الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1)" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1)" أيْ هذه الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة هى آياتُ الكتاب، أيْ آياتُ القرآن العظيم الذي بين أيديكم، وهي آياتُ قُرْآنٍ مُبِينٍ أي يُقْرَأ ويُبَيِّن ويُوَضِّح لقارئه كلّ شئون الحياة علي أكمل وأسعد وجه.. فالقرآن الكريم هو كتاب أيْ مَكْتُوب، وهو قرآن أيْ مَقْرُوء، وفي هذا تفخيمٌ وتكريمٌ عظيم له، وهذا يُفيد أنه مَحْفُوظ مِمَّن أنزله سبحانه تمام الحفظ ولا يُمكن تغيير أيّ حَرْفٍ فيه لأنه مكتوب عنده تعالي في السماء في علمه في اللوح المحفوظ ومكتوب في الأرض بكل وسيلة حديثة وتقليدية ومقروء دائما من المسلمين ويحفظه كثير منهم في صدورهم وبذلك يكتشفون فوراً أيّ عَبَثٍ قد يَحْدُث في أيِّ حرفٍ في أيِّ شيءٍ مكتوب من القرآن من أيِّ عابِثٍ واهِمٍ يَتَوَهَّم أنه يستطيع تغيير حرف فيه
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)" أيْ مِن المُحْتَمَلِ أن يحبَّ ويَتَمَنّيَ الذين كفروا – ومَن يَتَشَبَّه بهم في سُوئهم – لو كانوا مسلمين، أيْ سيَأتي حتماً عليهم أوقاتٌ يَتَمَنّون هذا، وذلك في أخراهم، وحتي في دنياهم، ففي دنياهم سيَحْدُث ذلك التّمَنّي قطعاً حين يرون سعادة وأمان واطمئنان ورضا ونجاح وتفوّق وتَقَدُّم ونصر المسلمين الذين يرتبطون دائما بربهم ويعملون بكل أخلاق إسلامهم بينما هم يَتَحَسَّرون علي حالهم حيث كل قَلَقٍ وتوَتّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصراعٍ واقتتالٍ مع الآخرين، ثم سيَتَمَنّون ذلك حتماً في أخراهم بداية عند موتهم ودخولهم عذابهم المَبْدَئِيّ في قبورهم ثم عند يوم القيامة والحساب النهائيّ حيث كل العذاب الذي لا يُوصَف والتعاسة التامّة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بينما المسلمون يدخلون نعيم الجنات.. فلعل هذه الأوقات في الدنيا قد يستفيقون فيها ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا سعادة المسلمين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم في الداريْن، لأنه في الآخرة لن تنفع بالتأكيد هذه الأمنِيَّات والحَسَرات بل كل نَدَمٍ وخُذلان وخُسْران.. هذا، ولفظ "ربما" يعني في الأصل في اللغة العربية أنه من المُحْتَمَل حدوث الشيء المذكور، لكن حينما يذكره الله تعالي فهو يعني حَتْمِيَّة وقوع ذلك من الذين كفروا، لعلمه سبحانه بما يدور داخل عقولهم فهو الخالق الذي يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه، ثم قد يكون هناك بعض الذين كفروا في غَفْلَةٍ تامّةٍ ولا يأتي علي فِكْرهم لحظة في دنياهم أن يكونوا مسلمين وإنما يكون ذلك في أخراهم فقط ولذلك اسْتُخْدِمَ لفظ "ربما" الذي يُفيد هذا الاحتمال
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)" أيْ اتْركهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، بعد تمام تبليغهم الإسلام وإنذارهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، اتركهم لكي يأكلوا من كل الطعام ولكي يتَمَتَّعوا كيفما يُريدون بمُتَع الحياة الدنيا علي أيّ صورةٍ سواء أكانت شرّا أم خيرا ضَرَرَاً أم نفعا، ولكي يُلْهِهم الأمل أيْ يشغلهم التّوَقّع لطول أعمارهم واستمرار أحوالهم علي ما هي عليه وطمعهم في دنياهم عن الاستعداد لأخراهم باتّباع الإسلام، اتركهم فهو متاعٌ قليل حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمُتَعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له، وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذَن قليل دنيء زائل يوما ما، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يَدْرون ما سوف يحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا، ثم في آخرتهم سيكون لهم حتما عذاب فظيع ثقيل شديد مُخيف مُتْعِس مُهْلِك لا يُمكن تَخَيّله.. هذا، والتَّرْك مِن الداعي لمَن يَدعوه رغم أنه أمرٌ استثنائيٌّ إلاّ أنَّ الداعي قد يحتاج إليه أحيانا مع المدعو حينما يراه مُصِرَّاً تمام الإصرار علي سُوئه وعِناده وجداله بغير حقّ إذ لعلّ هذا التّرْك يكون دافِعَاً له لمُراجعة ذاته لعله يستفيق ويعود لربه ولدينه الإسلام.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب، كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم.. ".. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)" أيْ فسيعلمون حتماً قريباً عاجِلَاً أو آجِلَاً – وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي لو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد – سوء نتائج فِعْلِهم هذا، في الدنيا والآخرة، إذ حين ينزل الخير المُسْعِد بالمُحسنين في الدنيا وحين يَصِلهم هم المُسيئين عذاب الله الذي يذِلّهم ويُهينهم ويَفضحهم فيها والذي سيكون بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في الآخرة حين يدخل المُحسنون درجات جناتهم بنعيمها الذي لا يُوصَف وحين يَحِلّ عليهم هم العذاب حيث يُقذفون ويُقيمون في عذابٍ دائمٍ مستمرٍّ من جهنم لا مَفَرّ منه فيما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد من عذاب دنياهم، حينها سيَعلمون وسيَعرفون وسيُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا سوء فِعْلهم ويعلمون تماما مَن الذي كان علي الحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الظلم والشرّ والفساد.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)"، "مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)" أيْ هذا تأكيدٌ علي أنَّ الأمور كلها بيده سبحانه علي حسب إرادته وحكمته وأنه علي كل شيءٍ قدير.. أيْ وما أَبَدْنَا وأفْنَيْنَا وعاقَبْنا وعذّبْنا أيَّ أهل بَلَدٍ بسبب استحقاقهم للعذاب والهلاك لإصرارهم علي سُوئهم بلا توبةٍ إلا ولها كتاب معلوم أيْ أجل ووقت مُحَدَّد مَكْتوب في كتابٍ عنده سبحانه هو اللوح المحفوظ – وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما – وبالتالي لا تسبق أبداً بكل تأكيد أيُّ أمَّةٍ من هذه الأمم المُعَاقَبَة المُعَذّبَة المُهْلَكَة أجلها أيْ وقتها المُحَدَّد المُقَدَّر لها في الهلاك أو تَتَأخَّر عنه، حيث يَستحيل ذلك، إذ لا يمكن لأحدٍ تأخيره ولو لِلَحْظَةٍ بطَلَبِ مزيدٍ من الوقت والإمهال أيْ الترْك للإصلاح فقد فات الأوَان، ولا يمكن أيضا استقدامه واستعجاله وإحداثه قبل وقته، لأنه بحكمته تعالي قد قَدَّر هذا الموعد لمصلحةٍ مَا مِن مصالح البَشَر والخَلْق سواء عَلِموها أم لم يَعلموها، حيث أحيانا قد يستعجل الظالمون العذاب استهزاءً به وتكذيباً له وكأنه سبحانه عاجز عن القيام به! وأحيانا قد يستعجل أهل الخير موتهم اشتياقاً لِجَنّة ربهم.. كذلك من المعاني في الآية الأخيرة أنَّ لكل مجموعةٍ من الناس وقتٌ محدودٌ في هذه الحياة الدنيا، ثم تنتهي ويَخْلفها من بعدها أمة أخري ثم أخري، ولكل جيلٍ أجله كذلك ثم يَخْلفه غيره، ولكل فردٍ في هذه الأمة وهذا الجيل أجله أيضا ثم يأتي مَن بَعْده، وهكذا، وسيأتيهم جميعا الموت حتماً في موعده المُحَدَّد لكلٍّ منهم بلا تقديمٍ أو تأخيرٍ.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بأنْ يُسارِع المسلم لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وأنْ يَحذر تماما تأجيل ذلك، لأنَّ أحداً لا يعلم موعد موته، وكل ما هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد، كما أنها تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُصِرِّين علي سُوئهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإيَّاك ثم إيَّاك أنْ تَسْتَهْزِيء بأيِّ شيءٍ في القرآن والإسلام والرسول (ص) أو تَسْتَكْبِر عليه أو تُعانِده أو تُكَذّب به كما يفعل المُكَذّبون بهم وإلا تَعِسْتَ تمام التعاسة فيهما
هذا، ومعني "وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)" أيْ وقال المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون للرسول الكريم محمد (ص) بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء يا أيها الذي نُزّلَ عليه القرآن كما يَدَّعِي إنك بالتأكيد مجنون – واللام للتأكيد – أيْ لا عقل لك وتقول كلاماً لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل!! إنهم حتماً بكل تأكيد كاذبون، عاقَبَهم الله بما يَسْتَحِقّون، بل هو (ص) بما معه من قرآنٍ وإسلامٍ علي تمام الحقّ والصدق والصواب والخير والسعادة، وهم يعلمون تماما ذلك داخل عقولهم بفطرتهم التي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)!! إنهم لم يلاحظوا يوما عليه (ص) وهو الذي كان مِن بينهم ومُصَاحِب مُلازِم لهم ويَعلمون تماما حُسن خُلُقه منذ صغره وكانوا دائما يُسَمّونه هم بأنفسهم الصادق الأمين أيّ علامات جنون؟! وهل كلامه أو تصرّفاته فيها تخريف أو عدم إدراك أو ما شابه هذا كالمجنون؟! وهل المجنون من المُمْكِن أن ينطق بمِثْل هذا القرآن العظيم؟! إنه علي العكس تماما هو مثال تمام الخُلُق الحَسَن المُسْعِد في كل قوله وعمله، والجميع يعلم ذلك!!.. إنهم يُسيئون إليه (ص) وإلي ما أوحِيَ إليه من قرآنٍ كريمٍ محاولين يائسين تشويه صورته لتنفير الناس عنه فلا يَقبلوا منه دين الإسلام بقولهم كذباً وزُورَاً وسوءَ أدبٍ أنه مجنونٌ لينهبوا ثرواتهم وجهودهم لأنهم به يعرفون حقوقهم ويحفظونها.. إنَّ السبب في كل أقوالهم وأفعالهم القبيحة هذه هو أنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لشِدَّة قُبْحِهم ومُرَاوَغَتِهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وغَلْقهم لعقولهم.. أيْ وقال هؤلاء المُكَذّبون أيضا للرسول الكريم (ص) لَوْمَا أيْ لَوْلَا أيْ لوْ أحضرتَ لنا الملائكة من السماء – إنْ كنتَ صادقاً فيما تَدَّعِيه أنه أُنْزِلَ عليك ذِكْر أيْ أُوحِيَ إليك قرآن – تشهد بصِدْقك وتساعدك وتُؤَيِّدك ونسمع كلامها ونراها لآمَنَّا بك أيْ صَدَّقناك!! أو تأتينا بها للعقاب على تكذيبنا لك كما أتَتْ الأمم المُكَذّبة السابقة مِن قَبْل!! فإنْ لم تأتِ بها فأنتَ إذَن كاذب!!.. إنَّ عدم استجابة الله تعالي لمِثْل هذا الطلَبَات التي تُظْهِر شِدَّة العِناد والتكذيب والغَلْق للعقول والجهل التامّ بسوء وضَرَرِ وتعاسة نتائج مِثْل هذه الأحوال من بعض الناس حين يَكفرون ويُخَالِفون ربهم وإسلامهم، يُظْهِر عظيم رحمة الله تعالي بخَلْقه وحِلْمه علي المُسيئين منهم وإرادته لإصلاحهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. إنَّ المشكلة ليست في كَوْن الرسول مَلَكَاً أو بَشَرَاً بل المشكلة فيهم هم وفي مُراوَغتهم وتكذيبهم وعنادهم واستكبارهم حتي لا يتّبعوا الإسلام الذي لو اتّبعوه لأسعدهم في الداريْن لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولاً من البَشَر ثم لو جاءهم بَشَرَاً لطَلَبوا مَلَكَاً وهكذا مُرَاوَغَة بعد مراوغةٍ لا تنتهي!!.. إنه من رحمة الله تعالي وفضله وكرمه ورزقه ووُدّه علي الناس جميعا أن يُرْسَل إليهم رُسُلَاً منه أيْ مَبْعُوثين يكونون منهم بَشَرَاً مثلهم يعرفونهم فيُصَدِّقونهم ويَثقون بهم وبحُسن خُلُقهم ويُطَبِّقون الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم ولو كان الرسل ملائكة لكان من المُمْكِن أنْ يَسْتَثْقِل بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!!
ومعني "مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)" أيْ هذا ردٌّ حاسِمٌ من الله تعالي علي أمثالهم يُخْرِس به ألسنتهم.. أيْ إننا لا نُنَزّل الملائكة إلا معها الحقّ أيْ الصدق والعدل، ومن أجله، وبكلّ حِكْمَةٍ ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تنزل له، وعلي حسب حِكْمتنا وعِلْمنا وتقديرنا ورحمتنا بما يُحَقّق المصلحة لخَلْقنا، كأنْ تَنْزِل بوَحْينا لرسلنا بكُتبنا التي فيها ديننا الإسلام الذي يُسعد الناس في الداريْن لو عملوا به، أو بعذابنا لمَن يَسْتَحِقّه منهم بسبب إصرارهم علي سُوئهم، أو بعَوْننا ونصرنا للمسلمين الصالحين المُحْسِنين، أو بما شابه هذا مِمَّا يُحِقّ الحقّ ويُبْطِل الباطل، لا حسبما يَطلبه المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون المُسْتَهْزؤن.. ".. وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)" أيْ ولو نَزّلنا الملائكة مع الرسول (ص) وبَقى هؤلاء المُكَذّبون علي تكذيبهم مع ذلك لَسُرِّعَ لهم العذاب المُهْلِك المُناسِب وما كانوا إذَن حينها بالتالي مُنْظَرِين أي مُمْهَلِين أيْ لا يُمْهَلُوا أيْ لا يُؤَخَّرُوا ولا يُتْرَكُوا ولو للحظةٍ حتي يُراجِعوا أنفسهم ويَتوبوا ويُؤمنوا، بل يأخذهم العذاب فوراً، فهذه هي طريقتنا مع مِثْل هذا النوع من المُكَذّبين أمثالهم والذين سَبَقوهم أنهم كانوا إذا اقترحوا وطلبوا مُعجزة واستجبنا لهم وأعطيناهم إيّاها ولم يؤمنوا نُعذّبهم بالإهلاك لأنَّ هذا هو أسوأ أنواع التكذيب ويدلّ علي تمام الإصرار وألاّ أمل في الاستجابة بعد ذلك، ونحن لا نريد أن نُهْلِك هذه الأمة التي بَعَثنا فيها خاتم رسلنا نبي الرحمة للعالمين (ص) ومعه آخر كتبنا القرآن العظيم المستمرّ معهم يهديهم لكل خير وسعادة حتي يوم القيامة بسبب إجابة مقترحات أولئك المُعانِدين المُستكبرين، بل من رحمتنا نَتركهم الفُرْصَة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لنا ولإسلامهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن.. إنَّ عدم الاستجابة لمِثْل هذا الطلَبَات التي تُظْهِر شِدَّة العِناد والتكذيب والغَلْق للعقول والجهل التامّ بسوء وضَرَرِ وتعاسة نتائج مِثْل هذه الأحوال من بعض الناس حين يَكفرون ويُخَالِفون ربهم وإسلامهم، يُظْهِر عظيم رحمة الله تعالي بخَلْقه وحِلْمه علي المُسيئين منهم وإرادته لإصلاحهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)" أيْ هذا مزيدٌ من الرَّدِّ القاطِع المُزَلْزِل المُخيف المُخْرِس للألْسِنَة، علي المُكَذّبين المُسْتَهْزئين الذي قالوا ".. يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)"، حيث فيه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسوله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما، وكذلك فيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً حافظهم وناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم هم ودينهم الإسلام علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ إنّا نحن لا غيرنا الله الخالق القادر علي كل شيءٍ بذاتنا العَلِيَّة وبعظيم قُدْرَتنا وعِلْمنا وحكمتنا ورحمتنا وبما لنا من كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، الذين نَزّلنا الذكْر أيْ القرآن العظيم الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. هذا، وقد سُمِّيَ القرآنُ ذِكْرَاً لأنَّ فيه كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أيْ الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. هذا، واجتماع كلمة "إنّا" مع "نحن" يُفيد التأكيد التامّ علي الهَيْبَة والعَظَمَة والقُدْرَة والعلم والحِكْمة والرحمة ويُضْفِي كلّ تعظيمٍ علي القرآن الكريم حيث هو منه ومُنْتَسِبٌ له سبحانه وكذلك يُضْفِي كل تكريمٍ وتشريفٍ علي مَن أُنْزِلَ عليه (ص).. ".. وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)" أيْ ونحن الذين لهذا الذكر بالتأكيد بلا أيِّ شكّ حافظون – واللام للتأكيد – أيْ حارِسُون مُتَكَفّلون بحِفظه وحمايته، بما يُفيد أنه مَحْفُوظ مِمَّن أنزله سبحانه تمام الحفظ ولا يُمكن تغيير أيّ حَرْفٍ فيه لأنه مكتوب عنده تعالي في السماء في علمه في اللوح المحفوظ ومكتوب في الأرض بكل وسيلة حديثة وتقليدية ومقروء دائما من المسلمين ويحفظه كثير منهم في صدورهم وبذلك يكتشفون فوراً أيّ عَبَثٍ قد يَحْدُث في أيِّ حرفٍ في أيِّ شيءٍ مكتوب من القرآن من أيِّ عابِثٍ واهِمٍ يَتَوَهَّم أنه يستطيع تغيير حرفٍ فيه، فهذه هي الأسباب الإلاهية ثم البَشَرِيَّة لحِفْظه حتي قيام الساعة، وما يعلم جنود ربك إلا هو سبحانه (برجاء لمزيد من الشرح والتفصيل مراجعة الآية (42) من سورة فُصِّلَت " لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ").. هذا، ومن معاني "له" كذلك أنه الرسول (ص) حيث الله تعالي هو حافِظٌ له ليَتَمَكّنَ من تبليغ الإسلام للناس كما قال ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.." (المائدة:67) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)"، "وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)" أيْ ولقد أرسلنا رُسُلَاً كثيرين من قبلك يا رسولنا الكريم محمد في شِيَع الأوَّلِين أيْ في فِرَق وأمم وطوائف ومجموعات السابقين لكم ليكون لكلّ البَشَرَ رسلٌ يدعونهم للإسلام ليسعدوا وذلك لرحمتنا بهم ولحُبِّنا لهم وحرصنا علي سعادتهم، فلا يَحْضر إليهم أيُّ رسولٍ إلا كان المُكَذّبون يَسْخرون منه، تماماً كما يفعل معك الآن السفهاء حولك، وذلك لأنَّ المُكَذّبين فى كل زمانٍ ومكانٍ يَتَشابهون فى قُبْح أقوالهم وأفعالهم وسوء أخلاقهم، فأهلكناهم بسبب إصرارهم علي كفرهم وعبادتهم لغيرنا واتّباعهم لغير ديننا الإسلام وشرورهم ومفاسدهم وأضرارهم، ولو أصَرَّ مَن حولك علي التّشَبُّه بهم في سُوئهم سيُعاقبون ويُعَذّبون حتماً مِثْلهم بما يُناسبهم.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، حيث يُخبرهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم، من خلال بيان أنَّ تكذيب بعض مَن حولهم لهم ليس مُسْتَغْرَبَاً مُسْتَبْعَدَاً بل هو مُتَوَقّع يَحْدُث في كلّ عصر، فلا يَتَعَجَّبُوا منهم بالتالي إذَن ولا يَتَأثّروا بهم ولا يَحزنوا علي عدم إسلامهم فالأمر ليس تقصيراً منهم ما داموا قد أحسنوا دعوتهم ولْيَصبروا وليستمرّوا علي عملهم بأخلاق إسلامهم وليُحسنوا دعوة الغير له وليَتَشَبَّهوا بالرسل الكرام ليُنْصَرُوا حتماً مِثْلهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (65) من سورة يونس "وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)")
ومعني "كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)" أيْ هكذا دائماً نُدْخِله أيْ التكذيب والاستهزاء ونحوه في قلوب أيْ عقول المُجْرِمين الحالِيِّين كما أدْخَلناه في عقول المجرمين الأوّلِين السابقين فلا يؤمنون بالله ورسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وبكتبه وآخرها القرآن العظيم، فهذه دَوْمَاً هي سُنَّتنا أيْ طريقتنا وأسلوبنا في التّعامُل مع أمثال هؤلاء المُصِرِّين علي إجرامهم وسُوئهم.. والمقصود أنهم هم أصلاً لم يشاءوا الهداية لله وللإسلام، بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، وبالتالي إذَن لا يشاؤها الله لهم أيْ يتركهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أَدْخَلَ التكذيب لعقولهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروه وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذَن، ويهديه إليه سبحانه، إلي طريقه، إلي الإسلام، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسباب هذه الهداية، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، والمُجْرِمُون هم الذين يرتكبون الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. كذلك من معاني الآية الكريمة: كما سَلَكْنا أيْ أَدْخَلْنَا كُتُبَ الرسل السابقين فى قلوب أيْ عقول أولئك المُجرمين المُكَذّبين المُسْتَهْزئين السابقين ففهموها ولكنهم لم يؤمنوا بها تكذيباً وعِنادَاً واستكباراً واستهزاءاً، نَسْلُك القرآن العظيم فى قلوب المجرمين الحالِيِّين بأنْ نجعلهم يسمعونه ويفهمونه ويُدْركون معانيه دون أن يستقرّ فى قلوبهم استقرار تصديقٍ واتّباعٍ وعملٍ به، وذلك لتمام تكذيبهم وعنادهم واستهزائهم وإغلاقهم لعقولهم بلا أيِّ عودة لله وللإسلام، وبالتالي إذَن فليس للكفار حُجَّة بأنهم ما فهموا القرآن والإسلام كما فهمه الذين آمنوا حيث هو تعالي برحمته يَسْلك وَصَاياه المُسْعِدَة لجميع خَلْقه أيْ يُدْخلها في قلوبهم أي عقولهم من خلال فطرتهم في هذه العقول والتي هي مسلمة أصلا ومُسْتَعِدَّة ومُتَلَهِّفَة لاستقبال هذه الوصايا التي بكُتُبِه لتعمل بها لتَسْعَدً في الداريْن (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولو أَنْصَفَ الكافرون والمُتَشَبِّهُون بهم وكانوا عادِلين لاختارتها عقولهم كما فَعَلَ المؤمنون ولكنهم كانوا مُجرمين فاختاروا الإجرام والشرَّ والتكذيب والتعاسة وتركوا باختيارهم الخير والتصديق والسعادة
ومعني "لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)" أيْ لا يُصَدِّق المُجْرِمُون المُكَذّبون بهذا القرآن العظيم، وبالرسول الكريم (ص) الذي أُوحِيَ إليه فيما يُبَلّغه لهم عن ربه من إسلامٍ، وبالعذاب الدنيويّ والأخرويّ بما يُناسب إصرارهم علي إجرامهم، ويُصِرُّون علي ذلك مع أنه قد مَضَت وذَهَبَت وثَبَتَت وتَقَرَّرَت وسَبَقَت صِفَة وطريقة وخَبَر هلاك السابقين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم مِمَّن يعرفونهم ويتناقلون تاريخهم وأخبارهم، فلقد سَبَقَت طريقة الله في عقاب سابقيهم أمثالهم بعدما أمْهَلَهم وصَبَرَ عليهم كثيراً وفي هزيمتهم ونَصْر المسلمين المُسْتَحِقّين للنصر، ولقد عرفوا أنه قد مَضَيَ أيْ نَفَذَ عقاب الله فيهم، فهذه هي طريقة الله تعالي وأسلوبه وعادته دائما في كلّ أمثالهم الذين مضوا وذهبوا وانتهوا قبل ذلك، ولن تَتَغَيَّر مطلقا في أيّ زمانٍ ومكان إلي يوم القيامة، فأمثال هؤلاء هم عِبْرة لغيرهم، فاعتبروا إذَن أيها المُجْرِمون المُكَذّبون وخُذوا الدروس مِمَّا حَدَثَ لهم واستجيبوا لربكم ولإسلامكم لتسعدوا في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة).. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)"، "لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)" أيْ هذا بيانٌ لشِدَّة إصرار المُجرمين المُكَذّبين علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث هم مهما شاهدوا وظَهَرَ لهم وأدْرَكوا ووَصَلَ إلي عِلْمهم أيّ آيةٍ عظيمةٍ مُمْكِنَةٍ مَحْسُوسَةٍ مَرْئيّة أيْ دليلٍ قاطعٍ حاسمٍ سواء أكان هذا الدليل في الكوْن في كل مخلوقات الله المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم كان دليلا حاسما في القرآن العظيم، فإنَّهم لا يؤمنون بها أيْ لا يُصَدِّقون بها مهما كانت من حيث العَظَمَة والوضوح والحَسْم، لأنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في إغلاق عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فإنّ كثرة الآيات وتنوّعها تُفيد فقط مَن كان طالباً للحقّ بصِدْقٍ ولكنه جاهلٌ أو مُتَشَكّكٌ أو سَيّء الفهم فإذا خَفِيَت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيرها فيُؤمِن.. أيْ ولو فَتَحْنا على أمثال هؤلاء المُجرمين المُكَذّبين باباً أيْ مَدْخَلَاً من السماء فاستمرّوا صاعِدين فيه حتى يشاهدوا ما فيها من عجائب مُلْك وخَلْق الله تعالي، لَمَا آمنوا بل ولقالوا من شِدَّة تكذيبهم وعنادهم سُكّرَت أبصارنا أيْ سُحِّرَتْ بالسِّحْر وأصبحت كأعين السكران تري الأشياء مُخْتَلطة وسُدَّتْ وأُغْلِقَتْ كما يُسَدّ ويُغْلَق الباب وأُغْشِيَت كأنَّ عليها غِشاء ومُنِعَت من النظر الحقيقي فأصبحنا نرى أشياء لا حقيقة لها وما رأيناه ليس بحقيقةٍ بل هو وَهْمٌ بل ما نحن إلا أناس مسحورون في عقولنا من محمد فهو ليس برسولٍ بل هو ساحرٌ واضح السحر!! وهم أكثر مَن يعلم صِدْقه وأمانته حيث هم الذين كانوا يُسَمّونه بأنفسهم الصادق الأمين! إنهم يقصدون بذلك ادِّعاء أنَّ القرآن العظيم ليس وحيا من الله تعالي ليُسْعِد البشرية في الداريْن وإنما هو سِحْر يَسحر العقول بأوهام وتخيُّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل وأنَّ الرسول (ص) ما هو إلا ساحر ولا يُوحَيَ إليه أيّ شيء بل هو كذاب كثير الكذب!! إنهم حتما هم الكذّابون، لأنَّه بكل بَسَاطَةٍ وعُمْقٍ إذا كان الرسول (ص) ساحرا فلماذا لم يَسحرهم هم أيضا ليُؤمنوا كما سَحَر المؤمنين به؟!! فهم إذن كاذبون أشدّ الكذب بكلّ تأكيد!! ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. إنَّ القرآن العظيم هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة ، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ مُتَكَامِلٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!!.. إنَّ المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتما بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وقتية لا دائمة وأقل منها مهما عظمت! إنَّ معجزة القرآن حتما كافية لأنه أعجزَ ويَستمرّ يُعْجِز أيَّ أحدٍ أن يأتي بما أتَيَ به من نُظُمٍ وأخلاقيات وتشريعات تُسعد كل البَشَر في كل مكان وكل زمان بكل المُتَغَيِّرات حتي يوم القيامة؟!! وهو يُتْلَيَ عليهم أيْ يُقرأ باستمرارٍ ويَستمعون له ويُمكنهم كلهم الرجوع إليه إذا أرادوا في أيّ وقتٍ وهو إعجاز مستمرّ مع الإنسانية كلها حتي يوم القيامة لأنه محفوظ بينهم بحفظ الله له بينما أيّ معجزة أخري حِسِّيَّة ستنتهي بانتهاء وقتها رغم عظمتها ولا يراها إلا فقط مَن كان حاضرا حينها شاهدا عليها وقد كانت فقط مُناسِبة لعصرها أمَّا بعد ذلك فلم تَعُد مُلائِمة وتَبْقَيَ عِبْرَة تاريخية يُعْتَبَر بها! فأيّ المعجزات إذن أعظم وأكثر استمراريّة في تأثيرها؟!! إنها حتما معجزة هذا القرآن العظيم!! فهذا ما يُقِرّ به أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل!
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ (31) قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)"، "وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)"، "إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أننا نحن الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَنا وتوكّل علينا وحدنا سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قدْرتنا علي كلّ شيءٍ وعِلْمنا به، أننا قد خلقنا في السماء منازِل ومَدَارَات تَنْزِلُها الكواكبُ وتَدُورُ فيها أثناء سَيْرها، وزيّناها للناظرين المُشاهِدين إليها بكواكب ونجوم مُضيئة كالمصابيح هي مُفيدة لكم أيها الناس لمعرفة الاتّجاهات ومُسْعِدَة بمنظرها وبإضاءتها الخافِتَة المُناسِبَة لسكون الليل واتّخاذه للراحة والاسْتِجْمَام ولولاها لكانت السماء شديدة الظلام كئيبة مُخِيفَة مُتْعِسَة.. "وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)" أيْ وكذلك من بعض علامات قدْرتنا علي كلّ شيءٍ ورحمتنا بكم وإسعادنا لكم، أننا قد حفظنا السماء تماماً بقدْرتنا وبجنودنا التي لا يعلمها إلا نحن مِن أيِّ عابثٍ أو مُخَرِّب يَظنّ مُتَوَهِّمَاً أنه يُمكنه العَبَثَ بأيّ ذرّة منها أو تخريبِ أيّ شيءٍ فيها، سواء أكان هذا العابِث المُخَرِّب بَشَرَاً أم غيره من المخلوقات التي يعلمها خالقها وحده، لأنّ معني شيطان في لغة العرب هو كلّ مُفْسِدٍ مُتَمَرِّدٍ علي الخير بعيدٍ عن الحقّ مِن أيِّ مخلوق، ومعني رجيم أيْ مَرْجُوم أيْ الذي يُبْعَد ويُرْجَم ويُقْذَف بما يمنعه عن ضَرَره.. "إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)" أيْ لكنْ مَن أصَرَّ مِن هؤلاء العابِثين المُخَرِّبين علي عَبَثه وتخريبه واجتهدَ بشدّة وحاوَلَ أنْ يَسْتَرِقَ السمع أيْ يَخْتَلِسه أيْ يَسْرِقه أيْ يستمع بحِيلَةٍ وفي خفاءٍ ما أمكن إلي بعض أسرار الملأ الأعلي أيْ ما يَدُور في السماوات العُلا من تحرّكات الملائكة والكواكب وغيرها من المخلوقات، لكي يُجَهِّزَ لشَرِّه بالمعلومات التي يظنّ أنه سيَأخذها مِن هذا الاختلاس للسمع، بأجهزةٍ حديثةٍ أو ما شابه هذا، فإنه من تمام حِفْظنا لكوْننا لكي يَنْعَمَ ويَسعدَ بنِعَمِه كلّ الخَلْق، فإنَّ هذا العابِث المُخَرِّب بمُجَرَّد بداية عَبَثه فإنه يُصابُ بخَيْبَة الأمل حيث سيُصابُ بما هو أشدّ وأعظم الذي سيُوقِفه عند حَدِّه إذ يَتْبَعه أيْ يسير خَلْفه ويُلاحِقه ويُدْركه ويُسيطر عليه شهابٌ مُبينٌ أيْ واضحٌ له ولغيره مِمَّن يُدَقّق النظر بشكله وبتأثيره حيث يمنعه من اسْتِراق السمع وفِعْل ما يريد من ضَرَر، والشهاب – جَمْعها شُهُب – هو شعْلَة نارٍ ساطِعَة ويفسرها بعض العلماء بأنها عبارة عن تفريغ شحنات كهربائية أو حرارية بين الكواكب تحدث بين الحين والحين لتحقيق تمام ترابطها وضبط حركتها وأحيانا تُري بالعين المجردة دون احتياجٍ لأجهزة علمية.. أو قد يُصاب بغير الشهاب من مخلوقات الله في أرضه أو سمائه والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه.. هذا، ومن معاني تمام حِفْظه تعالي لكوْنه، حفظه أيضا التامّ لقرآنه الكريم وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، كما قال تعالي "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9) (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني)، لأنه هو مَصْدَر إصلاح البَشَر وإكمالهم وإسعادهم في الداريْن وبدونه يَفسدون ويَنقصون ويَتعسون فيهما.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه لو أراد بَشَرٌ خيراً مَا من خلال الاستماع والمُشَاهَدَة لحركات الكواكب والنجوم وغيرها لدراستها لتَعَلُّم عِلْمٍ ينفع الناس أو للتّعَرُّف علي قُدْرَة الخالق وعظمته أعانه تعالي ووَفّقه بتيسير أسباب ما يريد
ومعني "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)"، "وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)"، "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)"، "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أننا نحن الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَنا وتوكّل علينا وحدنا سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل) ، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قدْرتنا علي كلّ شيءٍ وعِلْمنا به، أننا وحدنا لا غيرنا قد مَدَدْنا الأرض أي بَسَطْناها طولاً وعرضاً إلى المَدَىَ الذى لا يُدْركه البصر ليَتَيَسَّر لكم الاستقرار عليها والسعي فيها والانتفاع والسعادة بخيراتها – ولا يَتَعارَض مَدَّها وبَسْطها مع كوْنها كُرَوِيَّة لأنَّ مَدَّها وبَسْطها هو على حسب رؤية العين وكُرَوِيَّتها هي علي حسب الحقيقة – وكذلك جعلنا ووَضَعْنا فيها رواسي أيْ ما يُبقيها راسِيَة ثابتة، كالجبال التي فوقها وكقُوَيَ الجاذبية التي بداخلها ونحوها، حتي لا تَضطّرب وتهتزّ بمَن عليها بل تظلّ ساكنة لتَتَمَكّنوا مِن السَّكَن بأمانٍ علي سطحها والعيش والتّمَتُّع فيها، وأيضا أنبتنا فيها أيْ أنْشَأنا وأوْجَدنا فيها وأخرجنا منها من كل شيءٍ مَوْزُون أيْ مُقَدَّر مَضْبُوط بحِكْمتنا وعِلْمنا ورحمتنا بكلِّ دِقّةٍ كأنه موزون بميزانٍ دقيقٍ مِمَّا يحتاجه خَلْقنا ويسعدهم من كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لهم يحتاجونه لجميع أحوال وشئون حياتهم ومن كل ما شأنهم أن يطلبوه لاحتياجهم إليه لمنافعهم ولسعاداتهم وإنْ لم يَطلبوه بالفِعْل حيث قد أعَدَّ وجَهَّزَ لهم الكوْن كامل النِّعَم والخيرات والاحتياجات قبل خَلْقهم، وهو تجهيزٌ شاملٌ لِمَا يُطْلَب حالياً أو مستقبلاً حتي يوم القيامة.. "وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)" أيْ ووَفّرنا وجَهَّزنا لكم فيها كل أسباب المَعِيشَة – جَمْعها مَعَايِش، مُتَنوّعة الأشكال – السَّهْلَة المُيَسَّرَة المُمْتِعَة المُسْعِدَة، وهي ما يُمكن العَيْش أيْ الحياة به بكل سعادة، مِن عقلٍ وفكرٍ وروح وجسد وصحة وقوة، وهواء وماء وشمس وضوء وجاذبية، وبحار وأنهار، وزروع وثمار ودَوَابّ، وما يُؤْكَل وما يُصْنَع وما يُلْبَس وما يُتَّخَذ دواء وما يُتَزَيَّن به وما يُتاجَر فيه ويُتَكَسَّب ويُرْبَح منه، ونحو ذلك مِمَّا يَنفعكم ويُمَتّعكم ويُسعدكم.. ".. وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)" أيْ وأيضا جعلنا أيْ خَلَقنا لكم من الذرِّيَّة والخَدَم والدوابِّ ونحو ذلك مِمَّن تنتفعون وتسعدون به ومِمَّن أنتم لستم لهم برازقين أيْ ليس عليكم رزقهم وإنما هو علينا لأنه مَا مِن دابَّةٍ فى الأرض إلا علينا وحدنا رزقها فقد أعطيناكم ووهبناكم إيّاهم وتَكَفّلنا نحن بأرزاقهم من كرمنا وفضلنا ورحمتنا وحبنا لخَلْقنا وحِرْصنا علي إسعادهم فأنتم لكم النفع ونحن علينا الرزق (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (6) من سورة هود " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)" أيْ وأيضا ما من شيءٍ في هذا الكوْن من رحماتنا وخَيْراتنا وأرزاقنا وتقديراتنا وتدبيراتنا وترتيباتنا للناس وللخَلْق جميعا في كوْننا من أجل منافعهم وسعاداتهم إلا عندنا خزائنه – جَمْع خَزِينَة وهي ما تُخَزَّن فيها الأشياء – من جميع الأصناف والمقصود أننا نملك كل الأشياء وهي تحت إرادتنا وقُدْرَتنا وتَصَرّفنا وعِلْمنا وحِكْمتنا ورحمتنا وقادرون حتماً على إيجادها بلا جهدٍ أو إبطاءٍ حيث نحن وحدنا الذين نَمْلك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا وما شابه ذلك ولو مَنَعنا شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها، أمَّا غيرنا من خلقنا من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزقنا نحن خالقهم ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورزقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مرزوقون به مِنّا قد مَلّكناهم إيَّاه لفتراتٍ ونحن الذين يَسَّرَنا لهم أسبابه وأعَنَّاهم عليها بما أعطيناهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا، فاطلبوا أيها الخَلْق من خالقكم وحده سبحانه الرزق، وأحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما تستطيعون، وسيُيَسِّره لكم حتما، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لكم ويُعينكم عليه مِن خَلْقه.. وفي هذا تذكير للمسلمين ليطمئنوا تماما علي ضَمَان أرزاقهم.. ".. وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)" أيْ ولا نُعْطِيه لخَلْقنا إلا بمِقْدارٍ مُحَدَّدٍ دقيقٍ مَضْبوطٍ في توقيتٍ وبأسلوبٍ نافِعٍ مُسْعِدٍ لا مُضِرٍّ مُتْعِس، فالخزائن كلها بيدنا نُعطي مَن نشاء ونَمْنع من نشاء بحسب رحمتنا الواسعة وحِكْمتنا البالِغَة وبتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ دقيقٍ ليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نفع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم، فحركة كلّ شيءٍ مُقَدَّرَة بمنتهي الدِّقّة بما يُحافظ علي نظام كوْننا وبما يحقّق تمام المنفعة والسعادة لكلّ خَلْقنا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (27) من سورة الشوري "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)" أيْ وكذلك بَعَثْنا وأَطْلَقْنا وحَرَّكْنا الرياح التي حالها وتَتّصِف بأنها لواقح أيْ تُلَقّح السحاب – كما يُلَقّح الذكر الأنثي – بشُحنات لا يعلم حقيقتها الكاملة إلا نحن خالقها فأَدَّت إلي إنتاج ماءٍ فأنزلناه من السُّحُب من السماء فأسْقيناكم إيّاه أيْ جعلناه لسُقْياكم أيْ لشُرْبكم ولشُرْب مَواشيكم وأرضكم، فبه تحيون، وبه أحيينا كل حيّ، وبه، وإضافة لتلقيح حبوب اللقاح من ذكور النبات مع إناثه والتي تحملها الرياح، أنبتنا وأخرجنا كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. إنَّ صِفَة "لواقح" تعني أنَّ الرياح تُلَقّح السُّحُب فتُكَوِّن ماءً وتُلَقّح الأشجار فتُكَوِّن زهوراً وثماراً.. ".. وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)" أيْ وليس أيّ أحدٍ منكم أيها الناس خازنين لهذا الماء فأنتم لستم بقادرين على تخزينه وحفظه فى الأنهار والآبار والعيون وغيرها وإنما نحن وحدنا القادرون على ذلك رحمة بكم وإحسانا إليكم ولولا هذا التخزين لحُرِمْتُم منه وهَلَكْتم ولو شئنا لم نُنزله ولجعلناه يَجِفّ ويَنتهي فلستم أنتم إذَن مالِكين له بحيث يمكنكم أن تكونوا مانعين إيّاه عمَّن تشاءون ومُعْطِين مَن تشاءون وإنما نحن الخازنون المالِكون له فنحن الذين نَصْنَعه ونُكَوِّنه ونحن الذين ننزله متى شِئْنا علي مَن أردنا ونمنعه متى شئنا عَمَّن شئنا
ومعني "وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)"، "وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)"، "وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)" أيْ وإنّا لنا كلّ صفات الكمال الحُسْنَي والتي منها أنّنا نحن وحدنا – واللام مع إنّا ونحن لتمام التأكيد علي ما سيُقال – الذين في كلّ لحظة من اللحظات وكما يُثبت الواقع ذلك نُحْيي مخلوقاتٍ ونرعاها ونرَبِّيها ونحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، ونُميتُ أخري بأخذ أرواحها منها، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذننا، ونحن الوارثون أيْ وجميع الخَلْق وكل شيءٍ يرجع ويصير إلينا وحدنا لا إلي غيرنا كما يصير الميراث للوارث فنحن الوارثون لهذا الكوْن بعد فنائه الباقون بعد زواله، وبالتالي وبما أننا قادرون علي كل شيءٍ عالِمون به فإننا كذلك بمجرّد أن نقول لأيّ شيءٍ كُنْ فيكون كما نُريد من غير أيّ جهدٍ ولا وقتٍ ولا غيره مِمَّا يحتاجه البَشَر من أسبابٍ ولا يُمكن لشيءٍ أن يَمتنع أو يُخالِف فسَنُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوني إذَن واشكروا لي وتوكّلوا عليَّ وحدي لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. "وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)" أيْ هذا بيانٌ لكمال علمه تعالي بعد بيان كمال قُدْرَته.. أيْ وحتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ قد علمنا أوائل الخَلْق منكم وأواخرهم منذ آدم حتي يوم القيامة أيْ مَن تَقَدَّمَ منكم ولادةً وموتاً ومَن تَأَخّر عن غيره في ذلك ولم يَمُتْ بَعْد أو لم يُخْلَق بَعْد في عالَم الأحياء.. وكذلك من المعاني أننا بالقطع قد علمنا المُتَقَدِّمين المُتَفَوِّقِين منكم في الطاعة والخير من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والمُتَأَخّرين المُفَرِّطِين المُقَصِّرين فيها بعضها أو كلها.. "وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)" أيْ وإنَّ ربك حتماً – إنَّ واللام للتأكيد علي ما سيُقال – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل، أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، هو وحده لا غيره يَحْشرهم يوم الحَشْر أيْ يوم القيامة أيْ يَجمعهم جميع البَشَر المُسْتَقْدِمين والمُسْتَأخِرين في وقتٍ واحدٍ حين يَبْعثهم من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم ليُحاسبهم علي أعمالهم وأقوالهم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وما دام الأمر كذلك فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)" أيْ إنَّ ربك تعالي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وعليم أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقه، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي حكيم في الإثابة والتعذيب عليم تماما بمَن يَسْتَحِقّ هذا أو ذاك وبمقدار استحقاقه
ومعني "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أننا نحن الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَنا وتوكّل علينا وحدنا سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل) ، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قدْرتنا علي كلّ شيءٍ وعِلْمنا به، أننا وَحْدنا لا غيرنا قد أوْجَدنا الإنسان من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ من صَلْصَالٍ وهو طين أيْ تراب وماء يتمّ تجفيفه حتي يُصبح له صَلْصَلَة أيْ صوت مثل صوت الفَخَّار حين يُطْرَق عليه، وهذا الصلصال هو كان من حَمَأٍ أيْ طينٍ تَغَيَّر واسْوَدَّ من طول مجاورة الماء وهذا الحمأ هو مَسْنُون وهو لفظ له عدة معاني منها مُصَوَّر أيْ مُشَكَّل علي شَكْل آدم أول إنسان – ثم بَقِيَّة البَشَر منه يكونون بالتناسل فيما بين الذكور والإناث – ومنها مُتَغَيِّر الرائحة فتصبح كريهة ومنها مَصْبُوب ومنها أمْلَس وكلها مُجْتَمِعَة تُؤَدِّي ذات المعني المقصود وهو أنَّ الإنسان مخلوقٌ من طينٍ وبالتالي وما دام أصله هكذا فعليه إذَن ألاّ يَتَكَبَّر في الأرض علي مخلوقات الله ويَظلم ويُفْسِد فيَتعس ويُتْعِس مَن حوله في دنياهم وأخراهم!!.. بل عليه لكي يَسعد فيهما أن يَعبد أيْ يُطيع خالقه وحده بلا أيّ شريكٍ ويتوكّل عليه ويشكره علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأهمها نعمة إيجاده حيث أوْجَده من عدمٍ لينتفع ويسعد في هذه الحياة الدنيا وأرشده بالقرآن للإسلام الذي يُصلحه ويُكمله ويُسعده في الداريْن وسَخَّرَ له كل ما فيها وأعطاه كلَّ إمكاناتٍ تُمَكّنه من ذلك كالعقل والقوّة والخامات المتنوّعة ونحو هذا.. وخلاصة القول أنَّ عليه أن يكون نِعْمَ الخليفة في الأرض ويُوصِي مَن يَخْلفه بهذا (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)" أيْ وأيضا خَلَقنا مخلوقاتٍ تُسَمَّي الجِنّ – والجنّ في لغة العرب كلّ مخلوقٍ خَفِيّ لا تراه العين – مِن قَبْل خَلْق آدم حيث كل المخلوقات قد خُلِقَت قَبْل خَلْق الإنسان ليكون كل شيءٍ علي الأرض مُجَهَّزٌ له لينتفع به، بعضها خُلِقَ من نار السَّمُوم أيْ من مواد ساخنة شديدة الحرارة كما أنها خفيفة الحركة سريعة الاختراق لأيِّ مَسَامّ أيْ خروق دقيقة، وهذا يعني أنَّ هناك مخلوقات لا يعلمها إلا هو سبحانه وكلها لها مَهامّ في الكوْن من أجل منفعة الإنسان، فهو قادر علي كل شيءٍ حيث يَخلق ما يشاء مِمَّا يشاء فيَخلق مثلا مِمَّا هو بارد لَزِج كالطين ومِمَّا هو حارّ خفيف كالنار ومن غير ذلك من موادّ، وكلها حتما مَخلوقة لا خَالِقَة فلا تُعْبَد إذن حيث البعض قد يعبدون مخلوقاتٍ غير الله الخالق تعالي!!
