﴾ مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴿33﴾ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴿34﴾ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴿35﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذين يتذكَّرون الموت بين الحِينِ والحين ، وبتَوَسُّطٍ واعتدال ، دون إفراطٍ في ذِكْره حتي تقعد عن طَلَب الدنيا والانتفاع والسعادة بها كما يُحِبّ لك ربك ذلك وخَلَقك مِن أجله ويطلبه إسلامك ، انتظارا له ، أو تفريطٍ بحيث تنساه وتنسَيَ رَبْط أقوالك وأعمالك الدنيوية كلها بنوايا خيرٍ بعقلك أنك تطلب أعلي درجات الآخرة بفِعْل كل خيرٍ مُمْكنٍ وتَرْك كل شرٍّ مُمْكِن والابتعاد عنه ، أو تنساه بحيث تَنْهَمِك بِشَرَهٍ في الجَرْي وراء الدنيا بخيرها وشرّها حقّها وباطلها نافعها وضارّها دون أيّ تمييز (برجاء مراجعة الآية ﴿145﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآية ﴿14﴾ ، ﴿15﴾ منها ، ثم الآية ﴿212﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿87﴾ ، ﴿88﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب الدنيا والآخرة معا﴾ .. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !!
هذا ، ومعني " وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴿19﴾ " أيْ وحَضَرَت لكلِّ إنسانٍ غيبوبة وإغماءة الموت عند انتهاء أجله وخروج روحه حامِلَة معها الحقّ وهو الموت وما وَعَده الله به بعده من كل خيرٍ وسعادة خالدة إنْ كان من أهل الخير وما أعَدَّه له مِن كلّ شرٍّ وتعاسة إنْ كان من أهل الشرّ ، وهذا هو ما كان منه يَحِيد أيْ يَبتعد عنه مُتَنَاسِيَاً إيَّاه لكنه قد وَقَع ولم يَعُد له منه أيّ مَفَرٍّ الآن ، وهو الإنسان الذي لم يكن مستعدا له وكأنه لن يحدث وكان يفعل الشرور والمَفاسد والأضرار ، حيث تكون هذه السكرات شاقّة عليه حينما يُعَايِن ما ينتظره من سوء ، بينما مَن كان مُستعدا مُتذَكِّرا له مُتمسّكا عاملا بكل أخلاق إسلامه فاعلا لكلّ خيرٍ تاركا لكل شرّ مستغفرا من كل ذنبٍ بمجرّد أن يرَيَ صِدْق ما أعَدَّه الله يحب لقاءه سبحانه بعد طول اشتياقٍ له ويتمنّي تسريع هذه السكرات والتي سيُخفّفها حتما عليه وستَمُرّ يسيرة سريعة من رحمته به وهو الغفور الرحيم الكريم لينال فضله وكرمه وخيره المُسْعِد التامّ الخالد
ومعني " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴿20﴾ " أيْ وعندما يُنْفَخ في الآلة التي تُخْرِج صوتا يُعْلِن بدء أحداث يوم القيامة – ولا يَعلم كيفية حدوث النَّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلاّ بأمره – حينها يكون ذلك هو يوم الوعيد أيْ هو الوقت الذي سيَتمّ فيه تنفيذ ما تَوَعَّد الله تعالى به كل كافر من سوء العذاب ، وما وَعَد به كل مؤمن من حُسن العطاء .. هذا وقد ذُكِرَ الوعيد للمُكذّبين دون ذِكْر الوَعْد بالنعيم للمؤمنين – والوعيد يعني الوعد لكن بالشرّ لا بالخير – لتهويل هذا اليوم ولتحذير العصاة مِمَّا سيكون فيه لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَنجوا وليَسعدوا في دنياهم وأخراهم مثل الطائعين
ومعني " وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴿21﴾ " أيْ وتُحْضَر يومها كلُّ نفسٍ مِن أنْفُس البَشَر معها مَلَك يقودها لمكان الحساب وآخر يَشهد عليها بما عملت في حياتها الدنيا من خيرٍ أو شرّ .. هذا ، والمتمسّك العامِل بأخلاق إسلامه يُسْتَقْبَل منهما ومِن كلّ الملائكة بكلّ ترحيبٍ وتكريم وتشريف وتبشير وتَطْمِين ، بينما المُكَذّب المُستكبر الفاسد الظالم ومَن يُشبهه يُسَاق ويُجَرّ ويُدْفَع بصورةٍ فيها إذلال وتخويف وتعذيب
ومعني " لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴿22﴾ " أيْ يُقالُ يوم القيامة لكلّ مَن كان في حياته الدنيا غافلا أيْ تائِها ناسِيا لربه ولإسلامه وليوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار ، علي سبيل اللّوْم والذمّ الشديد كنوع من التعذيب النفسيّ قبل الجسديّ في جهنم ، وذلك سواء أكان هذا الغافل من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين أم من المسلمين المُتَشَبِّهين بهم ، يُقال له من الله أو من ملائكته ، لقد كنتَ في غَفْلَةٍ تامَّة مِنْ هذا الذي تُعانيه اليوم فكشفنا عنك غطاءك أىْ فأزَحْنا عنك تلك الغفلة التي كانت تُغَطّيك وتَمنعك من الاستعداد له بالإيمان والعمل بأخلاق الإسلام فأصبح بصرك اليوم قويّا تستطيع أن تُبصر به واقعيا كل ما يُرْعبك من كل أنواع العذاب الذي كنتَ تُكذّبه أو تَستهين به أو تنساه أو نحو هذا في دنياك أيها الغافل .. وفي هذا تذكير لعلّ كلّ غافلٍ يَستفيق ويَتَدارَك حاله قبل موته ويعود لربه ولإسلامه ليَسعد في الداريْن قبل فوات الأوان ومَجِيء أجله وهو علي ذلك السوء .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا عند بعض العلماء أنكم كنتم أيها الناس في غفلة من هذا الخير قبل أن يُوحَىَ إليكم الإسلام في كتبنا مع رسلنا فكشفنا عنكم غطاءكم أيْ غفلتكم هذه بإنزاله إليكم ، فأصبح بصركم اليوم بنزوله قويا يمكنكم أن تُبصروا به كل خير وسعادة في دنياكم وأخراكم ، وفي هذا تعظيم لشأن الرسل والإسلام ليَحرص الناس تمام الحرص علي التمسّك به والعمل بكلّ أخلاقه
ومعني " وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴿23﴾ " أيْ ويقول يوم القيامة كلّ مَلَكٍ كان في الدنيا قرينا أيْ مُقارِنَاً أيْ مُلازِمَاً لكلُّ إنسان والذي كان عن يمينه يكتب حسناته والآخر الذي كان عن شماله يكتب سئياته ، يقول هذا ما معي وما عندي وهو الإنسان وكتاب حسناته وسيئاته مُعَدّ مُهَيَّأ مُجَهَّز للحساب .. هذا ، والمتمسّك العامِل بأخلاق إسلامه يُسْتَقْبَل مِن قرينه ومِن كلّ الملائكة بكلّ ترحيبٍ وتكريم وتشريف وتبشير وتَطْمِين ، بينما المُكَذّب المُستكبر الفاسد الظالم ومَن يُشبهه يُسَاق ويُجَرّ ويُدْفَع بصورةٍ فيها إذلال وتخويف وتعذيب
ومعني " أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴿24﴾ " ، " مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ﴿25﴾ " أيْ بعد أن يحكم الله تعالى بتمام العدل بين الناس يقول للمَلَكَيْن المُوَكَّلَيْن بالإنسان اقذفا في جنهم بكلّ شِدَّةٍ وإهانةٍ كلّ مَن كان في الدنيا كفّارا أيْ مُبَالِغا في الكفر أيْ التكذيب عنيدا أيْ كثير شديد العِناد أيْ مبالغا في مُعارَضَة ومُدَافَعَة ومُخَالَفَة الحقّ مُصِرَّاً علي عدم اتِّباعه مُتَمَادِيَاً في ذلك مع علمه التامّ بداخل عقله بأنه حقّ .. " مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ﴿25﴾ " أيْ ومِن صفاته أيضا أنه مُبَالِغ في المَنْع لكل خيرٍ معنويّ أو ماديّ منه ومِن غيره ، كثير الاعتداء علي الآخرين وعلي الله والإسلام بأنواع الاعتداءات الظالمة المختلفة القولية والفعلية ، كثير الشكّ فيما هو حقّ وعدل