ومعني "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قال ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – للملائكة جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه، قال لها إني خالقٌ أيْ سَأُوُجِد مِن عَدَمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ بَشَرَاً أيْ إنساناً له بَشْرَة وروح وعقل وأجهزة ويتَكَوَّن بعد ذلك علي مراحل دقيقة في بطن أمه، سأَخْلُقه من صلصالٍ من حَمَأٍ مَسْنُون (برجاء مراجعة معني ذلك في الآية قبل السابقة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها)
ومعني "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)"، "فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)"، "إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ (31)" أيْ فإذا صَوَّرته وشَكّلْته علي الصورة التي اخترتها له وأكملتُ خَلْقه وجعلته فى أحسن تقويمٍ أيْ في أكمل وأفضل تقديرٍ وشَكْلٍ وصُورةٍ مُتَّصِفَاً بأجمل ما يكون من الصفات الجسدية والنفسية والعقلية سَوِيَّاً أيْ سليما خاليا من الخَلَل والاضطراب والنقصان مُجَهَّزَاً لتحقيق منافعه بكل تَنَاسُقٍ وإحكامٍ وإتقانٍ وإحسان، وأدْخَلْتُ فيه روحَاً مِن أمري وإذني وقدْرتي لتُحَرِّكه وتُعطيه الحياة والتي لا يعلم سِرَّها إلا نحن خالقه لينطلق بهذه الروح في حياته فينتفع ويسعد بها تمام الانتفاع والسعادة، فحينها بلا أيِّ تأخيرٍ قَعُوا – من الوقوع – أي اسقطوا له مُنْحَنِين مُعَظّمِين علي سبيل التكريم والتحيّة لأنّ السجود بمعني العبادة لا يكون إلا لله تعالي.. وفي هذه الآيات الكريمة تذكيرٌ بالتكريم العظيم للإنسان ليستشعر مَكَانَته فيكون علي مستوي هذه المَكَانَة فلا يَتَدَنَّيَ لأسفل سافِلين ويُهين كرامته بفِعْل الشرّ المُضِرّ المُهين المُذِلّ المُتْعِس وإنما يفعل دائما كلّ خيرٍ نافع مُعِزّ مُسْعِد في الداريْن، فقد سَوَّاهُ سبحانه علي أفضل صورةٍ ووَضَعَ فيه تعالي جزءَاً من روحه أيْ قدْرته ليكون علي صِلَةٍ تامَّةٍ دائمةٍ معه فيطمئنّ ويسعد تمام الاطمئنان والسعادة بذلك في دنياه وأخراه، وأسجدّ له الملائكة كدَلالَةٍ علي أنّ الأرض كلها بما فيها من مخلوقاتٍ هي مُسَخَّرَة له فليُحْسِن إذن التعامُل معها والانتفاع والسعادة بها، وهذا هو معني "فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)" أيْ فنَفّذَت كلها أمر ربها بالسجود تعظيما لهذا الأمر بلا أيِّ إبطاءٍ أو تَخَلّفٍ لأيِّ مَلَكٍ منها، واستخدام لفظيّ "كلهم أجمعون" لمزيدٍ من تأكيدِ ذلك.. "إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ (31)" أيْ فيما عدا إبليس، فقد أَبَيَ أيْ رَفَضَ وامْتَنَعَ تَعَاظُمَاً أن يكون مع الساجدين من الملائكة، وتَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي أمر السجود واستهزأَ به فلم يَستجب له فكان بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين.. ومقصود الآية الكريمة أن يعلم الإنسان أنه سيكون في الحياة استكبار وعِناد واستعلاء علي الحقّ والعدل والخير وظلم وفساد وضَرَر فلا يفعل مِثْل هذا مطلقا وإلا سيكون مصيره مثل مصير الشيطان أيْ مثل مصير كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه، أي التعاسة التامّة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا.. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام)
ومعني "قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ (32)" أيْ حينها قال الله تعالي له سائلاً ذَامَّاً إيَّاه يا إبليس ما سبب أن لا تكون مع الساجدين من الملائكة وتَعْصِي أمري؟!.. إنَّ الله تعالي يَذمّ المُستكبرين عن طاعته فلا يَتَّبِعون إسلامه ذَمَّاً شديداً فيُذَكّرنا في القرآن بسؤاله لإبليس الذي هو رمز لهم ويُمَثّلهم عن ما السبب الذي يمنعهم من هذا، من أن يكونوا مع الساجدين، من الاستجابة له حين يأمرهم بما فيه مصلحتهم وسعادتهم وهو خالقهم بيديه الكريمتين ومُوجِدهم ووَاهِب الحياة لهم ورازقهم وراعيهم ومِن طاعة تشريعه وهو الإسلام الذي أنزله إليهم في قرآنه ليُسعدهم في دنياهم وأخراهم؟! لعلهم يَستفيقون ويعودون له ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن ولا يَتعسوا فيهما.. هل السبب أنك قد اسْتَكْبَرْتَ يا ابن آدم يا مَن تَشَبَّهْتَ بإبليس علي خَلْق الله مِن بَشَرٍ وغيرهم في الكوْن أم كنتَ مِن المُتَعَالِين حتي علي الله ذاته؟!.. إنَّ السبب الأساسي بكلّ تأكيد هو تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33)" أيْ قال إبليس مُسْتَكْبِرَاً مُتَبَجِّحَاً مع خالقه العظيم عاصِيَاً له ما كان ليَلِيق بحالي وبمَنْزِلَتي وخِلْقَتي – واللام لتأكيد النفي – أنْ أسجد لبَشَرٍ خلقته من صلصالٍ من حمأٍ مَسنون!!.. والمقصود أنا خير منه حيث خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ والذي هو من أرْدَيء العناصر!!.. إنَّ الكافر يُحاوِل تبرير كفره لذاته أو لغيره بتبريراتٍ كاذبة وبأدِلّةٍ ضعيفة لا قيمة لها!! إنه يَتَوَهَّم مُنْخَدِعَاً كأنه فوق الجميع وأشرف وأفضل منهم لأنه مخلوق آخر مُتَمَيِّز وليس مثلهم! فهم يُطيعون خالقهم أمّا هو فلا يُطيعه! بل قد لا يعترف بعضهم بوجود خالقٍ أصلا! أو يعترف بوجوده لكن لا يستجيب لتوجيهه وإرشاده في تشريعه بل هو يفعل ما يشاء من شرور ومَفاسد وأضرار! أو يُشْرِك معه في العبادة غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو كوكبٍ أو نحوه! تعالي الله عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا.. وفي هذا تمام التعاسة لأمثال هؤلاء في دنياهم وأخراهم.. والسبب هو تعطيل عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي الآية الكريمة ذمٌّ وتحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ولا يستكبرون مثل استكبار إبليس فيكون مصيرهم جهنم وبئس المصير
ومعني "قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)"، "وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)" أيْ هذا حتماً هو مصير كلّ مَن يَتَّبِع الشيطان، هو رَجِيم أيْ مَرْجُوم يُبْعَد ويُرْجَم ويُقْذَف بكلّ سوء، وعليه لعنة الله أي يُطْرَد ويُخْرَج مِن رحمته سبحانه وخيره في دنياه دائما إلي يوم الدين، إلي يوم القيامة حيث تزداد اللعنة عليه وينال عقابه النهائيّ الكامل المُناسب لشروره ومَفاسده وأضراره في نار جهنم.. لكن مَن يتوب مِن بني آدم ويَترك اتِّباع الشيطان ويعود لربه ولإسلامه يتوب تعالي حتما عليه ويَسعد في الداريْن فهو واسِع المغفرة الذي يغفر الذنوب جميعا
ومعني "قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)"، "قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)"، "إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)" أيْ أنَّ وجود الشرّ في الحياة الدنيا إلي نهايتها إنما هو لحكمةٍ هامّة وهي أن يُعْتَبَرَ به فلا يَفعله الإنسان لأنه قد رأيَ أضراره وتعاساته، وهذا هو معني "قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) " أيْ أمْهِلْنِي أيْ أَجِّلْنِي أي اترك الشرَّ إلي يوم البعث حين تَبْعَث بني آدم بأرواحهم وأجسادهم في الآخرة للحساب الختاميّ لِمَا عملوا.. "قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37)"، "إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) " أيْ أنَّ الشرَّ مَتْروكٌ مَوجودٌ دون إزالةٍ له بحِكمة الله وبعلمه – وذلك للاعتبار به – إلي يوم الوقت المعلوم أي إلي توقيت يوم القيامة الذي يعلمه سبحانه حين تنتهي الحياة الدنيا
ومعني "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)"، "إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)" أيْ هذا تأكيدٌ وتنبيهٌ علي استمرارِيَّة وجود الشرّ حتي نهاية الحياة الدنيا ليَتَّخِذ الناس جميعاً مزيداً من الحَذَر نحوه.. أيْ قال إبليس يا رب أي يا خالقي، بما أغويتني، أي بسبب أنك أضللتني، والمقصود كما جعلتني يارب سَبَباً للضلال والوقوع في الغِواية أي الشرّ والفساد لأنَّ حكمتك تَطَلّبَت السماح بوجود الشرّ في الدنيا حيث فيه مصلحة بني آدم وذلك لا ليَفعلوه وإنما لكي لا يَتّبعوه بل ويُقاوموه فتزداد قوة إرادة عقولهم فيَنطلقون في الحياة بهذه الإرادة القوية يستكشفون خيراتها أكثر وأكثر وينتفعون ويسعدون بها أكثر وأكثر ثم يكون لهم بذلك في آخرتهم السعادة الأكثر والأعظم والأتمّ والأخلد، وهذا سيكون هو حال الذين لا يستجيبون لأيّ شرّ – وإنْ استجابوا أحيانا تابوا منه سريعا – ويَتّبِعون كل خيرٍ أيْ يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، وقد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)" أيْ بما أغْوَيْتَنِي لأُجَمِّلَنَّ ولأُحَسِّنَنَّ لهم – واللام والنون للتأكيد – الشَّرَّ في الأرض كذباً وخداعاً أنّ فيه مصلحة، ولأُوقِعَنَّهم في الغواية جميعا، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي إغوائهم.. "إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)" أيْ هؤلاء حتماً مُسْتَثْنُون من الوقوع في هذه الغِوايَة لا أستطيع إغوائهم، لأنهم قد عَبَدوك وحدك بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وكانوا مُخْلِصِين مُحْسِنِين في عبادتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وكانوا مُتمسّكين عاملين بكلّ أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وبالجملة لأنهم قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا بكامل حرية إرادة عقولهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا وفعلوا كل خيرٍ وتَرَكوا كل شَرٍّ ولم يستجيبوا لغواية إبليس بل وقاوموها ودعوا غيرهم لذلك بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ فسعدوا تمام السعادة في الداريْن (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. هذا، ومعني "المُخْلَصين" أي الذين اسْتَخْلَصَهم الله تعالي أي اختارهم لعوْنه وتوفيقه وسَداده وتيسيره لأمورهم، وسبب هذا الاختيار للعوْن والإسعاد هو حُسْن خُلُقهم، ومِن حُسْن الخُلُق أنهم كانوا مُخْلِصِين قطعا فلا يقولون قولاً ولا يعملون عملاً إلا لله لا لغيره، أيْ أنهم هم قد بَدأوا أولا باختيار عبادة الله تعالي وحده بكامل حرية إرادة عقولهم بإحسانهم لاستخدامها وبدأوا بالتمسّك بأخلاق الإسلام واجتهدوا في ذلك فاختارهم سبحانه لكي يُساعدهم ويُسْعِدهم في الداريْن (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، ومَن وَقَع في غِوايَة إبليس من الناس هم الذين قَبِلُوها واختاروها بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، فهم الذين اختاروا الشرّ والفساد ولم يُكرههم أحد عليه، بسبب أنهم قد أغلقوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)" أيْ قال الله تعالي وقوله ووَعْده الصدق كله هذا صراط عليَّ بمعني إليَّ مستقيم، أي هذا الإخلاص الذي يتّصِف به عباد الله المُخْلَصِين وهذا التّخْلِيص لهم من إغواء إبليس وأن لا يكون له عليهم سلطان وهذا الحقّ الذي يتّبعونه بعبادته تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ واتّباع كل أخلاق دينه الإسلام لا غيره، هذا كله هو صراطٌ أيْ طريقٌ مُتَّجِهٌ عليّ أيْ نَحْوِي وإلي جنتي أيْ إلي سعادَتَيِّ الدنيا والآخرة، مستقيمٌ أيْ يُؤَدِّي إلى الوصول إليَّ من غير أيِّ اعوجاجٍ وضلال، وهو حقٌّ عليّ مراعاته وحفظه والدلالة عليه والإرشاد إليه وضمان واستمرار استقامته بالبيان والبرهان وبالتوفيق والتيسير لمَن يختاره ليسير فيه، ثم هذا طريقٌ مَرْجِعه حتماً عليّ أيْ إليّ حيث يستقيم بكم جميعاً لترجعوا لي يوم القيامة فأجازيكم بأعمالكم إنْ خيراً فخير وإنْ شرَّاً فشَرّ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (9) من سورة النحل "وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)" أيْ قال الله تعالي إنِّ عبادي – وسَمَّاهم سبحانه عباده ونَسَبَهم إليه لتكريمهم وتشريفهم – أي الذين يعبدونني وحدي بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ويُخْلِصون ويُحْسِنون في عبادتهم لي (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، ويتمسّكون ويعملون بكلّ أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، ويتوكّلون عليَّ حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتاحَة المُباحَة – أيْ يعتمدون عليَّ تمام الاعتماد، أي يجعلونني وكيلا لهم مُدافِعا عنهم (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ولا يفعلون شَرَّاً ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وبالجملة قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا بكامل حرية إرادة عقولهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا وفعلوا كل خيرٍ وتَرَكوا كل شَرٍّ ولم يستجيبوا له بل وقاوموه ودعوا غيرهم لذلك بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولذلك قد استخلصتهم أي اخترتهم لعوْني وتوفيقي وسَدادي وتيسيري لأمورهم وإسعادهم، لأنهم هم قد بَدأوا أولا باختيار عبادتي وحدي بكامل حرية إرادة عقولهم بإحسانهم لاستخدامها وبدأوا بالتمسّك بأخلاق إسلامهم واجتهدوا في ذلك فاخترتهم لكي أساعدهم وأسعدهم في الداريْن (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.." أيْ أمثال هؤلاء الذين تَحَصَّنوا بي وبإسلامهم وبصحبتهم الصالحة وبفِعْلِهم الدائم للخير بحيث لا يكون عندهم وقت لفِعْل الشرّ ولا حتي للتفكير فيه ليس لك يا إبليس عليهم سلطانٌ أيْ نفوذٌ أو قوةٌ أو تأثيرٌ علي إغوائهم، وفي هذا مدحٌ وتشجيعٌ ضِمْنِيٌّ لهم ليستمرّوا دَوْمَاً علي خيرهم طوال حياتهم.. ".. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)" أيْ لكنْ لك سلطانٌ حتماً علي مَن سَارَ خَلْفك وأطاعك ونَفّذ أوامرك الشَّرِّيَّة من الغاوين أي الضالّين أيْ الفاعِلين لكل شرٍّ وفسادٍ وضلالٍ مُتْعِسٍ في الداريْن المُنْحَرِفين المُتَمَادِين في الضلال والانحراف بلا توبة.. فأمثال هؤلاء قد قَبِلُوا غِوَايتك واختاروها بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، فهم الذين اختاروا الشرّ والفساد وفِعْله ولم يُكرههم أحدٌ عليه، بسبب أنهم قد أغلقوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مرة أخري مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! والحِكمة في خَلْق الشيطان والسماح بوجود الشرّ في الحياة، وذلك في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)" أيْ وإنَّ نار جهنم بعذابها الذي لا يُوصَف في الآخرة – ولفظيّ إنَّ واللام لتأكيد الحدوث – حتماً تنتظر هؤلاء الغاوين جميعا لا يَتَخَلّف ولا يَفْلِت منهم أحد، كمكانٍ وزمانٍ لتنفيذ وَعْد اللَّه تعالى لهم بما يَسْتَحِقّونه من عقابٍ مُناسِبٍ لسُوئهم، إنْ لم يتوبوا.. إنَّ جهنم هي ميعادهم النهائيّ الخِتامِيّ الذي سيَنالون فيه ما كانوا يُوعَدون به مِن سوءٍ حيث أعظم عذاب وأتَمّه وأشدّه وأخلده وأتعسه، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصيرون إليه، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)
ومعني "لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)" أيْ لجهنم سبعة أبوابٍ لا باب واحد وذلك لكي يكون كلّ بابٍ مُخَصَّصَاً لدرجةٍ من درجات العذاب يدخل منه مَن يَسْتَحِقّون هذه الدرجة التي تُناسب سُوئهم في دنياهم حيث تَساووا في أفعالهم للسوء، فلكل بابٍ جزءٌ مقسومٌ أيْ مِقْدارٌ مَعْلومٌ منهم أيْ مِن هؤلاء الغاوين علي حسب درجة شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يدخلون منه لينالوا عذابهم المُناسب لهم بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلم
ومعني "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحسن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ المُتَّقِين وهم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، هؤلاء بكل تأكيدٍ في جنات وعيون، فبعد تمام سعادة الدنيا التي كانوا فيها بسبب تمسّكهم وعملهم بكلّ أخلاق إسلامهم، يكونون في الآخرة في بساتين وحدائق مُخْضَرَّة مُبْهِجَة كثيرة الثمرات والخيرات والقصور وبها عيون وينابيع يخرج منها الماء العَذْب الجاري الوفير المُبْهِج وكذلك اللبن والعسل وغيره من المَشروبات المُمْتِعَة اللذيذة الطيّبة المُتَدَفّقة المُستمرّة بلا نهاية لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة يكونون في ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني "ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46)" أيْ يُقالُ لأهل الجنة يوم القيامة، مِن الله تعالي أو من ملائكته الكرام، علي سبيل التهنئة والتكريم والتشريف والإسعاد، وهم داخلون إليها، ادخلوها بسلام آمنين، أيْ مصحوبين بتمام الأمان والاطمئنان والسكون والاستقرار والنعيم السَّالِم أي الخالِص من أيِّ تكدير التامّ الخالد المُسْعِد.. ويُسْتَقْبَلُون بكلِّ تَحِيَّة سَلَام وأمن
ومعني "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)" أيْ واستكمالاً لنعيمهم ولإسعادهم ومن رحمتنا وكرمنا وفضلنا وإنعامنا وإحساننا قَلَعْنَا وأخْرَجْنا وأذْهَبْنا ما في عقولهم ومشاعِرهم من أيِّ غِلٍّ أيْ عَدَاءٍ وكُرْهٍ وانتقامٍ وغِشٍّ ونحوه مثلما كان يَحدث بين الناس في دنياهم فهُم في الجنة في تمام الصفاء والنقاء والتّآخِي والتَّحابّ في كلّ خيرٍ وأمنٍ واستقرارٍ وارتياحٍ وسرورٍ ونعيمٍ تامٍّ عظيمٍ خالدٍ لا يُوصَف.. إنهم يعيشون في الجنة إخواناً مُتَحَابِّين مُتَصَافِين.. ومِن علامات تكريمهم أيضا وتمام نعيمهم وراحتهم أنهم يجلسون في تمام الاسْتِجْمَام والراحة علي سُرُر – جمع سرير – مُزَيَّنَة بأفخم وأجمل أنواع الزينة والمفروشات، ويُقابِل بعضهم بعضا وإذا أراد أحد مقابلة آخر وزيارته يجده في مُقَابَلَتِه وأمامه، والمقصود أنه لا يوجد أيّ تَعَبٍ في الانتقال والزيارة وعقد المُقابلات والحفلات للتّسامُر ولتمام السعادة
ومعني "لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)" أيْ لن يُصيبهم أو حتي يَلمسهم فيها أيّ نَصَب أيْ تَعَب جسديّ أو نفسيّ أو غيره، بأيِّ درجةٍ من الدرجات وصورةٍ من الصور، وما هم منها بمخرجين أيْ وهم باقون فيها أبداً، فهم في جناتِ إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصان أو تغيير أو تحوّل عنها أو تَرْك لها ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبداً ولن يُخرجه أحد
ومعني "نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)"، "وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)" أيْ أخْبِر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده الناس جميعا وذَكِّرهم وليَتذكّروا فيما بينهم أنهم عبادي وأني قد نَسَبْتهم إليَّ لأنهم خَلْقِي وصَنْعَتِي وكلّ صانع يحب صنعته ويريد لها أن تكون علي أفضل وأسعد حال – ولله المَثَل الأعلي – وأني أبشّرهم وأطَمْئِنهم بحُبِّي وتكريمي لهم وإرادتي لإسعادهم في دنياهم وأخراهم وأقول لهم وأؤَكِّد أني أنا الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! (برجاء أيضا مراجعة الآية (53) من سورة الزمر "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)" أي وأخبرهم كذلك أنَّ عذابي الدنيويّ والأخرويّ بما يُناسِب شرور ومَفاسد وأضرار مَن يفعلها ويُصِرّ عليها ولا يتوب منها هو حتماً بالتأكيد بحقّ العذاب الأليم أيْ المُوجِع المُهين المُتْعِس الذي لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم.. إنَّ هاتين الآيتين الكريمتين تُذَكّر كل مسلم أنْ يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف من عقابه تعالي وبين الرجاء في مغفرته وعطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)"، "إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)"، "قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)" أيْ وأَخْبِرْهم كذلك – لكي يَتَّعِظوا بما يُخْبَرُون به ويَستفيدوا بالعمل بما فيه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم – لبيان رحمتي لمَن يَسْتَحِقّها وعذابي بمَن يستحقّه، عن أحداث قصة ضيف إبراهيم من الملائكة التي أرسلها الله تعالي رُسُلَاً له فجاءته في صورة ضيوف علي هيئة البَشَر لتُبَشّره بأنه سبحانه سيَرزقه بغلامٍ عليمٍ ولتُخْبِره بأنها أُرْسِلَت إلى قوم لوطٍ لإهلاكهم بسبب كفرهم وسُوئهم.. "إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)" أيْ نَبِّئْهم حين دخلوا عليه فسلّموا فَرَدَّ عليهم السلام وبعدها قال لهم نحن خائفون منكم، وذلك لأنه كما وَرَدَ في سورة هود مِن كَرَمه (ص) وحُسْن ضيافته لضيوفه، حين نزلوا ضيوفاً عليه سَارَع إلي أهله فجاء بعجلٍ حنيذٍ أيْ مَشْوِيٍّ ليأكلوا منه فحينما شاهد أيديهم لا تَمْتَدّ إلي طعامه الذي قَدَّمه لهم ولا يأكلون منه كما هو معروف عن الضيوف رغم حُسْن ضيافتهم نَكِرهم أيْ كَرِه فِعْلهم ذلك وأحَسَّ خوفاً منهم بداخله، لأنَّ امتناع الضيف عن الأكل من طعام مضيفه بلا سببٍ مُقْنِعٍ يُشْعِر بأنَّ هذا الضيف ينوى شراً به حيث يرفض الإكرام والتآلف، كما هي التقاليد فى كثير من البلاد، وذلك لأنَّ الرسل كانت ملائكة لكن علي هيئة بَشَرَ حتي يمكنه رؤيتها والتعامُل معها لكنها لا تأكل كالبَشَر.. "قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)" أيْ وهنا، ولَمَّا رأوا ما به من بعض الخوف، كشف الملائكة عن ذواتهم وقالوا له مُطَمْئِنِين لا تَخَفْ فنحن رُسُل الله نُبَشِّرك – أيْ نُخْبِرك بما يَسُرّك – بغلامٍ سيُولَد لك وسيكون كثير العلم عندما يبلغ سِنَّ الرُّشد وهو إسحاق عليه السلام
ومعني "قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)"، "قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)"، "قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)" أيْ فلمَّا بَشّرَته الملائكة بتلك البُشْرَيَ السعيدة اتّجه إليها مُسْتَفْهِمَاً مُتَشَوِّقاً إلى معرفة الكيفية التي يكون بها هذا الغلام مع عدم توافر الأسباب العادية لِكَبَر سِنّه هو وزوجته وعُقْمها ومُقَدِّرَاً ومُعَظّمَاً لقُدْرته سبحانه علي كلّ شيءٍ ومُتَعَجِّبَاً ومُتَأَكّدَاً منها ومُحِبَّاً فيها ومَسْرُوراً بها ومُنْتَظِرَاً لها، وليس حتماً مُسْتَبْعِدَاً مُنْكِرَاً لها مُتَشَكّكَاً فيها!! فهذا لا يَحدث من أيِّ مسلمٍ فما بالنا برسولٍ كريم!!.. أىْ قال ابراهيم (ص) لهم هل بَشّرْتموني بغلامٍ يُولَد لي وأنا علي حالٍ مَسَّنِيَ أيْ أصابني فيه الكِبَر في السِّنِّ فبأيِّ شيءٍ تُبَشّروني؟! بأيّ أعْجُوبَةٍ تبشروني؟! إنها بُشْرَيَ عجيبة غريبة!!.. وهذا استفهام تَعَجُّبٍ منه (ص) علي الولد في كِبَرِه.. "قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)" أيْ قال الرسل من الملائكة له لزيادة طَمْأنته ولتأكيد بشارته بالغلام العليم، إنا قد بَشّرْناك بالصدق الثابت المُؤَكّد الحُدُوث الذي ليس فيه أيّ شكّ ولا أيّ إخلافٍ وهو أنك ستُرْزَق بولدٍ رغم كِبَر سِنّك وزوجتك لأنه من الله تعالي الذي هو علي كل شيءٍ قدير يقول للشيء كن فيكون كما يريد، وبالتالي فلا تكن من اليائسين أن يُولَد لك ولد.. وقد قالوا له هذا لأنه من المُعْتَاد عند البَشَر أنْ ييأسوا من الرزق بأبناء في سِنّهم الكبير حيث تنقطع أسباب ذلك ولكنَّ إبراهيم (ص) حتماً يعلم تماماً أنَّ الله تعالي بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه خارج الأسباب وقد جَرَّبَ هذا واقِعِيَّاً كثيراً مَثَلاً حين جعل سبحانه سابقا النار عليه بَرْدَاً وسلاما.. وكذلك يجب أن يكون كل مسلم مُتَمَسّك عامل بكل أخلاق إسلامه لا ييأس أبداً من رحمة الله وتحقيقه له بكرمه وفضله ورحمته كل خيرٍ وسعادةٍ في مِثْل هذا الموقف بل وفي كل شئون حياته.. "قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)" أيْ وهنا رَدَّ عليهم إبراهيم (ص) علي الفور مُوَضِّحَاً أنَّ الأمر منه للتّعَجُّب من قُدْرَة الله سبحانه وليس أبداً حتماً بكل تأكيدٍ لليأس من رحمته!! قال ومَن هذا الذي يَيْأَس مِن رحمة ربه أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه؟! والاستفهام للنفي أيْ لا ييأس مِن رحمة ربه قطعاً إلا الضالّون أيْ الضائعون في دنياهم البعيدون عن ربهم وعن طريق الهُدَيَ والصدق والعدل والخير ففعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار المُخْطِئون الذين لا يَعرفون أين الصواب من الخطأ التّعِيسُون في الداريْن الحائرون الجاهِلون بالإسلام الذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه.. فالمسلم المُتَمَسِّك العامِل بكل أخلاق إسلامه يعيش دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، فهو يحيا دوْمَاً مُسْتَبْشِرَاً مُنْتَظِرَاً لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، بينما الضَّالّ الناسِي لوجود خالقٍ مُعِينٍ قادرٍ علي كلِّ شيءٍ إذا أصابه ضَرَرٌ مَا فإنه يكون تعيساً كئيباً مُضطرِبَاً خائفاً مِمَّن حوله ومِن سوء مصيره لأنه بضلاله قد حَرَمَ نفسه من رحمة ربه، من عوْنه وحبّه وتوفيقه، ثم هو حتي لو هلك لا يَدْري ما سيَحْدُث له بعد موته، فهو تعيسٌ تمام التعاسة بانتظاره لكل كآبة وتعاسة.. إنَّ الأمل والتفاؤل والاسْتِبْشار ونحو ذلك من أخلاق الإسلام يَدْفع علي الدوام للسعي وللاجتهاد في حُسْن التعامُل مع كل الأمور سواء أكانت سهلة أم صعبة لتحقيق الأهداف والنتائج والسعادات، بينما التشاؤم يَدْفع لعكس ذلك تماما
ومعني "قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)"، "قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)"، "إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)"، "إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)" أيْ قال لهم إبراهيم (ص) بعد أن اطمَأنَّ إليهم وعَلِمَ أنهم ملائكة مُرْسَلون من عند الله تعالي فما الأمر الهامّ الذي من أجله جئتم إلىَّ أيها المرسلون وما حالكم وحكايتكم وماذا تريدون بعد هذه البشارة؟ هل هناك أمر مُهِمّ غيرها؟ لأنه يعلم أنَّ الملائكة لا تنزل للأرض في صورة بَشَرٍ إلاّ لأمرٍ عظيم.. "قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)" أيْ أجابوه بأنهم قد أرْسِلُوا بأمر الله إلي قومٍ يرتكبون الجرائم أيْ الشرور والمَفاسد والأضرار، لعقابهم بعذابهم وإهلاكهم، ويَقصدون قوم لوط، حيث كان أشهر جرائمهم والتي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين جريمة الشذوذ أيْ أن يُجامِع رجلٌ رجلا، إضافة إلي الجريمة الأعظم وهي تكذيبهم لرسولهم واستكبارهم عليه واستهزائهم به وبربه وبدينه الإسلام وإصرارهم واستمرارهم علي ذلك دون أيّ عودةٍ لأيّ خير.. "إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)" أيْ إن الله تعالي أرسلنا لإهلاك قومٍ مُجرمين هم قوم لوطٍ إلا آلَ لوطٍ والمقصود هو (ص) وأسرته المؤمنة والمؤمنين به أيْ المُصَدِّقين بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، فنحن لن نُهلكهم وسنُنجيهم أيْ نُنْقِذهم أجمعين – واللام للتأكيد – بسبب إيمانهم، برحماته سبحانه ونعمه وأفضاله عليهم التي لا تُحصي.. "إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)" أيْ لكنْ زوجته الكافرة قَضَيْنا وحَكَمْنا بأمر الله إنها من الغابرين أيْ من الباقين في العذاب المُهْلِك لا الناجين منه مع آل لوط لأنها كانت من الكافرين بالله ومُؤَيِّدَة ومُعِينَة لمُرْتكبي الفواحش
ومعني "فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)"، "قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)"، "قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)"، "وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)" أيْ فلمَّا وَصَلَ الملائكة المُرْسَلُون إلى آل لوطٍ أيْ إلي الأرض التي هو بها (ص) وأسرته المؤمنة والمؤمنين به – بعد تَرْكِهم إبراهيم (ص) حيث بَلّغُوه ببُشْرَيَ الولد – قال لهم إنكم قوم غير معروفين لي لأني لم أَرَكُم مِن قَبْل ولا أدرى مِن أىِّ الأقوام أنتم ولا أعرف لماذا جِئتم ونفسى تنْكِركم وتَنْفِر من وجودكم عندي، وذلك لأنه يَحْذَر مِن حُدُوث شّرٍّ من مَجيئهم حيث يعلم فساد وشذوذ رجال قومه فقد يعتدون عليهم.. "قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)" أيْ قال الملائكة المُرْسَلُون للوطٍ (ص) لطمأنته ولإزالة ضيقه وكراهيته لوجودهم عنده نحن ما جئناك بما تَكرهه أو تَخافه أو يُسيء إليك وإنما جئناك بأمرٍ كان المجرمون من قومك يَمْتَرُون فيه أيْ يَشُكّون ويُجادلون فيه وفى حُدُوثه ويُكَذّبونه وهو العذاب الذى كنت تُحَذّرهم منه إذا استمرّوا علي كفرهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. "وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي قولهم السابق ومزيدٌ من طَمْأَنَتِه وإزالة هَمِّه.. أيْ وجئناك بالصدق أيْ بالأمر الثابت المُحَقّق الحُدُوث الذي لا شكّ فيه لأنه من عند الله تعالي وهو إهلاكهم ونجاتكم ونصركم عليهم ونحن صادقون حتماً ولا يُمكن أن نكذب – واللام للتأكيد – في كل ما نقوله لك ونُخْبِرك به فاطْمَئِنّ واسْتَبْشِر
ومعني "فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)" أيْ وما دام الأمر كذلك فبالتالي ابدأ بإحسان اتّخاذ أسباب النجاة وإجراءاتها فسِرْ أنت وأهلك أيْ أسرتك المؤمنة والمؤمنين بك بجزءٍ من وقت الليل حين ينامون حتي لا يَروكم، وسِرْ خَلْفَ ظهورهم أيْ وكُن وراءهم للاطمئنان عليهم ومتابعة أحوالهم وإعانة مُحتاجهم وحَثّهم علي إسراعهم، ولا يَنظر أحدٌ منكم وراءه حتي لا يَرَيَ عذابهم لأنه سيكون شديداً لا يُوصَف يتألم مَن يراه وحتي لا تَتَعَطّلوا بكثرة الالتفات خَلْفكم إلي ما تركتموه من أموالكم وأشيائكم فتَتَعَلّقوا نفسياً بها فإنَّ الله تعالي ربكم سيُعَوِّضكم حتماً خيراً منها لأنكم تهاجرون في سبيله وحِفْظَاً لدينكم الإسلام وإبطاؤكم سيُفْسِد خطة خروجكم آمنين بل أسْرِعُوا وامْضُوا حيث تُؤْمَرُون أيْ واذهبوا إلي المكان الآمن الذي أمركم الله بالذهاب إليه
ومعني "وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)" أيْ وأوحينا إلي لوطٍ ذلك الأمر العظيم وهو أنَّ دابر أيْ آخر – والدُّبُر هو المُؤَخّرة – هؤلاء المُجرمين مقطوعٌ مُصبحين أيْ مُسْتَأْصَلٌ ومُهْلَكٌ مع دخول وقت الصباح، بما يعني أنَّ الله تعالي سيُبيدهم جميعا عن آخرهم بحيث لا يُبْقِي منهم أحداً وينتهي أمرهم بعذابٍ مناسبٍ مُهْلِكٍ لهم دنيويّ قبل الأخرويّ، وسيَبْقَيَ المؤمنون وسيَنصرهم ربهم ويُسعدهم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)"، "قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)"، "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)" أيْ وجاء أهل مدينة لوطٍ إلى لوطٍ (ص) حين علموا بمَن عنده من الضيوف وهم فرحون يُبَشّر بعضهم بعضاً بخَبَرٍ سَارٍّ أنَّ هناك شباناً ضيوفاً فى بيته أمَلاً وطَمَعاً في ارتكاب الفاحشة بهم والتي لم يفعلها أحدٌ قبلهم من العالمين ولا ترضاها حتي الحيوانات وهي إتيان الرجال في أدْبارهم شهوة دون النساء زوجاتهم، واستبشارهم هذا يُفيد شدَّة إصرارهم علي سيئاتهم واعتيادهم عليها حتي صاروا لا يَخْجِلون منها بل جاؤوا عَلَنَاً مُسْتَبْشِرين مُسْرِعِين بما يدلّ على أنهم قد وصلوا أسوأ درجات الشذوذ وانعدام الحياء حيث لا يأتون لارتكاب المنكر فرداً أو أفراداً مُسْتَتِرين وإنما يأتون جميعاً أهل المدينة وفى فرحٍ وإعلانٍ لا إخفاء.. "قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)" أيْ قال لهم لوط (ص) محاولاً إيقاظ آدَمِيَّتهم إنَّ هؤلاء ضيفي نزلوا عندي ضيوفاً وواجب علي المُضِيف الإكرام والحماية لضَيْفه لا الإيذاء والإهانة فهم في ضيافتي وحمايتي فلا تفضحوني عندهم بفِعْلكم القبيح معهم – والفَضْح هو إظهارُ أمرٍ يوجب العار بسببه – فأَهُونُ فى نظرهم لعجزى عن حمايتهم، وكرامة الضيف جزءٌ من كرامة مُضِيفه ومن أُسِيءَ إلى ضيفه فقد أسيء إليه.. "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)" أيْ وخافوا الله وراقِبوه وأطيعوه واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. وَلَا تُخْزُونِ (69)" أيْ ولا تذِلّوني وتُهينوني في شأن ضُيوفى وبينهم وعندهم باعتدائكم عليهم
ومعني "قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)" أيْ قال هؤلاء المُجرمون قوم لوطٍ له بكل تَبَجُّحٍ وسوءِ أدبٍ مع رسولهم الكريم (ص) رَدَّاً علي دعوته لهم لخير الإسلام بكل حكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة: وهل لم نَمْنَعك سابقاً عن أن تَقِفَ مانِعَاً بيننا وبين أيِّ أحدٍ من الناس الرجال الذين نريد ارتكاب الفاحشة معهم أو أن تستضيفهم لتُحاول مَنْعهم مِنّا أو تُكَلّمنا في شأن تَرْكِهم، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تمنعنا إذَن الآن عن ضيوفك هؤلاء؟! فقد نَهَيْناك وأنْذرناك مِن قَبْل فلم تَنْتَهِ ولم تَسْتَجِب ومَن أنْذَرَ فقد أعْذَرَ فلنا عُذْرنا وحَقّنا بالتالي فيما نَفعل حاليا!! وما ذكرتَ مِن حُدُوث فضيحة وخِزْي هو منك لا مِنّا وأنت سببه لا نحن إذ لولا حمايتك واستضافتك لهم لَمَا وَقَعَ لك هذا!! فلْتَتَحَمَّل إذَن نتيجة مُخَالَفَتِك!!
ومعني "قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)" أيْ قال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم رغم قُبْحِهم هؤلاء نساؤكم زوجاتكم اللاتى بمَنْزِلَة بناتى ارجعوا إليهنَّ فاقضوا شهوتكم معهنَّ فهُنَّ أطهر أيْ أنْظَفُ وأنْقَيَ وأسْعَدُ لكم نفسياً وحِسِّيَّاً في الداريْن من التلوث بأقذار وتعاسات الشذوذ فيهما حيث الأمراض المُهْلِكَات في الدنيا التي يُثبتها الواقع بينكم ثم عذابات نيران الآخرة.. لقد ذَكّرهم بما هو طبيعيّ في فطرة الرجال التي خَلَقهم خالقهم تعالي عليها ليسعدوا بها والتي خالفوها فتَعِسُوا واسْتَحَقّوا العذاب بالأمراض والإهلاك وهو الزواج من النساء وسمَّاهُنَّ بناته علي اعتبار أنّهُنَّ بالنسبة إليه وهو رسول أمّتهم كأنّهنَّ جميعهنَّ بنات له من حيث الرحمة والتوجيه لكل خيرٍ وسعادة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)" أيْ إنْ كنتم فاعلين لقضاء شهوتكم، فهؤلاء بناتي، فالزواج هو الفِعْل الطبيعي لقضائها علي أكْمَل وأسْعَد صورة.. وكذلك إنْ كنتم فاعلين لِمَا أُرْشِدكم إليه مِن خيرٍ في الإسلام يُسعدكم بالداريْن، فهؤلاء بناتي، لكنْ لفظ "إنْ" يُفيد تشَكّكه (ص) في استجابتهم لإرشاده وهم يُغْلِقون عقولهم تماما ويَسيرون خَلْف شُذوذهم القبيح هكذا
ومعني "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)" أيْ هذا قَسَمٌ بعُمْر المُخاطَب تكريماً وتشريفاً له، قَسَمٌ من الله تعالي بحياة الرسول الكريم محمد (ص) – أو الرسول الكريم لوط (ص) – لتأكيد ما هم فيه من السَّكْرَة والعَمَه.. أيْ وَحَيَاتك، أيْ بحقّ حياتك يا رسولنا الكريم، إنَّ أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين، في سَكْرَتِهم – واللام للتأكيد – أيْ تَرَنّحِهم وغَيْبُوبتهم كشاربي الخمر حين يَسْكَرُون ويَتَرَنّحون وتَذهب وتَغيب عقولهم أيْ في غَفْلتهم وغِوَايتهم أيْ في تِيهِهِم ونِسْيانهم وضَياعهم ولَهْوهم وإعراضهم وعدم انتباههم لِمَا يُصلحهم ويُسعدهم وتَفَكّرهم فيه واعتبارهم به، وحالهم وواقعهم أنهم يَعْمَهون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العَمَيَ هو عَمَيَ البَصَر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه من سوء (برجاء مراجعة الآية (10) من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه أيْ سُوئه يَزداد مَرَضَاً أيْ سُوءاً).. ثم في الآخرة لهم عذاب النار الذي لا يُوصَف علي قَدْر سُوئِهم.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ في الآية الكريمة بياناً لعدم فائدة الموعظة فيمن يكون في سَكْرَةِ هواه وتذكيراً للمسلم بأن يُذَكّر حيث تنفع الذكري فقط وليس في كل وقتٍ ومع كل أحد (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (9) من سورة الأعلي "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)"، لمزيد من الشرح والتفصيل)، كما أنَّ فيها تسلية للرسول (ص) حيث تُبَيِّن له ولكل مسلم أنه كيف يسمع أمثال هؤلاء نُصْحك لهم ويستجيبون لك وهم هكذا مُصِرُّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من سوءٍ حتي كأنهم سُكَارَيَ؟! وبالتالي فلا تحزن إذَن يا رسولنا الكريم ولا تَسْتَثْقِل ذلك، ولا أنتَ يا كل مسلم مِن بعده، حين يُكَذّبك المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن، فهذا ليس بالأمر الجديد، فكلّ السابقين أمثالهم قد فعلوا ذلك، كذّبوا رسلاً لهم كانوا من قبلك، فالأمر ليس تقصيراً منكم، وقد صَبَرَ الرسل الكرام عليهم وعلي تكذيبهم وإيذائهم بكل أنواع الإيذاء القوليّ والفِعْلِيّ حتي نَصَرَهم الله ونَشَر إسلامهم فسَعِد الجميع به، فتَشَبَّهوا بهم حتي تُنْصَرُوا مِثْلهم، ولا يَمنعكم تَكذيبهم أيها المسلمون عن الاستمرار في التمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم وعن مُوَاصَلَة الدعوة له بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة.. ثم مراجعة ثم الآية (92) من سورة المائدة ".. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"، لبيان أنَّ مهمّة الرسل والدعاة هي فقط التبليغ الواضح)
ومعني "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)"، "فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أخذتهم الصيحة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، والصَّيْحَة هي الصوت الشديد الذي يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة، أخذتهم مُشرقين أيْ مع ظهور شروق الشمس في الصباح، وذلك قبل أن يستفيقوا من نومهم ليكون عذاباً مُفاجِئَاً شديداً لا يتمكّنون من الهروب أو التّخَلّص منه.. "فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)" أيْ فجعلنا كل ما هو عالٍ من بناءٍ أو غيره إلي الأسفل علي الأرض، أيْ دمَّرنا أسْقُف ديارهم وأبنيتهم علي رؤوسهم.. كذلك من المعاني أنْ جعلنا أعلى بيوتهم أسفلها وأسفلها أعلاها بأنْ قَلَبْناها عليهم، وهى عقوبة مناسبة لجريمتهم حيث هم قَلَبُوا الأمر الطبيعيّ فخالَفوا مُخَالَفَة شديدة ما هو موجود راسخ في فطرتهم فأَتَوْا الذكْران من العالمين وتَرَكوا ما خَلَقَ لهم ربهم من أزواجهم.. ".. وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)" أيْ وزيادة في عقابهم عذّبناهم أيضا أثناء ذلك بأنْ أنزلنا عليهم وعلي قريتهم وبيوتهم ومَبانيهم من السماء كالمطر حجارة مُكَوَّنة من سِجِّيلٍ وهو طين مُتَحَجِّر شديد الصلابة وحادّ ومُدَبَّب وهو مطبوخ بنار جهنم ومُسَجَّل عليه اسم مَن سيُصيبه ويُهْلِكه بحيث يُصيب هدفه بكل دِقّةٍ ولا يُمكن لأحدٍ أن يَفْلِت منه ويُرْجَمون به كما يُرْجَم الزناة حتي الهلاك
ومعني "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)"، "وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)"، "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)" أيْ إنَّ فِي ذلك الإهلاك للأمم المُكَذّبة السابقة وفي ذلك الذي ذُكِرَ في السورة الكريمة وفي ذلك القَصَص في القرآن الكريم كله والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه بالتأكيد ولاشكّ – واللام للتأكيد – آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)" أيْ لكنْ لا ينتفع بمِثْل هذه الآيات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات إلا مَن كان مِن المُتَوَسِّمين أيْ المُتَأَمِّلِين المُتَدَبِّرين المُتَفَكّرين في سِمَات الأمور أيْ علاماتها وصفاتها الذين يَعْتَبِرون بما يَحْدُث حولهم.. بينما غير المُتَوَسِّمين الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَنتفعون بها حتماً ويعيشون قطعاً حياتهم وآخرتهم في تعاسةٍ علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. "وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)" أيْ وإنَّ مدينة قوم لوطٍ المُجرمين علي طريقٍ ثابتٍ واضحٍ قائمٍ – واللام للتأكيد – وآثارها موجودة حيث مساكنهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة يَمُرّ عليها المَارَّة، وهم سائرون إلي بلاد الشام، فلْيَتّعِظ بها إذَن كل مَن أراد الاتّعاظ حينما يشاهدون بأعينهم ما حَلَّ بها من دَمَارٍ ويَتَفكَّرون ويَتَدَبَّرون فيما حَدَثَ لهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم فيَدْفَع هذا كلّ عاقلٍ أن يَتَجَنَّب تماماً مِثْل أفعالهم ويستيقظ ويعود لربه ولإسلامه حتي لا يتعس مِثْلهم وليسعد في دنياه وأخراه.. "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)" (برجاء مراجعة الآية (75)).. هذا، واستخدام ذات الألفاظ تقريباً كما في الآية (75) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. مع مُراعاة أنَّ ذِكْر آية بدل آياتٍ يُفيد ضِمْنَاً أنَّ المؤمنين بسبب تمام تصديقهم بربهم تكفيهم ولو آية واحدة للاستدلال علي الحقّ الذي هم عليه، كما أنَّ الآية الكريمة تُذَكّر ضِمْنَاً بأنَّ المؤمنين لابُدَّ أن يكونوا مُتَوَسِّمِين، فَهُمْ وحدهم مَن يَنتفعون بذلك، وفي هذا عظيمُ مَدْحٍ وتشجيعٍ لهم للاستمرار علي إيمانهم ليسعدوا تماما في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)"، "فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)" أيْ وقد كان أصحاب الأيْكة، أيْ مالِكي البساتين والأشجار الكثيفة ذات الخير الكثير وهم قوم الرسول الكريم شعيب (ص)، كذلك بالتأكيد – واللام للتأكيد – ظالمين حيث كذّبوه وظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. "فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)" أيْ فكذّبوا وعانَدوا واستكبروا واستهزؤا فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لذلك أن انتقمنا منهم حين بَلَغُوا الأجل المُحَدَّد لإهلاكهم أيْ فعاقبناهم وعذّبناهم وأهلكناهم في الدنيا – قبل عذاب الآخرة – برَجْفَةٍ أيْ بزَلْزَلَةٍ شديدةٍ فصاروا مَيِّتِين هامِدين (كما في الآية (91) من سورة الأعراف)، وكذلك بعذابِ يومِ الظّلّة (كما في الآية (189) من سورة الشعراء) حيث سَلّطَ سبحانه عليهم الحَرَّ عِدَّة أيامٍ ثم بَعَثَ سحابة فلجأوا إليها من أجل أنْ يَتَظلّلوا بها ويَتَّقوا الحرارة فبَعَثَ عليهم منها قِطَعَاً مِن نارٍ فأحرقتهم.. ".. وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)" أيْ وإنَّ كُلَّاً من آثار بيوت قوم شُعَيْبٍ المُدَمَّرَة وآثار بيوت قوم لوطٍ المُخَرَّبَة علي طريقٍ واضحٍ – واللام للتأكيد – يراهما كلُّ مَن يَمُرّ عليهما بهذا الطريق ويريد أن يَتَّعِظ، والإمام هو ما يُتَّبَع، وسُمِّيَ الطريق بذلك.. فلْيَتّعِظ بهما إذَن كل مَن أراد الاتّعاظ حينما يشاهدون بأعينهم ما حَلَّ بهما من دَمَارٍ ويَتَفكَّرون ويَتَدَبَّرون فيما حَدَثَ لهما بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم فيَدْفَع هذا كلّ عاقلٍ أن يَتَجَنَّب تماماً مِثْل أفعالهم ويستيقظ ويعود لربه ولإسلامه حتي لا يتعس مِثْلهم وليسعد في دنياه وأخراه
ومعني "وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)"، "وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)"، "وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82)"، "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِين (83)"، "فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)" أيْ ولقد كَذّب فلم يُصَدِّق – كذلك مِثْل السابقين المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزئين – أصحابُ الحِجْر، وهم قوم الرسول الكريم صالح (ص) الذين كانوا يسكنون مكاناً يُسَمَّيَ الحِجْر بين المدينة المُنَوَّرَة والشام، كذّبوا المُرْسَلِين، حيث كذّبوه (ص) ولم يؤمنوا به ولم يَتّبعوا الإسلام الذي جاء به والذي يُسْعِدهم في الداريْن وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. هذا، ولفظ "المُرْسَلِين" جاء بصيغة الجميع رغم أنهم كذّبوا رسولاً واحداً هو صالح (ص) بما يُفيد ضِمْنَاً أنه مَن كذَّب رسولاً فقد كذَّب الرسل جميعاً لأنهم كلهم جاءوا بدينٍ واحدٍ هو الإسلام الذي فيه تشريعات تُناسِب كل زمنٍ من عند إلهٍ واحد هو الله تعالي.. كذلك من معاني "المُرْسَلِين" أنهم كذّبوا رسولهم صالح ومن معه من المسلمين الذي يحملون رسالته الإسلام كرُسُلٍ لهم يَدْعونهم لاتّباعه.. "وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)" أيْ وأعطيناهم دلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسولهم الكريم صالح (ص) وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقه – مثل الناقة التي خَلَقَها سبحانه بصورةٍ مختلفةٍ في صفاتها عن بقية النّوق حيث هي خَرَجَت من هضبةٍ وصخرةٍ كانوا قد سألوه إخراجها منها كمُعجزةٍ لتَدُلّ علي صِدْقه حتي يَتَّبعوه، وكانت كأنها عاقلة بإلهامٍ منه تعالي حيث تأتي في وقتٍ مُحَدَّدٍ للرعي وللشرب وتترك لهم أوقاتاً أخري يرعون هم فيها دوابّهم – أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وبالتالي فلم تكن لهم أيّ حُجَّةٍ في عدم الإيمان واتّباع الإسلام!.. ".. فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)" أيْ فكانوا مُعْرِضين عنها أيْ يُعطونها ظهورهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنها ويَتركونها ويهملونها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء!!.. وما كل ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82)" أيْ وكانوا عنها مُعْرِضِين رغم أنهم كانوا يَنْحِتُون من صخور الجبال فيَجعلون منها بيوتاً وقصوراً آمِنَة حَصِينَة يسكنونها وهم في حالٍ مُطمئنّين بما يدلّ علي أنهم كانوا في قوّةٍ وعِزّةٍ وغِنَيً ورفاهِيةٍ مُتَنَوِّعَةٍ فَخْمَةٍ وَفِيرَةٍ وفي أمانٍ علي أنفسهم وأموالهم من أيِّ اعتداءٍ أو ضَرَر، لكنهم مع ذلك لم يشكروا ربهم الذي أعطاهم ومَكّنهم من كل هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ليزيدهم منها ومن غيرها بل كفروا وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وأصَرُّوا علي سُوئهم، فكان مصيرهم حتماً مِثْل مصير أيّ مُعَانِدٍ مُصِرٍّ علي شَرِّه وضَرَره حيث التعاسة في الداريْن.. "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِين (83)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أخذتهم الصيحة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، والصَّيْحَة هي الصوت الشديد الذي يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة، أخذتهم مُصْبِحين أيْ مع ظهور وقت الصباح، وذلك قبل أن يستفيقوا من نومهم ليكون عذاباً مُفاجِئَاً شديداً لا يتمكّنون من الهروب أو التّخَلّص منه.. "فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)" أيْ فما نَفعهم بأيِّ شيءٍ حينها ولا أفادهم ولا نَصَرَهم ولا مَنَع عنهم أيَّ شيءٍ من عذاب الله ما كانوا يكسبون أيْ كل هذا الذي كانوا يكسبونه ويعملونه في دنياهم من قوّةٍ بكل أنواعها سواء أكانت بيوتاً بالجبال يَتَوَهَّمُون أنها آمنة من عذابه تعالي أو أموالاً وجنوداً وأنصاراً ومناصب وغير ذلك مما يُحَصِّلُونه.. فمَن كان أضعف منهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ فليكن إذَن أكثر حَذَرَاً فيؤمن بربه ويَتمسّك ويَعمل بإسلامه قبل فوات الأوان ونزول العذاب!
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته!
هذا، ومعني "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)" أيْ وما خَلَقْنا – أيْ أوْجَدنا من عدمٍ علي غير مِثالٍ سابقٍ – بقدْرتنا التامّة السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها، ما خلقنا كلّ ذلك عَبَثَاً ولَعِبَاً ولَهْوَاً بلا حِكْمَة! وإنّما خَلَقْناه لِحِكَم ومنافع كثيرة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. لقد خَلَقْنَاه بالحقّ والذي هو عكس الباطل أيْ بكلّ حِكْمَةٍ ودِقَّةٍ ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ولكي يَسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنّ خالقها هو الحقّ، تعالي عمَّا يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن عُلُوَّاً كبيرا.. فهل يَتَوَهَّم أمثال هؤلاء أنّ حياتهم ستنتهي هكذا بكل عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلوا حينما يرجعون إليه في الحياة الآخرة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بعد موتهم بأجسادهم وأرواحهم؟!.. وهل يَتَوَهَّمُون أنَّ سُوءهم سيَستمرّ دون أنْ يُزالَ ويُهْلَكَ ودون عقابٍ دنيويٍّ مُناسِبٍ قبل الأخرويّ بكل عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلمٍ كما حَدَثَ مع المُكَذّبين المُجرمين السابقين وسيَحْدُث حتماً مع كل مَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان؟! إنَّ تَرْكَهم وشَرَّهم دون عقابهم يُخالِف الحقّ والعدل والخير والصلاح الذي أسَّسَ الله عليه الحياة!!.. تعالي سبحانه عن هذا اللعب وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو الذي وجوده حقّ أيْ صِدْق وقدْرته التامَّة وعلمه الكامل حقّ وكتبه ورسله حقّ ووعده حقّ وهو الخالق الحقّ وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وفي هذا تسلية للمسلمين ببيان أنَّ تكذيب بعض مَن حولهم لهم ليس أمراً جديداً مُسْتَغْرَبَاً مُسْتَبْعَدَاً بل هو مُتَوَقّع يَحْدُث في كلّ عصر، فلْيَصبروا وليعملوا بأخلاق إسلامهم وليُحسنوا دعوة الغير له وليعلموا أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ.." أيْ هذا تهديدٌ بعذاب الآخرة بعد التهديد بعذاب الدنيا المذكور في الآيات السابقة ليَتَّعِظ العاقل الذي يريد الاتّعاظ ويُحْسِن الاستعداد بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. أيْ وإنَّ الساعة وهي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار وأَخْذ كل صاحب حقّ حقّه وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها، قادمة حتماً – واللام للتأكيد – بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ.. هذا، ولكلّ إنسانٍ ساعة آتية بالتأكيد قبل ساعة يوم القيامة لا ينكرها أحدٌ لأنه يراها ويسمع بها يوميا وهي وقت موته ونهاية أجله في الدنيا حيث دخول قبره وبَدْء حسابه المَبْدَئيّ.. ".. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)" أيْ ما دام الأمر كما ذَكَرْنا لك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – مِن أنَّ هذا الكوْن قد خَلَقْناه بالحقّ ومِن أنَّ الساعة آتية لا شكّ فيها ومِن أنَّ ساعة ووقت بعض العقاب بالعذاب الدنيويّ للمُكَذّبين والمُتَشَبِّهين بهم ثم تمامه الأخرويّ الذي لا يُوصَف لابُدّ آتٍ وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي لو تَوَهَمُّوا بُعْده ومِن أنه لكي يتحققّ أن تكون الحياة الدنيا كلها سَائِرَة بالحقّ والعدل والخير والسعادة وتؤدّي إلي سعادة أتمّ وأعظم وأخلد في الحياة الآخرة كما هو الهدف من خَلْقها، فلابُدّ بالتالي من وجود ونَشْر "الصفح الجميل"، فاصفح إذَن عن هؤلاء المُكَذّبين لك صفحاً جميلاً أيْ حَسَنَاً أيْ كاملاً لا عِتاب معه ولا مُؤَاخَذَة ولا حُزن منه ولا غضب مع كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه تعالي وحده ودعائه فهو الذي يُسْتعان به دائما في كل الأحوال خاصة عند الشدائد والإيذاءات حتى يَحْكُم سبحانه بينكم وبينهم.. هذا، وبالقطع لا يَمنع الصفح الجميل من مُعاقَبَة المُسِيئين الذين تَتَكَرَّر إساءاتهم ويَظلّون مُصِرِّين عليها.. وفي هذا مزيدٌ من تسلية الرسول الكريم (ص) والمسلمين لأنه من شأن الذى يصفح عن غيره أن يكون أقوى وأعزّ منه فكأنه سبحانه يقول له ولهم اصفحوا عنهم فعمَّا قريب ستكون لك ولكم الكلمة العليا عليهم.. إنَّ هذا إرشادٌ من الله تعالي للبَشَر إلى ما يُنمّى روح المَحَبَّة بينهم خاصة بين الداعي إلي الله والإسلام ومَن يَدْعوهم.. أيْ يأيها الرسول الكريم ويا كل مسلم اُعْف عن الذين يُسيئون إليك بالقول أو بالفِعْل وسامحهم مُسَامَحَة تامّة صافية من أيّ شرّ بداخل العقل ولا تُقابل إساءاتهم القولية والفعلية بمِثْلها ولكن قابِلها بكلّ سلامٍ وأمن وإسعاد لهم في كل قولك وعملك، فإنّ هذا حتما سيُعينهم أو يُعين كثيراً منهم علي أن يُراجِعوا ذواتهم ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا هم كذلك مِثْلك في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة أيضا الآية (34) من سورة فُصِّلَت "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا، ومن معاني الآية الكريمة أيضا أنه أحيانا ولمصلحتهم علي الداعي أنْ يصفح عمَّن يَدْعوهم وكانوا مُصِرِّين علي عدم الاستجابة بمعني أن يُعْرِضَ عنهم أيْ يتركهم لفترةٍ ما يُقَدِّرها علي حسب تقديره والظروف والأحوال ويقول لهم تاركا إيّاهم سلاما عليكم لعلهم بهذا الإعراض والتّرْك قد يَستشعرون خَطَأهم ويُراجعون ذواتهم ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن (برجاء أيضا مراجعة الآية (10) من سورة المزمل ".. وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا.."، والآية (46) من سورة يونس "وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ فسَامِحُوا فلا تُعاقِبوا فتُقَابِلوا الإساءة بمِثْلها بل بالحَسَنَة وكأنَّ الإساءةَ قد مُحِيَتْ، واصفحوا أيْ واجتهدوا في أن تَنْسوا الأمر تدريجيا والغوه من أذهانكم، والمقصود ألاّ تهتمّوا ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم، واستمِرّوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم، مع حُسن التعامُل معهم والصبر علي أذاهم ودعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين فلعلهم يعودون لربهم وللإسلام ليسعدوا في الداريْن، واصبروا علي ذلك إلي أن يأتي الله بأمره أيْ بنَصْره ونَشْره للإسلام والتمكين له ولكم في الأرض فتُديرونها بأخلاقه فتَنتفعون وجميع الناس بخيراتها وسعاداتها، وبعقابه لهم بما يُناسب شرورهم، وأمره هذا بالنصر وبالعقاب الدنيويّ والأخرويّ سيَأتي حتما فهو تعالي لا يُخْلِف وعده مُطلقاً لأنه بلا أيِّ شكّ علي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حَتْمِيَّة حُدُوث كل ما سَبَقَ ذِكْره لأنَّ ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل هو الخلاّق أي الكثير التخليق للمخلوقات بكل أنواعها، ما يَعْلَمه البَشَر وما لا يَعْلَمونه، ولأنه هو العليم أي الكثير العلم الذي يعلم بتمام العلم وبعلمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكلّ شيءٍ وبكلّ حَرَكات وسَكَنات خَلْقِه والقادر قدْرة تامَّة علي كلّ شيء
وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن العظيم والذي فيه الإسلام بكل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، لأنه من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعْلَمهم تمام العلم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (57)، (58) من سورة يونس "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)"، "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أي ولقد أعطيناك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده ويا كل عاقل وأعطيناكم يا كل الناس سَبْعَاً من الآيات المَثاني أيْ التي تُثَنَّيَ أيْ تُكَرَّر في كل ركعات الصلاة، والمقصود سورة الفاتحة بآياتها السَّبْع، وأعطيناك كذلك القرآن العظيم.. ولقد خَصَّها تعالي بالذكر رغم أنها من القرآن للتنبيه علي فضلها – إضافة لفضل القرآن كله بالقطع – وأهمية تَدَبُّر معانيها حيث فيها معظم معاني القرآن من إخلاص العبادة لله وحده والاستعانة به ودوام التّوَاصُل معه ودعائه واستغفاره وشكره والحياة في إطار رحمته وحبه ورضاه ورعايته وتوفيقه وسداده ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده في الدنيا والاستعداد للبَعْث يوم الدين بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ والسَّيْر دَوْمَاً علي الصراط المستقيم أي التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في الداريْن والبُعد عن كلِّ نُظُمٍ وطُرُقٍ مُخَالِفَةٍ له مُضِلّةٍ مُضِرَّةٍ مُتْعِسَةٍ فيهما
ومعني "لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)" أيْ هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. أيْ لا تَنْظر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم نظرة تَمَنٍّ ورغبةٍ إلى ما مَتّعْنَا أيْ رَفّهْنا به من مُتَع الدنيا المُتَنَوِّعَة، أزواجاً أيْ أصنافاً مُتَزَاوِجِين أيْ مُتَمَاثِلين ومُتَشابِهين ومُتَعاوِنين في السوء، منهم أيْ من الكفار والمشركين والمنافقين واليهود والنصارى والظالمين والفاسدين ومن يَتَشَبَّه بهم، فإنه مُسْتَصْغَرٌ لا قيمة له بالنسبة لِمَا أوتيته أيْ أُعْطِيته من القرآن العظيم وما فيه من أخلاق الإسلام التي تُصْلِحك وتُكْمِلك وتُسْعِدك تمام السعادة في الداريْن لو عملت بها كلها.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم في دنياه أنَّ عليه قطعاً ألاّ يَتمنّي ويتطلّع أبداً أنْ يكون مِثْلهم علي ما هم فيه من شرٍّ وتعاسة رغم ما فيه بعضهم من غِنَيً وجاه، لأنه مُسْتَغْنٍ تمام الغِنَي بما هو فيه من سعادةٍ تامّة بأخلاق الإسلام حيث هو مُوَفّق تمام التوفيق بتيسير ربه لأسباب ذلك وحيث عوْنه ورضاه ورعايته وأمنه وسكينته وبركته وحبه وقوّته ونصره ورزقه في كل شئون حياته مِن عملٍ وعلم وإنتاج وكسب ومال وصحة وقوة وفكر وتخطيط وابتكار وبناء وعلاقات اجتماعية جيدة ونحو ذلك مع استبشاره الدائم بانتظار ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في أخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (196)، (197) من سورة آل عمران "لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ"، "مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ"، ثم مراجعة الآية (55) من سورة التوبة "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من معاني الآية الكريمة تَرْك الحَسَد للآخرين والنظر لِمَا عندهم والحزن لذلك (برجاء مراجعة الآية (27) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.." أيْ ولا تَشعر بالحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم بسبب عدم إيمانهم وإصرارهم علي سوئهم، ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)" أيْ هذا إرشادٌ للمسلم لكي يُوَجِّه حُبَّه لمَن يَسْتَحِقّه لا لأيِّ أحد.. أيْ وأنْزِل جناحك للمؤمنين بالله العاملين بالإسلام كما يُنْزِل الطائر جناحه لصغاره حماية ورعاية ودفئاً لهم وحبّاً فيهم وحرصاً عليهم، وهو تعبيرٌ يُقْصَد به معاملتهم – والناس جميعا ما داموا غير معتدين علي الإسلام والمسلمين – بتمام الرحمة واللّيِن واللطف والحب والرّفْق والتواضُع والتسامُح والتّصافِي والتعاون والتكامُل وبالجملة بكل حُسْن الخُلُق وبالأُخُوَّة الإنسانية والإسلامية في كل قولٍ وعملٍ في كل شئون الحياة ليسعد الجميع بذلك.. إنَّ هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة يُرْشِد المسلمين أن يتصرّفوا في كل موقفٍ بما يُناسبه كما وَصَّاهم الإسلام وبما لا يَخرج أبداً عن أخلاقيَّاته (برجاء مراجعة الآية (54) من سورة المائدة ".. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هذه فقط هي مهمّتي ومهمّة المسلمين من بعدي – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ومُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلّم أكثر عن المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين الظالمين
ومعني "كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)"، "الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)" أيْ وقل إني أنا النذير المُبِين بعذابنا الذي سنُنزله علي المُكَذّبين المُخالِفين للإسلام بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار كما أنزلنا عذابنا سابقا علي المُقْتَسِمين وهم الذين قَسَّمُوا دينهم الإسلام الذي جاءهم به رسلهم في زمنهم فآمنوا ببعضه أيْ صَدَّقوه وعملوا به وكفروا ببعضه الآخر أيْ كذّبوه وخالَفوه ولم يعملوا به وأظهروا بعضه وأخْفوا بعضه بل وقَسَّمُوا أنفسهم مجموعاتٍ مُنَظّماتٍ مُتَحَالِفاتٍ مُتَعاوناتٍ علي تكذيب الرسل ومُعاداتهم ومَنْع إيصال الإسلام لغيرهم وإيذائهم بل وأقْسَمُوا علي فِعْل ذلك فيما بينهم حتي يلتزموا بفِعْله ولا يَتَرَاجَع منهم أحد!.. " الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان والتوضيح والتعريف والوَصْف للمُقْتَسِمِين.. أيْ هم الذي جعلوا القرآن العظيم الذي أُنْزِلَ علي الرسول الكريم محمد (ص) – أو جعلوا القرآن بمعني كتابهم الذي يُقْرَأ عليهم وفيه الإسلام الذي يُناسب زمنهم وأُنْزِلَ علي رُسُلهم الكرام – عِضِين أيْ أعضاء وأجزاء وتصنيفات وتقسيمات، وكلها فيها سخرية واستهزاء واستعلاء وتكذيب، كمحاولةٍ منهم لمَنْع الناس عن اتّباعه، فيَدَّعُون مثلاً كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وتخريفاً أنَّ القرآن الكريم – أو كتابهم المَقْرُوء – ما هو إلا عبارة عن قِسْمٍ للشعر وآخر للسحر وثالث لأساطير الأوّلِين أيْ قصصهم التاريخية التخريفية! وهكذا
ومعني "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)"، "عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد الشديد لهم هؤلاء السابق ذِكْرهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان.. أيْ فبالتالي إذَن بما أنهم هكذا مُقْتَسِمِين فوالله ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل لنسألنّهم أجمعين.. أيْ يُقْسِم تعالي بذاته العَلِيَّة لمزيدٍ من التأكيد، إضافة لِلّلام ولِلنّون وهما للتأكيد، أنه سيسألهم جميعا – وعموم الناس بالقطع – بذاته وعظمته وهَيْبته سبحانه لا غيره، وسؤالهم في حَدِّ ذاته هو نوعٌ من العذاب النفسيّ قبل العذاب الجسديّ بالنار بما يُناسب حيث سيكون حساب يوم القيامة لأمثال هؤلاء دقيقاً مُخِيفَاً وليس بتساهلٍ كالذي يكون مع المُحسنين، مع العدل التامّ قطعاً.. إنه تعالي يُقْسِم أنه سيَسألهم، وهو العالِم بتمام العلم بكل قولٍ وفِعْلٍ لهم وبما سيُجيبون به، ولكنَّ هدف السؤال أن يُقِرُّوا ويَعترفوا بما كان منهم وأنهم يَستحقّون بالفِعْل العذاب فلا ظلم لهم.. إنه تعالي يُقْسِم أنه سيَسألهم عمَّا كانوا يعملون في دنياهم من كل سوءٍ في كل قولٍ وعملٍ ظاهرٍ وخَفِيٍّ عن علمٍ دقيقٍ وإحصاءٍ شاملٍ لأنه لا يَغيب عنه شيء، فما كان غائباً عنهم ولو لِلَحْظَة في أيِّ حالٍ من أحوالهم الظاهرة والخَفِيَّة في أيِّ وقتٍ من أوقاتهم ومكانٍ من أماكنهم فهو معهم دائما بعلمه وقُدْرته أينما كانوا
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَصْدَعُون بأمر الله، أيْ يفعلون أوامره ووَصاياه ويُنَفّذونها بكل عزمٍ وجدِّيَّة ويَتَجَنّبون تماماً ما يَطلب منهم ترْكه، أيْ مِمَّن يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم ويُبَيِّنونها ويُوَضِّحونها للآخرين (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)" أيْ فاجْهَر فلا تُخْفِي واعْلِن وصَرِّح وبَلّغ وادْعُ وبَيِّن واعْمَل بما تُؤْمَرُ به من الله تعالي يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وهو كل أخلاق الإسلام وأنظمته وتشريعاته وقوانينه التي في القرآن العظيم، اصْدَعْ بها للناس جميعا، بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ، في التوقيت وبالأسلوب المُناسب الذي يُحَقّق أفضل النتائج في نَشْرها، لكي يتحقّق إصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم عندما يعملون بها كلها.. هذا، وأصل الصَّدْع في اللغة العربية هو الشّقّ للشيء الصلب والتفريق لأجزائه والوصول لِمَا وراءه فكأنَّ المقصود أنْ شُقّ يا أيها المسلم بنور الإسلام ظلام الضلال وفَرِّقه وشَتّته ولا تُبْقِ منه شيئا.. ".. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية التّعامُل مع أمثالهم وعلاجهم ودعوتهم للعمل بأخلاق الإسلام.. أيْ واتْرُك المشركين واتركوهم أيها المسلمون وهم الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وابتعدوا عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا تلتفتوا لهم ولا تتأثّروا بتصرّفاتهم واستمرّوا في تمسّككم وعملكم بإسلامكم وفي دعوتكم غيرهم لله وللإسلام بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسب إعراضهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وكونوا دائما من المُتَوَكّلين علي الله تعالي – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعتمدين عليه سبحانه، أي ممَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافعا عنهم حيث سيُيَسِّر لهم كلّ أسباب النصر والعِزّة والأمان والنجاح والتفوّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
ومعني "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)" أيْ اصْدَعْ بما تُؤْمَر وأعْرِض عن المشركين وأشباههم واسْتَمِرّ في صَدْعِك بالإسلام وعملك به ودعوتك له ودفاعك عنه لأننا نحن بكمال قُدْرَتنا وعِلْمنا ورحمتنا ووُدِّنا وجنودنا التي لا يعلمها إلا نحن كَفَيْناك أيْ حَفِظناك ووَقَيْنَاكَ وسَنَقِيكَ دوْمَاً شَرَّ الساخرين منك ومن القرآن العظيم والإسلام المُكذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين ومَن يَتَشَبَّه بهم، يا رسولنا الكريم، ويا كلّ مسلمٍ ما دُمْتَ متمسّكا عامِلاً بأخلاق إسلامك وينصرك عليهم – إلا ما قد تُخْتَبَر به أحيانا من بعض أذاهم لتَستزيد جَلَدَاً وقوة وصبراً وخبرة ولك أجرك العظيم علي ذلك سواء استجابوا أم لا – لأننا القادرون علي كل شيءٍ العالِمون تماما به.. إننا بكل تأكيد سنَكْفيك في كلّ لحظات حياتك ولن تحتاج قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقك القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لك الرحيم بك هو وكيلك وكافِيك، أي الحافِظ لك المُدافع عنك المُتَكَفّل بك، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لك ذلك مِن خَلْقه، فهل تحتاج كافيا آخر بعد هذا؟!!.. إنه كَفَيَ بالله تعالي وحده وكيلاً أيها المسلمون أيْ اسْتَغنوا به تماما عن أيّ وكيلٍ آخر، أيْ عن أيّ حافظٍ أو كفيلٍ أو مُعينٍ أو غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وكيلا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيدا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسعدا لكم ولغيركم (برجاء أيضا مراجعة الآية (36) من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، ثم الآية (67) من سورة المائدة ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.."، ثم الآية (122) من سورة آل عمران ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)" أيْ الذين مِن صفاتهم القبيحة ومِن سَفَهِهم وخَبَلِهم أنهم يعبدون مع الله الذي ليس معه أيّ شريكٍ في العبادة مَعْبُودَاً آخر يَعْبُدونه غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه.. ".. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)" أيْ فسيَعلمون هم وكل مَن يَتَشَبَّه بهم حتماً قريباً عاجِلَاً أو آجِلَاً – وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي لو تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد – سوء نتائج فِعْلِهم هذا، في الدنيا والآخرة، إذ حين ينزل الخير المُسْعِد بالمُحسنين في الدنيا وحين يَصِلهم هم المُسيئين عذاب الله الذي يذِلّهم ويُهينهم ويَفضحهم فيها والذي سيكون بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في الآخرة حين يدخل المُحسنون درجات جناتهم بنعيمها الذي لا يُوصَف وحين يَحِلّ عليهم هم العذاب حيث يُقذفون ويُقيمون في عذابٍ دائمٍ مستمرٍّ من جهنم لا مَفَرّ منه فيما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد من عذاب دنياهم، حينها سيَعلمون وسيَعرفون وسيُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا سوء فِعْلهم وصِدْق ما كانوا يُوعَدون به مِن وُعُودٍ ويَستهزؤن بها ويعلمون تماما مَن الذي كان علي الحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الظلم والشرّ والفساد.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)" أيْ إننا نعلم ولقد أَحَطْنا علماً قطعاً ونحن بالتأكيد بلا أيِّ شكّ دَوْمَاً نُحيط بتمام العلم – واللام وقد للتأكيد – أنك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم تَشعر بانقباضٍ واختناقٍ وضيقٍ وألمٍ في عقلك ومَشاعِرك من الحُزن بسبب ما يقولون هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم عن الله والإسلام من تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ تكذيباً لك وتشويهاً للإسلام لإبعاد الناس عنه فلا يَتّبعوه وأنك تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي)
ومعني "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)"، "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)" أيْ هذا إرشادٌ من خالِق البَشَر العالِم تماماً بهم لعلاجٍ مُؤَكّدٍ لأيِّ ضيقٍ نفسيٍّ بأيِّ شَكْلٍ قد يَحْدُث لهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (28) من سورة الرعد ".. أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ فإنْ ضاقَ صدرك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، فحينها، ومِمَّا يُعينك علي الصبر ويُعالِجك ويزيل ضيقك وهَمّك وألَمَك ويَشرح نفسك ويَقْضِي حوائجك ويُسعدك بعد حزنك، وإضافة إلي ما أنت عليه دائما من تسبيحٍ وحَمْدٍ وذِكْرٍ واستغفارٍ ودعاءٍ وصلاةٍ، سارِع وفوراً كما يَطلب منك ربك والإسلام باللجوء إليه ودعائه والاستعانة به والتوكّل عليه وهو مالِك المُلْك القادر علي كل شيءٍ الهادِي المُيَسِّر لكل أسباب الخير والسعادة، سارِع لِطَلَبِ عوْنِه وتوفيقه وتَيْسيره ورحمته، بأنْ سَبِّح ربك كثيراً – أيْ خالقك ومُرَبِّيك ورازقك وراعيك ومُرشدك لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – أيْ نَزّهه وابْعِده عن كلّ صفة لا تَلِيق به فله كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ وبأنْ احمده كثيراً علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليك وعلي كلّ خَلْقه، وبأنْ كُنْ من الساجدين أيْ الخاضِعين لخالقك ورازقك ولتوجيهاته وإرشاداته المُسْتَجيبين المُسْتَسْلِمين المُطيعين المُطَبِّقين لها كلها في كل شئون حياتك بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، وأيضا اسْجُد لله مُتَوَاضِعَا خاشِعَا ساكِنَا علي جبهتك في صلاتك أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، واكتسب من ذلك تَوَاضُعَاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا تَسْتَعْلي عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما، ودَاوِم ووَاظِب علي ذلك وعلي كل أخلاق إسلامك والتي تُقَوِّي إرادة عقلك فيُمكنك بالتالي الانطلاق من ضيق صدرك بكل قوّةٍ وهِمَّةٍ وعَزْمٍ وإصرارٍ نحو كل خيرٍ لتنال سعادتيّ دنياك وأخراك.. وبالجُمْلَة وبالخُلاصَة "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)" أيْ وأَطِعْ ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء، فلا تطع غير أخلاق الإسلام ولا تعبد مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِع نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، لأنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم جميعا أيها الناس أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والقادِمين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة وهو مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم من خلال شرعه الإسلام (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. ".. حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)" أيْ وداوِم علي عبادة ربك طوال كل لحظات حياتك لتسعد بذلك، حتي يأتيك الموت، وسُمِّيَ اليقين لأنه مُتَيَقّن أيْ متأكّد الحُدُوث بلا أيِّ شكّ لكل مَخلوقٍ كما يُثْبِت الواقع ذلك.. كذلك من المعاني واعبد ربك حتي يأتيك أيْ يَصِلَك قبل موتك كل ما هو يَقِينِيّ مُؤَكّد من وُعُوده تعالي كنتيجةٍ لإحسان دَوَام عبادته وهو كلّ خيرٍ ونصرٍ وعِزّةٍ ورِفْعَةٍ ومَكَانَةٍ ورزقٍ وأمنٍ ورضا.. وسعادة.. ومَن أوْفَيَ بعهده من الله؟!!
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)" أيْ اقترب إتْيان ومَجِيء يوم القيامة، حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، اقترب منكم وسيأتيكم بلا أيِّ شكّ أيها الناس فأحْسِنوا الاستعداد له بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فكل ما هو آتٍ فهو قريب حتي ولو تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد، وموت كل إنسان بانتهاء أجله في الحياة هو وقت قيامته، وهو يأتي فجأة، وهو قريب جدا إذ قد يحدث بعد لحظة كما يُثبت الواقع ذلك ولا يمكن لأحدٍ أن يُكَذّب هذا، ثم يبدأ حسابه المَبْدَئِيّ عند دخوله قبره إلي أن يأتي الحساب الختاميّ الأخرويّ.. كذلك من المعاني اقترب أمر الله بعذاب المُصِرِّين علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ ورجوعٍ له ولإسلامهم حيث سيُحاسبهم ويُعاقبهم عليه كله إنْ لم يتوبوا منه بما يُناسبه بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. كذلك من المعاني أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيأتيهم أمر الله أيْ نصره وخيره وإسعاده في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنه بالجملة وبالخلاصة للمعاني أنَّ كل تقديرات الله في كوْنه يُيَسِّر لها أسباب حدوثها فلابُدّ أن تأتي وتتحقّق وتَقَع في التوقيت والمكان وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا من أجل مصلحة خَلْقه وإسعادهم ولا يستطيع أيّ أحدٍ أن يمنعها أو يُغَيِّرها أو يَرُدَّها أو يَفِرَّ منها.. هذا، ولفظ "أتَيَ" يُفيد قُرْب المَجِيء وصِدْقه وتأكيده وهو فِعْلٌ ماضٍ يعني المستقبل المُحَقّق الوقوع أيْ سيأتي حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، وهو للإشعار بتَحَقّق هذا الإتْيان حتى لكأنَّ ما سيَقع في المستقبل قريبا قد صار فى حُكْم الواقع فعلاً، وذلك لأنَّ الله تعالي هو الذي يقوله ويَعِدُ به وهو القادر علي كل شيءٍ وهو الذي قد أتَيَ فِعْلَاً في عِلْمه المستقبليّ ما سيَحدث مِمَّا لا يعلمه أحدٌ غيره ولا يعلمه خَلْقه حيث لا أحد يعلم المستقبل إلا هو سبحانه.. ".. فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ.." أيْ هذا مزيدٌ من الإنذار والتحذير والتهديد لمزيدٍ من إيقاظ الغافلين.. أيْ فبالتالي لا تستعجلوا أيها المُكَذّبون عذابكم في دنياكم ثم أخراكم تكذيباً واسْتِبْعادَاً له واستهزاءاً به وبالقرآن العظيم الذي حَذّركم منه وبالرسول الكريم (ص) الذي بَلّغكم إيّاه فإنه قطعاً لا خير لكم فيه ولا فرار لكم منه وهو قد تَقَرَّر بالفِعْل ونازِل بكم – إنْ لم تتوبوا – سواء استعجلتم أم لم تستعجلوا فلا فائدة إذَن من استعجالكم حيث لن يُسَرِّعه وعدم الاستعجال لن يُؤَخّره إذ هو آتٍ مُتْعِس لكم حتماً وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ حتي لو تَوَهَّمْتُم بُعْده ولكنْ فى الوقت الذى يُحَدِّده الله ربكم ويشاؤه حسبما تقتضيه حِكْمته ومصلحة خَلْقِه وكَوْنه، فلْيَعُدْ إذَن العاقل منكم لربه ولإسلامه لينجو وليسعد قبل فوات الأوان.. إنَّ أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم يطلبون من الرسول الكريم (ص) – ومِن المسلمين مِن بَعده – بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء واستهتار واسْتِبْعاد سرعة إنزال عقاب الله الذي يَعِدُهم به أو قيام يوم القيامة إنْ كان صادقاً فإنْ لم ينْزِل ولم يَقُمْ فهو إذَن كاذب والمسلمون كاذبون وذلك قَبْل وبَدَل أن يطلبوا الهداية لله وللإسلام والتي ستؤدِّي بهم حتماً لكل حياةٍ حَسَنَةٍ سعيدةٍ في الدنيا والآخرة! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا فيما يدعوهم إليه من إسلامٍ فيه كلّ خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون العقاب والهلاك لإثبات صِدْقِه!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة! ألا يعقلون ذلك؟! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (32) من سورة الأنفال "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)")، رغم أنَّ الحال والواقع يُثْبِت بلا أيّ شكّ أنه قد مَضَت وذَهَبَت وثَبَتَت وتَقَرَّرَت من قبل زمنهم سابقاً العقوبات علي أمثالهم حيث عُوقِبُوا وعُذّبُوا وأُهْلِكُوا بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وقد سَمِعُوا عنهم وتَنَاقلوا أخبارهم ومَرُّوا ببعض آثار إهلاكهم فكيف لا يَتّعِظون بهم ويستعجلون العقاب اسْتِبْعاداً له واسْتِخْفافاً به فأين ذهبت عقولهم؟!.. هذا، ومن معاني الآية الكريمة كذلك أنْ لا تستعجلوا أيها المسلمون وتَسْتَبْطِئوا نصركم وتحقيق أهدافكم وهلاك عدوكم من المُكَذّبين والظالمين وأشباههم حيث سيكون ذلك بحِكْمة ربكم في التوقيت والمكان والأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا من أجل مصلحتكم وإسعادكم.. فالمسلم المتمسّك العامل بكل أخلاق إسلامه يعلم تمام العلم حكمة ربه التامَّة في كل تصرّفاته وتقديراته والتي هي كلها لمصلحة خَلْقه، لكي يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ولذلك فهو لا يستعجل أبداً نتيجة حَسَنة مَا لسببٍ مَا قد اتّخذه، فهو سبحانه حتماً سيأتي له بالنتائج الطيبة التي يريدها وأفضل منها في أحسن وأسعد توقيتٍ وأسلوب، له ولغيره، في دنياه وأخراه.. ".. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)" أيْ سَبِّحوه، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به، وتعالي أي عَظِمُوه واعلوا شأنه، فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، عمَّا يُشركون هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري، وبالتالي فاعبدوه أيْ أطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَمَسَّكْتَ وعَمِلْتَ بالروح الذي أنزله الله تعالي للناس، أيْ بالقرآن العظيم وما فيه من كل أخلاق الإسلام وكان دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، فسَتَجِد البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَةٍ أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة الوَحْي لرسله بكتبه التي فيها الإسلام الذي يُناسِب كل عَصْر والذي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسْعِدهم تماماً في الداريْن.. أي الله سبحانه وتعالي يُنَزّل الملائكة – جَمْع مَلَك، وهي خَلْق من خَلْقه خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه – بالروح أيْ بالوحْي، مِن أمره أيْ بأوامره، علي مَن يختاره منهم وهم رسله الكرام الذين اختارهم لحُسن أخلاقهم وكمالها، وقد سَمَّيَ الله تعالي وَحْيَه رُوحا، وآخره القرآن العظيم، لأنه كالروح بالنسبة للجسد، فهو الذي يُحي البَشَر، فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة، الحياة الحقيقية، الحياة السعيدة السعادة التامّة في الدنيا والتي ستُؤَدِّي إلي الحياة الأتمّ والأخلد سعادة في الآخرة (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولاكتمال المعاني، برجاء مراجعة الآية (24) من سورة الأنفال "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.. "، ثم الآية (57)، (58) من سورة يونس "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"، "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ").. ".. أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)" أيْ وقلنا لرسلنا أنْ حَذّروا الناس الكافرين المشركين العاصين وأشباههم أنه لا إلهَ أيْ مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ أنا وحدي بلا أيّ شريكٍ لي، فأنا الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معي شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معي شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وبالتالي إذَن فاتقوني أيْ فخافوني وراقِبوني وأطيعوني واجعلوا بينكم وبين عذابي وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حبي وعوْني وتوفيقي ورضاي ورعايتي وأمني ونصري وقوَّتي ورزقي وإسعادي لكم في الدنيا ثم أعلي درجات جنتي في الآخرة ولا تصِلُوا أبداً لمرحلة إغضابي بل تُسارعوا لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. هذا، وكما أنَّ رُسُل الله الكرام مُنْذِرون فهم أيضا حتماً مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآية السابقة أقرب للحديث عن المُسْتَعْجلين للعذاب الدنيويّ والأخرويّ في يوم القيامة المُكَذّبين المُسْتَبْعِدين له المُشْرِكين المُسْتَهْزِئين المُسْتَكْبِرين المُعَانِدين الظالمين
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)"، "خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)"، "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)"، "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)"، "وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)"، "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هو الله وحده لا غيره الذي خَلَقَ السماوات والأرض أيْ أوْجَدهما من عدمٍ علي غير مثالٍ سابِقٍ – بكلّ ما فيهما مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَةٍ مُبْهِرَةٍ – بالحقّ، أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ولكي تسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنَّ خالقها هو الحقّ.. ".. تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)" أيْ تَعَاظَم الله وارتفع وابتعد أيْ عَظّمُوه واعلوا شأنه أيها المسلمون فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة عمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره مِمَّا هو أضعف منهم! أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! ولكنه التعطيل للعقول من أجل أثمان الدنيا الرخيصة.. "خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)" أيْ هو الله وحده لا غيره الذي خلق الإنسان مِن نُطفة أيْ من قطرة ماءٍ صغيرة والمقصود من حيوانٍ مَنَوِيٍّ ضعيفٍ مهين؟! ثم خَلّقه وكَوَّنه علي مراحل في بطن أمه ثم أخرجه للحياة بمنتهي الضعف لا يملك ولا يعلم أيّ شيء، ثم أعْطاه من كل أنواع القويَ الجسدية والعقلية وغيرها بحيث جُعِلَ خصيمٌ أيْ مُجادِلٌ مُحَاوِرٌ مُنافِسٌ في الحياة مُبينٌ أيْ مُبَيِّنٌ مُوَضِّحٌ لحُجَّته ولِمَا يريده بأشكالٍ مُتنوِّعَةٍ من طرُق البيان بواسطة عقله وفِكْره ومَنْطِقه ولسانه ليسعد بهذه الصفات حيث سيَتبادل المنافع والعلوم مع الآخرين، أليس الله الذي يَفعل كل هذا وغيره؟! هل استطاع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويَدَّعي أنه هو الذي يفعله؟! أليس الذي يَخلق ما يشاء هكذا من كل أسباب القوة والضعف وكل شيءٍ في الحياة وهو العليم تمام العلم بكل شيءٍ والقادر عليه بتمام القدْرة أليس يُمكنه إعادة خَلْقكم مرة أخري يوم البعث يوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ ليُجازيكم علي الخير بكل خيرٍ وسعادة وعلي الشرّ بما يُناسبه وتَستحقونه من كل شرٍّ وتعاسة؟! إنه تعالي قادر بكل تأكيد، فمَن خَلَق كل هذا البَشَر وهذا الخَلْق أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيده مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك عندنا وفي مفهومنا نحن البَشَر، فهو سبحانه يُخاطبنا بما تفهمه عقولنا! فكل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. ".. فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4)" أي فإذا البعض من هذا الإنسان بَدَلاً أن يَتَدَبَّر في كل هذا ويعبد ربه وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ليَسعد في دنياه وأخراه، إذا بالأمر المُفاجِيء للعقل المُنْصِف العادِل أنه خصيمٌ مُبِين! أيْ مُبالِغ في الخصومة أيْ مُخَاصِم شديد واضِح!! ومعَ مَن؟! مع خالقه سبحانه!! يُعادِيه ويُقاومه ويُجادله ويحاول غَلَبَته ومُصارعته والانتصار عليه!!! أبَلَغَت به الحَماقة والسفاهَة والجَهَالَة إلي هذا الحَدّ؟!! أين عقله؟! ولكنه قد عَطّله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)" أيْ والأنعام كذلك هو وحده لا غيره الذي خلقها لكم – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – أيْ لأجلكم أيها الناس، أيْ لأجل منفعتكم وسعادتكم، ليكون لكم فيها وفيما يشبهها من دوابّ دفءٌ من البَرْد من خلال ما تأخذون منها من أصْوَاف وأوْبَار وأشْعَار وجلود فتصنعون مَلْبُوسات ومَفروشات وأغطية وغيرها.. وقد خَصَّ تعالي الدفء بالذكر من عموم المنافع للعناية به وللتذكير بأهميته ولأنه من النِّعم التي قد يُسْتَخَفّ بها فتُنْسَيَ ولا تُشْكَر.. ".. وَمَنَافِعُ.." أيْ وأيضا لكم في الأنعام منافع كثيرة مُتَعَدِّدَة غير ذلك تبتكرونها وتَسْتَحْدِثونها حيث تُتاجرون فيها ونَسْلها فتَرْبحون وتشربون ألبانها وتستخدمونها وعظامها ودهونها وغيرها في استخدامات وصناعات مختلفة وتحملكم وتنقلكم من مكان لآخر وتحملون عليها أمتعتكم وبعض تجاراتكم في بعض أماكنكم غير المُمَهَّدَة، ونحو هذا.. ".. وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)" أي ومن بعضها تأكلون ما يمكن أكله من لحومها النافعة المُتَنَوِّعَة وبعض أعضائها.. وقد خَصَّ تعالي بالذكر مَنْفَعَة الأكل رغم أنها من المنافع عموماً لأنها غالباً الأكثر استخداما.. "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)" أيْ وجعل لكم فيها جمالٌ أيْ وجعلها تُعطيكم إحساسَاً بالجَمَال وهو شُعُورٌ مُسْعِدٌ حين تُريحون أيْ تعودون بها بعد رَعْيها وقد شبعت لترتاح في أماكن راحتها وحين تَسرحون أيْ تخرجون وتذهبون وتنطلقون بها للرعي، وذلك لأنَّ رؤية مناظرها وتَذَكّر ما ستَعود به عليكم من خيراتٍ وأموال ومنافع يُسعدكم نفسِيَّاً إضافة إلي ما سَبَقَ ذِكْره من إسعادها لكم مادِّيَّاً.. وفي هذا تشجيعٌ لتربيتها والعناية بها لمنافعها هذه الماديّة والنفسيّة.. "وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)" أيْ وكذلك من منافع وإسعادات هذه الأنعام لكم أنها تحمل أمتعتكم وتجاراتكم الثقيلة وتحملكم إلى بلدٍ بعيدٍ لم تكونوا واصِلِيه إلا بمَشَقّة النفوس مَشَقّة شديدة.. ".. إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)" أيْ ولكنه سبحانه خَلَقَها وذَلّلها ويَسَّرها وجَعَلَها مُسَخَّرَة تماما مُنْقَادَة طائِعَة لكم لتحقيق منافعكم وسعاداتكم لأنَّ ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، واللام للتأكيد، رءوف رحيم أيْ رؤوف رحيم بالناس كلها وبالخَلْق كلهم فما بالكم بكم أنتم أيها المؤمنون؟!.. أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)" أيْ وكذلك خَلَقَ لكم الخيل والبغال – جَمْع بَغْل وهو المُتَوَلّد بين الخيل والحمير – والحمير وذَلّلها ويَسَّرها وجَعَلَها مُسَخَّرَة تماما مُنْقَادَة طائِعَة لكم لتحقيق منافعكم وسعاداتكم، لكي تركبوها فتنتقلوا بها وبحاجاتكم من مكانٍ لآخر، ولكي تكون إضافة لمنافعها الأخري زينة لكم في أفراحكم ومَسَرَّاتكم ومَنْظَرَاً جميلاً حَسَنَاً يُسعدكم حينما تحتاجونها في شئون حياتكم، فكما أنكم تحبون وتسعدون بالتّزَيُّن بالثياب الجميلة والروائح الطيّبة والمساكن المُريحة كذلك تَزَيَّنوا واسعدوا بما تَرْكبون، فالزينة جزء من السعادة وبها مع منافع الأشياء تتمّ سعادتكم.. ".. وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)" أيْ وخَلَق أيضا ربكم – والتعبير بصيغة الفِعْل المضارع هو للتنبيه علي دوام تَذَكّر ذلك حاليا ومستقبلا – ما لا تعلمون من مخلوقاتٍ أخري كثيرة مُعْجِزَة مُبْهِرَة غير التي ذُكِرَت لكم وتَرَوْنها لكنه هو خالقها يعلمها وكلها لتَوَازُن هذا الكوْن بما يُؤَدِّي لمنافعكم وسعاداتكم، وقد تعلمون بعضها ومنافعها مع الوقت إن اجتهدتم في مزيدٍ من العلم والبحث عنها، وفي هذا تشجيعٌ ضِمْنِيٌّ عليهما لتحقيق التّطَوُّر والسعادة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (53) من سورة فُصِّلَت "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من المعاني أنه تعالي خَلَقَ في الآخرة في النار والجنة ما لا تعلمون مِن خَلْقٍ مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
ومعني "وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا يُسْعِد الناس من الأمور الفكرية المعنوية التشريعية وهي الإيمان بالله والعمل بأخلاق وأنظمة الإسلام والتي بدونها لا يمكنهم أبداً حُسْن الانتفاع وتمام السعادة بالأمور المادِّيَّة التي سَبَقَ ذِكْرها.. أيْ وحَقّ علي الله بيان قَصْد أيْ اعتدال السبيل أيْ الطريق، أيْ بيان الطريق القَصْد أيْ المُعْتَدِل أي المستقيم الذي ليس فيه أيّ انحرافٍ والذي يُوصل إلي تمام السعادة في الدنيا والآخرة وهو طريق الإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والاستقامة، وهو حقّ عليه من فضله وكرمه ورحمته وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم لأنه خالقهم ويعلم تمام العلم النظام والطريق الذي عليهم أن يتّبعوه لكي يَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (41) من سورة الحِجْر "قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ"، ثم الآية (12) من سورة الليل "إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وهو حقّ عليه سبحانه يَفعله من خلال إرسال رسله الكرام إليهم ومعهم كتبه التي فيها هذا الإسلام الذي يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم كبيرها وصغيرها علي أكمل وأسعد وَجْهٍ ومن خلال ما أعطاهم من عقلٍ يُمَيِّز بين الصواب والخطأ والخير والشرّ والسعادة والتعاسة وما أعطاهم من فطرةٍ بداخل هذا العقل هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. وَمِنْهَا جَائِرٌ.." أيْ ومِن هذه السُّبُل أي الطرُق والأساليب التي تتّبعونها لتَسْيِير شئون حياتكم جائرٌ أيْ مُنْحَرِفٌ مائلٌ غيرُ مستقيمٍ لا يُوصل إلي الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن وهي كل ما خالَف أخلاق وتشريعات وأنظمة الإسلام مِن نُظُمٍ وقوانين وثقافات وأديان وعلوم وغيرها لأنها تؤدّي إلي الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات في الدنيا والآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (153) من سورة الأنعام "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)" أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أيْ أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يُؤمن مَن في الأرض كلهم جميعا ويَتّبِعوا الإسلام لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، ثم الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو سبحانه لم يجعل الجميع مؤمنين لأنه قد نَفَذَ الأمرُ بأنْ يكون نظام الحياة الدنيا والآخرة هكذا علي هذه الصورة وأن يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، بينما مَن لم يشأها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله، وهم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورة ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتّباع إسلامه.. هذا، وفي هذا الجزء من الآية الكريمة تسلية وطَمْأَنَة للرسول (ص) وللمسلمين مِن بعده إذ ليس عليهم مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذِرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..")
ومعني "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)"، "يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)" أيْ كذلك من بعض مُعجزاته ومن تمام قدْرته وعلمه ورحمته وعطائه أنه هو وحده لا غيره الذي يُنزل الماء من السُّحُب في السماء فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. ".. لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)" أيْ يكون لكم منه شرابٌ هو ماءٌ عَذْبٌ تشربونه أنتم ودَوَابّكم، سواء شربتموه كما هو أم أدخلتموه في أشْرِبَةٍ أخري تُفيدكم وتُسعدكم كعصائر وغيرها، ويكون لكم به أيضا شجرٌ أيْ زَرْعٌ فيه تُسِيمون أي تَرْعون فيه هذه الدوابّ فتنتفعون وتسعدون بمنافعها المُتَعَدِّدَة.. "يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)" أيْ هذا بعضُ تفصيلٍ لبعضِ منافع الماء بعد منفعة إحياء الأحياء.. أي يُخْرِج ويُوجِد ويُنْشِيء ويُرَبِّي ويُنَمِّي ويَرْعَيَ ربكم لكم بهذا الماء الزرع الذي يَخْرُج منه الحبوب مُتَنَوِّعَاً طَعْمُه ونفعه عند أكله، وأشجار الزيتون والنخيل والأعناب والتي تُثْمِر زيتوناً وتَمْرَاً وعِنَبَاً بأنواعٍ مختلفةٍ طيّبة الطعم والنفع، ومن كل أنواع الثمرات غير التي ذُكِرَت والفواكه والخضروات والتي تحبونها وتنتفعون وتسعدون بها والتى تختلف فى أنواعها وأطعمها وألوانها وأشكالها وروائحها، وغير ذلك مِمَّا يَنفع ويُسعد الناس والخَلْق، رغم أنَّ الماء الذي يسقيها واحد والأرض واحدة بما يدلّ علي عظيم قُدْرته وعلمه سبحانه.. هذا، وقد تَمَّ تخصيص هذه النباتات بالذكر مع أنها من عموم النبات النافع لاشتهارها حيث الجميع يعرفها ولكثير منافعها ولأنَّ طعام كثيرٍ من الخَلْق منها.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً.." أيْ إنَّ فِي ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ – واللام للتأكيد – آية عظيمة أيْ دلالة ومعجزة تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون ويسعدون بها هم فقط الذين يَتَفكّرون أيْ يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعمَّقون في الأمور فيَصِلون حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق قرآنهم وإسلامهم فيَسعدون بذلك تماما في الداريْن حيث يُحسنون طلب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا حياتهم وآخرتهم في تعاسةٍ علي قَدْر بُعْدِهم عن الله والإسلام
ومعني "وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)" أيْ ومن بعض مُعْجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، أنه خَلَقَ وسَخَّرَ لكم أيْ ذَلّلَ وجَهَّزَ وأعَدَّ الليل والنهار والشمس والقمر وجعلها يُوَالِي بعضها بعضا لتكون من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما.. هذا، والنجوم المُضيئة بمواقعها في السماء والتي هي أساس علوم الفَلَكِ يُسْتَرْشَد بمواقعها لمعرفة الاتّجاهات في أثناء ظلام ليل البرّ والبحر بما يَهدي الناس ويُرْشدهم ويُوصلهم إذا ساروا في طرقٍ صحراويةٍ أو جَبَلِيَّةٍ أو بحريةٍ إلي حيث يريدون الوصول إليه من أماكن لتحقيق مصالحهم ومنافعهم وسعاداتهم، إضافة إلي أنها زينة للسماء وتخفيف لظلمتها مساءً فلا تكون مُخِيفَة.. إنه بالشمس وبالقمر وبالنجوم تُعْرَف الأوقات والساعات والأزمنة والأعمار والاتّجاهات ونحو ذلك، إضافة بالقطع لنعمة ضبط حرارة الأرض بالشمس بما يُناسب.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. ".. وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ.." أيْ والنجوم – وكذلك الشمس والقمر وكل مخلوقات الكوْن – بكل منافعها مُسَيَّرَاتٌ بتَسخيره وتدبيره وبتَحَكّمه وبإدارته لها وبحُكْمه وبتصريفه فهي خاضعات تماما لتَصَرَّفه مُنْقادات لإرادته كما يشاء.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ.." أيْ إنَّ فِي ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ – واللام للتأكيد – آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون ويسعدون بها هم فقط الذين يعقلون أيْ أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أيْ الذين يُحسنون استخدامها فيتدبَّرون فيما حولهم من آياتٍ فيَزداد بسببها تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَسعدون في دنياهم وأخراهم ولا يتعسون فيهما مثل الذين لا يَتَّبعون إسلامهم لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)" أيْ وسخَّر ما ذَرَأَ أيْ خَلَقَ ونَشَرَ لكم في الأرض من الدوابِّ والثمار والمعادن وغير ذلك مِمَّا تختلف ألوانه أيْ أنواعه وأصنافه وصفاته وأشكاله وخَوَاصّه وألوانه ومنافعه فتنتفعون وتسعدون به.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)" أي هذا، مع نهايتيّ الآيتيْن السابقتيْن، مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي التّفَكّر والتّعَقّل والتّذَكّر.. أيْ إنَّ فِي ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ – واللام للتأكيد – آية عظيمة أيْ دلالة ومعجزة تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون ويسعدون بها هم فقط الذين يَتذكّرون ولا يَنْسُون هذا الذي هو موجود في فطرتهم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّرون ربهم وإسلامهم، ويعقلون كل هذا بعقولهم ويتدَبَّرونه ويدرسونه، ويُذاكرونه كما يُذاكرون دروسهم وعلومهم ويربطون بين أجزائها ومعلوماتها ويحفظونها ويراجعونها حتي لا ينسوها، ويكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لينتفعوا ويسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. بينما لا أثرَ له في عقول الذين لا يَذّكرون لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)" أيْ والله تعالي وحده لا غيره هو الذي خَلَقَ وذَلّلَ وجَهَّزَ وأعَدَّ لكم كذلك البحر لكي تَستخرجوا الأسماك واللحوم الطريّة البحريّة والمائيّة وما شابهها للانتفاع بها وللاستمتاع بأكلها، وكذلك لتستخرجوا منها أحجارا كريمة كاللؤلؤ ونحوه ممّا تُصَنِّعونه وتَلبسونه فتَتَزَيَّنون وتَتَحَلّون به وتَسعدون.. ".. وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ.." أي وكذلك من الآيات والنِعَم ما جعله الله مِن خَوَاصِّ الماء والهواء أنه يَحمل السفن ولا يُغرقها بل تطفو علي سطحه وتراها – أيها المُشاهِد المُتَعَقّل المُتَدَبِّر – مَوَاخِر فيه أي تسير فيه تَشُقّه بمُقَدِّماتها وتُحْدِث أصواتا أثناء شَقِّها للماء، مِن مَخَرَ أيْ شَقَّ، وكل ذلك لكي تبتغوا من فضله أيْ تطلبوا من عطائه وإحسانه وإنعامه الزائد عن طريق الانتقال والتجارة والكسب والربح والسياحة ونحو هذا.. ".. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)" أيْ ولعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)" أيْ وجَعَلَ ووَضَعَ في الأرض رواسي أيْ ما يُبقيها راسِيَة ثابتة، كالجبال التي فوقها وكقُوَيَ الجاذبية التي بداخلها ونحوها، أنْ تَمِيدَ بكم أيْ حتي لا تَضطّرب وتهتزّ بمَن عليها بل تظلّ ساكنة لتَتَمَكّنوا مِن السَّكَن بأمانٍ علي سطحها والعيش والتّمَتُّع فيها والانتفاع بخيراتها والسعادة بها، وجعل فيها كذلك أنهاراً من مياهٍ عَذْبَةٍ لسَقْيكم ونَفْعكم أنتم ودَوابّكم ونباتاتكم وكل شيءٍ حَيٍّ فيه مَنْفَعة وسعادة لكم، وجعل فيها أيضا سُبُلاً أىْ طُرُقاً مُتَعَدَّدَة مُمَهَّدَة لكي تَصِلُوا بواسطتها من مكانٍ لآخر لقضاء حوائجكم ولتحقيق ما لا يُمكن حَصْره من المنافع والسعادات، لأنه جعل لكم الأرض كالفِراش المُمَهَّد المُيَسَّر الذي يَستقِرّ ويستريح عليه مَن جَلَسَ فوقه حيث جعلها مَبْسُوطَة صالحة للسَّيْر عليها.. ".. لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)" أيْ لكي تَصِلُوا إلى مصالحكم وأغراضكم، وتَصِلوا أيضا إلي الهداية لله وللإسلام إذا أحسنتم استخدام عقولكم فتعملوا بكلّ أخلاقه لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك مُهْتَدِين لكلّ خيرٍ وسعادة