ومعني " الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ﴿26﴾ " أيْ ومن صفاته أيضا أنه أشرك مع الله في العبادة أيْ الطاعة إلاهاً غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو بَشَرٍ فأطاعه وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار وخالَفَ ما طَلَبه منه ربه من كلّ خيرٍ حيث قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو مالٍ أو غيره فبالتالي فاقذفاه أيها المَلَكان المُلازِمان له في العذاب الشديد بجهنم والذي يُناسب أفعاله
أمَّا معني " قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴿27﴾ " أيْ هذا نوع من أنواع التعذيب النفسيّ الشديد لكلٍّ مِن هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم قبل العذاب الجسديّ في النار ، حين يجعل الله تعالي الشيطان أيْ تفكيره الشَّرِّيّ بالعقل والذي كان قَرِينا مُلازِمَاً مُصاحِباً له في حياته الدنيا والذي استجاب له ولم يُحسن استخدام عقله والذي فيه الفطرة والمُبَرْمَج أصلا علي خير الإسلام ولكنه عانَدَها واستجاب للشرّ المُضِرّ المُتْعِس لا للخير المُفيد المُسْعِد (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ، يجعله يَتَمَثّل له في صورةٍ ما ، يَخلقه الله عليها لا يعلمها إلا هو سبحانه وسيَراها الجميع يوم القيامة وسيعلمون حينها أنه الشيطان ، وقد يكون الأمر – والعلم عند الله تعالي – حديثا داخليا في العقل حيث يَتَبَرَّأ التفكير الشرِّيّ من أفعال هذا العقل والذي انخدع واستجاب للشرّ ﴿هذا ، ويُرَاعَيَ أنَّ لفظ الشيطان عند العرب هو لفظ عام يطلقونه علي كلّ مَن يتمرَّد علي أيّ خيرٍ ويكون مُفْسِدا بعيدا عن الحقّ﴾ فيقول لله تعالي أمامه مُتَبَرِّئاً منه لزيادة حَسْرته وألمه وخيبته مُجِيبَاً علي ما يَدَّعِيه كاذبا مِن أنه هو الذي أغواه ودَفَعَه لِمَا فَعَل ياربنا إننى ما أطغيته أيْ ما أضللته ولا جعلته طاغيا مُتَعَدِّيا ظالما ولا أجبرته على كفره وعِناده ومَنْعه للخير واعتدائه وظلمه وشروره ومَفاسده وأضراره المتنوّعة ولكن هو الذي كان في ضلالٍ بعيدٍ أيْ ضياع شديدٍ بعيدٍ كلّ البُعْد عن الخير ، وقد اختاره بكامل حرية إرادة عقله ولم أُكْرِهه ليختاره ولم يكن لي أيّ سلطان عليه ولم يكن معي أيّ حجّة أو دليل صحيح لكي يتبعني بسببه ، فهو الذي قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني " قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ﴿28﴾ " أيْ يقول الله تعالي حينها لهم ، للمُسِيئين مِن البَشَر ولقُرَنائهم ، والذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة ، لا تَتَنازَعُوا عندي فلا فائدة من هذا التنازُع الآن حيث أني قد حَذّرتكم مُقَدَّمَاً سابقاً في حياتكم الدنيا من خلال رسلي وكتبي التي فيها تشريعاتي من سوء نتائج فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار ، فكنتم غير مُبَالِين بالوعيد فلا تلوموا إذن إلاّ أنفسكم لأنَّ مَن أنْذَرَ فقد أعْذَر ، فالآن لا مجال للاعتذار أو التخاصُم ، فلا يُلْقِي كُلٌّ منكم بالمسئولية على الآخر ، فأنا أعلم تمام العلم بأقوال وأفعال كلّ إنسان ، وقد تَقَرَّرَ وانتهي الحُكْم عليه
ومعني " مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿29﴾ " أيْ ما يُغَيَّرُ عندي مُطْلقا القول الذي وعدتكم به أيّها الناس في دنياكم وهو أنَّ كلَّ خيرٍ وأمن وسعادة سيكون لأهل الخير وكلّ شرٍّ وخوف وعذاب وتعاسة لأهل الشرّ ، وما يُغَيَّرُ حُكْمِي فالأمر قد انتهي وهو سيَحدث ويَتحقّق حتما فلا يَطمع أحدٌ من المُكذّبين أن ينجو من النار ويدخل الجنة ، كما أنه ما يُغَيَّرُ في الكلام أمامي وما يُكْذَبُ وما يُزادُ في أيّ قولٍ أو يُنْقَص لعِلْمِي بكلّ شيء .. وفي هذا تمام التَّبْشير للمُحسنين والتَّيْئِيس للمُكذّبين .. " .. وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴿29﴾ " أيْ ولم أكُن أبداً أيّها الناس وأنا الخالق الرحيم الكريم مُرَبِّيكم وراعيكم ورازقكم ومُرْشدكم لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن لِأظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحدث حتما مثل هذا وأنا أعدل العادلين ، بأن أعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو أعَذّبه بظلم غيره.. أو أنْقص مِن حسنات المُحسن .. لكنَّ المُعَذّبين كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة ، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم ، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم ! .. وفي هذا تشجيع وتذكير لكل عاقل أن يُحسن الاختيار بكامل حرية إرادة عقله فيفعل دائما كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ، فكل فرد سيَتحمّل نتيجة عمله لا يتحمّلها عنه غيره ، ولن ينتفع الله حتما بطاعة طائع ولن يُضَرّ بمعصية عاصي لأنه هو الغَنِيّ تامّ الغِنَيَ مالِك المُلك كامل الصفات فلا يحتاج لشيء
أمَّا معني " يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴿30﴾ " أيْ هذا بيان للاستعداد التامّ لجهنم للامتلاء بأعدادٍ هائلةٍ من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين مهما كانت أعدادهم حتي يَتَجَنَّب كلّ عاقلٍ فِعْلهم وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بل يفعل كلّ خيرٍ من خلال التمسّك والعمل بأخلاق إسلامه ليَنجو منها وليَسعد في دنياه وأخراه .. أيْ تَذَكَّر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا ، حين يسأل الله تعالي جهنم في يوم القيامة ، الشديد العصيب علي المُكذبين اليسير السعيد للطائعين ، هل امتلأت ؟! يسألها تخويفا لمَن سيدخلها لتعذيبه نفسيا قبل جسديا بها ، فتَرُدّ قائلة – علي سبيل التمثيل أو حقيقة حيث ينطقها خالقها القادر علي كلّ شيء – هل مِن مَزيد ؟! أيْ تَطلب الزيادة على مَن فيها ، أو تُخْبِر أنها قد امتلأت تماما بكل الذين قد حَكَم الله عليهم بالعذاب فيها فهل يُرَيَ بها مِن مكانٍ يُزادُ فيه أحد ؟!
ومعني " وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴿31﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ وقُرِّبَت الجنة للمُتَّقِين بحيث تكون في مكانٍ غير بعيدٍ عن مكان تواجدهم أثناء حسابهم اليسير تكريما وتشريفا وإسعادا لهم حتي يرونها ويشاهدون ما فيها من خيرات لا تُوصَف فيَستبشرون ويَطمئّنون قبل دخولها خالدين فيها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر .. والمُتَّقون هم المُتَجَنِّبون لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا عند بعض العلماء أنَّ المتقين في دنياهم كأنَّ الجنة قريبة جدا منهم ليست بعيدة عنهم بخيراتها بل هم فيها حيث السعادة تَغْمُرهم دائما من فضل ربهم بسبب تمسّكهم وعملهم بإسلامهم
ومعني " هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴿32﴾ " ، " مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴿33﴾ " أيْ يُقالُ لأهل الجنة يوم القيامة ، مِن الله تعالي أو من ملائكته الكرام ، علي سبيل التهنئة والتكريم والتشريف والإسعاد ، أنَّ هذا النعيم الذي لا يُوصَف والذي ترونه هو ما سَبَقَ أنْ وُعِدْتُم به في دنياكم في كتبكم من خلال رسلكم – ووَعْد الله لا يُخْلَف مطلقا – وهو حاصِل لكل أَوَّابٍ أيْ دائم التوبة والرجوع إلي الله والإقبال والاعتماد عليه واتِّخاذه تعالي ودينه الإسلام دوْما مَرْجِعا له في كلّ مواقف ولحظات حياته (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ، حفيظٍ أيْ كثير الحفظ لحُرُمات الله يَحفظ نفسه من الوقوع في المعصية بل حتي من الاقتراب منها أصلا ولو وَقَع فيها تاب سريعا أوَّلاً بأوَّل وبالجملة هو يجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وحِفْظها فلا يُفَرِّط فيها وهو بالقطع يَحفظ لله نِعَمه التي لا تُحْصَيَ فيشكرها ويُحسن استخدامها .. كما أنَّ من معاني الآية الكريمة أيضا أنها خطابٌ في الدنيا قبل الآخرة لكلِّ الناس أنْ كونوا في دنياكم كلكم كذلك أوَّابين حَفِيظين لتنالوا هذا الذي تُوعَدون .. " مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴿33﴾ " أيْ الذي مِن صفاته أنه في دنياه يَخشي الرحمن بالغَيْب أيْ في سِرِّه حيث لا يراه أحدٌ إلا هو تعالي – فإن الخَشْيَة في تلك الحالة تدلّ على صِدْق الطاعة لله بحيث لا يرجو مدح أحد ولا يَهاب عقاب أحد – وهو كذلك يخاف مقامه سبحانه دون أن يراه بل هو يُصَدِّق بوجوده وهو غائب عنه وبكل ما جاء منه من تشريعات من خلال كتبه ورسله .. والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله ، ولذا كان مناسبا تماما اختيار اسم الرحمن من أسماء الله الحسني بعد خشي .. ولذلك فمِثْل هؤلاء يحيون حياتهم مُتَوَازِنين بين الخوف من الله والرجاء التامّ في رحمته (برجاء مراجعة الآية ﴿98﴾ من سورة المائدة ، للشرح والتفصيل) ويَفعلون كلَّ خيرٍ ويَتركون كلّ شرٍّ من خلال التمسّك بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) ويُخْلِصون ويُحْسِنون في كلّ أقوالهم وأفعالهم (برجاء مراجعة الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان﴾ ، وبذلك فهُم في تمام السعادة في دنياهم ثم لهم في أخراهم حتما ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد .. " .. وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴿33﴾ " أيْ ومِن صفاته بالجملة ولمزيدٍ مِن التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنه علي الدوام وطوال حياته يتحرَّك بعقلٍ وشعورٍ بداخله منيبٍ أي دائم التوبة والرجوع إلي الله والإقبال والاعتماد عليه واتِّخاذه تعالي ورسوله الكريم ﷺ وقرآنه العظيم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل دوْما مَرْجِعا له في كلّ مواقف ولحظات حياته (برجاء مرة أخري مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. ثم مات وجاء ربه ولَقِيَه يوم القيامة وهو علي ذلك دون أيّ تغيير
ومعني " ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴿34﴾ " ، " لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴿35﴾ " أيْ يُقالُ لأهل الجنة يوم القيامة ، مِن الله تعالي أو من ملائكته الكرام ، علي سبيل التهنئة والتكريم والتشريف والإسعاد ، وهم داخلون إليها ، ادخلوها بسلام ، أيْ بتمام الأمان والاطمئنان والسكون والاستقرار والنعيم السَّالِم أي الخالِص من أيِّ تكدير التامّ الخالد المُسْعِد .. ويُسْتَقْبَلُون بكلِّ تَحِيَّة سَلَام .. " .. ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴿34﴾ " أيْ ذلك اليوم الذي دخلتم فيه الجنة هو يوم الخلود أيْ يوم البقاء الذي لا انتهاء له حيث أنتم سَتَبْقون فيها لا تُخْرَجون منها أبدا بلا نهايةٍ ولا تغييرٍ ولا تناقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالكم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كنتم تعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتكم الدنيا .. وهو أيضا يوم الخلود بالنسبة للمُستَحِقِّين لذلك من أهل النار من المُكَذّبين في درجات عذابهم .. " لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴿35﴾ " أيْ لأهل الجنة كلّ ما يريدون فيها من أنواع النعيم الطّيِّب التامّ اللّذّة ، فمَهما طَلَبوا وَجَدوا ما يَطلبون حتي بمجرّد تَمَنِّيه في خاطِرهم ، وعنده تعالي لهم مزيد منه ، وعنده أيضا إضافة إلي ما يريدونه ويطلبونه مزيد من النِعَم المتزايدة دوْماً المُفاجِئَة المُبْهِرَة المُسْعِدَة مِمَّا لم يَطلبوه ومِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ، ومنها متعة رؤيته سبحانه دون حائل حيث أكمل الجمال والتمتع بسماع كلامه والتَّنَعُّم بقُرْبه ، تكريما وتشريفا وحبا وإسعادا لهم
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ﴿36﴾ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴿37﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه ، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به ، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين ، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة .. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية ﴿6﴾ ، ﴿7﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات ﴿65﴾ حتي ﴿70﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ﴿36﴾ " أيْ واعلموا أيّها المسلمون أننا كثيرا ما أهلكنا من القرون السابقة قبلكم – والقَرْن هم مجموعة من الناس تعيش في فترة زمنية واحدة واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض – من أمثال الذين يُكَذّبونكم الآن ويُعاندونكم ويَستكبرون ويَستهزؤن ومَن يشبههم ، فهل هؤلاء لم يشاهدوا بأبصارهم ويتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم أمثالهم كأقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها ؟! .. " .. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ﴿36﴾ " أيْ لم يكونوا ضعافا بل كانوا أشدّ منهم في كل أنواع القُوَيَ الجسدية والعقلية والمالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ونحوها ، وكانوا بسبب قُوَّتهم هذه يُنَقِّبون في كلّ البلاد في الأرض أيْ يَبحثون ويُفَتِّشون فيها لحَرْثها وحفرها واستخراج خيراتها من زراعات ومعادن وغيرها ولتعميرها من كل أنواع العمران كالقصور والمباني والحصون والسدود والطرق وما شابه هذا ، فيزدادوا بذلك مزيدا من القوة .. لكنَّ كلّ هذا لم يستطع أن يَمنع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله لمَّا نَزَلَ بهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم !! فهل كان لهم أيّ مَحِيص أيْ مَهْرَب ومَفَرّ ومَلْجَأ ونَجاة ؟! بالقطع لا .. فمَن كان أضعف منهم فليكن إذن أكثر حَذَرَاً فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوَان ونزول العذاب ! .. وفي هذه الآية الكريمة استهانة بشأن المُكذبين وتسلية وطَمْأَنَة وتَبْشير للمسلمين بأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