ومعني "وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)" أيْ وكذلك جعل سبحانه في الأرض أمارات ومَعَالِم تُرْشِد الناس أثناء سَيْرهم فيها ويَسْتَدِلّون بها علي الطرق والأماكن التي يريدون الوصول إليها كالجبال والتلال والسهول والوِدْيان والأنهار والغابات وغير ذلك مِمَّا يضعه الناس علي طرقهم وأماكنهم من علاماتٍ وإرشاداتٍ بإلهامٍ وتوفيقٍ وتيسيرٍ منه تعالي لعقولهم.. وهذه من النعم والآيات التي قد يَسْهُو الناس عن شكرها والتّفَكّر فيها ويَسْتَصْغِرونها.. ".. وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)" أيْ وبمواقع النجوم التي خَلَقْناها والتي بها وبأشكالها تُعْرَف الاتجاهات، هم أيْ الناس يهتدون أيْ يَصِلُون أثناء ظلام الليل في البَرِّ والبحر إلى الأماكن والمنافع التى يريدونها
ومعني "أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فهل بعد كل هذا الذي ذُكِر سابقا تُساوون في العبادة مَن يَخْلُق أيْ يُوجِد مِن عَدَمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ وهو الله تعالي وحده خالِق الخَلْق كله وبالتالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة بلا أيِّ شريكٍ كمَن لا يَخْلُق وهو غيره من المَعْبُودات التي يعبدها بعض سفهاء مَخْبُولي العقول كالأصنام والنجوم والنيران وغيرها مِمَّا لا يَخْلُق أيَّ شيءٍ مُطلقاً بل هو أصلاً مخلوق من مخلوقات الله سبحانه؟!.. إنها لا تَضرّ أحداً ولا تنفعه بأيِّ شيءٍ حيث هي كما يري الجميع واقعا لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟!.. أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! كيف يَلِيق بسليم العقل أن يجعل المَخلوق العاجِز شريكاً للخالق القادر؟! إنه لا مُقَارَنَة حتماً عند أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل! ولكنه التعطيل لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)" أيْ هل لا تتذكّرون أيها الناس هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن؟!.. وهذا أيضا مزيدٌ من الاستفهام والسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن لا يَتَذَكَّر ويَتَفَكَّر ويَتَدَبَّر ويَتَعَقّل ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من نِعَمٍ مع الإجمال والتعميم لها بعد التفصيل السابق لبعضها لمزيدٍ من التذكرة بعبادته وحده تعالي وبشكرها وحُسْن استخدامها ليزيدها ولا ينقصها أو يمنعها.. أيْ وإنْ تُحاولوا عَدَّ نِعَم الله عليكم نِعْمَة بنعمة وما تحتويه كل نِعْمَةٍ واحدةٍ مِن نِعَمٍ مُتَعَدِّدَة وتحديد عددها لا يمكنكم أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال أن تُحْصوها أيْ تَحْسِبُوها وتَعدّوها وتضبطوها حِسَابَاً وعَدَّاً وضَبْطَاً وتحديداً دقيقاً مُحْكَمَاً بكلّ تفاصيلها بتمام الدِّقّة، وذلك لكثرتها وتَنَوُّعها ولأنها لا نهاية لها ولأنَّ كثيراً منها يَخْفَيَ عليكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (20) من سورة لقمان "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)" أيْ إنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام تُفيد التأكيد – غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيعٌ للناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُتّقِيَاً لله تعالي في السِّرِّ والعَلَن، بمفردك ومع الآخرين، فيما تُظْهِره وما تُخْفِيه، فهو سبحانه يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه، فمعرفتك بهذا، ستَدْفعك بكل تأكيد، وتَدْفع كل عاقل، لأنْ يكون من المُتّقين، والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا، ومعني "وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)" أيْ والله حتماً يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ما تُخفون أيها الناس بداخل عقولكم مِن خيرٍ أو شرٍّ وما تَنْوُون فِعْله منهما، وما تُظهرون من أقوالٍ وأعمال خيرية أو شَرِّيَّة سواء بمفردكم أم مع غيركم، فلا يَخْفَيَ عليه قطعا أيّ شيءٍ من أيٍّ مِن خَلْقه فهو معهم بعِلْمه وبقُدْرته أينما كانوا ويعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه، وسيُحاسبكم علي كلّ هذا في الداريْن بالخير خيرا وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فانتبهوا لذلك إذَن وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)" أيْ والآلهة التي يعبدها غير الله تعالي هؤلاء المشركون والمُتَمَثّلَة في الأصنام والأحجار ونحوها لا تَخْلق شيئاً مُطلقاً أبداً حتي ولو كان صغيراً، بل هي تُخْلَق بأيديهم فكيف يعبدونها؟!! وهل يكون الإله عاجزاً تماماً هكذا يحتاج إلي مَن يَخْلقه ويَرْعاه وهو الذي مِن المُفْتَرَض أنْ تكون له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وأهمها تمام القُدْرَة والعلم؟!! (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (17) من هذه السورة "أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ")
ومعني "أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)" أيْ هذا مزيدٌ من بيان عَجْز هذه الآلهة وبيان الحياة المَيِّتَة المُظْلِمَة التعيسة التي لا روح ولا سعادة حقيقية فيها للسفهاء الذين يعبدونها.. أيْ وهذه الآلهة جميعها جمادات مَيِّتَة لا حياة أبداً فيها أيْ لا عقل ولا حسّ ولا حركة لها فهي لا تَعْقِل ولا تَسمع ولا تُبْصِر ولا تَنْفع عابديها ولا تضرّهم شيئا، ومَن كان هكذا فلا يُعْقَل حتماً أن يكون إلاَهاً!! ولفظ "غيرُ أحياءٍ" هو تأكيدٌ لموتها التامّ حيث لا أثَرَ ولا شُبْهَة لأيِّ حياةٍ فيها، وذلك لبيان تمام عَجْزِها وخَبَلَ مَن يعبدها حيث هو أقوي منها بالحياة!.. كذلك من المعاني – عند بعض العلماء – أنَّ مَن يعبدون غير الله تعالي مِن شِدَّة غَفْلتهم وبُعْدِهم عن ربهم ودينهم الإسلام وتعطيلهم لعقولهم يعيشون حياتهم كأمواتٍ غير أحياء (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (2) من سورة النحل "يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن أنَّ القرآن الكريم هو أصل الحياة وبدونه فكأنها مَيِّتَة).. ".. وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من البيان للعَجْز والفقدان التامّ للحَوَاسّ والجهل وعدم العلم بأيِّ شيءٍ لهذه الآلهة والبيان لسَفَهِ وجَهْل وإنْغِلاق عقل مَن يعبدها.. أيْ ولا تَشعر هذه الآلهة أيَّانَ أيْ أيَّ حِيِنٍ أيْ مَتَيَ يبعث الله تعالي عابديها وهي معهم يوم القيامة ليُلْقِى بهم جميعًا في النار، فكيف يكون إلاَهَاً مَن لا يعلم الغَيْب ولا يُقَدِّر الثواب للخير والعقاب للشرّ؟! إنما يُرْجَىَ ذلك قطعاً مِن الذي يعلم كل شيءٍ وهو خالِق كلّ شيءٍ وقادر عليه، فلا يَلِيق بالتالي إذَن بأيِّ عاقلٍ بعد كل هذا أن يعبدها مُتَوَهِّمَاً أنها تنفعه أو تضرّه إذا كانت لا تعلم ولا تشعر شيئاً ولا تمنع ضَرَرَاً عن ذاتها فكيف بغيرها مِمَّن يعبدونها!!.. كذلك من المعاني – عند بعض العلماء – أنَّ مَن يعبدونها مِن شِدَّة ضَياعهم ومَوَاتهم لا يَدْرون ما ينتظرهم من عذابيّ وتعاستيّ دنياهم ثم أخراهم بعد بَعْثهم والتي ليست في مشاعرهم وعقولهم أبداً لأنهم لا يؤمنون بوجودها ويُكَذّبون مَن يُذَكّرهم بها.. هذا، وقد عُبِّر عن الآلهة في هذه الآية الكريمة وسابقتها بصيغة العاقل كأنها مِن الآدَمِيِّين لأنَّ الذين يعبدونها يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطبهم القرآن الكريم علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم لعلهم يعقلون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلَ التعاسة فيهما
ومعني "إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)" أيْ مَعْبُودكم أيها الناس مَعْبُودٌ واحدٌ، لا مَعْبُود أيْ مُطَاع إلا هو، وهذا مزيدٌ من التأكيد أنه إلهٌ واحد، أيْ هو الله وحده سبحانه ولا أيّ شيءٍ غيره الذي يَستحِقّ العبادة أيْ الطاعة لنظامه وهو الإسلام، فهو الإله المَعبود الواحد أيْ الذي ليس معه شريك، الأحد أيْ الذي لا يَتكَافيَء معه شيء ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. هذا، والفرق بين الرَّبِّ والإله – والله تعالي هو حتما الاثنين معا – أنَّ الرَّبَّ هو الذي يَخْلُق خَلْقَه ويُرَبِّيهم ويَرزقهم ويَرعاهم جميعا، أمَّا الإله فهو المَعْبُود أيْ المُطَاع أيْ الذي يُشَرِّع للبَشَر مِن خَلْقِه الأخلاقيَّات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فمَن أطاعه واتَّبَعَ شَرْعه أيْ الإسلام فقد اتَّخَذَه إلاهَاً له وسَعِدَ فيهما، ومَن خَالَفه وأطاعَ غيره فيما يُخَالِف الإسلام فقد اتَّخَذَ هذا الغَيْر إلاهَاً له وعَبَدَه وتَعِسَ فيهما علي قَدْر مُخَالَفَاته.. ".. فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)" أيْ فالذين لا يصدّقون بوجود الآخرة حيث البعث للناس بالأجساد والأرواح بعد كونهم ترابا والحساب والعقاب والجنة والنار لأنهم قد أغلقوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم قلوبهم مُنْكِرَة أيْ عقولهم مُكَذّبَة مُسْتَنْكِرَة لهذا الذي ذُكِرَ لكم أيها الناس مِن أنَّ إلاهكم إلهٌ واحدٌ ومن قُدْرَته وعظمته وعظيم نِعَمه عليكم وعليهم، رغم وضوح الأدِلّة الأكيدة التي ليس فيها أيّ ذرَّة شكّ علي ذلك لكلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل كما ذَكَرَت الآيات السابقة، وهم مُسْتَكْبِرون أيْ وحالهم أنهم مُتَعالُون علي هذا الذي ذُكِرَ لكم مِن أنَّ إلاهكم إلهٌ واحدٌ أيْ يَرْفضونه ولا يَقبلونه ولا يَستجيبون له أيْ مُستكبرون علي عبادته تعالي فلا يَتّبِعون دينه الإسلام ويُخالِفونه ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار
ومعني "لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)" أيْ لا شكّ وحقّاً أنَّ الله تعالي مع هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهُمْ مُسْتَكْبِرون ومَن يَتَشَبَّه بهم ومع كلّ خَلْقه بعلمه وبقُدْرته أينما كانوا فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة في كلّ كوْنه ويعلم كل ما يُسِرّون وما يُعلنون كبيره وصغيره من أفكارٍ وأقوالٍ وأفعالٍ وما يَفعلون من جرائم وسيُحاسبهم ويُعاقبهم عليها كلها إنْ لم يتوبوا منها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ؟!.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)" أيْ لأنَّ الله حتماً لا يحب مُطلقاً المُستكبرين أيْ المُتَعَالِين علي عبادته تعالي أيْ طاعته فلا يَتّبِعون دينه الإسلام ويُخالِفونه ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، ومَن لا يحبه ويَكرهه فإنه بكل تأكيد لا يُوَفّقه ولا يُيَسِّر له أسباب الخير والسعادة ولا يزيده منهما في دنياه وأخراه ويُعاقِبه فيهما بكل شرٍّ وتعاسةٍ بما يُناسب اسْتِكْباره.. إنه بانتشار الاسْتِكْبار علي الناس – بعد الاستكبار عليه تعالي وكتبه ورسله ودينه – بالإساءة إليهم وظلمهم واحتقارهم وإيذائهم بالقول أو الفِعْل يَتْعَس الجميع في الداريْن، وباختفائه بنَشْر كل أخلاق الإسلام، يَسعدون فيهما
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)" أيْ وإذا قال قائلٌ لأمثال هؤلاء الكافرين المُسْتَكْبِرين ومَن يَتَشَبَّه بهم، سواء من المسلمين أو من بينهم أو مِمَّن يسألهم، ماذا أوْحَيَ ربكم إلي رسوله، قالوا كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وتخريفاً، بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وتَبَجُّح، عن القرآن العظيم، هو أساطير الأولين، جَمْع أُسْطُورَة أيْ قصة مَسْطُورَة مَكتوبة قديماً، أيْ هو قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها!! نَقَلَه من كتبهم هذا الذي ادَّعَيَ أنه رسولٌ يُوحَيَ إليه ثم قَرَأَه على مَن يَستمع إليه، من أجل التسلية والإلهاء والإبعاد عمَّا نعبد من آلهة، فليس وَحْيَاً ولا إرشاداً ولا تشريعاً ولا نظاماً كما يَدَّعِي!!.. إنهم يريدون بذلك إبعاد الناس عن القرآن الكريم وعن الإيمان بالله تعالي واتّباع الإسلام، ليظلّوا يَستعبدوهم ويَخدعوهم ويَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأَخْذ حقوقهم
ومعني "لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)" أيْ قالوا ذلك فى القرآن الكريم لتكون نهاية ونتيجة سوء أقوالهم وأعمالهم أن يحملوا ذنوبهم كاملة غير مَنْقُوصَةٍ يوم القيامة لا يُغْفَر لهم منها أيّ شيء – وأوْزَار جَمْع وِزْر والوِزْر هو الحِمْل الثقيل – أيْ سيتحَمّلون حتماً نتيجة أقوالهم وأفعالهم الشديدة السوء هذه التي كانوا يفعلونها في دنياهم بذنوبٍ هائلةٍ ثقيلةٍ وبحسابٍ تامٍّ ثقيلٍ دقيقٍ كاملٍ دون أيّ نُقْصانٍ في أخراهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. إنهم سيُعَذّبون علي قَدْر سُوئهم بعذابٍ بعضه في دنياهم وتمامه في أخراهم، والعذاب يكون بما يُناسب في الداريْن بدرجةٍ ما من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لأوزارٍ أخرى يَتَحَمَّلونها فوق أوزارهم.. أيْ سيَتَحَمَّلون ذنوبهم الخاصَّة بهم ويَتحمَّلون فوقها بعضاً من ذنوب الذين يُضِلُّونهم لأنهم كانوا سَبَبَاً فى ضلالهم وهم أضلّوا مَن بَعْدِهم وهكذا، ولكلٍّ ذنوبه قطعاً علي قَدْر ما فَعَل.. ".. بِغَيْرِ عِلْمٍ.." أيْ بدون علمٍ مِن المُضِلّين ولا مِن المُضَلَّلِين، بمعني أنَّ المُضِلّين يُضِلّون غيرهم الذين يُضِلّونهم بغير أيِّ دليلٍ علميٍّ عقليٍّ مَنْطِقِيٍّ ويُحاولون إبعادهم عن القرآن والإسلام وهم بغير علمٍ مُتَعَمِّقٍ بحقيقته أنه إسعادٌ للبَشَرِيَّة كلها في الداريْن حيث يَتَعامَلون معه بكل سَطْحِيَّةٍ وجَهْلٍ ورَفْضٍ بغير علمٍ وتَعَمُّقٍ في معانيه وأهدافه ووَصاياه وهم أثناء ذلك بالقطع ليسوا علي علمٍ حقيقيٍّ بما يَتَرَتَّب على ذلك من ذنوبٍ وعذابٍ وشقاءٍ دنيويٍّ وأخرويٍّ حيث هم لا يؤمنون بالآخرة أصلاً إذ لو عَلِمُوا ذلك وصَدَّقوه وتَيَقّنوه لَمَا أَقْدَمُوا على هذا الإضلال لغيرهم، وبمعني أيضا أنهم يُضِلّون أُنَاسَاً لا علم عندهم أيْ أنَّ المُضَلَّلِين الذين اتّبعوهم وصَدَّقوا سَفَهَهم وتخريفهم هم بكل تأكيدٍ علي غير علمٍ بل هم جُهَلاء سُفَهاء وكان عليهم أن يُحَرِّكوا عقولهم ويَتَعَقّلوا الأمور ولو تَفَكّروا لَمَا أمْكَنَ تَضْليلهم، وما كل ذلك، سواء مِن المُضِلّين أو المُضَلَّلِين، إلا لأنهم قد أغلقوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)" أيْ ما أَسْوَأً مَا يَحْمِلُون مِن أوْزَار، إنهم سيَتَحَمَّلون نتائج شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، عاجِلاً في الدنيا حيث كل قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، ثم آجِلاً في الآخرة حيث ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعْظم وأخْلَد.. هذا، ولفظ "ألا" في اللغة العربية يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ قد دَبَّر المَكائد من أجل إيقاع الشرّ بالإسلام والمسلمين، الذين مِن قَبْلِهم، أيْ المُكَذّبون السابقون للمُكَذّبين حولك الآن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه، كما يفعلون معك.. ".. فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ.." أيْ فقَصَدَ الله بناءهم هذا الذي بَنُوه من كل أنواع القوَيَ لهم ومن كل المَكائد والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ضِدَّ الإسلام والمسلمين وما حقّقوه من النتائج في هذه الأمور سواء أكانت فكرية أم معنوية أم مادِّيَّة أم غيرها، أتاه وقَصَده فهَدَمَه ودَمَّرَه ونَسَفَه وأهْلَكه وأنْهاه وعاقَبَه وعذّبَه بمَن فيه ويَكيد الكَيْد به، أتاه من القواعد أيْ من الأُسِس والأُصُول والجذور له فاقتلعه واسْتأصله، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُهْلِكَاً مُتْعِسَاً لهم مُسْعِدَاً للمسلمين، بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، سواء أكانت جنوداً كوْنِيَّة كصواعق وزلازل وبراكين ورياح وأوْبِئَة وغيرها، أم بَشَرِيَّة بمسلمين أقوياء أُمَناء عامِلين بإسلامهم يَهْدِمُون شرورهم وينهونها ويستأصلونها ويقتلعونها من جذورها بنَشْر الإسلام والدفاع عنه بكل الوسائل المُمْكِنَة المُناسِبَة لِمَكْرِهم.. ".. فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26)" أيْ فسَقَطَ عليهم سَقْفُ بُنْيانهم من أعلاهم إلي أسفل فأهكلهم، بسبب إتْيانه من القواعد، فتَهَدَّمَ ونُسِفَ كل ما بَنوه مِن قوّةٍ وكَيْدٍ وأُهْلِكُوا، تماماً كما يَتَهَدَّم ويَنْتَهِي بناءٌ علي مَن فيه ويهلكهم ويُنْهيهم، وأتاهم أيْ وَصَلهم وجاءهم العذاب الدنيويّ –قبل الأخرويّ – المُناسب لكَيْدِهم من حيث لا يدْرون مِن أين جاءهم ولا كيف بدأ ولا يَتَوَقّعونه بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ له أو هروب منه، فهو عذابٌ مُفَاجِيء بلا مُقَدِّمات لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له مُتَوَهِّمِين أنهم في أمانٍ منه ليكون تأثيره أعظم ولتكون حَسْرتهم أشدّ ويَندمون حيث لا ينفع الندم.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (2) من سورة الحَشْر ".. فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فلا قيمة لمَكْرِهم ولا تأثير له بالتالي إذَن أيها المسلمون فالله خير الماكِرين فالنصر حتماً لكم قريباً فأحْسِنوا اتّخاذ أسبابه وانتظروه مُسْتَبْشِرين (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (30) من سورة الأنفال ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، والآية (42) من سورة الرعد "وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ"، والآية (46) من سورة إبراهيم "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)" أيْ ثم يوم القيامة، وبعد عذابهم في دنياهم بما يُناسبهم، يُخْزيهم أيْ يَفضحهم الله تعالي ويُهينهم ويذلّهم بإعلان قبائحهم وبعذابهم بنار جهنم المُهين المُذِلّ الذي لا يُوصَف المُناسِب لكَسْر استكبارهم ولمَكْرهم وتكذيبهم وعِنادهم واستهزائهم وإيذائهم لله ورسله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، وإصرارهم وموتهم علي ذلك بلا توبة.. ".. وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.." أيْ ويُخْزِيهم كذلك بأنْ يقول لهم علي سبيل الذمِّ والتقبيح والتّحْقير والتّرْهيب الشديد كنوعٍ من التعذيب النفسيّ قبل التعذيب الجسديّ في النار سائلاً إيّاهم السؤال الفاضِح الكاشِف الصادِم المُرْعِب الذي يُواجههم به خالِقهم والذي كانوا يُكَذّبون وجوده أو يُشْركون معه في عبادته أحْقَر الأشياء أين مَعْبُوداتكم التي جعلتموها كذباً وزُورَاً شركائي في العبادة كالأصنام وغيرها والتي كنتم تُشَاقّون فيهم أيْ كنتم بسببها ومن أجلها في شِقّ أيْ جانبٍ وجعلتم الله ورسوله والإسلام والمسلمين في شِقّ مُقَابِلٍ حيث خالَفتموهم وعانَدتموهم وتَكَبَّرتم عليهم وآذَيْتموهم وعادَيْتموهم وحارَبتموهم؟! أين هي الآن حتي تَنفعكم وتُنقذكم في هذا اليوم الشديد عليكم؟!.. ".. قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)" أيْ حينها سَارَعَ الذين أوتوا العلم بالإجابة لمزيدٍ من ذَمِّهم وتَقبيحهم وتَحْقيرهم وتَرْهِيبهم بعد أنْ عَجَزُوا قطعاً عن أيَّ جواب، والمقصود بالذين أوتوا العلم الرسل والملائكة والمؤمنون الذين كانوا في دنياهم قد أُعْطُوا العلم أيْ قد أتتهم كُتب الله فيها علومه وتشريعاته وأخلاقيّاته عن طريق رسله فآمَنوا أي صَدَّقوا بها وتمسّكوا وعملوا بما فيها فسعدوا تمام السعادة في دنياهم ثم أخراهم – وهكذا دائما يكون حال المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه في دنياه يَرُدّ بالحقّ ما استطاع وفي التوقيت وبالأسلوب المناسب علي أيّ باطلٍ بكلّ حِكمة وموعظة حَسَنَة – قالوا إنَّ الخِزْيَ أيْ الذِلّة والانحطاط والعار والفضيحة، في هذا اليوم، يوم القيامة، والسوء أي العذاب المُسِيء المُؤْلِم المُتْعِس الذي لا يُوصَف، واقِعَان حتماً علي أمثال هؤلاء الكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ.. فلْيَتَّعِظ إذَن كل عاقلٍ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم
ومعني "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)" أيْ هذا بيانٌ لأحوال الظالمين السيِّئة المُخِيفة عند انتزاع أرواحهم من أجسادهم وعند بَدْء عذابهم.. أيْ الذين تَقْبِض الملائكة أرْوَاحهم وتُمِيتهم عند نهاية آجالهم وقد ظَلَموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيباً بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً للشرّ أم ما شابه هذا، وقد ماتوا علي ظلمهم بلا توبة، فحين رأوا ملائكة الموت وبدأ عذابهم، فَوْرَاً ألقوا السلم، أي استسلموا واسْتَكانوا وانْقادوا تماماً وتَحَوَّلوا من ظالمين مُسْتَكْبِرين إلي مُسْتَسْلِمين مُسْتَكِينين – وكذلك سيكون حالهم وأسوأ يوم القيامة – وقالوا ما كنا نعمل أيَّ سوءٍ في الدنيا، مُتَوَهِّمين أنهم لو كَذَبوا فهذا القول ينفعهم وينجيهم من العذاب.. ".. بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)" أيْ تقول لهم الملائكة بأمرٍ من الله تعالي تكذيباً إيَّاهم، بَلَيَ، والتي تُفيد في اللغة العربية نَفْيَ نَفْيِهِم، أيْ ليس الأمر كما تَدَّعُون كذباً وزُورَاً ما كنا نعمل مِن سوءٍ بل الحقّ أنكم كنتم تعملونه وإنَّ الله حتماً بكل تأكيدٍ عليمٌ تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما كنتم تعملونه وتقولونه كله في دنياكم سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم عليه بما يُناسِب مِن كلّ شرٍّ وتعاسةٍ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وبالتالي إذَن فلن يفيدكم كذبكم بأيِّ شيءٍ قطعا
ومعني "فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)" أيْ ويُقال لهم بعد ذلك: فبسبب ظلمكم هذا فبالتالي ادخلوا أيها الكافرون من أبواب جهنم، كلُّ أهلِ عملٍ يدخلون من الباب المُناسب لسُوئهم (برجاء مراجعة الآية (44) من سورة الحِجْر "لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهي مَرْجِعكم ومُسْتَقَرّكم، حيث تُعَذّبون في قبوركم عذابا مَبْدَئِيَّاً قبل النهائيّ يوم القيامة في نار جهنم، والتي ستكونون خالدين فيها – والخلود في النار يكون للكافرين بينما العاصِين من المسلمين لا يُخَلّدون بل يُعاقَبون بقَدْر ذنوبهم ثم يخرجون لأدني درجات الجنة – أيْ باقِين فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنكم عذابها لحظة فأنتم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. ".. فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)" أيْ فما أسوأ هذا مِن مَثْوَي – واللام لتأكيد السوء – أيْ مكان إقامةٍ واستقرار دائم خالد حيث تمام العذاب والتعاسة والذلّ والفضح والتحقير للمُتكبِّرين ومَن يُشبههم، وهم الذين تَعَالوا علي غيرهم وظلموهم وأكلوا حقوقهم واحتقروهم وأساءوا مُعَامَلتهم وتَطَاوَلوا عليهم بل وعلي الله تعالي والرسل الكرام والكتب وآخرها القرآن العظيم والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار وعلي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير وكانوا مُكَذّبين للحقّ مُعانِدين غير مُتَّبِعين له مُستهزئين به يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، فسَتَجِد البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ووُجِّهَ سُؤالٌ للذين اتّقوا – مِمَّن حولهم الذين يريدون معرفة الإسلام ويَدْعونهم إليه أو أحياناً مِمَّن يُعادُونه ويُعادُونهم – أي للذين خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، حيث سُئِلُوا وقِيلَ لهم ماذا أنزل ربكم علي رسوله أيْ أوْحاهُ إليه؟! قالوا خيراً أيْ أنْزَلَ خيرا، أي أنزل قرآناً عظيماً فيه إسلامٌ حَنيفٌ به كل خيرٍ ورحمةٍ وبركةٍ وأمنٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاقه في كل شئون حياته، قالوا ذلك بكل حبٍّ وتقديرٍ ويقينٍ ودون أيّ تَرَدُّدٍ، وهي بالقطع الإجابة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة منهم، وهي تَحْمِل ضِمْنَاً معني شكر الله تعالي علي هذه النعمة العظيمة والحرص الشديد علي شُكرها بالتمسّك والعمل بها، وهي العكس تماما لإجابة المُستكبرين في الآية (24) من هذه السورة الذين لَمَّا سُئِلُوا ذات السؤال قالوا أساطير الأولين.. ".. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ.." أيْ هذا استكمالٌ لكلام الذين اتّقوا أو من كلام الله تعالي استكمالاً لكلامهم.. أيْ للذين أحسنوا من الناس في هذه الحياة الدنيا بأنْ آمَنُوا بالله أيْ صَدَّقوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم بكل إحسانٍ أيْ إتقانٍ وإجادةٍ وكأنهم يَرَوْنَ ربهم وهو يراهم لَحْظِيَّاً ويعلم ما يُسِرُّون وما يُعْلِنون ولذا فهم يجتهدون ما استطاعوا في إحسان كل أقوالهم وأفعالهم وإحسان ما يَظْهَر منهم وما يَخْفَي ليَرَاهم علي أحسن حالٍ في كل وقت، فهؤلاء إنْ فعلوا ذلك فلهم بالقطع من الخالق الكريم الرحيم الودود كلّ إحسانٍ كما وَعَدَ ووَعْده الصدق "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (الرحمن:60)، فهُمْ لهم حَسَنَة أيْ حياة حَسَنَة حيث كل خيرٍ ورحمةٍ ورزقٍ وبركةٍ وأمنٍ وسعادةٍ في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (97) من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ.." أيْ وإنَّ دار الآخرة –واللام للتأكيد – حتماً حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر هي بالقطع بلا أيّ شكّ أعظم خيرا، وخَيْرِيَّتها لا تُقَارَن بكلّ خيرِ دار الدنيا الزائل يوماً مَا.. ".. وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)" أيْ وما أعظم – واللام أيضا لمزيدٍ من التأكيد – دار المتقين، أي الجنة، ما أطيب وأجمل وأفضل هذه الدار، هذه الجنة بنعيمها الذي لا يُوصَف، ليس هناك أجر أكبر من ذلك في مُقابِل العمل الصالح الذي يعمله المتقون في حياتهم الدنيا بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام.. كذلك من المعاني عند بعض العلماء ولَنِعْمَ دار المتقين دار الدنيا لأنهم نالوا بعمل الخير فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة فسعدوا في الداريْن
ومعني "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)" أيْ هذه الدار العظيمة الطيِّبة الحَسَنَة التي ستكون لهم في الآخرة هي جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ولن يَخرج منها أبداً ولن يُخرجه أحدٌ ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم، يُدْخِلهم خالقهم الكريم الودود الغفور الرحيم إيَّاها، وهي تجري أسفل منها أيْ تُطِلّ علي كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وهم لهم فيها كلّ ما يريدون من أنواع النعيم الطّيِّب التامّ اللّذّة، فمَهما طَلَبوا وَجَدوا ما يَطلبون حتي بمجرّد تَمَنّيه في خاطِرهم.. ".. كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)" أيْ هكذا دائما وبمِثْل ذلك الجزاء العظيم يكون جزاء الله وعطاؤه الذي لا يُوصَف والذي بلا حسابٍ للمُتّقين، من كرمه وفضله وإحسانه ورحمته، وهذا سيكون دَوْمَاً حال كل مُتّقي، سيُؤْتَيَ حتما من فضل ربه من الخير والسعادة التامة ما يُسعده ومَن حوله في دنياه وأخراه، فهذا هو وعد الله الذي لا يُمكِن أن يُخْلَف مُطلقا
ومعني "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)" أيْ هذا بيانٌ لأحوال المُتّقين الطيّبة الحَسَنَة الآمِنَة الراضِيَة المُسْتَبْشِرَة السعيدة عند قَبْض أرواحهم من أجسادهم وعند بَدْء نعيمهم.. أيْ هم الذين تَقْبِض الملائكة أرْوَاحهم وتُمِيتهم عند نهاية آجالهم بكل طِيبَةٍ وسَلاَسَةٍ ولُطْفٍ وسلامٍ وأمنٍ وقد كانوا طيِّبين أيْ صالحين طاهرين من الكفر والمعاصي والشرور مُستمرّين علي الخير، علي أخلاق الإسلام، تقول لهم ملائكة الموت مُسْتَقْبِلَة إيَّاهم بكل ترحيبٍ وتكريمٍ وتعظيمٍ مُهَنّئَة مُبَشّرَة مُطَمْئِنَة سلام عليكم أيْ أمانٌ وسرورٌ تامّ لكم، ادخلوا الجنة بجوار ربكم بأرواحكم اليوم عند موتكم وبأجسامكم وبأرواحكم يوم القيامة، فأنتم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربكم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم، بسبب ما كنتم تعملون من خيرٍ في دنياكم
ومعني "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. أيْ هل يَنتظر هؤلاء المُعْرِضون عن الإسلام ليَقتنعوا بأنْ يُسْلِموا إذا كانوا غير مسلمين أو يَتّبعوا أخلاق الإسلام كلها إذا كانوا مسلمين لكنهم تاركون لأخلاقه بعضها أو كلها، هل يَنتظرون مِن بعد ما جاءتهم البينات – أي وَصَلَتهم الدلالات الواضِحات والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في القرآن والإسلام علي أنَّ أخلاقه وتشريعاته ووَصَايَاه هي وحدها التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، والتي هي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلي بَيِّنات أخري، فليس بالتالي إذَن لأحدٍ عذر في إعراضه – بلا إيمانٍ وبلا اتّباعٍ لأخلاق الإسلام حتي تأتيهم الملائكة أيْ ملائكة الموت لقَبْض أرواحهم وإنهاء حياتهم وهم هكذا علي شَرِّهم أو ملائكة العذاب تُعَذّبهم في دنياهم أو أخراهم بما يناسب شرورهم؟! أو يَنتظرون حتي يأتي أمر ربك بعذابهم أيْ عذاب ربك في الدنيا بدرجةٍ ما من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أو يأتي هو بذاته العَلِيَّة يوم القيامة بهيبته وعظمته حضوراً يَليق به سبحانه فهو ليس كمثله شيء لحساب الناس والحُكْم بينهم بحُكْمه وقضائه العادل وجزائهم علي أعمالهم في دنياهم، وحينها يكون الأمر قد قُضِيَ أيْ انتهي أمر عذابهم فلا مَفَرّ لهم منه سواء أكان في دنياهم أم أخراهم؟! أو ينتظرون حتي يأتي بعض آيات ربك أيْ بعض علامات قيام الساعة كطلوع الشمس من المغرب لا المشرق.. أيْ ماذا ينتظر مثل هؤلاء بعد كل هذا الذي يفعلونه؟! هل ينتظرون مثلا أيَّ خيرٍ ما؟! بالقطع لا!! إنهم ليس أمامهم إلا أن ينتظروا عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة! يبدو أنهم لا يَنتظرون إلا ذلك!! هل وَصَلُوا إلي هذا الحَدِّ الذي يدلّ علي تمام إصرارهم واستمرارهم علي ما هم فيه ولامُبَالاتهم وغفلتهم؟!! إنَّ عليهم ألاّ يَظَلّوا مُستمرّين هكذا علي تكذيبهم دون أن يُصْلِحوا مِن ذواتهم ويعودوا إلي ربهم وإسلامهم قبل فوات الأوَان، وهل يَظَلّ أيُّ عاقلٍ علي هذا الحال مُنتظرا حلول عذابه دون أن يُسارِع باتّخاذ أيّ أسبابٍ لتَجَنُّبه بعد أنْ تمَّ تحذيره كثيرا بوقوعه؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة التي تبحث عن مصلحتها وسعادتها؟! إنَّ التفكير المَنْطِقِيّ العقلانيّ المُتَوَقّع يقول أنَّ الإنسان لا يُمكن أنْ يَخْدَع ذاته!! ولكنَّ السبب هو أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي الآية الكريمة تحفيز ضِمْنِيّ لهم علي عدم انتظار مثل هذا المَصِير المُخيف والمُسَارَعة للاستيقاظ والعودة لربهم وإسلامهم قبل فوات الأوان وإصابتهم بمِثْل ما أصاب سابقيهم، كما أنَّ فيها تهديدا شديدا لمَن يُصِرّ لكي يَستفيق قبل فوات الأوان ونزول العذاب في دنياه وأخراه.. ".. كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.." أيْ مِثْلَ مَا فَعَلَ هؤلاء المُعْرِضُون عن الإسلام الحالِيُّون، فَعَلَ الذين من قبلهم السابقين لهم فعَاقَب الله الذين أعْرَضُوا بما يُناسبهم، وفي هذا مزيدٌ من التحذير للمُعْرِضِين الآن، فلْيَتَّعِظ إذَن كل عاقلٍ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم.. ".. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)" أيْ وما ظلمهم الله بذلك حَتْمَاً، أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لظلمهم هذا، أنْ نَزَلَ وحَلَّ وتَحَقّقَ بهم النتائج السَّيِّئات أي العقوبات والجزاءات التي يستحِقّونها في الدنيا والآخرة في مُقابِل مَا كانوا يعملونه في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار، وقد سُمِّيَت العقوبات بالسَّيِّئات لأنها تُسِيء للمُعَاقَب وتُؤلمه وتُحزنه.. ".. وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)" أيْ وأحاط بهم من كل جانبٍ بسبب استهزائهم به وتكذيبهم لمَن حَذّرهم منه.. إنه قد حاقَ بهم العذاب المُوجِع المُهين المُستمرّ المُتَنَوِّع الذي كانوا في حياتهم الدنيا يَسخرون منه ومِمَّن يُحَذّرهم مِن حُدُوثه وشِدّته، وهو عذاب في الدنيا أولاً بدرجةٍ ما مِن الدرجات كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة سيُحيط بهم حتما ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ وأخلد عذابا وتعاسة.. وفي هذا مزيدٌ من التحذير للمُعْرِضِين الآن، فلْيَتَّعِظ إذَن كل عاقلٍ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَتَحَجَّجُون بالقضاء والقَدَر فيما تفعله من شرور! بحُجَّة أنَّ الأمر ليس بيدك! وإنما الأمر كله بيد الله ومشيئته أيْ إرادته وقد كَتَبَ عليك هذا وقَدَّره لك! فلا لَوْم ولا ذنب إذَن عليك ولا حساب!! فأين عقلك الذي أعطاك الله إيَّاه لتُمَيِّز به بين الخير والشرِّ والذي وَضَّحه لك في الإسلام؟!.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)" أيْ وقال الذين أشركوا في العبادة أيْ الطاعة مع الله تعالي آلهة أخري عبدوها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم، قالوا كذباً وزُورَاً وسَخَفَاَ وتَخْريفاً واجتراءً واعتداءً عليه سبحانه لو أراد الله ما عبدنا غيره أيَّ شيءٍ نحن ولا آباؤنا من قبلنا ولا حَرَّمنا من دونه أيْ غير تحريمه أيَّ شيءٍ مِمَّا حَلّله ولا حَلّلنا ما حَرَّمه، فلو شاء ذلك لَتَمَّتْ مشيئته حتماً ولَمَا فَعَلْناه!! ولكنه لم يشأ هذا بل شاء لنا أن نشرك معه في العبادة هذه الأصنام وغيرها وأن نُحَرِّم ما حَرَّمنا ونُحَلّل ما أحللنا وقد رضى لنا هذا وإلا لَكَانَ مَنَعَنا منه فلماذا تطالبونا يا مسلمين بأن نُسْلِم ولم يشأ الله لنا الإسلام؟!.. وكذلك هو حال بعض المنافقين الذين يظهرون الخير ويخفون الشر أو الظالمين والفاسدين الذي يتركون بعض الإسلام أو حتي كله، يَدَّعُون مثل هذه الأكاذيب وأنه تعالي هو الذي خَلَقهم هكذا وشاء لهم هذا!! بل البعض قد يزيد في الجرأة والتعدي وسوء الخُلُق فيَتّهِمه سبحانه في قُدْرَته علي كل شيءٍ ويستهزي بها إذ لو كان يستطيع منعهم أو تغييرهم لقام بهذا!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. إنهم يَسْتَغِلّون حرية اختيار عقولهم التي خَلَقهم عليها أسوأ استغلال! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنهم يَتَحَجَّجون لمَن يَدْعُوهم لعبادة الله وحده بأنه هو الذي أراد لهم هذا وبالتالي فهو راضٍ عن أفعالهم ولو كان لا يرضاها ويريد مَنْعهم لَمَنَعَهم بأيّ أسلوبٍ ولَعَجَّلَ بعقوبتهم وما دام لم يَفعل أيَّاً مِن هذا فهو إذن يَرْضَيَ فِعْلهم!!.. إنَّ كلامهم هذا يدلّ علي الاستهزاء والسخرية والمُرَاوَغَة بمَن يَتَحَدَّثون معه، إضافة إلي أنهم مُكَذّبون مُعانِدون مُستكبرون مُجادِلون لا يريدون الاستجابة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.." أيْ مِثْلَ مَا فَعَلَ وقالَ هؤلاء السفهاء الذين أشركوا الآن، فَعَلَ الذين من قبلهم السابقين لهم، فعَاقَبهم الله بما يُناسبهم، وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُشركين الحالِيِّين، فلْيَتَّعِظ إذَن كل عاقلٍ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم.. إنَّ هذا رَدٌّ حاسِمٌ من الله تعالي يُبَيِّن كذب أمثال هؤلاء ويُخْرِس ألسنتهم إذ لو كان هؤلاء الحالِيِّين صادقين في قولهم وادِّعائهم عن مشيئة الله شِرْكهم وعصيانهم وأنه لو شاء ما أشركوا وما عصوا بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار لَمَا كان عَذّب سابقيهم فعذابه لهم يدلّ حتماً بلا أيِّ شكّ علي عصيانهم وعدم رضاه عنهم ويدلّ قطعا علي كذب هؤلاء الحالِيِّين فيما يَدَّعون كذباً وزُورَاً وأنَّ عليهم أن ينتظروا مثل المصير السَّيِّء للسابقين لهم مِن قبلهم إنْ لم يتوبوا لأنَّ إمهال الله تعالى للناس ليتوبوا من شرورهم لرحمته بهم ليس دليلاً على رضاه عَمَّا يقولون ويفعلون من سوءٍ والدليل علي ذلك أنه حين تنتهي فترة إمهاله لهم يُنْزِل بهم عذابه المُناسب لسُوئهم.. ".. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)" أيْ هذا مزيدٌ من تكذيبهم فيما يَدَّعُون حيث الرسل الكرام قد أبلغوهم البلاغ الواضح التامّ بعبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام، وهو مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان، وكذلك هو تسلية للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين مِن بَعْده ببيان أنَّ تكذيب بعض مَن حولهم لهم ليس أمراً جديداً مُسْتَغْرَبَاً مُسْتَبْعَدَاً بل هو مُتَوَقّع يَحْدُث في كلّ عصر، فلْيَصبروا وليعملوا بأخلاق إسلامهم وليُحسنوا دعوة الغير له وليعلموا أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ فليس علي الرسل إلا البلاغ المبين، أيْ ليس مهمَّتهم إلا هذا، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليهم ربهم، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلوا ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعدهم هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُخَالِفون إذَن نتيجة مخالفاتهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف
ومعني "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)" أيْ ولقد بعثنا في كل مجموعة من الناس رسولاً – لرحمتنا بهم ولحُبِّنا لهم وحرصنا علي سعادتهم، واللام وقد للتأكيد، حيث هذه دائما هي طريقتنا لا نتركهم بلا توجيهٍ وإرشادٍ يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة – أيْ مَبْعُوثاً ليقول لهم كما يقول كل الرسل لأممهم اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، واجتنبوا الطاغوت أيْ وتَجَنّبُوا عبادة الطاغوت أيْ وابْتَعِدُوا وامْتَنِعُوا تماماً عنها واتركوها، والطاغوت هو كل ما يُعْبَد أي يُطاع غير الله تعالي سواء أكان بَشَرَاً ضعيفا كبقية البَشَر مُعَرَّضَاً لمرضٍ ولفقرٍ ولموتٍ أم كان صنماً أم حَجَرَاً أم كَوْكَبَاً أم غيره، والطاغوت من الطغيان وهو الظلم والتّعَدِّي للحدود حيث في هذه العبادة لغير الله أشدّ الظلم للنفس وللغير حيث تتعسها وتتعسهم تمام التعاسة في الداريْن، وهو أيضا كل ما يَطْغَيَ ويُغَطّي علي الفطرة والعقل المُستنير الصحيح المُنْصِف العادل المُسْعِد من شرورٍ كأثمانٍ دنيويةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو فكرٍ أو صنمٍ أو حاكمٍ يُعْبَد ويُطاع غير الله تعالي وما شابه هذا.. ".. فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ.." أيْ فمِن الناس مَن أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واستجابَ للرسول الذي بُعِثَ إليه فاختار بكامل حرية إرداة عقله الإيمان بالله أي التصديق بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعمل بكل أخلاق دينه الإسلام، فلمَّا اهْتَدَيَ هكذا هو أولا، هَدَاهُ الله تعالي أيْ عاوَنه سبحانه بالتالي في المُقابِل بالاستمرار عليه والسعادة التامّة به وتَيْسِير كل أسباب ذلك له وتوفيقه إليها وتثبيته عليها فسَعِد في دنياه وأخراه (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (17) من سورة محمد "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ").. ومِن الناس مَن هو علي العكس مِن ذلك تماما، حيث لم يُحْسِن استخدام عقله وأغلقه بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولم يَستجب لنداء الفطرة المسلمة بداخله، واختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أيْ عدم الإيمان بالله أو عدم اتّباع الإسلام وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، فبالتالي حَقّت أيْ ثَبَتَتْ ووَجَبَت وتَأَكَّدَت عليه الضلالة حيث تَرَكَه الله تعالي ولم يُعاوِنه ولم يُوَفّقه ويُيَسِّر له أسباب الهداية والطاعة للإسلام وكيف يُيَسِّرها له وهو مُصِرٌّ هكذا تمام الإصرار علي ضلاله ولم يبدأ بأيِّ خطوة نحو الخير حتي يُعينه علي بَقِيَّة الخطوات ويُيَسِّرها له وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11) (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)" أيْ فإنْ كنتم في شكّ مِمَّا أخبرناكم به مِن نزول العقاب المُناسب الدنيويّ قبل الأخرويّ بالمُكَذّبين، فتَنَقّلوا بالتالي إذَن في كل جوانِب الأرض ما استطعتم وانظروا وشاهِدوا بأبصاركم وتدبَّروا بعقولكم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلكم والذين كانوا يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟! لعلكم تَتّعِظُون بذلك وتعودون لربكم ولإسلامكم قبل فوات الأوان.. وفي هذا الطلب توسيع لدائرة التدبُّر، فلا يَكتفي المسلمون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه.. لقد كان عاقبتهم أي آخر أمرهم أي نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك لأنهم كانوا يظلمون بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كان لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين الحالِيِّين، فلْيَتَّعِظ إذَن كل عاقلٍ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم
ومعني "إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)" أيْ إنْ تجتهد بشِدَّة ورَغْبَة يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي هداهم أي علي إرشادهم لله وللإسلام أمثال هؤلاء المُصِرِّين علي تكذيبهم وسُوئهم لإسعادهم في حياتهم وآخرتهم، فلن ينفعهم حِرْصك فإنَّ الله لا يهدي مَن يُضِلّ أيْ فإنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد والبُعْد عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي نَبَّه لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن هذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! إنه حتماً لا هادِي أيْ مُرْشِد له، أيْ لن يَقْدِر أيُّ أحدٍ أنْ يهديه!! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنه لا يمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خلقه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما.. فلا تَتَحَسَّر أيْ لا تَحزن وتتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام، فهم لا يَستحِقّون مثل هذه الحَسَرات، جمع حَسْرَة، فكن مثل رسولك الكريم (ص) حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تَذْكِرَة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وهؤلاء بالقطع ليس لهم أيّ ناصرين مُعِينِين مُنْقِذِين يَنصرونهم وينقذونهم مِن هذا الضلال ومن العذاب المُناسِب له أو حتي يُخَفّفوه عنهم حين يريد تعالي أن يُنْزِله بهم في الدنيا والآخرة
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)" أيْ وحَلَفوا بالله تعالي علي آخر جهدهم وبكل ما يستطيعونه من أيْمانٍ، حلف المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزئون المُرَاوِغِون ومَن يَتَشَبَّه بهم لا يبعث الله مَن يموت أيْ لا يُحْيي الله أحداً يموت بجسده وروحه بعد موته وكوْنه تراباً أيْ ليس هناك يوم قيامة يقوم فيه الناس للحساب من ربهم خالقهم علي الخير خيراً في الجنة ونعيمها الذي لا يُوصَف والشرّ شرَّاً في النار وعذابها الذي لا يُمكن وَصْفه، فليفعلوا بالتالي إذَن ما يشاءون من شرور ومَفاسد لأنه لا حساب!!.. إنهم يَستنكرون ويَستبعدون بَعْثهم بعد كوْنهم تراباً وقد تَحَلّلَت أجسامهم وأصبحوا عظاما قد تَفَتَّتَت؟! وهل حتي الآباء والأجداد الذين ماتوا منذ زمن هائل سيُبْعَثون كذلك؟! أي لا يُصَدِّقون أبدا ويَسْتَبْعِدون تماما علي الله تعالي أنه في الآخرة يُحييهم مرة أخري هم والسابقين منذ آدم بتمام قدْرته وعلمه من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا وعظاما مُتَفَتِّتَة ليَخرجوا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الخِتامِيّ حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم في دنياهم وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم.. والسبب في هذا هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا.." أيْ بَلَيَ، والتي تُفيد في اللغة العربية نَفْيَ نَفْيِهِم، أيْ ليس الأمر كما تَدَّعُون كذباً وزُورَاً لا يبعث الله من يموت بل الحقّ أنَّ هذا البعث في يوم القيامة قد جعله سبحانه وَعْدَاً حقّاً عليه وأثبته فى كل كتبه التى أنزلها على رسله الكرام منذ بَدْء الخَلْق والتي فيها الإسلام الذي يُناسب كل عصر وخاتمها القرآن العظيم الذي أنْزِلَ علي الرسول الكريم محمد (ص)، وذلك من تمام عدله وحكمته وفضله وكرمه وإحسانه ورحمته لكي يتحقّق العدل التامّ بأنْ يأخذ كل صاحب حقّ حقّه.. إنه الوعد الحقّ أيْ الصدْق المُؤَكّد لأنه وَعْد الله وما يَعِد به سبحانه لا يكون أبداً إلا حقاً لا خِداع فيه، فهو تعالي حتماً بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يُنَفّذ ما وَعَدَ به ولا يُمكن مُطلقاً أن يُخْلِفَ وَعْدَاً قَطَعَه علي ذاته العَلِيَّة فهو قادر قطعاً علي ذلك وعلي كل شيء.. إنه لا أحدَ أبداً أوْفَىَ بوَعْده إذا وَعَد أيْ يَلْتَزِم به ويُنَفّذه بتمامه بلا أيِّ إخلافٍ من الله، فلا أحد أصْدَق من الله قولاً في أيِّ شيءٍ يُخْبِر به في قرآنه العظيم أو مِن خلال رسوله الكريم (ص)، ولا يوجد فى هذا الوجود مَن هو أصدق مِن الله فى حديثه وخَبَره ووَعْده ووَعِيده، وذلك لأنَّ الكذبَ سُوءٌ ونَقْصٌ وأيّ نقصٍ وسوءٍ مُحَال حتماً بالنسبة له سبحانه حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ولأنَّ الكاذب إنما يَكْذِب لطَلَب نفعٍ أو لمَنْع ضَرَرٍ أو لجَهْلِه بقُبْح الكذب ومَضَارّه وتعاساته في الداريْن، والله تعالى غَنِىٌّ عن كلّ هذا وعن كلّ شيءٍ وقادرٌ عليه وخالقٌ له وعالمٌ به ومَن كان كذلك لا يَصْدُر عنه بالقطع كذب مطلقاً وإنما يصدر عنه كل صِدْقٍ وحقّ وعدلٍ وخيرٍ وإسعادٍ لخَلْقه كلهم ولكوْنه كله، وبالجملة فإنَّ الإخْلاف مرفوضٌ لا يَفعله الكِرام فكيف يكون من الله؟!.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)" أيْ ولكنّ كثيراً من الناس لا يُدْرِكون هذا الذي سَبَقَ ذِكْره، ولا يَعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلَة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، وذلك لأنّ بعضهم يَكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا، وبعضهم يُشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه، وبعضهم يُنافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ، وبعضهم مسلم لكنه تاركٌ لكثيرٍ من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيرا يَنْسَيَ قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يُدرك ويَتفهَّم ويَعلم ويَستخرج الخير الكثير المَخْفِيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم، تعاسة تكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، ما لم يَستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلَّة مِن هؤلاء المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين والفاسدين وأشباههم في كل زمنٍ من الأزْمِنَة يعودون لربهم ولإسلامهم فيعلمون ذلك
ومعني "لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)" أيْ هذا طمْأَنَة للمُحسنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً مُسْعِدهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم وناصرهم في الآخرة بعد الدنيا، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ بَلَيَ وَعْدَاً عليه حقّا، سيَبْعَث الله مَن يموت حتماً يوم القيامة، سيَبعث الناس جميعا، مؤمنين وكافرين، هو وحده لا غيره الذي يَبْعَثهم ويُرْجعون اليه لا لغيره، وذلك من تمام عدله وحكمته وفضله وكرمه وإحسانه ورحمته لكي يتحقّق العدل التامّ بأنْ يأخذ كل صاحب حقّ حقّه، وهو وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا، سيَبْعثهم لكي يُبَيِّن لهم أيْ يُوَضِّح ويُظْهِر لهم يومها يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة الذي كانوا يختلفون فيه من كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم فيُبَيِّنَ لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. ".. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)" أيْ ولتكون نتيجة ذلك الذي يرونه واقعياً أمامهم أن يعلم المؤمنون أنهم كانوا علي الحقّ ويسعدوا بنعيم الجنة الذي لا يُوصَف ويعلم الذين كفروا عِلْمَاً مُؤَكّدَاً بلا أيِّ شَكّ أنهم كانوا في دنياهم كاذبين في قولهم وقَسَمهم لا يَبْعَث الله مَن يموت وفي كل أقوالهم الكاذبة الظالمة السفيهة وكل أفعالهم السيئة وفي كل ما ادَّعوه كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً علي الله تعالي ورسله والإسلام والمسلمين، مُسْتَحِقّين للعذاب الذي أصابهم بعضه في الدنيا ثم سيُصيبهم بتمامه كاملاً في الآخرة وأنهم لم يُظْلَموا أيّ ذرّة ظلم، فيزدادوا بذلك حينها حَسْرَة ونَدَمَاً وألَمَاً وتعاسة وعذاباً نفسياً قبل الجسديّ في نار جهنم بعذابها الخالد لهم الذي لا يُوصَف
ومعني "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)" أيْ هذا تأكيدٌ لكمال قُدْرَته تعالي علي كل شيءٍ مِن خَلْقٍ وبَعْثٍ ورزق وإحياءٍ وموتٍ وثوابٍ وعقابٍ وغيره.. أيْ ما قولنا لشيءٍ إذا أردنا فِعْله وإيجاده وإحداثه إلا فقط أن نقول له كُنْ فيكون كما نُريد فوراً بلا أيِّ تأخيرٍ أو امتناعٍ بمجرّد قولنا له كُن، لا نقول له أكثر من ذلك! بلا أيِّ تَعَبٍ أو عُسْرٍ أو تَكْلفة، فلا يصعب علينا شيء، فإنا لا نحتاج مثلا إلي أدوات وخامات وخطوات وغيرها ممَّا يحتاجه البَشَر!
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المهاجرين المجاهدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)"، للشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد وصورهما وفوائدهما وسعاداتهما في الدارين).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)" أيْ والذين فَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. فِي اللَّهِ.." أيْ في سبيل الله، أيْ في طريق الله، أيْ في طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ في طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس في أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة، فهم قد هاجروا من أجل الله تعالي أيْ طَلَبَاً لحبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده لهم في دنياهم ثم أعلي درجات جنته في أخراهم.. ".. مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا.." أيْ من بعد ما ظلموا من ظالمين بظلمٍ مَا كتعذيبٍ أو سجنٍ أو تضييقٍ أو إيذاءٍ أو نحوه.. ".. لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.." أيْ لنُسْكِنَّنهم ولنُنْزِلنَّهم، واللام للقَسَم والنون للتوكيد، في الدنيا حَسَنَة أيْ حياة حَسَنَة حيث كل خيرٍ ورحمةٍ ورزقٍ وبركةٍ وأمنٍ وسعادةٍ في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (97) من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ.." أيْ وبكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام للتأكيد – ثواب وعطاء الآخرة حتماً بسبب أنَّ فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وبسبب أنها هي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية، بلا أيّ موت، بلا أيّ تَعَب، بلا أيّ ذرّة تعاسة، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين، حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف، هذا الأجر أجر الآخرة هو بالقطع بلا أيّ شكّ أكبر أيْ أعظم وأتمّ وأخْلَد من أجر الدنيا، وعَظَمَته لا تُقَارَن بكلّ خيرِها الذي هو زائل يوماً مَا.. ".. لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)" أيْ ولو كانوا أعداؤهم الظالمون يعلمون ذلك لَامْتَنَعُوا عن ظلمهم لهؤلاء المهاجرين ولَأَسْلَمُوا ولَجَاهَدوا ولَهَاجَروا عند الاحتياج للهجرة لينالوا مِثْلهم هذا الأجر الكبير في الداريْن ولكنهم مُعَطّلون لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. كذلك من المعاني لو كانوا المؤمنون المهاجرون يعلمون عِلْمَ مُشَاهَدَة ومُعَايَنَة مَا أعدّه الله لهم في الآخرة في مُقابِل هجرتهم والذي هم يوقنون به ويستشعرون عظمته لكنهم لو رأوه بأعينهم وعلموه واقعياً لَمَا حَزِنوا على مُفارَقة الأوطان ولازدادوا حباً وشَوْقَاً واجتهاداً في الهجرة عند الحاجَة لها ولَمَا تَخَلّف منهم أحدٌ عنها بلا عُذْرٍ مقبول
ومعني "الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)" أيْ هذا بيانٌ لسببٍ من أسباب هذا الثواب الكبير لهم في الداريْن.. أيْ والذين هاجروا في الله مِن صفاتهم الحَسَنَة أنهم هم الذين صبروا أيْ كانوا دائما صابرين علي أخلاق إسلامهم أي ثابتين صامدين مُستمرّين بكل هِمَّة عليها، وكانوا إن أصابهم اختبارٌ أو ضررٌ ما صبروا عليه ليخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، وكانوا إذا احتاج الأمر للجهاد في سبيل الله بكل صوره الدعوية والفكرية والمالية والعسكرية وغيرها صبروا عليه (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ثم هم دائما في كل شئون حياتهم يتوكّلون علي ربهم أيْ من المتوكّلين عليه حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)" أيْ وما بَعثنا من قبلك سابقاً يا رسولنا الكريم لتبليغ الإسلام للناس ليسعدوا به تمام السعادة في دنياهم وأخراهم إلا رجالاً مِثْلك لا ملائكة، وهؤلاء الرجال نُوحِي إليهم وَحْيَنا بالكتب التي فيها الإسلام الذي يُناسب زمن الناس حولهم، واخترناهم لكمال أخلاقهم ورَجَاحَة عقولهم وشِدَّة حِلْمهم.. والمقصود أننا من رحمتنا وفضلنا وكرمنا ورزقنا ووُدّنا علي جميع الناس جعلنا الرسل جميعا رجالاً لا ملائكة ليكونوا منهم بَشَرَاً مثلهم يعرفونهم فيُصَدِّقونهم ويَثقون بهم وبحُسن خُلُقهم ويُطَبِّقون الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم ولو كان الرسل ملائكة لكان من المُمْكِن أنْ يَسْتَثْقِل بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!!.. كذلك المقصود أنَّ الرسول الكريم محمد (ص) ما كان أوّل رسولٍ من الرسل أرسله الله تعالي للناس وإنما سَبَقه كثيرون هم يعرفون من أخبارهم وأقوامهم، كنوح وإبراهيم وموسي وغيرهم، فليس الأمر إذَن ابْتِدَاعَاً أيْ اخْتراعَاً لا مِثال سابِق له! ومادام كذلك فكيف يُكَذّبون ويَرْفضون أنه (ص) هو أيضا رسول مِثْلهم ويُشَكِّكون في دعوته لعبادة الله وحده واتِّباع دينه الإسلام وكلهم قد جاءوا بمِثْل ما جاءهم به؟!.. ".. فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)" أيْ فإنْ شَكَكْتُم في ذلك، أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يَتَشَبَّه بكم، وأنتم تعلمون صِدْقه تماما حيث تَتَدَاوَلون أخبار الرسل السابقين وأمرهم مَشْهُورٌ بينكم كنوح وإبراهيم وموسي وعيسي وغيرهم، ولفظ "إنْ" في اللغة العربية يُفيد الشَّكّ أيْ أنتم مَشْكُوكٌ في كوْنكم لا تعلمون، أو إنْ كنتم لا تعلمون حقّاً ذلك أيها الذين لا يعلمونه لجَهْلكم به وأنتم صادقون في معرفة الحقّ، فاسألوا بالتالي إذَن أهل الذكر أيْ أصحاب العلم بذلك مِمَّن يعلمون تَوَاريخ الأمم السابقة ومن علماء أهل الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل أيْ اليهود والنصاري فإنه مَن أسْلَمَ منهم فسيقول الصدق ومَن لم يُسْلِم فهو مُعْتَرِفٌ تماماً بأنَّ الرسل بَشَرٌ حيث يعترفون بموسي وعيسي، فإنَّ العاقلين المُنْصِفِين العادلين منهم سيُؤَكّدون لكم أنَّ الرسل كانوا كلهم بَشَر لا ملائكة.. إنَّ في هذا الجزء الأخير من الآية الكريمة إرشادٌ لكل مسلم أنه سيسعد كثيراً إنْ كان مُستعيناً دائماً – بعد الله تعالي والتوكّل عليه وإحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – بأهل الذكر ويسألهم، أيْ أهل العلم والفِكْر والتّدَبُّر والخِبْرَة، في كل تَخَصُّصٍ ومَجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، سواء أكان شرعيا أم سياسيا أم إداريا أم اقتصاديا أم صناعيا أم تجاريا أم زراعيا أم فنيا أم رياضيا أم ثقافيا أم فكريا أم عسكريا أم غيره، يسألهم فيما لا يعلمه ولا يفهمه ويريد تَعَلّمه وفَهْمه ومعرفة تفاصيله ومنافعه، الصادقين منهم والثقات، حيث سيَجد عندهم حتماً الصواب والخبرات، وسيُوَفّرون عليه الأوقات والمجهودات، وبذلك تتحقّق أفضل النتائج، ويسعد الجميع في دنياه وأخراه، ما داموا يَسْتَصْحِبُون دائما نوايا خيرٍ بعقولهم عند أيِّ قولٍ أو عمل
ومعني "بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)" أيْ أرسلنا الرسل الكرام السابقين لك يا رسولنا الكريم محمد بالبَيِّنَات أيْ معهم الدلالات المُبَيِّنات الواضِحات سواء أكانت مُعجِزات تُؤَيِّد صِدْقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوا الناس لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، ومعهم الزّبُر أيْ الكتب جَمْع زَبُور وهو في اللغة يعني مَزْبُور أيْ مَكْتُوب أيْ وأرسلناهم بالكتب المكتوب فيها نصائحنا ووَصَايانا وتشريعاتنا لتُقْرَأ ويُعْمَل بأخلاقها المُسْعِدَة للجميع في الداريْن.. ".. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ.." أيْ وأوْحَيْنا إليك بحكمتنا ورحمتنا يا رسولنا الكريم محمد الذكْر أيْ القرآن العظيم الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. هذا، وقد سُمِّيَ القرآنُ ذِكْرَاً لأنَّ فيه كلّ ما يُذَكِّر الناس بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أيْ الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. هذا، ومِن الذكْر الذي أوحِيَ للرسول (ص) سُنَّته النبويّة القولِيَّة والفِعْلِيَّة فهي وَحْيٌ ثانٍ له (ص) لقوله "ألَاَ إني أُوتِيتُ الكتابَ ومِثْلَه معه.." (جزء من حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره)، لكنْ تُرِكَت ألفاظ هذا النوع من الوَحْي له يقولها هو (ص) بكلامه وليست من كلام الله تعالي كالقرآن العظيم.. ".. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.." أيْ لكي تُوَضِّح للناس جميعاً وتُفَصِّل وتُطَبِّق عَمَلِيَّاً واقِعِيَّاً بأقوالك وأفعالك من خلال ما أعطيناك من علمٍ معاني ومفاهيم وتفصيلات وتطبيقات ما أُنْزِلَ إليهم من ربهم في هذا القرآن مِن دينِ الإسلام الذي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه.. فالقرآن الكريم نزل مُجْمَلاً والسنة النبوية بما فيها من أقوالٍ وأفعالٍ بَيَّنَته وفَصَّلَته كله تمام البيان والتفصيل.. ".. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)" أيْ ولعلهم بذلك التّبْيِين يَتفَكّروا، أيْ لكي يتفكّروا، أيْ يُحسنوا استخدام عقولهم ويَتدبَّروا ويَتعمَّقوا في الأمور فيَصِلوا حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق قرآنهم وإسلامهم فيَسعدوا بذلك تماما في دنياهم وأخراهم.. بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا الدنيا والآخرة في تمام التعاسة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَدَبِّرين لقرآنهم عامِلين به كله
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)"، "أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)"، "أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ فهل اطمأنَّ الذين مَكَرُوا السيئات أيْ فعلوا السيئات، أي الشرور والمَفاسد والأضرار، بكل أنواعها ودرجاتها، ومنها تدبير المَكائد ضِدَّ الإسلام والمسلمين، ولفظ المَكْر يُفيد التدبير والترتيب والتخطيط سواء في الخفاء أو العَلَن، وأصَرُّوا عليها بلا توبة، هل جهلوا عقاب الله وأغْراهم حِلْمه عليهم بعدم تعجيل عذابهم رحمة منه بهم لإعطائهم وقتاً ليتوبوا فانخدعوا بذلك فاطمأنّوا إلي أنَّه تعالي بكمال علمه وقُدْرته وسلطانه ونفوذه القويّ العزيز مالِك المُلك القادر علي كل شيءٍ لا يَخْسِف بهم الأرض أيْ لا يَشقّها لتَبتلعهم بممتلكاتهم فيغيبون ويضيعون فيها مُعَذّبين هالِكِين؟!.. ".. أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)" أيْ أو هل اطمأنوا أنْ لا يَصِلَهم ويَجيئهم العذاب الدنيويّ – قبل الأخرويّ – المُناسب لِمَكْرهم مِن حيث لا يدْرون مِن أين جاءهم ولا كيف بدأ ولا يَتَوَقّعونه بحيث لا يُمكنهم إبداء أيّ استعدادٍ ومقاومةٍ له أو هروب منه؟! فهو عذابٌ مُفَاجِيء بلا مُقَدِّمات لا يُطيقونه غير مُستعِدّين له مُتَوَهِّمِين أنهم في أمانٍ منه ليكون تأثيره أعظم ولتكون حَسْرتهم أشدّ ويَندمون حيث لا ينفع الندم.. إنه عذابٌ في الدنيا له درجات وصُوَر علي قَدْر الشرور والمَفاسد والأضرار التي تصدر منهم، فقد يكون درجة مَا مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة وقد يكون بالإهلاك تماماً بفيضانٍ أو زلزالٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة)، ثم عذابٌ في الآخرة حيث ما هو أتمّ ألَمَاً وتعاسة وأشدّ وأعظم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (2) من سورة الحَشْر ".. فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فلا قيمة لمَكْرِهم ضِدَّكم ولا تأثير له بالتالي إذَن أيها المسلمون فالله خير الماكِرين فالنصر حتماً لكم قريباً فأحْسِنوا اتّخاذ أسبابه وانتظروه مُسْتَبْشِرين (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (30) من سورة الأنفال ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، والآية (42) من سورة الرعد "وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ"، والآية (46) من سورة إبراهيم "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا، والإجابة الحَتْمِيَّة علي هذا السؤال أنَّ أحداً لا يَأْمَن ذلك بكل تأكيد، فلماذا إذَن يُصِرّ الذين يمكرون السيئات علي سُوئهم؟!.. لأنهم قطعا قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)" أيْ أو هل أَمِنُوا أنْ لا يُعَذّبهم ويهْلِكهم وهم في أثناء تَنَقّلهم وتَغَيُّرهم بين البلدان يُتاجِرون ويَرْبَحون ويَتَنَزَّهون ويَتَرَقّون في المناصب والأموال وأنواع القوي المختلفة الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها ونحو ذلك مِن مُتَع الحياة؟! فهم ليسوا بمُعْجِزين لله قطعاً أيْ فليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذبا مُعَاندا مُستكبِرا، أم حتي مؤمنا، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعْجِز الله أي يجعله عاجزا أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالق كل شيء وقادر تماما عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيءٍ يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. إنَّ الحقيقة التي عليكم أنْ تُدركوها – وستُدركونها حتما إذا أحسنتم استخدام عقولكم بأن أزلتم الأغشية التي عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإذا استجبتم لنداء الفِطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي هي بداخل عقولكم (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) – هي أنّه ليس لكم إلا أنْ تُسْلِموا ولا تَمْكُروا السيئات لتَسعدوا في الداريْن ولتَنْجُوا من عذابهما.. "أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)" أيْ أو هل أَمِنُوا أنْ لا يُعَذّبهم ويهْلِكهم وهم في حالة تَخَوُّف، والتخوُّف هو الخوف من شيءٍ لم يَحْدُث بَعْد، فيذهب فيه الخيال العقليّ مَذاهِبَ لا تُحْصَيَ ويَتَوَقّع الذي سيُعَذّب أشكالا مُتَعَدِّدة من الشَّرِّ في حين أنَّ الواقع يَحْدُث على شكلٍ واحد، وكل خيالٍ من هذه الخيالات له ألمه وعذابه الشديد في النفس وبذلك تكثر المَخاوِف والعذابات، وبالتالي فالتخُّوف أشدُّ وأعظم من وقوع الحَدث نفسه.. والمقصود هل أَمِنُوا أنه تعالي لا يُنزل بهم العذاب المُناسِب لهم في أنفس وأموال بعضهم ثم بعضهم تدريجياً شيئاً فشيئاً حتي يُعَذّبوا ويهلكوا جميعاً وهم في كل لحظةٍ قبل إهلاكهم في عذابٍ شديدٍ مُؤْلِمٍ مِن شِدَّة الخوف منه والانتظار لحُدُوثه كما نَزَلَ قبل لحظاتٍ بمَن سَبَقَهم منهم.. ".. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رحمته تعالي بخَلْقه حيث لم يُعَجِّل العقاب فوراً للذين مَكَروا السيئات رغم استحقاقهم له بسبب ما يُحْدِثُونه من ضَرَرٍ وإنما يَتركهم لفتراتٍ حتي يُراجعوا أنفسهم ويتوبوا ويعودوا إليه ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلَاً أن يُعَذّبوا فيهما.. أيْ ولكنه سبحانه لا يَفعل ذلك الذي سَبَقَ ذكره في الآيات السابقة إلا بالمُصِرِّين علي مَكْر السيئات ونَشْرها بلا أيِّ توبةٍ ويكون تَرْكهم حينها ضَرَرَاً كبيراً عليهم وعلي غيرهم، وذلك لأنَّ ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، واللام للتأكيد، رءوف رحيم أيْ رؤوف رحيم بالناس كلها وبالخَلْق كلهم، فما بالكم بكم أنتم أيها المؤمنون؟! أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)"، "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)"، "يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ وهل لم يُشاهِد هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن والذين يَمْكُرون السَّيِّئات ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، أيْ لقد رَأَوْا وتأكّدوا وظَهَرَ لهم وأدْرَكُوا بالفِعْل، مَا خَلَقَ الله مِن أيِّ مَخْلُوقٍ له ظِلّ وهو يَتَفَيَّأ ظلاله أيْ يَتَنَقّل عن الجانب اليمين والجانب الشمال ومِن جِهَةٍ إلى جهةٍ باختلاف الأوقات تَبْعَاً لحركة الشمس نهاراً والقمر ليلاً، وكل هذه الظلال لكل هذه الأشياء هي فى كل الأحوال والأوقات ساجدة لله تعالي بمعني مُنْقَادَة تماماً لأمره تَسِير على مَا أراده لها مِن امتدادٍ وتَقَلّصٍ وغيره.. ".. وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)" أيْ وجميعهم، أي وجميع الأشياء المَخْلُوقة – وليس ظلالها فقط – داخرون أي مُنْقَادون خاضعون مُستسلمون كل الانقياد والخضوع والاستسلام لِمَا خُلِقُوا وسُخّرُوا له من أجل نفع الإنسان وإسعاده.. إنَّ كلّ شيءٍ مُنْقَادٌ خاضِعٌ مُسْتَسْلِمٌ تماماً له تعالي، سواء أكان بَشَرَاً أم غيره، فيه روح أم لا، كبيراً أم صغيراً، قوياً أم ضعيفاً، حتي ظلال الأشياء! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (45) من سورة الفرقان "أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا، وقد جاء لفظ "داخِرُون" بصيغة الجَمْع الخاصة بالعقلاء تَغْليباً لهم على غيرهم من المخلوقات غير العاقلة، لأنه في اللغة العربية عند خطاب عقلاء وغير عقلاء يتمّ الخِطاب بصيغة العاقل لهم جميعا.. "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)" أيْ ولإرادة الله تعالي وحده لا لإرادة غيره يَسْتَسْلِم ويَنْقاد ويَخْضَع جميع مَا خَلَقه في السموات وما دبَّ على الأرض مِن أيِّ دابَّة ومَشَىَ على ظهرها من أيِّ مخلوق، وكذلك الملائكة بالقطع، جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه غير مَرْئِيّ خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه وهي لا تُخالِفه أبداً في أيِّ أمرٍ من أموره وتُنَفّذ كلّ ما تُؤْمَر به منه تماما بلا أيِّ تغييرٍ أو تأخير، فكلّ شيءٍ في كوْنه هو مُنْقَادٌ خاضِعٌ مُسْتَسْلِمٌ له سبحانه، سواء أكان بَشَرَاً أم غيره، فيه روح أم لا، كبيراً أم صغيراً، قوياً أم ضعيفاً، حتي ظلال الأشياء كما في الآية السابقة، من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقَبْض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. هذا، واستخدام لفظ "ما" وهو الذي يُسْتَخْدَم لغير العاقل بَدَلَاً مِن لفظ "مَن" والذي يُستخدم للعاقل هو بسبب أنَّ كل مخلوقات الكوْن لا تَحْمِل عقلاً أو لها عقل غير كامل فيما عدا الإنسان وحده حيث هو العاقل تمام العقل.. هذا، وتخصيص الملائكة بالذكر رغم أنها مِمَّا في السماوات والأرض لتذكرة بعض السفهاء الذين قد يعبدونها لقوّتها وقُدْرَتها أنها من مخلوقات الله التي هي أيضا تسجد له أيْ تَعبده فلا تُعْبَد إذَن.. ".. وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)" أيْ وجميع المخلوقات في الكوْن مِن ملائكةٍ وغيرها والتي هي كلها عنده تعالي في مُلكه وسلطانه وتحت تصرّفه وعلمه يرعاها ويُدير شئونها علي أكمل وأسعد وجْهٍ هي كلها لا تتعالي أبداً علي عبادته أيْ طاعته طوال الوقت وهي لا تَملّ ولا تكسل ولا تضعف لحظة بل تستلذّ وتستمتع وتسعد بها لأنها تؤدّي مهمتها التي خلقها ربها من أجلها وهي نفع وإسعاد بني آدم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (15) من سورة الرعد "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)" أيْ وحال الجميع أنهم دائما في حالة خوفٍ من عظمة وهَيْبَة ربهم مع تمام حبه ورغبتهم في نِعَمه وخيراته ورحماته وعِناياته فهو فوقهم جميعا بعِلْمه وبقُدْرَته وبكمال صفاته الحُسْنَيَ قادرٌ علي كل شيءٍ قاهِرٌ غالِبٌ له راعِيه ورازقه وحافظه ومُعَاقِبه إنْ خالَف أمره ومهمّته، كما قال تعالي في الآية (18) من سورة الأنعام "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)" أيْ ويفعلون ما يُؤْمَرُون به منه تعالي بطاعته.. فالمؤمنون يعملون بكل أخلاق إسلامهم، وبقية كل المخلوقات مُسِخّرَة لنفع ولسعادة الإنسان وتُؤَدِّي مهامّها التي خُلِقَت من أجلها علي أكمل وجه، باستثناء الكافرين المُستكبرين وأشباههم!! فهُمْ إمَّا أنْ يستجيبوا هم أيضا ليسعدوا، وإمّا لهم كل العذاب والتعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر مُخَالَفاتهم لأوامر ربهم.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف من عقابه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في مغفرته وعطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)" أيْ وقال الله للناس جميعا عن طريق رسله الكرام لا تجعلوا لكم مَعْبُودَيْن إثنيْن – وحُدِّدَ هذا العَدَد لأنه أقل عدد بعد الواحد للتأكيد علي منع اتّخاذ ما يزيد عن الاثنين مِن بابِ أوْلَيَ لأنه إذا كان يُمْنَع الاثنين فيُمْنَع بالتالي حتماً الثلاثة والأربعة وما هو أكثر – فلا مَعْبُود بحقّ إلاّ فقط مَعبود واحد لا شريك له وهو الله تعالي فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة لنظامه وهو الإسلام بلا أيِّ شريك ولا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. إنه لو كان هناك آلهة مُتَعَدِّدَة لحَدَثَ الخلاف بينهم حيث كلّ إلهٍ يريد تنفيذ ما يريده فيَخْتَلّ بذلك نظام الكوْن لكن بما أنَّ نظامه واحد لا يَخْتَلِف إذَن فالإله واحد!! هكذا بكلّ عقلانِيَّةٍ وتحليلٍ واضح.. ".. فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)" أيْ فبما أنه لا إله إلا أنا، فبالتالي إذَن خافوني واخشوني وحدي ولا تخشوا غيري أحداً مِن خَلْقِي في كل أقوالكم وأفعالكم فإنه لا توجد قوة ولا قُدْرة في الكوْن إلا قُوَّتِي ولا يَحدث شيءٌ فيه إلا بإذني فأنا القادر علي كل شيءٍ واحذروا عقابي إنْ عَبَدْتُم غيري، فإنَّ تلك الخشية تُعينكم علي الطاعة وتُبعدكم عن المعصية – والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – فإنْ خَالَفْتم فستُعَاقَبُون في الدنيا بما يُناسب مُخَالَفَاتكم بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لكم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالكم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّهتكم لذلك بقولي "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لكم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف من عقابه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في مغفرته وعطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)" أيْ وله تعالي وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وهو بكل تأكيد غَنِيّ عنهم وكفرهم ولو جميعهم لا يَضُرّه قطعا بأيّ شيءٍ كما أنّ طاعتهم له لن تنفعه بأيّ شيءٍ بل يَضُرّ الكفرُ أوّل ما يَضُرّ هذا الذي يَكفر ثم مَن حوله إذا لم يجتهدوا في إصلاحه ودعوته بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة، سيَضُرّه كفره في الداريْن حيث في دنياه سيكون له كلّ قَلَقٍ وتوتّر وضيقٍ واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وتعاسة ثم في أخراه له حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا.." أيْ وإذا كان له وحده ما في السماوات والأرض فبالتالي إذَن له وحده أيضا الدين أي العبادة والإخلاص فيها والثواب في الداريْن علي فِعْلها والعقاب فيهما علي تَرْكها، واصِبَاً أيْ دائماً مستمرّاً ثابتاً واجباً خالِصَاً، والدين عموماً هو ما يَدِين ويَتَعَهَّد به الإنسان ويَلتزم بأدائه ووَفائه، وهو النظام والتشريع والقانون، والإسلام هو الاستسلام لوَصَايا وتشريعات الله تعالي أي التمسّك والعمل بها كلها في كل شئون الحياة والثبات دائما عليها.. ".. أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)" أيْ فهل بعد كل هذا تَتّقون وتَعبدون غير الله؟! أيْ غيره تَخافون وتُراقِبون وتُطيعون وتَجعلون بينكم وبين عذابه وقاية، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم؟! إنَّ هذا لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل.. إنَّ أيَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال أن يَعْبُد ويَتّقِي غيره تعالي ليسعد في دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
هذا، ومعني "وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة.. أيْ والذي عندكم معكم مُصَاحِبكم أيها الناس من أيِّ نعمةٍ مِمَّا لا يُحْصَيَ فهي من عطاء الله وحده لا غيره وكرمه وفضله ورحمته وحبّه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم، فهو وحده الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لكلّ الخَلْق، مِن روحٍ في المخلوقات ذوات الأرواح ومن قوةٍ وماء وهواء وطاقة ومعادن وخامات وحركة ونموّ خلايا وفكرٍ وعملٍ ونحو ذلك، ولو مَنَعَ شيئا مِن هذا لاَمْتَنَعَت الأرزاق! أمَّا غيره من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزق خالقهم ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورزقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مرزوقون به من ربهم قد مَلّكَهم إيَّاه لفتراتٍ وهو الذي يَسَّرَ لهم أسبابه وأعانهم عليها بما أعطاهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا، فاطلبوا أيها الخَلْق من خالقكم وحده سبحانه الرزق، وأحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما تستطيعون، وسيُيَسِّره لكم حتما، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لكم ويُعينكم عليه مِن خَلْقه.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين ليطمئنوا تماما علي ضَمَان أرزاقهم فيسعدوا بذلك.. ".. ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)" أيْ وهذا – إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره من التذكير بأنه ما بكم من نعمةٍ فمِن الله فاعبدوه وحده – مزيدٌ من بيان أنه تعالي وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ولاتّخاذه وَلِيَّاً فهو وحده لا غيره النافع الضارّ، والجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. أيْ وإذا حَدَثَ ولَمَسَكم وأصابكم الله بضَرَرٍ مَا أيها الناس، أيْ بشيءٍ مَا يَضُرّكم ويُسيء إليكم في صحتكم أو مالكم أو عملكم أو أحبابكم أو ما شابه هذا، سواء بسبب خطأٍ منكم أو من غيركم أو بسببٍ عامٍّ من الله تعالي لمصلحة خَلْقه ليستفيقوا ويعودوا له وللخير، مع مراعاة أنَّ معظم الضرر الذي يصيب الناس هو في الغالب يكون بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم التي كسبوها وحَصَّلوها وفعلوها بأيديهم وأرجلهم وعقولهم وسوء تصرّفاتهم، فمَن يَزرع شرَّا لابُدّ ألاّ يحصد إلا شرَّا، فهذا هو القانون الإلهيّ العادل لهذه الحياة والذي نبَّهنا إليه ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، فإليه وحده لا إلي غيره تَجْأرون أيْ تَرْفعون أصواتكم بالصراخ والألم والاستغاثة والدعاء مِمَّا أنتم فيه، لأنكم تعلمون وتتأكّدون بفِطْرتكم أنه لا كاشِفَ له مطلقاً أيْ لا رافِع ولا مُذْهِب ولا مُزِيل له عنكم إلا هو سبحانه، فهو الذي يُيَسِّر لكم أسباب التّخَلّص مِمَّا قد يَقَع بكم من أضرار، إمَّا بتوفيقكم مباشرة لها، أو يُيَسِّر لكم خَلْقَاً من خَلْقه ليُعاونوكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (22) من سورة يونس ".. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أنْ يكونوا دائماً من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي – أيْ المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أيْ مِمَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وفيه أيضا تنبيهٌ وتحذيرٌ لهم ألاّ يعبدوا أو يتوكلوا علي غيره عند إصابتهم بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبار ما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا)، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فيدعوا أو يعتصموا أيْ يَتَحَصَّنوا بغيره ويلجأوا إليه مُتَيَقّنِين أنه هو الذي سيُنجيهم وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينهم أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك)
ومعني "ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)" أيْ ثم إذا رَفَعَ وأذْهَبَ وأزَالَ الضَّرَرَ عنكم الذي حَدَثَ لكم برحماته وأفضاله وكرمه فبمُجَرَّد إزالته إذا عددٌ منكم أيْ بعضكم وليس كلكم بعد إنقاذهم وفي حالِ رخائهم يُشْركون بربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – أيْ يُشْرِكون معه في العبادة أي الطاعة غيره مِمَّا لا يَمنع شَرَّاً ولا يُحَقّق خيراً، فبَدَلاً أن يشكروه تعالي علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والتي منها نعمة نجاتهم مِمَّا هم فيه إذا هم يُشركون!! أيْ يعودون لِشَرِّهم ولشِرْكهم ويعبدون آلهتهم بل ويَنسب بعضهم النجاة لها أو لغيرها! فلماذا لا يستمرّون علي عبادة ربهم ليسعدوا في الداريْن وقد جَرَّبوا أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض الناس من المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حُدُوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتَرْكهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم! فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم
ومعني "لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)" أيْ ليكفروا إذَن بالتالي بما أعطيناهم كما يشاءون، أيْ اكفروا كيْفما شِئتم! أيْ لا تعترفوا بكل نِعَم الله التي أعطاكم إيّاها والتي لا يُمكن حصرها، بل واكفروا أيضا حتي بوجود الله ذاته! كما تشاءون! وتمتّعوا كيفما تريدون بمُتَع الحياة علي أيّ صورةٍ سواء أكانت شرّا أم خيرا ضررا أم نفعا.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم وتحذيرٌ لأيّ أحدٍ أن يفعل مثلهم، وهذا هو معني.. ".. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)" أي مع الوقت ستَعلمون وستُدْرِكون النتائج السَّيِّئة لكفركم أو شرككم بعبادة غيره أو نفاقكم بإظهار الخير وإخفاء الشرّ أو ظلمكم واعتدائكم وعدم عدلكم أو فسادكم وشرّكم ونشركم له أو نحو هذا، وذلك حين ينزل بكم نوعٌ ما مِن أنواع العقاب، في دنياكم حيث القلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة حيث كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراكم حيث سيكون لكم حتما ما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. وفي هذا تهديد مُرْعِب لهم ولمَن يَتشبَّه بهم لأنَّ الله تعالي القويّ المُنتقم يُخاطبهم بصورةٍ مباشرة فيها تحديد وتركيز وليس بصيغة الغائب كما في بدء الآية الكريمة
ومعني "وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)" أيْ هذا بيانٌ لبعض سَفَه المشركين – وهم الذين يُشركون مع الله تعالي في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه – وخَبَلهم وانحطاطهم وتخريفهم بما يدعو للسخرية منهم والشفقة عليهم مِمَّا ذهبت عقولهم له من التّدَنّي في التفكير، وكل ذلك لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ ويَجعلون أيْ ويجعل المشركون، إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره من سُوئهم في الآيات السابقة، لِمَا لا يعلمون أيْ لأصنامهم ومَعْبُوداتهم التي لا تعلم شيئا – ولفظ "يعلمون" بصيغة العاقل رغم أنها لا تعقل لأنهم كانوا يعتبرونها عاقلة تَنْفع وتَضُرّ!! فالقرآن يُخاطبهم علي قَدْر سَفَه عقولهم – نصيباً أيْ جُزْءَاً مِمَّا رزقناهم نحن وليس آلهتهم المزعومة قطعا، بمعني أنهم كانوا يجعلون لها جزءاً من أرزاقهم سواء أكان مالا أم أرضا أم زرعا أم حيوانا أم ولدا من أولادهم أم غيره، يُقَدِّمونها لها، حولها وتحت أقدامها، يحرقونها بالنار ولا ينتفع بها أحد، مُتَوَهِّمين أنهم بذلك يرضونها فتَرْضَيَ عنهم فتنفعهم ولا تضرّهم!! (برجاء مراجعة أنَّ الله تعالي وحده النافع الضَّارّ في الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)" أيْ والله، أُقْسِم بذاتِي العَلِيَّة، وفي هذا عظيم التهديد لهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب بهم فيهما، ستُسْألون حتماً سؤال ذَمٍّ شديدٍ – واللام والنون لمزيدٍ من التأكيد مع القسم فهو تأكيدٌ علي تأكيدٍ وتَخْويفٌ علي تخويف – أيها المشركون وأيها المُتَشَبِّهُون بهم، في الآخرة، عمَّا كنتم تفترونه من أكاذيب فى الدنيا، ولأعاقِبَنَّكم في مُقابِل ذلك العقاب الذى تَسْتَحِقّونه بسبب فِعْلكم للشرور والمَفاسد والأضرار، في دنياكم بما يُناسب من عذابٍ ثم في أخراكم بما هو أعظم عذابا وأتَمّ وأخلد في نار جهنم.. والافتراء هو الكذب بكذبٍ شَنِيعٍ ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا
ومعني "وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لسَفَهِهم وخَبَلهم وانحطاطهم وتخريفهم بما يدعو للسخرية منهم والشفقة عليهم مِمَّا ذهبت عقولهم له من التّدَنّي في التفكير، وكل ذلك لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ ويَجعلون أيْ ويجعل المشركون والمُتَشَبِّهُون بهم، إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره من سُوئهم في الآيات السابقة، لله البنات، أي من سوء حالهم وإغلاق عقولهم وسوء أخلاقهم وجرأتهم وتَعَدّيهم علي خالقهم وبعد أن جعلوا له تعالي شركاء يعبدونهم غيره ظلما وزورا يجعلون كذلك له أولادً من زوجةٍ تزوجها وأنْجَبَ منها؟!! وحتي هذه المواليد هي كلها من البنات – وهي الملائكة حيث يَدَّعُون أنها بناته – التي يَتَحَرَّجُون هم من إنجابها ويَحتقرونها فينسبونها له، سبحانه، أيْ تَنَزَّهَ وابْتَعَدَ وتَعَالَيَ وتَعَاظَمَ وارْتَفَعَ عن كل صفةٍ لا تَليق به فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وهم يُنْجِبون ما يَشتهون أيْ يُحِبُّون ويَرْغَبُون بشِدَّة وهم البنين الذين يَفتخرون بهم كمصدرِ قوة وعِزّة لهم!! أيْ حتي في ظُلمهم وكذبهم وزُورهم يأخذون لأنفسهم النفيس ويتركون لله ما هو خَسِيس!! وهل من المعقول وهو الخالق للسماوات والأرض وكل المخلوقات وللذكور وللإناث وقد اعترفوا بذلك كما في الآية (9) من سورة الزخرف "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) وعلي فَرْض أنه سيَتَّخِذ لنفسه ولدا ليُعينه علي إدارة الكوْن فهل من العقل والحكمة أن يترك البنين الذين هم أفضل من وجهة نظرهم ويختار لذاته العَلِيَّة الأسوأ وهم البنات؟! إنه كان من الحكمة إذَن أن يختار لنفسه مِمَّا يخلق ابناً يكون من الأفضل وهم الذكور وليس الإناث!! (برجاء مراجعة الآية (228) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن أنَّ الذكور والإناث في الأصل متساوون).. وكل هذا الحديث هو من باب مُجَاراتهم في ادِّعاءاتهم لبيان ما فيها من تخريفٍ وسَفَهٍ وكذبٍ شديد، وإلاّ فالأمر كله مُسْتَنْكَرٌ مرفوضٌ من الأساس!!
ومعني "وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)" أيْ ومِمَّا يدلّ تماما علي افترائهم وجرأتهم علي الله تعالي ولمزيدٍ من التّسْفِيه والذمّ الشديد لهم والرفض التامّ لِمَا يَدَّعونه لعلهم يستفيقون ويعبدونه سبحانه أنَّ حالهم حين يُبَشَّر أيّ أحدٍ منهم أيْ يُخْبَر بخَبَرٍ سارٍّ وهو أنه قد وُلِدَت له بنت – وهو الوصف والتشبيه الذي كان قد جعله لله الرحمن الرحيم الحليم وَوَصَفه به أنَّ له بنات – بَدَلاً أن يسعد ويستبشر بهذه النعمة الكبيرة وهذا الخير الكثير إذا به يَظهر ويَصير علي وجهه سواد الكآبة ويَبقيَ ويَظلّ علي ذلك! وهو كظيم أيْ ويكون حاله كثير شديد الكَظْم للغيظ مملوءاً به يَكظم أيْ يَكتم غَيْظه وحزنه وعاره ويَختفي عَمَّن حوله! فهم لا يَرضون مُطلقا لأنفسهم هذا العار والذلّ – من وجهة نظرهم – فلماذا إذَن يرضونه لخالقهم؟! ولكنه الافتراء والجرأة عليه سبحانه وهو الرحمن بهم وبكل خَلْقه الذي يَرْجو بعبادتهم إيّاه وباتّباعهم إسلامه صلاحهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم كما سَعِدَ الذين عَبَدوه واتّبعوا إسلامهم
ومعني "يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)" أيْ يَتَخَفّيَ من الناس فلا يَظْهَر لهم بسبب ما أُخْبِرَ به من سوءٍ وهو أنه قد وُلِدَ له بنت حتي لا يَرْوا ما هو فيه من تعاسةٍ وغَيْظٍ وذِلّةٍ وعارٍ وحزنٍ وألم.. ".. أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ.." أيْ ويَتَحَيَّر ويُحَدِّث نفسه ويَتَفَكّر في الأمر هل يحتفظ به أيْ بهذا الذي بُشّرَ به وهو المولود البنت مع هُوُنٍ أيْ إهانةٍ وذِلّةٍ سيعيشها طوال حياته وحياتها أم يدفنه في التراب وهو حيٌّ حتي يموت ويَتَخَلّص من كل هذا السوء؟!.. ".. أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)" أيْ ما أسوأ هذا الحُكْم علي الأمور الذي يحكمونه، ما أسوأ هذا التفكير السَّفِيه السَّطحِيّ الخاطيء المُضِرّ المُتْعِس!.. وفي هذا ذمّ شديدٌ لهم على أحكامهم وأفكارهم الفاسدة التي تُخالِف كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. إنهم بكل تأكيدٍ سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم.. هذا، ولفظ "ألا" في اللغة العربية يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
ومعني "لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)" أيْ للذين لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة حيث البعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، صِفَة السَّوْء ، والتى هى كالمَثَل فى القُبْح، أيْ هم غاية ونموذج في السوء، وذلك لأنَّ الذين لا يؤمنون بها يَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم وبالتالي يَميلون إلي هذا الشرّ وفِعْله، فهُمْ لهذا يَتّصِفون دائما بكل صفات السوء أثناء كل شئون حياتهم مِن سَفَهٍ وخَبَلٍ وتَخْريفٍ وسَطْحِيَّةٍ وغِلْظَةٍ وقَتْلٍ وغيره، وبالتالي فمعيشتهم وحالتهم كلها سوء علي سوء، فكلها قلق وتَوَتّر وضيق واضطراب وصراع واقتتال مع الآخرين وبالجملة هم في كل تعاسة في دنياهم، ثم ينتظرهم حتماً في أخراهم ما هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ وأخْلَد.. بينما الذين يَتَذَكّرون دَوْمَاً الآخرة ويُوقِنون أيْ يتأكّدون بلا أيِّ شكّ بوجودها فإنَّ هذا اليقين بها له أثره العظيم في إسعاد حياتهم الدنيوية وحياة مَن حولهم حيث يَدْفَعهم حتماً لحُسْن الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْكِ كلّ شَرٍّ دوْماً من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم.. فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه.. ".. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.." أي ولله تعالي الصِّفَة العُلْيَا في كل شيء، الأعلي من كل صفةٍ والتي هي المَثَل الأعلي في الكَمَال والحُسْن، أيْ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، والبَشَر يجتهدون ما أمكنهم في التشَبُّه بهذه الصفات ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، فهو ليس كمِثْلِه شيءٌ سبحانه حيث لا يُمَاثِله تعالى شيءٌ من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.. ".. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)" أيْ وهو الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الحكيم في كلّ أموره أيْ الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يَضع كل أمر في موضعه دون أيّ عَبَث
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عشتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ رعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ، فكن حريصا دوْما عليها بفِعْل كلّ خيرٍ مجتهدا في ألاّ تخرج عنها أبدا بفِعْل أيّ شرّ، وإنْ فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعمل وكسب وكرم وبرٍّ وَوُدٍّ وتعاون وغيره
هذا، ومعني "وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)" أيْ هو سبحانه يُخْبِر عن حِلْمه وأنَّ رحمته دائما تَسبق غضبه فهو لا يُعذب الناس أو يُهلكهم فورا بسبب ظلمهم أيْ بمجرّد ما يَكسبونه أي يَفعلونه مِن ظلمٍ أيْ شرّ، سواء أكان هذا الظلم كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا، وإلاّ لو فَعَلَ هذا لم يُتْرَك أحدٌ علي وجه الأرض هو وما يملكه من دوابّ وأرزاق! لأنه حتي المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم مُعَرَّضِين كأيّ بَشَرٍ لفِعْل أيّ خطأ! لكنه من رحمته سبحانه وحبه لخَلْقه يُمْهِلهم أي يَتركهم ليُصَحِّحوا ذواتهم ليَسعدوا بحياتهم، وإلاّ فلماذا خَلَقهم أصلا إذا كان سيَقضِي عليهم بمجرّد خطئهم؟! إنَّ الحياة ستَنتهي بهذا حتما! وهل هناك مِن صانعٍ مَا يُدَمِّر صنعته بل هو قطعا يُحبّها ويُحافظ عليها تماما ويَصونها ويَرعاها لأنه هو الذي صَنَعَها فما بالنا بأحسن الصانعين الله تعالي؟! إنه بذلك لن يَعْتَبِر أحدٌ من خطئه! وحتي الكافر وأمثاله كثيرا ما يأتي من ذرِّيَّاتهم مَن يُؤمن ويُصْلِح ويُحْسِن ويَسعد بالحياة ويُسعدها! ولذلك كله ولغيره من الحِكَم فهو تعالي يُمْهِل لكن في ذات الوقت لا يُهْمِل، أيْ يَترك أهل الشرّ لفترات طويلة مع دوام حُسن نُصحهم ودعوتهم من المسلمين الدعاة حولهم، ويَحلم عليهم أي يصبر كثيرا ويعطيهم الفرصة بعد الأخري لكي يعودوا لربهم ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن، لكنْ إنْ أصَرُّوا وعانَدوا واستمرّوا علي شرِّهم ولم يَتقَدَّموا بأيّ خطوة نحو الخير حتي يُعينهم تعالي علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، حينها يَتَدَخَّل سبحانه بإهلاكهم واستئصالهم ليُريح أهل الخير والكوْن كله من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولتعود للجميع سعاداتهم التامّة دون تعكيرٍ بشرور، وهذا هو معني ".. وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى.." أيْ يُؤَجّلهم للتوقيت والموعد المُحَدَّد لعقابهم والذي يكون بكلّ عدلٍ علي قدْر شرورهم سواء أكان بقَلَقٍ وتوَتّر وضيق واضطراب وصراع ونحوه أم باقتتال مع الآخرين أم بعقابٍ تامٍّ يُهلكهم ويَستأصلهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستصال التامّ من الحياة).. هذا، ومن معاني الأجل المُسَمَّيَ كذلك أنه هو موعد موتهم وأيضا موعد يوم القيامة.. فليُسارِع إذَن كلّ عاقلٍ بحُسن الاستعداد بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ – والتوبة منه – من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وليَحذر تأجيل ذلك، فإنَّ أحداً لا يعلم موعد موته أو موعد الآخرة، وكل ما هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد.. " .. فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره أنَّ الأمور كلها بيده سبحانه علي حسب إرادته وحكمته وأنه علي كل شيءٍ قدير.. أيْ لكل مجموعةٍ من الناس وقتٌ محدودٌ في هذه الحياة الدنيا، ثم تنتهي ويَخْلفها من بعدها أمة أخري ثم أخري، ولكل جيلٍ أجله كذلك ثم يَخْلفه غيره، ولكل فردٍ في هذه الأمة وهذا الجيل أجله أيضا ثم يأتي مَن بَعْده، وهكذا، وسيأتيهم جميعا الموت حتماً في موعده المُحَدَّد لكلٍّ منهم، فحينما يأتي هذا الموعد، موعد الموت وبداية حساب القبر أو موعد يوم القيامة والحساب الختاميّ، أو حتي قبله موعدُ نزولِ عذابٍ ما بمَن يستحِقّه أو نزول خيرٍ ما بكلّ مَن يفعل خيرا – كإضافةٍ إلي خيره سبحانه الدائم المستمرّ لكلّ خَلْقه – أو حُدُوث حَدَثٍ مَا، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أيْ لا يمكن لأحدٍ تأخيره ولو للحظة بطَلَبِ مزيدٍ من الوقت والإمهال أيْ الترْك للإصلاح فقد فات الأوَان، ولا يمكن أيضا استقدامه واستعجاله وإحداثه قبل وقته، لأنه بحكمته تعالي قد قَدَّر هذا الموعد لمصلحةٍ مَا مِن مصالح البَشَر والخَلْق سواء عَلِموها أم لم يَعلموها، حيث أحيانا قد يستعجل الظالمون العذاب استهزاءً به وتكذيباً له وكأنه سبحانه عاجز عن القيام به! وأحيانا قد يستعجل أهل الخير موتهم اشتياقاً لِجَنّة ربهم
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من سَفَه المشركين – وهم الذين يُشركون مع الله تعالي في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه – وخَبَلهم وانحطاطهم وتخريفهم بما يدعو للسخرية منهم والشفقة عليهم مِمَّا ذهبت عقولهم له من التّدَنّي في التفكير، وكل ذلك لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ ويَجعلون أيْ ويجعل المشركون والمُتَشَبِّهُون بهم، إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره من سُوئهم في الآيات السابقة، لله ما يَكْرَهُون، أيْ بالجُمْلَة كل ما يكرهونه هم لأنفسهم أيْ لا يُحِبُّونه ولا يُريدونه يجعلونه لله!! تعالي عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا، وذلك من سوء حالهم وإغلاق عقولهم وسوء أخلاقهم وجرأتهم وتَعَدّيهم علي خالقهم إذ بعد أن جعلوا له تعالي شركاء يعبدونهم غيره ظلماً وزُورَاً يجعلون كذلك له كل ما يكرهون من أقوالٍ وأفعالٍ ويتّهِمونه سبحانه كذباً وسَفَهَاً وخَبَلَاً وسَخَفَاً بصفاتٍ وأعمالٍ هم يكرهونها أصْلَاً علي أنفسهم كأن يكون مثلاً كالبَشَر يَتَنَاسَل ولا يُنْجِب إلا البنات! أو له شركاء في مُلْكِه كأصنام أو كواكب أو غيرها وهم أصلا لا يَقبلون شريكاً لهم في زعاماتهم وأموالهم وممتلكاتهم! وما شابه هذا من سفاهات وخُرافات.. ".. وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى.." أيْ ومع كل هذا القُبْح والسوء الذي هم فيه حيث يجعلون لله ما يكرهون والذي من المُفْتَرَض ألاّ يُفَكّروا بسببه في أن ينتظروا أيَّ خيرٍ لا يَكتفون بذلك بل أيضا يَتَبَجَّحُون وتقول ألسنتهم الكذب وهو قولهم الكاذب المَزْعُوم أنَّ لهم الحُسْنَيَ بمعني أنه لو افتراضاً كان هناك آخرة موجودة كما تَدَّعون أيها المؤمنون وعُدْنا إلي ربنا الذي تَدَّعونه باعتبار أنكم صادقون سيكون لنا عنده حتما بالتأكيد الحالة الحَسَنَة وما هو أحسن وأفضل مِمّا نحن فيه مِن نِعَمٍ في الدنيا وذلك لكرامتنا عليه إذ لوْلا مَكَانتنا عنده ما أعطانا ما هو عندنا حاليا فنحن مُسْتَحِقّون له وسيَبقي لنا وأكثر منه في الآخرة التي تَدَّعونها!! إنهم يَتَوَهَّمون أنَّ إعطاء نِعَم الآخرة سيكون مثل إعطاء نِعَم الدنيا!! وهذا مِن شدّة جهلهم وتكبّرهم وغرورهم وجرأتهم علي ربهم وقولهم عليه بغير علمٍ وإغلاقهم لعقولهم.. ".. لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)" أيْ هذا تكذيبٌ لهم فيما يَدَّعُونه تَبَجُّحَاً من أنَّ لهم الحُسْنَىَ وتَوَعُّدٌ بتعذيبهم فى النار بما يُناسب سُوئهم إذا ماتوا علي ذلك ولم يتوبوا.. أيْ لا شكّ وحقّاً أنَّ لهم النار في الآخرة حتماً لا الحُسني وأنهم مُفْرَطُون فيها أيْ مُقَدَّمُون فيها سابِقون لها مَنْسِيُّون مَتْرُوكون بها أبداً بسبب أنهم مُفَرِّطُون في فِعْل الخير مُفْرِطُون أيْ مُسْرِفون في فِعْل الشرّ