ومعني " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴿37﴾ " أيْ إنَّ فِي ذلك الإهلاك للأمم المُكَذّبة السابقة أو في ذلك الذي ذُكِرَ في السورة الكريمة لَتَذْكِرَة وعِبْرَة ، لا لأيِّ أحدٍ وإنما فقط الذي يَنتفع ويَسعد بها كلّ مَن كان له عقل مُنْصِف عادل يَتدبَّر ويَتعمَّق به فيما يحدث حوله وفيما يتلوه من القرآن العظيم ، يَتفكَّر فيه هو بذاته أو عن طريق غيره هو مُنْذِر له يُفَقِّهه ويُذَكِّره بأنْ ألْقَيَ السمع له أي استمع بكلِّ ثِقَلِ سمعه وتركيزه وبإصغاءٍ شديدٍ وهو شهيد أيْ شاهد أيْ حاضِر الذهن تماما بكل فِكْره ومشاعره دون أيّ انشغالٍ فيَتفكَّر بعمق فيما يُنْذِره به من قصصهم ويَتذكَّر بها ويتعلّم منها .. أمَّا الذي يُعَطّل عقله بالأغشية التي يضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره فلن ينتفع حتما بهذه الذكري
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴿38﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها ، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق : " لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. " ﴿إبراهيم : 7﴾ .. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر ، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك ، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء ، للشرح والتفصيل)
هذا ، ومعني " وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴿38﴾ " أيْ لقد خلقنا السموات والأرض وكلّ ما فيهما وبينهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَم وخيرات ، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان ، في ستة أيام – قد تكون مثل أيام البَشَر أو غيرها – وهو سبحانه يقول للشيء كن فيكون كما يريد ، ولكن ليُعَلّمَ خَلْقَه التَّأنِّي وعدم التَّعَجُّل والتَّثَبُّت والاسْتِيثَاق من معلوماتهم وأقوالهم وتصرّفاتهم في كل شئون حياتهم صغرت أم كبرت حتي يحقّقوا الصواب دائما ويتطوّروا ويسعدوا في الداريْن .. " .. وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴿38﴾ " أيْ وما لَمَسَنا وأصابنا أيّ تَعَب ، فلا يَتَوَهَّم أحدٌ مثلا أنه سبحانه يَتْعَب من رعايته وإدارته لشئون كوْنه وخَلْقه !! .. فالخالق الكريم إذَن الذي له كل صفات الكمال الحسني القادر علي كل شيء هكذا قادر حتما علي رزقكم وعونكم وإسعادكم وبعثكم بعد موتكم وكوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم لحسابكم يوم القيامة بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة .. فاعبدوه وتوكّلوا عليه وحده واشكروه وأحسنوا الاستعداد لآخرتكم بالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴿39﴾ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴿40﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابد حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. وإذا كنتَ من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية ﴿143﴾ من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن﴾ .. وإذا كنتَ من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالك طوال يومك (برجاء مراجعة الآية ﴿41﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴿39﴾ " ، " وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴿40﴾ " أيْ إذا كان الأمر كما ذَكَرْنَا لك أيها الرسول الكريم ولكم أيها المسلمون من أننا حتما سننصركم في الحياة الدنيا والآخرة وكما ذَكَرْنَا لكم مِن معاني طيِّبة في هذه السورة الكريمة فبالتالي فكونوا إذَن من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المستمِرِّين دائما بكل هِمَّة في فِعْل كل خيرٍ وترْك كل شرٍّ في كل قولٍ وعمل وإنتاج وكسب وإنفاق وعلم وإنجاز وبناء وفكر وتخطيط وابتكار وعلاقات طيبة وما شابه هذا ، وبالجملة كونوا مستمرّين علي التمسّك التامّ بكل أخلاق إسلامكم وعلي حُسن دعوة الآخرين لربكم ولدينكم بكل قدوةٍ وحِكمة وموعظة حسنة وعلي الصبر علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾ .. ومِمَّا يُعينكم علي هذا الصبر ، وعلى ما يقوله هؤلاء المُكذّبون من أقوالٍ لا يؤيدها أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ، تأكّدكم التامّ بأنّ وعْد الله لكم بالنصر في كل شئون حياتكم صغرت أم كبرت ، وبنشر إسلامكم وبالتمكين لكم في الأرض أي يكون لكم أعظم المَكَانَة بما يفيض عليكم بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن ، هو حقّ ، أي صِدْق بلا أيّ شكّ وسيَتحَقّق بالتأكيد في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدَاً لكم ولمَن حولكم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، ثم مراجعة أنّ النصر مِن عند الله تعالي وحده في الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴿39﴾ " ، " وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴿40﴾ " أي وكذلك يُعينكم علي الصبر أن تُسَبِّحوا ربكم أيْ تُنَزِّهوه وتُبْعِدوه عن كلّ صفة لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وأن تحمدوه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ علي كلّ خَلْقه ، في أول النهار وآخره ، وأيضا في أوقات الليل وبعد الصلوات ، والمقصود دَوَام التواصُل مع الخالق الكريم ، أي اذكروه وصَلّوا له واعبدوه وافعلوا كل خيرٍ في كل الأوقات ، في كل لحظات حياتكم ، حين المساء وحين الصباح وفي كل وقت ، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم .. هذا ، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحا بالاستعانة بالله تعالي ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن ، ثم كلّ الأيام ، ثم بالتالي كلّ الحياة .. هذا ، وتوجيه الله تعالي للرسول ﷺ بدوام الذكر بالتسبيح والتحميد وغيره رغم أنه ﷺ دائم الفِعْل لذلك كله مقصوده جَعْل كلّ المسلمين يقتدون به في كل هذا وفي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم وفي الإكثار من فِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ ليتحقّق لهم وَعْد الله الذي لا يُخْلَف مُطلقا بتمام الخير والسعادة والعِزّة والنصر في الدنيا والآخرة
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴿41﴾ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴿42﴾ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ﴿43﴾ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴿44﴾
بعض الأخلاقيات التي تستفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !!
هذا ، ومعني " وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴿41﴾ " ، " يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴿42﴾ " أيْ واسْتَمِع استماع تَدَبُّر وتَعَقّل وتَعَمُّق يا أيها الرسول الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل لِمَا سيُخبركم الله به عن يوم القيامة حيث يُنادِ المُنادِ وهو المَلَك المُوَكَّل بإعلان بدئه من مكان قريب أي بحيث يسمع نداءه جميع الناس .. " يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴿42﴾ " أيْ يومها سيَسمعون كلهم صَيْحَة البَعْث من القبور أيْ بَدْء الإحياء للموتي بالأجساد والأرواح والحَشْر للحساب ، والتي ستَأتي بالحقّ كله أيْ الصِّدْق الذي كان يُكَذّب به المُكَذّبون وهو البَعْث والحساب والعقاب والجنة والنار .. إنَّ ذلك اليوم هو يوم الخروج الحقّ الأكيد من الأرض ليتحقّق تمام العدل حيث سيَأخذ كلّ صاحبِ حقٍّ حقّه وسيَنال الكلّ جزاءه من الخير أو الشرّ علي حسب عمله في دنياه بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم .. فأحْسِنوا إذَن الاستعداد له بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
أما معني " إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ﴿43﴾ " أيْ هو سبحانه له كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنه هو وحده الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها ، مِن بَشَرٍ وغيره ، ويُميت أخري بأخذ أرواحها منها ، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه ، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيء كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهد ولا وقت ولا غيره مِمَّا يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يمكن لشيء أن يَمتنع أو يُخالِف ، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم ، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم .. " .. وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ﴿43﴾ " أيْ ومصير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليه تعالي وحده لا إلي غيره ، وهو أعلم بهم تمام العلم ، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحِقّه ، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة ، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب تمسّكهم بكل أخلاق إسلامهم ، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم ، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسة في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم .. فأحْسِنوا إذَن الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني " يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴿44﴾ " أيْ إلينا مَصيرهم ويُحْشَرون عندنا في يوم الخروج وذلك يوم تَتَشَقّق الأرض – أيْ تصبح فيها شقوق ومسافات – عَمَّن في باطنها من ذرَّات الأجساد التي فيها فيخرجون منها مُسرعين في وقتٍ واحد ودون تأخير لمكان الحشر بأجسادهم وأرواحهم تلبية لقول كن فيكون من خالقهم القويّ القدير .. " .. ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴿44﴾ " أيْ ذلك التشقّق للأرض وما يترتب عليه من بَعْثٍ وجمع وحشر للناس أمر سهل علينا وحدنا لأننا قادرون علي كل شيء وقدرتنا لا يمنعها أيّ شيء
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴿45﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنت من الذين يحرصون أشدّ الحرص علي دعوة جميع الناس إلي الله والإسلام علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم ، كما كان يفعل رسولنا الكريم ﷺ حيث كان يحزن أشدّ الحزن بإعراض مَن يُعرِض ويبتعد ، فطلب منه ربه الرحيم الودود أن يَتَوَازَن في هذا الأمر ، وأن يستمرّ في دعوته ، ولا ييأس من مثل هؤلاء البعض الذين قد لا يستحقون أحيانا من داعيهم للخير كل هذا الحزن عليهم ! لأنهم يعلمون صدقه وصدق ما يدعوهم إليه من الحق والخير ، ولكنهم مِن ظلمهم وعِنادهم ينكرونه وينحرفون عنه من أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. فكن مثل رسولنا الكريم ﷺ حريصا علي الجميع لكن متوازنا مستمرا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن ، مع حُسن تصنيفك للمدعوين حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة ، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر ، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
هذا ، ومعني " نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴿45﴾ " أيْ نحن أعلم مِن أيّ أحدٍ قطعا علما تامّا بما يقوله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن في شأن الله ورسله والإسلام والمسلمين وسنُجازيهم حتما بعذابٍ دنيويّ وأخرويّ بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، فاصبروا علي أذاهم أيها المسلمون واستمرّوا في تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم وفي دعوتهم بما يُناسبهم وتَأكَّدوا أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل) .. " .. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴿45﴾ " أيْ وأنتم لستم أيّها المسلمون علي الناس بجَبَّارين تُجْبرونهم بالإكراه علي اتِّباع الإسلام بل مهمّتكم فقط التذكير بهذا القرآن العظيم بأفضل وأنسب وسائل تذكيرهم وسيَتستجيب له ويَنتفع ويَسعد به تمام السعادة في دنياه وأخراه كلّ مَن يُحسن استخدام عقله ويخاف من الوعيد أيْ الوعد بالشرّ والعذاب والتعاسة فيهما علي قَدْر سُوئِه إذا خَالَف أخلاقه .. لأنه لا يمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه ، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أيْ التصديق بالله والتمسك بكل أخلاق الإسلام ، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه ، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه ، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل عن الفطرة﴾ ، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها ، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك ، ولم يُيَسِّر له أسبابه ، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال ، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما ، وهذا هو معني " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " ﴿القصص : 56﴾ أيْ هو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيءٍ عن خَلْقه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها ، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية ﴿253﴾ ﴿الفقرة الثانية﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿46﴾ حتي ﴿50﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة المائدة ، ثم الآيات ﴿105﴾ ، ﴿268﴾ ، ﴿269﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿70﴾ حتي ﴿74﴾ ﴿الفقرة الأخيرة﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) .. إنَّ في الآية الكريمة تهديداً وتحذيراً شديداً لمِثْل هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن ، كما أنها تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ﴿1﴾ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ﴿2﴾ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ﴿3﴾ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ﴿4﴾ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ﴿5﴾ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴿6﴾ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴿7﴾ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴿8﴾ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴿9﴾ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ﴿10﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ﴿11﴾ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ﴿12﴾ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴿13﴾ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴿14﴾ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿15﴾ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ﴿16﴾ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿17﴾ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿18﴾ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿19﴾ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿20﴾ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿21﴾ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴿22﴾ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴿23﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا كنتَ من المُتَدبِّرين في كل خَلْق الله تعالي وأحسنت استخدام عقلك في تأمُّل آياته ومعجزاته في كوْنه ، فهذا سيزيدك حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شك بوجود خالقك وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآية ﴿164﴾ من سورة البقرة ، ثم الآيات ﴿190﴾ ، ﴿191﴾ حتي ﴿194﴾ من سورة آل عمران ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم .. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام .. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا .. هذا ، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تدبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها ، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع !! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر فهو سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا !!