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)" أيْ هذا قَسَمٌ من الله تعالي بذاته العَلِيَّة، وهو سبحانه قطعاً لا يحتاج لقَسَمٍ لتأكيد ما يقول ويُخْبِر به فكل قوله صِدْق تامّ مُقَدَّس مُطاع من أيِّ رسولٍ ومن كل مسلم، ولكن ليكون تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِيراً للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيفاً عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْناً لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم! فلقد أرسل رسلاً سابقين ومعهم كتبهم التي فيها الإسلام الذي يُناسب عصرهم والذي يُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم كما أرسلناك يا رسولنا الكريم ومعك القرآن العظيم فاختَلَف الناس في أمرهم كما يختلفون في القرآن، فمنهم مَن صَدَّقَ بالرسول وما معه من كتاب وعمل بكل أخلاقه فسَعِدَ تمام السعادة في الداريْن ومنهم مَن كذّبَه وعانَدَه واستكبر عليه وعاداه فتَعِسَ تماما فيهما، فيا رسولنا الكريم ويا أيها المسلمون مِن بَعْده إنَّ تكذيب بعض مَن حولكم لكم ليس أمراً جديداً مُسْتَغْرَبَاً مُسْتَبْعَدَاً بل هو مُتَوَقّع يَحْدُث في كلّ عصر، فاصبروا واعملوا بأخلاق إسلامكم وأحسنوا دعوة الغير له واعلموا أنَّ ربكم الكريم القويّ العزيز حَتْمَاً ناصركم ومُكْرمكم ومُعِزّكم علي مَن آذاكم في الدنيا والآخرة.. أيْ والله لقد – واللام وقد بعد القَسَم لمزيدٍ من التأكيد لِمَا سيُقال – بعثنا رُسُلَاً كراماً كثيرين إلي أمم كثيرة من قبلك سابقة لك يا رسولنا الكريم يدعونهم لعبادة الله وحده والعمل بأخلاق دينه الإسلام ليسعدوا في الداريْن، فزَيَّنَ لهم الشيطان أعمالهم، أيْ فمَعَ هذا الإرسال للرسل، زَيَّنَ لهم أيْ للمُكذّبين المُعانِدين المُستكبرين وأشباههم، الشيطان – أيْ تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه – أعمالهم التي كانوا يعملونها من كلِّ سوء، أيْ حَسَّنَها لهم، فلذلك كذّبوا رسلهم وعصوهم وصَدَّقوا الشيطان وأطاعوه حيث اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم اتّباع هذا التزيين فكذّبوا بوجود الله وعبدوا غيره وأصَرُّوا علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنت دائما مُنْتَبِها له حَذِرا شديد الحَذَر منه)، وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لهذه العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الشيطان دَوْمَاً هكذا يُعْطِي أتْبَاعه وُعُودَاً وعُهُودَاً والتزاماتٍ زائفة كاذبة لا تُنَفّذ لهم ويَعِدهم بأماني وآمال وأحلام وَهْمِيَّة خادِعَة ليست حقيقية ولا تُعْطَيَ لهم تَمنعهم من اتّباع أخلاق الإسلام بحيث يستمرّون معه في ضلالهم تائِهين دائما فيه.. ".. فَهُوَ وَلِيُّهُمُ.." أيْ فلذلك فبالتالي وبسبب هذا التزيين واختيارهم بإرادتهم له صار هو – أيْ الشيطان – وَلِيّهم أي الذي يَتَوَلّيَ أمورهم يُديرها لهم ويُوَجِّههم فيها وسيَأخذهم بالتالي إذَن مُؤَكّدَاً لكل شرٍّ وفسادٍ وظلمٍ وكُفْر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم، فالواقع يُثْبِت ذلك دائما.. ".. الْيَوْمَ.." أيْ الآن في الدنيا، أو يوم القيامة حيث يكون وَلِيّهم بمعني قَرِينهم أيْ مُلازِمهم ومُصاحبهم في النار.. ".. ولهم عذاب أليم (63)" أي ولهم في الآخرة يَنتظرهم عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. وذلك بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه بالتأكيد بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ مَا من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)" أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد (ص) للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. أي وما أنزلنا عليك وأوحينا إليك يا رسولنا الكريم القرآن العظيم إلا لكي تُوَضِّح للناس جميعاً وتُفَصِّل لهم وتُطَبِّق عَمَلِيَّاً واقِعِيَّاً بأقوالك وأفعالك أمامهم من خلال ما أعطيناك من علمٍ معاني ومفاهيم وتفصيلات وتطبيقات كل الذي اختلفوا فيه من كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات والمُتَغَيِّرات والمُعَامَلَات في كل شئون حياتهم حيث تُبَيِّن لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل أمورهم صغرت أم كبرت، فهو إذَن ليس أبداً لكي يَتْعَبُوا ويَتْعَسوا به في الداريْن وإنما علي العكس تماما فهو لكل راحةٍ وسعادةٍ تامَّةٍ لهم فيهما، فهو ما أُنْزِلَ إلا ليكون المَرْجِع الذي فيه الأصول والقواعد التي يَرْجِعون إليها والتي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم حتي لا يختلفوا فيتعسوا فيهما بهذا الاختلاف والتنازُع والتصارُع والتقاتُل بل يأمنون ويسعدون باتّحادهم علي كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادة.. ".. وَهُدًى وَرَحْمَةً.." أيْ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لِيَكُون بَيَانَاً فاصِلَاً لكلِّ مَا يُخْتَلَفُ فيه وليكون كذلك هديً ورحمة أيْ هادٍ أي مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ مع هذا التدبُّر وهذا الشكر عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)"، "وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)"، "وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)"، "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)"، "ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)"، "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)"، "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)"، "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)"، "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)"، "فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ والله وحده لا غيره أنزل من السماء مطراً مُعْتَدِلا لسَقْي الزروع والدوابّ ونموها وما شابه هذا مِمَّا يُحيي الأرض ومَن عليها ويُكثر خيراتها ومنافعها وسعاداتها بعد أن كانت مَلْسَاء هامِدَة لا نبات فيها.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً.." أيْ إنَّ فِي ذلك الإنزال للماء من السماء والإحياء للأرض بعد موتها بالتأكيد ولاشكّ – واللام للتأكيد – آية عظيمة أيْ دلالة ومعجزة تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)" أيْ لكنْ لا ينتفع بمِثْل هذه الآيات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات إلا أناس يسمعون لِمَا يُتْلَيَ عليهم ويُذْكَر لهم من آيات الله تعالي وكلامه سَمَاع تَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ واستفادة وانتفاع وتطبيقٍ عمليّ في واقع حياتهم لِمَا يسمعونه ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن، وليس أيّ استماعٍ بلا أيّ تَعَقّل!.. "وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)" أيْ وأيضا إنَّ لكم أيها الناس في خَلْق الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – لَعِظَة، واللام للتأكيد، أيْ مَوْعِظَة تَتّعِظون بها حينما تَتَدَبَّرون في قُدْرَة خالِقها وعِلمه وحِكمته ورحمته وكيف سَخّرها لكم رغم قوَّتها حيث كان من المُمْكِن أن تَفْتَرِسَكم كحيواناتٍ أخري مُفْتَرِسَة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (5) من هذه السورة سورة النحل "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ" حتي الآية (8) منها، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن منافعها وسعاداتها).. ".. نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)" أيْ هذا بيانٌ لِعِبْرَةٍ من بين العِبَر التي في خَلْق الأنعام والتي عليكم أن تَتَدَبَّروها حيث قد تَسْتَقِلّوها وتَغْفلوها إذ نُشْرِبكم من بعض ما في بطون هذا النوع من الحيوان من بين فَرْثٍ أيْ فَضلاتِ طعامٍ مَهْضُومٍ في مَعِدَتِه كَريه الرائحة ودَمٍ حوله في جدارها لا يُسْتَساغ شُرْبه نُشْرِبكم ونُخْرِج لكم بقُدْرتنا ورحمتنا لمنافعكم ولسعاداتكم لَبَنَاً صافياً بلا روائح سَيِّئة ولا شَوائب ولا أضرار رغم وجوده بين الفرث والدم سائغاً أيْ سَهْلاً في تَناوُله وابْتِلاعه لذيذاً مُمْتِعَاً في مَذاقه للشاربين الذين يريدون شُرْبَه والانتفاع والتّغَذّي والتّمَتّع والسعادة به.. "وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)" أيْ ولكم أيضا عِبْرَة فيما نُسْقِيكم ونَرْزقكم من ثمرات النخيل وأشجار العنب التي خَلَقناها لكم وأنعمنا بها عليكم والتي منها ثَمَرٌ تَجعلون منه سَكَرَاً أيْ عصيراً مُسْكِرَاً غير حَسَنٍ أيْ خَمْرَاً ومَا يُشْبهه مُذْهِبَاً للعقل مُضِرَّاً مُتْعِسَاً في الداريْن، فلا تَتّخِذوه شراباً، وتجعلون منه رزقاً حسناً أيْ طعاماً طيّباً حَسَناً مُفيداً نافعاً مُسْعِدَاً فيهما فانتفعوا واسعدوا به.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً.." أيْ إنَّ فِي ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه بالتأكيد ولاشكّ – واللام للتأكيد – آية عظيمة أيْ دلالة ومعجزة تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ "إنَّ في ذلك لآية" كما في آياتٍ سابقةٍ وقادمةٍ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها للانتفاع بذلك في مزيدٍ من حُسن عبادته تعالي بتمام طاعته والعمل بكلّ أخلاق إسلامه وشكره والتوكّل عليه لتَتِمّ السعادة في الدنيا والآخرة .. ".. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون ويسعدون بها هم فقط الذين يعقلون أيْ أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أيْ الذين يُحسنون استخدامها فيتدبَّرون فيما حولهم من آياتٍ فيَزداد بسببها تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَسعدون في دنياهم وأخراهم ولا يتعسون فيهما مثل الذين لا يَتَّبعون إسلامهم لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)" أيْ وألْهَمَ وأرْشَدَ ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل، النحل إلي أن اجعلي من بعض فَجوات الجبال بيوتاً لك وكذلك من بعض تَجاويف الشجر ومن بعض ما يَعْرِشون أيْ يَبْنُون الناس من أبْنِيَةٍ لسَكَنهم ولسَكَنِكِ، وذلك للعَيْش في بيوتها المُسَدَّسَة الشكل المعروفة التي تبنيها من إفرازاتٍ شَمْعِيَّةٍ منها مع نظامٍ دقيقٍ لتوزيع الأعمال فيها علي المجموعات والأفراد منها وكل هذا من أجل تجهيز مَا خَلَقَها وفَطَرها وهَيَّأها وسَخَّرَها سبحانه له وهو نَفْع وإسعاد الإنسان من خلال عَسَلِها وغيره من منافع واسْتِخْدَامات.. "ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)" أيْ ثم بعد اتّخاذها بيوتها ألْهَمْنَاها وأرْشَدْنَاها كذلك أنْ كُلِيِ من كل أنواع الثمرات للأشجار والنباتات واسْلُكِي أيْ ادْخُلِي طُرُق ربك لطَلَب الرزق في الجبال والأشجار والزروع فهي كلها مُذَلّلَة أيْ مُسَخَّرَة مُمَهَّدَة لك وإنْ بَعُدَت أو صَعُبَت علي غيرك وتعرفين كيف تذهبين إليها وتعودين منها لبيوتك دون أنْ تُخْطِئي إيَّاها بإلْهَامِنا ذلك لك وأنت كذلك مُذَلّلَة أيْ مُسَخَّرَة مُطِيعَة مُنْقَادَة لنفع ولسعادة الإنسان، فيَخْرُج من بطونها بعد أكلها من كل الثمرات شرابٌ نافِعٌ مُسْعِدٌ هو العسل مُختلفٌ ألوانه ما بين أبيض وأصفر وغيره على حسب اختلاف مَراعيها ومَآكلها بقُدْرَة الله تعالي وعِلْمه وحكمته ورحمته، وهو فيه شفاء للناس حيث يُغَذّيهم ويُقَوّيهم ويَشْفِي كثيراً من أمراضهم بذاته أو بإضافته لدواءٍ غيره حسبما يَنصحهم به المُتَخَصِّصُون من الأطباء مع الصَّيَادِلَة ونحوهم.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً.." أيْ إنَّ فِي ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه بالتأكيد ولاشكّ – واللام للتأكيد – آية عظيمة أيْ دلالة ومعجزة تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون ويسعدون بها هم فقط الذين يَتَفكّرون أيْ يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعمَّقون في الأمور فيَصِلون حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق قرآنهم وإسلامهم فيَسعدون بذلك تماما في الداريْن حيث يُحسنون طلب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا حياتهم وآخرتهم في تعاسةٍ علي قَدْر بُعْدِهم عن الله والإسلام.. "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)" أيْ وأيضا – ومن بعض آياته – الله تعالي وحده لا غيره هو الذي أوْجَدكم مِن عَدَمٍ علي غير مِثالٍ سابِقٍ بقُدْرَته وعِلْمه وحكمته ثم هو وحده لا غيره الذي يَقبض ويَستردّ أرواحكم عند موتكم وانتهاء آجالكم في دنياكم، فمنكم مَن يَتَوَفّاه مُبَكّرَاً ومنكم مَن يَبْقَىَ مُحْتَفِظَاً بقوّة جسده وعقله حتى موته ومنكم مَن يَصِل ويَصِير ويُرْجَع إلي أرْذَل العمر أيْ أضْعفه وأرْدَئِه كما كان طفلا حيث الضعف وعدم إدراك الأمور إدراكاً تامَّاً وصحيحاً والاحتياج للغير والمقصود طول العمر وحُدُوث الشيخوخة حيث تضعف القُدْرات الجسدية والعقلية، وذلك بحِكْمته وعِلْمه ورحمته تعالي في طول الآجال وقصرها والقوة والضعف والصحة والمرض والغني والفقر ونحو ذلك من أجل منافع الناس وتَوَازُن الكَوْن ليَتَحَقّق الهدف من خَلْق الحياة ومخلوقاتها وهو سعادة الخَلْق في دنياهم وأخراهم، فلْيُحْسِن الإنسان بالتالي إذَن طوال عمره باتّباع أخلاق الإسلام حتي يُعينه ربه ويَحفظه ويُقَوِّيه ويُيَسِّر له حاله في مِثْل هذه الأحوال.. ".. لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا.." أيْ فتكون نتيجة ذلك أنْ لا يستطيع أن يعلم بعد علمٍ عَلِمَه سابقاً شيئاً مِن أيِّ علمٍ زائدٍ عمَّا كان يَعْلمه وأيضا يَنْسَيَ ما كان يَعْلمه بعضه أو كله فيَصير لا يَعلم شيئاً، لكن يُرَاعَيَ أنَّ الأمر يختلف من فردٍ لآخر علي حسب محافظته علي صحته وعقله وتنشيطهما وتقويتهما والاهتمام بهما بالوسائل العلمية المُمْكِنَة المُتَاحَة وعدم إضرارهما بأطعمةٍ فاسِدَةٍ أو مُضِرَّةٍ أو مُسْكِرَةٍ أو نحوها كما يُثْبِت الواقع ذلك.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)" أيْ كلّ ما سَبَقَ ذِكْره وغيره هو ناتج عن أنه تعالي عليمٌ بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبالتالي فهو يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه بكلّ حِكمة ودِقّة دون أيّ عَبَث بما يحقق المصلحة والسعادة لخَلْقه، وهو القادر بتمام القُدْرَة علي ذلك وعلي كل شيء.. فاعبدوه وحده بالتالي إذَن أيها الناس وأيْقِنُوا بالبَعْث وإعادة الخَلْق مرة أخري للحساب والثواب والعقاب لتسعدوا في دنياكم وأخراكم حيث القادر على خَلْق الإنسان وعلى نَقْله من حالٍ إلى حالٍ قادرٌ كذلك حتماً على إحيائه بعد موته فالخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قدْر ما تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)" أيْ وأيضا – ومن بعض آياته – الله تعالي زادَ ومَيَّزَ بعضكم أيها الناس علي بعضٍ في الرزق بعد أنْ رَزَقَكم جميعا وذلك علي حسب ما تُحْسِنون مِن اتّخاذ أسباب هذا الرزق فيُيَسِّرها لكم فيُغْنِي هذا ويُفْقِر هذا ويُمَلّك هذا ويَعْزِل هذا ويزيد هذا درجات في القوة والأموال وغيرها فوق هذا الذي يكون قد نَمَّيَ عنده درجة أخري في الفكر والعمل وما يشبه ذلك مِن تَنَوُّع حتي يكون بعضكم مُسَخَّرا مُعَاوِنَاً لبعض ويُيَسِّر له الأعمال والاحتياجات فتتعاوَنون فتَسعدون ولو كنتم كلكم في ذات الدرجة والمستوي لَمَا احْتَجْتُم لبعضكم ولَتَقَطّعت روابطكم وتَعَطَّلت الحياة وتعستم.. ".. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ.." أيْ فلا يَرُدّ أيْ لا يُرْجِع ولا يُعْطِي الذين فُضِّلُوا في الرزق الذي رَزَقهم الله إيَّاه نصف رِزْقهم الذي معهم إلي ما يملكونه بأيْمانهم أيْ بأيديهم اليُمْنَيَ أيْ عبيدهم – إنْ كان هناك عبيد – أو خَدَمهم أو عُمَّالهم أو مُوَظّفيهم أو مَن يُشبههم مِمَّن هم أقلّ منهم في الرزق حتي يكونوا فيه أيْ في الرزق سواء أيْ متساوين، والمقصود أنه إذا كنتم لا تَقْبَلُون هذا علي أنفسكم، أن يكون لكم شركاء في ملككم – رغم أنَّ هذا الذي تَمْلكونه هو هِبَة لكم من الله خالقكم ورازقكم وليس ملكا أنتم الذين خَلَقتموه ورغم أنَّ هؤلاء الذين هم أقلّ منكم هم بَشَر مخلوقون مثلكم ولو اجتهدوا أكثر لوصلوا إلي ما أنتم فيه – فكيف إذَن ترضون للخالق المالك الحقيقي لكل شيء أن يكون له شركاء هو أصلا خالقهم ولا مُقارَنَة تُذْكَر بينه وبينهم؟! هل يَصِحّ هذا أو يُمكن لأيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يقول به؟!.. وفي هذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ للذين يعبدون غير الله تعالي ورفضٌ تامٌّ لفِعْلِهم القبيح وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. كذلك من المعاني عند بعض العلماء: فليس الذين فَضَّلهم الله تعالى فى الرزق على غيرهم بِرَادِّى أىْ بِمُعْطِي رزقهم إلي مَمَاليكهم أيْ عبيدهم أو خَدَمهم إلا أن يرزقهم الله تعالي إيَّاه حيث هم فيه أيْ في هذا الرزق سواء أيْ مُتَساوون بمعني أنَّ الله هو الذي يرزق الجميع وليس الغنيّ هو الذي يرزق الفقير المُحتاج فلْيَنْتَبِه بالتالي إذَن الذين فُضِّلُوا لذلك أنه تعالي فَضَّلَ بعض الناس علي بعضٍ فى الرزق فكانوا أفضل مِمَّا رَزَقَ مماليكهم وهم بَشَرٌ مِثْلهم وإخوانهم فيجب عليهم أن يَرُدُّوا مِن زائد مَا رُزِقُوا عليهم حتى يَتَساووا جميعا في الكفاية مِمَّا يحتاجونه، وبالتالي يكون هذا الجزء من الآية الكريمة عند هؤلاء العلماء هو دعوة ضِمْنِيَّة منه سبحانه للذين فُضِّلُوا على غيرهم فى الرزق لأنْ يُنْفِقوا على مَمَاليكهم وخَدَمَهم وكل مُحْتاجٍ بل وكل وَجْهٍ للخير بلا أيِّ إعجابٍ أو فَخْرٍ أو مَنٍّ أو أذَي لأنَّ ما ينفقونه هو رزقٌ من الله سَيَّرَه للفقراء ولكلِّ عملِ خيرٍ على أيدى الأغنياء لتَحْدُث سعادة المجتمع بسببه حيث ثمار الأرزاق يجب أن تكون عامَّة بينهم كلهم لا يحتكرها البعض دون غيره ولهم في مُقابِل إنفاقهم حتماً أجرهم العظيم المُتَمَثّل في كلِّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم قبل أخراهم.. ".. أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فهل بعد كل هذا الوضوح لِنِعَمِ الله التي لا تُحْصَيَ عليهم وعلي كل الخَلْق والكوْن والتي لا يُنْكِرها أيُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ وأهمها وأعظمها إرشادهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بأخلاق الإسلام التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها، يجحدون هذه النِّعَم أيْ يُنكرونها ويُكَذّبونها ولا يَعْتَرِفون بها؟! حيث دليل ذلك أنهم لا يشكروها، إذ الشكر يكون بأنْ يُحْسِنوا استخدامها في كل خيرٍ بلا أيِّ شرٍّ لكنهم أساءوا الاستخدام لها، ويكون بأنْ لا يُشْرِكوا معه في العبادة غيره فأشركوا به وعبدوا وشكروا هذا الغير، ويكون بأنْ يَتّبِعُوا أخلاق إسلامهم لكنهم خالَفوها، وهم يجحدونها مع تأكّدهم التامّ بدواخل عقولهم بأنها الحقّ والصدق حيث الجُحُود هو عدم الاعتراف بالحقّ رغم العِلْم والتأكُّد تماما أنه الحقّ، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)" أيْ وأيضا – ومن بعض آياته ونِعَمِه – الله تعالي وحده لا غيره هو الذي خَلَقَ لكم من أنفسكم أي من جنسكم أي إنسانا مثلكم وليس نوعا آخر لا يمكنكم التعايش معه، وأيضا خَلَقه منكم أي مِن آدم لمزيدٍ مِن الاستشعار بأنَّ هذا المخلوق هو جزء منه مُكَمِّل له فيزداد حبا له وتمسّكا به، خلق زوجات، ليَسكن الزوج والزوجة كل منها إلي الآخر أي ليَستقرّ ويَأمن ويطمئنّ ويَهدأ إلي جواره ويَسعد به ويُكْمِل ويُعاوِن بعضهما بعضا في كل شئون الحياة ليسعدا تمام السعادة فيها – ثم في الآخرة – من خلال المَوَدَّة أي المَحَبَّة والرحمة أي اللّيِن والعطف والرأفة والشفقة التي جعلها سبحانه بينهما.. ".. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً.." أيْ وكذلك من بعض آياته ونِعَمِه التي لا تُحْصَيَ جعل لكم من أزواجكم من خلال التناسُل والولادة أبناء ومِن نَسْلِهم أحفاد أيْ أبناء الأبناء لتسعدوا بهم ومعهم وتنتفعوا بما يُفيدكم ويُسعدكم في الداريْن.. ".. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.." أيْ وكذلك من بعض آياته ونِعَمِه التي لا تُحْصَيَ أعطاكم من كل أنواع الطيّبات وهي النافعات لا الضارَّات من كل شيءٍ التي تَسْتَطيبها وتَسْتَسِيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي خَلَقها لكم في الأرض والتي أحلّها لنفعها ولإسعادها.. ".. أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)" أيْ هذا، إضافة لسؤال الآية السابقة، مزيدٌ من الاستفهام والسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فهل بعد كل هذا الوضوح لِنِعَمِ الله التي لا تُحْصَيَ علي الناس جميعاً وعلي كل الخَلْق والكوْن والتي لا يُنْكِرها أيُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ وأهمها وأعظمها إرشادهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بأخلاق الإسلام التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها، وبَدَلاً أن يشكروا ربهم الخالق الرازق الكريم علي نِعَمه هذه التي يصعب حصرها فيعبدوه وحده، يؤمنون بالباطل بعض هؤلاء الناس الذين يعبدون غيره تعالي أي يُصَدِّقون بالأصنام أو الأحجار أو النجوم أو نحوها التي يعبدونها غير الله تعالي أنها آلهة تَنفع أو تَضرّ، وإذا بهم بسبب ذلك يَتَّبعون كلّ باطلٍ أي كل ما هو غير حقٍّ أي كل شرٍّ وفسادٍ وظلم وضَرَر!! وبالتالي، وبفِعْلِهم هذا، بإيمانهم بالباطل، فهم يَكفرون بنعمة الله، أي يُنكرون نِعَمه كلها، أي لا يعترفون بها، وأعظمها نعمة الإسلام ثم بقية النِعَم كالعقل والصحة وكلّ أنواع الأرزاق التي يَصعب حصرها والتي يَنْسِبُونها لغيره.. وبالجملة هل هم يؤمنون بالأصنام ويكفرون بالله ونِعَمه والإسلام؟!! أين عقولهم؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة؟!! إنهم سيتْعَسون حتما في الداريْن.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)" أيْ ويَعْبُد المشركون أيْ يُطيعون غير الله مَعْبُودات كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل) لا تملك أيْ لا تستطيع أبداً – كما يرون واقعيا أمامهم – رِزْقهم بأيِّ شيءٍ من رزقٍ حتي ولو أقلّ القليل سواء أكان هذا الرزق آتِيَاً مِن جِهَة السماوات كمطرٍ بمنافعه لكلِّ حيٍّ أم خارجاً من الأرض كنباتٍ نافِع للبَشَر وللدوابّ، فهي أضعف منهم، فكيف يعبدونها؟! كيف يطيعونها؟! وإلي أيِّ شيءٍ تدعوهم ليعملوا به هل إلي خيرٍ أم إلي شرّ؟! أين عقولهم؟! أين العدل والإنصاف؟! ألَاَ يستمعون إلي نداء الفطرة بداخلهم والتي هي مسلمة أصلا وتدعوهم إلي عبادة الله وحده واتّباع الإسلام؟! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تمام عدم الاستطاعة، أيْ ولا تستطيع هذه الآلهة أن تفعل أيَّ شيءٍ من ذلك حيث هى لا تملك شيئاً أصلاً وليس فى استطاعتها أن تملك لأنها ليست أهْلَاً لذلك ولا تستطيع رِزْق أيّ أحدٍ حتي لو أرادت لأنَّ غير المَالِك للشيء ربما كان له قوة واستطاعة علي نَفْع مَن يَتَعامَل معه وهذه لا تملك ولا تستطيع، وبالجملة هي لا تستطيع أن تنفعهم بشيءٍ من النفع كإيجاد الصحة والقوة والزرق بكل أشكاله ولا أن تَضرّهم بشيءٍ من الضرر في الأنفس والممتلكات كالمرض والفقر والخوف وغيره، لأنَّ النفع والضّرّ من الله وحده وكل ما يستطيعه البَشَر من المنافع أو المَضارّ هو بتمكين الله لهم بتيسير أسبابها لمنفعة خَلْقه أو لعقابهم ليستفيقوا ليعودوا إليه وإلي إسلامهم إذا ابتعدوا وأساؤوا وليس بقُدْرتهم الذاتية؟! إنها لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرر عنها فكيف بغيرها؟! كيف يكون العابِد وهو الإنسان أقوي أحياناً أو كثيراً من المَعْبُود الذي يعبده إذا كان مثلاً صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو شجراً أو غيره ولو لجأ إليه أو سأله شيئا أو عَوْنَاً لم يسمعه ولم يُجِبْه ولم يَنفعه بشيء؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! ولكنه التعطيل لها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي وحده هو الذي ينفرد بامتلاك النفع التامّ والعطاء والمَنْع، وما ينفع الإنسانَ أحدٌ بشيءٍ ما فإنما هو نفع جُزْئِيّ من خلال مُلْكِه سبحانه، وما هو إلا سبب فقط من الأسباب سَخّره له لينفعه بنفعٍ مَا، ولو أراد مَنْعه عنه لَمَنَعه بأيِّ سبب! وهل يملك أحدٌ مثلا إنزال الماء وإخراج الزروع والثمار وتربية الدوابّ ونمو الأجسام وخَلْق المخلوقات وتسيير الهواء وحركة الأرض والشمس ونحو ذلك من الأسباب العامة للحياة وللرزق؟!! ولو مَنَعَها تعالي بعضها أو كلها فمَن يملك إعادتها؟!! ومَن يملك له حينها حياته وتَنَفّسه ورزقه من بَشَرٍ ضعفاء مثله يُصيبهم مِثْلَما يُصيبه من مرضٍ وفقرٍ وموتٍ وغيره ولا تُساوِي قوّتهم شيئا إلي جانب قوّة القويَ العزيز مالِك المُلْك الجبّار القهار القادر علي كل شيءٍ المُعين للمُتمسّكين العامِلين بدينهم الإسلام؟!! وكذلك لن يَضرّه أحدٌ إلا بضَرَرٍ جُزْئِيّ وبأسبابٍ يُمكنه مَنْعها بما يُضادّها بتوفيق ربه له واستعانته به، ولن يُضَرّ إلاّ بشيءٍ قد أراده الله له لِيَنتفع به خِبْرَة وجَلَدَاً وصَبْرا (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. "فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)" أيْ إذا كان الأمر كما ذُكِرَ لكم سابقاً مِن أنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة فبالتالي إذَن لا تجعلوا أيها الناس لله الأمثال أيْ الأشْبَاه المُمَاثِلِين له مِن خَلْقه تُساوونهم به سبحانه وتُشركونهم معه في العبادة كأصنامٍ أو كواكب أو غيرها فإنَّ هذا لا يُعْقَل أبداً ويَسْتَحيل فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فهو ليس كمِثْلِه شيءٌ سبحانه حيث لا يُمَاثِله تعالى شيءٌ من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، والكلّ مَخْلوقٌ ضعيفٌ مَرْزُوقٌ مِثْلكم ليس له صفات الخالِق وكلها لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه!.. كذلك من معاني الآية الكريمة: إذا كان الأمر كما ذُكِر لكم فلا تُشَبِّهُوا ولا تُمَثّلُوا أبداً بالتالي إذَن خالقكم العظيم بأيِّ مخلوقٍ مِن مخلوقاته.. ".. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)" أيْ لأنَّ الله يعلم حتماً بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه خطأكم وشِرْككم وكفركم ونفاقكم وظلمكم وفسادكم يا مَن تُخْطِئون وتُشْرِكون وتَكفرون وتُنافقون وتَظلمون وتفسدون وسيُحاسِبكم إنْ لم تتوبوا ويُعَاقِبكم بالقطع بما يُناسب سُوئكم بكل شَرٍّ وتعاسةٍ في دنياكم ثم أخراكم، وأنتم لا تعلمون ذلك غافلون عنه ولا تُقَدِّرونه ولذا تَجَرَّأتم علي فِعْل السوء
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)"، "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ ذَكَرَ وبَيَّنَ الله شَبَهَاً له ولِمَا يُعْبَد غيره وَضَّحَ فيه فساد عقيدة المشركين وهم الذين يشركون معه تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه ووَضَّحَ أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك: رجلاً عبداً عند غيره مملوكاً له لا يَقْدِر علي فِعْل شيءٍ من التّصَرُّفات حتى ولو كانت قليلة فهو عاجزٌ عن التَّصَرُّف في أيِّ شيءٍ لا يملك شيئا، ورجلا آخر حُرَّاً رزقناه منّا رزقاً حَسَناً أيْ حلالاً طيّباً واسعاً من كل أنواع الأرزاق يملك أن يَتَصَرَّف فيه لكلِّ خيرٍ بكل حُرِّيَّةٍ فهو يُعْطِي منه في الخَفاء والعَلَن وفي كل حالٍ ووقتٍ كيفما يريد، فهل يَستوون أيْ فهل يَسْتَوِي الأحرار الذين يَملكون ويَتَصَرَّفون فيما يَملكونه بما يُريدونه مع العبيد الذين لا يملكون شيئاً ولا يَقْدِرُون علي أيِّ شيء؟! إنَّ الإجابة الحَتْمِيَّة المَنْطِقِيَّة عند أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ أنهم لا يَستوون حتماً بلا أيّ شكّ، ومادام الأمر كذلك فكيف سَوَّيَ بالتالي إذَن هؤلاء السفهاء العابدون لغير الله تعالي بين الخالق الرازق المالِك لكل شيءٍ والقادر عليه وبالتالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ وبين غيره من المَعْبُودات التي لا تملك شيئاً ولا تنفع ولا تَضُرّ بأيِّ شيءٍ فلا تَسْتَحِقّ أيّ عبادة لكنهم رغم هذا عَبَدُوها؟!! إنَّ كل ذلك ما هو إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ المَثَلَ الذي يَضْرِبه الله تعالي يُقْصَدُ به الكافر والمؤمن، فالكافر يكون عَبْداً مَمْلُوكَاً أيْ أسيراً لفِكْره الشَّرِّيِّ بداخل عقله لا يَقْدِر علي فِعْل شيءٍ من خيرٍ لأنه لا يَعرف معروفاً ولا يُنْكِر مُنْكَرَاً لأنه لا يؤمن بإلهٍ وبآخرةٍ وحسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ فلذلك يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فيكون مصيره الحَتْمِيّ تمام التعاسة في دنياه وأخراه، فهذا حتماً يستحيل بالعقل والمَنْطِق أن يتساوي مع المؤمن الذي هو حرٌّ من أسْر الشرور ينفق من كل أنواع الرزق الحَسَن الذي رزقه الله إيّاه في كل وجوه الخير سِرَّاً وجَهْرَاً يريد خير ربه في الداريْن فكان مصيره الحَتْمِيّ تمام السعادة فيهما.. وفي هذا تشجيعٌ علي الإيمان وتَنْفِيرٌ وتحذيرٌ شديدٌ من الكفر والشرْك.. ".. الْحَمْدُ لِلَّهِ.." أيْ اشكروا الله كل الشكر علي كل نِعَمه والتي لا تُحْصَيَ ومنها أنّه وَضَّحَ للمؤمنين أي المُصَدِّقين به المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم كل هذه الحقائق، ليزدادوا يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكٍّ بوجود ربهم وبأنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة وبصلاحية شرعه الإسلام لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم دون غيره من الأنظمة المُخَالِفة له فيزدادون تمسُّكا وعملا به لتَتِمّ سعادتهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذه النِّعَم والتي لا يُمكن حصرها تَسْتَوْجِب تمام شكرها، بالعقل باستشعار قيمتها وباللسان بحمده سبحانه وبالعمل باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تكون دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. ثم يَرُدّ سبحانه علي أمثال هؤلاء ومَن يشبههم بما فيه تَعَجُّب مِن حالهم وتَصَرُّفهم وتحقير له لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، فيقول تعالي ".. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)" أي رغم كل هذا الوضوح في الأدِلّة لكنَّ كثيرا منهم لا يعلمون أي لا يعقلون أي لا يُحسنون استخدام عقولهم، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجهلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! لأنهم قد وضعوا عليها أغشية وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره .. ولفظ "أَكْثَرُهُمْ" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)" أيْ وهذا مِثالٌ آخرٌ لمزيدٍ من التأكيد والتوضيح.. أيْ وذَكَرَ وبَيَّنَ الله شَبَهَاً له ولِمَا يُعْبَد غيره وَضَّحَ فيه فساد عقيدة المشركين وهم الذين يشركون معه تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه ووَضَّحَ أنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة بلا أيِّ شريك: رجلين أحدهما أبْكَم أيْ لا يتكلّم لأنه لا يسمع فهو لا يستطيع الكلام وبالتالي هو ضعيف الإدراك والفهم والتفهيم لغيره، وهو ضعيف الإمكانات لا يَقْدِر على فِعْل شيءٍ من العمل والنفع، وهو أيضا كَلٌّ على مَوْلاه أىْ ثقيلٌ عِبْءٌ على الذى يَتَوَلّىَ أموره من طعامٍ وشرابٍ وكساءٍ وغيره بما يُفيد عدم قُدْرَته تماما على القيام حتي بمصالح نفسه فكيف بغيره، وهو كذلك عديم الفائدة في جميع أحواله وأوقاته فهو أينما أيْ إلي أيِّ مكانٍ يُوَجِّهه مَوْلاه أيْ يُرْسِله إلي جهةٍ مَا لقضاء أمر من الأمور لا يأتِ بخير أيْ لا يَرْجِع بفائدة ويعود خائباً فاشِلاً لضعفه وعجزه وقِلّة إدراكه وإمكاناته.. ".. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)" أيْ هل يَتَسَاوَي هو أيْ هذا الرجل الأبْكَم العاجِز مع رجلٍ آخرٍ يأمر غيره بالعدل أيْ عدم الظلم والإنصاف وهو أىْ هذا الرجل الآخر فى نفسه علي صراطٍ مستقيمٍ أيْ على طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف الذي هو طريقِ الله والإسلام طريقِ الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة فأقواله وأفعاله كلها عدل مستقيمة فهو صالحٌ نافعٌ سعيدٌ في نفسه مُصْلِحٌ مُفِيدٌ مُسْعِدٌ لغيره ولكلّ الخَلْق وللكَوْن كله بكل ما فيه؟!.. كذلك من المعاني هل يستوي هو هذا الأبْكَم العاجِز والمقصود الصنَم الذي يعبده مَن يعبدون غير الله تعالي مع مَن يأمر بالعدل وهو الله سبحانه القادر علي كل شيءٍ وهو على صراط مستقيم أي وهو يَدُلّكم أيها الناس على صراط مستقيم؟! إنَّ الإجابة الحَتْمِيَّة المَنْطِقِيَّة عند أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ أنهم لا يَستوون حتماً بلا أيّ شكّ، ومادام الأمر كذلك فكيف سَوَّيَ بالتالي إذَن هؤلاء السفهاء العابدون لغير الله تعالي بين الخالق الرازق المالِك لكل شيءٍ والقادر عليه المُتّصِف بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ من العدل والحِكْمة والاستقامة ونحوها وبالتالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ وبين غيره من المَعْبُودات كصَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه والذي هو أبْكَم عاجِز لا يَقْدِر علي شيءٍ وهو كَلٌّ علي مَن يَعبده ولا يأتِ بخيرٍ بل بِشَرّ ولا يملك شيئاً ولا ينفع ولا يَضُرّ بأيِّ شيءٍ فلا يسْتَحِقّ بالتالي أيّ عبادة لكنهم رغم هذا عَبَدُوه؟!! إنَّ كل ذلك ما هو إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ المَثَلَ الذي يَضْرِبه الله تعالي يُقْصَدُ به الكافر والمؤمن – كما في الآية السابقة – فالكافر الذي بسبب بُعْده عن الله والإسلام لأنه قد أغْلَقَ عقله هو ضعيف الإدراك لا يَقْدِر علي فِعْل شيءٍ من خيرٍ لأنه لا يَعرف معروفاً ولا يُنْكِر مُنْكَرَاً لأنه لا يؤمن بإلهٍ وبآخرةٍ وحسابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ فلذلك يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فيكون مصيره الحَتْمِيّ تمام التعاسة في دنياه وأخراه، فهذا حتماً يستحيل بالعقل والمَنْطِق أن يتساوَيَ مع المؤمن الذي بسبب إيمانه بربه وعمله بكل أخلاق إسلامه هو مُستقيمٌ عادِلٌ فاعلٌ لكل خيرٍ تارِكٌ لكل شرٍّ فيكون بذلك مصيره الحَتْمِيّ تمام السعادة في الداريْن.. وفي هذا تشجيعٌ علي الإيمان وتَنْفِيرٌ وتحذيرٌ شديدٌ من الكفر والشرْك
ومعني "وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ ولله تعالي وحده علم كلّ غَيْبٍ في السموات والأرض، وهو قادر عليه بتمام القُدْرَة.. والغَيْب هو كل ما غابَ عن إدْرَاك وحَوَاسِّ البَشَر، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل كالآخرة والبَعْث للناس فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار وما يَحْدُث في الكَوْن من أحداثٍ تَغِيب عنهم أو في مستقبلهم ونحو هذا.. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن.. إنه لا أحد يعلم الغَيْب أيْ المستقبل وكل ما يَغيب عن عقول البَشَر إلا هو سبحانه فهو الذي يُدَبِّر أمور الخَلْق والكَوْن كلها علي أكمل وأسعد وجه.. إنه تعالي وحده الذي يعلم ما سيَحِلّ بالمُسيئين الذي سَبَقَ ذِكْرهم من شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن بسبب إساءاتهم وما سيكون للمُحسنين من خيرٍ وسعادةٍ فيهما بسبب إحسانهم.. ".. وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.." أيْ وما أمر مَجِيء يوم القيامة – وسُمِّيَ بالساعة لسرعة قيامه ولانضباط وقته – وبَعْث الناس فيه لحسابهم، عند الله تعالي في سرعته وسهولته، إلا كنَظَرِ البصر السريع وكغَلْق جِفْن العَين بعد فتحه أو حتي هو أقرب سرعة من ذلك، فشأنه سبحانه في إيجاد شيءٍ أو إحْداث فِعْلٍ مَا يريده فبمجرّد أنْ يأمره ويقول له كلمة واحدة لا تتكرَّر مرة ثانية وهي كُن فإنه يكون ويَحدث فوراً كما يُريد في لمحةٍ كما يلمح البصر شيئا مُتَحرِّكَاً علي عَجَل، أيْ في طَرْفَة عَيْن، أيْ بمنتهي السرعة دون أيّ لحظة تأخيرٍ أو مُمَانَعَة أو صعوبة، فهو سبحانه لا يحتاج مثلا إلي أدواتٍ وخامات وخطوات وغيرها ممَّا يحتاجه البَشَر!.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)" أيْ وذلك لأنَّ الله حتما بلا أي شك علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
ومعني "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ وإضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره، الله وحده لا غيره بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه أخرجكم يا بني آدم من بطون أمهاتكم أطفالاً لا تعلمون ولا تستطيعون أيّ شيء، بعد أن خَلَقكم أيْ أوْجَدكم من عَدَمٍ كأجِنَّةٍ علي مراحل دقيقة في بطونهنّ من ماءٍ مَهين تعرفونه يَحمل نُطْفَة هي المَنِيّ من الرجل لتَتَّحِدَ مع بويضة من المرأة، فتَتَكَوَّن عَلَقَة أي مجموعة خلايا دقيقة تتعلّق بجدار الرحم الداخلي، ثم تتطوّرون وتَنمون وتُولَدون أطفالا، وخَلَقَ لكم وأعطاكم مُقَوِّمَاتٍ وإمكاناتٍ لتمام نفعكم وسعادتكم بحياتكم والتي منها وأهمها الآذان التي تسمعون بها والأبصار التي ترون بها والأفئدة – جمع الفؤاد أي القلب وهو يعني العقل عند كثيرٍ من العلماء وسُمِّيَ بالقلب لأهميته كالقلب لأنَّ العقل إذا تَوَقّف تماماً عن العمل توقّفت الحياة كما إذا توقّف القلب – أيْ العقول والمشاعر بداخله التي تعقلون بها بما فيها من قُدْرة علي التفكير والإدراك والشعور فتُمَيِّزون بكل ذلك بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة فتتحقّق لكم السعادة الكاملة في دنياكم ثم أخراكم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)" أيْ هل لم يُشاهِد هؤلاء المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، إلي الطيْر – جَمْع طائر – مُسَخّرَاتٍ أي مُذَلّلَاتٍ مُسَيَّرَاتٍ مُسَهَّلاَتٍ للطيران في هواء السماء بأمر الله وبقُدْرَته بسبب ما زَوَّدَها به من أجْنِحَةٍ تَبْسطها وتَقْبِضها وبما سَخّرَ لها من الهواء يحملها بخواصِّه الفيزيائية فما يُمْسِكهن فيه عن الوقوع إلا الله بما خَلَقه لها من إمكاناتٍ تُعينها علي طيرانها ولو سَلَبها منها ما طارت ولَسَقَطت؟! وهي أيضا مُسَخّرات منه سبحانه لمنافعكم ولسعاداتكم أيها الناس فأنتم تصطادونها وتأكلونها وتبيعونها وتتزيَّنون بريشها وما شابه هذا من منافع وسعادات.. إنه ما يحفظها في الجَوِّ في حالتيّ البَسْط والقَبْض أثناء الطيران ويمنعها من السقوط ويحفظها في كل حالٍ بل وما يحفظ الكوْن كله والخَلْق كلهم إلا الله تعالي سبحانه بقُدْرته وعِلْمه وإرادته ورحمته التي وَسِعَت كل شيءٍ مِن بَشَرٍ وطيرٍ وغيره والذى أحْسَنَ كل شيءٍ خَلَقه وسَخَّرَ له وخَلَقَ فيه من رحماته كل ما يُعينه علي الانتفاع بحياته والسعادة فيها ونفع وإسعاد غيره من إمكاناتٍ مُعْجِزَات.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ.." أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ – واللام للتأكيد – آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة من خلال دينه الإسلام وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون بها هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما بها بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)" أيْ وأيضا – ومن بعض آياته ونِعَمِه التي لا تُحْصَيَ – الله تعالي وحده لا غيره هو الذي هَيَّأَ ويَسَّرَ لكم ووَفّقَ عقولكم وهداها لنعمةٍ تَسْتَحِقّ الشكر ككلّ النِّعَم وقد يَغفل عنها ويَسْتَقِلّها كثيرون وهي هندسة البيوت وبنائها لتكون لكم أيها الناس سكينة وطمانينة وأمناً ونَفْعَاً بكل أشكال حياتكم ومُتَعها الحلال داخلها، فما أعظمها نعمة أن تَبِيتوا آمِنين مُتَمَتّعِين لا خائفين أو مُشَرَّدِين أو مُهَجَّرين أو مُطَارَدِين أو نحو ذلك.. ".. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ.." أيْ وكذلك من بعض آياته ونِعَمِه التي لا تُحْصَيَ خَلَقَ لكم الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – وسَخّرَها لكم ومَكّنكم منها لتَجعلوا من جلودها بيوتاً تَسْتَخِفّونها أيْ تَجِدُونها خفيفة الحمْل يَخِفُّ عليكم حمْلها ونَقْلها يوم ظَعْنِكم أيْ يوم سَفَرِكم من مكانٍ لآخر ويَخِفّ عليكم نَصْبها بأيْسَر الطرق وقت إقامتكم لترتاحوا بداخلها بعد السفر كالخيام ونحوها من البيوت المُتَنَقّلَة لتُقيموا فيها لفترةٍ مُؤَقّتَةٍ حتي تعودوا لمَساكِنكم الدائمة الثابتة.. ".. وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)" أيْ وكذلك من بعض آياته ونِعَمِه التي لا تُحْصَيَ جَعَلَ لكم ويَسَّرَ أن تجعلوا لأنفسكم من صوفها ووَبَرها وشَعْرها أثاثاً من مفروشاتٍ ومَلْبُوساتٍ وزيناتٍ وسَجَّاد ونحو ذلك، كما تجعلوا لكم منها متاعاً أيْ مُنْتَفَعَاً تَنتفعون به بالبيع والشراء والتجارة وما شابه هذا، وكل ذلك بالجُمْلَة يكون لكم من ربكم الكريم الرحيم المُنْعِم متاعاً تَتَمَتّعون وتَسعدون وتَنتفعون به إلي حينٍ أيْ حتي وقتِ انتهاءِ آجالكم أو آجال هذا الأثاث والمَتاع باستهلاكه وهَلاكه أو انتهاء الحياة الدنيا كلها ومَجِيء الآخرة
ومعني "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)" أيْ وأيضا – ومن بعض آياته ونِعَمِه التي لا تُحْصَيَ – الله تعالي وحده لا غيره هو الذي هَيَّأَ ويَسَّرَ لكم مِمَّا خَلَقَ نِعَمَاً تَسْتَحِقّ الشكر ككلّ النِّعَم قد يَغفل عنها ويَسْتَقِلّها كثيرون وهي ظلالاً أي ما تستظلُّون به من أشجارٍ وتِلالٍ وسُحُبٍ وغيرها، لتَتَّقوا الجوَّ الحارَّ عند حُدُوثه، إذ لولا نِعْمة خَلْق ظلٍّ لكلِّ شيءٍ من خلال حركة الشمس لَمَا أمكنكم الاستظلال من حرارتها، فتَدَبَّرُوا تدفئتها لكم وتَظَلّلكم بظلال الأشياء واشكروه واعبدوه وحده.. ".. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا.." أيْ وكذلك خَلَقَ لكم في الجبال أكنانا جَمْع كِن وهو المكان الذي يُكَنّ أيْ يُسْكَن ويُسْتَر فيه والمقصود أماكن بالجبال كالمَغارات والتجاويف والتي قد يحتاج بعضكم لِلّجُوء إليها عند الحاجة للسَّكَن وللوقاية من الحَرِّ والبرد والمطر والعدو ونحو هذا.. ".. وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ.." أيْ وكذلك خَلَقَ أيْ أوْجَدَ لكم سرابيل جَمْع سرْبال وهو كل ما يُلْبَس بكل أنواعه وخاماته أيْ ملابس من قطنٍ وصوفٍ ونحوهما تمنعكم وتحفظكم من الحرّ والبرد والمطر والتراب ونحوه وكذلك ملابس من حديدٍ وغيره كالدروع ونحوها تمنعكم وتحفظكم في بأسكم أيْ حُروبكم من الطعْن والإصابة والأذَيَ.. ".. كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)" أيْ هكذا دائما يُكْمِل نِعَمه عليكم التي لا يُمكنكم حَصْرها، وأهمها وأعظمها إرشادكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بأخلاق الإسلام التي تُصْلِحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم لو عملتم بها كلها، لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعضها تُسْلِمون، أيْ لكي تُسْلِموا، أيْ تَسْتَسْلِموا لوَصَايَاه وتشريعاته، أيْ تَتَمَسَّكوا وتعملوا بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم وتَثْبُتوا دائما عليها حتي مَمَاتكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مسلمين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب اتّباع الإسلام وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم علي شكرها وعلي اتّباعه لأنَّ أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ يراها ويستشعر أنها من ربه الخالق الرازق الكريم الرحيم لم يَسَعْه إلا الدخول فى دينه الإسلام حيث من المَنْطِقِيّ والبَديهيّ أن يزداد بذلك حباً له وقُرْبَاً منه واستسلاماً لنصائحه ووَصَاياه ليحافظ له علي هذه النِّعَم ويزيده منها ويُبارِك له فيها فيسعد بها تمام السعادة.. فكونوا كذلك كلكم مسلمين عابدين لله تعالي وحده شاكرين له أيها الناس لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)" أيْ فإن استجاب الناس وأسلموا فلهم كل الخير والسعادة في الدارين، وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم (ص) والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه، فاعلم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أنما عليك البلاغ أيْ ليس عليك ولا علي المسلمين إجبار غير المسلمين علي الهداية لله وللإسلام أو المسلمين الذين لا يعملون بكل أخلاق الإسلام علي العمل بها ولا يجب عليك أن تجعلهم مَهْدِيِّين لذلك عامِلين به فهذا ليس باستطاعتك، وإنما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ المسلمون هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُوِيهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ مَا (برجاء مراجعة الآية (256) من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين)، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الله هو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)" أيْ يعرف المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن نِعَم الله تعالي علي خَلْقه نِعْمَة بنِعْمَةٍ وما تحتويه كل نِعْمَةٍ واحدةٍ مِن نِعَمٍ مُتَعَدِّدَة حيث يعلمون ويتأكّدون تماما بفطرتهم داخل عقولهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أنَّ الذي خَلَقَ كل هذه النّعَم وأعطاها ويَسَّرَ أسبابها، وأهمها وأعظمها نِعْمَة إرشادهم من خلال رسله لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بأخلاق الإسلام التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها، هو وحده الله تعالي وأنَّ أحداً من البَشَرَ ولا قطعاً مِمَّا يُشركون معه سبحانه في العبادة من مَعْبُودات كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب وغيرها استطاعَ أو حتي حاوَلَ أنْ يَدَّعِيَ هذا، ثم بعد كل تلك المَعْرِفَة المُؤَكَّدَة ينكرونها أيْ لا يعترفون بهذه النِّعَم أنها منه وحده تعالي ويَتَمَثّل إنكارهم في أنهم يعبدون غيره ولا يشكروه عليها بل ويَنْسِبوها لغيره ولا يَتّبِعوا دينه الإسلام بل يُخالِفوا أخلاقه فيفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)" أيْ وأكثر أمثال هؤلاء كافرون أيْ يُخْفون الحقّ بداخلهم ولا يعترفون به مُتَعَمِّدين مُصِرِّين مع علمهم تمام العلم وتَيَقّنهم تمام التّيَقّن أنه هو الحقّ، لأنَّ الكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها، وذلك أصل التعاسة والكآبة، لأنه مَن لم يُحسن استخدام عقله وعَانَدَ فطرته التي بداخله والتي هي مسلمة أصلا والتي جعلها خالقه سبحانه دوْمَاً تدعوه لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ ليسعد بذلك في الداريْن وأخْفَيَ أكبر وأوضح الحقائق وهي وجود الله تعالي الخالق ونِعَمه وصلاحية شرعه ونظامه الإسلام لإسعاد البشرية كلها في كل زمان ومكان، عاشَ حتماً ولا شكّ تعيساً كئيباً مُضطرباً مُعَذّبَاً في حياته لأنه حَرَمَ نفسه من عوْن ربه وحبه وتوفيقه ونصره وإسعاده ثم له عذاب جهنم في آخرته إنْ لم يَتُب.. وما كل ذلك لأنهم قد عَطَّلوا هذه عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أَكْثَرُهُمْ" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، حيث ستَجِد فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، اذكر لهم يوم القيامة يوم نُخْرِج من كل أمةٍ شهيداً أيْ شاهِدَاً أميناً عادلاً ثقة هو رسولها الذي أرسلناه إليها ليُعَلّمها الإسلام ليَشهد عليها أنه قد بَلّغها إيّاه وبَيّنه لها كاملا وليَشهد بما شاهده وحَضَره من أعمال أفرادها من إيمانٍ أو كفرٍ وخيرٍ أو شرٍّ، وذلك لكي يَتِمّ الحساب بحسب الأدِلّة والشهود ويكون الجزاء بناءً علي الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات فيكون بكل دِقّة وعَدْلٍ وبشهادة أفضل وأعظم الشهود الثقات الأمناء العادلين وهم الرسل الكرام والمسلمون الصالحون الذين آمنوا بهم وبتصديق شهاداتهم من الرسول الكريم محمد (ص) الذي هو خاتمهم وكتكريمٍ وتشريفٍ له، فيكون حساباً بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ ولا يكون حينها لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ في سوئه أو أيّ قُدْرةٍ علي إنكار ما فَعَله، فكيف يكون حال المُسِيئين وقتها؟! لا شكّ أنَّ حالهم ومصيرهم سيكون أسوأ وأتْعَسَ حالٍ ومصيرٍ بسبب سوئهم.. وما دام الأمر كذلك فليُحْسِن العاقِل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.." أيْ ثم بعد شهادة الشهود حينها لا يكون إذْنٌ في الكلام للذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم لكي يَعتذروا عن سُوئهم في دنياهم، ولا حتماً إذْنٌ لهم في العودة للدنيا لإصلاح حالهم، لأنهم ليس لهم أيّ عُذْر بعد إرسال الرسل والكتب والإسلام واختيارهم التكذيب والسوء بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلن يُقْبَل منهم أيّ اعتذارٍ حيث قد انتهي وقت الدنيا والذي فيه التوبة والرجوع لله والاعتذار والتصويب والوقت الآن هو وقت الحساب والجزاء لا وقت العمل والأداء.. إنهم لا يُؤْذَن لهم قطعاً لأنَّ الله تعالي عالمٌ تمام العلم بما قالوا وفعلوا من سُوء، وقد شَهِدَ رسولهم عليهم بكل صدق، وتشهد أيضا عليهم بالصدق ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فلا مَجَالَ إذَن لأيِّ كلامٍ لهم لأنه سيكون كلاماً فارغاً لا قيمة له كاذباً.. ".. وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)" أيْ هذا مزيدٌ من التّيْئِيس لهم في نَيْل أيّ شيءٍ من رحمات الله تعالي.. أيْ ولا يمكن كذلك أن يُسْتَعْتَبُوا أيْ لا يُجاب لطَلَبِهم لو طَلَبوا إزالة العِتاب من الله لهم، والاسْتِعْتَاب هو طلب العُتْبَيَ وهي طَلَب الرضا بعد الغضب أيْ طلب أن يَرْضَيَ عنهم الله بعد غضبه عليهم، فلا يُجَابُون بالقطع لأنه قد فات وقت ذلك
ومعني "وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التّيْئِيس لهم في نَيْل أيّ شيءٍ من رحمات الله تعالي ونَفْىٌ لتخفيف أو تأخير أيّ عذابٍ عنهم بما يُفيد شدّة غضبه سبحانه عليهم.. أيْ وإذا شاهَدَ الذين ظلموا – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – العذاب في النار يوم القيامة بالدخول فيها، فحينها لا يُخَفّف عنهم هذا العذاب ولو لِلَحْظَةٍ ولا يُغَيَّر ولا يُنْقَص بل يكون في دوامٍ وتزايُدٍ وتَنَوّع في درجاته علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ سيئة في دنياهم، ولا هم يُنْظَرون أي وهم أيضا لا يُمْهَلون أيْ لا يُتْرَكون لأيِّ لَحْظَة بل يُؤْخَذون مُهانِين مُنْقَادِين سريعاً له حيث قد جاء وقت عذابهم.. إنه حين يَرَيَ كلُّ مَن ظلم بصورةٍ ما من صور الظلم درجة عذابه الذي سيَناله في الآخرة، لن تنفعه وقتها أيّ مُطَالباتٍ بالتخفيف أو الإمهال أي الترْك والإعادة للدنيا لفترةٍ لتصحيح أمره بتوبته مِمَّا فَعَل، فليُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. هذا، وإذا أراد الله تعالي في الدنيا إنزال عذابٍ مَا لعقابِ ظالمٍ مَا فإنه كذلك لا يُخَفّف عنه ولا يُنْظَر حين يأتي وقته، فلْيَنْتَبِه ولْيَحْذَر الظالمون
ومعني "وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)" أيْ وإذا شاهَدَ يوم القيامة الذين أشركوا في العبادة أيْ الطاعة مع الله تعالي آلهة أخري عبدوها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، شاهَدُوا شركاءهم أيْ آلهتهم أيْ مَعْبُوداتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، قالوا حينها مُتَحَسِّرين نادِمين في وقتٍ لا ينفع فيه الندَم يا ربنا هذه معبوداتنا التي كنا نعبدها غيرك، مُعْتَرِفين بذلك بخطئهم مُتَوَهِّمين أنهم بهذا قد يُعْفَيَ عنهم أو يَتِمّ توزيع العذاب بينهم بتخفيفه عليهم وتعذيبها بأكثره لأنها هي التي كانت السبب!!.. ".. فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)" أيْ فقالت لهم – يَتَكَلّم آلهتهم إنْ كانوا بَشَرَاً عُبِدُوا ويُنْطِق الخالق بقُدْرته ما كان صَنَمَاً أو غيره – مُكَذّبَة لهم مُتَبَرِّئة منهم ذَامَّة لهم، والفاء تُفيد الردّ عليهم سريعاً بلا إبطاء، إنكم حتماً كاذبون، واللام للتأكيد، لأنكم ما كنتم أبداً تعبدوننا أيْ تطيعوننا لأننا ما أمرناكم بعبادتنا وما كنا نسمعكم ولا نبصركم بل نحن نَتَبَرَّأ منكم ومن أعمالكم وأقوالكم بل ونَذمّكم عليها أيْ لا علاقة لنا بها ولا نتحمَّل نتائجها بل كلٌّ يتحمَّل نتيجة عمله، فأنتم ما كنتم إيّانا تعبدون ولكنكم أطعتم واتَّبعم كل شرّ مُفسِد مُضِرّ مُتْعِس بإرادتكم ولم نطلب منكم أبداً أن نكون آلهة لكم لتعبدونا أي لتُطيعونا أو كان لنا سلطان أو نفوذ عليكم لإجباركم علي ذلك بل ولم يكن لكم أنتم أيّ دليل علي أحَقِيَّتنا بالعبادة.. وفي هذا التّبَرُّؤ مزيدٌ من الحَسْرَة والنَّدامَة الشديدة والإخافة لهؤلاء العابدين لغير الله تعالي في وقتٍ لن ينفعهم أيّ نَدَمٍ حتماً بأيِّ شيءٍ حيث الوقت هو وقت الحساب والعقاب لا وقت العمل والتصويب.. هذا، وقد عُبِّر عن الآلهة بصيغة العاقل فقيل "فألقوا" بدلا من فألقت كأنها مِن الآدَمِيِّين لأنَّ الذين يعبدونها يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!