هذا ، ومعني " وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ﴿1﴾ " ، " فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ﴿2﴾ " ، " فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ﴿3﴾ " ، " فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ﴿4﴾ " ، " إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ﴿5﴾ " ، " وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴿6﴾ " أيْ يُقْسِمُ الله تعالي علي أنَّ وَعْده الدنيويّ والأخرويّ للناس كله صِدْق ، وأنَّ الدِّيِن الذي هو الجزاء على الأعمال بالخير خيراً وبالشرّ شرَّاً واقعٌ بكل تأكيدٍ بلا أيّ شكّ ، وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه والذي يُقْسَمُ به .. إنه تعالي في هذه الآيات الكريمة يُقْسِم ببعض مخلوقاته ، ببعض معجزاته في كوْنه ، لتَدَبُّرها وللاقتداء بما فيها مِن صفاتِ خيرٍ .. فهو يُقْسِمُ بالذاريات وهي الرياح التي تَذْرو الشيء ذَرْوَاً أىْ تَسُوقه وتحرّكه وتنقله من مكانه وتُفَرِّقه وتطيره أثناء هبوبها وهي قد تكون لَيِّنَة مُفيدة مُسْعِدَة علي أهل الخير أو شديدة عاصفة مُضِرَّة مُتْعِسَة علي أهل الشرّ .. ويُقْسِم أيضا بالحامِلات التي تحمل الوِقْر ، وهي السُّحُب الحاملات للأمطار الثقيلة وللمياه الغزيرة التي تنزل على الأرض اليابسة فتحوّلها بقُدْرة الله تعالى إلى أرض خضراء تنبت كل أنواع الزروع النافعة ، والوِقْر هو الحِمْل الثقيل .. ويُقْسِم كذلك بالجاريات التي تَسِير بكل يُسْر وهي السفن التي تجرى في الماء بسَلاَسَة بقُدْرته سبحانه بالريح اللَّيِّنَة وخواص المياه ونحو ذلك لنقل الناس وأمتعتهم وتجاراتهم من مكانٍ لآخر بما يَنفعهم ويُسعدهم .. ثم يُقْسِم بالمُقَسِّمات أمراً وهي الملائكة التي تُقَسِّم وتُوَزِّع بأمر ربها بعض أمور الدنيا من أمطار ورياح وسُحُب وغيرها بما يَنفع الخَلْق ويَسُرّهم .. هذا ، وعند بعض العلماء كلّ ما سَبَقَ هو صفات مُتعدِّدة للرياح فالذاريات هي الرياح التي تُنْشِيء السحاب أولا والحاملات هي الرياح التي تحمل السُّحُب التي هي بخار الماء والجاريات هي الرياح التي تجري بالسُّحُب بعد حَمْلها والمُقَسِّمات هي الرياح التي تُقَسِّم الأمطار علي البلاد .. هذا ، وعند بعض العلماء أنَّ القَسَمَ هو بذاته العَلِيَّة سبحانه أيْ وربّ الذاريات والحامِلات والجارِيات والمُقَسِّمَات .. " إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ﴿5﴾ " أيْ وحقِّ هذه الأشياء التي ذُكِرَت إنَّ الذي تُوعَدُونه يوم القيامة مِن البَعْث أيْ إحيائكم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا ومِن الجزاء والحساب والعقاب والجنة والنار هو صِدْق حتما ليس فيه أيّ كذب أو شكّ ، إضافة بالقطع إلي صِدْق ما تُوعَدون به في دنياكم مِن كلّ خيرٍ وسعادة لمَن يعمل بأخلاق إسلامه وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيها بمقدارٍ يُساويِ ما يَترك منها .. " وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴿6﴾ " أيْ هذا تأكيدٌ لمَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة ، أىْ وإنَّ الجزاء على الأعمال لواقع بكلّ تأكيد ، أيْ يدِين الله الناس بأعمالهم ، فمعني الدِّيِن هنا هو الجزاء ، ووقوعه يعني حدوثه
أمَّا معني " وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴿7﴾ " أيْ هذا قَسَمٌ آخر حيث يُقْسِم سبحانه بالسماء صاحبة الحُبُك أيْ المَحْبُوكَة حَبْكَاً تامَّاً أيْ المُتْقَنَة الصُّنْع بكلّ دِقّة ذات الإحكام والاستواء والحُسْن والزينة والخَلْق الجميل المُعْجِز المُبْهِر
ومعني " إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴿8﴾ " ، " يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴿9﴾ " أيْ وحقِّ السماء ذات الحُبُك إنكم أيها المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن أقوالكم مختلفة متناقِضَة مُتَضَارِبَة يُخالِف بعضها بعضا بما يدلّ علي أنكم لستم علي الحقّ بل علي الباطل لأنَّ الحقَّ ثابت لا يتغيَّر ولا يتناقَض ، حيث بعضكم يقول مثلا عن القرآن العظيم أساطير الأولين أيْ قصص وتخاريف السابقين وبعضكم يقول عنه أنه شعر أو سحر أو كَتَبَه بَشَرٌ وليس وَحْيَاً وبعضكم يقول عن الرسول الكريم ﷺ شاعر أو ساحر أو مجنون أو كذاب وبعضكم يعترف بوجود الله لكنه يعبد ويطيع غيره كصنمٍ أو حجر أو كوكب أو نحوه وبعضكم لا يُقِرّ بوجوده أصلا ، وغير ذلك الكثير من أقوالكم المتناقضة المُتَخَبِّطة غير الحقيقية الساقطة السفيهة التي أنتم فيها .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنكم أيها الناس عموما مُختلِفون في التصديق بالله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره فمنكم مُصَدِّق ومنكم مُكَذّب .. " يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴿9﴾ " أيْ يُبْعَدُ حتماً عن الإيمان أيْ التصديق بالله والقرآن والإسلام والوعْد الإلهيّ الصادق بسعادتيّ الدنيا والآخرة كلّ مَن ُأبْعِدَ عنه أيْ أبْعَدَ هو نفسه عنه بتفكيره الشَّرِّيِّ في عقله حيث اختار هو بكامل حرية إرادته طريق التكذيب وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وبالتالي فقد ابتعدَ عن كلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن ، وما ذلك إلا لأنه قد عَطّل هذا العقل بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أمَّا معني " قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ﴿10﴾ " أيْ قَتَلَ الله الكذّابون المُتَشَكِّكون إذا استمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم دون عودة لربهم ولإسلامهم ، أيْ سيَقتلهم عاجلا أم آجلا حيث يَرَيَ أنْسَبَ توقيتٍ لذلك أيْ سيُعذّبهم وسيهلكهم وسيَلعنهم أيْ سيَطردهم من رحمته في دنياهم قبل أخراهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ، فهذه هي النتيجة الحَتْمِيَّة لسوء أقوالهم وأعمالهم ، ولذا فهم في تمام التعاسة في الدنيا والآخرة ، فلا يَتَشَبَّه أبدا بهم أيّ أحدٍ حتي لا يكون مصيره مثل مصيرهم .. والخَرَّاصُون جَمْع خَرَّاص ، مِن الخَرْص ، أيْ التَّخْمِين والظنّ والقول بغير علمٍ وتَثَبُّت ، والمقصود هنا الكذب والشكّ
ومعني " الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ﴿11﴾ " أيْ هذا مزيدٌ من التوضيح لحالِهم ولوَصْفهم حيث هم مَغمورون في الضلال أيْ الضياع بالبُعْد عن ربهم وإسلامهم وبسبب ذلك هم مُنْغَمِسُون تماما في الشرور والمَفاسد والأضرار ساهُون أيْ مَذْهُولون ناسُون تائِهون لاهُون مُنْشَغِلُون لا يشعرون بشيءٍ مِمَّا حولهم ولا يَتدبَّرون أو يَتعقّلون فيما يُصلحهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خيرٍ وصلاح كأنهم سُكَارَىَ مَخْمُورون
ومعني " يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ﴿12﴾ " أيْ وهم أيضا يسألون استهزاءً واسْتِخْفافا واسْتِبْعادً وتكذيباً وشَكَّاً ، فيما بينهم ، والمسلمين حولهم ، عن أيِّ وقتٍ يكون يوم الدين هذا أيْ يوم الجزاء على الأعمال أيْ اليوم الذي فيه يدِين الله الناس بأعمالهم أيْ يوم القيامة ، الذي يتحدّث عنه المسلمون ويُهدِّدونهم به حيث البَعْث أيْ الإحياء بالأجساد والأرواح من التراب والحساب والعقاب والجنة والنار ؟!
ومعني " يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴿13﴾ " أيْ هذا هو الجواب المُناسب المُخيف لهم علي سؤالهم الذي يسألونه ، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ، أيْ يوم الدِّين هذا الذي يُكذّبونه ويستبعدونه ويسخرون منه ويستهينون به هو اليوم الذي هم فيه علي النار يُحْرَقُون ويُصْهَرُون ويُعذّبون بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
ومعني " ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴿14﴾ " أيْ يُقالُ لهم وهم يُعَذّبون في النار ، علي سبيل الذمّ الشديد والتحقير والتصغير والذلّ والإهانة والاستهزاء ومزيدٍ من الحَسْرة ، كعذابٍ نفسيٍّ مؤلمٍ مع العذاب الجسديّ ، تَذَوَّقوا واستشعروا ألم حريقكم وعذابكم .. وتذوقوا أيضا طَعْم النتائج السيئة لفتنتكم التي كنتم فيها حيث عِشتم حياتكم مَغمورين مُنْغَمِسين في الفِتَن أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار .. إنَّ هذا العذاب المُؤلم المُهين هو الذي كنتم تستعجلون بحُدوثه في دنياكم لأنكم كنتم لا تُصَدِّقون به بل تستبعدونه وتعتبرونه مستحيلا وتقولون ساخرين منه مُكَذّبين له متي هذا الوعد الذي تَعِدوننا به أيها المسلمون إن كنتم صادقين ؟!