ومعني "وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)" أيْ واسْتَسْلَمَ حينئذٍ هؤلاء الذين أشركوا واسْتَكانوا وانْقادوا تماماً إلي حُكْم الله العادل فيهم بعذابهم الذي يَسْتَحِقّونه، وذلك بعدما صَدَمَتْهم آلهتهم صَدْمَة هائلة بتكذيبهم وبعدم نفعها لهم بأيِّ شيءٍ، وتَحَوَّلوا من ظالمين مُسْتَكْبِرين في الدنيا إلي مُسْتَسْلِمين مُسْتَكِينين في الآخرة.. ".. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)" أيْ وحينها يوم القيامة يَضيع ويَغيب ويَختفي عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يعبدون غير الله تعالي ما كانوا يعبدونه في دنياهم من أصنامٍ وغيرها، ولن تنفعهم قطعا بأيِّ شيءٍ ولن تنقذهم ممّا هم فيه، وحينها أيضا يَضيع ويَغيب ويَختفي عنهم كلّ أدِلّةٍ علي ما كانوا يدَّعونه كذباً وزُورَاً في دنياهم من وجود آلهةٍ غير الله تنفعهم أو تمنع الضرَرَ عنهم أو وجود نظام مُخالِف لنظام الإسلام أسعدَ للبشرية منه أو ما شابه هذا من أكاذيب وتخاريف وافتراءات مُخْتَلَقَة أي لا أصل لها وحينها بالتأكيد يعلمون تمام العلم ويتأكّدون تماما أنَّ الله تعالي حتما هو الذي معه الحقّ كاملا خالصا بلا أيّ شكّ وأنه لا إله إلا هو وأنَّ قوله وما جاءهم به رسله من الإسلام كان هو الصدق كله وأنهم كانوا كاذبين مُفْتَرِين الكذب والافتراء كله، فقد ظَهَرَ كلّ حقّ وعدلٍ وانتصرَ ونَالَ صاحبه أعظم الأجر، وذُلَّ فاعلُ كلِّ باطلٍ وظُلْمٍ وانهزمَ وعُوقِبَ أشدّ العقاب بما يستحقّ بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)" أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، ولم يَكْتَفُوا بذلك في ذواتهم بل أيضا صَدّوا عن سبيل الله أيْ مَنَعوا غيرهم عن طريق الله أيْ منعوهم عن الدخول في دين الله الإسلام وآذوهم وحاولوا رَدّهم عنه بعد دخولهم فيه، منعوهم عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، منعوهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا، أمثال هؤلاء زدناهم عذاباً فوق العذاب الذي يَسْتَحِقّونه علي كفرهم وسُوئهم عذاباً آخر بسبب ما كانوا يُفسدونه في الأرض مُتَعَمِّدِين مُصِرِّين بلا أيِّ تَوْبَةٍ حيث يَصدُّون الناس عن سبيل الله، فهم سيَتَحَمَّلون ذنوبهم الخاصَّة بهم ويَتحمَّلون فوقها بعضاً من ذنوب الذين يُضِلُّونهم لأنهم كانوا سَبَبَاً فى ضلالهم وهم أضلّوا مَن بَعْدِهم وهكذا، ولكلٍّ ذنوبه قطعاً علي قَدْر ما فَعَل، بما يدلّ علي أنَّ العذاب يكون بكلِّ عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلم حيث هو درجات للمُسِيئين علي حسب سُوئهم كما أنَّ النعيم درجات للمُحْسِنين علي قَدْر إحسانهم.. إنهم سيُعَذّبون علي قَدْر سُوئهم بعذابٍ بعضه في دنياهم وتمامه في أخراهم، والعذاب يكون بما يُناسب في الداريْن بدرجةٍ ما من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)" أيْ هذا – إضافة لما جاء في الآية (84) سابقا – مزيدٌ من التأكيد علي حُسْن الاستعداد ليوم القيامة بالعمل بكل أخلاق الإسلام التي في القرآن الكريم.. أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، اذكر لهم يوم القيامة يوم نُخْرِج في كل أمةٍ شهيداً عليهم أيْ شاهِدَاً أميناً عادلاً ثقة هو رسولها الذي أرسلناه إليها ليُعَلّمها الإسلام ليَشهد عليها أنه قد بَلّغها إيّاه وبَيّنه لها كاملا وليَشهد بما شاهده وحَضَره من أعمال أفرادها من إيمانٍ أو كفرٍ وخيرٍ أو شرٍّ في دنياهم، وهذا الشهيد يكون من أنفسهم، أيْ منهم، ليس غريباً عنهم، كان فيهم، يعيش بينهم في بيئتهم، يعرفون نشأته وصلاحه وأخلاقه وصِدْقه، ولذا حينما يَشهد تُقْبَل شهادته ولا تُرَدّ ولا عُذْر لأحدٍ بعدها وينتهي الأمر ويَسْتَسْلِم الجميع.. ".. وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ.." أيْ وجئنا بك أيها الرسول الكريم محمد شهيداً على هؤلاء الذين بعثك إليهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور بالإسلام فمنهم مَن آمن بك ومنهم مَن كذّبوك وشهيداً أيضا علي هؤلاء الرسل السابقين لك لتَشهد بالحقّ لهم أنهم قد بَلّغوا الإسلام بكل صدقٍ وأمانةٍ وتَمَامٍ ولم يُقَصِّروا فى نصيحة أقوامهم لعِلْمك بذلك من خلال ما أخبرناك به في القرآن العظيم، وذلك لكي يَتِمّ الحساب بحسب الأدِلّة والشهود ويكون الجزاء بناءً علي الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات فيكون بكل دِقّة وعَدْلٍ وبشهادة أفضل وأعظم الشهود الثقات الأمناء العادلين وهم الرسل الكرام والمسلمون الصالحون الذين آمنوا بهم وبتصديق شهاداتهم من الرسول الكريم محمد (ص) الذي هو خاتمهم وكتكريمٍ وتشريفٍ له، فيكون حساباً بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ ولا يكون حينها لأيِّ أحدٍ أيّ عُذْرٍ في سُوئه أو أيّ قُدْرةٍ علي إنكار ما فَعَله، فكيف يكون حالهم وقتها؟! لا شكّ أنَّ حالهم ومصيرهم سيكون أسوأ وأتْعَسَ حالٍ ومصيرٍ بسبب سوئهم.. وما دام الأمر كذلك فليُحْسِن العاقِل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (143) من سورة البقرة "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.."، والآية (41) من سورة النساء "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)" أيْ ونَزّلنا عليك وأوْحينا إليك يا رسولنا الكريم القرآن العظيم ليكون توضيحاً شامِلَاً لكلِّ شيءٍ مِن خُلُقٍ وتشريعٍ ونظامٍ وتوجيهٍ وتحذيرٍ يُصْلِح الناس ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء.. إنَّ القرآن الكريم سعادة، وإنَّ الإسلام سعادة، كما يقول تعالي ".. فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا.." (يونس:58)، لأنه يُنَظّم كل شئون الحياة صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، ولهذا، فالقرآن، والإسلام، بكل أخلاقه وأنظمته الكاملة الشاملة للحياة كلها، ليس أبداً تَقْيِيداً لها، وإنما هو لتيسيرها وإسعادها، ولهذا فهو يَصْلُح لكل زمانٍ ومكانٍ ولكل الناس علي اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم، بكل مُتَغَيِّراتهم، إلي يوم القيامة، فهو يضع القواعد والأصول المُسْعِدَة ويترك للمُتَخَصِّصين في كل عصرٍ ومكانٍ وَضْع تفاصيل حياتهم بما يناسبهم ويسعدهم وبما لا يخرج عن هذه الأصول كما نَبَّهنا لذلك الرسول (ص) بقوله " أنتم أعلم بأمور دنياكم" (رواه مسلم).. ".. وَهُدَىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)" أيْ وليكون كذلك هديً ورحمة أيْ هادٍ أي مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه، وليكون أيضا تبشيراً للناس جميعاً إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، ولكنَّ الذين ينتفعون به هم المسلمون فقط والمسلمون هم المُسْتَسْلِمون لوَصَايَا الله تعالي وتشريعاته أيْ المُتمسّكون العامِلون بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك، لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فهم حتماً سيَجِدُون فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة سَيَجِدُون السعادة كلها في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما عادلا في كل أقوالك وأفعالك، أيْ أنْ تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه، وذلك مع الجميع، سواء أكان قويا أم ضعيفا، رئيسا أم مَرْؤوسا، رجلا أم امرأة، شيخا أم طفلا، مسلما أم غير مسلم، حتي الحيوان والجماد! لأنه بالعدل تُحْفَظ الحقوق ويَنتشر الأمن والاطمئنان علي الأموال والأملاك والأعراض والمُسْتَحَقّات فيسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما.. وإذا كنتَ مُحْسِناً أيْ تُحْسِن كلّ قولٍ تقوله وكلّ عملٍ تعمله (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)" أيْ إنَّ الله يُوجِب ويُؤَكّد علي الناس جميعا ويُوصِي بشدّة وعليهم ألاّ يُخالِفوا حتي لا يُعَاقَبوا ويَتعسوا في الداريْن بل يسعدوا فيهما، يأمر بالعدل أيْ اتّقاء أن يَضُرَّ أحدٌ أحداً أو يَظلمه وإعطاء كلّ صاحب حقّ حقّه، ويأمر كذلك بالإحسان أيْ الإتقان والإجادة لكل الأقوال والأفعال بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام مع فِعْل كلَّ خيرٍ وتَرْك كلَّ شَرٍّ وذلك في كلّ التّصرّفات بكل شئون الحياة المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، ويأمر أيضا بإيتاء ذي القربي أيْ إعطاء صاحب القرابة بكل درجاتها كل ما يحصل به صِلَته وبِرّه وقضاء احتياجه قَدْر الاستطاعة، وتَمَّ تخصيص هذا الأمر بالذكر رغم أنه داخل في عموم العدل والإحسان لتأكيد أهميته وإعلاء قيمته.. هذا، وإعطاء الحقوق يشمل كل أنواعها المادِّيَّة والمَعْنَوِيَّة والإنسانية ونحوها شاملة كل أنواع البِرّ والرعاية والسؤال والعوْن والإنفاق من الأموال والجهود والأفكار والأوقات وغيرها، قَدْر الاستطاعة دون مَشَقّة، وعلي قَدْر الاحتياح، بتَوَسُّطٍ واعتدال، والأمر يختلف تقديره من شخصٍ لآخر ومن موقفٍ لآخر، والمسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه يُحْسِن التقدير دائما.. هذا، ومن العدل والإحسان وحُسْن الإنفاق، أن يَعْدِل المسلم ويُحْسِن ويُنْفِق لنفسه أولا ثم لمَن هم هو مسئول عنهم بتوسط واعتدال بلا إفراطٍ ولا تفريط (برجاء مراجعة حسن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، وأن يَعْدِل ويُحْسِن ويُنْفِق لله ولرسوله (ص) وللإسلام وذلك بالتمسّك بهم وبكل ما ينصحونه به من أخلاقٍ حَسَنَةٍ مُسْعِدَة.. ".. وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)" أيْ ويَمْنَع عن الفحشاء وهي الشرّ الفاحِش أي المُضِرّ ضَرَرَاً شديداً بالذات وبالغَيْر، الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره، مِن كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، ويمنع كذلك عن المُنْكَر وهو كل ما يُنْكِره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد كَبُرَ أم صَغُر مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن وبالجملة هو كل ما يُخالف أخلاق الإسلام عموماً أيَّاً كان نوعه وحجمه ومِقْداره وأثره، فهو أعَمّ من الفحشاء، ويمنع أيضا عن البَغْي وهو كلُّ عدوانٍ علي الخَلْق في دمائهم وأعراضهم وأموالهم وظلمهم وإيذائهم والتّكَبُّر عليهم وما شابه ذلك، وهو داخل تحت عموم المنكر لكنه تعالى خَصَّه بالذكر اهتماما به لشِدَّة أضراره وتعاساته لكي يُهْتَمَّ بتَجَنُّبه تماما.. ".. يَعِظُكُمْ.." أيْ والله بهذا الأمر والنهي يَنْصَحكم ويُذَكّركم بمَوَاعظ وأقوالٍ وأفعالٍ بليغةٍ مُؤَثّرة وبتَذْكِرَات وواجبات وتشريعات وأوامر ونَوَاهِي ووَصَايا ونصائح في إسلامكم، ما أحْسَنها وأطْيَبها وأجملها وأفضلها وأعظمها وأنفعها، لأنَّ فيها كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، لأنها من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته.. ".. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)" أيْ لعلكم تتذكّرون هذا، أيْ لكي تتذكّروه، لكي تتذكّروا ولا تنسوا ما هو موجود في فطرتكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّروا ربكم وإسلامكم، وتعقلوا كل هذا بعقولكم وتتدَبَّروه وتدرسوه، وتذاكروه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليكم فقط إلا أن تتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولكم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما
هذا، ومعني "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)" أيْ وأيضا كونوا دائماً مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، أيْ نَفّذوها وافِيَة أيْ تامَّة بلا أيِّ نَقْصٍ ولا تُخْلِفوها، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، واستمرّوا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يَفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. هذا، وقد تَمَّ تخصيص الوفاء بالعهد بالذكر رغم أنه داخِلٌ في عموم العدل والإحسان الذي أمر الله به في الآية السابقة لتأكيد أهميته وإعلاء قيمته.. ".. وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره من الوفاء بعهد الله دائماً وتحذيرٌ من الخيانة والغَدْر.. أيْ ولا تُخْلِفوا أبداً الأيْمان جَمْع يَمِين وهو القَسَم بالله علي الوفاء بأمورٍ وعهودٍ ونحوها وتنفيذها كاملة، وذلك بعد أن قمتم بتأكيدها أيْ هذه الأيْمان بمعني أنها ليست لَغْوَاً غير مَقْصُودَةٍ منكم بل تَقْصِدونها، والحال والواقع أنكم قد جعلتم الله عليكم كفيلاً أي ضامِنَاً وراعِيَاً لكم فيما التزمتم به من عهودٍ وشاهِداً ومُرَاقباً علي أقوالكم وأفعالكم فهو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليها حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ بها خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم بها بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما، وفي هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره مِن حَتْمِيَّة الوفاء بالعهود والحُرْمَة الشديدة لعدم الوفاء بها والتحذير الشديد من ذلك بعد أن جعل المُتَعاقِدون الله تعالي كفيلاً عليهم.. ".. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)" أيْ إنَّ الله بكل تأكيد يعلم دائماً تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ما تفعلونه وتقولونه كله من كل فِعْلٍ وقولٍ ومنه الوفاء بعهد الله أو النقْض له سواء في سِرِّكم أو عَلَنِكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم عليه بما يُناسِب وتَسْتَحِقّونه من خيرٍ أو شَرٍّ في دنياكم ثم أخراكم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا طمْأَنَة للمُوفِين بعهودهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للناقِضين لها لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. إنه مثلٌ لتقبيح نَقْض أيِّ عهدٍ بلا عُذْرٍ مَقْبُول.. أيْ ولا تكونوا أبداً أيها المسلمون ناقِضين لعهودكم فتَتَشَبَّهوا بأسوأ الأمثال وأقبحها وأدَلّها علي سَفَهِ فاعلها حيث تكونوا كالمرأة المَخْبُولَة السفيهة التي حَلّتْ غزلها الذي كانت تغزله مِن بعد قوة أيْ بعد إحكامٍ له بحيث أصبح جاهزا للانتفاع به من غير سببٍ مَنْطِقِيٍّ مَعْقُولٍ لهذا النقْض فإنه لو كان الغزل غير مُحْكَمٍ لكان عذرٌ لنقضه، فجعلته أنكاثاً أيْ أنْقاضَاً أيْ أشياءً مَحْلُولَة مُفَكّكَة مُفَتّتَة غير مَغْزُولَة، جنوناً منها وحُمْقَاً – كذلك من المعاني ولا تكونوا أنتم أنكاثاً أيْ ناكِثين أيْ ناقِضِين للعهود – فضَيَّعَت بذلك جهودها وأموالها هي ومَن حولها بلا أيِّ استفادةٍ بل وفُقِدَت الثقة في إنتاجها بل وفي إداراكها وعقلها وعموم تَصَرُّفاتها وما شابه هذا من مساويء والتي سيَتْعَس الجميع بها في الداريْن، وهذا هو ما يحدث عند إخلاف العهود سواء بين الأفراد أو المجموعات أو الدول، فالذي يَتّصِفُ بصِفَة نَقْض العهود إنما يَتَشَبَّه بالذين هم مِن أسْفَهِ الخَلْق وأشدّهم خَبَلَاً وضعفاً في عقولهم!!.. ".. تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ.." أيْ هذا مَنْعٌ تامٌّ للأسباب التى قد يَتّخِذها بعض الناس كمُبَرِّرَاتٍ فاسدةٍ واهِيَةٍ لنَقْض العهود.. أيْ ولا تكونوا أبداً كالتي نَقَضَت غَزْلها ناكِثين للعهود حيث تَتّخِذون أيْ تجعلون أيْمانكم التي تحلفونها أثناء عهودكم دَخَلَاً أيْ خِدَاعَاً بينكم، أيْ تَتّخِذون هذه الأيْمان وسيلة للخِداع والغَدْر والخيانة للذين تعقدون معهم العقود إذ تَخْدَعُونهم بأنْ تُقْسِموا علي ما تعاهدونهم عليه فيُصَدِّقوكم ويأمنوا لكم وأنتم في ذات الوقت لا مانع عندكم أنْ تَنْقضوا أيْمانكم وعهودكم لهم لأيِّ أمرٍ يَحْدُث وتَتّخِذون هذه الأيْمان بالله الغادِرَة وَسِيلَة لذلك، وتفعلون هذا النقْض بسبب أن تكون أمّة هي أَرْبَيَ مِن أمّة أيْ مجموعة هي أَزْيَد عدداً ومالاً وقوةً من مجموعةٍ أخري والمقصود لا تَنْقضوا العهود أبداً مع أمةٍ ودولةٍ مَا – وأيّ أحدٍ مَا – وتعاهدون أخري لأنها أقوي أو تنقضون عهدهم لأنكم أصبحتم أنتم أقوي منهم فتَغْدِرون بهم لنَهْب خيراتهم وما شابه هذا من أشكال النقْض وقد خَدَعْتُمُوهم بالأيْمان وإنما عليكم الوفاء بالعهود مع الضعيف إضافة لمعاهدة القويّ إذا أردتم وكان مصلحة لكم وأوْفُوا للجميع ضعيفٍ وقويٍّ لمدّة عهده في كل زمانٍ ومكانٍ وعلي أيِّ حالٍ لأنَّ الخديعة والخيانة ونحوها من أجل تحصيل أثْمان الدنيا الرخيصة كأموالٍ وثروات وغيرها هي من أخَسّ وأحَطّ الأخلاق والتي تُفَتّت البشريّة وتضعفها حيث تُوُقِع الشكوك والضغائن والصراعات بينها فيَتعس بذلك الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ.." أيْ ليس هذا إلاّ يَختبركم الله به، أيْ إنما يَخْتَبِركم الله بما أمركم به من الوفاء بالعهود وما نهاكم عنه مِن نَقْضها وبكوْن أمَّة هي أَرْبَىَ مِن أمَّة – كما يختبركم في بَقِيَّة أحداث ومواقف الحياة – لِيَنْظَر هل تُوُفون بعهودكم وتعملون بأخلاق إسلامكم في كل شئونكم أم لا، لِيَظْهَر لكم المُطِيع مِن العاصي (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (155) من سورة البقرة "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)" أيْ وسَيُوَضِّح الله تعالي لكم أيها الناس حتماً بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شَكّ – واللام والنون لتأكيد الحُدُوث – يوم القيامة وليس أيّ أحدٍ آخر بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّة ما كنتم فيه تختلفون من كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفتم فيها أثناء حياتكم فيُبَيِّنَ لكم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. وفي هذا تَبْشِيرٌ للمُحْسِنين وتَرْهِيبٌ للمُسِيئين ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام، فيَشاء الله لهم ذلك ويأذن، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)" أيْ أنَّ الله تعالي قادرٌ علي كلّ شيءٍ عالمٌ به تمام العلم ولا يَحْدُث أيّ شيءٍ في كوْنه ومُلْكه إلا إذا شاءه أي أراده، فهو سبحانه الذي أراد أن تختار كلُّ نفسٍ إنسانية طريقها في الحياة بكامل حرية إرادة اختيار عقلها ثم تُحاسَب حسابا ختاميا في الآخرة علي ما اختارته إمّا طريق الخير وإمّا طريق الشرّ، ولو شاءَ أن يَجعل الجميع مُهتدين علي طريق الخير لَفَعَلَ بكلّ تأكيد! فهو قطعاً أمرٌ سهل مَيْسُور عليه! ولكنَّ هذا سيكون مُخالِفاً لنظام الحياة الدنيا والحياة الآخرة الذي أراده لإسعاد خَلْقه بأنْ يكون الناس مُختَارين هكذا لا مُجْبَرين، وبالتالي فمَن يشاء أيْ يُريد منهم الهداية لله وللإسلام يشاء الله له ذلك حتما بأنْ يُيَسِّره ويُوَفّقه له فيَدخل بذلك في تمام رحمته في دنياه حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخراه حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي قلب بَشَر، علي حسب درجات أعماله في دنياه، بينما مَن لم يشأها، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره.. وهؤلاء هم الظالمون، أيْ كلّ مَن ظلم نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهؤلاء قطعا ليس لهم وَلِيّ ولا نصير، في أخراهم، أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافع عنهم ويَمنع دخولهم جهنم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم منها أو يُخَفّف عنهم شيئا من عذابها، إضافة بالقطع إلي درجةٍ ما مِن درجات العذاب في دنياهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة لهم صورةٍ ما مِن صور الألم والكآبة والتعاسة بسبب بعدهم عن ربهم وإسلامهم ولا ينقذهم من ذلك أيّ وَلِيّ أو نصير، غير الله، إذا عادوا إليه ودَخَلوا في رحمته بالإيمان به واتِّباع إسلامه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية ( 99 ) من سورة يونس " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)" ، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118 )"، ثم الآية (256) من سورة البقرة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ هذا هو نظام الحياة التي أرادها الله تعالي، وهذا هو العدل فيها، وهذا هو التنافس الشريف المُمْتِع المُسْعِد فيها كما يقول ".. وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" (المُطَفّفين:26) ثم علي أعلي درجات الآخرة، ولو كانت غير ذلك لَكَانت مَلَلاً! فلله الحمد حمداً كثيراً طيّباً مُبَارَكَاً فيه علي أن خَلَقَنا ووَهَبَنا نِعَمه العظيمة التي لا تُحْصَيَ.. ".. وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.." أيْ ولكنه لم يجعلكم أمة واحدة وجَعَلكم هكذا ليَختبركم فيما أعطاكم من الشرائع، لكي يَتَبَيَّن المُطيع المُهْتَدِي الذي يعمل بها كلها والعاصى الضالّ الذي يتركها بعضها أو كلها، فيُجازِي مَن أطاعه بما يستحقّه من الخير والسعادة في الداريْن ومَن عصاه بما يستحقه فيهما من الشرّ والتعاسة علي قَدْر عِصْيانه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (48) من سورة المائدة ".. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.."، والآية (2) من سورة تبارك "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فبالتالي وبعد بيان شرع الإسلام من الرسول لقومه فلا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لمَن يَشاء الضلالة ولم يَشأ الهداية لله وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقله وبالتالي فلم يَشَأ الله له الهداية وتَرَكَه فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّه لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكه سبحانه ولم يُعِنْه.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذن، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ عليكم أن تنتبهوا تماما أنه لم يجعلكم هكذا لمجرد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد ودون أيّ حِكْمَة وأنَّ الحياة الدنيا ستَنتهي هكذا بكلّ عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جَدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم أيها الناس حينما ترجعون إلينا في الحياة الآخرة بعد بَعْثكم أيْ إحيائكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم ، فلا يُمكن أن يَفعل ذلك الله سبحانه الذي تعالَيَ وارتفعَ عن كل صفةٍ لا تَلِيق حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وإنما خَلَقَ الموت والحياة بهذا النظام وأرسل لكم نظامه في الإسلام مع رسله ليُنَظّمها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ ليَبلوكم أيْ ليَختبركم، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، ( 15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة).. وإذا كان الأمر هكذا كما ذُكِرَ لكم، فبالتالي إذَن سارعوا إلي فِعْل الخيرات دائماً مُسَابِقِين بعضكم بعضا للخير بكلّ هِمَّةٍ أيها الناس جميعا بالإيمان بربكم وبالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم الذي يُؤدّي بكم إلي كل الخيرات والسعادات في الداريْن.. ".. وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)" أيْ وسَتُسْألون من الله ربكم يوم القيامة أيها الناس جميعا حتما بكل تأكيد بلا أي شك – واللام والنون لتأكيد الحدوث – مسلمون وغيرهم، مُهْتَدُون وضالّون، مُحْسِنون ومُسيئون، سيَسألكم وهو الخالِق لكم العالِم بكلّ أقوالكم وأفعالكم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يَظلم مُطلقا، سيَسألكم بكل تفصيلٍ وإحصاءٍ ودِقّةٍ عما كنتم تعلمونه في دنياكم من خيرٍ أو شرّ، فمَن عمل منكم خيراً فسيكون له كل خيرٍ وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ومَن عمل منكم شرّا فله ما يستحقّه من عقابٍ فيهما بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم.. فأحسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم.. إنَّ هذا السؤال هو نوعٌ من العذاب النفسيّ للمُسِيئين قبل العذاب الجسديّ بالنار حيث سيكون حسابهم دقيقاً وليس بتساهلٍ كالذي يكون مع المُحسنين، مع العدل التامّ بالقطع.. إنه تعالي سيَسألهم، وهو العالِم بتمام العلم بكل قولٍ وفِعْلٍ لهم وبما سيُجيبون به، ولكنَّ هدف السؤال أن يُقِرُّوا ويَعترفوا بما كان منهم وأنهم يَستحقّون بالفِعْل العذاب فلا ظلم لهم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين المُهْتَدِين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً لا يُضيع أجور إحسانهم، في دنياهم وأخراهم، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للضالّين المُسِيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ أميناً لا خائناً ولا مُخَادِعَاً ولا غادِرَاً ولا جاعِلاً للقَسَم بالله وسيلة للخِداع وللغدر، بل كنتَ مُوفِيَاً بكل عهودك ومواثيقك ومعاهداتك ووعودك ومواعيدك ونحو هذا، سواء أَقْسَمْتَ عليها أم لم تُقْسِم، فإنْ أقسمتَ كان حرصك علي تنفيذها والوفاء بها أشدّ وأعظم، إلا بعُذْرٍ قَهْرِيٍّ تستطيع أن تعتذر به أمام ربك يوم القيامة إذا لم تتمكن من الوفاء ببعضها.. فبانتشار الأمانة والوفاء ينتشر الأمن بين الناس علي أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة والخِداع والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والغشّ والكذب يفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما
هذا، ومعني "وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)" أيْ هذا تأكيدٌ علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية (92) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) والتي رَكّزَت علي المَنْع التامّ لنَقْض العهود بصِفَةٍ خاصَّةٍ رغم القَسَم بالله علي الوفاء بها بينما هذه الآية الكريمة تُرَكّز علي المَنْع التامّ لاستخدام الأيْمان وسيلة لخداع الناس بصفةٍ عامَّةٍ في أيِّ مُعامَلَةٍ وليس في العقود فقط مع توضيح الأضرار الشديدة لاستخدامها علي الأفراد والمجموعات والدول والجميع والتعاسات التي ستُصيبهم بدرجاتٍ مختلفةٍ في دنياهم وأخراهم علي حسب مِقْدار الضرَر الذي سَيَقَع.. أيْ ولا تجعلوا أبداً أيْمانكم التي تحلفونها أثناء كل معاملاتكم أيها المسلمون وأيها الناس عموماً دَخَلَاً أيْ خِدَاعَاً بينكم، أيْ لا تَتّخِذوا هذه الأيْمان وسيلة للخِداع والغَدْر والخيانة للذين تَتَعامَلُون معهم إذ تَخْدَعُونهم بأنْ تُقْسِموا علي ما تعاهدونهم عليه فيُصَدِّقوكم ويأمنوا لكم وأنتم في ذات الوقت لا مانع عندكم أنْ تَنْقضوا أيْمانكم وعهودكم لهم لأيِّ أمرٍ يَحْدُث حتي ولو ليس فيه أيّ عُذْرٍ مقبولٍ بل وتَنْوُوُن بداخل عقولكم الإخلاف وتَتّخِذون هذه الأيْمان بالله الغادِرَة وَسِيلَة لذلك، ولكنْ أوْفُوا للجميع بحقوقهم في كل زمانٍ ومكانٍ وعلي أيِّ حالٍ – حتي ولو بغير قَسَمٍ قطعاً فهذا مِن أُسُسِ أخلاق الإسلام فإنْ كان هناك قَسَمٌ فالحرص علي الوفاء يكون أشدّ والإخلاف يكون أكثر ضَرَرَاً في الداريْن – لأنَّ الخديعة والخيانة ونحوها من أجل تحصيل أثْمان الدنيا الرخيصة كأموالٍ وثروات وغيرها هي من أخَسّ وأحَطّ الأخلاق والتي تُفَتّت البشريّة وتضعفها حيث تُوُقِع الشكوك والضغائن والصراعات بينها فيَتعس بذلك الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.." أيْ فتكون بالتالي النتيجة الحَتْمِيَّة السيئة المُتَوَقّعَة المُنْتَظَرَة لذلك الاتّخاذ لأَيْمانكم دَخَلَاً بينكم، أنْ تَزِلَّ أيْ تَنْزَلِقَ وتَنْحَرِف أقدامكم عن طريق الإسلام بعد ثبوتها أيْ بعد أن كانت ثابتة مستمرّة عليه أي بعد أن كنتم متمسّكين عامِلين بأخلاقه، أيْ تَنْحَرِفوا عن طريق الله أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، إلي طريقٍ غيره، أيْ إلي طريق الظلم والشرّ والتعاسة فيهما.. هذا، والزلَل يعني التّزَحْلُق والانزلاق والانحدار والانحراف والابتعاد عن الخير والصواب للشرِّ والخطأ والسقوط والوقوع فيه.. ".. وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)" أيْ وبالتالي تستشعروا ألَمَ وتَتَذَوَّقوا عملياً مَرارَة وشِدَّة وفظاعة السوء وهو العذاب الدنيويّ ولكم عذاب عظيم وهو العذاب الأخرويّ يوم القيامة أي ولكم عذابٌ هائلٌ شديدٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بسبب ما قُمْتُم به أنكم صَدَدْتُم عن سبيل الله أيْ مَنَعْتُم أنفسكم بمُخالفتكم ومنعتم غيركم بخيانتكم لَمَّا رأوكم قُدْوَة سيئة للإسلام والمسلمين، عن طريق الله أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، واندفعتم ودَفَعْتُموهم بسوء تَصَرّفكم وغَدْركم وقُدْوَتكم السيئة إلي طريقٍ غيره أيْ إلي طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. إنكم ستُعَذّبون علي قَدْر سُوئكم بعذابٍ بعضه في دنياكم وتمامه في أخراكم، والعذاب يكون بما يُناسب في الداريْن بدرجةٍ ما من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وكل ذلك العذاب هو نتيجة حَتْمِيَّة لانتشار الخيانة والخِداع والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والغشّ والكذب وعدم الثقة حيث تفقدون أنتم وغيركم الأمان وينتشر بين الجميع الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فتَتَعَذّبون وتَتْعَسون حتماً في الداريْن.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)"، "مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مَنْع إخلاف العهود تماما أيَّاً كانت وفي أيِّ وقتٍ وحالٍ ومهما كان ثمن إخلافها.. أيْ ولا تَتْرُكوا وتَبيعوا أبداً عَهْد الله لتأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره تَستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه، فالذين يَفعلون ذلك هم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنهم يبيعون أعظم خيرٍ ويشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. والمقصود ببيع عهد الله أيْ عدم الوفاء وعدم الالتزام بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، والتي منها بالقطع ما يتمّ توثيقه بالأَيْمان، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بعدم الوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فمَن يَفعل ذلك فهو حتماً لا عَهْدَ ولا وَعْد ولا أمان ولا أمانة له.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. فعليكم الوفاء للجميع بحقوقهم في كل زمانٍ ومكانٍ وعلي أيِّ حالٍ – حتي ولو بغير قَسَمٍ قطعاً فهذا مِن أُسُسِ أخلاق الإسلام فإنْ كان هناك قَسَمٌ فالحرص علي الوفاء يكون أشدّ والإخلاف يكون أكثر ضَرَرَاً في الداريْن – لأنَّ الخديعة والخيانة ونحوها من أجل تحصيل أثْمان الدنيا الرخيصة كأموالٍ وثروات وغيرها هي مِن أخَسّ وأحَطّ الأخلاق والتي تُفَتّت البشريّة وتضعفها حيث تُوُقِع الشكوك والضغائن والصراعات بينها فيَتعس بذلك الجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ لأنَّ الذي عند الله مُجَهَّز مُعَدّ لكم من عظيم أجرٍ وعطاءٍ بسبب وفائكم بعهودكم وعدم إخلافكم إيَّاها، في الدنيا أولا حيث كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ، ثم في الآخرة حيث ما هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة في نَعيمِ جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، هو حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكٍّ ولا أيِّ مُقارَنَة خيرٌ لكم من أيَّ ثمنٍ قليلٍ قد يُغْريكم فتَنْقضون بسببه عهد الله والذي سيكون مصحوباً بدرجةٍ مَا من درجات عذاب الداريْن كما ذَكَرَت الآية السابقة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به.. وفي هذا حَثّ وتشجيعٌ علي التَّدَبُّر والعمل والعلم لنَيْل هذا الخير العظيم.. "مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)" أيْ وأيضا ما عند الله هو خيرٌ لكم حتماً لأنَّ الذي عندكم أيها الناس من متاع الدنيا ينتهي ويَفْنَيَ ويَزول حيث كل شيءٍ في الحياة له نهايته إمَّا ينتهي هو أو ينتهي مالكه بموته، كما يُثْبِت الواقع ذلك، وأمَّا مَا عند الله فهو باقٍ أيْ مستمرّ دائم لا يفني ولا يزول ولا ينتهي مطلقا لأنه هو وحده الرزاق الوهاب الكريم الذي لا ولن تنقطع أبداً أرزاقه وخيراته عن كل مخلوقاته في دنياهم، ثم في أخراهم لمَن أحسنَ منهم مِن البَشَر.. إنَّ متاع الحياة الدنيا الذي يَتَمَتَّع به الناس هو زائل حتما غير دائم مهما طال وكَثر حيث يزول بزوال المُتعة أو بزوالهم بموتهم أو بانتهاء الحياة ولذا فهو قليل جدا ولا يُقارَن مطلقا بمتاع الآخرة الذي هو أكثر وأعظم خيراً قطعاً الموجود في الجنات المُدَّخَر عند الله تعالي الدائم الخالد بلا نهاية المُتَنَوِّع المُتَزَايِد الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. فكيف إذن تُؤْثِرُون أيها الناس الحياة الدنيا أيْ تُقَدِّمونها وتُفَضِّلونها وتختارون مُتَعَها الزائلة فقط دون ارتباطٍ بالآخرة الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ فأنتم لا تريدونها ولا تعملون لها سواء أكنتم كفاراً أيْ غير مُصَدِّقين بها أصلا أم مسلمين لكنكم ناسِين لها بسبب ترْككم لأخلاق إسلامكم بعضها أو كلها ولم تُحسنوا طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد ربكم الكريم الرحيم والإسلام منكم (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب الداريْن) بل قد استمتعتم بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً واخترتم معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها وفَضَّلتموها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبكم للآخرة لأنكم قد نَسيتموها مُطْلَقَاً أو لا تُصَدِّقون بها مِن الأصل.. وفي هذا تذكيرٌ بحُسْن طَلَب الدنيا والآخرة معاً إذ ليس بعاقلٍ حتماً مَن يُفَضِّل الزائل الخَسِيس على الباقي النفِيس.. ".. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)" أيْ وسنُعْطِي في الدنيا والآخرة حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام والنون لتأكيد الحُدُوث – الذين صبروا أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، أجرهم أيْ جزاءهم وعطاءهم وثوابهم ومكافأتهم، بأحسن أيْ بجزاءٍ أحسن وأعظم وأكرم وأفضل كثيراً وكثيراً مِن عملهم الذي كانوا يعملونه في دنياهم، فهو سبحانه بكرمه ورحمته ووُدِّه يُضاعِف جزاءَ الأعمال الحَسَنَة أضعافاً مُضَاعَفة، بل ويمحو تماما ما بينها من سيئات ويعفو عنها، بل ويَتخَيَّر أحسنها وأفضلها وأعظمها في الأجر ويرفع لدرجة ثوابها الأعمال الأخري الأقل حُسنا فيُثيب فاعلها عليها كأنها هي أيضا كانت أحسن وأفضل وأعظم! وما شابه هذا من صور كرمه وسخائه وعطائه الدائم الذي لا ينقطع، سبحانه الوهّاب الرزّاق الذي يرزق بغير حساب، وكل ذلك بالقطع هو إضافة لأسعد حياة دنيوية للذين آمنوا وعملوا الصالحات وصبروا كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق في الآية القادمة "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعة تفسيرها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولتكتمل المعاني)
ومعني "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)" أيْ مَن يعمل من الأعمال الصالحات، بأيّ نوع من أنواع الخير، مِن ذكرٍ أو أنثي أيْ مِن عموم الناس، بشرط أن يعمله وهو مؤمن أيْ مُصَدِّق بالله وبرسله وبكتبه وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار مُتَمَسِّك بأخلاق دينه الإسلام فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فهؤلاء سنُحْيِيهم حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام والنون لتأكيد الحُدُوث – حياة طيّبة في دنياهم أيْ سعيدة كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، فسَنُحْيِيهم في كل رعايةٍ مِنَّا وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسعادة.. ".. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)" (برجاء مراجعة الآية السابقة).. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. فهُم بعد حياتهم الطيبة في الدنيا، ستُضَاعَف لهم في الآخرة أجورهم أضعافا كثيرة علي قدْر تأثير أعمالهم وأقوالهم وإتقانها ونَفْعها وحُسْن النوايا بالعقل أثناء فِعْلها ونحو ذلك، ويدخلون جناتٍ أيْ بساتين بها قصور فخمة ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. هذا، ومَن يعمل خيراً مَا وهو غير مؤمن فإنه مِن عَدْله سبحانه يُعطيه في الدنيا خيرات مُقَابِلَة لكن لا شيء له في الآخرة بالقطع لأنه لا يُصَدِّق بوجودها أصلا! وبما أنه لا يُصَدِّق بها فقد عَمِلَ الخير إذن لسببٍ مَا ولم يعمله لله فليأخذ أجره إذن مِمَّن عَمِلَ له والذي من الممكن أن يكون في الدنيا لكن لن يُعطيه حتما شيئا في الآخرة لأنه لن يملك أحدٌ غير الله أيّ شيءٍ لأنه مالك الملك كله!.. إنَّ الناس لن يُنْقَصُوا حتماً أيَّ قَدْرٍ من جزاء أعمالهم الخيرية – أو الشَّرِّيَّة – مهما كان ضئيلاً وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ أجر وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً يوم القيامة بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم أبداً هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُسْتَعِيذَاً دائماً بالله تعالي، أيْ مُعْتَصِمَاً مُتَحَصِّنَاً به لاجِئَاً دَوْمَاً إليه، في كل شئون حياتك، فإذا كان سبحانه قد أَوْصَيَ بالاستعاذة به عند قراءة القرآن، والذي هو في الأصل أعظم حِصْنٍ من الشرّ، فمِن باب أوْلَيَ أن يكون ذلك أثناء غيره من مواقف ولحظات الحياة في كل أعمالها وأقوالها من عملٍ وكسْبٍ وعلمٍ وإنتاجٍ وبناءٍ وعلاقاتٍ إنسانيةٍ ونحو هذا (برجاء مراجعة الآية (100)، (101) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الاعتصام بالله وبرسوله (ص) وبالإسلام).. وإذا كنتَ مُتَوَكّلاً عليه تمام التوكّل (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. إنك إنْ فَعَلْتَ ذلك فقد وَكّلْتَ كل شئونك للقادر علي كل شيءٍ يُديرها لك علي أكمل وجهٍ وأسعده، فسَيَجعلك صاحب عِزّةٍ ومَكَانَةٍ وقوّةٍ وحِكْمةٍ وتوازُنٍ وسيُعطيك كل سببٍ يُعينك علي السعادة التامّة في دنياك وأخراك، وسيَحْميك من كل سوء (برجاء مراجعة الآية (67) من سورة المائدة ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.."، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)"، "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)"، "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)" أيْ ونَزّلنا عليك الكتاب تَبْياناً لكل شيءٍ وهديً ورحمة وبُشْرَيَ للمسلمين فإذا أَرَدْتَ بالتالي أيها المسلم قراءة القرآن لتنتفع وتَسْعَد بالعمل بأخلاقه في كل شئون حياتك فحينها اسْتَعِذ بالله أيْ الْجَأ إليه وتَحَصَّن به واعتَمِد عليه وادْعُوه أن يساعدك علي مقاومة خواطر الشرّ بعقلك حينما تفكر فيها ولا تُحَوِّلها إلي أقوالٍ أو أفعال شَرِّيَّة، اسْتَعِذ به من الشيطان المُوَسْوِس بالشرّ الرجيم أي المطرود من رحمته إلي يوم القيامة أي المَرْجُوم أي الذي يُبْعَد ويُرْجَم ويُقْذَف بكلّ سوء، والرجيم كذلك هو الراجِم الكثير الرجْم لأنه يَرْجم ويَقْذِف الناس كثيراً بالوساوس والشرور، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا)، وذلك بأنْ تبدأ القراءة بقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتي تَتَحَصَّنَ وتَحْتَمِي من أيِّ محاولاتٍ لإشغالك بالشرِّ وإبعادك عن الخير وتَدَبُّره والعمل به، وتقول هذه الاستعاذة بتَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ وتَعَمُّقٍ كما ستَفْعَل مع كل الآيات التي ستقرأها لتنتفع وتسعد بهذا التَّدَبُّر ثم العمل بما ستَتَدَبَّره كله.. "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)" أيْ إنَّ هذا الشيطان، أيْ إنَّ هذا التفكير الشَّرِّيِّ بالعقل، ليس له أبداً سلطانٌ أيْ نفوذٌ أو قوةٌ أو قُدْرَةٌ أو تأثيرٌ أو حُجَّة لمحاولة الإقناع بالشَّرِّ، علي الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليزيد قوة إرادتهم ليستمرّوا علي خَيْرهم الذي هم فيه – والتي منها أنهم علي ربهم، أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، يتوكّلون أيْ يَعتمدون عليه وحده تمام الاعتماد مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام وهو حتماً سيُيَسِّرَها لهم تمام التيسير ويُسعدهم بها تمام السعادة، في التوقيت الذي يراه في مصلحتهم وغيرهم ومُسْعِدَاً لهم ولغيرهم في الداريْن، وبالأساليب التي يراها، وستَتَحقّق لهم النتائج التي يريدونها تماما أو بصورةٍ مختلفة لكن أفضل، وذلك بتوفيقهم مباشرة لأسباب هذا، أو بطريقةٍ غير مباشرة بأنْ يُيَسِّر لهم مَن يُعاوِنوهم، وسيَكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، ولذا فهم دائما مُطْمَئِنّون اطمئناناً كاملاً مُسْتَبْشِرون مُنْتَظِرون دَوْمَاً كل خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. والشيطان ليس له سلطان علي الذين آمنوا ما داموا علي ربهم يتوكّلون لأنَّ كَيْده ضعيف دائما مع أمثال هؤلاء حيث هم يَنْطَلِقون يَنتفعون ويَسعدون في الحياة بكل قوّةٍ بلا أيِّ خوفٍ منه لأنَّ الله معهم بقوّته ونصره وتأييده ولذا فهم المَنْصورون حتماً في كل شئون حياتهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر أمّا غيرهم مِمَّن ينافسونهم والذين الشيطان معهم بضعفه وهزيمته فلا مُقَارَنَة قطعاً فهم المَهزومون بالتأكيد لأنَّ كَيْد الشيطان مهما عَظُم أيْ تدبيره ووساوسه لأتْباعه بفِعْل الشرّ كان وسيَظل بالقطع ضعيفا مَوْصُوفاً دائما بالضعف، فهم قد اعتمدوا على أضعف شيءٍ والذين آمنوا قد اعتمدوا على أقوى الأقوياء سبحانه، وهل تُقَارَن قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمَخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو له؟!.. إنَّ الذين آمنوا يعبدون الله تعالي وحده بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ويُخْلِصون ويُحْسِنون في عبادتهم له (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، ويتمسّكون ويعملون بكلّ أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، ويتوكّلون عليه حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتاحَة المُباحَة – أيْ يعتمدون عليه تمام الاعتماد، أي يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، ولا يفعلون شَرَّاً ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وبالجملة قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا بكامل حرية إرادة عقولهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا وفعلوا كل خيرٍ وتَرَكوا كل شَرٍّ ولم يستجيبوا له بل وقاوموه ودعوا غيرهم لذلك بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولذلك كله قد اسْتَخْلَصهم الله أيْ اختارهم لعوْنه وتوفيقه وسَداده وتيسيره لأمورهم وإسعادهم، لأنهم هم قد بَدأوا أولا باختيار عبادته وحده بكامل حرية إرادة عقولهم بإحسانهم لاستخدامها وبدأوا بالتمسّك بأخلاق إسلامهم واجتهدوا في ذلك فاختارهم لكي يساعدهم وأسعدهم في الداريْن (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فأمثال هؤلاء الذين تَحَصَّنوا بربهم وبإسلامهم وبصحبتهم الصالحة وبفِعْلِهم الدائم للخير بحيث لا يكون عندهم وقت لفِعْل الشرّ ولا حتي للتفكير فيه ليس للشيطان حتماً عليهم سلطانٌ أيْ نفوذٌ أو قوةٌ أو تأثيرٌ علي إغوائهم، وفي هذا مدحٌ وتشجيعٌ ضِمْنِيٌّ لهم ليستمرّوا دَوْمَاً علي خيرهم طوال حياتهم.. "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)" أيْ ليس نفوذه – أيْ نفوذ الشيطان أي التفكير الشَّرِّيّ بالعقل – أو قوّته أو قُدْرَته أو تأثيره أو حُجَّته لمحاولة الإقناع بالشَّرِّ، إلا فقط علي الذين يَتَوَلّوْنه، أيْ الذين يجعلونه وَلِيَّاً لأمرهم يَتَوَلّيَ أمورهم يُديرها لهم ويُوَجِّههم إليها ويَتّبعونه فيها، فيأخذهم بالتالي حتماً مُؤَكّدَاً لكل شرّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كُفْر وشِرْك، يأخذهم لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياهم وأخراهم، لأنه هو الذي يَتَوَلّي أمورهم ويَقودهم ويُوَجِّههم، فهم يَتَوَلّوْنَه ولا يَتَوَلّون الله تعالي أيْ لا يجعلونه وَلِيَّاً لهم ولا يَتّبعونه ولا يُطيعونه باتّباع أخلاق الإسلام ولا يتوكّلون عليه وهم به مُشْرِكون أيْ بسببه أيْ بسبب هذا الشيطان مشركون لأنهم يُطيعونه أيْ يعبدونه إذ العبادة هي الطاعة وبالتالي فهم يُشركونه في العبادة مع الله تعالي إذ يُطيعونه فيما يَطْلبه منهم مِن شرٍّ ولا يُطيعون الله فيما يطلبه منهم مِن خيرٍ كما أنهم بسببه أشركوا به أيْ بالله بأنْ عبدوا غيره سبحانه كأصنامٍ أو أحجارٍ أو غيرها.. إنه له سلطانٌ حتماً علي مَن سَارَ خَلْفه وأطاعه ونَفّذ أوامره الشَّرِّيَّة من الغاوين أي الضالّين أيْ الفاعِلين لكل شرٍّ وفسادٍ وضلالٍ مُتْعِسٍ في الداريْن المُنْحَرِفين المُتَمَادِين في الضلال والانحراف بلا توبة.. فأمثال هؤلاء قد قَبِلُوا غِوَايته واختاروها بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، فهم الذين اختاروا الشرّ والفساد وفِعْله ولم يُكرههم أحدٌ عليه، بسبب أنهم قد أغلقوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مرة أخري مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! والحِكمة في خَلْق الشيطان والسماح بوجود الشرّ في الحياة، وذلك في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولتكتمل المعاني)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن المُوقِنِين أيْ المتأكّدين تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ شَرْع الله أيْ الإسلام هو الأَخْيَر والأفضل والأكمل والأسعد لك وللبشرية كلها في الداريْن، لأنه من عند الله الخالق العدل الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الحكيم العليم الذي هو علي كل شيءٍ قدير والذي يَعلم ما يُصْلِح خَلْقه ويُكْمِلهم ويُسعدهم فهُمْ خَلْقه وصَنْعَته والصانع سبحانه هو الأقْدَر علي إرشاد صنعته بكلّ دليلِ خيرٍ مُسْعِدٍ، فهو تعالي حينما ينزل توصياته وتشريعاته لخَلْقه منذ آدم وحتي نزول آخرها في القرآن العظيم والذي أَتَمَّها وأكملها به، فإنه يُطَوِّر ويُبَدِّل فيها بما يُناسِب تَطَوُّر البَشَر بما يُسْعد كل لحظات حياتهم في كلّ عصر
هذا، ومعني "وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)" أيْ وإذا غَيَّرْنا آية مكان آية هي أنفع منها للناس في دنياهم وأخراهم، والله أعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما يُنَزّل من آياتٍ فيها وَصَايَا وتشريعات وأخلاق وأنظمة في كل زمنٍ تُحَقّق تمام مصلحتهم وسعادتهم لأنه هو خالقهم وهم صَنْعَته وهو وحده أعلم بما يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسْعدهم تماما في الداريْن حيث لكلّ آيةٍ حِكْمتها حسبما يراه مُناسبا لمصالحهم ولزمانهم لكي يَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا بها فيهما (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (106) من سورة البقرة "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. والآية الكريمة، كما آية "ما نَنْسَخ.."، هي رَدٌّ من الله تعالي علي بعض المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين الذين يُبَرِّرُون كذباً وزُورَاً عدم اتّباعهم الإسلام بأنه يَعترف بالشرائع السماوية السابقة كاليهودية والنصرانية وغيرها ثم يُغَيِّرها وبالتالي فشَرْع الله يُناقِض بعضه بعضا!! فيَرُدّ عليهم سبحانه بأنه يُبَدِّل فيها بما يُناسِب تَطَوُّر البَشَر بما يُسْعِد كامل حياتهم في كل زَمَنٍ حتي اكتملت تماماً بالقرآن العظيم.. هذا، ومن معاني لفظ "آية" أيْ مُعْجِزَة، فالمُكَذّبون قد طَلَبوا من الرسول الكريم محمد (ص) آيات أيْ مُعْجِزَات تدلّ علي صِدْقه كمعجزات موسي وعيسي وغيره من الرسل الكرام الذين سبقوه، فرَدَّ الله تعالى عليهم بقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها أيْ ما نُغَيِّر من معجزةٍ مَا لرسولٍ مَا أو نُنْسِ الناس أثرها – أو ننسها بمعني أيضا نُؤَجِّلها – إلا أتينا بخيرٍ أيْ أنفع وأشدّ تأثيراً منها لهم أو مثلها في نفعها والدلالة علي صِدْقه حسبما يحقّق أفضل النتائج والمصالح والسعادات معهم، وفي ذلك إشارة إلى أننا أتينا بمعجزة القرآن العظيم التي نَسَخَت ما قبلها من معجزات لِعِظَمِها والتي هي حتماً خير وأدْوَم منها لأنَّ هذه المُعجزات رغم أنها مُبْهِرَات مثل شقّ البحر لموسي بعد ضربه بعصاه وإحياء الموتي لعيسي وغيرها إلا أنها حوادث تنتهي بانتهاء وقتها ولا تُؤَثّر إلا فيمَنْ حضروها وشاهدوها أمّا معجزة القرآن فإنها باقية خالدة تَتَحَدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، فالله تعالي لا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، فهو تعالي يَنْسَخ ويُنْسِي ما يشاء من آياتٍ ويأتي بما يشاء منها حسبما يَراه مِن مصلحةٍ وسعادةٍ لخَلْقه، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل أي الاعتماد عليه.. ".. قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ.." أي وإذا بَدَّلْنا آية مكان آيةٍ قال المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزئون المُرَاوِغِون ومَن يَتَشَبَّه بهم مَا أنت يا محمد إلا مُفْتَرٍ لا رسول كما تَدَّعِي كذبا!! يقولون علي الرسول الكريم (ص) ذلك وهو الصادق الأمين كما سَمَّاه بعضهم!! والمُفْتَرِي هو الذي يكذب أشدّ وأقْبَح وأفظع أنواع الكذب لأنه هو الذي يَختلق كذباً ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، فهُمْ يَتّهِمونه (ص) كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً بالافتراء فيما جاء به من قرآنٍ كريمٍ ويَدَّعًون أنه من كلامه وليس وَحْيَاً!!.. ".. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)" أيْ لكنَّ أكثر هؤلاء وأشباههم لا يعلمون أيْ لا يعقلون أيْ لا يُحسنون استخدام عقولهم فيتدبَّرون فيما يَنفعهم ويُسعدهم فيَتَّبِعوه وما يَضرّهم ويُتعسهم فيَتركوه، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، ولو عَقَلوا ما فَعَلوا الذي فَعلوه، فهم كفَاقِدِي وضِعاف العقول أي كالمجانين والسفهاء، وهم كالجَهَلَة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافع مفيد! إنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله (ص) والقرآن والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)" أيْ هذا تأكيدٌ أنه يستحيل أنْ يَحْدُث في القرآن الكريم أيّ تبديلٍ أو تحريفٍ أو أن يفتريه أحدٌ من كلامه لأنه من عند الله تعالي وهو الذي يحفظه وكفي به حافظاً وهو خير الحافظين (برجاء مراجعة الآية (9) من سورة الحِجْر "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، والذي قام بتوصيله للرسول (ص) هو مَلَك، مُقَدَّس، أيْ مُنَزّه عن كلّ شَرٍّ أو خيانة، والذي قام بتبليغه للناس الصادق الأمين الرسول الكريم محمد (ص).. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء السابق ذكرهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لم أفْتَرِ هذا القرآن العظيم من عندي كما تَدَّعُون ظلماً وكذباً وزُورَاً ولكنْ نَزّلَه رُوُح القُدُس أيْ الروح المُقَدَّس أيْ المُطَهَّر من كل شَرّ، والمقصود به المَلَكَ جبريل عليه السلام، وهو الأمين الذي لا يُمكن أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفاً أو شيئاً، نَزّلَه عليَّ مِن ربّي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسِب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أيْ بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. وبناءً علي كل ما سَبَق فبالتالي إذَن مَن يَطْعَن فيه بأيِّ طَعْنٍ فهو المُفْتَرِي حتماً.. ".. لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا.." أيْ هذا بيانٌ لحِكْمَةٍ ونِعْمَةٍ من أعظم الحِكَم والنِّعَم لسبب نزوله.. أيْ لكي يَجعل الذين آمنوا – أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ويَصِفهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليزيد قوة إرادتهم ليستمرّوا علي خَيْرهم الذي هم فيه – ثابتين أيْ راسِخين صامِدين باقِين مُسْتَقِرِّين مُستمرِّين بكلِّ هِمَّةٍ وقوّةٍ علي إيمانهم بربهم وعملهم بإسلامهم لا يَتَزَحْزَحُون عنه أيّ تَزَحْزُحٍ بأيِّ مُزَحْزِحٍ مهما كان سواء أكان تَرْغيباً في فِعْل شرٍّ مَا أو تَرْهيبَاً بضَرَرٍ مَا لتَرْك خيرٍ مَا، طوال حياتهم حتي موتهم، وذلك التثبيت هو بسبب ما فيه من الأدِلّة والآيات التي تُوافِق تماماً أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وتُوافِق الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلاً فيتّخِذوه دائما مَرْجِعهم لكل شئونهم لأنهم يُوقِنون بلا أيِّ شكّ أنه المَصْدَر الوحيد لصلاحهم وكمالهم وإسعادهم تماماً في الداريْن، وبمجرّد بَدْء عملهم بأخلاق إسلامهم يُيَسِّر لهم سبحانه المزيد من العمل بها حتي يعملوا بها كلها فتكتمل سعادتهم الدنيوية والأخروية كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق الذي لا يُخْلَف مُطلقا "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17) (برجاء مراجعة تفسيرها لتكتمل المعاني)، ويُعينهم ويُوَفّقهم ويُيَسِّر لهم أن يستمرّوا علي ذلك بلا أيّ تغييرٍ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتهم، فهو القويّ المتين القادر علي كلّ شيءٍ العزيز الذي له كل العِزَّة والرِّفْعَة والكرامة والسلطان والنفوذ الذي يُعطي من قوّته وعِزَّته للذين آمنوا به الذين يجتهدون في العمل بكلّ أخلاق إسلامهم.. ".. وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)" أيْ وليكون كذلك هديً أيْ هادٍ أي مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وليكون أيضا تبشيراً للناس جميعاً إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، ولكنَّ الذين ينتفعون به هم المسلمون فقط والمسلمون هم المُسْتَسْلِمون لوَصَايَا الله تعالي وتشريعاته أيْ المُتمسّكون العامِلون بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك، لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فهُم حتماً سيَجِدُون فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة سيَجِدُون السعادة كلها في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لقُبْحِهم وشِدَّة كذبهم.. أيْ إننا نعلم ولقد أَحَطْنا علماً قطعاً ونحن بالتأكيد بلا أيِّ شكّ دَوْمَاً نُحيط بتمام العلم – واللام وقد للتأكيد – أنَّ هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزئين المُراوِغِين يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم، يقولون ظلماً وكذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً وتَخْريفاً مَا يُعَلّم هذا الرسول أيْ أنت يا محمد هذا القرآن الذي يُبَلّغه للناس إلاّ بَشَر من بني آدم مِمَّن حوله وبالتالي فهو ليس وَحْيَاً من ربه نَزَلَ به مَلَك كما يَدَّعِي كذبا!! ليُشَكّكوا في القرآن والإسلام فلا يَتّبعوه ولا يَتّبعه أحد.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ.." أيْ لقد كذبوا كذباً شنيعاً قبيحاً سفيهاً مَكْشُوفاً مَفْضُوحَاً لا يَقبله أيُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ فلا قيمة بالتالي له ولا أثر إلا علي مَن كان مَخْبُولاً غير عاقلٍ غير منصفٍ غير عادلٍ لأنَّ لسان الذي يُلْحِدُون إليه أيْ لغة هذا البَشَر الذي يُمِيلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه مُدَّعِين كذباً أنه يُعَلّم الرسول (ص) – والإلحاد هو المَيْل عن الحقّ والخير للكذب والباطل والشرّ – هو لسانٌ أَعْجَمِيٌّ، والعُجْم في اللغة العربية هو كل ما كان غير واضحٍ غير مُفَصَّلٍ غير مُتّصِلٍ غير كامل الوضوح والتفصيل والاتّصال والتّمام والتّبْيِين، وهذا غالباً أو دائماً هو حال لسان أيْ لغة وكلام وقول البَشَر حيث كل علومهم وأقوالهم مهما بَلَغَت من قوّةٍ ودِقّةٍ فيها ما فيها من القصور والتغيير والتبديل والاحتياج لمزيدٍ من التفصيل لتكون واضحة لا أعْجَمِيَّة وما شابه هذا مِمَّا يَلْمَسه الجميع في واقع حياتهم.. ".. وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)" أيْ وهذا القرآن العظيم هو قولٌ عربيٌّ فصِيحٌ بَلِيغٌ مُبَيِّنٌ مُوَضِّحٌ لقواعد وأصول كلّ شيءٍ مُسْعِدٍ في الداريْن، فهو واضِحٌ كل الوضوح مُكْتَمِلٌ كل الاكتمال مُحْكَمٌ كل الإحكام ليس فيه أيّ نَقْصٍ أو خَلَلٍ أو اضطرابٍ أو تَنَاقُض (برجاء مراجعة الآية (1) من سورة هود "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"، والآية (89) من سورة النحل ".. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن ذلك)، فهو مُعْجِزَة باقية خالدة تَتَحَدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، فكيف يُقارَن هذا بذاك؟! كيف يُعَلّم البَشَر رسولنا هذا القرآن المُعْجِز لهم أصلا؟!! كيف يُعَلّم الأقلّ عِلْمَاً العالِم بتمام العلم؟!! هل هذا الأمر المُستحيل المُتَنَاقِض يكون مُمْكِنَاً أو له أيّ احتمال؟!! إنَّ هذا لا يقول به أيّ عاقل أيها السفهاء المُفْتَرون!!
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)" أيْ إنَّ الذين لا يُصَدِّقون بآيات الله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا عانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. ".. لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ.." أيْ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، بسبب عدم إيمانهم، لا يُرْشِدهم الله لأيِّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، والمقصود أنه بسبب أنهم لم يحسنوا استخدام عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم عدم الهداية أي عدم الرُّشد والصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة، أيْ اختاروا الكفر بخالقهم وعدم اتّباع أخلاق الإسلام، فبالتالي لا يُوَفّقهم الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر لهم أسبابها لأنهم شاءوا الضلالة ولم يشاءوا الهداية لله وللإسلام، فسبب عدم التوفيق هذا أنهم هم الذين اختاروا البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلم يَشَأ الله لهم الهداية وتَرَكَهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)" أيْ وبالتالي، وبسبب عدم إيمانهم بآيات الله وفعلهم الشرور والمفاسد والأضرار، سيكون لهم عذابٌ أليم، أيْ عذابٌ مُوجِعٌ مُهينٌ مُتْعِسٌ لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم
ومعني "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)" أيْ هذا رَدٌّ علي المُفَترين الذين قالوا للرسول الكريم الصادق الأمين محمد (ص) إنما أنتَ مُفْتَرٍ كما في الآية (101) وقالوا عنه كذلك إنما يُعَلّمه بَشَر كما في الآية (103) وبيانٌ أنهم هم المُفْتَرون بحقّ وليس أبداً هو (ص) ومَن آمَنَ به.. أيْ لا يكذب الكذب الشديد الذي ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا إلا فقط الذين لا يؤمنون بآيات الله أيْ لا يُصَدِّقون بدلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله وأنهم من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه وآخرها القرآن الكريم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا عانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم، فعدم إيمانهم يَجعلهم لا يخافون عقاباً ولا يَرجون ثواباً فلا يَتركون كَذِبَاً يَكْذِبُونه.. ".. وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي افترائهم.. أيْ وهؤلاء حتماً بكل تأكيدٍ هم الذين بَلَغُوا أعلي درجات الكذب في افتراءاتهم هذه وأمثالها والتي ليس بعدها كذب أشدّ وأقبح منه ولم يَبْلُغها أحدٌ غيرهم، حيث تَجَرَّأوا علي افتراء مثل هذه الافتراءات، فهُمْ المُعْتادُون علي كل افتراءاتٍ وأكاذيب المُبَالِغُون الكامِلُون فيها الثابتون الدائمون عليها! فهم الكذّابون بحقّ! وكلّ كذبٍ مهما عَظُم فهو قليلٌ بالنسبة لكذبهم! فهم المُفْتَرُون الكاذبون حقّاً وليس بالقطع رسل الله الكرام الذين هم أصدق وأأمن الناس ولا المؤمنون بهم وبربهم المتمسّكون العاملون بكل أخلاق إسلامهم!
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَجَنّبْتَ أشدّ التّجَنُّب أن تَرْتَدَّ عن إسلامك وأخلاقه وأنظمته أو حتي مجرّد التفكير في ذلك ولو للحظة بعدما ذقْتَ سعاداته (برجاء مراجعة الآية (217) من سورة البقرة، والآية (54) من سورة المائدة، والآيات (86) حتي (91) من سورة آل عمران، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)" أيْ مَنْ كذّب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَد واستكبر واستهزأ وفَعَل الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظره، وذلك مِن بَعْد إيمانه أيْ مِن بَعْد تصديقه بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره ومِنْ بَعْد عمله بأخلاق إسلامه، وشَرَحَ بالكفر صَدْرَاً أيْ انْشَرَح صَدْره أيْ عقله وفِكْره وشعوره بالكفر فهو مُنْشَرِحٌ به أيْ مَبْسُوط مَسْرورٌ مَرْضِيٌّ مُطْمَئِنٌّ مرْتاحٌ به مُقْبِلٌ عليه فاتِحٌ لعقله لقبوله!! وذلك بلا أيِّ إكْراهٍ بل بكامل حرية إرادة عقله، فعليهم، أيْ فعَلَيَ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، بسبب ذلك، غَضَبٌ من الله – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المَثَل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ كُرْه منه لهم كراهية شديدة لفِعْلِهم وانتقام منهم بعقابهم بما يُناسِبهم في الداريْن، ولهم حتماً بالتالي بسبب هذا الغضب الذي يَنْزِل عليهم ويَعُمُّهم عذابٌ عظيمٌ أيْ عذابٌ هائلٌ شديدٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، بما يُناسب شرورهم بدرجةٍ مَا مِن درجاته، في دنياهم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إلاَّ مَن أُكْرِهَ وقلبه مُطْمَئِنٌّ بالإيمان أيْ يُسْتَثْنَيَ مِن أيِّ غَضَبٍ وعذابٍ وإثمٍ ولَوْمٍ ونحوه ولا شيءَ مُطْلَقَاً عليه في دنياه وأخراه مَن أُجْبِر علي النطق بكلمة الكفر أو نحوها – بسبب تهديدٍ بقتلٍ مثلاً أو بتعذيبٍ شديدٍ أو بما شابه هذا – ولكنْ قلبه في ذات الوقت أيْ عقله وشعوره حاله وواقعه مطمئنٌّ بالإيمان أيْ آمِنٌ ساكِنٌ مُسْتَقِرٌّ هادِيءٌ هانِيءٌ به ثابِتٌ مُسْتَمِرٌّ عليه مُتَمَكّنٌ منه مُتَأكّدٌ من كمال صوابه وخيره فهو في تمام الاطمئنان والارتياح والاستقرار والهناء بأنه علي الحقّ بإيمانه بربه وعمله بأخلاق إسلامه وليس عنده أيّ شكّ في هذا وقد نَطَقَ بالكفر بلسانه فقط.. هذا، وأحوال النطق بالكفر تَقْديريَّة تختلف مِن شخصٍ لآخر ومِن مَوْقِفٍ لآخر ومِن تهديدٍ لآخر، لكنْ مَن صبر علي التهديد وحتي إذا تمَّ تنفيذه بإيذاءٍ فِعْلِيٍّ ولم يستجب للنطق بكفرٍ مَا فله بالقطع أجره العظيم في الدنيا والآخرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)
ومعني "ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)" أيْ ذلك الكفر الذي كفروه وذلك الغضب والعذاب العظيم الذي اسْتَحَقّوه، بسبب أنهم اسْتَحَبُّوا – والسين والتاء للمُبَالَغَة في الحبّ وللتأكيد عليه – أيْ فَضَّلُوا وقَدَّمُوا واختاروا وأرادوا فقط مُتَع الحياة الدنيا الزائلة دون ارتباطٍ بالآخرة الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ فهم لا يريدونها ولا يعملون لها لأنهم يكذبون وجودها أصلا.. إنهم لم يُحسنوا طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد ربهم الكريم الرحيم والإسلام من الناس (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب الداريْن) بل قد استمتعتوا بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً واختاروا معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها وفَضَّلوها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبهم للآخرة، لأنهم يُكَذّبونها.. ".. وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)" أيْ وأيضا بسبب أنَّ الله تعالي لا يُمكن أبداً أن يُعِين ويُوَفّق ويُيَسِّر للهداية له وللإسلام مَن أغْلَقَ عقله تماما هكذا ولم يستجب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) مِن أمثال هؤلاء الكافرين – أيْ المُكَذّبين بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره المُعانِدِين المُستكبرين المُستهزئين الفاعِلين للشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – وعدم العوْن علي الهداية هو بسبب أنهم مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه من كفرٍ دون أيّ خطوةٍ منهم نحو أيِّ خيرٍ حتي يساعدهم سبحانه علي بَقِيَّة الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11).. وهذه هي دائما طريقته تعالي في التعامُل مع أمثالهم.. وما كلّ ذلك الذي هم فيه مِن سُوءٍ إلا بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابق ذِكْرها ومَن يَتَشَبَّه بهم، حتماً هم الذين قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي قلوبهم أيْ عقولهم وعلي أسماعهم فكأنهم لا يعقلون ولا يسمعون شيئا وعلي أبصارهم غِشاوَة أيْ غِشاء وغِطاء فكأنهم لا يَرَوْنَ شيئا، والمقصود أنهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم – وحَوَاسّهم – ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي طَبَعَ علي قلوبهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل) ( ثم برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآية (18) من سورة البقرة "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)" أيْ وهؤلاء قطعاً مُؤَكّدَاً هم التّائهون النّاسُون الضائعون اللّاهُون الذين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم التَّعِيسون في دنياهم الذين سيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إنْ لم يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ويَتَّبعوا أخلاق إسلامهم
ومعني "لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أقْصَيَ درجات خسارتهم.. أيْ لا شَكَّ وحقاً أنهم في الآخرة هم الخاسرون إذ قد خسروا خُسْراناً شديداً بخسارةٍ ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم حيث سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد من عذابهم وخُسْرانهم الذي كانوا فيه في الدنيا بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّل في درجةٍ مَا مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أوضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء : 7)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المهاجرين المجاهدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)"، للشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد وصورهما وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)" أيْ بَعْد الذي ذُكِرَ سابقاً عن حال مَن كَفَرَ مِن بعد إيمانه وحال مَن أُكْرِهَ علي الكفر وقلبه مُطمئنٌ بالإيمان، هذا بيانٌ لحال مَن هاجَرَ مِن بَعْد مَا فُتِن.. أيْ وإنَّ ربك حتماً بكلّ تأكيدٍ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – للذين هاجروا أيْ فَارَقوا أيَّ شَرٍّ، وفارَقوا أصحاب السوء وأهل الشرّ، وفارَقوا حتي الفكر الشَّرِّيِّ بالعقل، وفارَقوا الأوطان والأحباب والأموال والأعمال وغيرها من أجل الحفاظ علي أخلاق الإسلام والتمسّك والعمل بها وعدم التفريط فيها والدعوة إليها في فتراتِ ضعفِ المسلمين وتَسَلّط مسئولين ظالمين عليهم يحاولون بكل الوسائل إبعادهم عنها.. ".. مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا.." أيْ مِن بَعْد مَا اخْتُبِرُوا أيْ اخْتَبَرَهم الظالمون في إيمانهم أيْ تصديقهم بوجود الله تعالي وعملهم بأخلاق إسلامهم هل يستمرّون علي ذلك أم لا من خلال إيذائهم ومحاولاتهم المختلفة قَدْر استطاعتهم لإبعادهم عن ربهم ودينهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا.. ".. ثُمَّ جَاهَدُوا.." أيْ وبعد فِتْنتهم وهِجْرتهم بَذَلوا كل أنواع الجهود واجتهدوا في قولِ وعملِ كل أنواع الخيرات من كل أخلاق الإسلام المُسْعِدَة في كل جوانب الحياة المختلفة، بَدْءَاً من أصغرها وحتي أعلاها وهو جهاد المُعتدين علي الله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير بما يُناسبهم سواء أكان جهادا بالفكر أم بالدعوة أم بالعلم أم بالمال أم بالقتال وبذل الدماء والأرواح ضِدَّ من اعتدي بالقتال (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الهجرة والجهاد وصورهما وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. ".. وَصَبَرُوا.." أي وكانوا دائما – أثناء الفِتْنَة والهِجْرَة والجهاد وقَبْل ذلك وبَعْده – مِن الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد أصابهم من أذَيَ، وكانوا مِن المستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وكانوا إنْ أصابتهم فتنة مَا أي اختبارٌ أو ضررٌ مَا صَبَرُوا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم ( برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)" أيْ إنَّ ربك حتماً بكلّ تأكيدٍ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، مِن بعدها أيْ مِن بعد هذه الأعمال الطيبة العظيمة التي عملوها وهي عدم الوقوع في الفتنة والقيام بالهجرة والجهاد والصبر لغفورٌ رحيمٌ لِمَا قد يَحْدُث منهم أثناء ذلك مِن أخطاءٍ يَتُوبُون منها – واللام وإنَّ وإعادة لفظ ربك كلها لتأكيد حُدُوث المغفرة والرحمة في الداريْن – أيْ لكثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. إنه يَغْفِر، ويَرْحَم، في الدنيا أولا، بالأجر والعطاء المُتَمَثّل في كلّ نصرٍ وعِزّةٍ وكرامةٍ وقوّةٍ وأمنٍ ورزقٍ وحبٍّ ورضا ورعايةٍ وبالجملة في كلّ سعادةٍ تامَّة، ثم في الآخرة بما هو أعظم مغفرة ورحمة وعطاء وأتمّ سعادة وأخْلَد في نعيم جناتٍ لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)" أيْ اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا وتَسْتَعِدّوا بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لتسعدوا في الداريْن، اذكر يوم القيامة يوم تَحْضُر كلُّ نفسٍ إنسانية تُحاوِر عن نفسها مُدَافِعَة عَمَّا فَعَلَته بتقديم أدِلّتها وأعذارها مَشْغُولَة مَهْمُومَة بأمرها وحدها بلا اهتمامٍ بغيرها مهما كان ليس لها مُدَافِع ولا ناصِر غير ذاتها من أجل السعي لخلاصها ونجاتها من أهوال ذلك اليوم الشديد علي مَن أساء.. ".. وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)" أيْ وتُعْطَيَ فيه من الله حتماً كلّ نفسٍ مِن بني آدم جزاء وحقّ ما عملت في دنياها وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم : 7)
هذا، ومعني "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ وذَكَرَ وبَيَّنَ الله مثلاً يُتَّعَظ به – إضافة إلي مَا ذُكِرَ سابقاً مِن أمثلةٍ ومَوَاعِظ – هو بَلْدَة كانت آمِنَة أيْ سالِمَة مِن كلِّ اعتداءٍ يأمَن كل مَن فيها ومَن يدخلها علي نفسه وماله وأهله من الخوف والاعتداء والظلم وغيره من الشرور والمَفاسد والأضرار، مُطْمَئِنّة أيْ مرْتاحَة البال مُسْتَقِرَّة في طمأنينةٍ من ضيق المعيشة، يحضر لها رزقها أيْ عطاؤها من الله من كل أنواع الأرزاق أيْ العطاءات والخيرات النافعات المُسْعِدات التي لا تُحْصَيَ، رَغَداً أيْ هنيئاً طيباً وافراً واسعاً سَهْلَاً حسبما يشاؤون، من أيِّ مكانٍ، في كل الأوقات وبكل الوسائل، وبالجملة هي في سعادةٍ تامَّةٍ بسبب عظيم وواسع رزق الله وكرمه وفضله ورحمته.. ".. فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ.." أيْ فكان موقف أهل هذه القرية من تلك النّعَم العظيمة مُقابلتها بعَكْس ما هو مُفْتَرَضٌ مُتَوَقّعٌ وهو الشكر فأنكروا أنْعُمَ الله كلها – جَمْع نِعَم أيْ جمع الجَمْع بما يُفيد ضِمْنَاً كثرتها – أيْ لم يعترفوا بها أنها منه وحده تعالي وتَمَثّل إنكارهم في أنهم عبدوا غيره سبحانه ولم يَتّبِعوا دينه الإسلام بل خالَفوا أخلاقه ففَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يشكروه عليها بحُسْن استخدامها في كل خيرٍ بل استخدموها في كل شرٍّ بل ونَسَبُوها لغيره وهو وحده الخالق لها المُنْعِم بها جميعها بل وقد يَكفرون أي يُكَذّبون ولا يُصَدِّقون بوجوده تعالي أصلا! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (28)، (29) من سورة إبراهيم "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ"، "جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)" أيْ فبالتالي، ففي مُقابِل ذلك، فالنتيجة الحَتْمِيَّة لسوء فِعْلهم، فبما كانوا يَصنعون أيْ بسبب ما كانوا يفعلونه مِن سوءٍ كهذا، أذاقها الله أيْ أَشْعَرَ أهلها وجَعَلَهم يَتَذَوَّقون عَمَلِيَّاً في دنياهم ألَمَ ومَرارة وشدّة وفظاعة غِطاء الجوع والخوف وتعاساتهما – أيْ عَكْس ما كانوا فيه من الغِنَيَ والأمن وسعاداتهما – حتي أصبح كلٌّ منهما كاللباس الذي يُلْبَس علي الجسد من الخارج يُحيط به من كل جانب ويُلاصِقه ويَرَاه أيُّ ناظر، ثم في أخراهم سيُذيقهم حتماً مَا هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ولْيَحْذَر العاقل من سَحْب نِعَم الله منه وزوالها عنه فورياً أو تدريجياً بسبب كفره بربه وعصيانه له بإساءة استخدامها في شرٍّ لا خيرٍ فيتعس بذلك في دنياه وأخراه
ومعني "وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بنِعَم الله تعالي عليهم والتي لا تُحْصَيَ والتي أعظمها نعمة الإسلام الذي أرسله إليهم في كتبه والتي آخرها القرآن العظيم بوحيه لرسله الكرام وآخرهم رسوله الكريم محمد (ص) ليُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، لكي يكونوا دوْمَاً من الشاكرين له عليها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بالتمسّك والعمل به ونشره بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضدّ مَن يعتدي عليه حتي يُعينهم بسبب هذا الشكر لكلّ النّعَم علي مزيدٍ من حبه والتمسّك به والحرص عليه والعمل بكل أخلاقه والزيادة من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7).. إنَّ غير المؤمنين لا يّستشعرون عِظَم هذه النعمة لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ ولقد وَصَلَ إلي الناس جميعا من فضل الله وإنعامه وكرمه ورزقه عليهم ووُدّه لهم رسولٌ منهم أيْ من أنفسهم أيْ مَبْعُوثٌ هو منهم يعرفونه فيَسهل بالتالي عليهم تصديقه والثقة به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه، يقرأ عليهم ويُبَلّغهم آيات الله تعالي ويُذَكِّرهم دوْمَاً بها، وآياته هي دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عنده وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صدق رسوله (ص) أم آيات في الكوْن حولهم يرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في كتبه تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، وهذا الرسول الكريم كامِل الخُلُق فيه كل صفات الخير والرحمة يُعامِلهم بها ويَحملها لهم فعليهم بالتالي أن يؤمنوا به وبما جاءهم به من إسلامٍ ويقتدوا بكل أخلاقه ليسعدوا تماما في الداريْن فهو شَاقّ صَعْبٌ عليه ما شَقَّ عليهم وصعب تَحَمُّله لأنه جزء منهم وهم جزء منه فهو يَخاف عليهم سوء النتائج والوقوع فى العذاب والتعاسة في الداريْن إذا خَالَفوا الإسلام كما أنه يَشقّ عليه الشيء الذي يَشقّ ويَصعب عليهم بمعني أنَّه قد جاءهم بالإسلام الذي كله سَهْل يَسِير مُسْعِد لا مَشَقّة أبداً في أيٍّ من أخلاقه علي مَن عمل به لأنه يُوافِق الفطرة التي هي مسلمة أصلا والعقل المُنْصِف العادِل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وهو حريصٌ تمام الحِرْص بكل اهتمامٍ ورَغْبَةٍ وحبٍّ على إصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم تماماً في دنياهم وأخراهم من خلال تبليغ الإسلام إليهم بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ وشِدَّة رغبته في استجابتهم جميعاً له واتّباعهم لكل أخلاقه التي بَلّغها لهم وهو كثير الرأفة والرحمة فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها والرأفة هي كراهية إصابتهم بأيِّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسهم والرحمة هي حبّ إيصال كلّ الخير والنفع لهم بما يُسعدهم.. ".. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ.." أيْ فكان موقف بعض الناس مُقَابَلَة ذلك بعَكْس ما هو مُفْتَرَضٌ مُتَوَقّعٌ مِن أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الإيمان فلم يُصَدِّقوه فيما أبلغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعملوا بالإسلام الذي نَصَحهم وأوصاهم به واستمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فبالتالي كان لابُدَّ إذَن من أن يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك، وبسبب تكذيبهم هذا، أنْ أخَذَهم العذاب أيْ أصابهم ونَزَلَ وانْقَضَّ عليهم العذاب المُوجِع المُهين المُتْعِس الذي لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)" أيْ فأخذهم العذاب وحالهم وواقعهم حينها أنهم ظالمون، فهم عُذّبُوا وهم كانوا مُسْتَمِرِّين علي ظلمهم مُصِرِّين عليه لم يَتوبوا منه ويَرْجِعوا عنه، فاسْتَحَقّوا تماما العذاب بسبب ذلك، فلا ظلم وَقَع عليهم إذَن بل هم السبب في تعذيبهم لأنه بسبب ظلمهم حيث ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كان طعامك ورزقك دائما حلالا طيبا، والحلال هو ما سَمَحَ به الله ولم يُحَرِّمه أيْ يمنعه لضَرَره ولتعاسته وهو أيضا ما لم تَحْصُل عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمَة، والطيّب هو ما كان نافعاً لا ضارَّاً وتستطيبه النفس السليمة ولا تستقذره، فتتحقّق لك بذلك البركة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة
هذا، ومعني "فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)" أيْ إذا تَدَبَّرْتُم أيها الناس مَثَل مَن يَكفر بأَنْعُم الله ويُكَذّب رسله فيُذيقهم لباس الجوع والخوف وغيره من العذاب المناسب بسبب ذلك في الداريْن فاحذروا تماما التَّشَبُّه بهم وعليكم بالشكر وعبادته وحده فكلوا واشربوا وانتفعوا وتَمتّعوا من كل ما أعطاكم الله من كل أنواع أرزاقه التي لا تُحْصَيَ والتي خَلَقها في أرضه مِمَّا أحَلّه أيْ سَمَحَ به لكم ولم يُحَرِّمه أيْ يَمْنَعَه لضَرَره وتعاسته عليكم ولم تحصلوا عليه بمُعامَلَةٍ مُحَرَّمَة، ومِمَّا كان طيّباً أيْ نافعاً لا ضارَّاً تَستطيبه وتَستسيغه النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذِره، ولا تأكلوا ولا تشربوا ولا تفعلوا أبداً مَا حَرَّمه لضَرَره ولتعاسته عليكم كما يفعل بعضكم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. ".. وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ.." أيْ وكونوا دوْمَاً من الشاكرين لِنِعَم الله والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم: 7).. ".. إنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)" أيْ لو كنتم تعبدونه أي تطيعونه وحده بحقّ كما تقولون وتريدون حقا أن تكون عبادتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن فافعلوا إذَن ذلك، كلوا مِمَّا رزقكم حلالا طيّباً واشكروا نِعَمه.. وفي هذا الأسلوب وهذه التذكرة إلهاب لمشاعرهم ليكونوا كذلك
ومعني "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)" أيْ مَا حَرَّمَ أيْ مَنَعَ عليكم أيها المؤمنون – وأيها الناس عموما – إلا فقط ما يَضرّكم ويتعسكم في دنياكم ثم أخراكم، كأكل الميتة التي تموت من الحيوان بغير ذبحٍ ويبقي فيها الدم بما فيه من جراثيم مُمْرِضَة وكالدم المُسَال قطعا والذي هو مَلِيء بها، وكلحم الخنزير حيث خَلَقه تعالي ليتغذي علي القاذورات من أجل تنظيف البيئة لا من أجل أن يُؤْكَل – وكذلك بعض المخلوقات الأخري كالحشرات وغيرها – وإلا كان شديد الأضرار، وكالذي أهِلَّ لغير الله به أيْ يُذْكَر عليه اسم غير الله عند ذبحه كصنمٍ أو نجمٍ أو بَشَرٍ أو غيره – والإِهلال هو رفع الصوت باسم مَن تُذْبَح له من الآلهة – لِمَا في ذلك مِن ضَرَرٍ معنويّ علي عقل المسلم، إذ قَبِلَ ولو بصورةٍ رمزيةٍ صغيرةٍ بأن يكون هناك مَن هو أعلي عنده وأعظم مِن ربه وإسلامه وقد يَنْحِدر ويَنْزَلِق تدريجيا لِمَا هو أسوأ بعد ذلك، فلْيُغْلَق هذا الباب إذَن مِن أصله!.. ".. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115)" أيْ لكنْ مع هذا فمَن كان مُضطرَّاً أشدَّ الاضطرار لشيءٍ منها، بمعني أنه سيهلك بدونها، وهو غير باغٍ أيْ مُبْتَغٍ طَالِبٍ للحرام ولا عادٍ أيْ مُعْتَدٍ بتَرْك الحلال أو بتَجاوُز قَدْر الضرورة، فحينئذ له بل فرض عليه أيْ يُثاب إذا فَعَل ويأثم إذا لم يَفعل أن يحفظ حياته بشيءٍ يسيرٍ جداً منها وبالقَدْر فقط الذي يَحميه وبمجرّد أن يتحقّق ذلك فيمتنع فوراً ولا يزيد لأنَّ الزيادة ستَضُرّه لأنها أصلاً ضَرَر، كأنْ يأكل مثلا قطعة أو أكثر مِن ميتة عند شدّة الجوع وخوف الموت من عدم وجود الطعام وما شابه هذا مِن ضروراتٍ والتي لا إثم أيْ ذنب عليها ويعفو عنها سبحانه لأنه غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. هذا، والضرورات تُقَدِّر بقَدْرها ويُتْرَك تقدير الضرورة لفاعِلها ثقة من الإسلام فيه وفي تربيته ومراعاته لربه وتمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه وحرصه عليها لأنها مصدر سعادته في الداريْن
ومعني "وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي لم يَأذن لأيِّ أحدٍ أبداً أنْ يُحَلّل أو يُحَرِّم حيث هو وحده المَعْبُود والمُشَرِّع لخَلْقه تشريعاتهم وقوانينهم من خلال الإسلام لأنه هو وحده الذي يعلمهم تماما لأنهم صَنْعته ويعلم ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وأيّ شَرْعٍ مُخَالِفٍ لشرعه سيُتعسهم حتماً فيهما.. أيْ ولا تقولوا للكذب الذي تَصِفه ألسنتكم أيها الجاهلون – أيْ المُتَجَرِّؤون المُتَعَدُّون علي الله تعالي الجاعِلُون من أنفسهم مُشَرِّعِين يَجعلون مِن بعض الأشياء والأمور والأرزاق حلالاً وبعضها حراماً مُخَالِفين شَرْعه الذي شَرَعَه في الإسلام كاذِبين عليه لخدمة أهوائهم وشرورهم ومَفاسدهم – هذا حلالٌ أيْ مَسْمُوحٌ به للناس رغم أنَّ الله قد حَرَّمه وهذا حرامٌ أيْ ممنوعٌ عليهم رغم تحليله إيَّاه لهم.. ".. لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.." أيْ لكي تفتروا على الله الكذب بقولكم هذا أيْ لكي تَكْذِبوا عليه بكذبٍ شَنِيعٍ ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا لأنه لم يُحَرِّم مَا تُحَرِّمون ولم يُحِلّ ما تُحِلّون مُطْلَقَاً بل أنتم الذين تَنْسِبُون إليه هذا كذباً وزُورَاً.. ".. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)" أيْ إنَّ الذين يَكْذِبون علي الله الكذب الشنيع الذي ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، لا يُفلحون حتماً أيْ لا يَفوزون ولا يَنْجَحون ولا يَرْبَحون ولا يسعدون في دنياهم وأخراهم، بل يُعَذّبون فيهما علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وسيُعَاقَبون بما يَستحقّون بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)" أيْ إنَّ أمثال هؤلاء المُسيئين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم لهم متاعٌ قليلٌ في الدنيا حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)" أيْ ولهم مع المتاع القليل هذا وبعده عذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ شديدٌ مُهين، بعضه في الدنيا وتمامه بما لا يُوصَف في الآخرة، بما يُناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (55) من سورة التوبة "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)" أيْ وحَرَّمنا أيْ مَنَعْنَا علي الذين هادوا أيْ علي اليهود أكْل ما ذَكَرْنا وحَكَيْنا لك سابقا في القرآن الكريم، والمقصود ما ذَكَرَه تعالي في الآية (146) من سورة الأنعام "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني ولمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وما ظلمناهم حَتْمَاً بذلك التحريم الذي حَرَّمْناه عليهم، أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمؤمنين المُحْسِنين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إن كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود لك سعادتك التامّة بإسلامك وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ
هذا، ومعني "ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)" أيْ بَعْد الذي ذُكِرَ سابقاً عن ظُلْم الظالمين هذا بيانٌ لحال مَن تابَ منهم لتشجيعه علي سرعة توبته مهما كان قد فَعَل.. أيْ وإنَّ ربك حتماً بكلّ تأكيدٍ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، ولفظ "ربك" يُفيد شِدَّة القُرْب مِن الذي عمل السوء، فهو ربه رغم ما فَعَله، وهذا يعني أنه إذا تابَ فسيكون بالقطع في تمام الرعاية والأمن والحبّ والرضا والرزق والعوْن والتوفيق والقوّة والنصر والإسعاد في الدنيا ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ وإسعادٍ لا يُوصَف في الآخرة، ولفظ "للذين" يُفيد أنه تعالي لهم، أيْ يأخذ بأيديهم ويُعينهم عندما يبدأون حتي بمُجَرَّد التفكير في التوبة ثم الهَمّ بأول خطواتها، وتكرار لفظ "ربك" واستخدام لفظ "إنَّ" هو للتأكيد التامِّ علي كل ذلك – للذين عملوا السوء أيْ مَا هو سيّء أيْ شرّ أيْ معصية أيْ ذَنْب بجهالةٍ أيْ عملوه بسبب جَهْلٍ منهم بنتائجه الضَّارَّة المُتْعِسَة لهم ولمَن حولهم حيث يفقدون حب ربهم ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه وسعاداته في دنياهم وأخراهم، وبالتالي فكلّ عاصٍ لله مُخْطِئَاً أو مُتعمِّداً فهو جاهل حتي وإن كان عالماً بالتحريم، لأنه قد عَطّلَ عقله وقت فِعْلها فكان كالجاهل السَّفِيه الذي لا عِلْم له، وبالتالي فكلّ شرٍّ يُفْعَل لا بُدَّ وأن يكون مَصْحُوبَاً بجَهَالَة! وبناءً علي ذلك فالذنوب جميعا يَقْبَل الله التوبة منها!.. والتوبة هي الرجوع لله ولطاعته من خلال العمل بأخلاق الإسلام وتكون بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لتعود للمُسِيء سعادته التامّة بإسلامه وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ، وهذا هو معني ".. ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.." أيْ تابَوا مِن بعد ذلك العمل للسوء.. ".. وَأَصْلَحُوا.." أيْ وعملوا الصالحات من الأعمال وقاموا بإصلاح كلّ ما أفسدوه قَدْر استطاعتهم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها، وقاموا بإظهار خلاف ما كانوا عليه من أيِّ سوءٍ بفِعْل ونَشْر ما استطاعوا من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الكوْن كله بين جميع الخَلْق.. ".. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)" أيْ إنَّ ربك من بعد هذه التوبة التامّة الصادقة حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – واللام وإعادة لفظ إنَّ ولفظ ربك هو لتأكيد الحُدُوث – يَقبل توبتهم ويعفو عن ذنوبهم ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبهم عليها ويُزيل عنهم آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَسْترهم ويُعينهم ويُسعدهم، لأنه هو غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير! فلا ييأس أحدٌ أبداً من رحمته مهما فَعَل فلْيَعُد للخير وسيَجد كل خير كما وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مطلقا " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر:53) (برجاء مراجعتها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أتْمَمْتَ اتّباع أخلاق الإسلام كلها بتمامها وكمالها، مِثْل سيدنا إبراهيم (ص) وكل الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص)، حيث ستَتِمّ لك السعادة الكاملة في الداريْن لأنَّ التفريط في أيٍّ منها سيُصيبك حتماً بتعاسةٍ وكآبةٍ علي قَدْر تفريطك والشرّ الذي فعلته.. وستُصبح إماماً يُؤْتَمَّ ويُقْتَدَيَ بك، وأستاذاً ومعلماً وقائداً وهادياً، ونحو ذلك من الصفات التي تسعدك وتجعلك رابحا دائما في دنياك ثم رابحا أعظم الربح في أخراك لتوجيهك الآخرين لخيريِّ دنياهم وأخراهم مِمَّن سيَقتدون بك ويفعلون فِعْلَك.. فهذا هو عهد الله أيْ وعده لنا.. أمّا إنْ ظلمتَ نفسك بتَرْكِك أخلاق الإسلام كلها أو بعضها، أو ظلمتَ غيرك بإيذائهم قولاً أو عملاً، فلك التعاسة علي قُدْر ظُلْمك، فهذا أيضا هو عدل الله وعَهْده ووَعْده
هذا، ومعني "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)" أيْ هذا بيانٌ لكمال أخلاق الرسول الكريم إبراهيم (ص) للاقتداء بها لمَن أراد أن يَسعد في دنياه وأخراه، ولفَضْح وكَشْف كَذِب ومُرَاوَغَة الذين لا يُسْلِمون مُدَّعِين كذباً وزُورَاً أنهم علي مِلّة إبراهيم أيْ دينه والتي هي الأصل والذي هو يُعَدّ أبو الأنبياء – حيث كل الرسل مِن ذُرِّيَّته كما أنه هو مَن بَنَيَ الكعبة المُشَرَّفَة قِبْلَة كل مسلم – كاليهود والنصاري وحتي بعض المشركين الذين يعبدون أصناماً وغيرها ومَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكانٍ فلماذا إذَن يَتّبِعون مَن جاء بَعْده وهو محمد (ص)؟! فيُبَيِّن تعالي كذبهم وخداعهم حيث إنَّ إبراهيم (ص) كان مُوَحِّدَاً أيْ لا يعبد إلا الله وحده مسلماً فلماذا إذَن هم لا يَتّبعون الرسول الكريم محمد (ص) والإسلام الذي جاء به ويُسْلِمون والذي هو أيضا علي مِلّته مُوَحِّد مُسْلِم مِثْله بل جاء مُتَمِّمَاً للإسلام الذي جاء به إبراهيم (ص) والذي جاء بإسلامٍ مُناسِبٍ لزمنه بينما الإسلام مع محمد (ص) مناسب لكل الأزمنة والأماكن حتي يوم القيامة إنْ كانوا صادقين في ادِّعائهم؟! ولكنهم كاذبون مُراوِغُون كافرون بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (65) حتي (67) من سورة آل عمران "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، "هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ إنَّ إبراهيم كان أمَّة أيْ إماماً يُؤْتَمّ ويُقْتَدَيَ به، وأستاذاً ومعلماً وقائداً وهادياً، ونحو ذلك من الصفات التي تسعده وتجعله رابحا دائما في دنياه ثم رابحا أعظم الربح في أخراه لتوجيهه الآخرين لخيريِّ دنياهم وأخراهم مِمَّن سيَقتدون به ويفعلون فِعْله.. كذلك من معاني أمَّة أيْ كالأُمَّة، أيْ اجتمعت فيه كل صفات الخير فهو في قوّة أخلاقه وتمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه والدعوة له بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَة حَسَنَةٍ والدفاع عنه ضِدّ مَن يَعْتَدِي ونحو ذلك هو كأمَّة مُجْتَمِعَة وليس كفَرْد.. إنه مَن يقْتَدِي به وبالرسول الكريم محمد (ص) ويُصْبِح مِثْله سينال حتماً مِثْل أجره في الداريْن.. ".. قَانِتًا لِلَّهِ.." أيْ طائعاً لله طاعة تامَّة مُوَاظِبَاً مُسْتَدِيماً علي طاعته في كل ما طَلَبَه منه في وصاياه في الإسلام مُسْتَسْلِمَاً له باختياره وبرضاه وبكلّ حبٍّ له ولطاعته، آمِنَاً ساكِنَاً مُطْمَئِنّاً برعايته له وأنه معه علي الدوام بعِلْمه وقُدْرته.. ".. حَنِيفًا.." أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام.. ".. وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره أنه كان حتماً قانِتَاً لله حنيفاً مسلما.. أيْ ولم يكن أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه
ومعني "شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)" أيْ كذلك كان شاكراً أيْ دائماً كثيراً للشكر لأَنْعُم الله تعالي عليه التي لا تُحْصَيَ – جَمْع نِعَم أيْ جَمْع الجَمْع بما يُفيد ضِمْنَاً كثرتها – فهو دوْمَاً من الشاكرين لربه علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله بأن يستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ.. ".. اجْتَبَاهُ.." أيْ اختاره بسبب حُسْن إسلامه هذا ليكون رسولا داعيا له وللإسلام لمَن حوله من الناس.. ".. وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي هدايته والتوضيح للذي هُدِيَ إليه وتَيْسِير الله له أسباب ذلك.. أيْ وأرْشَده وأوْصَله إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وهذا الاختيار وهذه الهداية للصراط المستقيم بسبب أنه قد اختار هو أولا الإيمان بالله والعمل بأخلاق الإسلام من خلال إحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا فاختار الله له بعد هذا الهداية له وللإسلام أيْ فيَسَّر له أسبابها ووَفّقه لها وسَدَّد خُطاه نحوها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. فاقْتَدُوا به وبكل الرسل الكرام وافْعَلُوا مِثْلهم أيها الناس، فإنْ اقْتَدَيْتَ بهم أيها المسلم، واخترتَ أنت أولا الهداية لله وللإسلام وبدأتَ بالعمل بأخلاقه في كل شئون حياتك، سيَختارك ربك مِثْلما اختارهم، للعمل بكل أخلاق الإسلام والثبات عليها كلها ولتكون داعيا له وللإسلام هاديا لخَلْقه مُنيراً لهم طريقهم في حياتهم قائداً لهم لكل صوابٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وقَارَبْتَ أن تَصِلَ إلي الكَمَال مثلهم، كما يُشَجِّعنا علي ذلك الرسول (ص) بقوله "كَمَلَ مِن الرجال كثيرٌ.." (جزء من حديث رواه البخاري ومسلم)، وسيُعطيك مِثْلَما أعطاهم من العلم والحكمة والاتزان والاعتدال والقوة والرعاية والأمن والتوفيق والسداد والرزق والحب والرضا واليُسْر وبالجملة سيُعطيك السعادة كلها في الداريْن.. وهذا الاختيار هو تكريمٌ عظيمٌ من الله تعالي لكلّ مسلمٍ يَقْتَدِي بهم، فَلْيَشكره إذَن تمام الشكر علي إسعاده تمام السعادة في دنياه وأخراه بهذا الاختيار، ومِن شُكْرِه العمليّ أنْ يجتهد بالتالي تمام الاجتهاد في أن يكون علي مستوي هذا الاختيار، وذلك بالتمسّك والعمل التامّ الجادّ بكل أخلاق إسلامه طوال حياته وحتي مَمَاته، وإلا لو تَرَكَها بعضها أو كلها سيَفقد بالقطع امتيازاتِ هذا الاختيار وسيتعس في الداريْن بتعاسةٍ تُساوِي مِقْدار تَرْكه لها
ومعني "وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)" أيْ وأعطيناه في الدنيا حالَة حَسَنَة حيث كلّ خيرٍ وسعادةٍ في كل شئون حياته بما يتمنّاه أيّ إنسانٍ من الرزق الوفير والمسكن الفسيح المُرِيح والزوجة الصالحة الحسنة والذّرِّيَّة الصالحة البارَّة النافعة والذِكْر الحَسَن فكل مَن يَذْكُره يحبه وبالجملة أعطيناه تمام السعادة فيها فهو في حياة حَسَنَة بها كل خيرٍ ورحمةٍ ورزقٍ وبركةٍ وأمنٍ وسعادةٍ، ثم في الآخرة بالقطع سيكون من الصالحين – واللام وإنَّ لتأكيد حُدُوث ذلك – أيْ مِن الذين يُعطيهم الله أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. إنَّ هذا العطاء الوفير المُسْعِد في الداريْن من ربٍّ كريمٍ سيكون حتما نصيب كل مسلم يجتهد في أن يتشبَّه برسله الكرام في إيمانهم بربهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم له وصبرهم علي أذاهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (97) من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد التّامِّ علي كمال أخلاق الرسول الكريم إبراهيم (ص).. أيْ وبعده بقرون عديدة وبما يَدلّ ويُؤَكّد أكبر دلالة وتأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره من كمال خُلُقه وعظيم مَكَانته وصِحَّة توحيده وتمام دينه وبعد كل هذه الحسنات والخيرات التي أعطيناه إيَّاها في الداريْن، كَرَّمْناه بأننا أوحينا إليك أيْ أرسلنا إليك وأخبرناك يا رسولنا الكريم محمد بأنْ اتّبِع أيْ سِرْ خَلْف وأَطِعْ مِلّة أيْ دين إبراهيم الذي كان حنيفاً أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام والذي ما كان أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه.. وفي هذا أعظم تكريمٍ للرسول الكريم إبراهيم (ص) حيث يُكَرَّم بأنْ يَتَّبِع مِلّته سيّد الخَلْق محمد (ص) والمسلمون جميعا إلي يوم القيامة.. هذا، وتكرار أنه ليس من المشركين كما في الآية (120) هو لمزيدٍ من التأكيد علي أنهم كاذبون في ادِّعائهم أنهم علي مِلّة إبراهيم ومعني "إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)" أيْ هذا مزيدٌ من فَضْح وكَشْف كَذِب ومُرَاوَغَة اليهود ومَن يَتَشَبَّه بهم الذين لا يُسْلِمون مُدَّعِين كذباً وزُورَاً أنهم علي مِلّة إبراهيم أيْ دينه فلا حاجة لاتّباع محمد حيث الآية الكريمة تُبَيِّن أن تحريم الصيد يوم السبت ليس مُطْلَقَاً مِن مِلّة إبراهيم بل فُرِضَ علي اليهود بعده بسنواتٍ طويلة وهذا أعظم دليل علي كذبهم أنهم يَتّبِعُون مِلّته (ص)!!.. أيْ لم يُجْعَلْ ولم يَكُنْ تحريم الصيد يوم السبت من مِلَّة إِبراهيم كما تَدَّعُون أيها الكاذبون، وإِنما جُعِلَ السبت من الله أيْ تحريم الصيد فيه فَرْضَاً علي الذين اختلفوا فيه أيْ خالَفوا فيه ولم يلتزموا وهم اليهود، والمقصود أنَّ بعض اليهود قد تَعَدَّيَ علي وَصَايَا وأوامر الله فخَالفوها في يوم السبت، بأنْ صَادوا السمك فيه رغم مَنْعه للصيد في هذا اليوم تدريباً لهم علي قوة الإرادة لمصلحتهم ولسعادتهم لكي ينطلقوا بهذه الإرادة القوية في الحياة يقتحمونها ويستكشفونها وينتفعون ويسعدون بخيراتها، وأيضا اختباراً ليَعلم كل منهم نفسه هل يستجيب ويلتزم بما فيه مصلحته وسعادته فيحمد الله ويستمرّ علي ذلك أم يُخَالِف ويعمل ما يَضُرّه ويُتْعِسه وعليه أن يُصْلِح ذاته ليسعد، فقام هذا البعض بالتّحَايُل بأن نَصَبَ الشباك يومها ثم صاده في اليوم التالي وكأنه سبحانه العالِم بكل شيءٍ لا يَراهم ولا يَعلم حِيَلَهم وأفعالهم!! فعاقبهم الله تعالي علي ذلك بأنْ جَعَلَهم بقوله للشيء كُنْ فيَكون كما يُريد قِرَدَة خَاسِئين أيْ بَعيدين مَطْرُودين عن رحمته وعن كلّ خيرٍ وعِزّةٍ ذليلين مُهانين حَقِيرين مَنْبُوذِين يَنْفر ويَشْمَئِزّ الناس من مُجالستهم ومُخالطتهم والتّعامُل معهم، وهم إمَّا صاروا قردة علي الحقيقة بقُدْرته سبحانه ولم يعودوا بَشَرَاً، وإمّا جعل تعالي فيهم بَلاَدَة كبلادة الحيوانات رغم بقائهم علي هيئة البَشَر بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للذين يَعتدون علي أوامر الله تعالي فيُخالِفونها ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار أنَّ النتائج ستكون شديدة السوء في الدنيا ثم الآخرة علي قَدْر مُخَالَفَاتهم حيث لهم درجة مَا مِن درجات العذاب في دنياهم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا أيضا تذكيرٌ للمسلمين أن يكونوا دائما مِمَّن يُعَظّمون حُرُمَات الله تعالي فيُحَرِّمُونها ولا يَقتربون أبداً منها، والتي لم يُحَرِّمها سبحانه إلا لأنها تَضرّهم وبالتالي تتعسهم، ولكي تَقْوَيَ إرادة عقولهم بالامتناع عن أشياء في حياتهم فتنمو وتَرْقَيَ إراداتهم فوق كل حَدَث فيَتَحَكّمون فيه ولا يَتَحَكّم فيهم، وليعلموا قيمة الحلال الطيِّب النافع المُسْعِد إذ بالضِّدّ تَتَمَيَّز الأشياء، وليستشعروا نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ حيث المُحَرَّمات قليلة جدا نسبة لطيِّبات الكوْن التي كلها مُحَلّلَة مُسَخَّرَة لهم، وما شابه هذا مِن حِكَمٍ وأنْعُم، فيَسعدون بذلك بكل لحظات الحياة.. ".. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثال هؤلاء لمزيدٍ من إيقاظهم.. أي وإنَّ ربك حتماً – إنَّ واللام لتأكيد الحُدُوث – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل، أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا هو الذي سيَحكم أيْ سيَقْضِي وسيَفْصِل بينهم جميعا في يوم القيامة يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم فيُبَيِّن لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا بالتالي إذَن الاستعداد لذلك أيها الناس جميعا بالتمسّك والعمل بكلّ أخلاق إسلامكم
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)" أيْ أَرْشِد ودُلّ كل الناس قَدْر استطاعتك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إلي طريق ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – أيْ إلي طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ إلي طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس إلي أيِّ طريقٍ غيره أيْ طريق الظلم والشرّ والتعاسة.. ".. بِالْحِكْمَةِ.." أيْ أَرْشِدهم بكلِّ قولٍ مُحْكَمٍ أيْ مُتَنَاسِقٍ مُتَرَابِطٍ مُتْقَنٍ لا يُمكن لباطلٍ أن يخترقه ولا تَنَاقُض فيه ولا اختلاف ولا خَلَل ولا عَبَث ويشتمل علي الدليل الهاديء والقاطِع، وبالجملة كن حكيما أثناء دعوتهم أيْ مُصِيبَاً في الأمور كلها مُتَّصِفَاً بالعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وَازِنَاً كلّ أمرٍ بميزانه الصحيح واضِعَاً إيَّاه في مَوْضِعه بكلّ دِقّةٍ دون أيّ عَبَث مع مراعاة تمام الصدق والتخطيط والتدريب والتقييم والتعليم وتبادل الخبرات ونحو ذلك من صُوَر الحِكْمة والرَّزَانَة والتي هي بسبب العقل الرَّاجِح الرَّزِين والفهم والعلم والوعي والتدبّر والتّعَمُّق والذي عليك كداعٍ لله وللإسلام أنْ تَتَّصِفَ به.. ".. وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.." أيْ وأرشدهم كذلك بالتَذْكِرَة والتَوْصِيَة الطيبة الجيدة لهم التي تُؤَثّر في عقولهم ومشاعرهم بالترغيب أو الترهيب لتَدْفعهم للعمل بها، ببيان العِبَر وضَرْب الأمثال والترغيب في الخير وسعاداته في الداريْن والترهيب أي التخويف من الشرّ وتعاساته فيهما، بما يناسب المدعو، وما شابه هذا.. ".. وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.." أيْ وكذلك حَاوِرهم وناقِشهم بالطريقة والوَسِيلَة التي هي أَجْمِل طريقة ووَسِيلَة، أيْ وحاوِرهم ليس بالمُحَاوَرَة والمُناقشة التي هي حَسَنَة فقط أي جميلة طيِّبة لَيِّنة مُناسبة مُؤَثّرة مُفيدة مُسْعِدَة، بل بالتي هي أحسن أيْ أَجْمَل طريقة وأفضل وأعظم وأنْسَب وأرْقَيَ وأطيب وأكْمَل وأرْفَق وألْيَن وأحَبّ وأهْدَأ وأدَقّ وأحْدَث وأكثر فائدة وإسعاداً للآخرين من طرق ووسائل وأساليب الحوار والنقاش.. إنَّ من مظاهر حُسْن الدعوة إلي سبيل الله والإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة أنْ يقوم كل مسلم بتذكير جميع الناس قَدْر الاستطاعة بالتواصل الدائم مع ربهم والعمل بكل أخلاق إسلامهم في كل شئون حياتهم وتشجيعهم علي هذا وذلك بكل قُدْوَةٍ وقولٍ وعملٍ في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِد هو، ولتعود سعادتهم عليه بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فيزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. وعلي كل مسلم أثناء دعوته، ومن الحكمة والموعظة الحسنة، أن يكون داعِيَاً واعِيَاً، يُحْسِن تجهيز مَن يدعوهم بقُدْوته الحَسَنة لهم في كل معاملاته معهم، ويُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فيبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)" أيْ إنَّ ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم هو وحده أعلم بتمام العلم الذي ليس بعده علم أكثر منه مَن ابْتَعَدَ عن طريقه وهو أعلم بالمهتدين الواصِلِين إليه السائرين فيه، والمقصود أنه ما دام الأمر كذلك فمَن يَبتعِد ويُعانِد ويُكابِر ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فليتحمَّل إذَن نتيجة سوء عمله، لا يَتَحَمّله عنه الرسل الكرام، ولا المسلمون الدعاة مَن بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوته بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظة حَسَنة، فليطمئنوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعويهم حينما يُعْرِضون هم عنهم لفترةٍ فلعلّ تَرْكهم هذا قد يَدْفعهم لمراجعة ذواتهم، ولا يلتفتوا لهم ولا يتأثّروا بتصرّفاتهم وليستمرّوا في تمسّكهم بإسلامهم وفي دعوتهم غيرهم لله وللإسلام، مع الاستمرار في دعوتهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم، فهو تعالي يعلم مَن سيشاء الهداية فيَشاءها له أيْ يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه ويُسَدِّده لها ويُعينه عليها، ويعلم مَن لن يشاءها فلا يشاؤها له أيْ لا يُيَسِّر له أسبابها ولا يُوَفّقه لها ما دام لم يُحسن هو استخدام عقله ويَتقدّم نحوها ولو بخطوةٍ حتي يُعِينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّه لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11) (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه الأعلم بالمُهتدين أيْ بأهل الهُدَيَ والخير أيْ بالراشدين المُصِيبين للخير والسعادة المُحَقّقين للربح في دنياهم وأخراهم، وبأهل الضلالة والشرّ، وسيُجازي كلاّ بعمله، بكل خير وسعادة أو كل شرّ وتعاسة، في الدنيا قبل الآخرة، بما يناسب قَدْر خيرهم أو شرّهم.. وفي هذا طَمْأَنَة للمسلمين وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم وتحفيز للاستمرار علي التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم والصبر علي أذَيَ مَن يَدعونهم، وتحذير شديد لمَن ضَلَّ عن سبيل الله أيْ طريقه وطريق الإسلام لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عادلاً دائما، في كل أقوالك وأفعالك وتصرّفاتك في كل شئون حياتك ومواقفها المختلفة وأنْ تَتّقِي أن تَضُرَّ أحداً أو تَظلمه وتُعطِي كلّ صاحب حقّ حقّه لأنه بانتشار العدل يَأمن الناس علي أموالهم وأملاكهم وأعراضهم فيسعدون في الداريْن بينما بالظلم يَضيع كلّ هذا ويَنتشر القَلَق والتَّوَتّر والفزع والثأر والتشاحُن والتباغُض والتقاطُع فيَتعسون حتما فيهما.. وإذا كنتَ مُتَسامِحَا ذا فضلٍ وإحسانٍ من غير ضعفٍ ولا ذِلّة فتعفو عَمَّن أساء إليك بقولٍ أو عملٍ وتصبر عليه، وذلك بأن تكون قويّ الإرادة بعقلك، فالمُتسامِح هو الأقوي والأعزّ والأعلي والأحسن والمُنْتَصِر والأصْفَيَ ذِهْنَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي والأعظم ثوابا قطعا في الآخرة
هذا، ومعني "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)" أيْ هذا بيانٌ للعدل التامِّ في الاقتصاص والتّمَاثُل أيْ التّسَاوِي في أخْذ الحقّ.. أيْ وإنْ أرَدْتُم أيها المسلمون عقاب مَن ظلمكم واعْتَدَىَ عليكم فعاقِبوه بمِثْل مَا فُعِلَ بكم منه، ولا تزيدوا على ذلك لأنَّ أيَّ زيادة ستكون ظلماً منكم له تُعاقَبون أنتم عليه بما يُناسب في الداريْن.. فهذا العدل يُصَفّيِ ما في العقول من غِلٍّ وانتقامٍ فتهدأ الأمور وتنحصر الأضرار وتعود الأوضاع لِمَا كانت عليه ويَأمن الناس جميعا مسلمين وغيرهم علي أرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم فيسعدون، وبغير ذلك تَعُمّ الفوضي وينتشر سفك الدماء والثأر والانتقام والخوف ويفقد البَشَر أمانهم ويَتعسون.. ".. وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)" أيْ وإنْ صبرتم أي امْتَنَعْتم عن عقاب مَن ظلمكم واعْتَدَيَ عليكم طَلَبَاً لأجر الله في الداريْن فهو أيْ هذا الصبر – واللام لتأكيد ما سيُقال – حتماً خيرٌ للصابرين والذين أنتم ستكونون منهم حيث تمام كل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الدنيا والآخرة.. وفي هذا تشجيعٌ علي العفو والتسامح والصبر لِمَا فيه من نَشْر الألفة والمَحَبَّة والتعاون والترابُط بين الجميع ونسيان الماضي السَّيِّء والانطلاق نحو الحاضر والمستقبل فيَرْقُون ويَتَطَوَّرُون ويَسعدون في دنياهم وأخراهم.. إنَّ مَن يَصبر على أذىَ مَن يُؤذيه وكذلك يُسامحه فلا يَصبر فقط علي أذاه ويظلّ حاملا للأسَيَ منه، فإنّ ذلك بكل تأكيد دليل علي قوّة عزيمته وإرادته العقلية وعُلُوّ هِمَّته في أموره لأنّ الصبر والتسامُح من الأمور التي تحتاج إلي ذلك ولهذا فلها الثواب العظيم المُضَاعَف حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن لأنَّ فاعلها سيكون حتما هو الأقوي والأعزّ والأعلي والأحسن والمُنْتَصِر والأصْفَيَ ذِهْنَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي والأعظم ثوابا قطعا في الآخرة، كما قال تعالي ".. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر:10) (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (194) من سورة البقرة ".. فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"، والآيات (40) حتي (43) من سورة الشوري "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)"، "وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)"، "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)"، "وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)" أيْ واثْبُت واصْمُد وكُنْ دَوْمَاً من الصابرين يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ.." أيْ وما يَحْصُل صَبْرُك لأيِّ أمرٍ من الأمور وثَباتك علي كل خيرٍ إلا بعَوْن الله لك وقوّته وتثبيته وتأييده وتوفيقه وتَيْسِيره لأسبابه وجنوده التي لا يعلمها إلا هو وفضله ورحمته وإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ القادر عليه يقول له كُنْ فيكون كما أراد ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، وما دام الأمر كذلك فكُنْ دائم الاستعانة به بدعائه والتوكّل أي الاعتماد عليه وحده لا غيره في كل شئون حياتك لتفلح وتنتصر وتسعد في الداريْن.. ".. وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.." أيْ ولا تَشعر بالحزن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم علي المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم بسبب عدم إيمانهم وإصرارهم علي سُوئهم، ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مِثْل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)" أيْ هذا مزيدٌ من التسلية والطمْأنَة والتخفيف والتبشير.. أيْ ولا تكن أبداً في حالةِ انقباضٍ واختناقٍ وضيقٍ وألمٍ في عقلك ومَشاعِرك من الحُزن مِن الذي يمكرون هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون ومَن يَتَشَبَّه بهم أيْ يُدَبِّرونه من مَكائد وجرائم وأضرار لإيذاء الناس والإسلام والمسلمين، والمَكْر هو التدبير فى خفاءٍ لإنزال سوءٍ مَا بالمَمْكُور به قوْلِيَّاً وفِعْلِيَّا، فإنَّ الله حتماً ناصركم ومُذْهِب ضيقكم فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِرُوا ولا تهتمّوا كثيرا بهم، مع إحسان اتّخاذ أسباب الحَذَر منهم ما استطعتم، وانْطَلِقوا في حياتكم سعداء بالله وبالإسلام، وانْشُرُوا إسلامكم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظة حَسَنة، فالله معكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (67) من سورة المائدة ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.."، ثم الآية (99) منها "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ.."، ثم الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران لبيان أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتماً سينتصرون في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً لهم، ثم الآيات (121) حتي (127) منها، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا لبيان أنَّ النصر من عند الله وحده سبحانه)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ في كل أقوالك وأفعالك بكل شئون حياتك مِن المُتّقِين أي الذين يخافون ربهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، ومن المُحْسِنين أي الذين يُجيدون دائما، لأنك بذلك ستَضْمَن أنَّ الله معك دَوْمَاً بعَوْنه وتأييده ونَصْره وحمايته وإسعاده، فتحيا بهذا بالقطع علي الدوام سعيداً في دنياك قبل أخراك
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)" أيْ إنَّ الله الخالق الكريم الرحيم الودود القويّ العزيز الرازق الهادِي الحافِظ المُعِين الناصر القادر علي كل شيءٍ الذي يقول للشيء كُنْ فيكون مالِك المُلْك الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ دائماً بقُدْرَته وعِلْمه وعَوْنه وتوفيقه وتيسيره وتأييده وسَدَاده ونَصْره وعِزّته وحمايته ورحمته وكَرَمه ورِزْقه وإسعاده مع الذين اتّقَوْا أيْ خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والذين هم كذلك مُحْسِنون أيْ مُتْقِنُون مُجِيدُون في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم بحيث تكون حَسَنَة علي أكمل وَجْهٍ مُمْكِنٍ يُحِبّه الله والرسول (ص) والإسلام.. إنَّ هذه هي دائما سُنَّة الله أيْ طريقته وأسلوبه سبحانه حيث هو حتماً دَوْماً مع كل مُتّقٍ مُحْسِنٍ من أجل أن يُيَسِّر له كل أسباب تمام الخير والسعادة في دنياه وأخراه.. إنَّ مَن كان حاله كذلك فهو في أعلي قوّةٍ وهِمَّةٍ واستبشارٍ ولا يُمكن أبداً أن يَضْعُف وهو المُنْتَصِر دائما في كل شئونه.. إنَّ في هذا طمْأَنَة للمسلمين المُتّقِين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، وفيه التشجيع لهم أن يكونوا كلهم ويَظلّوا علي الدوام كذلك