أمَّا معني " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿15﴾ " أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن .. أيْ إنَّ المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم ، هؤلاء بكل تأكيدٍ في جنات وعيون ، فبعد تمام سعادة الدنيا التي كانوا فيها بسبب تمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم ، يكونون في الآخرة في بساتين وحدائق مُخْضَرَّة مُبْهِجَة كثيرة الثمرات والخيرات والقصور وبها عيون وينابيع يخرج منها الماء العَذْب الجاري الوفير المُبْهِج
ومعني " آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ﴿16﴾ " أيْ وهُم في الجنات يأخذون بكلّ سعادةٍ ورضا وحب وتَشَوُّق وشكر ما يعطيهم لهم دوْماً ربهم أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعِيهم ومُحِبّهم ومُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ مِن فضله وكرمه مِن العطاء المُتنوِّع المُتَزَايِد الوفير الهائل الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. هذا ، ومن معاني الآية الكريمة كذلك أنهم كانوا في دنياهم يأخذون ما يعطيهم ربهم من أخلاق الإسلام في القرآن الكريم أيضا بكلّ رضا وحب وتشوّق وشكر ويتمسّكون ويعملون بها كلها لأنهم متأكّدون تماما أنَّ فيها صلاحهم وكمالهم وسعادتهم التامَّة في الدنيا والآخرة .. " .. إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ ﴿16﴾ " أي لقد اسْتَحَقّوا هذا النعيم الغامِر المُسْعِد في الداريْن لأنهم كانوا في حياتهم الدنيا قبل دخولهم الجنة مُتْقِنين لكلّ أقوالهم وأفعالهم مُخْلِصين لله فيها (برجاء مراجعة معاني الإحسان والإخلاص في الآية ﴿125﴾ ، ﴿126﴾ من سورة النساء ، للشرح والتفصيل) .. فليكن كلّ مسلمٍ إذَن كذلك لينالَ هذا الفضل العظيم
ومعني " كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿17﴾ " أيْ ومِن بعض مَظاهِر إحسانهم وصِفاتهم الحَسَنَة ، أنهم كانوا قليلا مِن الليل لا ينامونه أيْ ينامون كلّ الليل ويستقيظون منه وقتا قليلا ، أو المعني أيضا أنهم كانوا لا ينامون من الليل إلا قليلا وأكثره يَبْقون مُستيقظين ، فالآية الكريمة تحتمل المعنيين ، والمقصود أنهم كانوا مُجتهدين يَستغِلّون وقت الليل كذلك في طاعةٍ وخيرٍ مَا ، سواء أكان وقتا منه قليلا أم كثيرا ، في أوله أو آخره ، كعلمٍ مُفيدٍ أو عملٍ نافع أو صلاةٍ أو ذِكْرٍ أو دعاءٍ أو قراءةٍ للقرآن أو ما شابه هذا ، أيْ هم دائما في خيرٍ طوال نهارهم ثم أيضا في بعض أو معظم ليلهم ولا تمرّ عليهم ليلة إلا وفعلوا ذلك علي حسب ظروفهم وأحوالهم ، وحتي أثناء نومهم يستحضرون نوايا الراحة من أجل الاستيقاظ بعدها لكلّ خير ، وبالتالي فحياتهم كلها خير في خير وسعادة في سعادة ، فهم يستحِقّون إذَن من ربهم تمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني " وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿18﴾ " أيْ ومَدَحَهم تعالي أيضا علي بعض مظاهر إحسانهم وصِفاتهم الحَسَنَة الأخري لتشجيعهم علي الاستمرار فيما هم فيه والاستزادة منه ومن كل خير حيث هم دائمي الحرص والاجتهاد علي التواصُل مع ربهم ونَيْل خيره وعطائه الفيَّاض وسعادته الغامِرة طوال يومهم وحياتهم ، ومِن شِدَّة حرصهم واجتهادهم لا يُفَوِّتون فُرْصَة وعَرْضَاً منه سبحانه بمزيدٍ من الخير والعطاء الدنيويّ والثواب الأخرويّ إلا سارَعوا واجتهدوا للسعي له والحصول عليه ، ومن هذه العروض أوقات الأسحار جَمْع سَحَر وهو وقت الثلث الأخير من الليل قبل طلوع الفجر والذي يحتاج إلي همةٍ وقوةِ إرادةٍ للوصول إليه والذي هو تدريب لهم علي أن يكونوا دوْما أصحاب هِمَمٍ عالية وإراداتٍ قوية في كل شئون حياتهم فيسعدوا بذلك تمام السعادة في الداريْن ، حيث وَعَدَهم سبحانه ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا في حديث رسوله الكريم ﷺ : " يَنْزِل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا فيقول : " مَن يدعوني فأستجيبَ له ؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له ؟ مَن يسألني فأعْطِيَه ؟ " ﴿أخرجه البخاري ومسلم﴾ ، وذلك حيث السُّكُون والتفرُّغ التامّ والتركيز العالي والتواصُل الراقي الصافي مع الله الخالق الكريم فيَطلبون منه ما يُريدون ويَستغفرون مِمَّا قد يكون حَدَث منهم من تقصيرٍ أثناء يومهم ويَدعون من أجل التجهيز لليوم التالي وحُسْن الاستعداد له وطَلَب التيسير والتوفيق والرعاية والأمن والرزق والسعادة فيه فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن ، ثم كلّ الأيام ، ثم بالتالي كلّ الحياة
ومعني " وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿19﴾ " أيْ ومَدَحَهم تعالي أيضا علي بعض مظاهر إحسانهم وصِفاتهم الحَسَنَة الأخري لتشجيعهم علي الاستمرار فيما هم فيه والاستزادة منه ومن كلّ خيرٍ حيث هم دائما في كلّ أنواع أموالهم يجعلون نصيبا للمُحتاجين من الناس ، كما وَصَّاهم ربهم وإسلامهم ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بهذا التعاون والتكاتُف والتواصُل ، يُقَدِّمونه بكل حب وحرص وكرم وصِدْقٍ وتَشَوُّق وطَلَبَاً لعطاء الله لهم بمُقابِله في الداريْن ، يُعطونه للسائل منهم وهو الذي يحتاج مساعدةً ما فيسألهم فيُقَدِّمون له إيّاها ، والمَحروم وهو الذي حُرِمَ بعض الرزق لسببٍ ما كمرضٍ أو تركٍ لعملٍ أو نحو هذا ولم يَسأل أحداً فحُرِمَ من العوْن وهذا يَعرفونه بدوام تواصُلهم مع مَن حولهم وسؤالهم عنهم فيكتشفون مثل هذه الحالات المُحتاجَة المُتَعَفّفة
ومعني " وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿20﴾ " ، " وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿21﴾ " ، " وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴿22﴾ " أيْ كلّ ما في الأرض من مخلوقاتِ الله تعالي المُعْجِزات المُبْهِرات ، هي دلالات تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآيات ﴿48﴾ ، ﴿51﴾ حتي ﴿57﴾ ، ﴿116﴾ حتي ﴿122﴾ ، ﴿172﴾ حتي ﴿175﴾ وكلها من سورة النساء .. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية ﴿51﴾ ، ﴿52﴾ من سورة يونس ، للشرح والتفصيل) .. إنها آيات لتزيد المُوقِنين أيْ المُتأكّدين بلا أيّ شكّ بوجود ربهم والذين يَسْتَيْقِنونَ ويَسْتَوْثِقون في كلّ أمورهم بالتَّعَقّل والتَّدَبُّر والتَّفَكّر والتَّعَمُّق ، تزيدهم تأكّدا بوجوده وحبا له وُقرْبا منه وطلبا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الداريْن ، وتزيدهم تأكّدا بأنه هو وحده المستحِقّ للعبادة ، تزيدهم هذا هُم أولا لأنهم الذين أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية ﴿172﴾ من سورة الأعراف ، للشرح والتفصيل) ثم يُقنعون بها غيرهم ويَدعونهم إليها بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة ليسعدوا مثلهم في الداريْن .. إنها قطعا آيات لهم هم فقط يَنتفعون ويَسعدون بها بينما لا أثرَ لها في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. " وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿21﴾ " أيْ وكذلك الحال بالنسبة للآيات التي فيكم أيّها البَشَر من عقول وأجساد وأجهزة وأرواح .. فإذا كانت آيات الكوْن من حولكم قد بَعُدَت علي بعضكم فإنَّ آيات أنفسكم قريبة منكم جدا وأوْلَى بالنظر والتأمُّل !! .. هل لا تَرَوْنَ هذه الآيات رؤية المُتَدَبِّر المُتَعَقّل فيها كيف خُلِقَت ومَن خَلَقَها ؟! هل تَجَرَّأَ أحدٌ علي ادِّعاء أنه هو خالقها وليس الله تعالي ؟! إنكم جميعا قطعا ترونها !! فلماذا إذَن لم يؤمن مَن كَفَر ؟! إنه ليس له أيّ حجّة أو عُذر !! إنه حتما قد عَطّل عقله فلم يُحسن استخدامه بسبب حرصه علي أثمان الدنيا الرخيصة والتي هي كالغشاء المانِع عليه !! .. " وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴿22﴾ " أيْ وكذلك الحال بالنسبة للآيات التي في السماء والتي فيها بعض أسباب الرزق كالأمطار المعتدلة المفيدة التي تنزل منها على الأرض اليابسة فتنبت فيها بإذن ربها من كل أنواع النباتات النافعة المُسْعِدَة وتسْقِي دَوَابَّها وتُكْثِر خيراتها ومنافعها وسعاداتها لكم ، وكضوء الشمس والهواء وغيره من الطاقات والموادّ مِمَّا يُحَقّق لكم كل أنواع الأرزاق من صحة وفكر ومال وغيره مِمَّا يعدكم سبحانه به في حياتكم من كل خير وسعادة ، فكلّ الأرزاق إذَن من عند الله الذي في السماء ، والذي في كل مكانٍ بقدرته وبعلمه ، وبالتالي فهي حتما مضمونة فاطمئنوا واسْتَبْشِروا واسْعَدوا وما عليكم إلا أن تُحسنوا اتِّخاذ أسباب تحصيلها وتتوكّلوا علي ربكم خالقكم الذي يملك كلّ الأمور ليُيَسِّرها لكم ويزيدكم منها .. هذا ، وفي السماء أيضا مكتوب في علم الله في الكتاب المحفوظ عنده والذي مُسَجَّل فيه كل شيءٍ عن أقوالكم وأفعالكم في دنياكم وما تُوعَدون به عليها من جنة ونار في يوم القيامة ، فأحْسِنوا إذَن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام
أمَّا معني " فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴿23﴾ " أيْ يُقْسِم الله تعالي ربّ السماوات والأرض والكوْن كله والخَلْق كلهم بذاته العَلِيَّة – وهو سبحانه لا يحتاج قطعاً إلي قَسَمٍ حيث كلامه كله قَسَم مُقَدَّس مُعَظَّم مُؤَكَّد !! ولكنه حينما يُقْسِم فيكون لمزيدٍ من التنبيه والتعظيم للشيء الذي يُقْسَمُ عليه – أنَّ كلّ ما جاء في القرآن العظيم وما يقوله الرسول الكريم ﷺ هو صِدْق تامّ ليس فيه أيّ شكّ ثابت لا يَتغيَّر أبدا .. " مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴿23﴾ " أيْ كمِثْل ما تنطقونه بألسنتكم من كلامٍ دون أنْ تشكّوا مُطلقا في أنكم أنتم الذين تقولونه لا غيركم حيث هو حقيقة لا يمكن لأيّ أحدٍ أن يُكذّبها أو يُشَكّك فيها
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ﴿24﴾ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴿25﴾ فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴿26﴾ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴿27﴾ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴿28﴾ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴿29﴾ قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴿30﴾ ۞ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ﴿31﴾ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴿32﴾ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴿33﴾ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴿34﴾ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿35﴾ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿36﴾ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿37﴾ وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿38﴾ فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴿39﴾ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴿40﴾ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴿41﴾ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴿42﴾ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ ﴿43﴾ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴿44﴾ ، فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ﴿45﴾ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿46﴾
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل .. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية ﴿272﴾ من سورة البقرة ، ثم الآية ﴿187﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة﴾
إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول ﷺ وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك ، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما ، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات ﴿12﴾ ، ﴿13﴾ ، ﴿116﴾ من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل) ، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات ﴿121﴾ حتي ﴿127﴾ من سورة آل عمران ، ثم الآيات ﴿151﴾ ، ﴿152﴾ ، ﴿160﴾ منها أيضا ، للشرح والتفصيل)
إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص هؤلاء الرسل الكرام في كل القرآن الكريم وذلك لتكتمل الفوائد
هذا ، ومعني " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ﴿24﴾ " أيْ هل وَصَلَ إلى عِلْمك يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم ذلك الخَبَر المُهِمّ ، والسؤال للتشويق وللتَّعَجُّب لشَدِّ الانتباه للاهتمام به والاستفادة بما فيه من دروس وعِبَر .. إنه خَبَر وقِصَّة ضيف إبراهم المُكْرَمين ، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله تعالي لإهلاك قوم لوط ﷺ وأمرهم بالمرور على إبراهيم ﷺ فجاؤوه في صورة ضيوف علي هيئة البَشَر .. وهم مُكْرَمُون لأنه تعالي قد كَرَّمهم بطاعته التامّة له فلا يُخالِفون أيّ أمرٍ منه ، ولإكرام إبراهيم لهم حيث قَدَّم لهم أفضل الطعام واهْتَمَّ بحُسْن خدمتهم وضيافتهم
ومعني " إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴿25﴾ " أيْ هل أتاك خَبَرهم حين دخلوا عليه فسلّموا فَرَدَّ عليهم السلام وبعدها قال لهم أنتم غير معروفين لي فعَرِّفوني بأنفسكم .. وقد يكون قد قالها في نفسه أنَّ هؤلاء قوم مُنكرون لا أعرفهم
ومعني " فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴿26﴾ " أيْ فذهب إلى أهله مُسرعا مُتَسَلّلا مُتَخَفّيا من ضيوفه فحضر إليهم بعجل ممتلئ باللحم ، وهذا التصرّف الحَسَن هو من تمام إكرام الضيف وإحسان ضيافته وإشعاره بأنه قد نَزَلَ أهلا له وسهلا عليهم ليس عِبْئا
ومعني " فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴿27﴾ " أيْ جعله قريبا منهم كما يفعل المُضِيف الكريم المُحِبّ لضيفه ، فعَرَضَ عليهم الأكل مُتلَطّفا معهم مُحْسِنا العَرْض عليهم قائلا لهم هل لا تأكلون من طعامي ؟! أو قال لهم ذلك حينما رآهم لا يُقْبِلون عليه
ومعني " فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴿28﴾ " أيْ فأحَسَّ إبراهيم بداخله خوفا منهم لمَّا رأيَ امتناعهم عن الطعام رغم حُسن إكرامه ودعوته لهم .. وهنا ، ولما رأوا ما به من بعض الخوف ، كشف الملائكة له عن ذواتهم وقالوا له مُطَمْئِنِين لا تَخَفْ فنحن رُسُل الله ، وبَشَّرُوه بغلامٍ سيُولَد له وسيكون كثير العلم عندما يبلغ سِنَّ الرُّشد وهو إسحاق عليه السلام
ومعني " فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴿29﴾ " أيْ فجاءت امرأة ابراهيم مُستبشرة فَرِحَة لمَّا سمعت بهذه البُشرَيَ وهي في صَرَّةٍ أيْ في صَيْحَةٍ أيْ في حالة صِياح وضَرَبَت وجهها كما يفعل البعض عند التَّعَجُّب والاستغراب وقالت مُتعَجِّبة مُسْتَغْرِبَة مِن هذا الأمر كيف ألِد وأنا عجوز في سِنٍّ لا يمكن أن تلد فيه النساء كما أني عقيم لا ألِد أصلا حتي قبل شيخوختي ؟!!
ومعني " قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴿30﴾ " أيْ رَدَّ عليها الملائكة بما يزيل عنها تَعَجّبها واستغرابها قائلين لها أنه هكذا قال ربك مِثْل قولنا هذا الذي بَشَّرناك به ، فهو قوله سبحانه الذي لا تَبديل له ولا يَردّه ولا يمنعه أحد ، وهو حُكْمه الذي حَكَمَ وأمَرَ به بتمام قُدْرته وعِلْمه ، وهو الذي لا يستحيل عليه أيّ شيءٍ يريده بل يقول له كن فيكون كما أراد ، فلِمَ تَتَعَجَّبين إذَن ؟! وهو الخالق الكريم الحكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله الذي يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ والذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث ، العليم ، أيْ بكلّ شيءٍ ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر ، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه ، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم ..