الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
التفسير السعيد لسورة الإسراء
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتَّخِذون بيت الله الحرام في أرضه – ومِن بعده المسجد النبويّ الشريف ثم المسجد الأقْصَيَ – رمزاً يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا فهذا هو أصل وحدة الناس وتَقَارُبهم وتلاقِيهم وتعاونهم وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، ولأنَّ في هذه الأماكن أيضا أحوال وسُنَن وتَصَرُّفات وأفعال وأقوال رسولنا الكريم (ص) وأبينا إبراهيم وموسي وعيسي ومعظم رسلنا الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكيفية تطبيقاتهم العملية لأخلاق الإسلام والذي هو الحقّ من عند الله والذي لو تَمَسَّك وعمل به الجميع لسعدوا تماما في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في مُعْجِزات الله تعالي، وفي كلّ مَخْلُوقاته، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)" أيْ سَبِّحوه تعالي، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ – كما أنَّ كلمة سبحان الله تُسْتَخْدَم للتّعَجُّب من عظيم وتمام قُدْرته تعالي – وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فهو تعالي القادر علي كل شيء الذي يقول للشيء كُنْ فيكون الذي أسْرَيَ بعبده ليلاً – وسَمَّاه سبحانه عبده ونَسَبَه إليه لتكريمه وتشريفه – أيْ برسوله الكريم محمد (ص) أيْ سارَ به بالليل بجسده وروحه في اليقظة لا في المنام ناقِلَاً إيَّاه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه والتي منها المَلَك جبريل عليه السلام ومعه دابَّة تُسَمَّي البُرَاق – وسُمِّيَت بذلك لأنَّ لها سُرْعَة البَرْق حيث تَضَع كل خطوةٍ من خطواتها في مُنْتَهَيَ البَصَر كما أنَّ لها بَرِيقاً أيْ لَمَعَاناً – من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلي المسجد الأقصي بمدينة القدس بفلسطين بأرض الشام والذي باركنا حوله حيث مكانه مَلِيء بكل الخيرات المُسْعِدات وفيه عاشَ كثيرٌ من الرسل ونَزَلَ عليهم وَحْي الله بالإسلام في كُتُبه ليكون مَنَارَة لتعليم البَشَرِيَّة عبادة الله تعالي وحده والعمل بأخلاق إسلامها لإسعادها في دنياها وأخراها.. ".. لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا.." أيْ لكي نَجعله يُشاهِد بعينيه بعض دلالاتنا الواضِحات القاطِعات في عجائب مَخْلوقات كَوْننا المُعْجِزات التي تدلّ علي أننا الخالق القادر علي كل شيءٍ المُسْتَحِقّ وحده للعبادة ويَرَيَ مَقامَ ربه وبعض مَشاهِد جنته وناره بعد أنْ عُرِجَ أيْ صُعِدَ به للسماء فيكون ما عَلِمه من خلال الوَحْي قد علمه بالرؤية والمشاهدة ليزداد يقيناً على يقينه وثَبَاتَاً على ثباته في تمام صواب ما هو عليه وقوّة على قوَّته في حمل أمانة الإسلام وتبليغه للعالمين ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهذا من عظيم تكريمه تعالي لرسوله الكريم محمد (ص) حيث لم يحدث هذا لأحدٍ من رسله الكرام.. ".. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)" أيْ لأنَّ الله هو وحده الذي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه السميع أي الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ والبصير أي الذي يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي فهو وحده تعالي المُسْتَحِقّ للعبادة، وبالتالي أيضا سيُجازِي حتماً في الداريْن بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً من المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق كتاب الله القرآن العظيم والذي فيه الإسلام وأنظمته التي تُنَظّم كلّ شئون الحياة علي أكمل وجهٍ فتسعدها، ومن الذين يَلْفِظون ويَتركون كلّ نظامٍ يُخالِفه لأنه يُفسد الحياة ويَتعسها ولا يَتَشَبَّهون أبداً بمَن يَفعل ذلك من بعض الأمم التي تُخَالِف إسلامها بعضه أو كله.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مُتَوَكّلاً علي الله وحده، شاكراً له، صالِحَاً مُصْلِحَاً لا فاسِدَاً مُفْسِدَاً، عادِلَاً لا ظالماً، مُتَوَاضِعَاً لا مُتَكَبِّرَاً، وبالجملة مُسْعِدَاً لذاتك ولمَن حولك لا مُتْعِسَاً لها ولهم
هذا، ومعني "وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)" أيْ وكما أكرمنا رسولنا الكريم محمد (ص) بالقرآن العظيم وبالإسراء والمعراج، أعطينا كذلك بكرمنا ورحمتنا رسولنا الكريم موسي (ص) الكتاب الذي أوْحَيْناه إليه وهو التوراة والذي فيه قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسبة لعَصْرِه والناس حوله لكي تُصْلِحهم وتُكْمِلهم وتُسعدهم في حياتهم ثم آخرتهم، وجعلناه بسبب ذلك هُدَيً أيْ هادٍ أي مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، لبني إسرائيل أيْ لأبناء وأحفاد رسولنا الكريم إسرائيل، وهو يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم عليهم السلام جميعا، وإسرائيل معناها بالعِبْرِيَّة التي هي اللغة اليهودية عبد الله حيث إسْرَاَ تعني عَبْد وإيِل تعني الله، وأبناؤه المقصود بهم اليهود، ويُناديهم سبحانه بهذه الصفة لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة حيث هم ذرِّيَّة رسولٍ كريمٍ فلا يَصِحّ منهم مُخَالَفَة الإسلام بل عليهم أن يكونوا مثله في اتّباعه والدعوة إليه.. ".. أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)" أيْ وجعلناه هُدَيً مِن أجْلِ أنْ لا تجعلوا غيري وكيلاً لكم تَعتمدون عليه وتَتْرُكون له كل أموركم وتَلْجأون إليه فى كل أحوالكم، إذ الوكيل هو الذى تُوكَل إليه الأمور ويُتْرَك له التَّكَفّل بها والتصرّف فيها لتمام الثقة فيه.. فكونوا جميعا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، واطمئنوا اطمئنانا كاملا واستبشروا وانتظروا دائما كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياكم ثم أخراكم، فهو حتما سيكفيكم كفاية تامّة ولن تحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقكم القوي المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لكم الرحيم بكم هو وكيلكم، أيْ الحافظ لكم المُدافِع عنكم المُتَكَفّل بكل شئونكم، فهل تحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!!
ومعني "ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)" أيْ يا سُلاَلَة المسلمين الصالحين الذين حَمَلْناهم مع رسولنا الكريم نوحٍ في السفينة وأنجيناهم من الطوفان الذي أغرق الكافرين لا تعبدوا غير الله وكونوا شاكرين لنعمه التي لا تحصي بأن تعبدوه وحده وتعملوا بكل أخلاق إسلامكم مُقْتَدِين بنوحٍ (ص) والمسلمين قبلكم، فإنه – وهم أيضا – كان عبداً شكوراً أيْ مُطِيعَاً كثير الشكر لله بعقله ولسانه وعمله، فكونوا مِثْلهم أنتم كذلك دَوْمَاً من الشاكرين لِنِعَم الله والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم: 7).. وفي هذا إلهابٌ للعقول والمَشاعِر والعَزائم من أجل الحَثّ والتشجيع علي الإيمان والعمل بالإسلام كما فَعَلَ السابقون فإنَّ مِن شأن الأبناء الصالحين أن يقتدوا بالآباء فى صلاحهم ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)" أيْ هذا تحذيرٌ وتنبيهٌ شديدٌ من الفساد والظلم والتّعَالِي والعدوان ونحوه، لأنَّ نتيجة ذلك حتماً أليمة تَعِيسَة، كما حَدَث من العذاب الأليم في الداريْن بما يُناسِب للسابقين الفاسدين الظالمين المُستكبرين المُعْتَدِين، مِن بني إسرائيل وغيرهم، فانتبهوا لذلك أيها المسلمون ولا تُفسدوا ولا تَتعالوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي في كتابكم القرآن العظيم لتسعدوا وإلا تعستم في دنياكم وأخراكم بعذابٍ علي قَدْر بُعْدِكم عنها.. أيْ وأوحينا إلي بني إسرائيل وأخبرناهم في الكتاب – أي التوراة – الذي أُوُحِيَ إلي رسولهم الكريم موسي (ص) أنه سيُفْسِد بعضهم في الأرض أيْ يَفعل الشرَّ المُضِرّ المُتْعِس، بكلّ صُوَر الفساد المُتَعَدِّدَة، مرتين، أيْ كثيراً مُتَكَرِّرَاً، مَرَّة بعد مَرّة، فهذا أحيانا هو الذي يُقْصَد بلفظ مَرَّتَيْن في اللغة العربية كما قال تعالي "ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ.." (الملك:4) أي ثم أعِدْ النظر كثيراً وليس مرّتيْن فقط، وقال "رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ.." (الأحزاب:68) أيْ عذاباً مُضَاعَفاً، فلفظ "مَرَّتَيْن" لم يُفَصِّله سبحانه لأنَّ المقصود الاستفادة بالعِبَر والأحداث، ولذا فقد يعني مرتين حقيقة، وقد يعني كثيراً، وقد يعني فسادَيْن كبيريْن شديديْن مع مَفاسِد أخري أقلّ شِدَّة تقع بينهما، وما شابه هذا، فقد يكون مثلاً الفساد الأول الشديد العظيم الكبير هو عدم اتّباع وَصَايَا الله وتشريعاته، عدم اتّباع الإسلام، وتكذيبه وعِناده والتّعَالِي عليه والاستهزاء به ومحاربته بكل الوسائل، ثم الفساد الثاني الشنيع أيضا هو قَتْل رسلهم الكرام كنوعٍ من الإهانة لمَن أرسلهم، لله خالقهم!! تعالي عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، ثم مع هذا منهم مَن يُفْسِد مَفاسِد أقلّ فظاعة من ذلك كإباحة الربا مثلاً وبعض المُحَرَّمات وتحريم بعض الحلال ونَشْر الشرور والخيانات ونحو هذا.. ".. وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)" أيْ وسَيَعْلُوا بعضكم عُلُوَّاً عظيماً أيْ يَتَرَفّع ويَتَعَالَيَ ويَسْتَكْبِر علي الله وعلي رسوله فلا يُطيعوا بل يَكْفروا أيْ يُكَذّبوا بوجوده ويُشْرِكوا أي يعبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه ويُعانِدوا ويَستهزؤا ويَتعالوا علي الناس فيستعبدوهم وينهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم ويظلموهم ويُعَذّبوهم ويَحتقروهم ويقتلوا بعضهم وينشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ يَصِلُوا إليه من الأرض، بل ويحاولوا منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَسْتَرِدُّوا حقوقهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذها، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ هذا الفساد وهذا العُلُوّ سيُؤَدِّي حتماً بمَن يَفعل ذلك مِن بني إسرائيل ومَن يَتَشَبَّه بهم إلي كل عذابٍ وتعاسة في دنياهم وأخراهم إنْ لم يتوبوا
ومعني "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)" أيْ فإذا أَتَيَ مَوْعِد أُوُلَيَ المَرَّتَيْن أيْ أُوُلَيَ مَرَّتَيِّ عقاب إفسادكم – أو موعد إحدي مَرَّات عقابكم والذي سيَتَكَرَّر مَا دُمْتُم تُكَرِّرُون فسادكم وتُصِرُّون عليه بلا توبة – أرسلنا عليكم يا مَن تَسْتَحِقّون العقاب بالعذاب خَلْقَاً لنا أُنَاسَاً أصحاب قَهْرٍ وفَتْكٍ وعَزْمٍ شديدٍ فجَاسُوا خلال الديار أيْ فطافوا ذهاباً وإيَابَاً بين البيوت التي تسكنوها مُفَتّشِين مُسْتَقْصِين باحِثين عنكم مُعَذّبين مُذِلّين مُهْلِكين لكم.. هذا، ولم يُحَدِّد تعالي مَن هم هؤلاء العِبَاد له الذين يُسَلّطهم عليهم لعقابهم، لأنَّ المقصود الاعتبار بأنهم ومَن يَتَشَبَّه بهم وبسبب فسادهم واستكبارهم سيُعَذّبون وسيُكْسَر كِبْرهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، فقد يكون هؤلاء العِبَاد أُنَاسَاً كُفّارَاً فاسدين مِثْلهم يريدون السَّطْوَ عليهم ونَهْب ثرواتهم، وقد يكونوا مسلمين صالحين يُجاهدونهم ويَرُدّون اعتداءهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم.. ".. وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)" أيْ وكان مَوْعِد العقاب مَوْعِدَاً لابُدَّ حادِثَاً واقِعَاً نافِذَاً لا رَادّ له ولا فرار منه، وذلك لوجود سببه منهم وهو فسادهم وتَعَالِيهم، وكان وَعْد الله وحُكْمه بحُدوث ذلك وسيَظلّ حتي يوم القيامة مفعولاً حتماً أي مَعْمُولاً به عَمَلِيَّاً في الواقع حيث أيّ أمرٍ يريد تعالي فِعْله في كَوْنه لابُدّ أن يُيَسِّر أسبابه فيكون مَفعولا حاصِلا كما يريد تماماً بكل تأكيد ولا أحد يمكنه رَدّه أو منعه أو الفرار منه بل سيكون واقعا مُحَقَّقا في التوقيت والمكان وبالأسلوب الذي يريده سبحانه دون أيّ تَغَيُّر أو تَخَلّف، لأنه لا يُخْلِف وَعْده مُطلقا وقادر علي كلّ شيءٍ بتمام القُدْرة وكمال العلم.. إنَّ مِثْل هذا العذاب وما يُشْبِهه وغيره لابُدَّ أنْ يَحْدُث عاجِلَاً أو آجِلَاً لأيِّ فاسدٍ ظالمٍ في أيِّ مكانٍ وزمان، فهو نتيجة طبيعية حَتْمِيَّة لِمَا اتّخذه من أسبابٍ كلها شرّ وفساد بين الآخرين، فلابُدَّ أنْ يُقابَل بمِثْله، لأنه بالعقل والمَنْطِق مَن يَزرع سُوءَاً لن يُنْبِتَ ويَحْصُدَ خيراً قطعا بل سُوءَاً مِثْله، وهذا السوء الذي سيُقابَل به سيكون إمَّا مِن فاسِدٍ يريد استغلاله ونَهْبه، وإمَّا مِن صالِحٍ يريد إصلاحه حيث يُعاقِبه بما يُناسب سوءه فيَتّعِظ بالعقاب فيعود للخير
ومعني "ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)" أيْ هذا بيانٌ لرَحماته ونِعَمه تعالي التي لا تُحْصَيَ وحُبّه لإصلاح خَلْقه وإسعادهم وتشجيعهم علي ذلك وبيانٌ لسُنّته أيْ طريقته الثابتة التي لا تَتَغَيَّر معهم حيث مَا مِن أحدٍ أو جَمْعٍ من الناس يتوب أيْ يعود له ولأخلاق إسلامه فيعمل بها كلها إلا سَعِدَ تماماً بذلك في دنياه وأخراه بعد أنْ تَعِسَ بقَدْر بُعْدِه عنه وعنها، فهذا أيضا وَعْدَاً مَفْعُولَاً مِمَّن لا يُخْلِف وَعْدَه سبحانه.. أيْ ثم لَمَّا عُدْتُم لربكم ولإسلامكم وتُبْتُم عن فسادكم واسْتِعْلائكم وظلمكم رَدَدْنا أيْ أَعَدْنا لكم الغَلَبَة علي مَن يَعتدِي عليكم ظلماً وعُدْوانا، وعِشْتُم أعِزَّة أحراراً سعداء تنتفعون بخيرات بلادكم، ولم نَكْتَفِ بذلك بل وأيضا أسعدناكم بأنْ زَوَّدْناكم ورزقناكم بأموالٍ وممتلكات وأرزاق بكل أنواعها وأبناء وذرّيات وجعلناكم أكثر نفيراً أيْ أنْفارَاً أيْ عَدَدَاً وعِزَّاً وقوة مِن غيركم، فقَوِيتُم وسَعِدْتُم بهذا، وكل ذلك وغيره بسبب توبتكم وعملكم بأخلاق إسلامكم، فاشكروا بالتالي إذَن ربكم بأنْ تستمرّوا علي خَيْركم هذا ليزيدكم خيراً علي خيرٍ وسعادة علي سعادة (برجاء لاكتمال المعاني عن أنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة للتوبة ودَوَامها هي السعادة الدائمة في الدنيا قبل الآخرة مراجعة الآية (52) من سورة هود "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)" أيْ هذا بيانٌ للقانون الإلهيّ العادِل للحياة الدنيا حيث بالعقل والمَنْطِق مَن يَزرع سُوءَاً لن يُنْبِتَ ويَحْصُدَ خيراً قطعاً بل سُوءَاً مِثْله، كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيراً بل دائماً، في دنياه حتماً قبل أخراه، بينما مَن يَزرع حُسْنَاً لابُدَّ أنْ يُنْبِتَ ويَحْصُدَ حُسْنَاً بالقطع، فيهما.. أيْ إنْ أتْقَنْتُمْ وأَجَدْتُمْ أيها الناس في كلّ تصرّفاتكم بكل شئون حياتكم المختلفة ومع الجميع علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، وعملتم كلَّ خيرٍ وتركتم كل شرٍّ وأدَّيْتُم كل أقوالكم وأفعالكم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها حَسَنَة علي أكمل وَجْهٍ مُمْكِنٍ يُحِبّه الله والرسول (ص) ومُوَافِقَة لأخلاق الإسلام، وبالجملة تَمَسَّكْتُم وعملتم دائما بها، فقد أحسنتم لأنفسكم حتماً، لأنَّ نتيجة ذلك بالتأكيد بلا أيِّ شكّ ستعود بكل خير وسعادة لكم أولا ثم لكلّ مَن حولكم بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن، في حياتكم وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر والإسعاد بسبب اجتهادكم جميعا في دوام ارتباطكم بربكم واستغفاركم من ذنوبكم وتمسّككم بكلّ أخلاق إسلامكم، ثم في آخرتكم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالكم وأقوالكم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (97) من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ثم الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." أيْ والعكس صحيح قطعا، أيْ وإنْ أسأتم بأن تَرَكتم العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفَعَلتم الشرور والمَفاسد والأضرار فإنّ نتيجة ذلك حتماً أيضاً عَقْلَاً ومَنْطِقَاً ستكون لكم أيْ ستعود عليكم أولا ثم علي كل مَن حولكم بل وعلي كل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب سوء أقوالكم وأفعالكم، في حياتكم الدنيا حيث غضب وعذاب الله وعدم عوْنه وتوفيقه وحبه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده بسبب بُعدكم عنه وعن إسلامكم، ويَتَمَثّل ذلك العذاب والذي سيكون مُناسباً لسُوئكم في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيكون لكم في حياتكم الآخرة حتما ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد في نار جهنم.. فلم يَكُن أبداً ربك، أيّها المسلم وأيها الإنسان، الخالق الرحيم الكريم مُرَبِّيك وراعيك ورازقك ومُرْشدك من خلال دينه الإسلام لكلّ خيرٍ وسعادة في الداريْن لِيَظلم أيّ أحدٍ بأيّ ذرَّة ظلم ولن يَحْدُث حتماً مِثْل هذا وهو أعدل العادلين، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، لكنَّ الذين يُعَذّبون هم يَسْتَحِقّون العذاب تماما في الدنيا والآخرة، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم!.. وفي هذا تشجيع وتذكير لكل عاقل أن يُحسن الاختيار بكامل حرية إرادة عقله فيفعل دائما كل خيرٍ ويترك كل شرٍّ ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه، فكل فرد سيَتحمّل نتيجة عمله لا يتحمّلها عنه غيره، ولن ينتفع الله حتما بطاعة طائع ولن يُضَرّ بمعصية عاصي لأنه هو الغَنِيّ تامّ الغِنَيَ مالك الملك كامل الصفات فلا يحتاج لشيء.. ".. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)" أيْ فإذا أَتَيَ مَوْعِد الآخرة أيْ موعد المَرَّة الأخري غير السابقة أيْ موعد عقاب الإفساد الآخر غير السابق يا مَن تَسْتَحِقّون العقاب بالعذاب – أو موعد إحدي مَرَّات عقابكم والذي سيَتَكَرَّر مَا دُمْتُم تُكَرِّرُون فسادكم وتُصِرُّون عليه بلا توبة – لِيَسُوءوا وجوهكم أيْ أرْسَلنا وسَلّطنا عليكم مَرَّة أخري كما حَدَثَ سابقا بسبب فسادكم واستكباركم (كما ذُكِرَ في الآية قبل السابقة، برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) عباداً لنا أصحاب قَهْرٍ وفَتْكٍ وعَزْمٍ شديدٍ يكونوا أعداءً لكم ليَجعلوا آثار السوء والحزن ظاهرة على وجوهكم من شِدَّة ما تُلاقونه منهم من هزيمةٍ وقَهْرٍ وذِلّةٍ وإهانةٍ وتشريدٍ وقتلٍ ونحو هذا من كل سُوءٍ مُتْعِسٍ تَستحِقّونه، ولِيَدْخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مَرَّةٍ أيْ ولكي يدخلوا المسجد الأقْصَيَ كما دخلوه في المَرَّة التي جَاسُوا فيها خلال الديار، بما يعني مزيداً من هزيمتكم وإهانتكم، وليُتَبِّرُوا مَا عَلَوْ تَتْبيراً أيْ ولكي يُهْلِكوا ويُدَمِّروا كلّ مَا عَلَوْ عليه أيْ وقع تحت أيديهم وتَصَرُّفهم مِن أيِّ شيءٍ هلاكاً وتدميراً شديداً كاملا.. وكل ذلك يدلّ علي أنه إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها، فهذا وَعْدٌ مَفْعُولٌ حتماً من الله تعالي الذي لا يُخْلَف وَعْده مُطْلَقَا
ومعني "عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)" أيْ لعَلَّ ربكم أيها الناس جميعا – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أنْ يرحمكم إنْ تُبْتُمْ وأصْلَحْتُم أيْ عُدْتُم إليه فعَبَدْتُموه وحده واتّبعتم أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم لا ما يُخالفها، فقد عَلِمْتُم وتَأكّدتم أنه مِن سُنَّته الثابتة أيْ طريقته التي لا تَتَغَيَّر لا يُنْزِل عقاباً إلا بسبب ذنبٍ وشرٍّ وفسادٍ وإصرارٍ عليه ولا يَرْفعه ويَمنعه إلا بتوبةٍ وخيرٍ وصلاح، فهو الغفور الرحيم حيث سيُحْييكم بذلك دائماً في إطار رحمته التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالِك المُلْك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أمَلَاً لأحدٍ بشيءٍ ثم لا يُعطيه إيّاه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التحقق من البَشَر من أجل التشجيع والدفع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم وإسلامهم ودعوة الجميع له ودفاعهم عنه وتضحيتهم من أجله ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا.." أيْ وإنْ رجعتم بعد الخير إلي الشرّ وكنتم مُصِرِّين مُسْتَمِرِّين عليه بلا توبةٍ رجعنا إلي عقابكم بما يُناسب في دنياكم وأخراكم.. ".. وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)" أيْ وجعلنا النار – وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – بعذابها الذي لا يُوصَف للكافرين فِراشَاً كالحَصِير الذي يُفْرَش أو حَصْرَاً عليهم أيْ سِجْنَاً لهم يُحيطهم ولا يخرجون منه أبدا، والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)" أيْ إنَّ هذا القرآن العظيم الذي أوْحَيْناه لرسولنا الكريم محمد (ص) يرْشِد ويَدُلّ ويُوُصِل الناس جميعا للحالة وللطريقة وللمِلّة وللحياة التي هي أقوم أيْ أصْوَب وأعْدَل وأرْفَع وأكْمَل وأصْلَح الحالات والطرق والمِلَل والحَيَاوَات وأكثرها استقامة، لأنه يرشد لِمِلّة أيْ دين الإسلام الذي هو النظام المستقيم أيْ المُعْتَدِل الصحيح الصواب المُتَّجِه دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، نظام تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الداريْن، النظام ذو القِيمَة العالية، وذو القِيَم الأخلاقية السامية، التي تُصْلِح الناس وتُكْمِلهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو الدين القَيِّم، أيْ عظيم الشأن، الذي يَجعل كلّ مَن يتمسّك ويعمل بكل أخلاقه ذا قيمة وعِزَّة ومَكَانَة وسيادَة وسعادة في دنياه وأخراه، وهو الدين الذي تقوم به الحياة حيث يُنَظّم كل شئونها علي أكمل وَجْهٍ مُسْعِدٍ بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة وبدونه تضطرب الحياة وتَخْرَب وتَفْسَد وتَتْعَس، وبالجملة سيَجِد الناس فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة سيَجدون السعادة كلها في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)" أيْ ويُخْبِر ويُذَكّر دائماً بمَا يَسُرّ المُصَدِّقين بوجود الله وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره الذين لم يَكْتَفوا بالإيمان فقط بلا عملِ خيرٍ والذي هو لابُدَّ مُلَازِمٌ له تلقائياً ومن أهم ما يطلبه وبدونه لا قيمة لإيمانهم حتماً بل الذين يعملون الصالحات أيْ يعملون بكل أخلاق الإسلام فتكون كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وهو أنَّ لهم مِن ربهم أجراً كبيراً علي هذا أيْ عطاءً هائلاً عظيماً مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً لا يعلم وَصْفه إلا وَاهِبه الكريم الرحيم سبحانه، في دنياهم حيث تمام الخير والسعادة، ثم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في نعيم جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. إنه يُبَشّرهم دَوْمَاً لكي يكون هذا التبشير تشجيعا دائماً لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن
ومعني "وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)" أيْ وكذلك يُخْبِر ويُذَكّر ويُحَذّر أنَّ الذين لا يُصَدِّقون بوجود الآخرة حيث البَعْث للناس بالأجساد والأرواح بعد كَوْنهم ترابا والحساب والعقاب والجنة والنار وهم مُسْتَكْبِرون أيْ وحالهم أنهم مُتَعالُون علي أنَّ الله تعالي إلهٌ واحدٌ أيْ يَرْفضونه ولا يَقبلونه ولا يَستجيبون له أيْ مُستكبرون علي عبادته فلا يَتّبِعون دينه الإسلام ويُخالِفونه ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، وكل ذلك لأنهم قد أغلقوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)" أيْ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم أعْدَدْنا وجَهَّزْنا لهم حتماً عذاباً مُوجِعَاً مُهيناً مُتْعِساً ينتظرهم، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، بعضه في دنياهم، وتمامه بما لا يُوصَف في أخراهم، بما يناسب أفعالهم، بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب، ففي الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين مِثْلهم سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الذين يَتَأنّون ولا يَتَعَجَّلون ويَتَثَبَّتون في كل شئون حياتهم حيث بهذا يتحقّق الصواب دائما ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)" أيْ هذا تذكيرٌ للإنسان بالتّأَنّي والتّثَبُّت وعدم التّعَجُّل والاندفاع في كل أقواله وأعماله بكل شئون حياته حيث بهذا يتحقّق الصواب دائماً ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويَسعدون في الداريْن.. أيْ ويدعو الإنسان الله تعالي بالشرّ أحياناً عند الغضب أو الحزن أو ما شابه هذا من أحوالٍ استثنائيةٍ سيِّئةٍ على نفسه أو أهله أو ولده أو ماله أو علي غيره، كأنْ يقول مَثَلَاً يا رب أهلكني أو أمرضني أنا أو فلانا، دعاءه بالخير أيْ كدعائه ربه بالخير أيْ كما يدعو بالخير بقوله مثلاً ارزقني واسعدني واغفر لي ونحو هذا من أدعية الخير له ولغيره، وهذا بسبب تَعَجُّله واندفاعه وعدم تَأَنّيه وتَثَبُّته وإغلاق عقله بغضبه وحزنه ونحوه عن نتائج ذلك السيئة، ومن رحمة الله به أنه يستجيب له في دعائه بالخير لا الشرّ، لأنه يعلم منه عدم القَصْد إلى إرادة ذلك، ولو استجاب لدعائه بالشرّ هذا لَتَعِسَ وهَلَك هو وغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (11) من سورة يونس "وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من المعاني: ويدعو الإنسان الفاسِق والظالِم والجاهِل ومَن يُشْبِهه بالشرّ بأنْ يَطلب من ربه أنْ يُيَسِّر له فِعْل شَرٍّ مَا كسرقةٍ مثلاً أو قتلٍ أو نحوه، فهو يدعو لطَلَب حرامٍ كما يدعو لطلب الحلال، ومِن المُفْتَرَض عقلياً ومَنْطِقِيَّاً ألاَّ يَفعل ذلك مُطلقاً لأنه تعالي لن يستجيب حتماً لشرّ.. كذلك من المعاني: ويدعو الإنسان الكافر بالشرّ استهزاءً بالله وتكذيباً لوجوده وللقرآن أيْ يدعو بأنْ ينزل عليه العذاب بسرعة بسبب كفره كأنه يدعو بحصول خيرٍ سريعٍ له فإنْ لم ينزل هذا العذاب فالقرآن كاذب!! كما وَضَّح ذلك تعالي بقوله عن أمثال هؤلاء في الآية (32) من سورة الأنفال "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)" أيْ هذا بيانٌ للسبب الذى يَجعل الإنسان يَفعل ذلك من أجل التحذير منه والتذكير بتَجَنّبه وعدم فِعْله أبداً من خلال التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام التي تدعو إلي تمام التّأَنّي والتّثَبُّت وعدم التّعَجُّل والاندفاع وحُسْن دراسة الأمور والاستفادة بخبرات الآخرين وتعاونهم والصبر والتدريب علي كل ذلك.. أيْ وكان الإنسان كثير العَجَلَة أيْ يَسْتَعْجِل أيْ يَتَسَرَّع كثيراً في الأمور كلها فلا يَتَأَنّيَ ويَتَعَقّل ويَتَدَبَّر فيها وفي نتائجها، في أقواله وأفعاله بكل شئون حياته، وفي الحُكْم علي تصرّفات الآخرين، وفي غير هذا مِمَّا يُعَرِّضه للخطأ الكثير في حقّ نفسه وغيره، فيتعس الجميع بذلك حتماً في الداريْن.. لقد خَلَقَ الله تعالي الإنسان بصفةٍ فيه من ضِمْن صفاته في فطرته أيْ خِلْقته وهي الاستعداد للتّعَجُّل، أيْ للإسراع نحو تحقيق ما يريد، وهي صفة خيرٍ مِن حيث الأصل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك لكي يُسارِع الإنسان لفِعْل كل خيرٍ مُسْعِدٍ له ولغيره في الداريْن من خلال العمل بأخلاق الإسلام، لكنْ إنْ أساء استخدام هذه الصفة الطيّبة بالإسراع نحو كل شرّ، أو بالتّعَجُّل دون التّأَنّيِ والتَّعَمُّق في الأمور، وخالَف بذلك إسلامه، فَلْيَتَحَمَّل إذَن نتائج مُخَالَفته السيّئة المُتْعِسَة في دنياه ثم أخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (28) من سورة النساء ".. وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وبالتالي فكوْن الإنسان عجولاً لا يعني أنه سبحانه قد خَلَقه كذلك سيِّئا!! وهو الذي يقول "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين:4)، ولكنَّ الإنسان هو قطعاً الذي لم يُحْسِن استخدام عقله ويَتَعَلّم التّثَبُّت ويَتَدَرّب عليه ويكتسبه تدريجياً مع الوقت كما يكتسب أيّ أخلاقٍ ومهاراتٍ أخري مُفيدة مُسْعِدَة يريدها، كما يَنصحه الإسلام بذلك
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)" أيْ ومِن بعض مُعْجِزَاتنا ودلالاتنا التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أننا نحن الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَنا وتوكّل علينا وحدنا سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قدْرتنا علي كلّ شيءٍ وعِلْمنا به، أننا خَلَقْنا الليل والنهار بهَيْئاتهما وتَتَابعهما ونظامهما ودِقّتهما ومنافعهما آيتَيْن من آياتنا التي لا تُحْصَيَ أيْ مُعْجِزَتَيْن علامَتين عظيمتين واضِحتين دالّتَيْن علي وجودنا ووحدانيتنا وكمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكْمتنا وتَدْبيرنا ورحمتنا وإنعامنا وإحساننا وإسعادنا لخَلْقنا.. ".. فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.." أيْ فخَلَقْنا آية الليل مَمْحُوَّة الضوء أيْ مُظْلِمَة من أجل الراحة والسكون، وجعلنا آية النهار مُبْصِرَة أيْ مُضِيئة بضوء الشمس تُبْصَر أيْ تُرَيَ فيها الأشياء.. ".. لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.." أيْ لكي تطلبوا عطاءً ورزقاً ونعيماً وكرماً وخيراً ورِفْقَاً واسعاً عظيماً هائلاً زائداً مُتَزَايِدَاً مُتَنَامِيَاً مُتَنَوِّعَاً لا يُحْصَيَ مُحَقّقَاً لكم تمام الخير والسعادة في الداريْن من ربكم أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. إنَّ تَوَالِي الليل والنهار هو من رحمات الله بخَلْقه ومِن حبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهو من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركة الأرض والشمس والقمر والنجوم وما شابه هذا مِمَّا اعتاد الناس مشاهدته فلا يستشعرون قيمته مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحصي، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وبالتالي فعلي الناس أن يشكروا كل هذا بأن يستشعروه بعقولهم ويحمدوه بألسنتهم ويشكروه بأعمالهم بأن يُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لهم ولمَن حولهم في دنياهم وأخراهم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما، وبذلك سيَجِدونه حتماً دائماً باقِيَاً بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. ".. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.." أيْ وكذلك لكي تَتَحَقّق لكم نعمة أخري تستحِقّ التَّدَبُّر والشكر من الجميع، وهي أن تعرفوا حساب الساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنين والأعمار والمعاملات والتصرّفات، من خلال التّتَابُع المُنَظّم الدقيق بلا أيِّ خَلَلٍ لِلّليل والنهار مع حركة ظلال الأشياء وتَغَيُّر شكل ومكان القمر، ولو كان الزمان كله أسلوباً واحداً كنهارٍ أو ليلٍ فقط لَمَا عُرِفَ شيءٌ من ذلك ولَمَا تَحَقّقت مصالحكم وسعاداتكم.. ".. وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)" أيْ وكل شيءٍ مِن خُلُقٍ وتشريعٍ ونظامٍ وتوجيهٍ وتحذيرٍ يُصْلِح الناس ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فصَّلْناه تفصيلاً أيْ بَيَّنَّاه ووَضَّحْناه بَيَاناً وتوضيحاً دقيقاً شامِلاً كافِيَاً عميقاً واضحاً مُقْنِعاً حاسِماً قاطِعاً لا يَقبل أيّ جدال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (89) من سورة النحل ".. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)" أيْ وكل إنسان ألزمناه ما يَطِير منه أيْ ما يَرْتَفِع ويَظْهَر منه من كل عملٍ وقولٍ خيريّ وشَرِّيّ، أيْ جعلنا عمله مُلازِمَاً له ومُلاَصِقَاً كأنه قلادة في عنقه أيْ رقبته، يُلْزَم به ويُجازَيَ عليه، فكل عمله سواء أكان خيراً أم شرَاًّ صغيراً أم كبيراً سِرَّاً أم عَلَنَاً ليلاً أم نهاراً مُسَجَّلٌ عليه بكل دِقّةٍ وعدل ولا يُفارِقه حتى يُحاسَب به، بما يُفيد شِدَّة اللزوم والمُصَاحَبَة والارتباط بين الإنسان وعمله، وأنه لن يَتَعَدَّاه لغيره بمعني أنه لن يُحاسَب مُطْلَقَاً علي عمل غيره كما أنَّ غيره مِثْله لن يُحاسَب أبداً بعمله، بما يُؤَكّد تمام عدل الله تعالي ودِقّة حسابه علي كل شيءٍ مهما صغر وأنه لا تَزِر وازِرَة وِزْرَ أخري أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنب آخرٍ بل كلٌّ يَتَحَمَّل نتيجة عمله من خيرٍ أو شرّ.. فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم، يوم الحساب، بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)" أيْ ونخرج نحن الله له يوم القيامة يوم الحساب كتاباً قد سُجِّلت فيه كل أقواله وأعماله من خيرٍ وشرٍّ صغيرها وكبيرها سِرّها وعلانيتها في كل لحظات حياته وبكل دِقّةٍ وبلا أيِّ نسيانٍ لأيِّ شيءٍ أو زيادة أو ذرَّة ظلم، يلقاه أيْ يُقابِله ويَراه مَفتوحاً مَكْشُوفاً ظاهراً بحيث يستطيع قراءته ولا يمكنه إخفاء شيءٍ منه أو تجاهله أو المُغالَطة فيه أو تكذيبه حيث تظهر به كل الخفايا والأسرار ظهوراً لا يحتاج معه لجدالٍ ودفاعٍ وشهودٍ ونحو هذا
ومعني "اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)" أيْ ويُقالُ له اقرأ – حتي ولو لم يَكُن في الدنيا قارئاً فيقرأ بقُدْرَة الله تعالي حينها – كتابك الذي فيه كل أقوالك وأعمالك، تكفيك نفسك اليوم حاسِبَة ومُحْصِيَة عليك أيها الإنسان ما قلته وعملته، فتعرف ما عليها من جزاءٍ في مُقابِل عملها الخيريّ والشرِّيّ، لا يُراد منك شاهِدَاً مُحْصِيَاً عليك غيرها.. وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يُقال له حاسِب نفسك ليَعْرِف ما له وما عليه من الحقّ المُوجِب لثوابه وعقابه.. إنه بما أنَّ الإنسان يَلْقَيَ كتابه مَنشوراً فبالتالي لن يَطلب منه أحدٌ شاهداً علي أعماله أو حاسباً يَحسب له حسناته وسيئاته إذ سيكفي أن يكون هو وحده الشاهِد والحاسِب لأنَّ كل الأمور واضحة صادقة مُوْثُوقَة كاملة! وهو متأكّدٌ أنه لم ولن يُظْلَم في أيِّ شيءٍ حيث لم يُكْتَب عليه غير ما عمل لأنه تَذَكّر جميع ما كان منه من خلال هذا الكتاب الصادق الواضح المَوْثُوق الكامل، ثم اللَّه تعالي العدل العليم الخبير يتولّى جزاءه بعد أن ثبت الدليل من نفسه هو لا من غيره، فلا يكون بعدها مجال للعناد أو الجدال أو الكذب أو المُرَاوَغًة حيث الاعتراف سيِّد الأدِلّة، ومن يُحاوِل أن يُراوِغ أو يكذب فأعضاؤه شاهِدَةٌ عليه بالصدق بإنطاق الله خالقها لها كما يُؤَكّد ذلك بقوله "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النور:24)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُهْتَدِيَاً لا ضالّاً أيْ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك لا بعيداً عنه تارِكَاً له بعضه أو كله، وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، حيث سَتَجِد فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنِ اهْتَدَيَ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)" أيْ مَن أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واختار بكامل حرية إرادة عقله الهداية أيْ الرُّشد والصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة، أيْ اختار اتِّباع خالقه وإسلامه لأنه تأكّد بلا أيّ شكّ أنّ ذلك فيه تمام صلاحه وكماله وسعادته في دنياه وأخراه، أيْ مَن اسْتَرْشَدَ بكتاب الله وبالإسلام الذي فيه وسارَ خَلْفه وتمسّك بكلّ أخلاقه، فهو حَتْمَاً أول المُستفيدين ثم مَن حوله حيث سيكون له ولهم بحُسن التعامُل فيما بينهم السعادة كلها في الدنيا والآخرة، ولن يَنْفَعَ الله تعالي قطعا بأيّ شيءٍ لأنه مالِك المُلك كله الغنيّ عن كل شيء، ومَن لم يَهتد وضَلَّ أيْ ضاعَ وانحرفَ عنه وتَرَكَ العمل به واتَّبَعَ كلَّ شرٍّ وفسادٍ فعليه قطعا التعاسة كلها فيهما، ولن يَضُرَّ بالقطع الله تعالي بأيِّ شيء!!.. إنه مَن يَجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود بكل خير وسعادة لنفسه أولا ثم لكلّ مَن حوله بل ولكل المخلوقات ولكل الكوْن، في حياته وحياتهم الدنيا حيث تمام الرضا من الله والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرعاية والأمن والرزق والقوّة والنصر بسبب اجتهادهم جميعا في دوام ارتباطهم بربهم واستغفارهم من ذنوبهم وتمسّكهم بكلّ أخلاق إسلامهم، ثم في آخرتهم حيث مغفرة الذنوب أي مَحْوها كأنها لم تُفْعَل مع الأجر الكبير أي العطاء الهائل العظيم الخالد بلا نهاية المُتَمَثّل في درجات الجنات علي حسب أعمالهم وأقوالهم الحَسَنة حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي قلب بَشَر (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل، برجاء مراجعة الآية (97) من سورة النحل "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ثم الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ..").. والعكس صحيح قطعا، فمَن تَرَكَ العمل بأخلاق الإسلام كلها أو بعضها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فإنّ نتيجة ذلك حتما ستعود علي نفسه أولا ثم علي كل مَن حوله بل وعلي كل المخلوقات وكل الكوْن بكلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب سوء أقواله وأفعاله، في حياته الدنيا حيث غضب الله وعدم عوْنه وتوفيقه وحبه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره بسبب بُعده عن ربه وإسلامه، لأنَّ مَن يَزرع سوءاً لابُدّ أنْ يحصد سوءاً كما هو القانون الإلهيّ العادل الذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ويَتَمَثّل ذلك في درجةٍ ما من درجات القَلَق والتوتّر والضيق والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيكون له في حياته الآخرة حتما ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم وأخلد.. ".. وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.." أيْ ولا تَحمل حَامِلَة حِمْل أخري غيرها حيث الوِزْر يعني الحِمْل الثقيل، أيْ لا تَحمل شخصية حِمْل شخصية أخري، أيْ لا يَتَحَمَّل أحدٌ ذنبَ أحدٍ آخر ولكنْ كلّ فردٍ يَتَحَمَّل نتيجة عمله وقوله إنْ خيراً فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإن شرَّاً فله ما يُناسبه من الشرّ والتعاسة فيهما.. وهذا الجزء من الآية الكريمة هو مزيدٌ من التأكيد علي معني الجزء السابق لأهميته ليَظلَّ مُتَذَكَّرَاً، وهو بيانٌ لتمام عدل الله تعالي.. ".. وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من البيان لعدل الله تعالي ورحمته فهو أعدل العادِلين وهو أرْحَم الراحمين ولن يَظلم حتماً أيَّ خَلْقٍ مِن خَلْقِه بذَرَّة ظلمٍ أو أقلّ بأيِّ حالٍ من الأحوال وكيف ذلك وهو الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ ودائما تسبق غضبه وما خَلَق الخَلْقَ أصلاً إلا ليسعدهم بحياتهم ثم بنعيم جناته الذي لا يُوصَف في آخرتهم (برجاء مراجعة قصة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وما يُرْسِل رسله بوصاياه وتشريعاته في كتبه التي فيها دينه الإسلام إلا ليُنَظّم لهم بها كل شئون حياتهم علي أكمل وَجْهٍ مُسْعِدٍ وليس أبداً لتَقْييدهم أو إتعاسهم.. أيْ وليس مِن شأننا ولا حِكْمتنا ولا طريقتنا أن نكون مُعَذّبين لأحدٍ علي فِعْل سُوءٍ مَا بعذابٍ بعضه في الدنيا وتمامه في الآخرة، قَبْل أن، وإلاّ بعد أن، نرسل إليه مَبْعُوثَاً مِن طرفنا سواء أكان رسولاً يُوحَيَ إليه أم داعِيَاً إلينا مِن المسلمين مِن أتْباعه بَعْده معه كتاب فيه الإسلام يُبَيِّنه له ويُعَلّمه إيّاه ويُبَشِّره بالخير إنْ اتّبعه ويُنْذره بالشرّ إنْ خالَفه، فإنْ استجاب فله كل الخير والسعادة في دنياه وأخراه وإنْ لم يستجب بعد ذلك وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرَّ عليها بلا توبة فهو مُسْتَحِقٌّ حينها للعذاب بكل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسب سُوئه، لأنه لم يَعُد له أيّ عُذْر حيث قد أقيمت الحُجَّة عليه أيْ ثَبَت الدليل عليه إذ قد علم الخير من الشرّ والصواب من الخطأ والسعادة من التعاسة ولكنه اختار بكامل حرية إرادة عقله بلا أيِّ إكراهٍ ذلك السوء الذي هو فيه وكان من المُصِرِّين المُسْتَمِرِّين عليه.. هذا، ومَن لم يَصِله الإسلام لسببٍ من الأسباب فلن يُحاسَب في الداريْن إلا علي قَدْر ما يَعلم مِن خيرٍ أو شَرٍّ في عقله وفي فِطْرته وما فَعَلَه من هذا الخير أو الشرّ ويدخل درجة من درجات الجنة أو النار بما يُناسِب فِعْله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)" أيْ هذا تفصيلٌ للحُكْم السابق ذِكْره أنَّ الله تعالي لا يُعَذّب حتي يَبْعَثَ رسولاً وبيانٌ لسبب العذاب والهلاك ليكون تحذيراً شديداً لكل عاقلٍ ليَتَجَنّبه تماماً لكي لا يتعس في الداريْن بل يسعد فيهما.. أيْ وعندما نريد أنْ نُعْذَب ونُدَمِّر ونفْنِي بَلْدَة بأهلها وممتلكاتهم بسبب مُخَالَفتهم لدينهم الإسلام وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وإصرارهم علي ذلك لفتراتٍ بلا أيِّ توبةٍ رغم حُسْن وطول دعوتهم لله وللإسلام من رسلهم ودعاتهم المسلمين الكرام، ولفظ "أَرَدْنَا" يحتاج لبعض التفصيل حيث المقصود من بعض مَعانيه أنَّ مَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يريد أن يُضِلّه ويُعَذّبه ويُهْلِكه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي أراد واختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله وعن العذاب الذي سيَنْزِل به في الداريْن؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وكيف لكم ذلك والحال والواقع أنَّ مَن يُضْلِله الله هكذا بسبب حاله هذا فلن تجد له أيها المسلم طريقاً لهدايته بأيِّ حال من الأحوال (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..").. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا.." أيْ هذا بيانٌ وتوضيحٌ للسبب في إهلاكهم وهو أننا قد أَمَرْنا مُتْرَفِي هذه القرية بالطاعة من خلال رُسُلهم ودُعَاتهم – وحُذِفَ لفظ الطاعة ولم يُذْكَر لوضوحه وعِلْم القاريء به حتماً لأنه سبحانه لن يأمر قطعاً بالفِسْق، والمُتْرَفُون هم المُنْغَمِسون في كلّ تَرَفٍ أيْ في كلّ نعيمٍ زائدٍ يغلب عليه الفساد والشرّ والاستكبار الأمر الذي يكون كالأغشية علي عقولهم فلا يُحسنون استخدامها بسبب حرصهم الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا الرخيصة – فلم يَستجيبوا لأمْرِنا بالطاعة بل فَسَقوا فيها أيْ خَرَجُوا في القرية عن طاعتنا وأخلاق الإسلام ففَعَلُوا السوء.. هذا، وقد تَمَّ تَخْصِيص مُتْرَفِيها بالذكر مع أنَّ الأمر بالطاعة هو للجميع وذلك لأنهم في الغالب يكونون هم الزعماء والقادة ونحوهم فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تَبعاً لهم فى معظم الأحيان ولأنهم غالبا هم الأسْرَع للفُسُوق وللانغماس فيما هو حرام والأَقْدَر عليه.. هذا، وفي قراءة من قراءات القرآن الكريم يُقال "أمَّرْنا" أيْ جَعَلنا مُتْرَفيهم أمراء هذه القرية مُسَلّطِين عليها أيْ حُكّامها ومَسئوليها فلم يقوموا بواجبهم بإحسان إدارتها بالخير بإمكاناتهم الكثيرة بل كانوا أشرارا فأَدَّيَ ذلك إلي أن فَسَقوا فيها ونَشَروا فِسْقِهم ودعوا له وسَهَّلوه لغيرهم ولم يَنصحهم أهل القرية ويَمنعوهم.. ".. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)" أيْ فبالتالي ونتيجة لكل ذلك وبسببه، وَجَبَ وثَبَتَ وتَأَكَّدَ عليها العذاب أيْ علي كل أهلها فدَمَّرْناها ودَمَّرْناهم أيْ حَطّمْناها وأهْلَكْناهم تَدْمِيرَاً أيْ تَحْطِيمَاً وإهْلاكاً شديداً تاماً.. هذا، والمُرَاد بلفظ "القَوْل" هو ما تَوَعَّدهم الله به من عذابٍ في أقواله في كُتُبه وآخرها القرآن الكريم.. لقد كان هذا عذاب الدنيا أولا ثم لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وكثيراً أهلكنا من القرون المُكَذّبة لرسلها من بعد رسولنا الكريم نوح والسابقة للمُكَذّبين الحالِيِّين، فليست القرية السابق ذِكْرها التي فَسَقَ مُتْرَفوها هي وحدها التي أهلكناها بسبب إصرارها علي فِسْقها – والقَرْن هم مجموعة من الناس تعيش في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض – وقد سَمِعوا عنهم واشتهرَت أخبارهم وتناقلوها فيما بينهم ومَرُّوا علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة كعادٍ وثمود وغيرهم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم من المُكَذّبين الحالِيِّين، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، وقد خُصّ نوح (ص) بالذكْر لأنه أول رسول كذّبه قومه وآذوه وسَخِرُوا منه رغم حُسْن دعوته لهم وصبرهم علي أذاهم لفتراتٍ طويلةٍ بَلَغَتْ كما ذُكِرَ في القرآن ألف سنة إلا خمسين عاما فأهلكهم الله تعالى بالطوفان، بينما كانت القرون العشرة بين آدم ونوح كلها على الإسلام.. ".. وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ونزول العذاب في الداريْن، كما أنه تذكيرٌ لكل عاقلٍ أنْ يُحْسِنَ في حياته بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال عمله بكل أخلاق الإسلام حيث الله تعالي مُطّلِعٌ علي كل أقواله وأفعاله مُحَاسِبه عليها بما يُناسِب في دنياه وأخراه.. أيْ وكَفَيَ بربك كفاية تامَّة فلا احتياج أبداً حتماً بعَدْهَ لغيره يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – بمَعاصِي ومُخَالَفات وسَيِّئات وجرائم وشرور ومَفاسد وأخطاء عباده خبيراً أيْ عليما بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول، عن أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، وبصيراً أيْ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي سيُجازِي حتماً في الداريْن بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)" أيْ مَن كان يريد مِن الناس بأقواله وأفعاله، العاجِلَة أي الحياة العاجلة أيْ التى ينتهى كل شيءٍ فيها بعَجَلَة أيْ بسرعة والتي هي كلها بمَا فيها ومَن عليها سريعة الانتهاء والزوال، أيْ الحياة الدنيا ومُتَعها كالأموال وغيرها مِن كلّ أنواع الأرزاق، أيْ يعمل فيها ولها وحدها فقط وهي الزائلة ولا يريد الآخرة معها ولا يعمل لها وهي الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ، سواء أكان كافرا أيْ غير مُصَدِّقٍ بها أصلا أم مسلما لكنه ناسٍ لها بسبب ترْكه لأخلاق إسلامه بعضها أو كلها أو مَن يشبههم مِمَّن لا يُحْسِنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا كما وَصَّاهم ربهم وإسلامهم (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، بل قد يستمتعون بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً ويختارون معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها ويُفَضِّلونها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبهم للآخرة لأنهم قد نَسوها مُطْلَقَاً أو لا يُصَدِّقون بها مِن الأصل.. ".. عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.." أيْ سَرَّعْنَا لهذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا ما نشاء وليس ما يشاؤه غيرنا ولا ما يشاؤه هو أيْ ما نُريد تَسْريعه له مِن مُتَعِها وليست كلها فليس كل ما يَتَمَنّاه ويسعي إليه سيَجده كما أنَّ هذا العطاء العاجِل المُقَيَّد بمشيئتنا ليس أيضا لكل الناس وإنما هو لمَن نريد عطاءه منهم علي حسب إرادتنا أيْ حَكْمتنا بما يكون في مصلحة الخَلْق، فالأمر إذن كله لنا لا لغيرنا، فنزيد هذا مِن عطاءٍ مَا حسبما يَتّخِذ مِن أسباب، وننْقص من آخر عطاءاً ما، وهكذا، بما يُحَقّق مصالح ومنافع الجميع.. إنه سيَأخذ منها علي قَدْر جهوده وقد يأخذ أقلّ أو أكثر بقَدْر ما نشاء له برحمتنا ولمصلحته ولمَن حوله لعله يستفيق ويعود إلينا.. إنَّ أمثال هؤلاء المُسيئين لهم متاعٌ عاجِلٌ قليلٌ في الدنيا حيث يتركونه بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له، وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. ".. ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)" أيْ ثم بعد هذا المَتاع العاجِل القليل والذي لم ينتفع ولم يسعد به إلا قليلا لا يُذْكَر بل وأحيانا أو كثيراً يُعَذّب به لسوء استخدامه، وبسبب نسيانه الآخرة أو كفره بها وفِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار، جعلنا له أيْ أعْدَدْنا له جهنم يَصْلاها أيْ يَحترِق بنارها وتَشْوِي بلَهِيبها جلده ولحمه وأحشاءه بعذابها المُؤْلِم المُوجِع المُهِين، وحاله وواقِعه أنه سيكون مَذْمُومَاً أيْ وهو يُذَمّ من الله وخَلْقه ونفسه وملائكة العذاب بكل أنواع الذمّ أيْ يُذْكَر ويُوصَف بكل ما هو سَيّء مُهَانَاً مُحَقّرَاً مَغْضُوبَاً عليه مَكروها، وسيكون مَدْحُورَاً أيْ مُبْعَدَاً تماماً مَطروداً من رحمات وإسعادات ربه.. وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن أراد بقوله وعمله في الدنيا، أراد الآخرة، أي الحياة الآخرة يوم القيامة، أيْ يريد الأجر فيها وثَوابها ونَعيمها وسُرورها الذي لا يُوصَف في جناتها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر وكلّ خيرها مُتَزَايِد مُتَجَدِّد مُبْهِر.. ".. وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا.." أيْ وعمل لها عملها المطلوب لحُسْن الاستعداد للوصول لخَيْرِها والحصول عليه وهو أن يكون في حياته الدنيا مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقله في كلّ قولٍ وعملٍ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام، ولفظ "سَعَيَ" يُفيد أنه يتحرّك دَوْمَاً بلا تَوَقّفٍ تَحَرُّكَاً مُسْرِعَاً لها بكل هِمَّةٍ وقوّةٍ وعَزْمٍ ونشاط.. ".. وَهُوَ مُؤْمِنٌ.." أيْ بشَرْط أن يعمله وهو مؤمن أيْ مُصَدِّق بالله وبرسله وبكتبه وبالآخرة وبالحساب والعقاب والجنة والنار مُتَمَسِّك بأخلاق دينه الإسلام فكانت كل أقواله وأعماله ما استطاع في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعله تاب منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل.. ".. فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)" أيْ فهؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطيّبة الحَسَنَة الكريمة والذين فَعَلوا ذلك حتماً بكل تأكيدٍ كان سعيهم للدار الآخرة سَعْيَاً مَشْكُورَاً من الله تعالى شكراً كثيراً، وشُكْره لخَلْقه وهو الخالق الكريم الودود هو أن يقبله منهم ولا يَرْفضه أيْ لا يَرُدّه كأنْ لم يُعْمَل ويُعطيهم في مُقابِله مهما كان قليلاً أجوراً عظيمة بما يُناسب كرمه وعظمته ورحمته، في دنياهم أولا حيث السعادة التامّة ثم في أخراهم ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد
ومعني "كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رحمة الله تعالي وواسع عطائه وكرمه وكمال عِلْمه وقُدْرَته.. أيْ نحن نُمِدّ أيْ نُزَوِّدُ ونُعْطِي كُلَّاً مِن هؤلاء الذي يريدون العاجلة وهؤلاء الذي يريدون الآخرة من رزق ربك بكل أنواعه في الدنيا إذا اتّخذوا أسباب ذلك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وبالتالي فلن يَفُوتَ حتماً أحدٌ مِمَّن يريد الآخرة نصيبه في دنياه من رزقها الحلال ما دام يُحْسِن اتّخاذ أسبابه، وكذلك لن يفوت قطعا من يريد العاجلة رزقه فيها علي حسب أسبابه أيضا، بالمِقْدار الذي يشاؤه سبحانه بحكمته لتحقيق مصالح خَلْقه، من فضله وكرمه وإحسانه ورحمته.. ".. وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)" أي ولم يكن أبداً في أيِّ لَحْظَةٍ من اللحظات وحالٍ من الأحوال رزق ربك مَمْنُوعَاً من أيِّ أحد، ويستحيل ذلك، لا مِن مؤمنٍ ولا مِن كافر، لا في الدنيا، ولا في الآخرة للمؤمنين فقط، بسبب عظيم رحمته تعالي بكل خَلْقه، لعلهم يتذكّرون ذلك فيشكروه بأنْ يعبدوه وحده ويعملوا بأخلاق دينه الإسلام لمصلحتهم لا لمصلحته ليسعدوا تماماً في الداريْن، فالجميع يَنعمون في كل لحظات حياتهم بنِعَمه وخيراته التي لا تُحْصَيَ، لكنَّ مَدَدَه أيْ عطاءه المُتَوَاصِل الذي لا ينقطع لأهل الخير يكون مَشكوراً أيْ مُبَارَكَاً فيه أيْ يزيدهم من كل أنواع الخيرات ويستمتعون بها تمام الاستمتاع وينعمون برعايته وأمنه وحبه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره وتمام سعادتهم الدنيوية مع كل استبشارٍ بانتظارِ كل غفرانٍ وعطاءٍ أخرويّ بسبب مَدَدَه لهم بكل العوْن علي كل قولٍ وعملٍ خيْرِيٍّ يكون له أعظم الأجر في الداريْن، وكل ذلك بسبب تمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم وشكرهم له علي كل هذا، بينما المَدَد والعطاء لأهل الشرّ والذي هو دُنْيَوِيٌّ فقط لا أخرَوِيّ يَفتقد بالقطع لكل هذا الخير والأمن والسرور
ومعني "انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)" أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا، كيف مَيَّزْنا وزِدْنا بعض الناس علي بعضٍ في الدنيا فهُمْ في درجاتٍ مختلفة من الأحوال والأرزاق علي حسب مَا يبذلونه من جهودٍ وعلي حسب ما نشاؤه لهم بحِكْمتنا لتحقيق مصالح خَلْقنا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (32) من سورة الزخرف "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وإنَّ الآخرة درجاتها حتماً أكبر درجاتٍ وأكبر تمييزاً من درجات الدنيا لأنَّ درجاتها لا تُقارَن أبداً قطعاً بها وهي الزائلة يوماً مَا بينما الآخرة هي المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف، وبالتالي، وبعد أنْ عَلِمْتُم وتَأَكّدتم واقعياً أنَّ هناك درجات يُحْصَل عليها علي حسب الاجتهاد في الأعمال وأنَّ درجات الآخرة أعظم بلا مُقارَنَة، فإنَّ هذا حتماً لابُدَّ أنْ يَدْفع كل عاقلٍ مُوقِنٍ بالآخرة لأنْ يبذل أقْصَيَ ما يستطيع من جهدٍ في دنياه ليحصل علي أعلي درجةٍ في أخراه – إضافة قطعاً إلي ما سيَحْصُل عليه في دنياه بسبب حُسْن اجتهاده في اتّخاذ أسبابها – وذلك بأنْ يَسْتَحْضِر ويَسْتَصْحِب دائماً نوايا خيرٍ بعقله في كل قولٍ وعملٍ، ليكون مع النّبِيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. إنه لا مُقارَنَة أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال بين درجات الدنيا الزائلة ودرجات الآخرة الخالدة، ولا بين الدنيا والآخرة أصلا!!.. فمَن أراد لنفسه التفضيل الحقيقيّ الهائل فعليه بحُسْن الاستعداد للآخرة، بالعمل بكل أخلاق الإسلام، ليسعد تماماً فيها، وفي الدنيا، ففي ذلك فَلْيَتَنافِس المُتنافِسُون
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)" أيْ لا تجعل أيها الإنسان العاقل مع الله مَعْبُودَاً آخر في عبادتك أيْ طاعتك، أيْ لا تشرك مع الله إلاهاً آخر غيره فتعبد صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو نحوه، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. ".. فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)" أيْ فسَتَبْقَيَ وستَكُون بالتالي لو فَعَلْتَ ذلك مَذْمُومَاً أيْ في حالة ذَمٍّ دائمٍ مِن الله خالِقك ومِن نفسك بفطرتها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ومِن خَلْقه مِن أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة ومِن ملائكته، بكل أنواع الذمّ أيْ تُذْكَر وتُوصَف بكل ما هو سَيّء وتكون مُهَانَاً مُحَقّرَاً مَغْضُوبَاً عليك مَكروها، وستَبْقَيَ وستَكون كذلك مَخْذُولاً أيْ غيرَ منصورٍ ولا مُعَانٍ عند الاحتياج أيْ سيَتَخَلّي عنك دَوْمَاً مَن يُوالُونك أيْ مَن يَتَوَلّوْنَ أمرك أيْ الله تعالي والمؤمنون ولن يُعينك ربك أيْ لن يُيَسِّر لك أمورك ولن يُوَفّقك ويُسَدِّد خُطاك فيها لأنه سيَتْرُكك بالقطع إلى الذي عَبَدْته غيره وهو لا يملك لك ضَرَّاً ولا نَفْعَاً لأنَّ مالِك الضرّ والنفع هو الله وحده لا شريك له، وهذا الذمّ والخُذْلان سيَجعلك غالباً أو مُؤَكّدَاً تَقْعد عن الانطلاق في الحياة والسعادة التامَّة بها حيث ستَجِدك دائماً في كل قَلَقٍ وتَوَتُّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصِرَاعٍ واقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كل ألمٍ وعذابٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياك ثم سيكون لك قطعاً في أخراك ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأخلد، وهذا يُفيد ضِمْنَاً بمَفْهُوم المُخَالَفَة أنَّ الذي يعبد لله تعالي وحده ويعمل بأخلاق إسلامه لا غيرها يكون حتماً مَمْدُوحَاً غير مَذْمُومٍ مَنْصُورَاً غير مَخْذُولٍ سعيداً غير تعيسٍ بكل أحواله في دنياه وأخراه
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا أحسنتَ قَدْر استطاعتك إلي والديك – وإلي كلّ كبيرٍ – بكل أنواع الإحسان القوليّ والعمليّ
هذا، ومعني "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)" أيْ وحَكَمَ وأمَرَ وأَلْزَمَ وأَوْجَبَ ربك أيها الإنسان – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – بألا تعبدوا إلا إيّاه أيْ لا تُطيعوا غيره ولا تَتّبِعوا دِينَاً غير دينه الإسلام، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وبالوالدين إحسانا أيْ وأَمَرَ كذلك بأنْ تُحْسِنوا إلي الأب والأم قَدْر استطاعتكم بكل أنواع الإحسان القوليّ والعمليّ، لأنهما هما السبب المباشر لوجود الإنسان فى هذه الحياة وهما اللذان يعملان دائما بكل حبٍّ وحِرْصٍ لراحته وإسعاده فيجب عليه أن يقابلهما بشكرهما والاعتراف بجميلهما بحُسْن معاملتهما ليسعدوا جميعا في الداريْن.. والإحسان هو عمل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ وأداء كل الأقوال والأفعال بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام.. هذا، وقد جاء الأمر بالاحسان للوالدين بعد أمره بعبادته مباشرة للتنبيه علي عظيم أهميته.. ".. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا.." أيْ إنْ مَا – مَا للتأكيد – أيْ إذا مَا، يَبْلُغ أيْ يَصِل، عندك أىْ فى رعايتك وكفالتك ومسئوليتك من حيث العناية والخِدْمَة والإنفاق ونحو هذا، أيها الإنسان، سواء في بيتك أو في غيره، واحدٌ منهما أو الاثنين معا، سِنّ الكِبَر والضعف، والذي يحتاجان فيه لمزيدٍ مِن الإحسان واللطْف والرفْق.. ".. فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.." أيْ فإذا حَدَثَ هذا لا تَقُل لهما أبداً أفّ أو ما يُشبهه من قولٍ سيءٍّ أيْ إيَّاك ثم إيّاك أنْ تُسْمِعهما قولاً سيّئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أقلّ وأخَفّ درجات القول السييء والذي يَدُلّ على الضيق والتّمَلْمُل والكراهية والغضب منهما والاستثقال لتصرّفاتهما وعدم تَحَمّلها – وهذا يُفيد أيضاً ضِمْنَاً ألّا يُظْهِر لهما مُطْلَقَاً أيَّ تَعْبيرٍ عن ضيقٍ حتي بوجهه أو إشاراته فقط دون لسانه – ومِن باب أَوْلَيَ مَا هو أكثر إساءة مِن ذلك بأيِّ صورةٍ من الصور في كل أقوالك وأفعالك، لأنَّ هذا يُحْزِنهما حزناً شديداً تُعَاقَبُ عليه من ربك بما يُناسب في الداريْن حيث سيُقارِنان بين رحمتهما لك صغيراً ضعيفاً واحتضانهما إيَّاك وسعادتهما برعايتك بينما أنت الآن تُجازيهم علي ذلك بالسوء والتعاسة بهما ورغبة التّخَلّص منهما!! خاصَّة وأنه بالفِعْل قد يَصْدُر منهما أحياناً أو كثيراً في سِنِّ الكِبَر مَا يُسيء بسبب ضعف العقل والصحة ونحو هذا.. ".. وَلَا تَنْهَرْهُمَا.." أيْ وكذلك لا تَنْهَهُما وتَمْنَعهما بغِلْظَةٍ بقولٍ أو فِعْلٍ قبيحٍ عمَّا يفعلانه من أفعالٍ ويقولانه من أقوالٍ لا تُعْجبك، لأنَّ هذا يُخالِف حتماً الإحسان المأمور به، وسيكون لك العقاب المُناسِب في دنياك وأخراك.. هذا، وإنْ كان منهما ما يستحقّ النّهْي لا يَنْهَيَ صَرَاحَة بل يَتَلَطّف في القول مُنَبِّهَاً إلى ما يُريد من غير تصريحٍ بالنهي، فهما لا يتحمَّلان أن يُنْهَرَا وإنما يحتاجان للكلمة الطيِّبَة والرعاية الحَسَنَة.. ".. وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)" أيْ وقل لهما دائماً بَدَلَ التأفيف والنّهْر واللّوْم ونحوه قولاً فيه تكريمٌ لهما حَسَنَاً جميلاً لطيفاً لَيِّنَاً عطوفاً مُحَبَّبَاً مُطَمْئِنَاً مُبَشّرَاً مُفْيداً مُسْعِدَاً لهما يُؤَدِّي دَوْمَاً لتمام بِرِّهما واحترامهما وإسعادهما والإحسان إليهما – وذلك القول والفِعْل الكريم شَكْله يختلف باختلاف الأشخاص والظروف والأحوال والأماكن والأزْمِنَة – لتنال عظيم الأجر حيث كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياك قبل أخراك
ومعني "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)" أيْ وأيضا أنْزِل لهما جناح اللّيِن من شِدَّة الرحمة بهما كما يُنْزِل الطائر جناحه لصغاره رحمة وحماية ورعاية ودفئاً لهم وحبّاً فيهم وحرصاً عليهم، وهو تعبيرٌ يُقْصَد به معاملتهما – والناس جميعا ما داموا غير مُعْتَدِين علي الإسلام والمسلمين – بتمام الرحمة واللّيِن واللطف والحب والرّفْق والتواضُع والتسامُح والتّصافِي والتعاون والتكامُل وبالجملة بكل حُسْن الخُلُق الذي يُوصِي به الإسلام في كل قولٍ وعملٍ في كل شئون الحياة، ليسعد الجميع بذلك في دنياهم وأخراهم.. ".. وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)" أيْ وقل داعِيَاً لهما طوال حياتك ربّ ارحمهما برحمتك الواسعة أحياءً وأمواتاً أيْ أَحْيِهِما دائماً في إطار رحمتك التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، مِثْلَمَا ولأنهما رَحماني حين رَبَّيانِى صغيراً لا أملك ولا أعرف شيئاً حيث قد اعْتَنَيا بي تمام العِنايَة وحفظوني تمام الحِفْظ وأعْطوني الأمان والحب والتوجيه والإنفاق حتي وَصَلْت إلي ما أنا عليه الآن، فارحمهما وفاءً بوَعْدِك للراحمين الذين وَعَدْتَ برحمتهم في الداريْن، فأنت وحدك القادر علي مَثُوبتهما ومُكافئتهما فيهما فمَهْمَا عملت فلن أستطيع مُكافأتهما ووفائهما بحَقّهما مِثْلك.. وفي هذا مزيدٌ من التذكير للإنسان بحال ضعفه وطفولته عندما كان بحاجةٍ للرعاية والحنان ليكون ذلك مزيداً من الدَّفْع والتشجيع له لِيُحْسِن إليهما لَمَّا يَكْبَر ويَقْوَيَ خاصَّة عند كِبَرِهما وضَعْفِهما
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُخلصين المُحسنين في كل أقوالهم وأفعالهم بكل شئون حياتهم (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْماً من التائبين مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل
هذا، ومعني "رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)" أيْ ربكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أعلم بالقطع منكم ولا يُقارَن حتماً الخالق وعلمه بخَلْقِه وعلمهم، بما في نفوسكم أي عقولكم وأفكاركم مِن خيرٍ أو شَرّ، لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ما بداخل كل خَلْقه مِمَّا حتي لا يعلموه هم عن ذواتهم، ويعلم تماما ما يقولونه ويقصدونه بداخل عقولهم ويفعلونه من أيِّ خيرٍ أو شرٍّ سواء في الظاهر أمام الآخرين أم بمفردهم، في السرّ والعَلَن، ومنه حتماً مَا يخفونه في نفوسهم مِن قَصْد إحسانٍ بوالديهم أو إساءةٍ إليهم، ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته، وسيُحاسِبهم بما يُناسِب في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة.. فليُحْسِن العاقل إذَن كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام فيما يُعْلِن وما يُخْفِي ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)" أيْ فإنْ تكونوا طائعين لله عامِلين بأخلاق الإسلام في كل أقوالكم وأفعالكم بكل شئون حياتكم ومِن الذين يُصْلِحون ويُسْعِدون في الأرض ولا يُفسدون ويُتعسون فيها، ثم كان منكم شَرٌّ مَا كأيِّ بَشَرٍ مُعَرَّض للوقوع في الخطأ لسببٍ من الأسباب، ثم تُبْتُم إلى الله، فإنه يغفر لكم، لأنه كان دائماً للأوَّابين، أيْ للرجَّاعِين إليه وإلي طاعته والإسلام بعد معصيته – جَمْع أوَّاب وهو الكثير الأَوْبَة أيْ العَوْدَة والرجوع إلى الله في كل الأوقات المُسَارِع دَوْمَاً بالتوبة فَوْر فِعْل أيِّ شرّ – كان قَبْل خَلْق الخَلْق ولازال وسيَستمرّ قطعاً سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه، غفوراً أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة، والتوبة تكون بالندم بالعقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة وبالاستغفار باللسان وَبِرَدِّ الحقوق إلي أصحابها إنْ كان الذنب في حقّ آخرين.. إنَّ الأوابين يُسارِعون بالتوبة حتي يعودوا لسعادتهم التامَّة بأقْصَيَ سرعةٍ مُمْكِنَةٍ دون أيِّ تَعْكيرٍ بمراراتِ وعذابات وكآبات وتعاسات وأضرار وشرور المَفاسد، وهم يجتهدون مَا أمكن في عدم الوقوع في أيِّ شَرٍّ مستقبلاً حتي لا يُعانوا تعاساته.. إنَّ الآية الكريمة تشمل كذلك بالقطع الغُفْران لمَن كان صالحاً مع والديه مُحْسِنَاً إليهما ثم صَدَر منه بعض السيئات معهما فتاب منها فإنَّ الله يغفر له حتما
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يحفظون كل حقوق الآخرين، لكل الناس، علي اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم، بل لكل المخلوقات! لأنَّ حفظ الحقوق ينشر الأمن والطمأنينة بنشر العدل بين الجميع وبالتالي تَسعد حياتهم ثم آخرتهم، بينما إضاعة حقوق الغير والتفريط فيها والاستهانة بها، استضعافا لهم ومُرَاوَغَة منهم وتعاليا عليهم يؤدي حتما إلي الأحقاد والمشاحنات والثأر والانتقام وما شابه هذا مِمَّا يُفقِد المجتمع أمَانَه وعدله وتعاونه ويُتْعِس الجميع في دنياهم ثم أخراهم
هذا، ومعني "وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)" أيْ وأَعْطِ أيها المسلم – مع إحسانك لوالديك – صاحب القَرَابة لك حَقّه وكذلك حقّ المسكين أيْ المُحتاج لكلّ أشكال العوْن وأيضا حقّ ابن السبيل وهو الغريب المسافر وكأنه ابن الطريق الذي لا مأوي له ولا مال حتي ولو كان غنيا في بلده لأنه في هذه الحالة ليس معه ما يكفيه، والحقوق تشمل كل أنواعها المادِّيَّة والمَعْنَوِيَّة والإنسانية ونحوها شاملة كل أنواع البِرّ والرعاية والسؤال والعوْن والإنفاق من الأموال والجهود والأفكار والأوقات وغيرها، قَدْر الاستطاعة دون مَشَقّة، وعلي قَدْر الاحتياج، بتَوَسُّطٍ واعتدال، والأمر يختلف تقديره من شخصٍ لآخر ومن مَوْقِفٍ لغيره، والمسلم العامل بكل أخلاق إسلامه يُحْسِن التقدير دائما.. ".. وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)" أيْ ولا تُسْرِف إسرافاً كثيراً مُسِيئاً بأيِّ شَكْلٍ من الأشكال وحالٍ من الأحوال، أيْ ولا تُجَاوِز الحَدَّ المَعْقُول المُعْتَاد المُتَعَارَف عليه عند أصحاب العقول الصحيحة في كل شئون حياتك، سواء أكان في الأكل أم الشرب أم اللبس أم العمل أم العلم أم غيره من أيِّ شيء، لأنَّ الإسراف مُضِرٌّ مُتْعِسٌ حتماً للصحة والمال والفكر والعلاقات الإنسانية ونحو ذلك.. هذا، ومن الإسراف أيضا الإنفاق في غير مَوْضِعه وفي غير مَنْفَعَةٍ وفيما لا يُحْتَاج إليه، مع مراعاة أنَّ الأمر تقديريّ يَختلف مِن مَوْقِفٍ لآخرٍ ومِن شخصٍ لغيره.. كذلك من المعاني لا تُسْرِف بإعطاء أصحاب الحقوق زيادة عن حقّهم تجعلك أنت مُحتاجاً ولكن عليك بالتّوَازُن.. هذا، وأشدّ أنواع الإسراف وأكثره ضَرَرَاً وتعاسة في الداريْن هو تَجَاوُز حدّ الحلال إلي الحرام أيْ إلي الشّرِّ والضّرَر مهما كان الإنفاق قليلا لأنه في غير حقّ
ومعني "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)" أيْ ولا تُبَذّر تبذيراً، أبداً، لأنَّ المُبَذّرين أيْ المُسْرِفين كانوا حتماً هم أشْبَاه الشياطين في الشّرِّ والفساد والمَعْصِيَة والصفات السيئة، والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل.. وكان الشيطان، أيْ وهو دائماً، وكذلك كلّ مَن يَتَشَبَّه به، لخالقه كفوراً أيْ كثير الكفر لِنِعَم الله وعدم الاعتراف بها وشكرها وحُسْن استخدامها بل قد يكفر به أصلاً أيْ لا يُصَدِّق بل يُكَذّب بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَسْتَكْبِر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظره.. وفي هذا تحذيرٌ وتَنْفِيرٌ شديدٌ من التبذير، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يُبَذّر مُطْلَقَاً حتي لا يَتَشَبَّه بالشياطين فيكون مصيره مثلهم حيث تعاستيّ الدنيا والآخرة
ومعني "وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)" أيْ وإنْ مَا – مَا للتأكيد – أيْ إذا مَا، تُعْرِض عنهم أيها المسلم أيْ تَتركهم ولا تُعطيهم من مالٍ أو غيره، هؤلاء الذين أوْصَيْناك بإيتائهم حقوقهم من ذوي القربي والمساكين وابن السبيل ومَن يُشبههم لعدم وجود ما تعطيهم منه حاليا طلباً لأرزاقٍ تَرْجوها أيْ تَتَمَنَّاها وتَنتظرها من عند ربك فتُعطيهم منها، فقل لهم حينها في هذه الحالة قولاً مَيْسُورَاً أيْ سَهْلاً لَيِّنَاً لطيفاً رفيقاً عَطُوفاً طيِّبَاً حَسَنَاً جميلاً مُحَبَّبَاً مُطَمْئِنَاً مُبَشّرَاً مُفْيداً مُسْعِدَاً يُؤَدِّي لتمام البِرِّ والاحترام والتكريم والتَيْسِير والإحسان والإسعاد – وذلك القول المَيْسُور شَكْله يختلف باختلاف الأشخاص والظروف والأحوال والأماكن والأزْمِنَة – لتنال عظيم الأجر حيث كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياك قبل أخراك إذ يَدُلّ على اهتمامك بشأنهم ويُدْخِل التيسير والسرور والأمل عليهم في عطائهم مستقبلا عند مَجيء أرزاق الله إليك وإليهم كأنْ تقول لهم مثلاً ليس عندى اليوم ما أقدمه لكم وإنْ يرزقنى الله بشيءٍ فسأجعل لكم نصيباً منه وكأنْ تدعو لك ولهم باليُسْر وسعَة الأرزاق.. كذلك من معاني الآية الكريمة أنك أحيانا أيها المسلم قد تُعْرِض أيْ تَمْتَنِع عن إعطاء مَن يَغْلِب علي ظنك أنه سيُنْفِق مَا سيَأخذه في شَرٍّ وضَرَرٍ عليه وعلي غيره – أو أنه كاذب لا يستحقّ – فيكون امتناعك رجاءً وطلباً لرحمة الله به ألا يُعَذّبه في الداريْن بسبب ما سيَفعله من الشرور والمَفاسد والأضرار لو أخَذَ مَا أخَذ، فقل لهم كذلك قولاً مَيْسُورَاً، لتُثاب علي هذا أيضا
ومعني "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)" أيْ هذا إرشادٌ للمسلم بالتّوَسُّط والاعتدال عند إنفاقه الخَيْرِيِّ بكل أنواعه الماليّ والفكريّ وغيره، ومَنْعٌ له عن البُخْل أو التبذير بأيِّ وقتٍ وحالٍ من الأحوال.. أيْ ولا تَجعل أبداً أيها المسلم يدك مَرْبُوطَة إلي رقبتك بأَرْبِطَةٍ بحيث لا تستطيع تحريكها والتّصَرُّف بها والمقصود لا تُمْسِك يدك مُطْلَقَاً عن الإنفاق في كل خيرٍ مُضَيِّقًاً على نفسك وغيرك فتكون بَخِيلَاً أيْ حَرِيصَاً حِرْصَاً شديداً علي ما معك مِن نِعَم الله عليك والتي لا تُحْصَيَ فلا تُنفق منها شيئا مطلقا، لغيرك أو حتي لنفسك! أو تُنفق الشيء القليل الخفيف التَّافِه ولا تُعطي للمُسْتَحِقّين حقوقهم المفروضة عليك نحوهم من زكاةٍ وغيرها بل وتأمر غيرك بهذا من شدَّة بُخْلك وشَرِّك! وتُخفي ما أعطاك الله من عطائه الزائد فلا تظهره ولا تنفع نفسك وغيرك به سواء أكان عطاءً مالياً أم فكرياً أم علمياً أم غيره، فاحْذَر البُخْل حَذَرَاً شديداً لأنه ليس خيراً، بل هو حتما شَرٌّ، للبخيل ولمَن حوله، في دنياهم أولا حيث بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتشاحُن والحِقْد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في الداريْن، ثم هو بالقطع شَرٌّ له في أخراه، يوم القيامة، حيث سيُطَوَّق أيْ سيُحَاط بما بَخِل به ليكون حول رقبته كطوقٍ من نارٍ يُعَذّب به بما يُناسب أضراره التي فَعَلها بسبب بُخْله وسيُلازِمه هذا العذاب كما يُلازِم الطوق الرقبة كما يقول تعالي في الآية (180) من سورة آل عمران "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.." (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ.." أيْ وكذلك في المُقَابِل لا تَفْتحها كل الفَتْح فتُصْبَح لا تُمْسِك شيئاً يُوضَع فيها سواء أكان قليلاً أم كثيراً والمقصود لا تُسْرِف في الإنفاق فتكون مُبَذّرَاً (برجاء مراجعة معني الإسراف في الآية (26) ".. وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا").. ".. فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)" أيْ فسَتَبْقَيَ وستَكُون بالتالي – لو فَعَلْتَ ذلك أي كنتَ بَخِيلَاً أو مُبَذّرَاً – مَلُومَاً أيْ في حالة لَوْمٍ دائمٍ أيْ مُؤَاخَذَةٍ وتَأْنِيبٍ وعِتابٍ وعدمِ رضا وذمّ، مِن الله خالِقك ومِن نفسك ومِن خَلْقه مِن أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة ومِن ملائكته، بكل أنواع الذمّ أيْ تُذْكَر وتُوصَف بكل ما هو سَيّء وتكون مُهَانَاً مُحَقّرَاً مَغْضُوبَاً عليك مَكروها، وستَبْقَيَ وستَكون كذلك مَحْسُورَاً أيْ في حالة حَسْرَةٍ ونَدَمٍ وتَعَبٍ، وذلك اللّوْم والنَّدَم والتَّعَب والنّكَد والشقاء سيكون قَطْعَاً في الداريْن، إنْ لم تَنْتَبِه وتَتُبْ وتَتَوَسَّط وتَعْتَدِل، فحينها حتماً تسعد فيهما
ومعني "إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)" أيْ إنَّ ربك أيها الإنسان العاقل – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – هو وحده الخالق للكوْن، وهو وحده الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه، فهو يُعِين بكل العَوْن مَن يستعين به، ويُيَسِّر له الأسباب، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقه يُعينوه علي ما يريد تحقيقه، وهو سبحانه يُضَيِّق ويُوَسِّع في الأرزاق حسبما يراه في مصلحة خَلْقه وسعادتهم، وما دام الأمر كذلك فلا يَمْنَع أحدٌ منكم الإنفاق مِمَّا وَسَّعَ به عليه حتي لا يُعاقَب بتبديل أحواله من السّعَة إلى الضّيِق، ولا تشركوا معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مما لا ينفعكم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنكم أيّ ضررٍ كما ترون واقعيا أمامكم حيث أنتم أقوي منها؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة؟! ولكنكم يا مَن تعبدون غيره قد عَطَّلتم عقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه، حتي ولو كان مُشركا أو كافرا! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات.. فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم، ولذا قال ".. إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)" أيْ لأنَّه كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان خبيراً بخَلْقه أيْ عليماً بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول، عن أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، وبصيراً أيْ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي فهو يعلم حتماً مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله، ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية (26) من سورة الرعد، لمزيدٍ مِن الشرح والتفصيل)، فالرزق ليس مالا فقط، وإنما إضافة للمال الصحة والعافية والأمن والأمان وراحة البال والمَأكل والمَشرب والمَلْبَس والمَرْكَب والمَسْكَن الطيِّب الهنيء والأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء الأمناء الصالحين الخَيِّرِين وبالجملة كل ما يُسْعِد الإنسان ومَن حوله في الداريْن.. إنه الكريم الرحيم يرزق بغير حساب، في الدنيا أولا، ثم في الآخرة بما لا يُوصَف ولا يُقَارَن لمَن يؤمنون بها، فأرزاقه تكون بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِسابها وحَصرها وتقديرها فهي هائلة عظيمة وفيرة لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّلها أو يعلم مقدارها إلا مَن أعطاها سبحانه الكريم الوَهَّاب، فهو يُعْطِي بلا خشيةٍ من انتهاء العطاء ولا يُحاسبه أيضا أيّ أحدٍ فالأملاك كلها ملكه فهو مالِك المُلْك كله
ومعني "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)" أيْ وإيَّاكم أن تقتلوا أولادكم خَوْفَ فقرٍ حادِثٍ بكم أو تخافون حُدُوثه مستقبلا – أو لأيِّ سببٍ غيره بالقطع – فلستم أنتم الرازقين بل نحن الذين نرزقهم ونرزقكم، فالأرزاق كلها بيد خالقكم الكريم يُعطيها لخَلْقه حسب جهودهم وسَعْيهم وإحسانهم اتّخاذ أسباب ذلك وتوكّلهم عليه واستعانتهم به، لكن بمشيئته أيْ بتقديره أيْ بحكمته أيْ بما يُحَقّق مصالح الخَلْق جميعا، فهو العالِم بكل علمٍ دقيقٍ عن كل شيءٍ عنهم وهو البصير الذي يَرَيَ كل شيء، ولذا فهو يزيد هذا مِن رزقٍ مَا ويمنعه من رزقٍ آخر ويزيده لغيره وهكذا بما يُحَقّق المنافع للجميع، فلا يَتَشَكّك أحدٌ في رزق ربه من كل أنواع الأرزاق في العقل والفكر والصحة والمناصب والممتلكات والعلاقات وغير ذلك، بل يَسْعَيَ ويُحسن اتّخاذ الأسباب ويتوكّل عليه ويستعين دَوْمَاً به.. ".. إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي تحريم قَتْلهم.. أيْ لأنَّ قَتْلَهم كان بالقطع في دين الله الذي هو الإسلام إثماً عظيماً، كبيرة من الكبائر، خطأ من الأخطاء الشديدة، له عقابه العظيم في الدنيا حيث كل تعاسة ثم مَا هو أعظم عذابا وشقاء في الآخرة، لأنه يُؤَدِّي إلي قَطْع النسل وتخريب البَشَريَّة وإضعافها وإتعاسها كما أنَّ فيه انتشاراً للقَسْوَة وعدم الرحمة بالخَلْق ثم هو سوء ظنٍّ بالله تعالي كأنه شكٌّ في قُدْرتَه علي رِزْق ورعاية خَلْقه! وكلها مُخَالَفات كبيرة لِمَا أَمَرَ به سبحانه في الإسلام تستحقّ العقاب في الداريْن
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ لا تَقْرَب الزنا مُطْلَقَاً لأنه شديد الأضرار والتعاسات
هذا، ومعني "وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)" أيْ وعليكم أيها المسلمون وأيها العُقَلاء أن تَبتعدوا بُعْداً تامّاً عن الزنا – وهو إدخال العضو الذَكَرِيّ في عضو الأنثي بغير زواج – أقْصَيَ ما يُمْكِن بأنْ تَتْرُكوا أيّ سببٍ يُؤَدّي إليه لضمان الأمن من الوقوع فيه وذلك بالبُعْد تماماً عن مُقَدِّماته والتي هي أيضا مُحَرَّمة لضَرَرها كما هو مُحَرَّم لأنها تُؤَدِّي لحرامٍ كالنظر للنساء أو صُوَرِهِنّ بقَصْد إثارة الشهوة الجنسية أو القُبْلَة والمُلامَسَة والكلام حول ما ليس بحلالٍ من هذه الأمور ونحو هذا، وذلك لأنه أيْ الزنا كان بالقطع في دين الله الذي هو الإسلام فاحشة أيْ شرَّاً عظيمَ الضرَرِ علي الذات والغَيْر شديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره، وسَاءَ سبيلاً أيْ وطريقاً سَيِّئَاً أيْ ومَا أَسْوَأه طريقاً لمَن يَسِير فيه إذ يُؤَدِّي لأضرارٍ اجتماعيةٍ شديدةٍ مُتْعِسَةٍ في الدنيا أولاً كتفككٍ في المجتمع حيث لا توجد أسرة وكتَشاحُنٍ وتَباغُضٍ وانتقامٍ واختلاطٍ للأنساب واختلالٍ للمواريث وانتشارٍ لأطفالٍ بغَيْر أبويْن وبدون رعاية فينشأون حاقِدين علي مَن حولهم مُنْتَقِمين منهم بكل صُوَرِ الانتقام فتَنْتشر الجرائم إضافة للمَفاسد والأمراض ويَضعف الإنتاج ويَتعس الجميع، ثم في الآخرة سيكون قطعاً لمَن يَفعل ذلك في مُقابِله مَا هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتَمّ وأعظم
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون القتل والاعتداء علي الآخرين أو إصابتهم أشدّ التحريم، حيث بهذا يَأمن الناس جميعا مسلمين وغيرهم علي أرواحهم ودمائهم وممتلكاتهم فيسعدون، وبغير ذلك تَعُمّ الفَوْضَيَ وينتشر سفك الدماء والثأر والانتقام والخوف ويفقد البَشَر أمانهم ويَتعسون
هذا، ومعني "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)" أيْ وعليكم أيها المسلمون وأيها الناس وأيها العُقَلاء أن لا تَقْتلوا أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال النفس التي حَرَّم الله قتلها، أيّ نفسٍ إنسانيةٍ من نفوس بني آدم مهما كانت مؤمنة أو غير مؤمنة كبيرة أو صغيرة مُذَكّرة أو مُؤَنّثَة قوية أو ضعيفة غنية أو فقيرة، إلا إذا كان القتل بالحقّ أيْ بالعدل أيْ تنفيذاً لحُكْمِ قضاءٍ عادلٍ أو بقتل محاربين مُعْتَدِين بالقتال علي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. فإنْ قتلتم نفساً بغير حقّ فقد ارتكبتم ما حَرَّم ربكم عليكم وستُعَاقَبُون بما يُناسِب في الداريْن.. ".. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا.." أيْ ومَن قُتِل بغير حقّ فقد جعلنا لمَن يَتَوَلّيَ أموره بعد مَقْتله أيْ وَرَثته سلطاناً أيْ نُفُوذَاً وتَسَلّطَاً وسُلْطَة وقوّة وحُجَّة علي القاتل من خلال أن يَطلب هذا الوليّ لأمره من القاضي القِصاص أيْ قَتْل قاتله أو أنْ يطلب منه الدِّيَة إنْ كان يريد ذلك ورآه أصْلَح بلا إكراهٍ من أحدٍ عليها وهي مبلغ من المال يدفعه القاتل كتعويضٍ أو أن يعفو عن جزءٍ منها أو كلها ويسامحه إنْ رأيَ في ذلك مصلحة لعائلته وللمجتمع ككلّ وله من الله تعالي أجره العظيم حيث كل خيرٍ في دنياه وأخراه في مُقابِل عفوه عن قاتله ومراعاته للمَصالِح.. ".. فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.." أيْ وبالتالي، وبما أنَّ الله تعالي قد أعطيَ هذا الوَلِيّ في شَرْعه الإسلام سلطاناً، فلا يُسْرِف في القتل إذَن فيكون بذلك ظالِمَاً غير عادلٍ، أيْ لا يزيد فيه بمعني أن يقتل معه غيره وهو بريء مثلاً أو أنْ يُمَثّل بجُثّته أيْ يُشَوِّهها بعد قَتْله أو يَقتل غير القاتل أو ما شابه هذا من صُوَر الإسراف أيْ التّجَاوُز لِمَا حَدَّده وأحَلّه الإسلام.. ".. إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)" أيْ فلا يُسْرِف هذا الوَلِيّ في القتل لأنه كان بالقطع في دين الله الذي هو الإسلام منصوراً أيْ لأنَّ الله تعالى قد نَصَرَه وأنْصَفه وأعَزّه وأعانه عن طريق ما شَرَعه له من سلطانٍ عظيمٍ يَتَمَثّل في حقّ مُطالَبته بالقصاص من القاتل أو بأخذ الدِّيَة منه مع وقوف الحاكم وكل مسئولٍ وعموم الناس بجانبه وعَوْنهم ونصرهم له حتى يأخذ حقه كاملا دون أن يمنعه أحد، فلا يَصِحّ منه بعد ذلك أن يتجاوَز الحَدّ فيُسْرِف في القتل.. كذلك من المعاني أنَّ الوَلِيّ لا يُسْرِف في القتل لأنه أيْ المَقْتُول ظلماً والذي هو وَلِيّه قد نَصَرَه الله تعالي في الدنيا بتشريع القِصاص والدِّيَة من أجله حتى لا يضيع دمه ونَصَره فى الآخرة بالثواب العظيم الذى يستحِقّه وما دام الأمر كذلك فلا يَصِحّ منه أنْ يُسْرِف (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (179) من سورة البقرة "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من كافِلِي الأيتام المُصْلِحِين لأحوالهم، الذين يَرُدُّون لهم كل أموالهم كاملة إذا كان لهم مال عندما يَبْلُغون عُمْرَاً راشِدَاً يستطيعون معه حُسن إدارتها، ولا يُرَاوِغُون أو يُخادِعُون من أجل أكلها بعضها أو كلها، فإنَّ هذا من الأعمال الخبيثة الدنيئة التي تَنشر الشرّ والغِلّ والثأر في المجتمع فيَتْعَس الجميع بأثر ذلك في دنياهم، ثم في الآخرة الإثم العظيم والتعاسة الشديدة.. بينما بحُسن الكفالة والأمانة تَتَرَقّق المَشَاعِر بالعقول وينتشر التّآلُف والتّآخِي ويَقْوَيَ المجتمع بقوة التكافل وحُسن التربية للأيتام ولكلّ مُحتاجٍ فيَسعد الجميع.. في الداريْن (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة تفسير الآية (220) من سورة البقرة ثم الآية (2)، (6) من سورة النساء).. كذلك ستَسعد في حياتك كثيرا إذا كنتَ دَوْمَاً مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما
هذا، ومعني "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)" أيْ وعليكم أيها المُتَوَلّون لأمور اليتامي وأيها المسلمون وأيها الناس وأيها العُقَلاء أن تَبتعدوا بُعْدَاً تامَّاً عن مال اليتيم – وهو الذي مات أبوه وهو صغير السِّنّ – لأنه أمانة عندكم بل عند المجتمع كله، وهو ضعيف لا يستطيع الدفاع عنه، إلا بالطريقة وبالحالة التي هي أحسن له نماءً وحِفْظاً، أيْ إلا إذا كنتم ستُحْسِنون فيه علي أكمل صورةٍ من صُوَرِ الإحسان أيْ الإتقان والإجادة بأنْ تَحرصوا علي تنميته اقتصاديا بما هو في مصلحة اليتيم وتَحْمُوه من المَخاطِر ونحو ذلك، وهذا إضافة بالقطع إلي إحسان كفالته ومراعاة كل شئونه عموما (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (220) من سورة البقرة، ثم الآية (2)، (6) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.." أيْ واسْتَمِرّوا علي ذلك حتي يَصِلَ اليتيم إلي سِنٍّ راشِدٍ أيْ عاقلٍ بحيث يستطيع هو بذاته إدارة شئونه فأعطوه حينها ممتلكاته، والأمر تقديريّ يَختلف من شخصٍ لآخر.. فإنْ أكلتم مال اليتيم فقد ارتكبتم ما حَرَّم ربكم عليكم وسيُعَاقِبكم علي ذلك بما يُناسِب مِن كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. ".. وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ.." أيْ وكونوا دائماً مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، أيْ نَفّذوها وافِيَة أيْ تامَّة بلا أيِّ نَقْصٍ ولا تُخْلِفوها، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، واستمرّوا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يَفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتماً فيهما.. ".. إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره وتذكيرٌ بأهَمِّيَّة الأمر وعَوَاقبه.. أيْ كونوا أوفياء بعهودكم لأنَّ صاحب العهد كان مسئولاً عنه، أيْ ستُسْألون عنه وستُجَازُون عليه، في الدنيا أولا حيث مَن يُخالِف ستَسُوء علاقاته فيَخْسَر بسبب ذلك وقد يكون عليه جزاءات قانونية يُتّفَق عليها، ومَن وَفّيَ فقد حَسُنَت سُمْعته وازداد الإقبال عليه والتّعامُل معه فيزداد نجاحاً ورزقاً وخيراً وسعادة، ثم في الآخرة سيكون كل الخير والسعادة لمَن يُوَفّي، وكل الشرّ والتعاسة لمَن يُخْلِف، علي قَدْر شرور وأضرار وتعاسات إخلافه وبما يُناسِبه.. كذلك من المعاني وأَوْفوا بالعهد إنَّ العهد كان مسئولاً أىْ كان مَطْلُوبَاً الوفاء به
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُعْطُون الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقٍّ لهم سواء أكان ماديا أم معنويا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خداعٍ أو غِشّ.. إنه بانتشار حفظ الحقوق كاملة ينتشر الأمن بين الناس ويَقوون ويَرْقون ويزدهرون ويتطوَّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بإنقاصها وأكلها والتفريط فيها يفقدون أمانهم ويتنازعون ويضعفون ويَتخلّفون ويتعسون فيهما
هذا، ومعني "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)" أيْ وعليكم أن تَتِمُّوا الكَيْل إذا كِلْتُم للناس أو اكْتَلْتُم عليهم لأنفسكم، وأنْ تَزِنُوا إذا وَزَنْتُم لغيركم فيما تبيعون أو لأنفسكم فيما تشترون بالقسطاس المستقيم أيْ بالميزان الدقيق العادل المستقيم أيْ الذي لا يَمِيل ولا يَنْحَرِف أيَّ انحرافٍ بل مُنْضَبِط تمام الانضباط، بحيث يُعْطَىَ صاحب الحقّ حقّه وَافِيَاً أيْ كاملاً تامَّاً من غير انتقاصٍ ويأخذ صاحب الحقّ حقّه من غير طَلَبِ ازدياد، والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف.. فإنْ خَالَفْتم ذلك فقد ارتكبتم ما حَرَّمَ ربكم عليكم وستُعَاقَبُون عليه بما يُناسِب من كلِّ شَرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. والمقصود إعطاء الناس – بل وكل المخلوقات – كل حقوقهم من أيِّ نوعٍ دون أيِّ إنقاصٍ من أيِّ حقٍّ لهم سواء أكان ماديا أم معنويا في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة مع إيفاء المكاييل والموازين وغيرها من كل وسائل البيع والشراء بحيث تكون بالميزان الدقيق المُنضبط تمام الانضباط بغير أيِّ نقصٍ أو خداعٍ أو غِشّ.. ".. ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)" أيْ ذلك الذي ذَكَرْنَاه لكم ونُوصِيكم به – وغيره من كل أخلاق الإسلام – إنْ فَعَلْتموه هو حتماً خيرٌ أيْ سعادة وأحسن أيْ وأجمل وأطيب وأفضل تأويلاً أيْ مَآلاً أيْ نتيجة ونهاية لكم في دنياكم وأخراكم لأنه سيَمنع قطعاً أيَّ تَنازُعٍ بينكم وسيُرْشدكم لكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تماما فيهما، لأنه بانتشار حِفْظ الحقوق كاملة ينتشر الأمن بين الناس ويَقوون ويَرْقون ويزدهرون ويتطوَّرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بإنقاصها وأكلها والتفريط فيها يفقدون أمانهم ويتنازعون ويضعفون ويَتخلّفون ويتعسون فيهما
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الذين يَتَأنّون ولا يَتَعَجَّلون ويَتَثَبَّتون في كل شئون حياتهم، ويسألون الثقة من أهل العلم والتّخَصُّص فيما لا يعلمونه، حيث بهذا يتحقّق الصواب دائما ويَرْقَيَ الجميع ويَقوون ويسعدون في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)" أيْ ولا تَتّبِع ما لا تعلم أيها المسلم وأيها الإنسان العاقل، أيْ تَأكَّد وتَثَبَّت في كل قولٍ وعملٍ، فلا تَتّبِع مَا لا تعلمه وما لست مُتَأكّداً منه في كل شئون حياتك وإلا فغالباً أو دائماً ستكون مُخْطِئاً مُنْحَرِفَاً عن الصواب فتَتْعَس بذلك في دنياك وأخراك.. كذلك من المعاني أن لا تَتَتَبَّع أمور الناس وتَقُلْ عنهم من السوء مَا ليس لك به علم بل هو مجرّد تَخْمِين وظنّ سَيِّء بهم فيُؤَدِّي ذلك وما شابهه لتعاسة الجميع في الداريْن.. ".. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)" أيْ هذا تذكيرٌ للإنسان بأنْ يُحْسِن استخدام نِعَم الله تعالي عليه التي فيه ومعه وحوله والتي لا تُحْصَيَ لأنه سيُسْأل عنها كلها يوم الحساب ولذلك فعليه أنْ يستخدمها في كل خيرٍ لا في أيِّ شرٍّ ليسعد هو ومَن حوله في دنياهم وأخراهم وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم لأنَّ السمع الذي تَسمع به بأذُنَيْك والبَصَر الذي تُبْصِر به بعَيْنَيْك والفؤاد – أي القلب وهو يعني العقل عند كثيرٍ من العلماء وسُمِّيَ بالقلب لأهميته كالقلب لأنَّ العقل إذا تَوَقّف تماماً عن العمل توقّفت الحياة كما إذا توقّف القلب – أيْ العقل والمشاعر بداخله الذي تَعْقِل به بما فيه من قُدْرة علي التفكير والإدراك والشعور فتُمَيِّز بكل ذلك بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة فتتحقّق لك السعادة الكاملة في دنياك ثم أخراك، كل أولئك الأعضاء وغيرها وكل هذا الذي ذُكِرَ من الحَوَاسِّ ووسائل الإدراك وغيره كان الإنسان عن كلّ واحدٍ منه مسئولاً يوم القيامة، فإنْ استعمله في الخير نالَ عظيم الأجر بما يُناسب من كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه ثم أخراه وإذا استعمله في الشرّ نالَ ما يُناسبه من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما بكل عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلم.. كذلك من المعاني أنَّ كلّ هذا كان عنه أيْ عن فِعْله مسئولاً بأنْ يُقال لكلّ عضو في الجسد هل استعملك صاحبك فيما خُلِقْتَ مِن أجْلِه وهو الخير أم لا؟ فإنْ استعمله في شَرٍّ شَهِدَ بما قد عمله، كما يقول تعالي "الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (يس:65)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُتَوَاضِعَاً، أي لا تَتَعَالَيَ علي الناس ولا تَحتقرهم ولا تَسْتَذِلَّهم ولا تَفتخر عليهم ولا تُسِيء إليهم بقولٍ أو فِعْلٍ يُقَلّل من شأنهم بل تَتَبَسَّط معهم في غير مَهَانَة ولا ذِلّة وتَتَوَاجَد بينهم وتتعامَل معهم وتسأل عنهم وتدعو لهم وتُحْسِن إليهم في الأقوال والأعمال وتَحفظ حقوقهم وتهتمّ بمشاعرهم الإنسانية وتُعينهم وتَخدمهم وما شابه هذا من علاقاتٍ طيّبة، بهذا يتعاون الجميع ويَرْقون ويَقْوُون ويَسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالتّكَبُّر والتَّعَالِي والاحتقار والإذلال والتفاخُر والتَّبَاهِي والإساءة في الأقوال والأعمال والإضاعة للحقوق والإيذاء للمشاعِر ونحو ذلك من شرور يَتباغضون ويَتنازعون ويَتصارعون ويَضعفون ويَقتتلون ويَتعسون في الداريْن
هذا ومعني "وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)" أيْ ولا تَسِرْ في الأرض بين الناس بفرحٍ شديدٍ يُفيد بأنك مُتَكَبِّر مَغْرُور – أيْ مُنْخَدِع – بما لديك وكأنك تظنّ أنْ لا أحد مِثْلك علي وجه الأرض! وبالقطع مثلك كثيرون وأفضل منك كثيرا! والمقصود ولا تكن أبداً أيها المسلم وأيها الإنسان في كل شئون حياتك أثناء معاملاتك وأقوالك وأفعالك مُتَكَبِّرَاً مُخْتَالَاً، والمُتَكَبِّر هو الذي يَتَعَالَيَ علي غيره ويظلمهم ويأكل حقوقهم ويحتقرهم ويُسيء مُعَامَلتهم ويَتَطَاوَل عليهم بالقول أو الفِعْل بل وبعضهم يتطاول علي الله تعالي والرسل الكرام والكتب وآخرها القرآن العظيم والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار وعلي الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير فيُكَذّب بالحقّ ويُعانِده ولا يَتّبِعه ويَستهزيء به ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار.. والمُخْتال هو المَغرور المُعْجَب بنفسه الذي يظنّ مُتَوَهِّماً أنه كلّ شيءٍ ولا شيء غيره! الكثير الفخْر والتّباهِي والتّعَالِي علي الآخرين بما يمتلكه من قوَيً صحية وعقلية ومالية وغيرها ولا يشكر الله عليها لأنه يَتَوَهَّم أنها بسبب جهوده هو وعلومه لا بتوفيقه وتيسيره سبحانه!.. ".. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)" أيْ لأنك مهما فَعَلْتَ ومهما كنتَ مُتَكَبِّرَاً مُخْتالَاً فإنك – وفي هذا تَحْقِيرٌ له وتَقْلِيلٌ من شأنه وإيقاظٌ لعقله لعله يستفيق ويَتَعَقّل ويعود عَمَّا هو فيه – لن تخرق الأرض، أيْ يَستحيل أبداً أن تثقبها بضربك لها بقدميك بمشيتك المَغْرُورَة عليها! كما أنه من المستحيل كذلك أن يرتفع رأسك المَغرور الذي ترفعه تَعالِيَاً علي خَلْق الله لِيَصِلَ لارتفاع الجبال في طولها وعُلُوّها! وما دُمْتَ كذلك فلا تَمْشِ بالتالي إذَن في الأرض مَرَحَاً وانْتَبِه لضعفك! فكل ذلك لن يفيدك! بل سيَنْصِرف الناس عنك لسوء معاملاتك! وستحيا بسبب ذلك في كل قَلَقٍ وتَوَتّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصراعٍ واقتتالٍ مع الآخرين، وسيَسْحَب منك الوَهّاب سبحانه ما وَهَبَكَ إيَّاه لأنك لم تُحْسِن استخدامه، وقد يَخْسِف بك الأرض كما فَعَل بقارون وغيره من المُتَعالِين، وبالجملة ستحيا حياتك في كل ألَمٍ وكآبَةٍ وتعاسة، ثم سيكون لك قطعا في آخرتك ما هو أشدّ من ذلك وأتَمّ وأعظم.. والمقصود من الآية الكريمة إرشاد المسلم لأنْ يكون دائماً مُتَوَاضِعَاً، أي لا يَتَعَالَيَ علي الناس ولا يَحتقرهم ولا يَسْتَذِلَّهم ولا يَفْتَخِر عليهم ولا يُسِيء إليهم بقولٍ أو فِعْلٍ يُقَلّل من شأنهم بل يَتَبَسَّط معهم في غير مَهَانَة ولا ذِلّة ويَتَوَاجَد بينهم ويَتعامَل معهم ويَسأل عنهم ويَدعو لهم ويُحْسِن إليهم في الأقوال والأعمال ويَحفظ حقوقهم ويَهتمّ بمشاعرهم الإنسانية ويُعينهم ويَخدمهم وما شابه هذا من علاقاتٍ طيّبة، بهذا يتعاون الجميع ويَرْقون ويَقْوُون ويَسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالتّكَبُّر والتَّعَالِي والاحتقار والإذلال والتفاخُر والتَّبَاهِي والإساءة في الأقوال والأعمال والإضاعة للحقوق والإيذاء للمشاعِر ونحو ذلك من شرور يَتباغضون ويَتنازعون ويَتصارعون ويَضعفون ويَقتتلون ويَتعسون في الداريْن
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)" أيْ كل ذلك المَذْكُور سابقاً مِن الوَصَايَا، من الأوامر والنوَاهِي، كان سَيِّئه، أيْ كان السَّيِّءُ منه، أيْ كان المَنْهِيُّ عنه، عند ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – أيْ في حُكْمِه وشَرْعِه، كان مَكْرُوهَاً أيْ مَبْغُوضَاً أيْ يَكْرَهه تعالي أيْ لا يُحبّه ولا يَرْضاه ولا يَأمر به أيْ يَمنعه ويُعاقِب فاعِله إذا فَعَله ولم يَتُبْ منه بما يُناسِب من كلّ شَرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن، فتَجَنّبه تماماً بالتالي أيها المسلم.. وأمَّا حَسَنُهُ منه فكان عند ربك مَرْضِيَّاً عنه يُثاب فاعله فيهما بكل خيرٍ وسعادة، فافعله دائماً إذَن.. هذا، ولم يُذْكَر الحَسَن لأنه مفهوم من السياق وللتركيز علي هذه النواهي السَّيِّئات للتحذير الشديد من فِعْلها لشِدَّة ضَرَرها وتعاساتها في الدنيا والآخرة
ومعني "ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)" أيْ ذلك المَذْكُور سابقاً مِن الوَصَايَا، من الأوامر والنوَاهِي، يا كل مسلم، هو بعضٌ مِمَّا أوْحاه إليك ربك يا رسولنا الكريم في كتابه القرآن العظيم من الحِكْمَة.. والحكمة هي كلّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ، هي كل ما يَحْكُم عليه العقل المُنْصِف العادِل بأنه صحيح ويَنْصِلُح حاله باتّباعه، هي بالجملة كل حِكَمٍ وأحكام وأخلاق وأنظمة وقوانين تدعو إلي كل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن وتَمْنَع عن كل شَرٍّ مُتْعِسٍ فيهما، إنها هي تعاليم الإسلام كله والتي هي مُحْكَمَة أيْ كلها إحكام وإتقان وتناسُق فليس فيها أيّ خَلَلٍ أو تناقُض أو اختلاف وكلّ أمرٍ موضوع في موضعه تماما بكل دِقّة دون أيّ عَبَث وهي محفوظة بحِفظ الله تعالي للقرآن ثم بالمسلمين المتمسّكين به كله من أيّ تحريفٍ أو تبديل وهي الحاكِم أيْ المَرْجِع الشامِل الذي يُحْتَكَم إليه دائما لأنَّ فيها أصول وقواعد كل ما يُصلح ويُكْمِل ويُسعد البَشَرِيَّة كلها في دنياها وأخراها، ولقد أوحاها إليك ربك لكي تُبَلّغها للناس ليَعملوا بها ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، ولكي تُحَذّرهم أنهم لو تركوها بعضها أو كلها فسيتعسون حتماً فيهما علي قَدْر تَرْكهم لها ومُخَالَفتهم إيَّاها.. ".. وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)" أيْ هذا مزيد من التأكيد علي عبادة الله تعالي وحده، واستخدام ذات الألفاظ في الجزء الأول من هذه الآية الكريمة ليكون مثل ما جاء في الآية (22) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيهما والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. أيْ وبالتالي إذَن وبعد هذا البيان الحكيم لا تجعل أيها الإنسان العاقل مع الله مَعْبُودَاً آخر في عبادتك أيْ طاعتك، أيْ لا تشرك مع الله إلاهاً آخر غيره فتعبد صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو نحوه، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. ".. فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)" أيْ فتُقْذَف وتُرْمَيَ بالتالي لو فَعَلْتَ ذلك في جهنم – وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – بعذابها الذي لا يُوصَف، مَلُومَاً أيْ في حالة لَوْمٍ من ربك خالقك وملائكته ونفسك والناس جميعا علي سُوئِك الذي فَعَلْتَه في دنياك ومتّ عليه بلا توبة، بكل أنواع اللّوْم والذمّ أيْ تُذْكَر وتُوصَف بكل ما هو سَيّء وتكون مُهَانَاً مُحَقّرَاً مَغْضُوبَاً عليك مَكروها، وستكون كذلك مَدْحُورَاً أيْ مُبْعَدَاً تماماً مَطروداً من رحمات وإسعادات ربك التي لا تُوصَف.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي سيكون فيه بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك من المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين الذي يَدَّعِي كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً وجرْأة وتَعَدِّيَاً أنَّ لله تعالي بنات هي الملائكة ويعبدها بعضهم مُدَّعِين أنهم يعبدون مَن هو جزء مِن الله ومُنْتَسِب إليه وهو ولده!! والاستفهام كذلك للاستهانة به وبأقواله وأفعاله والسخرية منها ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تعس فيهما.. أيْ فهل خَصَّكُم ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – بإعطائكم البنين واختارهم لكم وجعل لنفسه بنات من الملائكة حسب ادِّعائكم الكاذب؟! هل تقولون أنَّ الله سبحانه له الإناث ولكم أنتم الذكور؟! هل بعد أنْ جعل بعضكم لله تعالي شركاء يعبدونهم غيره كأصنامٍ أو كواكب أو نحوها ظلما وزُورَاً تجعلون كذلك له أولادً من زوجةٍ تَزَوَّجها وأنْجَبَ منها؟!! وحتي هذه المواليد هي من البنات التي تَتَحَرَّجُون أنتم من إنجابها وتحتقرونها من وجهة نظركم فتنسبونها له سبحانه وأنتم تُنْجِبون البنين الذين تفتخرون بهم كمصدر قوة وعِزّة لكم!! أيْ حتي في ظلمكم وكذبكم وزوركم تأخذون لأنفسكم النّفِيس وتتركون لله ما هو خَسيس!! إنكم لو اقتسمتم مِثْل هذه القِسْمَة أنتم ومخلوق مثلكم لكانت تلك القسمة بالتالي وبكل تأكيدٍ قسمة ضِيزَي أيْ ظالمة غير عادلة جائرة غير متساوية فما بالكم عند فِعْلها مع خالقكم الذي لا مُقارَنَة أصلا بينكم أنتم المخلوقين وبينه!!.. تعالي الله عَمَّا تقولون وتفعلون عُلُوَّاً كبيرا.. إنه عَزَّ وجَلَّ علي سبيل الفرض الذي مِن المستحيل أنْ يَحْدث لو كان يريد ولداً ليُعاونه علي إدارة مُلْكه كما تدَّعون وليكون سَنَدَاً له ويَسْتَأنِس به لكان اصطفيَ أي اختار مِمَّا يخلق مَن يريد أن يرفعه لهذه المَكَانَة لا أن يختاروا له الولد الذي يريدونه هم!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (4) من سورة الزمر "لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ هذا بالقطع يُخالِف حِكْمَة أيّ مخلوقٍ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ فما بالكم بحكمة الخالق؟! إنَّ الحكمة تَتَطَلّب أن يختار الأفضل، يختار الذكور!!! وكل هذا هو من باب مُجاراتهم في ادِّعاءاتهم لبيان ما فيها من تَخْريفٍ وسَفَهٍ وكذبٍ شديد، وإلا فالأمر كله مَرْفوضٌ مُسْتَنْكَرٌ من الأساس!! وما كل ذلك إلا بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ علي كل إنسانٍ عاقلٍ ألا يجعل أبداً مع الله تعالي مَعْبُودَاً آخر في عبادته أيْ طاعته، أيْ لا يُشرك مع الله إلاهاً آخر غيره فيعبد صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو نحوه، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. ".. إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)" أيْ إنكم بقَوْلِكم أنَّ الملائكة بنات الله أو أنه تعالي يحتاج لولدٍ أو زوجةٍ أو شريكٍ أو وزيرٍ أو مُعِينٍ كما يحتاج البَشَر أو غير ذلك من أقوالٍ سَيِّئةٍ تُخالِف تماماً أنه الخالق الواحد المالِك لكلِّ شيءٍ القادر عليه العالِم به تقولون – واللام للتأكيد – قولاً شديداً في وَقاحته وبَشَاعته وجرأته وكذبه وخروجه عن أيِّ تصديقٍ وأيِّ تَصَوُّرٍ عقليٍّ مَنْطِقِيّ، وعظيماً في ما سيَتَرَتَّب عليه من عقابٍ عظيمٍ مناسبٍ لكم حيث كل شرٍّ وتعاسةٍ في دنياكم قبل أخراكم.. تعالي سبحانه عن كل ذلك علوا كبيرا
ومعني "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)" أيْ ولقد نَوَّعْنا وعَدَّدْنا وأكْثَرْنا في هذا القرآن العظيم من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما.. ".. لِيَذَّكَّرُوا.." أيْ لقد صَرَّفنا هذا التصريف لكي يَذْكر الناس ولا يَنْسوا أبداً ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّروا ربهم وإسلامهم، ويعقلوا كل هذا بعقولهم ويتدَبَّروه ويدرسوه، ويذاكروه كما يذاكرون دروسهم وعلومهم ويربطون بين أجزائها ومعلوماتها ويحفظونها ويراجعونها حتي لا ينسوها، ويكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لينتفعوا ويسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليهم فقط إلا أن يتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. وعليهم أن يحذروا بشدّة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. إنَّ عليهم في كل لحظات شئون حياتهم أن يتذكّروا دائماً ربهم وإسلامهم فيلجأوا إليه ويَدْعُوه ويَرجوه ويَطلبوا عَوْنه وتوفيقه وتَيْسيره ورزقه وقوَّته وأمنه وحُبّه ورضاه وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة أن يعبدوه أي يطيعوه وحده ويَخضعوا ويَستسلموا له ويعود من كذب منهم عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليصلحوا ويكملوا ويسعدوا تماماً في الداريْن.. ".. وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)" أيْ ولكنَّ الظالمين من الناس لإغلاقهم عقولهم لا يَتذكّرون ويَنتفعون ويَسعدون به بل علي العكس لا يزيدهم ذلك التصريف والتذكير إلا بُعْدَاً عن القرآن وما فيه من حقّ وعدلٍ وخيرٍ وإلا كراهية له واشْمِئزَازَاً وهُروبَاً منه، بل ويزدادون قُرْبَاً وتَمَسُّكَاً بالباطل والضلال والضياع والظلم والشرّ والتعاسة!! إنهم كلما ذُكّرُوا به كلما ازدادوا نُفُورَاً منه ومقاومة ومحاربة له ولمَن يَتّخِذه مَرْجِعَاً لحياته، لأنه يفضحهم ويكشفهم حيث يُبَصِّر الناس ويُوقظهم فلا يمكنهم اسْتِغْفالهم واسْتِعْبادهم ونَهْب ثرواتهم وجهودهم لأنَّ الإسلام هو الذي يجعلهم يحافظون عليها، وهم ما يفعلون كل ذلك وما يَنْفرون كل هذا النفور وما يُصِرُّون كل هذا الإصرار علي ما هم فيه من سوءٍ بلا أيِّ توبةٍ إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، والظالمون من الناس هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نَجْمٍ أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)" أيْ هذا بيانٌ عَقْلانِيٌّ مَنْطِقِيٌّ علي أنه لا إله إلا الله تعالي وبالتالي إذَن وبعد هذا البيان الحكيم لا تجعل أيها الإنسان العاقل مع الله مَعْبُودَاً آخر في عبادتك أيْ طاعتك، أيْ لا تشرك مع الله إلاهاً آخر غيره فتعبد صَنَمَاً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو نحوه، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن يعبدون غير الله تعالي، ولمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لو كان مع الله تعالي مَعْبُودات أخري كما يقولون هؤلاء الذين يعبدون غيره كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً وخَبَلَاً وجرْأة وتَعَدِّيَاً إذَن بالتالي لابْتَغَوْا أيْ لكانوا طَلَبُوا – أي هذه الآلهة، والقرآن يستخدم صيغة العاقل لها رغم أنها أصنام ونحوها لا تعقل ليُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم ولأنَّ بعضهم يعتبرونها عاقلة أو قد يعبد بَشَرَاً – إلى ذي العرش أيْ إلي صاحب السلطان والمُلْك كله وهو الله تعالي سبيلاً أيْ طريقاً لكي يقاتلوه ليُزيلوا مُلْكه ويأخذوه منه ويَصيروا هم الملوك للكوْن كما هي عادة فِعْل ملوك الدنيا مع بعضهم البعض يريد كل منهم أن يسيطر علي مُلْك غيره بعد قتاله ليكون هو مَلِك المُلوك وبما أنهم لم يستطيعوا فِعْل ذلك أيْ أخْذ مُلْك الله تعالي منه حيث ليس هناك آلهة فعلوا هذا حتي الآن ولم يَدَّعِ أحدٌ أنه أصبح إلاهَاً لهذا الكوْن وليس هناك من يقول أنه إلاهٌ له إلا الله تعالي إذَن لا يوجد حتما آلهة غيره!! ولو كان هناك إلاهَاً آخر ولم يستطع أن يمنع الله من قول أنه الإله الواحد ولم يستطع قتاله لنَزْع مُلْكه منه لأخْذِه لنفسه أو لم يعلم بهذا فهو لا يستحقّ حتماً بالتالي أن يكون إلاهَاً لضعفه أو لجهله حيث لا يعلم ما يَحْدُث في مُلْكه الذي يَدَّعِيه!! فهكذا بكل عُمْقٍ وبَسَاطةٍ وعقلانية ومَنْطِقِيَّة لا يوجد حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ إلا إله واحد هو الله تعالي!!.. كذلك من المعاني أنه علي سبيل الفَرْض لا الحقيقة لو كان معه آلهة كما يقولون إذَن لابتغوا هؤلاء الآلهة إلي ذي العرش طريقاً للتّقَرُّب إليه ولطاعته لعلمهم بقُدْرته هو وضعفهم وعَجْزهم هم، وكل مَن كان كذلك فهو ليس بإلاهٍ قطعا، فالإله لا يحتاج للتقرّب لغيره لعدم حاجته له وتمام غناه وقُدْرته وقوّته وعِلْمه!.. فلماذا إذَن بعد كل هذا البيان الحكيم يعبدهم الذين يعبدونهم؟!! ولكنَّ السبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)" أيْ سَبِّحوه، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به، وتعالي أي عَظِمُوه واعْلُوا شأنه، عُلُوَّاً كبيراً أيْ بَعِيداً فِي عُلُوِّه عظيماً مُتَبَاعِدَاً أقْصَيَ البُعْد، عمَّا يقولون هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري، فهو له كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، وبالتالي فاعبدوه أيْ أطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
ومعني "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)" أيْ إنَّ جميع مَن في السماوات والأرض وما في الكوْن كله يُسَبِّح الله تعالي، أيْ هو يَنْقاد ويَخْضَع لإرادته، أيْ يُؤَدِّي مهمّته التي خَلَقه من أجلها لنفع الإنسان وسعادته، وكل المخلوقات بما فيها مِن عجائب خالِقها تَدْفَع كل عاقلٍ لتسبيحه سبحانه حين يُحْسِن التّدَبُّر فيها وتَدْفَعه لأنْ يَعبده بالقطع وحده دون غيره، كما أنها في ذاتها تُسَبِّحه وتحمده علي نِعَمه عليها، بطريقتها الخاصَّة التي خَلَقها عليها والتي حَوَاسّ البَشَر غير مُؤَهَّلَة لإدراكها، وهذا هو معني ".. وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.." والذي مِن معانيه أيضا أنَّ الذين لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود ربهم وهم مُعانِدون له ولدينه الإسلام لا يَستشعرون عَظَمَة هذه المخلوقات وعظمة خالِقها سبحانه ولا يَتَدَبَّرون فيها لإغلاقهم لعقولهم، علي عكس المؤمنين.. ".. إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رحمته تعالي بالناس رغم التقصير في طاعته وتسبيحه وذِكْره وشُكْره.. أيْ إنَّ الله كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ – ولفظ "كان" في هذا المَوْضِع يدلّ علي الاستمرار – كان حليماً أيْ كثير الحلم أيْ شديد طويل الصبر أيْ لم يُسارع بالعقوبة لأيّ أحدٍ قبل الإرشاد والتعليم، ومِن حِلْمه ألاّ يُعاقِب أحداً فوريا بما صَدَرَ منه وما أصَرَّ عليه عقله من الشرّ بل يتركه لفتراتٍ لمراجعة ذاته ليعود إليه وإلي إسلامه ليسعد في الدنيا والآخرة.. وكان أيضاً غفوراً أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم الحليم الغفور باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ولكلّ هذا فهو سبحانه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فاعبدوه واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (45)"، "وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)" أيْ وإذا قرأتَ القرآن الذي فيه كل ما يُصْلِح الناس ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماماً في دنياهم وأخراهم، يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، فسَمِعَه المُكَذّبون المُعانِدُون المُسْتَكْبِرون المُستهزؤن، جعلنا بينك وبين الذين لا يصدّقون بوجود الآخرة حيث البَعْث للناس بالأجساد والأرواح بعد كوْنهم تراباً والحساب والعقاب والجنة والنار ولذلك يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، حجاباً أيْ حاجِزَاً، مَستوراً أيْ مَخْفِيَّاً عن الأعين ومَسْتُورَاً به أيْ ساتِرَاً ومَانِعَاً، والمقصود أنهم لا يريدون الاقتراب منه والتعامُل معه وسَماعه وفَهْمه وتَدَبُّره وتطبيقه في حياتهم.. هذا، ولفظ "جعلنا" في هذه الآية الكريمة وكذلك في الآية القادمة قد يُوهِم أنه تعالي هو الذي جعل هذا الحجاب الساتر لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم هذا التكذيب لله وللرسول (ص) وللقرآن وهذا السوء الذي هم فيه وأصرَّوا تماما عليه بسبب إغلاقهم لعقولهم فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم فكأنه هو الذي جَعَلَ حالهم كذلك (برجاء مراجعة الآية (5) من سورة الصَّفّ ".. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وهم قد فعلوا ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. كذلك من المعاني أنك عندما تقرأ القرآن يا رسولنا الكريم جعلنا بقُدْرَتنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حين يريد بعضهم إيذاءك والفَتْك بك حجاباً ساتراً لك عنهم فلا يَرونك، وذلك في بعض الأوقات، عندما تكون المصلحة في ذلك، كالنجاة مِن شرورهم أو نحو هذا.. وهذا أيضا قد يحدث لأيِّ مسلم يريد الله نجاته مِن شرور الذين يريدون إيذاءه، يُخْفيه عن أعينهم بقُدْرته وتوفيقه لحُسْن اتّخاذ وسائل ذلك، حينما يَتَحَصَّن بالله وبقراءة القرآن العظيم.. "وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)" أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله أن يكون هكذا، أن يَستمع للقرآن العظيم ولا يَنتفع به، أن يكون في الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد، فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه، هو الذي جَعَلَه وأمثاله كذلك، يستمعون للقرآن بلا تَعَقّلٍ وانتفاع، ولكنَّ الواقع أنهم في الحقيقة هم الذين جعلوا أنفسهم هكذا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، إلاّ أنْ يستفيقوا ويتركوا إصرارهم وعِنادهم ويعودوا لربهم ودينهم حينها يُعاونهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وهذا هو معني "وجعلنا"، ومعني علي قلوبهم أكِنّة أيْ علي عقولهم أغشية وأغْلِفَة حتي لا يفهموا ويَتَدَبّروا ما فيه وينتفعوا ويعملوا ويسعدوا به، وفي آذانهم وَقْراً أيْ صَمَمَاً أيْ عدم قُدْرَةٍ علي السَّمْع أيْ لا يفهمون ما يسمعونه، ولن يستجيبوا بذلك لأيِّ داعي يدعوهم لأيِّ خير، وإنْ يَرَوْا كلَّ آيةٍ من الآيات أيْ أيَّ مُعجزةٍ من المُعجزات ودليلٍ من الأدِلّة التي تدلّ على صِدْق الرسول (ص) لا يُصَدِّقوا بها بسبب هذا العِناد والإغلاق للعقول الذي جَعَلوا أنفسهم فيه سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آياتٍ في القرآن الكريم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يَدَيْه لتأكيد صِدْقه.. ".. وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)" أيْ وإذا ذكرتَ ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – في القرآن العظيم أثناء قراءتك له قائلا لا إله إلا الله وحده داعِيَاً لعبادته وحده، في كل أقوالك وأفعالك في كل شئون حياتك، فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، وسَمِعَك المُكَذّبون المُعانِدُون المُسْتَكْبِرون المُستهزؤن، الذين لا يؤمنون بالآخرة، ومَن يَتَشَبَّه بهم، وَلّوْا علي أدْبارهم نُفوراً، أيْ رَجَعُوا مُدْبِرين نافِرين، أيْ مُعْطِين أدْبارهم أيْ ظهورهم مُلْتَفِتِين مُنْصَرِفين مُبْتَعِدين عنه وعن الإسلام تارِكين مُهْمِلِين له بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ بما يُفيد إصرارهم التامِّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، وهُم في حالة نُفور أيْ نافِرين منه ومِن سَمَاعه ومِمَّا تقوله وتفعله استكباراً واستعظاماً وعِناداً أن يعبدوا الله تعالي وحده ويَتّبعوا دينه الإسلام، أيْ مُبْتَعِدين عن القرآن وما فيه من إسلامٍ به كل حقّ وعدلٍ وخيرٍ وسعادةٍ وكارهين له ومُشْمَئِزّين وهاربين منه، كأنما يسمعون شيئا مُخِيفَاً مُقَزّزَاً مُقْرِفَاً كريهاً، بل ومُزْدَادِين قُرْبَاً وتَمَسُّكَاً بالباطل والضلال والضياع والظلم والشرّ والتعاسة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (45) من سورة الزمر "وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)" أيْ نحن الله تعالي العالِم بكلّ شيءٍ في كوْننا وعن خَلْقنا أعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه بالحال السَّيِّء الذي يستمعون به للقرآن العظيم وبالغرض وبالسبب الذي من أجله يسمعونه أمثال هؤلاء المُكَذّبين حين يستمعون إليك وأنت تقرأه يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم حيث حالهم الاسْتِهْزاء والاسْتِخْفاف والتكذيب لا السَّمَاع من أجل العلم بالحقّ والعمل به، ونحن أعلم أيضا حين هم في حالة نَجْوَيَ أيْ كلامٍ خافِتٍ في السِّرّ يَتكلّمون به فيما بينهم ولغيرهم فيه كلّ شَرٍّ وكَيْدٍ نحو الإسلام والمسلمين حين يقول هؤلاء الظالمون أثناء هذه النجوي – والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مَا تَتّبِعون إلا رجلاً مَسْحُورَاً، يقصدون الرسول الكريم محمد (ص)، أيْ أصابه السِّحْر فاخْتَلّ عقله! وما جاء به من دينٍ أي الإسلام ما هو إلا سِحْر أي يَسْحِر عقول الناس بأوهام وتَخَيّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل! فكيف تَتّبِعونه بالتالي إذَن أيْ تَسيرون خَلْفه وتَعملون بدينه ألَاَ تعقلون؟!! إنهم يريدون بقولهم هذا التشكيك في القرآن والرسول (ص) مُبَلّغه والإسلام وتشويه صورتهم حتي يَصُدُّوا الناس عنهم فلا يَتّبعونهم.. إنَّ في الآية الكريمة تحذيراً شديداً للمُعتدين علي الله ورسوله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما حيث الله تعالي يعلم كل شيءٍ عنهم سِرّه وجَهْره وسيحاسُبهم بما يُناسب سُوئهم في الداريْن، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)" أيْ انظروا وتدبّروا واعْقِلوا واعْلَموا وخُذوا الدروس والعِبَر حتي تَتّعِظوا ولا تَفعلوا أبداً مِثْلهم فتتعسوا كتعاساتهم في الداريْن كيف مَثّلُوا لك الأمثال وذَكَرُوا لك التشْبيهات يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْدِه – هؤلاء المُكَذّبون ومَن يَتَشَبَّه بهم فوَصَفُوك وشَبَّهُوك أحياناً بأنك مَسْحُور وأحيانا بأنك ساحِر وأحيانا بأنك شاعِر وأحيانا بأنك مجنون وما شابه هذا من أمثلة وتشبيهات قبيحة كاذبة.. ".. فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)" أيْ هذا بيانٌ للنتيجة الحَتْمِيَّة لمَن يَفعل ذلك.. أيْ فبالتالي بسبب ذلك ضَلّوا أيْ ضاعُوا أيْ ابْتَعَدَوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام، فلا يمكنهم بالتالي بسبب تكذيبهم إيجاد سبيلاً أيْ طريقاً إليه، ما داموا مُصِرِّين علي سُوئهم، وما كل ذلك الضلال والسوء الذي هم فيه إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. كذلك من المعاني لا يستطيعون سبيلاً لصَدِّ الناس أيْ مَنْعهم عن الإسلام بضلالهم هذا لسَفَاهَة وخَبَل أدِلّتهم وتَنَاقُض أمثالهم وتَخَبُّطهم وتَحَيُّرهم فيها بما يدلّ علي كذبهم وهي الأدِلّة والأمثال والإساءات التي لا يُمكن أن يَقْبَلها أبداً أيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ما دام يُحْسِن استخدام عقله ويَتّخِذ ربه ورسوله (ص) وقرآنه وإسلامه مَرْجِعَاً ومَلْجَأ ليعتصم بهم من الضلال فيسعد بذلك في الداريْن
وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)" أيْ وقال الكافرون وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا بَعْث بعد الموت ولا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، قالوا مُستنكِرين مُسْتَبْعِدين مُسْتَهزِئين عن كيف يُبْعَثون بعد موتهم بعد كوْنهم ترابا وقد تَحَلّلَت وتَفَتّت أجسامهم وأصبحوا عظاماً ورُفاتاً أيْ فُتاتاً؟! قالوا هل إذا كنا عظاماً ورُفَاتَاً هل نحن مَبْعُوثون أيْ هل سنُحْيَا خَلْقَاً جديداً فيه حياة مرة أخري في يوم القيامة الذي يَدَّعِيه المسلمون؟! إنَّ هذا لا يُصَدِّقه عقل!! أي لا يُصَدِّقون أبدا ويَسْتَبْعِدون تماما علي الله تعالي أنه في الآخرة يُحييهم مرة أخري هم والسابقين منذ آدم بتمام قدْرته وعلمه من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا وعظاما مُتَفَتِّتَة ليَخرجوا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الخِتامِيّ حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم.. إنَّ السبب في أسئلتهم هذه وفي كُفرهم وضَلالهم وسُوئهم هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)"، "أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لو كنتم حجارة لا تَقْبَل الحياة مُطْلَقَاً أو حديداً وهو أصلب من الحجارة أو خَلْقاً آخر غيرهما مِمَّا يَعْظُم ويُسْتَبْعَد في صدوركم أيْ نفوسكم أيْ عقولكم – التي أغلقتموها – قبوله للحياة، لَبُعِثْتُم يوم القيامة ولَحُوسِبْتم وعُذّبْتُم علي سُوئكم حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ، فالله تعالي قادرٌ علي كل شيء، فكونوا علي أيِّ شكلٍ وأيِّ صورةٍ سواء كنتم شيئاً هزيلاً ضعيفاً كرُفاتٍ وترابٍ ونحوه أم كنتم شيئاً تَتَوَهَّمون أنه قويٌّ مُسْتَبْعَدٌ أن تكون فيه حياة فسَتُعادُون قطعا.. ".. فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا.." أيْ فسيقولون لك مُسْتَبْعِدين البَعْث مَن هذا الذي يستطيع أن يُرْجِعنا ويَرُدّنا إلى الحياة مرة أخرى بعد الموت إذا كنا عظاماً ورُفَاتاً أو حجارة أو حديداً أو خَلْقَاً آخر شديداً غيرهما؟!.. ".. قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.." أيْ قل لهم يُعيدكم الله الذي خَلَقَكم وأنشأكم من عَدَمٍ أول مرة، فمَن خَلَقكم أول مرة سبحانه قادرٌ وأهْوَن عليه أن يعيدكم مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبهم بما تفهمه عقولهم، لأنَّ كل شيء هو يسير عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته! كما قال تعالي "وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (الروم:27) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ.." أيْ فسَيُحَرِّكُون ويهِزّون رءوسهم لك خَفْضَاً ورَفْعَاً عندما يسمعون رَدَّك عليهم بصورةٍ فيها استهزاء وتكذيب وتَعَجُّب ويقولون مُسْتَبْعِدين مُكَذّبين مُسْتَهْزِئين متي هو؟! أيْ متى هو ذلك اليوم الذي سيَحْدُث فيه هذا البَعْث والحساب الذي تَعِدنا به وتَدَّعِيه؟!.. ".. قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)" أيْ فقل لهم علي سبيل التهديد والتحذير أرجو أن يكون قريباً، فلعل هذا اليوم الذي تَستبعدون حُدُوثه يكون وقوعه قريباً، بل هو قريبٌ بلا أيِّ شكّ، فاحذروه وأحسنوا الاستعداد له بأن تؤمنوا، لأنَّ كل ما هو آتٍ فهو قريبٌ مهما ابْتَعد ومهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد، ثم قيامة كل إنسان هي وقت موته، حيث يأتي فجأة وفي أيِّ وقت، فيري في قبره بدايات عذابات وتعاسات الآخرة إنْ كان غير مُصَدِّق بها وعاش حياته في شَرّ.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالك الملك الذي لا يُمكن أن يُعطِي وعداً بشيء ثم لا يُوفِي به فهذا ليس من صفات العظماء الأوفياء! وإذا كان كثيرٌ مِن عظماء أوفياء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الوفاء كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد احتمالية تحريك عقولهم لعلهم يستفيقون مع احتمالية تغيير ذواتهم والأمل في تحقّق ذلك ليعودوا لربهم ولإسلامهم، للخير وللسعادة، قبل حُدُوث الأمر وفَوَات الأوَان، وفيه أيضا تهديدٌ لهم إنْ ماتوا مُصِرِّين علي سُوئهم، كما أنه يُفيد التّمَنِّي من الرسول (ص) والمسلمين مِن بَعْده بقُرْب حُدُوثه لينالوا أعظم الجزاء وينال أهل الشرّ عقابهم علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (63) من سورة الأحزاب ".. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا"، والآية (17) من سورة الشوري ".. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر يوم الحساب يوم القيامة يوم يناديكم خالقكم أيها الناس للخروج من قبوركم للبَعْث حيث سيُعاد خَلْقكم بأجسادكم وأرواحكم من بعد موتكم وكوْنكم تراباً كما خَلَقَكم أول مرّة من عدمٍ بمجرّد أن يقول لكم كُن فتكونون وذلك للحساب علي أقوالكم وأعمالكم في دنياكم، فتَستجيبون حينها أيْ فتُجيبون فتَنْبَعِثون جميعاً مُسْرِعين مُنْقَادِين مُسْتَسْلِمين بلا أيِّ امتناعٍ أو تَأَخُّرٍ أو هروب، بحمده أيْ وأنتم تحمدونه، فالمؤمنون يحمدونه لأنه سيُقيم العدل وسيُعطيهم حقوقهم ووعوده لهم ويُدخلهم الجنة في درجاتٍ علي حسب أعمالهم فيَتمتّعون ويَسعدون فيها تمام السعادة، والكافرون أيضا يَحمدون يَظنّون مُتَوَهِّمِين أنَّ هذا الحمد قد يشفع لهم ولكنْ لن ينفعهم حينها حتماً أيُّ شيء!.. ".. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)" أيْ وحالكم حينها أنكم تَتَوَهَّمون أنكم ما بَقِيتم في دنياكم وفي قبوركم بعد انتهاء آجالكم فيها إلا زَمَنَاً قليلاً حيث تَسْتَقْصِرُون المدة الطويلة بالنسبة لِمَا أنتم قادِمُون عليه من خُلُودٍ سواء في نعيم الجنان للمؤمنين أم عذاب النيران للكافرين، بما يُفيد أنَّ الحياة الدنيا مهما طالَت لا تُذْكَر نسبة للحياة الآخرة الخالدة، فليُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وإلا فتمام الحَسْرة والنّدَامَة يومها لمَن أساء في وقتٍ لن تنفعاه فيه بشيءٍ حيث تمام الخسارة والتعاسة وحيث شدّة العذاب والموقف تُنْسِيه وأمثاله مِن المُسيئين كل مُتَع الدنيا التي كانوا قد تَمَتّعوها ويعلمون حينها أنهم ما لبثوا فيها إلا قليلا
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت دوْمَاً متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)، بأنْ تقول وتفعل علي الدوام ما هو أحسن، في كل شيءٍ وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)
هذا، ومعني "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)" أيْ واذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لعبادي، أيْ لمَن يَعبدونني أيْ يُطيعونني، أي لعبادي الذين آمنوا أيْ الذين صَدَّقوا بوجودي وبكُتُبِي ورسلي وآخرتي وحسابي وعقابي وجنّتي وناري وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ويَنْسِبهم إليه سبحانه أنهم عباده تكريماً لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً أن يقولوا التي هي أحسن أيْ يقولوا دائماً في كل قولٍ بكل شئون حياتهم الكلمة التي هي أجمل – وبالقطع أيضا يَفعلوا الفِعْلَة ويَتّصِفوا بالصِّفَة التي هي أحسن – أيْ ليست التي هي حَسَنَة فقط أي جميلة طيِّبة لَيِّنة مُناسبة مُؤَثّرة مُفيدة مُسْعِدَة، بل التي هي أحسن أيْ أَجْمَل كلمة، وصِفَة، وأفضلها وأعظمها وأنْسَبها وأرْقاها وأطيبها وأكملها وأرفقها وألْيَنها وأحبّها وأهْدأها وأدَّقها وأكثرها فائدة وسعادة للآخرين في الداريْن، فإنه بذلك يَقْوَيَ الناس ويَنْمون ويتطوّرون ويَرْقون ويَزْدَهِرون ويَنْتصرون ويسعدون في دنياهم وأخراهم، بينما بالكلمة السَّيِّئة – والصِّفَة السِّيَّئة كذلك – يَتَفَرَّقون ويَخْتَلِفون ويَتَشَاحَنون ويَتَبَاغَضون ويتقاطعون ويتصارَعون وقد يَقتتلون فيَضعفون ويَنْكَمِشون ويتراجعون ويتخَلّفون ويَنهزمون ويتْعَسُون فيهما.. ".. إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ.." أيْ لأنَّ الشيطان يُفْسِد بينهم بوساوسه علي الدوام في كل شئونهم عند تعاملهم مع بعضهم البعض ومع غيرهم، فلْيَحذروا ذلك تماماً ويُعالِجوه بعدم الاستجابة لنَزْغِه وفِعْل عَكْسه وهو قول الكلمة وفِعل الصِّفَة التي هي أحسن، والنزْغ هو أيّ كلامٍ يُراد به الشرّ والإفساد سواء أكان سِرِّيَّاً أم عَلَنِيَّاً، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرّد علي كلّ خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمز لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجَعَله صِفَة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْماً لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنبذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمن اختار خيراً فله كل الخير ومن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)" أيْ لأنَّ الشيطان بالتأكيد كان وما زال مستمِرَّاً دَوْمَاً للإنسان عَدُوَّاً واضِحاً له، أيْ ضِدَّه يريد إضلاله أيْ إبعاده عن كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه، والسعيد هو مَن كان دائما حَذِرَاً مِن عدوه.. هذا، ولفظ "كان" في هذا المَوْضِع يدلّ علي الاستمرار
ومعني "رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي مُحيطٌ تماماً بأحوال جميع خَلْقه وأنَّ مصيرهم جميعا إليه.. أيْ ربكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أعلم بالقطع منكم ولا يُقارَن حتماً الخالق وعلمه بخَلْقِه وعلمهم، أعلم بكم وبما يُصلحكم ويُسعدكم من أنفسكم، وأعلم بما في نفوسكم أي عقولكم وأفكاركم مِن خيرٍ أو شَرّ، لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ما بداخل كل خَلْقه مِمَّا حتي لا يعلموه هم عن ذواتهم، ويعلم تماما ما يقولونه ويقصدونه بداخل عقولهم ويفعلونه من أيِّ خيرٍ أو شرٍّ سواء في الظاهر أمام الآخرين أم بمفردهم، في السرّ والعَلَن، ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته، وسيُحاسِبهم بما يُناسِب في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلمٍ علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة.. فليُحْسِن العاقل إذَن كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام فيما يُعْلِن وما يُخْفِي ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ.." أيْ إنْ يُرِدْ يرحمكم أيها الناس، وذلك إذا قُمْتُم بأسباب الرحمة وهي الإيمان والعمل الصالح، أو إنْ يُرِدْ يُعذّبكم، وذلك إذا قمتم بأسباب العذاب وهي الكفر والعمل السَّيِّء، ولا اعتراض عليه ولا يُمكن لأحدٍ مُطلقاً مَنْع مشيئته أيْ إرادته تعالي وذلك لأنه وحده الذي له كل ما في السماوات والأرض وما بينهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانعٍ مِمّا يشاء.. إنَّ مَن يَفعل الشرور والمَفاسِد والأضرار ولا يتوب منها فهذا في دنياه يُعَذّبه بكلّ شرّ وتعاسة علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، ثم في أخراه يُعَذّبه بعذابٍ هو أشدّ تعاسة وأعظم وأتمّ بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وهو يَرْحَم ويَغفرُ للذي يَتُوب من ذنوبه أيْ يُسقطها عنه ويزيلها ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبه عليها ويُسامحه بل ويَدفع عنه آثارها السيئة المُتْعِسَة ويُوفقه لكل خيرٍ فيسعد تمام السعادة في الداريْن بفِعْله الخير بعد توبته واستمراره عليه وإنْ عاد لأيِّ شرٍّ تاب منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيَستره ويُعينه ويُسعده.. إنَّ مَن يشاء مِن الناس الهداية لله وللإسلام، ويشاء نَيْل رحمة الله، أيْ سعادته التامَّة في دنياه وأخراه، بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيؤمن أي يُصَدِّق بوجود ربه ويتمسّك بكل أخلاق إسلامه، يشاؤها الله له أي يُيَسِّر له أسبابها ويُوَفّقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي ينال هذه الرحمة في الداريْن، والعكس صحيح تماما، فمَن لم يشأ الهداية ولا نَيْل الرحمة، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فيكفر بربه ويترك إسلامه، لم يشأها الله له أيْ لم يُيَسِّر له أسبابها ولم يُوَفّقه لها ولم يُسَدِّد خُطاه نحوها، وبالتالي فالنتيجة الحَتْمِيَّة ألاّ ينال هذه الرحمة بل ينال درجات من العذاب في الدنيا والآخرة علي قدْر شروره ومَفاسده وأضراره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)" أيْ وما بَعَثْناك علي الناس وكيلا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من بعده، أيْ ليس هناك أبداً مِن أحدٍ بوكيلٍ علي أحد، أيْ مَوْكُول ومُفَوَّض إليه أمره أيْ مُسَيْطِر عليه يُجْبِره علي اتّباع الهُدَيَ أي الخير والحقّ والعدل والسعادة أو اتّباع الضلال أي الشرّ والباطل والظلم والتعاسة، فمَن اتَّبَعَ الهُدي باختياره بكامل حرية إرادة عقله سَعِدَ في الداريْن ومَن اتَّبَعَ الضلال بكامل اختياره كذلك تَعِسَ فيهما (برجاء مراجعة أيضا الآية (256) من سورة البقرة "لاَ إِكْرَاه فِي الدِّين.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ليس علي الرسل الكرام ولا علي المسلمين مِن ذنبٍ بسبب هذا الذي يَضِلّ وليَطمَئِنّوا ما داموا قد أحسنوا دعوته بما استطاعوا، وليس عليهم إجباره علي أن يَهتدي، فهم فقط مُنْذرون مُبَلّغون له ولكلّ مَن ابتعد عن ربه ودينه، ثم هو الذي سيَختار أيّ الطريقيْن، طريق الهداية أو الضلال، دون أيِّ إكراه، ولهم أجور أداء واجبهم نحوه علي كلّ حالٍ سواء استجابَ أم لا.. فلا تَحزن يا رسولنا الكريم أنت والمسلمون مِن بعدك الذين يدعون مَن حولهم لله وللإسلام ولا تتأثّروا بهم واستمرّوا في تمسككم بإسلامكم ودعوتكم لهم ولغيرهم بما يناسب.. إنه ليس المطلوب أبدا مِن أيّ مسلم أن يكون عليهم حفيظا أيْ حافظا لأعمالهم مُراقِبا لها حتى يُحاسبهم عليها مُوَكَّلاً بهم لا يُفارقهم دون أن يؤمنوا! فليس له إكراههم على الإيمان، فما مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوْحاه إليه ربه، أي الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإن فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة من بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثّروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)" أيْ وربك كذلك حتماً يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – أعلم بالقطع منكم ولا يُقارَن حتماً الخالق وعلمه بخَلْقِه وعلمهم، أعلم بكل مَخْلوقٍ في السماوات والأرض، ظاهره وباطنه، لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم أكثر منه ما بداخل كل خَلْقه مِمَّا حتي لا يعلموه عن ذواتهم، ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن أيٍّ مِن مخلوقاته، فهو سبحانه لا يَقْتَصِر عِلْمه عليك يا محمد وعلى المسلمين وعلي الناس كما ذُكِرَ في الآية الكريمة السابقة ولكنَّ عِلْمه يشمل السماوات والأرض لا يَغِيب عنه أيّ شيء، وبسبب كمال العلم هذا وتمام القُدْرَة هذه يُقسِّم الأرزاق بين الخَلْق على حسب حال كلٍّ منهم بما يُحَقّق ما يُصلح الجميع.. ".. وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ.." أيْ ولهذا السبب وبناءً علي أنَّ ربك أعلم بمَن في السماوات والأرض ولا يفعل إلا كل ما فيه حِكْمَة وعِلْم، فلقد زِدْنَا ومَيَّزْنَا بعض النبيين علي بعضٍ أيْ جعلنا كلَّ نَبِيٍّ منهم مُمَيَّزَاً بميزَة تُناسِب عصره الذي هو فيه حتي يمكنه إقناع الناس بصِدْقه فيَثِقوا به فيؤمنوا، وكلهم متساوون في النّبُوَّة وكمال الخُلُق ولكنَّ التمييز في أنَّ بعضهم كان له مُعجزات تُناسب الزمن الذي هو فيه بما ليس للآخر والذي هو أيضا كان له من المُعجزات ما ليس عند غيره، فالكل كان له تفضيل أيْ زيادة في بعض الأمور لم تكن لغيره من الرسل وكان لغيره تفضيل عليه في بعض الأمور الأخري بما يُناسب أزمانهم، فمثلا تكون النار بَرْدَاً وسلاماً علي إبراهيم فلا تؤذيه ويَفهم سليمان لغة الطيور والدَّوابّ ويُسَخّر الرياح ويَشقّ موسي بعصاه البحر فينجو وقومه من عدوهم وغير ذلك من الأمثلة الكثير من أجل تحقيق الغاية السامية التي يريدها الله تعالي من إرسال الرسل وتأييدهم بمعجزاته وهي إيمان الناس أيْ تصديقهم به وعملهم بالإسلام الذي أرسله إليهم مع رسله لكي يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ ليسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة لأنهم خَلْقه ولا يمكن أن يَتركهم يَضيعون ويَتعسون فيهما وهو الحكيم الرحيم الودود.. ثم في الآخرة لهم جميعا أعظم الدرجات في أعلي الجنات علي حسب ما بذلوه من جهود.. إنَّ من بعض أمثلة هذا التمييز وصُوَر إعطاءِ كلٍّ منهم في الدنيا بعض المُمَيِّزات والدرجات والمَكَانات علي حسب ما يحتاجه لأداء مهمّته في زمنه بدعوةِ مَن حوله لله وللإسلام، كلام الله مباشرة بدون واسِطَةِ مَلَكٍ للرسول الكريم موسي (ص) حين أوْحَيَ إليه التوراة عند جبل الطور بسيناء بأرض مصر، وإعطاء الله المُلْك والسلطان والحُكْمَ والنفوذ للرسل الكرام داود وسليمان ويوسف، وإشفاء المرضي وإحياء الموتي بإذن الله علي يد الرسول الكريم عيسي (ص)، وإيحاء القرآن العظيم لرسولنا الكريم محمد (ص) والذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. ".. وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)" أيْ وأعطينا نبينا الكريم داوود زبورا، وزَبُور في اللغة يعني مَزْبُور أيْ مَكْتُوب أيْ وأعطيناه كتاباً مَكْتُوبَاً قد كُتِبَ فيه نصائحنا ووصايانا يُقْرَأ ويُرَتّل ويُعْمَل بأخلاقه.. وقد ذُكِرَ داوود (ص) في هذه الآية الكريمة دون غيره من الأنبياء لأنه كان مَعْلُومَاً للعرب مِثْل إبراهيم (ص) مِن خلال مَن حولهم مِن اليهود فيكون ذلك تَذْكِرَة لهم أنكم ما دمتم تُوقِنون بنَبِيٍّ اسمه داوود وبكتابٍ أُنْزِل عليه مِن ربه هو الزبور قد فضَّله به بعد ما أعطاه مِن مُلْكٍ فلماذا تُكَذّبون إذَن أنَّ مَن أرسله سبحانه قد أرسل بعده نَبِيَّاً آخر هو النبيّ الكريم محمد (ص) وفضَّله بأنْ أوْحَيَ إليه القرآن العظيم؟!
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهؤلاء الذين يُشركون في العبادة مع الله آلهة أخري كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو غيرها، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ادعوا أيْ اطلبوا علي سبيل الدعاء من هذه الآلهة التي زعمتم أي ادَّعَيْتُم كذباً وزُورَاً أنها آلهة من دونه أيْ غيره تعالي أيْ شَرِيكَة لله في مُلْكِه وتَستحقّ أن تُعبَد أي تُطاع أن تنفعكم بأيّ شيءٍ أو تمنعكم من أيّ ضَرَر، وانظروا هل ستَفعل ذلك؟! وهم لن يدْعوها بكل تأكيد لأنهم يعلمون تماما أنها لن تفعل لهم شيئا! فهي مَخْلُوقة مِثْلهم بل أضعف منهم! وكيف يكون العابد أقوي من المعبود هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟! ولكنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم عند الضرر يَدْعون الله تعالي وحده لكشفه وإزالته بكل تَوَسُّلٍ واحتياج وتَذلّل لأنَّ حينها تَنْطِق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ! (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، فهُمْ حينها يَنْسون بل يَحتقرون عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كلّ شيءٍ لأنهم متأكّدون أنها لن تنفعهم بأيّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. هذا، والقرآن يستخدم صيغة العاقل لها رغم أنها أصنام ونحوها لا تعقل ليُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم ولأنَّ بعضهم يعتبرونها عاقلة أو قد يَعْبُد بَشَرَاً.. وفي هذا القول لهم لوْم شديد وتأنيب وتحقير وتعجيز لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)" أيْ فإذا دَعَوْتُمُوها فإنها لا تَمْلِك أيْ لا تستطيع إزالة الضرر عنكم ولا تستطيع كذلك تحويله إلى غيركم مِمَّن لم يعبدها أو تحويل حالكم من الضرّ إلى النفع والنعمة والرحمة والخير ومن العُسْر والتعاسة إلي اليُسْر والسعادة، ومَن لا يَملك ذلك لا يستحقّ العبادة بكل تأكيد إذ شرط استحقاقها القُدْرَة الكاملة التامّة على دفع الضرّ وجَلْب النفع، وبالتالي فاتركوا عبادتها واعبدوا الله تعالي وحده فهو خالقكم وهو القادر علي كل شيء وهو النافع الضارّ علي الحقيقة ومن حيث الأصل وما أعمال البَشَر إلا أسباب من أسبابه (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك)
ومعني "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)" أيْ هؤلاء المَعْبُودون الذين يَدْعُون أيْ يَعْبدون إيَّاهم ويَعتبرونهم آلهة كذباً وزُورَاً هؤلاء الذين يعبدون غير الله تعالي، هم أنفسهم هؤلاء الآلهة يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيهم أقرب، أيْ يَطلبون الطريقة التي توصلهم إلي ثواب ربهم في الداريْن ويجتهد كلٌّ منهم وأيٌّ منهم ليكون أقرب لرحمته وخيره وعطائه وذلك بطاعته، فكيف يعبدون بالتالي إذن مَن هو عابِد لله أصلا؟! إنَّ عليهم أنْ يعبدوا الإله الذي يعبده آلهتهم المَزْعُومَة هذه وهو الله تعالي المُسْتَحِقّ وحده للعبادة!! فهذا هو الذي مِن المُفْتَرَض أن يفعله كل عاقل!! والمقصود أنَّ بعض السفهاء يعبدون الرسول الكريم عيسي (ص) أو الملائكة أو الكواكب أو ما شابه هذا، فيُذَكّرهم سبحانه لعلهم يستفيقون ويعبدونه ليسعدوا في الداريْن أنَّ كل المَعْبُودين هؤلاء هم مخلوقات له تَعبده وحده أيْ تُطيعه ولا تَعصيه، وحتي لو كانت جماداً كحَجَرٍ وغيره فهي تُطيعه بأدائها مهمّتها التي خَلَقها من أجلها لنفع الإنسان، فبالتالي الذي يَعْبُدُ لا يُعْبَد إذَن، والذي يَتَقَرَّب إلى الله بالطاعات لا يُتَقَرَّب إليه، وإنما التّقَرُّب المَنْطِقِيّ العَقْلِيّ يكون إلى مَن هو يُتَقَرَّب إليه أصلا وهو الله تعالي وحده لنَيْل حبّه وعوْنه وإسعاده في الداريْن.. ".. وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.." أيْ وهم إضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره يَطلبون رحمته بطاعته ودعائه ويَخْشَوْن عذابه إنْ خالَفوا وَصَاياه وأوامره، ككلّ العباد، فكيف إذن تَدَّعُون أنهم آلهة؟!.. ".. إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)" أيْ لأنَّ عذاب ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان، كان ولا زال وسيَسْتَمِرّ حتماً ليوم القيامة – ولفظ "كان" في هذا المَوْضِع يدلّ علي الاستمرار – مَحْذورَاً أيْ يُحْذَر منه حَذَرَاً شديداً من أيِّ عاقل، لأنه لا يُوصَف، وذلك بتَرْك كل شرٍّ وفِعْل كل خيرٍ من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام، فهو تعالي يُعذّب المُسيئين بما يُناسِب سُوئهم بدرجةٍ مَا من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. هذا، وفي الآية الكريمة تَذْكِيرٌ للمسلم بأنْ يَطلب أفضل الوسيلة التي تُقَرِّبه لربه وأنْ يحيا مُتَوَازِنَاً بين الخوف والرجاء، بين خوف عذاب الله وعقابه وغضبه وعدم توفيقه في الدنيا ثم ما هو أعظم في الآخرة، وبين رَجَاء أيْ طَلَب وتَمَنّي وتَأَمُّل حبّه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه ونصره ورحمته وإسعاده فيهما (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقات قليلة
هذا، ومعني "وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)" أيْ ومَا مِن بَلْدَةٍ من البلْدان في أيِّ زمانٍ ومكانٍ يكون أهلها ظالمين مُصِرِّين علي ظلمهم بلا أيِّ توبة، أيْ ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، إلا في حياتها الدنيا قبل يوم القيامة وعلي حسب درجة ظلمهم سنُهْلِكها وأهلها أيْ سنُبيدها ونُبيدهم ونَسْتَأْصِلها ونَسْتَأْصِلهم تماما من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، أو نُعَذّبها ونُعَذّبهم عذاباً عظيماً مُؤلِمَاً لا يُوصَف بلا استئصالٍ بدرجةٍ مَا من درجات العذاب بما يُناسب سُوئهم، بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. فلْيَتَّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم بل يَفعل كلّ خيرٍ ويَتْرك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام لينالَ سعادتيّ دنياه وأخراه وإلا تَعِسَ فيهما علي قَدْر بُعْده عنها.. ".. كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ كان ذلك الإهلاك والعذاب في اللوح المحفوظ مكتوبا، وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما، وما دام الأمر كذلك مسطوراً فلابُدَّ مِن حُدُوثه، علي مَن لم يَتُبْ، ولا يمكن لأيِّ أحدٍ تغييره أو مَنْعه، فلْيُسارِع بالتالي إذَن كل ظالمٍ بالتوبة والعودة لربه ولإسلامه ليسعد في الداريْن قبل فَوَات الأوَان ونزول العذاب فيهما
ومعني "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رحمة وحِلْم الله تعالي بالناس وكمال حِكْمته وعِلْمه في تقديراته لهم.. أيْ ومَا مَنَعَنا أن نُرْسِل بالمُعْجِزات الخارِقات للعادَات إلا رحمة بكم لأننا لو أرسلناها أيْ بَعثناها وأطلقناها وجعلناها ثم كذّبتـم ولم تؤمنوا كما كذّب بها الأولون أيْ السابقون قبلكم أصابكم ما أصابهم من الهلاك وقد حَكَمْنا وقَدَّرْنا بإمهال الناس وعدم استئصالهم إلي يوم القيامة وذلك منذ وقت نزول القرآن الكريم.. والمقصود أننا مَا تَرَكْنا إرسال المُعْجِزات، بعد إرسال مُعْجِزَة القرآن العظيم، إلا بسبب تكذيب السابقين قبل نزوله حيث عندما نستجيب لِمَا طَلَبوه مِن مُعجزات حِسِّيَّة علي يد رسلهم ثم لا يؤمنوا بعد حُدُوثها أمامهم فإننا نُهلكهم بسبب تكذيبهم ما رأوه بأعينهم، لأنَّ هذا التكذيب حينها معناه أنهم مُعانِدون ومُصَمِّمُون علي عدم الإيمان، وقد نَبَّههم رسلهم أنه لو حَدَثَ مثل هذا الإصرار علي التكذيب فستكون النتيجة الحَتْمِيَّة هي عذاب الله المُهْلِك أيْ الذي سيَستأصلهم من الحياة ليأتي من بعدهم آخرين قد يكونوا صالحين.. أمّا بعد نزول القرآن فالأمر يختلف، فبعد نزوله، والذي هو لكل العالمين، والذي ليس بعده كتاب آخر حتي يوم القيامة، فليس من الحِكْمَة إهلاك مَن يُكَذّب، وإنما تُتْرَك له فُرْصَة تشغيل عقله، لأنَّ القرآن مُعْجِزَته أنه يُخاطِب عقل الإنسان مراتٍ ومرات ويصبر عليه حتي يقتنع فيَسعد في الداريْن، والإهلاك يُفَوِّت عليه هذه الفُرَص، وهذا من رحمة الله تعالي بخَلْقِه حتي قيام الساعة ليستفيقوا يوماً مَا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا، فبعد نزوله لا داعي إذَن لمُعْجِزَةٍ حِسِّيَّة يُكَذّب بها البعض فيستحِقّون الهلاك وقد نَظّمْنَا الحياة علي أنه لا إهلاك بعد نزول القرآن وإنما الإمهال أيْ التَرْك لعلهم ينتفعون بهذه الرحمة، ويكون العذاب الشديد بالإهلاك فقط في حالاتٍ استثنائية، حينما تَشْتَدّ شرور ومَفاسد وأضرار أهل الشرّ ويَصِلُون لمرحلة عدم الاستجابة لأيِّ خيرٍ رغم دعوتهم له كثيراً ولفتراتٍ طويلةٍ مِمَّن حولهم مِن المسلمين بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنة.. إنه ليس من الحِكْمَة إرسال آياتٍ أيْ مُعْجِزاتٍ مَحْسُوسَةٍ مَلْمُوسَةٍ بعد نزول القرآن العظيم، لأنه هو المُعْجِزَة الكبري التي لا تُساويها ولا حتي تُقارِبها أيُّ معجزةٍ أخري حِسِّيَّة، كعصي سيدنا موسي (ص) مثلا التي تتحوّل إلي ثعبانٍ حقيقيّ أو كإحياء الموتي لسيدنا عيسي (ص) أو ما شابه هذا، والتي كانت مُناسبة للإقناع وقتها، لأنَّ معجزة القرآن تَتَمَثّل في أنه أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، بينما أيّ معجزةٍ حِسِّيَّةٍ تكون مُؤَقّتة تنتهي بانتهائها وتكون محدودة لا يَلْمَسها إلا مَن يراها فقط بينما مَن لم يحضرها مِن المُمْكِن ألا يُؤمِن بها أيْ لا يُصَدِّقها.. هذا، ولفظ "ومَا مَنَعَنا" لا يعني حتماً أنَّ الله تعالى يكون ممنوعاً عن شيءٍ من أيِّ أحدٍ!! فإنه سبحانه بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا يمنعه أيُّ شيءٍ عن فِعْل أيِّ شيءٍ فهو القادر علي كل شيء، والمقصود المُبَالَغَة في أنه لا يَفْعَل، فكأنه قد مُنِعَ عنه، رحمة وحكمة وعلماً بخَلْقه.. ".. وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا.." أيْ ومِن أمثلة تكذيب الأوّلِين والذين تعلمونهم واشتهرت أخبارهم بينكم وتَرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاكنا لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها، أننا أعطينا ثمود وهم قوم رسولنا الكريم صالح الناقة مُبْصِرَة أيْ كمُعْجِزَة مُبْصِرَة أيْ مُبَيِّنَة لصِدْق نُبُوَّته أيْ ذات إبصار يراها الناس بأبصارهم فهي واضِحَة ومِن شِدَّة وضوحها تجعل كل مَن يراها مُبْصِرَاً ذا بَصِيرَة أيْ عقل فهي إذَن مُبَصِّرَة ومُبْصَرَة لكل عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادِلٍ حيث خَلَقَها سبحانه بصورةٍ مختلفةٍ في صفاتها عن بقية النّوق إذ هي خَرَجَت من هضبةٍ وصخرةٍ كانوا قد سألوه إخراجها منها كمُعجزةٍ لتَدُلّ علي صِدْقه حتي يَتَّبعوه، كما أنها كانت كأنها عاقِلَة بإلهامٍ منه تعالي حيث تأتي في وقتٍ مُحَدَّدٍ للرعي وللشرب وتترك لهم أوقاتاً أخري يرعون هم فيها دَوَابّهم.. ".. فَظَلَمُوا بِهَا.." أيْ فظلموا أنفسهم بالكفر أيْ التكذيب بها والعِناد لها والاستكبار عليها والاستهزاء منها حيث أتعسوا ذواتهم بعدم الاستجابة لها وببُعْدهم عن ربهم ودينهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار فاستحقّوا بذلك عقابه تعالي بتعذيبهم وإتعاسهم بل وإهلاكهم لَمَّا أصَرُّوا علي ذلك بلا أيِّ توبةٍ أيْ رجوع له ولإسلامهم.. ".. وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)" أيْ وما نَبْعث بالمُعجزات التي فيها عذاب كالرياح والصواعق والفيضانات والأوبئة والأمراض وغيرها إلا تخويفاً للمُكَذّبين ليعودوا عن تكذيبهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما، وكذلك ما نبعث الآيات التي في القرآن الكريم عن عذابيّ الدنيا والآخرة لمَن يُكذّب ويَعْصِي إلا تخويفاً أيْ لإحداث الخوف لهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم، وأيضا ما نبعث الآيات التي فيها عِبَر كتَغَيُّر الحال مِن قوةٍ لضعفٍ ومِن غِنَي لفقرٍ ونحو هذا وكحُدُوث الموت إلا تخويفاً للناس من سوء نتائج البُعْد عن الله والإسلام فيَعْتَبِروا فيَستمرّوا علي طاعتهما فيُحْسِنوا طَلَب دنياهم وأخراهم معا.. إنَّ هدف آيات الله تعالي الاتّعاظ والتّدَبُّر والتّذْكِرَة والتوبة وحُسْن العمل، فكلّ مَن يَتَدَبَّر بعقله بإنصافٍ في أيِّ آيةٍ مِن آياته سبحانه في كوْنه العظيم أو في قرآنه الكريم لابُدَّ حتماً أن يزداد تَأكّدَاً بوجوده وحُبَّا له وقُرْبَاً منه وتَوَكّلاً عليه وخوفاً من عذاب تكذيبه أو عصيانه وتوبة إليه وطَلَبَاً لرحماته وخيراته بعمل الصالحات فيَسعد بذلك تمام السعادة في دنياه وأخراه
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)" أيْ واذْكُر وذَكّر مَن حولك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكروا حين قلنا لك فيما أوْحَيْناه إليك في القرآن الكريم إنَّ ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – قد أحاط بالناس أيْ إنه سبحانه يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، فالجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية منهم، ولا مَفَرّ للمُكَذّبين والعاصِين من عذابه الدنيويّ والأخرويّ، ولا يصعب عليه حتماً مَنْع اعتداء المُعْتَدِين علي الإسلام والمسلمين ونَصْرهم عليهم، وهو يُحيط الصالحين بكل رحماته ورعاياته وأمنه وحبه ورضاه وعَوْنه وتوفيقه وسَدَاده ونَصْره وقوَّته ورزقه وإسعاده في دنياهم وأخراهم.. وبالتالي فاعبدوه وحده واشكروه وتوكّلوا عليه وحده واتقوه وخافوه وراقبوه وحده وافعلوا كل خير واتركوا كل شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة كذلك تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِيراً للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين مِن بعده وتخفيفاً عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْناً لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، لأنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (67) من سورة المائدة ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.." أيْ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إيَّاها ليلة الإسراء والمعراج حيث عَرَجْنا أيْ صَعَدْنا بك للسماء إلا اختباراً للناس ليَتَمَيَّز مؤمنهم من كافرهم، لأنك لَمَّا قَصَصْتَها عليهم صَدَّقك المؤمنون وكَذّبك الكافرون وأشباههم، حيث جعلناك تُشاهِد بعَيْنَيْك بعض دلالاتنا الواضِحات القاطِعات في عجائب مَخْلوقات كَوْننا المُعْجِزات التي تدلّ علي أننا الخالق القادر علي كل شيءٍ المُسْتَحِقّ وحدنا للعبادة وتُشاهِد مَقامَ ربك وبعض مَشاهِد جنته وناره، ليكون ما عَلِمته من خلال الوَحْي قد علمته بالرؤية والمشاهدة لتزداد يقيناً على يقينك وثَبَاتَاً على ثباتك في تمام صواب ما أنت عليه وقوّة على قوَّتك في حمل أمانة الإسلام وتبليغه للعالمين ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهذا من عظيم تكريمنا لك وللمؤمنين حيث لم يحدث هذا لأحدٍ من رسلنا الكرام، فالمؤمنون أيْ المُصَدِّقون بالله ورسوله (ص) يزدادون بعلمهم بهذه الرؤيا إيماناً وتثبيتاً بوجود ربهم وقُدْرَته وحكمته ورحمته فيزدادون تصديقاً لربهم ولرسولهم ولقرآنهم فيزدادون بالتالي تمسّكَاً وعملاً بكل أخلاق إسلامهم لأنهم يُحْسِنون استخدام عقولهم فيَخرجون من أيِّ اختبارٍ في حياتهم مُستفيدين مُنْتَفِعين خبرات ومكاسب تسعدهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن حُسْن التعامُل مع الاختبار وفوائده وسعاداته في الداريْن)، بينما غير المؤمنين يُعَطّلون استخدام عقولهم ويُعانِدون فطرتهم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فلا يَنتفعون بمِثْل هذه الاختبارات، فلا يُصَدِّقون بحُدُوث قصة الإسراء والمعراج بل بعضهم أو كثير منهم قد يزداد سُوءَاً في حياته وشَرَّاً، وقد يزداد بُعْدَاً عن ربه وإسلامه وقرآنه وعِنادَاً واستهزاءً عند الحديث عن هذه القصة وما يُشبهها، وما كل ذلك التعطيل للعقول إلا بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ.." أيْ وما جعلنا الشجرة المَذْمُومَة التي ذُكِرَت في القرآن – وهى شجرة الزَّقوم التي تنبت في النار ويأكل منها أهلها كنوعٍ من عذابها حيث الزّقوم هو كلّ طعامٍ قاتلٍ كريهِ الطعم والرائحة – إلا اختباراً للناس أيضاً، إذ قال بعضهم النار تَحْرِق الشجر أصلاً فكيف تُنْبِت هذه الشجرة ولا تَحْرقها فهذا مِمَّا لا يُصَدِّقه عقل؟! فتَمَيَّزوا بتلك الفتنة كذلك حيث صَدَّق المؤمنون بقُدْرَة الله تعالي القادر علي كل شيءٍ وكَذّبَ واسْتَهْزَأ الكافرون ومَن يَتَشَبَّه بهم.. ".. وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)" أيْ ونُخَوِّف الظالمين بعذابنا في الدنيا والآخرة بما نَذْكُره في آيات العذاب بالقرآن الكريم وبما ننزله عليهم أحيانا منه في دنياهم حيث الشرّ والتعاسة بما يُناسب ظلمهم، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، فيَتّعِظ المؤمنون بذلك التخويف ويعودون عن ظلمهم إذا ظلموا ويعودون لربهم ولإسلامهم فيسعدون فيهما، ولا يزيد ذلك التخويف الكافرين وأشباههم وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، لا يزيدهم اتّعاظَاً لكنْ لا يزيدهم إلا طغياناً كبيراً بَدَلَ أن يَتّعِظوا ويعودوا فيسعدوا أيْ إلا تَجَاوُزاً شديداً في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس، بما يَدُلّ علي تمام إصرارهم علي ما هم فيه، وما كل هذا الإصرار علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم كلما تَمَّ التخويف واتّعَظَ المؤمنون وانتشرَ الإسلام كلما زادوا هم طغياناً أيْ تَمَادِيَاً في مُخالَفته ومقاومته ومحاربته ومحاربة مَن يَتّخِذه مَرْجِعَاً لحياته، لأنه يفضحهم ويكشفهم حيث يُبَصِّر الناس ويُوقظهم فلا يمكنهم اسْتِغْفالهم واسْتِعْبادهم ونَهْب ثرواتهم وجهودهم لأنَّ الإسلام هو الذي يجعلهم يحافظون عليها.. إنَّ هدف آيات الله تعالي الاتّعاظ والتّدَبُّر والتّذْكِرَة والتوبة وحُسْن العمل، فكلّ مَن يَتَدَبَّر بعقله بإنصافٍ في أيِّ آيةٍ مِن آياته سبحانه في كوْنه العظيم أو في قرآنه الكريم أو فيما يَحْدُث من أحداثٍ له وحوله لابُدَّ حتماً أن يزداد تَأكّدَاً بوجوده وحُبَّا له وقُرْبَاً منه وتَوَكّلاً عليه وخوفاً من عذاب تكذيبه أو عصيانه وتوبة إليه وطَلَبَاً لرحماته وخيراته بعمل الصالحات فيَسعد بذلك تمام السعادة في دنياه وأخراه.. إنه مِن رحمة الله التامّة للناس وحبّه لهم أنه يُحَذّرهم بما سيَحدث للمُكذبين منهم المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين الفاسدين الظالمين الذين ينشرون فسادهم وشرَّهم وظلمهم وضَرَرهم ويُتعسون ذواتهم وغيرهم بل والكوْن كله بذلك، يُحَذّرهم بالعقاب قبلها ولا يُعاقِبهم دون إنذارٍ أو يتركهم في غفلتهم ونسيانهم وتعاستهم، بل يُذَكِّرهم ويُوقظهم حتي يَتَجَنَّبوا هذا العذاب المُهين كله فلا يَقعوا فيه ويَحيوا حياتهم الدنيوية ثم الأخروية في تمام السعادة وذلك من خلال طاعتهم له سبحانه بالتمسّك والعمل بأخلاق إسلامه، فالمُحِبّ دائما يُحَذّر حبيبه مِمَّا قد يُصيبه مستقبلا حبا فيه وحرصا عليه ألّا يَقَع به، وصاحب العقل المُنْصِف العادِل الذي يُحْسِن استخدامه لابُدّ أن يستجيب لِمَا فيه مصلحته وسعادته
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلفك بهذا حيث خَلَق سبحانه خَلْقَه لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا وَثَقْتَ تماما أنَّ خالقك الكريم قد وضع في عقلك بذور معرفة كل أسرار الكوْن ومنافعه وعلومه وما عليك إلا أن تُنَمِّيها (برجاء مراجعة الآيات (31)، (32)، (33) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا عِشْتَ حياتك كلها عزيزاً كريما عفيفا مُتَرَفّعَاً عن كلّ ما يَحطّ مِن قَدْرك مِن عملٍ قبيح سَيِّءٍ يضرّك ويتعسك، حيث نَبَّهَكَ خالقك لذلك حين أسجدَ لك ملائكته وجعل الأرض كلها بما عليها وفيها مِن مخلوقاتٍ مُسَخَّرَة لنفعك ولسعادتك إذا أحسنتَ تسخيرها واستخدامها (برجاء مراجعة الآيات (34) حتي (39) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. إنَّ الله تعالي في هذه الآيات الكريمة يستخدم أسلوب التمثيل القصصيّ ليُوَضّح لنا تجربة الحياة وأصولها وكيفيتها والمُؤَثّرات فيها قبل أن تبدأ لنَعْتَبِرَ بها ونستعدّ لها أحسنَ وأتمّ الاستعداد لنَنْصِلَح ونَكْمُل ونسعد فيها تمام السعادة ثم بسعادة الخلود التامّة العظيمة في الآخرة (برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة بدء الحياة وقصتها وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان)
هذا، ومعني "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسَارَعَت كلها بالسجود له استجابة لأمر الله تعالي، وهذا من أعظم التكريم للإنسان ليَسْتَشْعِر مَكَانَته فيكون علي مستوي هذه المَكَانَة فلا يَتَدَنّيَ ويَنْحَطّ ويُهِين كرامته بفِعْل الشَّرّ المُضِرّ المُهِين المُذِلّ المُتْعِس وإنما يَفعل دائما كلّ خيرٍ مُفِيدٍ مُعِزّ مُسْعِدٍ في الداريْن، فقد أسْجَدَ سبحانه له ملائكته كدلالة علي أنَّ الأرض بما فيها مِن مخلوقاتٍ هي مُسَخّرَة له فليُحْسِن إذَن التعامُل معها والانتفاع والسعادة بها، إضافة إلي أنه قد خَلَقه سبحانه علي أفضل صورةٍ ووَضَعَ فيه تعالي جزءَاً من روحه أيْ قدْرته ليكون علي صِلَةٍ تامَّةٍ دائمةٍ معه فيَطْمَئِنّ ويَسْعَد تمام الاطمئنان والسعادة بذلك في دنياه وأخراه.. هذا، وسجود الملائكة يعني الانحناء والتعظيم لأنَّ السجود المعروف لا يكون إلا لله تعالي.. ".. إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)" أيْ فيما عدا إبليس، فقد رَفَضَ وامْتَنَعَ وقال مُتَعَالِيَاً مُتَكَبِّرَاً مُنْكِرَاً – أيْ رافِضَاً – مُتَعَجِّبَاً مُتَفَاخِرَاً مُحْتَقِرَاً عاصِيَاً هل أسجد لمَن خَلَقته مِن طينٍ وهو آدم وأنا أفضل منه حيث خَلَقْتَنِي مِن نار؟! فهو قد تَعَاظُمَ وتَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي أمر السجود واستهزأَ به فلم يَستجب له فكان بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين.. ومقصود الآية الكريمة أن يعلم الإنسان أنه سيكون في الحياة استكبار وعِناد واستعلاء علي الحقّ والعدل والخير وظلم وفساد وضَرَر فلا يفعل مِثْل هذا مطلقا وإلا سيكون مصيره مثل مصير الشيطان أيْ مثل مصير كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه، أي التعاسة التامّة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا.. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام)
ومعني "قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)" أيْ هذا تفصيلٌ لِمَا قاله إبليس في اعتراضه على السجود لآدم.. أيْ قال جَرَاءةً على الله تعالي خالقه وعصياناً له واسْتِصْغاراً لمَخْلوقه آدم وتَحْقِيراً لشأنه واسْتِكْباراً عليه أَخْبِرْنِي هل هذا الذي فَضَّلْتَ عليَّ بأنْ أمرتني بالسجود له؟! أخبرني لماذا كَرَّمته عليَّ وهو المَخْلوق من الطين الحقير وأنا الأفضل المُسْتَحِقّ للتكريم حيث خُلْقَتُ من النار؟! هل تَرَيَ هذا الذي كَرَّمْته عليَّ لأفْعَلَنَّ به كذا وكذا من السوء بما يجعله وَضِيعَاً خَسِيسَاً لا كريما!! وفي هذا تحذيرٌ ضِمْنِيٌّ لبني آدم ألا يَتّبعوه فيما يُوَسْوِس به إليهم من سُوءٍ وإلا فقدوا كرامتهم وصاروا في حالةٍ وَضِيعَةٍ خَسِيسَةٍ تَعيسةٍ في الداريْن.. ".. لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)" أيْ إذا أَجَّلْتَ موتي وتَرَكتني وأبْقَيْتَني حَيَّاً في الحياة الدنيا إلي يوم القيامة فسَأحْتَنِك – واللام والنون للتأكيد – أيْ سأَرْبط من الحَنَك أيْ الفم أبناءه أيْ بني آدم كلهم وأقودهم خَلْفِي لكل شرٍّ كما تُقادُ الدوابُّ من لِجَامها الذي في حَنَكها لِمَا يُريده قائدها، إلا عدداً قليلاً منهم وهم الذين يعملون بكل أخلاق إسلامهم في كل أقوالهم وأعمالهم بكل شئون حياتهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (39) حتي (42) من سورة الحجر "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ"، "إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ"، "قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ"، "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا تأكيدٌ وتنبيهٌ علي استمرارِيَّة وجود الشرّ حتي نهاية الحياة الدنيا ليَتَّخِذ الناس جميعاً مزيداً من الحَذَر نحوه، لأنَّ حكمة الله تعالي تَطَلّبَت السماح بوجود الشرّ في الدنيا حيث فيه مصلحة بني آدم وذلك لا ليَفعلوه وإنما لكي لا يَتّبعوه بل ويُقاوموه فتزداد قوة إرادة عقولهم فيَنطلقون في الحياة بهذه الإرادة القوية يستكشفون خيراتها أكثر وأكثر وينتفعون ويسعدون بها أكثر وأكثر ثم يكون لهم بذلك في آخرتهم السعادة الأكثر والأعظم والأتمّ والأخلد، وهذا سيكون هو حال الذين لا يستجيبون لأيّ شرّ – وإنْ استجابوا أحيانا تابوا منه سريعا – ويَتّبِعون كل خيرٍ أيْ يتمسّكون ويعملون بكل أخلاق إسلامهم.. هذا، وقد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. هذا، ولفظ "إلا قليلا" لا يعني أنَّ أهل الخير قليلون! وإنْ كان قد تَحْدُث مِثْل هذه الفترات إذا ابتعد الإنسان عن ربه ودينه واتّبَعَ الشرّ، لكنْ لعل المقصود التشجيع والتحفيز ليكون المسلم من هذا القليل ثم ينشر الخير أيْ الإسلام، حتي يكون هو الكثير بل الأكثر بل يكون كل البَشَر مثله متمسّكين عاملين بكل أخلاق إسلامهم ليسعد الجميع في دنياهم وأخراهم
ومعني "قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)"، "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ لِبَنِي آدم بعدم اتّباع الشرّ ووَسَاوِسه ووَسَائله واتّباع الخير ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ قال الله تعالي انْطَلِق وامْضِ مُستَمِرَّاً في تنفيذ عملك وسِرْ وتَقَدَّمْ فقد أذِنَّا وسَمَحْنا بوجود الشرّ في الحياة الدنيا ليُقاوِمه بنو آدم بعقولهم فتزداد قوة إرادة هذه العقول فينطلقون في حياتهم بهذه الإرادة القوية يستكشفون خيراتها أكثر فيسعدون فيها أكثر ثم في آخرتهم أكثر وأكثر.. ".. فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ.." أيْ فإنْ ذَهَبْتَ وحاوَلْتَ احْتِناكهم فمَن سَارَ خَلْفَك منهم وأطاعَك في الشرّ والفساد وعَصَانِي بأنْ خَالَف الإسلام.. ".. فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)" أيْ فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أن تكون نار جهنم – وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – بعذابها الذي لا يُوصَف هي عِقابكم عِقاباً وَفِيرَاً كثيراً كاملاً لا نَقْص فيه، علي قَدْر شرور وأضرار كلٍّ منكم.. وذلك قطعاً مع نار وعذاب الدنيا الذي يكونون فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي يتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)" أيْ واسْتَخْفِف كلّ مَن تستطيع اسْتِخْفافه منهم بصوتك أيْ بدعوتك إيّاه إلى معصيتي، سواء أكان بصوتٍ خَفِيٍّ كالوَسْوَسَة أيْ الخَوَاطِر الشَّرِّيَّة بالعقل أم بصوتٍ مرتفعٍ مِن أُناسٍ أشرارٍ يَدْعُون للشَّرِّ ويَنْشرونه.. والاسْتِفْزاز هو الاسْتِخْفاف مع الخِداع والإزْعاج وإثارة الاضطراب والفَزَع، والاستخفاف هو طَلَب الخِفَّة والطيش والجهل بتَرْك أخلاق الإسلام وإساءة الأدب والتَّهَوُّر والاستهانة والاستهزاء والاحتقار عند التَّعامُل مع الآخرين ومع مواقف الحياة المختلفة بما يُؤَدِّي حتماً لتعاستيّ الدنيا والآخرة.. ".. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ.." أيْ وأَجْمِع وأَحْضِر عليهم بكلّ جنودك مِن كلّ راكبِ خَيْلٍ أو غيره وكل راجلٍ أيْ ماشٍ، في معصية الله، والمقصود اسْتَجْمِع كلّ وسائلك المُتَعَدِّدَة المُتَنَوِّعَة لنَشْر شَرِّك وفسادك بينهم.. وفي هذا مزيدٌ من التحذير من الشَّرِّ ودَوَام عَدَاوَته وتَعَدُّد وتَنَوُّع وسائله للانتباه لها وتَجَنّبها وعدم اتّباعها مُطْلَقَاً.. ".. وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ.." أيْ واشترك معهم في الأموال بمعني أن تجعلهم يحصلون عليها من شَرٍّ لا من خيرٍ وينفقونها في شَرٍّ لا في خير، وكذلك في الأولاد بمعني أن تجعلهم يُرَبُّونهم ويُنشئونهم بعيدين عن أخلاق الإسلام فيكونون كافرين أو مشركين أو منافقين أو ظالمين أو فاسدين أو نحوهم.. ".. وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)" أيْ هذا مزيدٌ من التحذير والتأكيد علي عدم اتّباع الشيطان أبداً ومزيدٌ من البيان لسبب ذلك التحذير والخُسْران التامّ لمَن يَتَّبِعه.. أيْ وقُمْ بإعطاء أتْبَاعك وُعُودَاً وعُهُودَاً والتزاماتٍ زائفة كاذبة لا تُنَفّذ لهم وعِدْهم من خلال تفكيرهم الشرِّيّ بعقولهم بأماني وآمال وأحلام وَهْمِيَّة خادِعَة ليست حقيقية ولا تُعْطَيَ لهم تَمنعهم من اتّباع أخلاق الإسلام بحيث يستمرّون معك في ضلالهم تائِهين دَوْمَاً فيه مِثْل وَعْدهم وتَمْنِيَتِهم بأنه لا بَعْثَ بعد الموت ولا آخرة ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار فلْيَفعلوا ما شاءوا من شرور سيَسعدون بفِعْلها رغم أنها سعادة وَهْمِيَّة سَطْحِيَّة قِشْرِيَّة مُؤَقّتة سريعة الزوال يعقبها مرارات وتعاسات دائمات يُثْبِتها واقع الحياة أو أنهم سيُغْفَر لهم برحمة الله مهما فَعَلوا منها أو لو أرادوا توبة فلْيُؤَجِّلوها فالعُمْر طويل وما شابه هذا من وعود وأمْنِيَّات كاذبات.. ".. وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)" أيْ والحال والواقع أنه ما يَعِدهم الشيطان إلا خِداعَاً ووَهْمَاً وليس حقيقياً بكل تأكيدٍ حيث لا صِحَّة له ولا دليل عليه إذ هو يَعِدهم ويُمَنّيهم بأمورٍ خادعةٍ ظاهرها يُغْرِيهم بالنفع وباطنها يُهلكهم الضرر في دنياهم وأخراهم
ومعني "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)" أيْ قال الله تعالي إنِّ عبادي – وسَمَّاهم سبحانه عباده ونَسَبَهم إليه لتكريمهم وتشريفهم – أي الذين يعبدونني وحدي بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ويُخْلِصون ويُحْسِنون في عبادتهم لي (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، ويتمسّكون ويعملون بكلّ أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، ويتوكّلون عليَّ حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتاحَة المُباحَة – أيْ يعتمدون عليَّ تمام الاعتماد، أي يجعلونني وكيلا لهم مُدافِعا عنهم (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ولا يفعلون شَرَّاً ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، وبالجملة قد أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا بكامل حرية إرادة عقولهم لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا وفعلوا كل خيرٍ وتَرَكوا كل شَرٍّ ولم يستجيبوا له بل وقاوموه ودعوا غيرهم لذلك بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ولذلك قد استخلصتهم أي اخترتهم لعوْني وتوفيقي وسَدادي وتيسيري لأمورهم وإسعادهم، لأنهم هم قد بَدأوا أولا باختيار عبادتي وحدي بكامل حرية إرادة عقولهم بإحسانهم لاستخدامها وبدأوا بالتمسّك بأخلاق إسلامهم واجتهدوا في ذلك فاخترتهم لكي أساعدهم وأسعدهم في الداريْن (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.." أيْ أمثال هؤلاء الذين تَحَصَّنوا بي وبإسلامهم وبصحبتهم الصالحة وبفِعْلِهم الدائم للخير بحيث لا يكون عندهم وقت لفِعْل الشرّ ولا حتي للتفكير فيه ليس لك يا إبليس عليهم سلطانٌ أيْ نفوذٌ أو قوةٌ أو تأثيرٌ علي إغوائهم، وفي هذا طَمْأَنَة لهم ومدحٌ وتشجيعٌ ضِمْنِيٌّ ليستمرّوا دَوْمَاً علي خيرهم طوال حياتهم.. لكنْ لك سلطانٌ حتماً علي مَن سَارَ خَلْفك وأطاعك ونَفّذ أوامرك الشَّرِّيَّة من الغاوين أي الضالّين أيْ الفاعِلين لكل شرٍّ وفسادٍ وضلالٍ مُتْعِسٍ في الداريْن المُنْحَرِفين المُتَمَادِين في الضلال والانحراف بلا توبة.. فأمثال هؤلاء قد قَبِلُوا غِوَايتك واختاروها بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، فهم الذين اختاروا الشرّ والفساد وفِعْله ولم يُكرههم أحدٌ عليه، بسبب أنهم قد أغلقوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مرة أخري مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! والحِكمة في خَلْق الشيطان والسماح بوجود الشرّ في الحياة، وذلك في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)" أيْ واسْتَغْنِ بربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم واسْتَغنوا به تماماً جميعاً أيها المسلمون عن أيّ وكيلٍ آخر، أيْ عن أيّ حافظٍ أو كفيلٍ أو مُعينٍ أو غيره، فهو حتماً وبكلّ تأكيدٍ سيَكفيكم، وهل يُعْقَل أن يكون هناك أيّ مخلوقٍ غير الخالِق الكريم الرحيم الرَّزّاق الوَهَّاب القادر علي كلّ شيءٍ والعالِم به أفضل منه وكيلا؟!! إنه بالقطع سيُعينكم وسيَكفيكم وسيُغنيكم بكلّ ما تحتاجونه مِمَّا يراه لكم مُفيدا مُسْعِدَاً لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً، إمَّا مباشرة بتيسير الأسباب لكم أو بصورةٍ غير مباشرة بتيسير مَن يُعينكم مِن خَلْقه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسعدا لكم ولغيركم
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)" أيْ ربكم أيها الناس – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – هو وحده لا غيره بتمام قدْرته وعِلْمه ورحمته ورزقه الذي يُزْجِي أيْ يُجْرِي ويُسَيِّر ويَسُوُق لكم السفن في البحر بإذنه من خلال خواصِّه الفيزيائية التي خَلَقها في مياهه وخواصّ الهواء الذي يُحرّكها ونحو هذا وبواسطة توفيقه وتيسيره لعقولكم والتي هو خالقها لصناعة هذه الفلك بكل أنواعها، وكل ذلك لكي تبتغوا من فضله أيْ تطلبوا من عطائه وإحسانه وإنعامه الزائد عن طريق الانتقال والتجارة والكسب والربح والسياحة ونحو هذا مِمَّا يُحَقّق احتياجاتكم التي تَنفعكم وتُسعدكم.. ".. إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)" أيْ لأنه كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه بكم أيها الناس وبكل خَلْقه رحيماً أيْ كثير الرحمة أيْ الشفَقَة والرأفة والرفق حيث يُعطيكم كل ما يَنفعكم ويُسعدكم ويُيَسِّر لكم أسبابه.. وبالتالي فاعبدوه وحده واشكروه وتوكّلوا عليه وحده واتقوه وخافوه وراقبوه وحده وافعلوا كل خير واتركوا كل شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)" أيْ هذا مزيدٌ من بيان أنه تعالي وحده المُسْتَحِقّ للعبادة ولاتّخاذه وَلِيَّاً فهو وحده لا غيره النافع الضارّ، والجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!.. أيْ وإذا حَدَثَ ولَمَسَكم وأصابكم أيها الناس الضرَر في البحر، أيْ شيءٌ مَا يَضُرّكم ويُسيء إليكم في صحتكم أو مالكم أو عملكم أو أحبابكم أو ما شابه هذا، كأمواجٍ ورياحٍ هائلةٍ ومخلوقاتٍ بَحَرِيَّةٍ ونحو ذلك مِمَّا يُعَرِّضكم للخطر وللخوف وللهلاك، ضَلَّ أيْ ضَاعَ وذَهَبَ واختفيَ عن عقولكم وفِكْركم كلّ مَن تدعونه في حوادثكم وتعبدونه من آلهةٍ غير الله تعالي مُتَوَهِّمِين أنها تنفع وتضرّ، إلا إيَّاه أيْ إلا هو الله وحده فإنكم حينئذٍ لا يخطر بفكركم ولا تَذْكرون غيره فلا تَدْعون إلا إيَّاه لإزالة هذا الضُّرّ الذي أنتم فيه وإنقاذكم منه.. إنَّ الناس حينها يَدْعون خالقهم الله تعالي بكل تَوَسُّلٍ واحتياجٍ وتَذلّل، وبكل إخلاصٍ أي صدق في دينهم أي في دعائهم وفي طاعتهم له وقتها مُخْلِصين مُحْسِنين ويَتركون ويَلفظون ويَنسون آلهتهم! (برجاء مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، لأنَّ حينها تنطق الفطرة حينما يَذهل العقل مِن شِدَّة الموقف فيَنْسَيَ عِناده وفِكْره الشرِّيّ (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، إنهم حينها يَنسون بل يَحتقرون عبادة ودعاء آلهة غير الله تعالي القادر علي كل شيء لأنهم متأكّدون أنها لن تنفعهم بأيّ شيء! والإنسان لا يُمكن أن يَخدع ذاته! فحينما يكون الأمر جادَّا ويَرَيَ أنه سيَهلك حقيقة فإنه يحافظ علي حياته ما استطاع ويلجأ بصدقٍ إلي مَن سيُحافِظ له عليها وليس هو غير خالقه الكريم الحفيظ ويَتَجَاهَل ويحتَقِر أيّ أحدٍ أو شيءٍ غيره!.. إنهم يدعونه حينها وحده لا غيره سائلينه واعِدِين إيَّاه بوَعْدٍ مُؤَكّدٍ لا يخْلِفونه أنه إنْ أنْجَيتنا أيْ أنْقَذتنا وخَلّصتنا من هذه المَهَالِك والمَصاعِب والشدائد سنكون بالتأكيد من الشاكرين أي الحامِدِين لك علي نجاتنا وعلي نِعَمِك التي لا تُحْصَيَ، العابدين أي الطائعين لك وحدك بلا أيِّ شريكٍ من آلهةٍ أخري، المُتّبِعين لشَرْعِك الإسلام.. إنه بالقطع لا كاشِفَ للضرِّ مطلقاً أيْ لا رافِع ولا مُذْهِب ولا مُزِيل له عن الناس إلا هو سبحانه، فهو الذي يُيَسِّر لهم أسباب التّخَلّص مِمَّا قد يَقَع بهم من أضرار، إمَّا بتوفيقهم مباشرة لها، أو يُيَسِّر لهم خَلْقَاً من خَلْقه ليُعاونوهم.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين أنْ يكونوا دائماً من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لأنَّ الأسباب لا تعمل وحدها ولكنْ لا بُدَّ معها من إرادته تعالي – أيْ المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أيْ مِمَّن يجعلونه وكيلاً لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وفيه أيضا تنبيهٌ وتحذيرٌ لهم ألاّ يعبدوا أو يتوكلوا علي غيره عند إصابتهم بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبار ما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا)، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فيدعوا أو يعتصموا أيْ يَتَحَصَّنوا بغيره ويلجأوا إليه مُتَيَقّنِين أنه هو الذي سيُنجيهم وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينهم أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك).. ".. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ.." أيْ فلمّا استجابَ دعاءكم وأعادكم سالِمين من بين أمواج البحر المُهْلِكَة إلي البرّ بقُدْرَته ورحمته ونِعْمته، أعرضتم أيْ في حال رخائكم بعدها أعطيتم ظهوركم والتَفَتّم وانصرفتم وابتعدتم عن عبادة ربكم وحده أيْ طاعته من خلال اتّباع أخلاق الإسلام وتركتموها وأهملتموها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاومتم نشرها وآذيتم مَن يَتّبعها بما يُفيد إصراركم التامّ علي سُوئكم.. والمقصود أنهم بَدَلاً أن يشكروه تعالي علي خيراته التي لا تُحْصَيَ إذا هم يَنْسون الله والضّرَّ والدعاءَ الذي كانوا يدعونه إليه سابقا ليكْشفه عنهم، في هذا الموقف، أو في غيره من الشدائد!! أيْ يعودون لِشَرِّهم ولشِرْكهم ويعبدون آلهتهم بل ويَنسب البعضُ النجاةَ مِمَّا هو فيه لها أو لغيرها! فلماذا لا يستمرّون علي عبادة ربهم ليسعدوا في الداريْن وقد جَرَّبوا أفضاله ورحماته وسعاداته؟! ولكنها الخِسَّة والدناءَة والتكذيب والعِناد والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وحتي بعض المسلمين قد يقعون في سوءٍ يُشبه هذا السوء! بسبب بُعدهم عن ربهم وتركهم لإسلامهم بعضه أو كله، فإنهم مع حدوث الضرر يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتركهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم!.. فليحذر المسلمون حَذرَاً شديدا من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. ".. وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)" أيْ ودائما الإنسان البعيد عن ربه وإسلامه بدرجةٍ من الدرجات، حتي ولو كان مسلما، وكذلك المُشرك بالله الذي يعبد غيره كأصنامٍ ونحوها، ومَن يَتَشَبَّه به، يكون كفوراً أيْ كثير الكفر لِنِعَم الله وعدم الاعتراف بها وشكرها وحُسْن استخدامها بل قد يكفر به أصلاً أيْ لا يُصَدِّق بل يُكَذّب بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَسْتَكْبِر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظره.. فَلْيَحْذَر إذَن كل مسلم مِثْل هذا ولا يَتَشَبَّه بهم حتي لا يتعس مثلهم في الداريْن بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه
ومعني "أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)"، "أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)" أيْ هذا تذكيرٌ من الله تعالي للناس لكي يعبدوه أيْ يُطيعوه وحده ليَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهو تهديدٌ شديدٌ للمُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين وتحذيرٌ لهم من نسيان عذابه لعلهم يستفيقون ويعودون له ولإسلامهم ليسعدوا هم أيضا في الداريْن وإلا تعسوا تماما فيهما لو استمرّوا مُصِرِّين علي ما هم فيه.. أيْ فهل إذا نَجَوْتُم من الغَرَق بالبحر وكنتم بالبَرِّ فأَدَّيَ بكم ذلك إلي أنْ تُعْرِضُوا اطْمَأْنَنْتُم إلي أنَّ الله تعالي بكمال علمه وقُدْرته وسلطانه ونفوذه القويّ العزيز مالِك المُلك القادر علي كل شيءٍ في أيِّ مكانٍ في كوْنه لا يَخْسِف بكم جانب البَرِّ أيْ ناحية البَرّ وهي الأرض أيْ لا يَشقّها لتبتلعكم بممتلكاتكم فتَغيبون وتَضيعون فيها مُعَذّبين هالِكِين أو لا يَبْعَث عليكم حاصباً أيْ ريحاً شديداً تحمل الحَصْباء أيْ الحَصَيَ الصغير تَقذفكم وتهْلِككم؟! ولا تَجِدوا ولا تُلاقوا لكم وكيلاً حينها ولا تَعْثُروا وتَحْصُلوا عليه تَكِلُون إليه أموركم فيَتَوَكَّل في صَرْف ذلك عنكم وتَتّكِلُون أيْ تَعْتَمِدُون عليه أيْ لا تجدوا لكم حَفيظاً ونَصيراً ومُدَافِعَاً ومانِعَاً ومُعينَاً مِن أيِّ أحدٍ يَحفظكم ويَنصركم ويَمنعكم وينقذكم من عذابه تعالى فلا رادَّ له حتماً حين يريده ويأذن به لعقاب مَن يَسْتَحِقّه.. إنَّ الإجابة الحَتْمِيَّة علي هذا السؤال – وكذلك في الآية القادمة – أنَّ أحداً لا يَأْمَن ذلك بكل تأكيد، فلماذا إذَن يُصِرّ المُكذّبون علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم؟! لأنهم قطعا قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه على كل عاقلٍ بالتالي أن يستمرّ خوفه من الله تعالي ويستمرّ توكّله عليه وتستمرّ طاعته له أينما كان في أيِّ مكانٍ وزمانٍ سواء في البَرّ أو البحر أو الجَوّ أو غيره.. "أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)" أيْ أو هل اطْمَأْنَنْتُم إلي أنَّ الله تعالي بكمال علمه وقُدْرته وسلطانه ونفوذه القويّ العزيز مالِك المُلك القادر علي كل شيءٍ في أيِّ مكانٍ في كوْنه لا يُعيدكم أيْ لا يُرْجِعكم في البحر مرة أخري لسببٍ من الأسباب التي تَدْفعكم للعودة إليه يَستدرجكم بها تمهيداً لتعذيبكم وإغراقكم وإهلاككم كأنْ تريدوا تجارة أو سياحة أو نحوها فيَبْعَث عليكم حينها وأنتم فيه قاصفاً من الريح أيْ قاذِفاً من الريح أيْ رياحاً شديدة الصوت والحركة تَقْصِف وتَقْذِف وتَضْرِب وتَكْسر مِن شِدَّتها كل ما في طريقها، فيُؤَدِّي ذلك إلي أن يُغْرِقكم الله بسبب أنكم كفرتم به.. ".. ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)" أيْ ولا تَجِدوا لكم حينها به أيْ بهذا الإغراق الذي عذّبناكم وأهلكناكم به تَبِيعَاً علينا أي مَن يَتْبَعنا كثير التّتَبُّع لنا ومُتابَعَتِنا نَصِيرَاً ومُعِينَاً لكم علينا ليُطالِب بالثأر لكم مِنَّا أو بإبعاد ذلك الإهلاك عنكم أيْ ليس لكم أيّ أملٍ في أيِّ ناصرٍ يَنصركم أو أيِّ مُدافِعٍ يَحميكم
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلفك بهذا حيث خَلَق سبحانه خَلْقَه لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا وَثَقْتَ تماما أنَّ خالقك الكريم قد وضع في عقلك بذور معرفة كل أسرار الكوْن ومنافعه وعلومه وما عليك إلا أن تُنَمِّيها (برجاء مراجعة الآيات (31)، (32)، (33) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا عِشْتَ حياتك كلها عزيزاً كريما عفيفا مُتَرَفّعَاً عن كلّ ما يَحطّ مِن قَدْرك مِن عملٍ قبيح سَيِّءٍ يضرّك ويتعسك، حيث نَبَّهَكَ خالقك لذلك حين أسجدَ لك ملائكته وجعل الأرض كلها بما عليها وفيها مِن مخلوقاتٍ مُسَخَّرَة لنفعك ولسعادتك إذا أحسنتَ تسخيرها واستخدامها (برجاء مراجعة الآيات (34) حتي (39) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم كَرَم ورعاية الله تعالي وحِفْظه لخَلْقه من بني آدم ورحمته بهم ورزقه ونِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليهم وحبه لهم ولإسعادهم، وبالتالي فاعبدوه وحده واشكروه وتوكّلوا عليه وحده واتقوه وخافوه وراقبوه وحده وافعلوا كل خير واتركوا كل شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. أيْ ولقد كَرَّمْنا أبناء آدم بتمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا بكل صُوَر التكريم أيْ التشريف والتفضيل التي لا يُمكن حَصْرها عن بقيّة مخلوقاتنا حيث كَرَّمْناهم بالعقل للتمييز والاختيار بين النافع لهم والضارّ بهم وبالقُدْرَة علي الفهم والعلم وبإرسال الرسل وإنزال الكتب التي فيها نظام الإسلام الذي يُسعدهم تمام السعادة في الداريْن وبتسخير كل ما في الكوْن من مخلوقاتٍ لنفعهم ولإسعادهم وبخِلْقتهم في أحسن تقويمٍ أيْ تقديرٍ وشَكْلٍ مُتَّصِفِين بأجمل صفاتٍ جسديةٍ ونفسيةٍ مُجَهَّزين بإمكاناتٍ وقُدْراتٍ علي النطق والبيان لِمَا يُريدون لتبادل المنافع والعلوم والتّطَوُّرات لتحقيق أسعد حياة ووَضَعْنا في فِطْرتهم مِيزَانَاً ليَعرفوا به الخير والشرّ وما يَنفعهم ويُسعدهم وما يَضُرّهم ويُتعسهم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف للشرح والتفصيل) فمَيَّزناهم بكل ذلك عن كل المخلوقات الأخرى فصاروا مُؤَهَّلين بحَقٍّ لأنْ يكونوا خليفتنا في كوْننا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (30)، (31) من سورة البقرة "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.."، "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.." أيْ ومِن بعض صور تكريمنا هذا أننا حَمَلْناهم ورَفَعْناهم ونَقَلْناهم ورَكّبناهم بقُدْرَتنا ورعايتنا في البَرِّ على الدَّوَابِّ التي خَلَقْناها وسَخَّرْناها لهم وغير ذلك من وسائل النقل التي يصنعونها بتوفيقنا وتَيْسيرنا لعقولهم من الخامات التي خَلَقْناها ووَفّرْناها لهم في أرضنا كطائرات وقطارات وسيارات ونحوها، وحملناهم كذلك في البحر على السفن بإذننا من خلال خواصِّه الفيزيائية التي خَلَقناها في مياهه وخواصّ الهواء الذي يُحرّكها ونحو هذا وبواسطة توفيقنا وتيسيرنا أيضا لعقولهم لصناعتها بكل أنواعها، وكل ذلك من أجل أن ينتقلوا من مكانٍ لآخر لتحقيق منافعهم وسعاداتهم من تجارةٍ ورِبْحٍ وعملٍ وعلمٍ وتَنَزُّهٍ وسياحةٍ ونحو هذا.. ".. وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.." أيْ وكذلك من بعض صور تكريمنا أننا بفَضْلنا وإحساننا ورعايتنا وقُدْرَتنا وعِلْمنا أعطيناهم من كل أنواع الطيّبات وهي النافعات لا الضارَّات من كل شيءٍ التي تَسْتَطيبها وتَسْتَسِيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي خَلَقناها لهم في الأرض والتي أحْلَلْناها لنفعهم ولإسعادهم.. ".. وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)" أيْ وبسبب هذا التكريم مَيَّزْناهم وزِدْناهم على كثيرٍ من مخلوقاتنا التي لا يَعلمها إلا نحن تمييزاً عظيماً، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر يوم الحساب يوم القيامة يوم نُنَادِي كل مجموعةٍ من الناس بإمامهم، أيْ بكتاب أعمالهم أيْ مع كتاب أعمالهم الذي لا يَترك صغيرة ولا كبيرة من أقوالهم وأفعالهم إلا أحصاها، كذلك من المعاني ندعوهم بشعارهم الذي يُعْرَفون به في دنياهم أو زعيمهم من قائدٍ اتّبعوه وجَعلوه إمامهم واقتدوا به في الخير أو الشرّ أو رسولهم الذي أُرْسِلَ إليهم أو كتابهم الذي أُنْزِلَ عليهم فيُقالُ يا أهل موسى يا أهل القرآن يا أهل الأصنام يا أهل فلان وهكذا لكي يَتَسَلّموا كتب أعمالهم، وذلك عند خروجهم من قبورهم للبَعْث حيث سنُعِيد خَلْقهم بأجسادهم وأرواحهم من بعد موتهم وكوْنهم تراباً كما خَلَقَناهم أول مرّة من عدمٍ بمجرّد أن نقول لهم كُن فيكونون ليُحَاسَبُوا علي كل أقوالهم وأعمالهم في دنياهم، فمَن أوُتِيَ أيْ أعْطِيَ من الناس كتابه أيْ كتاب أعماله بيمينه أيْ في يده اليمني لأنه قد ثَقُلَت وزادَت مَوازين حسناته علي سَيِّئاته – وهذا دلالة علي أنه من أهل اليمين أيْ أهل الجنة الذين هم كلهم يُمْن أيْ بَرَكَة وخير وسعادة بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم السعداء السعادة التامّة الخالدة – فهؤلاء السعداء يقرؤون كتاب حسناتهم بكل سعادةٍ واسْتِبْشارٍ وحبٍّ واستمتاعٍ بسبب ما يرون فيه مِمَّا يُسعدهم ويُبَشّرهم أنهم يَنتظرهم أعظم وأتَمّ وأخْلَد الخير والأمن والسعادة في جنات ربهم التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. ".. وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)" أيْ ولا يُنْقَصُون أيَّ قَدْرٍ من جزاء أعمالهم الخَيْرِيَّة مهما كان ضئيلاً ولو بمِقْدار فتيلٍ أيْ خيطٍ رفيع.. أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ أجر وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً يوم القيامة بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم فَتِيلاً هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه
ومعني "وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا مَن كان مِن الناس في هذه الحياة الدنيا أعْمَيَ العقل فلم يؤمن واختارَ الكفر ولم يَتّبِع الإسلام وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرَّ علي ذلك بلا توبة حتي موته بكامل حرية إرادة عقله لأنه أغْلَقه وعَطّله فلم يُبْصِر ويَتَعَقّل ويَتَدَبَّر آيات الله تعالي حوله أيْ دلالاته الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رسله الكرام وأنهم من عنده وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْق رسله أم آيات في الكوْن حوله أرشده لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربه في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليه فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياته علي أكمل وأسعد وجه.. وما كل ذلك العَمَيَ وفِعْل السوء إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)" أيْ فمَن كان كذلك، مَن كان في الدنيا أعمي، فالنتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة له أنه سيكون في الحياة الآخرة يوم القيامة كذلك أعمي، بل أعمي أكثر، وأضلّ سبيلاً أيْ وأبْعَد طريقاً عن الهداية والجنة، منه في الدنيا أيْ مِمَّا كان عليه فيها، لأنَّ عَمَيَ الدنيا كان يمكنه أن يستفيق منه بتحريك عقله وبالتوبة والعمل الصالح بعدها أمَّا عَمَيَ الآخرة فلا يمكنه علاجه بالتوبة لأنه قد فات الوقت وانتهي وقت العمل وجاء الآن وقت الحساب
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُعْتَصِمَاً دائما بالله أيْ مُتَحَصِّنَاً به لاجِئاً دوْماً إليه مُتَوَكّلَاً عليه، وبرسوله الكريم (ص) وبدينك الإسلام (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، والاعتصام بالله يعني التمسّك الشديد بدوام التواصُل معه في كل لحظات الحياة ودعائه وسؤاله – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – وانتظارِ باستبشارٍ رعايته وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ونصره ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعظم من ذلك وأتمّ وأخْلَد في الآخرة، والاعتصام برسوله (ص) يعني التمسّك والعمل بسُنَّته أيْ بطريقته وأسلوبه في التّعامُل الحَسَن الإسلاميّ بصورةٍ عمليةٍ في كل تصرّفاته وأقواله، والاعتصام بالإسلام يعني التمسّك والعمل بكل أخلاقه مع جميع الناس علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وبيئاتهم بل ومع كل المخلوقات في كل مواقف الحياة المختلفة، إضافة بالقطع للاعتصام بالصُّحْبَة الصالحة من كل طوائف المجتمع والتي تُعِين حتماً علي فِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ
هذا، ومعني "وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)"، "وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رعاية الله تعالي وحِفْظه للمؤمنين ورحمته بهم وحبّه لهم ولإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ ولقد قارَبَ أيْ اقْتَرَبَ وأوْشَكَ المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن مُتَوَهِّمِين أشدَّ التَّوَهُّم أن يُوقِعُوك في الفتنة أيْ الشرّ والضرَرَ، واللام للتأكيد، بمحاولاتٍ يائسَةٍ فاشلةٍ لإبعادك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – عن القرآن العظيم الذي أنزلناه إليك لتفتري أيْ لِتَخْتَلِقَ علينا قرآنا غيره تَدَّعِيه مِن عند نفسك وتَنْسِبه كذباً وزُورَاً إلينا فتَجيء فيه بما يُوافِق أهواءهم وتترك ما أنزل الله إليك فيكون قرآناً ليس فيه مثلاً ما يسْتَبْعِدونه ويُنْكِرونه من البَعْث والثواب والعقاب بعد الموت وما يكْرهونه من الإساءة لآلهتهم ويجعل بعض الحرام حلالاً وما شابه ذلك من افتراءت وأكاذيب، والافتراء هو الكذب بكذبٍ شَنِيعٍ ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (15)، (16)، (17) من سورة يونس "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ"، "قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا، والمقصود بالقطع ليس الرسول الكريم (ص) وهو المَعْصُوم الصادق الأمين، وإنما المقصود كل مسلم مِن بَعْدِه والذي عليه أن يَتّخِذه (ص) قُدْوَة فلا يَفعل أبداً أيَّ شيءٍ مِن ذلك من أجل تحصيل ثَمَنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)" أيْ وبالتالي إذَن حينها في هذه الحالة لو فَعَلْتَ ما يُريدون سيَجعلونك وسيَختارونك بالتأكيد حبيباً وصَدِيقاً لهم بسبب وقوعك في فِتْنَتِهم واستجابتك لهم، والخُلّة هي أعلي درجات المَحَبَّة والصَّدَاقَة، فهُمْ سَيُرَحِّبون بك أشدَّ الترحيب بينهم حيث قد نجحوا في إفسادك أيها المسلم وإبعادك عن ربك ودينك مِثْلهم فصِرْتَ منهم ومعهم ضِدَّ ربك وإسلامك والمسلمين!! إنك حتماً ستَتْعَس بسبب ذلك كتعاساتهم في الداريْن فاحْذَرْه حَذَرَاً شديداً، وإنْ لم تفعله سعدتَ قطعاً فيهما.. " وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)" أيْ ولَوْلَا أن ثَبَّتْناك علي ما أنت عليه من الحقّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه يَتَشَبَّه ويَقْتَدِي به، أيْ جعلناك ثابِتَاً عليه، أيْ علي عبادتنا وحدنا بلا أيِّ شريكٍ وعلي العمل بأخلاق القرآن والإسلام وحدها بلا مُخَالَفة لها، أيْ جعلناك لا تَتَزَحْزَح عن هذا الحقّ أيّ تَزَحْزُحٍ بأيِّ مُزَحْزِحٍ مهما كان سواء أكان تَرْغيباً في فِعْل شرٍّ مَا أو تَرْهيبَاً بضَرَرٍ مَا لتَرْك خيرٍ مَا، وذلك بأنْ عَصَمْناك مِن مَكائد أهل الشرّ، لَوْلا تَثْبينا هذا لك لقد كِدْتَ أيْ لَكُنْتَ قد قَارَبْتَ أيْ اقْتَرَبْتَ وأوْشَكْتَ أنْ تَرْكَن أيْ تَمِيل إليهم مَيْلاً قليلاً، بسبب شِدَّة احتيالهم وخِداعهم، فتَستجيب لبعض طَلَباتهم التي ذُكِرَ بعضها في الآية السابقة (برجاء مراجعتها) لعلهم يؤمنون إذا اسْتَجَبْتَ لهم، لأنَّ حرصك شديدٌ علي إيمان الجميع، ولفظ "لَوْلَا" يُفيد امتناعه (ص) التامّ عن حتي مُجَرَّد القُرْب من المَيْل إليهم وليس المَيْل ذاته بسبب تثبيت الله تعالي إيّاه، أيْ ولولا فضل الله عليك لَكَانَ مِنْك مَيْلٌ إلى مُوافَقَتهم ولكنْ تَمَّ فضله فلم تَفْعَل، وهذا التثبيت للمسلمين يكون من خلال أنْ يُعينهم ويُوَفّقهم سبحانه للعمل بالإسلام دائماً ويَحفظهم ويُنجيهم مِن كلّ مَا يُبْعدهم عنه ويُيَسِّر لهم كل أسباب ذلك العَوْن والحِفْظ، بسبب أنهم هم الذين أولا اختاروا الإيمان واتّباع الإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم فعَاوَنَهم في مُقابِل ذلك، وحتي لو أصابهم أحياناً اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا أعانهم وأخرجهم منه مُنْتَفِعين مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (67) من سورة المائدة ".. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.."، والآية (27) من سورة إبراهيم "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا، والمقصود بالقطع كما في الآية السابقة ليس الرسول الكريم (ص) وهو المَعْصُوم الصادق الأمين، وإنما المقصود كل مسلم مِن بَعْدِه والذي عليه أن يَتّخِذه (ص) قُدْوَة فلا يَفعل أبداً أيَّ شيءٍ مِن ذلك من أجل تحصيل ثَمَنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، حيث المسلم قد يُفَكّر أحيانا بعقله ببعض خواطر في الشرّ فعليه أن يقطعها وينشغل بما هو خيرٌ مُسْعِدٌ في الداريْن ولا يستمرّ في هذا التفكير الشَّرِّيِّ المُضِرّ المُتْعِس فيهما ولا يَميل إليه ويُطَبِقه بالقطع علي أرض الواقع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (113) من سورة هود "وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، ولهذا كان من أدعية الرسول (ص) ".. لا تَكِلْنِي إلي نفسي طَرْفَة عَيْن.." (جزء من حديث أخرجه أبو داود) أيْ لا تَتركني يا ربي للفكر الشرّي بعقلي ولو للحظة أو أقل ولكن كُن دائما معي تَعْصِمني من كل شرٍّ وتُعينني علي كل خيرٍ في كل لحظات حياتي حتي ألقاك في جنتك فأسعد بعِصْمَتِك هذه لي في دنياي وأخراي
ومعني "إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)" أيْ هذا بيانٌ لسوء نتائج الركون للظالمين حيث شِدَّة عذاب وتعاسة الدنيا والآخرة مع بيانِ أنَّ العقاب فيهما بسبب فِعْل السوء يَشْتَدّ ويَختلف باختلاف كل فردٍ علي حسب ظروفه وأحواله وعلومه وثقافاته وبيئاته وآثار الشرور والأضرار التي فَعَلَها عليه وعلي غيره ونحو هذا، فهذا هو تمام العدل.. أيْ بالتالي إذَن حينها في هذه الحالة لو فَعَلْتَ ذلك، علي سبيل الفَرْض بالنسبة لك يا رسولنا الكريم لأنك لن تفعله، ولمَن يَفعله مِن المسلمين بعد عِلْمه وتأكّده من سوء نتائج الركون للظالمين، حتماً بالتأكيد – واللام للتأكيد – سنُذيقك أيْ سنَجعلك تَستشعر ألَمَ وتَذُوق عملياً مَرارَة وشدَّة وفَظَاعَة ضِعْف الحياة وضِعْف المَمَات أيْ تذوق عذاباً مُضاعَفَاً أيْ كثيراً فى الحياة الدنيا وعذاباً مُضاعَفَاً في الممات عند الموت والقَبْر والآخرة، فنحن نُعَذّب المُسيئين بما يُناسِب سُوئهم بدرجةٍ مَا من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. هذا، والسبب فى تَضعيف العذاب أنَّ فِعْل السوء يَعْظُم مِقداره وأثره بمِقدار عِظَمِ فاعله ويَصْغُر بمقدار صِغَره، والرسول (ص) هو أعظم الخَلْق على الإطلاق، فلو فُرِضَ وفَعَلَ ذلك لَكَانَ مُناسباً له ضِعْف الحياة وضعف المَمَات.. ".. ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)" أيْ ثم بعد ذلك النزول للعذاب لا تَجِد حينها نصيراً لك أيْ ناصراً كثير النصر لك مِن أيِّ أحدٍ يَنصرك علينا بأنْ ينقذك أو يُخَفّف عنك شيئاً منه
ومعني "وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)" أيْ وهذا مزيدٌ من البيان لعظيم رعاية الله تعالي وحِفْظه للمؤمنين ورحمته بهم وحبّه لهم ولإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ ولقد قارَبَ أيْ اقْتَرَبَ وأوْشَكَ المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن أنْ يَسْتَفِزُّوك من الأرض يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من بعده، واللام للتأكيد، أيْ يُزْعِجُوك بإيذائهم بأقوالهم وأفعالهم ومَكائدهم السيِّئة في الأرض التي تعيش بها لكي يُخرجوك منها ليَتَخَلّصوا من دعوتك إيَّاهم لعبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام، فهُمْ سيُحاولون إخراجك لكنك لن تخرج إلا بأمري وتقديري حينما يكون في ذلك المصلحة وفي التوقيت وبالأسلوب الذي أراه الأنْسَب لتحقيق أفضل النتائج.. ".. وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)" أيْ وبالتالي إذَن حينها في هذه الحالة لو فَعَلوا ذلك، لا يَبْقون بَعْدَك أيْ بعد إخراجك من أرضك ومَكانك إلا زمناً قليلاً ثم يُعاقَبُون بالعذاب، بما يُناسِب سُوئهم بدرجةٍ مَا من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وفيه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)" أيْ هذه هي طريقة الله تعالي وأسلوبه وعادته دائماً في مَن أيْ في الذين قد أرسلناهم أيْ بَعَثْناهم قبلك سابقاً مِن رُسُلِنا يا رسولنا الكريم ولن تَتَحَوَّل أيْ تَتَغَيَّر مُطْلَقَاً إلي يوم القيامة فلا إخلاف لوَعْدنا وهذه السُّنَّة هي أنَّ عذاب مَن أَخْرَجوا رسولهم وآذوه وأصَرُّوا علي عدم إيمانهم ومُخَالَفتهم لأخلاق الإسلام ومُحارَبتهم له هو أمرٌ حَتْمِيٌّ مُؤَكّدٌ، وأنَّ أهل الحقّ لابُدَّ حتماً وبلا أيّ شكّ سيَنصرهم الله في كلّ شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن
هذا، ومعني "أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)" أيْ تمسّكوا واعملوا دوْماً بكل أخلاق إسلامكم والتي منها أن تُوَاظِبوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وتُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ تُحسنوها وتُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ.." أيْ عِنْدَ وحِين دُلُوكِ الشمس أيْ مَيْلها، فعندما تكون الشمس عمودية تقريبا علي الأرض فهذا يُسَمَّي وقت الزوال أيْ زوال ظِلّ الأشياء، فإذا بدأت تَميل قليلا وبدأ يظهر بعض الظلّ فهذا يكون وقت صلاة الظهر، فإذا مالَت أكثر كان وقت العصر، وهذا يُمكن معرفته وحسابه من خلال علم الفلك، ثم تَغْرُب فتكون صلاة المغرب، ثم إلي غَسَقِ الليل أيْ إلي أن تَحِين وتَأتِي ظُلْمَة الليل فتكون صلاة العشاء.. هذا، وقد جاءت سُنَّة الرسول (ص) بهذه الصلوات في هذه الأوقات.. ".. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)" أيْ وأقيموا كذلك ووَاظِبُوا علي صلاة الفجر لأنَّ صلاة الفجر تشهدها أيْ تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار حيث تجتمع الملائكة التي تُسَجِّل الأعمال بالليل والتي تُسَجِّلها بالنهار في هذا التوقيت لتسليم فترة المُنَاوَبَة فيما بينها، والمقصود بيان عظيم فَضْلِها وأَثَرِها وأجْرِها في الداريْن من أجل مزيدٍ من التشجيع للحرص عليها مع كل الصلوات الأخري بالقطع حيث سمَّاها تعالي قرآن الفجر رَفْعَاً لشأنها وللتنبيه علي الاهتمام بها حيث تكون وقت نوم الليل بعد جهد النهار فقد يصعب أداؤها، وللتنبيه أيضا علي أهمية وفوائد وحِكَم وسعادات شهود أيْ حضور المسلم هذه الصلاة والاجتماع لها والإكثار من قراءة القرآن فيها قَدْر الاستطاعة، وقراءته خارجها بعدها أو قبلها، لأنَّ هذا الوقت مع بداية ظهور آيات الله في نَسِيم إشراق الصباح يكون فيه العقل غالِبَاً مُتَفَرِّغَاً من شواغِل العمل والإنتاج والكسب والعلم وغيره من منافع الحياة فيكون أقرب للتَّدَبُّر والانتفاع بما يَتَدَبَّره في أول يومه فيُطَبِّقه أثناءه فيكون يوماً سعيداً رابِحاً يشاهده ربه وتُسَجِّله ملائكته – ككل الأعمال – راضيا عنه مُعِينَاً مُسْعِدَاً له في دنياه مُثِيبَاً إيَّاه أعظم الثواب في أخراه
ومعني "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)" أيْ وأيضا من بعض أوقات الليل فاسْهَرْ به أيْ بالقرآن أيْ بقراءته وتَدَبُّره وتَعَلّمه وتَعْليمه والصلاة به صلاة غير الصلوات الخَمْس المَفْرُوضَة بركعتين أو أكثر علي قَدْر استطاعتك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يَتَشَبَّه به، وكذلك من أوقات الليل فاسْهَرْ به أيْ بالليل لأيِّ طاعةٍ كذِكْرٍ واستغفارٍ ودعاءٍ وعلمٍ وغيره مِمَّا ينفع النفس والغير، فالطاعة بالليل إضافة للنهار تدلّ علي شدّة الحرص علي دوام التواصُل مع الله وتمام الهِمَّة والاجتهاد في العمل بكل أخلاق الإسلام، ثم هي تدريب علي أن يكون المسلم دوْما صاحب هِمَمٍ عالية وإراداتٍ قوية في كل أوقاته في كل شئون حياته فيسعد بذلك تمام السعادة في دنياه ثم أخراه.. هذا، ومَن يدرك وقت السَّحَر ويستيقظ فيه وهو وقت الثلث الأخير من الليل قبل طلوع الفجر، فلْيُحْسِن استغلاله بالدعاء والذكر والصلاة وغير ذلك من الخير، لِيَنالَ وَعْدَه سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا في حديث رسوله الكريم (ص) "يَنْزِل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا فيقول "مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له؟ مَن يسألني فأعْطِيَه؟" (أخرجه البخاري ومسلم)، وذلك حيث السُّكُون والتفرُّغ التامّ والتركيز العالي والتواصُل الراقي الصافي مع الله الخالق الكريم فيَطلب منه ما يُريد ويَستغفر مِمَّا قد يكون حَدَث منه من تقصيرٍ أثناء يومه ويَدعو من أجل التجهيز لليوم التالي وحُسْن الاستعداد له وطَلَب التيسير والتوفيق والرعاية والأمن والرزق والسعادة فيه فيكون اليوم كله سعيدا رابحا في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة.. ".. نَافِلَةً لَكَ.." أيْ لتكون كل هذه الطاعات نافلة لك أيْ زيادة لك في كل خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة.. ".. عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)" أيْ لعلَّ فِعْلَك هذا يُؤَدِّي إلي أنْ يَرْفعك ربك مقاماً محموداً أيْ المَقام الذي يُحْمَد عليه مَن يقوم فيه أيْ يُشْكَر ويُجَازَيَ أعظم الجزاء من الله تعالي، والمقصود أن يرفعك ربك مَكَانَاً حَسَنَاً، أيْ مَكَانَة عالية طيبة حسنة عظيمة، في الدنيا أولا، حيث التوفيق للعمل بكل أخلاق الإسلام والعِزَّة والكرامة والنصر والعلاقات الإنسانية الهَنِيَّة مع الآخرين والكسب والربح والسعادة بسبب كل هذا، ثم في الآخرة أعلي مَكانَة وأتَمّ وأخْلَد سعادة.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالِك المُلْك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أمَلَاً لأحدٍ بشيءٍ ثم لا يُعطيه إيّاه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التّحَقّق من البَشَر من أجل التشجيع والدفْع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم والاستعانة به والتوكّل عليه والشكر له والصبر الجميل لو نَزَلَت بهم شدائد ليسعدوا بذلك في الداريْن.. هذا، والمقام المحمود بالنسبة للرسول (ص)، في الدنيا هو مَكَانته العالية وإلحاق ذِكْره دَوْمَاً مع الله تعالي في قول لا إله إلا الله محمد رسول الله واتّخاذه قُدْوَة من جميع البَشَر لكمال خُلُقه، ثم في الآخرة هو مقام الشفاعة الخاصة به وحده تكريماً من الله تعالي له حيث يشفع أيْ يَطْلب ويَلْتَمِس منه الرحمة لعموم الناس بما يراه مناسباً سبحانه ثم لأهل الخير لرفع درجاتهم والعفو عن أخطائهم فيَحمدونه أيْ يَشكرونه علي ذلك فيكون مقامه حينها مقاماً محمودا
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ فهو خالق كل شيءٍ ومالِكه أقوي الأقوياء لا يُعْجِزه شيء، فسيَستجيب لك ولكل مَن يدعوه حتما إمّا عاجِلاً أو آجِلاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ لك ولمَن حولك، وسيستجيب بالصورة التي طَلَبْتها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنك أو بكل ذلك، بطريقة مباشرة أو بأنْ يُيَسِّر لك مَن يُحَقّق لك ما تريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب.. كذلك ستَسعد حتماً إذا كنتَ دوْماً مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دائماً مُحْسِنَاً مُخْلِصَاً (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)" أيْ وقل دَوْمَاً داعِيَاً ربك سائِلاً إيَّاه يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يا ربّ أدْخِلْني إدْخَالَاً صادِقَاً أيْ اجعلني أدْخُل أيَّ شيءٍ أدْخُل فيه وأبدأه وأُقْدِم عليه مِن قولٍ أو عملٍ أو مكانٍ أو غيره أَدْخُله بصِدْقٍ أيْ بكلِّ حقّ وعدلٍ وصلاحٍ وحُسْنٍ وخيرٍ وسعادةٍ ونوايا صالحةٍ صادقةٍ خالِصَةٍ بلا رِياءٍ لأحد، أيْ مُحاطٍ كله ومَخْلُوطٍ بأخلاق الإسلام المُسْعِدَة وعلي أكمل وَجْهٍ مُمْكِنٍ وبعيدٍ عن أيِّ شَرٍّ مُتْعِسٍ ويُحَقّق أحْسَنَ وأرْضَيَ وأسْعَدً نتائج مُمْكِنَة، وأَبْقِنِي فيه هكذا بصِدْقٍ حتي أنْتَهِيَ منه، وأخْرِجْني منه كذلك بصدقٍ، لأَلْتَحِقَ بقولٍ وعملٍ ومكانٍ آخر بصدق، وهكذا، اجْعَلْ مَدَاخِلِي ومَخَارِجِي كلها في طاعتك، كلها في صدق، فتكون بذلك كل لحظات حياتي في أتَمّ سعادة لأنها دائماً معك يا ربي ومع دينك الإسلام، ثم سيكون لي بالقطع في آخرتي بسبب صِدْقِي وإحساني ما هو أتَمّ سعادة وأعظم وأخْلَد ما دُمْتُ كنتُ كذلك دائماً حتي مَمَاتِي.. ".. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)" أيْ وسَخِّر ويَسِّر لي من عندك نُفُوذَاً مُعِينَاً ناصِرَاً كثيرَ النصرِ لي، أيْ وأعطني دائما من عندك كل أنواع السلطان التي تُعينني وتَنصرني وتُسعدني في كل أقوالي وأفعالي في كل مواقف ولحظات حياتي فأكون دَوْمَاً مُتمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامي فأسعد تمام السعادة في دنياي وأخراي حيث أَنْعَم برعايتك وأمنك وعَوْنك وتوفيقك وسدادك ورزقك وتيسيرك وقوّتك ونصرك وبالسعادة كلها في الدنيا والآخرة، والسلطان هو القوّة والمَكَانَة والنفوذ والتأثير والتوفيق والسداد والتيسير والعَوْن والتأييد والرعاية والأمن والأدلة المُطَمْئِنَة علي صِحَّة القرارات المُتّخَذَة والعلوم النافعة المُعِينَة علي ذلك وما شابه هذا
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)" أيْ هذا طمْأَنَة وتَبْشِيرٌ للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم على سبيل الشكر لله والاعتراف بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ والاسْتِبْشار بنصره، قد جاءَ أيْ حَضَر الحقّ وزَهَقَ الباطل كالذي تَزْهَق رُوحه أيْ لَفَظ أنْفَاسَه الأخيرة أيْ ضَعُفَ وتَضاءَلَ وذَهَبَ وزَالَ وتَفرَّقَ وهَلَكَ وانتهي، لأنَّ الباطل دائماً يكون زَهُوقاً أيْ كثير الزُهُوق أيْ الضعف والتضاؤل والذهاب والزوال والتفرُّق والهلاك والانتهاء وعدم الاستقرار، فهذه هي صفته وحاله وعادته علي الدوام في مُقابِل الحقّ الذي هو دائم الثبات والاستمرار.. والحقّ هو القرآن الكريم بما فيه من إسلامٍ عظيمٍ يشتمل علي كل حقّ أيْ صوابٍ وصِدْقٍ وصلاحٍ وعدلٍ وخيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة، والباطل هو عَكْس الحقّ وعكس الهُدَيَ فهو كلّ خطأ وكذبٍ وفسادٍ وظلمٍ وشرٍّ وتعاسةٍ وبالجملة هو كلّ ضياعٍ في الداريْن.. إنه بما أنَّ الحقَّ قد جاء، فقد انكشفَ تلقائيا الباطل وتَعَرَّيَ وتَرَاجَع وانهزمَ وتَحَطّمَ وتَفَتَّتَ وهو حتماً إلي زوال، ولن يستطيع أن يُبْدِيءَ أيْ يَبدأ ويُنْشِيء أيَّ شيءٍ مِن سوءٍ وفسادٍ وضَرَرٍ أو أن يُعيده بَعْدَ أنْ ينتهي ويَهلك ما دام أهل الخير والحقّ متمسّكين عامِلين تمام التمسّك والعمل بقرآنهم وبإسلامهم وبالتالي فلا مكان إذَن لأيّ باطل، ولو حَدَثَ أحيانا أنْ غَلَبَ الباطل لفترة مؤقتة بسبب ضعف أهل الحقّ وبُعدهم عن ربهم وقرآنهم ودينهم فإنَّ غَلَبَته ليست نَصْرَاً علي الحقّ وإنما علي المُنتمين له لضعفهم حتي يعودوا إليه فيَقووا فيَنتصروا قطعا، فالحقّ إذَن لا يُمكن أن يُهْزَم أبداً فهو باقٍ مستمرّ لا يَتَغَيَّر ويُرْجَعَ إليه علي الدوام ومَن أراده وَجَدَه حتما.. إنه حينما يتمسَّك ويعمل كل المسلمين بكل أخلاق إسلامهم إذا بالباطل يذهب ويختفي وينتهي لأنه لم يَعُدْ له أيّ مكانٍ بينهم، والعكس صحيح قطعاً، إذا تَرَكوا الإسلام بعضه أو كله، جاءَ وعادَ وانْتَفَخَ وانْتَفَشَ مرة أخري ليتعسوا به في دنياهم وأخراهم بقَدْر مَا يتركون من إسلامهم وبقَدْر ما يتّبعونه من باطلٍ وبقَدْر ما يفعلون من شرور وأضرار ومفاسد (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (17) من سورة الرعد ".. كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن والإسلام.. أيْ ونُنَزّل أيْ نُوحِي من القرآن العظيم لرسولنا الكريم ليُبَلّغه لجميع الناس مَا كله شفاءٌ أيْ مَا هو دواءٌ وعلاجٌ نَشْفِي به ما في العقول والمَشاعِر والدواخِل من الأمراض كالكفر والشرْك والشكّ والجهل والنفاق والظلم والتّباغُض والتّنازُع والخوف والشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات ونحو ذلك، لأنه إذا صَلح العقل وفِكْره ومشاعره صَلحت حتماً كل الأقوال والأفعال وسَعِد قطعاً في دنياه وأخراه مَن يفعل ذلك، وهُوَ هُدَي أي إرْشادٌ لتمام الخير والسعادة في الداريْن وبالتالي فهو رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه.. إنه شفاءٌ ورحمةٌ للناس جميعا في كل زمانٍ ومكانٍ حتي يوم القيامة رغم اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم لأنه فيه الإسلام بكل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، لأنه من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعْلَمهم تمام العلم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (58) من سورة يونس "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا.."، ثم الآية (24) من سورة الأنفال ".. اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. لِلْمُؤْمِنِينَ (82)" أيْ لكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم.. ".. وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)" أيْ ولا يزيد ما نُنَزّل من القرآن الظالمين عند سماعهم له – أيْ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – إلا خَسَارَاً ليس بعده خُسارة أشدّ منه حيث يَخسرون أيْ يَفْقِدون ويُضَيِّعون دنياهم فيَتعسون فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة علي قَدْر بُعْدهم عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين ويَخسرون حتماً أخراهم يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، وذلك الخُسْران أيْ عدم الكَسْب والفقدان والضياع هو بسبب عدم تصديقهم للقرآن الكريم أو عدم عملهم بأخلاقه وقيام الحُجَّة عليهم فلا يكون لهم عُذْر في عقابهم الدنيويّ والأخرويّ، فهُمْ بالتأكيد بلا أيِّ شكّ وبسبب إغلاقهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها والتي تَتَمَثّل في الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، سيَزيد حتماً القرآن العظيم كثيراً منهم – وليس كلهم لأنَّ بعضهم يَستفيق ويُسْلِم ويعمل بالإسلام – كلما اسْتَمَعُوا لبعض آياته أو ذَكّرهم أحدٌ ببعض ما فيه من أخلاق الإسلام، والتي من المُفْتَرَض أن تُسعدهم في الداريْن لو عملوا بها، سيَزيدهم ذلك ظلما أيْ عدم تصديقٍ لها وعِنادَاً ضدّها واستعلاءً عليها وعدمَ عملٍ بها، فيزدادون بذلك ظلما علي ظلمهم كلما لم يُصَدِّقوا أو لم يستجيبوا لآية من الآيات التي استمعوا لها أو ذُكّرُوا بها، لأنَّ الظلم درجات إذ هناك مَن يظلم ويَفعل بعض الشرور وهناك مَن يَفعل المزيد منها وهناك مَن ينشر ظلمه ويُؤذي الإسلام والمسلمين ويُعاديهم ويُقاتلهم وهكذا، وهم كلما استمعوا للقرآن وخَالَفوه لأنهم مُعانِدون مُسْتَكْبِرون مُصِرُّون علي عدم الاستجابة له والعمل به كلما تَجَمَّعَت حَصِيلَة مُخَالَفاتهم فيزدادون بذلك خسرانا.. إنهم مِن شدَّة كُرْهِهم لآيات القرآن لأنها تَفضحهم وتُظْهِر شَرَّهم وتزيد وَعْي مِن يعمل بها من المسلمين فلا يمكنهم استعبادهم واستغلال جهودهم وثرواتهم، يزدادون عَدَاءً لها ومحاولات يائسة لمنع انتشارها بنشر كفرهم وفسادهم وبذلك يزدادون طغياناً وظلماً وشرَّاً وفساداً وكفرا!!.. وإضافة لذلك فإنَّ استماعهم للقرآن وتذكيرهم به يزيدهم بالقطع سُوءَاً إلي سُوئهم حيث يزدادون قَلَقَاً وتَوَتّرَاً واضطراباً وكآبة وتعاسة، لأنه يزيد التّصارُع والتّنافُر مع فطرتهم، فهي تعرف القرآن وربها وتحبهما وتشتاق لهما بمجرد الاستماع إليهما (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ثم هُمْ بتوجيه عقولهم نحو التفكير الشرِّيّ يمنعونها ويَكبتونها بكل قوة، وهي أيضا تقاومهم بكل قوة، فيَحدث الصراع الداخليّ النفسيّ الشديد، والذي يُؤَدّي حتماً إلي مزيدٍ من التّمَزّق والضيق والكآبة والتعاسة في الدنيا، ثم لهم قطعاً ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم في الآخرة.. إنهم كلّما استمرّوا في ظلمهم كلما ازدادوا حتما خُسْرانا أي تعاسة في دنياهم وأخراهم من أثر تَجَمُّع تعاسات شرورهم وتَرَاكُمها يوما بعد يوم، فهذه هي النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة لمِثْل أفعالهم، وهذا عَكْس حال المؤمن تماما الذي كلّما طالَ عمره وحَسُنَ عمله كلما ازداد خيرا علي خير وسعادة علي سعادة في دنياه وأخراه من كثرة تَرَاكُم أعماله الخيريّة.. إنهم كلما أصَرّوا علي الشرّ كلما أصبح مَرَضهم مُزْمِنَاً يصعب علاجه، كالذي يسير في طريقٍ خطأ، كلما طالَ سَيْره فيه، كلما ازداد بُعْده عن الطريق الصواب وصَعُب عودته إليه
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً مؤمناً شاكراً صابراً مُتَفَائِلاً وليس أبداً كافراً غيرَ شاكِرٍ غيرَ صابرٍ يائِسَا
هذا، ومعني "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)" أيْ هذه صفة سيِّئة من صفات الإنسان الكافر الظالِم الخاسِر الذي سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة والتي علي كل مسلم أن يتجنّبها تماما ولا يتشبَّه به حتي لا يَتعس مثله تمام التعاسة في دنياه وأخراه، وهي أنه إذا أنعمَ الله عليه بنِعَمِه المُتعدِّدة التي لا تُحْصَيَ فإنه بَدَلَاً أن يشكرها إذا به كلما جاءته نعمة كلما ازداد إعراضاً ونَأْيَاً بجانبه عن ربه ودين الإسلام حيث يري أنه في غِنَي عنهما ولا يحتاج لهما فلقد أخذ ما يريده وانتهي الأمر أي يُعطيهما ظهره ويَلتفت ويَنصرف ويَنْأيَ أيْ يَبْتَعِد عنهما ويَتركهما ويهملهما بصورةٍ فيها تكذيبٍ وعِنادٍ واستكبار واستهزاء!! وهو مَا فَعَل ذلك إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. " .. وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)" أيْ وإذا مَسَّه شَرٌّ مَا، حتي ولو مجرّد مَسّ ولَمْس خفيف أصابه من ضَرَرٍ مَا فإنه يكون يئوساً أيْ كثير شديد اليأس أيْ انقطاع الأمل بعقله في الحصول علي أيِّ خيرٍ مستقبليّ يريده أو التخلّص من الشرّ الذي نَزَلَ به، بما يدلّ علي شدّة حزنه وخوفه وفقدانه أيّ رجاء في رحمات الله وأفضاله بسبب بُعْدِه عنه وعن دينه الإسلام.. أمّا المسلم الذي يجتهد في التمسّك بكل أخلاق إسلامه فحاله قطعا لابُدّ أن يكون علي العكس من ذلك تماما، فهو دائم التواصُل مع ربه وإسلامه ليسعد تمام السعادة في دنياه حيث سيكون له بذلك كل الرعاية والأمن والعوْن والتوفيق والسَّداد والحب والرضا والرزق والقوّة والنصر ثم له في أخراه أعلي درجات الجنات، فهو كلما أنعمَ الله عليه بأيِّ نعمة ازداد شكرا له بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله بأن يستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ وبذلك سيجدها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7) ولم يَتكبَّر ويَتفاخَر أبداً على غيره ولم يَدَّع أنّ هذه النعمة من كسبه واجتهاده بل يَنسبها دوْما للمُنْعِم خالقه الكريم، وإنْ أصابته فتنةٌ ما أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صَبَرَ عليه واستعان بربه ولَجَأَ إليه ليخرج منه مستفيداً استفادات كثيرة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة الآية ( 143 ) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن) ولا ييأس أبداً من روح الله أيْ لا يقطع وينهي الأمل والرجاء أبداً في رحمة الله، لأنه لا ييأس من رحمة الله إلا الأناس الكافرون، فإنَّ المسلم يعيش دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، فهو يحيا دوْمَاً مُسْتَبْشِرَاً مُنْتَظِرَاً لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، بينما الكافر الذي لا يُصَدِّق بوجود خالقٍ مُعِينٍ قادرٍ علي كلِّ شيءٍ إذا أصابه ضَرَرٌ مَا فإنه يكون تعيساً كئيباً مُضطرِبَاً خائفاً مِمَّن حوله ومِن سوء مصيره لأنه بكفره قد حَرَمَ نفسه من رحمة ربه، من عوْنه وحبّه وتوفيقه، ثم هو حتي لو هلك لا يَدْري ما سيَحْدُث له بعد موته، فهو تعيسٌ تمام التعاسة بانتظاره لكل كآبة وتعاسة.. إنَّ الأمل والتفاؤل والاسْتِبْشار ونحو ذلك من أخلاق الإسلام يَدْفع علي الدوام للسعي وللاجتهاد في حُسْن التعامُل مع كل الأمور سواء أكانت سهلة أم صعبة لتحقيق الأهداف والنتائج والسعادات، بينما التشاؤم يَدْفع لعكس ذلك تماما (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (49)، (50) من سورة فُصِّلَت "لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ"، "وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً.."، ثم الآية (36) من سورة الروم "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ"، ثم الآية (9)، (10)، (11) من سورة هود "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ"، "وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ"، "إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أحسنتَ اختيار اتّجاهك في الحياة، فتكون دائماً مُتّجِهَاً نحو كل ما هو خيرٍ وحقّ وعدلٍ وسعادة، مُبْتَعِدَاً تمام الابتعاد علي الدوام عن كل مَا هو شَرّ وباطل وفساد وظلم وتعاسة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (148) من سورة البقرة "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)" أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما مُسْعِدهم وناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تهديدٌ وتحذيرٌ للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم كلّ إنسان يعمل علي شاكِلَته أيْ علي طريقته التي تُشَاكِل أيْ تُشَابِه وتُماثِل حاله من حيث الهُدَيَ أو الضلال فإنْ اختار بكامل حرية إرادة عقله أن يكون مُهْتَدِيَاً أيْ مؤمناً سيَعمل بالإسلام في كل شئون حياته فيسعد في دنياه وأخراه وإنْ اختار بعقله أن يكون ضالاً أيْ كافراً أو مُشْرِكَاً أو نحوه أو مسلماً لكنه لا يعمل بإسلامه كله أو بعضه فإنه سيَعمل بما يُخالِف أخلاق الإسلام أيْ بالشرور والمَفاسد والأضرار فيتعس في الداريْن، وربكم الله تعالي أيها الناس هو وحده أعلم مِن أيِّ أحدٍ بتمام العلم الذي ليس بعده علم أكثر منه ولا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة بمَن هو أهْدَيَ أيْ أرْشَد وأصْوَب وأصَحّ سبيلاً أيْ طريقا، المسلم المُهْتَدِي أم الضالّ، وسيُجازِي حتماً كلّاً منهم بما يُناسبه في الدنيا والآخرة حيث كل خيرٍ وسعادةٍ فيهما للمسلم قطعاً وكلّ شَرٍّ وتعاسةٍ بالقطع للضالّ.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد للمُسيئين لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم.. وفيه إرشادٌ للمسلم المتمسّك العامل بكل أخلاق إسلامه ألا يهتمّ كثيراً بعَداء مَن حوله ومَكرهم مِن المُكَذّبين والمُعاندين والمُستكبرين والمُستهزئين ومَن يُشبههم بل يُخبرهم بأدبٍ وبصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ أنه عاملٌ ما هو عليه أيْ مستمرٌّ ثابتٌ علي إسلامه مُتَوَكّلٌ علي ربه كافِيه ومُعينه وراعِيه وحافظه كالرسل الكرام ليَسعد في الداريْن مِثْلهم
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَمَسِّكين بخُلُق حُسْن السؤال وآدابه، وحُسْن الإجابة عن السؤال وآدابها، فلا تَسأل مثلا مَن تسأله مِن أجل تعجيزه أو إحراجه أو إفشاله أو للسخرية منه أو للتّعالِي والافتخار عليه أو للتّبَاهِي بعِلْمك وتحقير عِلْمه أو لمجرّد الجدل والإصرار علي الباطل، وما شابه هذا مِمَّا ينشر الغَمّ والكآبة والتعاسة، وقد ينشر النفاق والكفر والفساد، وقد ينشر المُغالاة والتّشَدُّد بزيادة مَا ليس من الإسلام فيه، وبالجملة لا تسأل إلا ونواياك بداخل عقلك لا تكون إلا في كل خيرٍ ومن أجل كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، من أجل السعادة في الداريْن.. كذلك علي المسئول أنْ يُراعِيَ آداب إجابة السائل، وأهمها البساطة والوضوح والتركيز والتّدَرُّج وقبول الحوار وعدم التّعالِي والاستهزاء مع إرشاد السائل لِمَا يُفيده ويزيده عِلْمَاً، والامتناع عن الإجابة أحيانا إذا كان لا فائدة من السؤال مع حُسْن توجيهه لأنْ يسأل عَمَّا ينفعه في دنياه وأخراه، كما في هذه الآية الكريمة.. إنَّ الآية الكريمة بالقطع لا تَمنع العلم ولا إبحار العقل في أنواع العلوم المُتَعَدِّدَة، فالقرآن العظيم أصله هو العلم وتَدَبُّر العقل فيه، وهو يُشَجِّع علي كل علمٍ نافعٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ في الداريْن، وهو يُعْطِي العالِم والمُتعلّم من الأفضال والمَكانات الدنيوية ثم الأخروية لمَن كانت نواياه خَيْرِيَّة وكان مُصَدِّقَاً بالآخرة ما لا يُعطيه لغيرهم كما يقول تعالي ".. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.." (الزمر:9).. هذا، ولفظ "الروح" في الآية الكريمة قد لا يعني سِرَّ الحياة وإنما قد يعني القرآن الكريم كما قال تعالي عنه "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا.." (الشوري:52)، وقد يعني أيضا المَلَك الذي أنزله تعالي علي الرسول (ص) بالقرآن وهو جبريل عليه السلام كما قال تعالي "نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلْأَمِينُ" (الشعراء:193).. إنَّ الآية الكريمة تُذَكّر بأنه عند البحث العلمي لابُدَّ من تَذَكّر قُدْرَة الله تعالي في كل علم، وأنَّ علي الإنسان أنْ يُوقِف عقله أحياناً عَمَّا هو خارج عن إمكاناته وقُدْراته البشريَّة وليس عنده معلومات عنه، كحقيقة الله تعالي مثلا، فهنا عليه أن يتوقّف حتي لا يُنْفِق جهده الفكريّ والماليّ وغيره فيما لا يُفيد بل قد يَضُرّ، وهذا هو معني "مِن أمر ربي"، وأنْ يتذكّر دوْمَاً أنه "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" فلا يَغْتَرّ أبَدَاً بعلمه فهناك مَن هو مِثْله وأعلم منه، ثم فوق الجميع العليم الحكيم عالِم كلّ شيءٍ عن أيِّ شيء ".. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" (يوسف:76)، ولْيَحمد ربه علي علمه ولْيُحْسِن استخدامه فيما يُسْعِد الجميع ليَزيده الكريم الوَهَّاب من سعادتيّ الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)" أيْ ويَستَفْسِر ويَسْتَخْبِر ويَسألك الناس يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده (ص) عن حقيقة الروح وهي مَا يَحيا به الإنسان وكلّ مخلوقٍ حيّ به روح وبمُفارَقته لجسده يموت، قل لمَن يَسألك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم الروح مِن أمر ربي أيْ مِن عِلْم ربي الذي لا يَعلمه إلا هو وحده سبحانه ولم يُعْلِم أيَّ أحدٍ به وهي من فِعْل وإذْن وقُدْرَة وخَلْق ربي بقول كُنْ فيَكون.. وفي هذا تذكيرٌ لكلّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ بعِظَم هذه الخِلْقَة وبالتالي عِظَم خالقها سبحانه فيَعبده وحده بلا أيِّ شريك ليسعد في الداريْن وتذكيرٌ له بأنْ يكون دَوْمَاً من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْقه حيث هذا سيزيده حتماً تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقه الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وإسعاده في الداريْن.. ".. وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)" أيْ ولم تُعْطُوا أيها الناس من العلم مهما كان إلا شيئاً قليلاً بالنسبة لعلم الله تعالى الذي لا يُوصَف حيث وَسِعَ كلّ شيءٍ ولا يَخْفَيَ عليه شيء (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (27) من سورة لقمان "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)"، "إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن والإسلام، وهي النعمة التي عليهم أن يَحرصوا عليها أشدّ الحِرْص من خلال أن يُسارعوا بالإجابة وبالتّلْبِيَة وبالانقياد وبالطاعة لها بكل قوةٍ أيّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها ستُسْعِدهم تماما، لأنها كالروح بالنسبة للجسد، فالقرآن والإسلام هو الذي يُحي البَشَر، فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة، الحياة الحقيقية، الحياة السعيدة السعادة التامّة في الدنيا والتي ستُؤَدِّي إلي الحياة الأتمّ والأخلد سعادة في الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم الآية (24) من سورة الأنفال ".. اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ كل الأنظمة والتشريعات والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة للإسلام مُضِرَّة مُتْعِسَة في الداريْن، لأنها تُؤَدِّي إلي الظلام والمَوَات، إلي الكذب والخداع والظلم والتّخَبُّط والنقص والشرّ والسوء وبالجملة إلي العذاب والكآبة والتعاسة بصورٍ ودرجاتٍ مختلفة، وحتي لو شَعَرَ البعض ببعض سعادةٍ بشرورها وفسادها فهي سعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية سطحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة ناقِصَة لا كاملة مُتَقَطّعَة لا تامَّة، والأهمّ أنها غالبا أو دائما يَتْبعها مرارات وكآبات وعذابات وتعاسات دائمات علي قَدْر الشرِّ الذي تَمَّ فِعْله، كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا، ثم قَلَق وتَوَتّر واضطراب بانتظار ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد من عذاب نيران الآخرة.. أيْ ولئن شِئْنا أيْ وبالتأكيد إذا أردنا أن نذهب – واللام والنون للتأكيد – بهذا القرآن الذي أوحيناه إليك يا رسولنا الكريم أيْ نَمْحُو إيَّاه فلا يُوجَد بين الناس لفَعَلْنا بكل تأكيد، فنحن قادرون علي كل شيء، علي الوَحْي وعلي الذهاب به، فلْيَتَصَوَّرُوا حالهم حينها وهم مُنْقَطِعُون عن ربهم وإسلامهم حيث تمام الضياع والظلام والتعاسة في دنياهم وأخراهم، ولكننا لم نشأ ذلك ولن نفعله وسنُبْقِيه إلي يوم القيامة رحمة بهم وإسعاداً لهم بل نحن فقط نُذَكّرهم بنِعَمِنا عليهم ليَحرصوا عليها أشدّ الحِرْص بالعمل بها ليسعدوا في الداريْن.. ".. ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)" أيْ ثم حينها لا تجد بعد الذهاب به وكيلا علينا لك، ولا لكم أيها الناس، تَكِل إليه أمرك، وتَكِلُون إليه أموركم علينا وضِدَّنا، فيَتَوَكَّل في صَرْف ذلك عنكم وتَتّكِلُون أيْ تَعْتَمِدُون عليه، أيْ لا تجدوا لكم حَفيظاً ونَصيراً ومُدَافِعَاً ومانِعَاً ومُعينَاً مِن أيِّ أحدٍ يَحفظكم ويَنصركم علينا ويَمنعكم وينقذكم من هذا الإذهاب للقرآن الكريم، فيُطالِبنا بإعادته إليكم كما يفعل المُحامِي مع مُوَكّله، فلا رادَّ لإذهابه حتماً حين يريده.. "إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)" أيْ ولكنْ أبْقَيْناه ولم نَشَأ أنْ نذهب به رحمة من ربك للناس جميعا حتي يوم القيامة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (9) من سورة الحِجْر "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) حيث هو إرْشادٌ لهم لتمام الخير والسعادة في الداريْن وبالتالي فهو رحمة مِنَّا أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه، إذ يَحْيون به في إطار رحمتنا التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ المُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، وذلك لأنَّ فضله أيْ عطاءه وإحسانه الزائد كانَ ولازَالَ وسيَستمرّ عليك وعليهم عظيماً هائلاً لا يُوصَف – ولفظ "كان" في هذا المَوْضِع يدلّ علي الاستمرار – حيث أنْزَلْنَا وحَفظنا لكم القرآن، فكونوا دَوْمَاً من الشاكرين لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، واعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده، وتَمَسَّكُوا بإسلامكم كشكرٍ عَمَلِيٍّ وحافظوا عليه وانْشروه وأحْسِنوا استخدامه بإسعاد ذواتكم وغيركم في الداريْن، ولا تَتَأثّروا بمَن يُخالِفونكم فهم سيَتْعَسون في دنياهم وأخراهم لو اسْتَمَرّوا هكذا مُصِرِّين علي بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم، واسْتَمِرُّوا في حُسْن دعوتهم بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، واسْتَبْشِرُوا دائماً خيراً واطْمَئِنّوا واسْعَدُوا بذلك، أنَّ ربكم معكم دوْما بحبه ورضاه ورعايته وأمنه وتوفيقه وتيسيره ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا والآخرة، لمَن آمَنَ به وتمسَّك بإسلامه
ومعني "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا وللمُكَذّبين منهم المُعانِدِين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل التّحَدِّي والتَّعْجِيز وإسْكات الأَلْسِنَة إنْ كان الأمر كما تَدَّعون أنَّ القرآن مِن عندي وأنه من كلام البَشَر: بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – واللام للتأكيد – لو اجْتَمَعَتْ واتّفَقَت وتَعَاوَنَتْ كلّ الإنس أيْ بَنِي الإنسان أيْ الناس وكلّ الجِنّ وهي في لغة العرب كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن بل وكلّ الخَلْق التي تعلمونها أو لا يعلمها إلا خالِقها في الكوْن كله علي مُحَاوَلَة أنْ يأتوا بمِثْل هذا القرآن العظيم في حِكْمته وحُسْنه ودِقّته وتَنَاسُقه وتَرَابُطه وتَكَامُله وعدم تَنَاقض بعضه لبعض وإعجازه وأخلاقه وأنظمته وقوانينه وتشريعاته التي تشمل القواعد العامة لكل شئون الحياة المختلفة بما يُصْلِح حال جميع البَشَر ويُكْمِلهم ويُسعدهم في الداريْن لو عَمِلوا بها كلها لا يأتون أيْ لا يحضرون أبداً حتماً بمِثْله حتي ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً أيْ نَصِيرَاً ومُعِينَاً بكلّ أنواع العَوْن المُمْكِنَة فى تحقيق مَا يتمنّونه من الإِتيان بمِثْله أيْ لن يستطيعوا ذلك بأيِّ حالٍ من الأحوال وبأيِّ شكلٍ من الأشكال.. وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان.. وقد عَجَزوا وسيَعجزون حتماً حتي يوم القيامة عن الإتيان بمِثْل حتي أقصر سورةٍ أو آيةٍ مهما كانت فَصَاحَة مَن يحاول هذا فثَبَتَ بذلك أنَّ هذا القرآن العظيم هو من عند الله تعالى، لأنَّ الأمر فوق طاقة البَشَر إذ القرآن كلام الخالِق ولا يمكن مُطلقا لكل المخلوقات مهما عَظُمَت أن تُقارَن بخالقها ثم هو قد أعْجَزَ البَشَرِيَّة كلها بكل عقولها وأفكارها وفلاسفتها وفُصَحَائها أن يأتوا بمثله لأنه أتَيَ بنُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة فهو يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد كل البَشَر تمام السعادة في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه رغم اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم ورغم كل التطوّرات التي تَطْرَأ علي حياتهم وهذا ما لم ولن يَقْدِر عليه إلا خالقهم الخبير العليم بهم لأنهم صَنْعَته التي صَنَعَها ويعلم تماما كل دَوَاخلها، وقد تَحَدَّاهم سبحانه ليَستثيرهم لفِعْل هذا ومع ذلك لم يستطع أيّ أحدٍ أن يأتي حتي ولو بآيةٍ مِثْله!! ولن يستطيع حتي يوم القيامة!! مَمَّا يدلّ علي صِدْقه وأنه ليس من كلام البَشَر وإنما هو كلام ووَصَايَا خالِقهم بلا أيّ شكّ لأنه لو كان مِن كلامهم أو من كلام الرسول (ص) لأَتَوْا بمِثْله وأفضل لأنه (ص) أمِّيّ لا يَقرأ ولا يَكتب وهناك الكثيرون مِمَّن هم أعْلَم وأفْصَح منه!!.. فإذا كان الحال هكذا، وقد عجزتم أشدّ العَجْز، رغم تجميعكم لكل قواكم البشرية والعقلية والمالية وغيرها، فقد أثبتم بذلك إذَن أنتم بأنفسكم صِدْقه بأوضح وأقطع دليل! لأنه لو كان كلاماً بَشَرِيَّاً لأتيتم بمِثْله!
ومعني "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)" أيْ ولقد نَوَّعْنا وعَدَّدْنا وأكْثَرْنا للناس في هذا القرآن العظيم من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما، وهذا التصريف هو من أجل أن يَتَذَكّروا ولا يَنْسوا أبداً ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّروا ربهم وإسلامهم، ويعقلوا كل هذا بعقولهم ويتدَبَّروه ويدرسوه، ويذاكروه كما يذاكرون دروسهم وعلومهم ويربطون بين أجزائها ومعلوماتها ويحفظونها ويراجعونها حتي لا ينسوها، ويكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لينتفعوا ويسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليهم فقط إلا أن يتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. وعليهم أن يحذروا بشدّة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. إنَّ عليهم في كل لحظات شئون حياتهم أن يتذكّروا دائماً ربهم وإسلامهم فيلجأوا إليه ويَدْعُوه ويَرجوه ويَطلبوا عَوْنه وتوفيقه وتَيْسيره ورزقه وقوَّته وأمنه وحُبّه ورضاه وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة أن يعبدوه أي يطيعوه وحده ويَخضعوا ويَستسلموا له ويعود من كذّب منهم عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماماً في الداريْن.. ".. فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)" أيْ فرَفَضَ كثيرٌ من الناس القرآن تَعَاظُمَاً وتَعَالِيَاً مُسْتَكْبِرين ومُعانِدين له ولم يَقْبَلُوا إلا كفوراً أيْ إلا الكفر به أيْ تكذيبه وعدم العمل بأخلاقه بل الكفر بالله تعالي ذاته أي تكذيب وجوده ورسوله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)"، "أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)"، "أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)"، "أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)" أيْ وهؤلاء الناس الذين أبوا إلا كفورا، ومَن يَتَشَبَّه بهم، يُرَاوِغُون حتي لا يُسْلِموا، فهُمْ مُصِرُّون أشَدَّ الإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، فهم مِن شِدَّة كفرهم وعنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغتهم، يَتركون مُعْجِزَة القرآن، والتي أخْرَسَتْهم وهَزَمَتْهم وأثبتت عَجْزهم وكَشَفَتْ عنادهم حيث لم يأتوا بمِثْلها مجتمعين فعليهم بالتالي أن يؤمنوا بها لو كانوا صادقين في طَلَب معجزة تثبت صدق الرسول (ص)، والتي يُدْرِكون تماما أنها حقّ وصِدْق وخير وعدل وسعادة، ويَبدأون يَطلبون مُعجزات مَحْسُوسَة مَرْئِيَّة، ولم يَستجب لهم سبحانه وهو القادر علي كل شيء، حتي يتمّ التركيز علي المعجزة الكبري، القرآن، والتي بالقطع لا تُقارَن بأيِّ معجزة حِسِّيَّة أخري، لأنَّ المعجزات الحسية، برغم عظمها، فهي لوقتٍ مُحَدَّدٍ ولهدفٍ محدد وينتهي أثرها بانتهاء وقتها وهدفها وتصبح فقط عِبْرَة يُعْتَبَر بها، ثم أيضا لم يستجب لهم سبحانه لأنه يعلم أنهم ما طلبوها إلا لإثبات عدم صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) الصادق الأمين كما يُسَمُّونه هُمْ لا غيرهم عندما لم تَتَحَقّق، ثم بالنهاية لو فُرِضَ واستجاب لهم لم يؤمنوا وسيَطلبون غيرها وغيرها!! لأنَّ أصل المشكلة ليس في الآيات والدلائل – والتي هي قاطِعَة في كل مخلوقات الله في كَوْنه – ولا في القرآن الكريم حتماً ولكنها فيهم هُمْ حيث عِنادهم واسْتِكْبارهم ومُرَاوَغتهم، وهذا قد حَدَثَ مع الرسول (ص) ويَحْدُث وسيَحْدُث مع المسلمين الدعاة لله وللإسلام مِن بَعْده في كل زمانٍ ومكان، فالمشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في إغلاق عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فإنّ كثرة الآيات وتنوّعها تُفيد فقط مَن كان طالباً للحقّ بصِدْقٍ ولكنه جاهلٌ أو مُتَشَكّكٌ أو سَيّء الفهم فإذا خَفِيَت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيرها فيُؤمِن، فهم لا يَنْقصهم الدليل على صِدْق الرسول (ص) والقرآن الذي أُوُحِيَ إليه ولكن الذي ينقصهم هو إحسان استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. أيْ وقالوا للرسول (ص) لن نؤمن لك أيْ لن نُصَدِّق بك وبما جِئْتَ به وهو القرآن ولن نعمل بما فيه إليَ أنْ تَفْجُر أيْ تَشُقّ لنا من الأرض ينبوعاً أيْ عَيْنَاً يَتدفّق ماؤها بكثرةٍ ويكون دائم الجَرَيان لا ينتهي بأنْ تَضْربها بعَصَيَ كعصي موسي مثلاً فتخرج منها المياه، فحينها قد نؤمن لك لأنك ستكون عندنا صادقاً وإنْ لم يَحْدُث فأنت غير صادق وبالتالي لن نُصَدِّقك!.. "أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)" أيْ وهذا طَلَبٌ سَفِيهٌ تافِهٌ آخرٌ منهم يَدَّعُون كَذِبَاً ومُرَاوَغَة أنه لو تَحَقّق لهم قد يجعلهم يؤمنون!.. أيْ أو تكون لك حديقة مُتَمَيِّزَة كثيفة مُثْمِرَة من نخيلٍ وعنبٍ وهما صِنْفان مُتَمَيِّزان نافِعان مُرْبِحان لمَن يمتلكهما فتَشُقّ الأنهار بينها تفجيراً كثيراً فيكون سَقْيها سَهْلٌ مَيْسُورٌ ومناظرها مُسْعِدَة وأرباحها وفيرة ولك فيها من كل الثمرات التي تريدها والتي تُثْمِرها لك من التمر والعنب وغيرهما، والمقصود أن يكون غَنِيَّاً له من كل أنواع المُمْتَلَكات والأموال لأنَّ الرسول لابُدَّ أن يكون عظيما والعظيم لا يكون إلا غنيا! فإنْ حَدَثَ ذلك فمِن المُمْكِن أن نقتنع بصِدْقك أنك رسول وقد نؤمن لك وإنْ لم يَحْدُث فأنت غير صادقٍ وسنَكْفر بك! فالعظمة عندهم بالمال الكثير فهذا هو مِقْياسهم الدنيويّ الذي يَقيسون به قيمة الأشخاص وليس بأخلاقه وأفكاره وعلومه وخبراته وتأثيراته ومنافعه وحِكْمته واتّزانه ونحو هذا مع مُمْتَلَكاته وإمكاناته الماديّة المُتَنَوِّعَة قطعاً لكنْ لا تكون هي وحدها المقياس.. "أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)" أيْ وهذا طَلَبٌ سَفِيهٌ تافِهٌ آخرٌ منهم يَدَّعُون كَذِبَاً ومُرَاوَغَة أنه لو تَحَقّق لهم قد يجعلهم يؤمنون!.. أيْ أو تُسْقِط السماء علينا فوق رؤوسنا كِسَفَاً أيْ قِطَعَاً من العذابٍ كصواعق أو سيول أو نحوها تُعَذّبنا وتُهلكنا كما زَعَمْتَ أيْ ادَّعَيْت أنَّ ربك يُهَدِّدنا ويَتَوَعَّدنا بذلك إنْ لم نؤمن فهو علي كل شيء قدير، فإنْ حَدَثَ ذلك فمِن المُمْكِن أن نقتنع بصِدْقك أنك رسول وقد نؤمن لك وإنْ لم يَحْدُث فأنت غير صادقٍ وسنَكْفر بك!!.. إنَّ هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يَتَشَبَّه بهم يطلبون منك يا رسولنا الكريم – ومِن المسلمين مِن بَعدك – بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء واستهتار واسْتِبْعاد سرعة إنزال عقوبة الله بهم التي تَعِدُهم بها إنْ كنتَ صادقاً فإنْ لم تَنْزِل فأنت إذَن كاذب والمسلمون كاذبون وذلك قَبْل وبَدَل أن يطلبوا سرعة الهداية لله وللإسلام والتي ستؤدِّي بهم حتماً لكل حياةٍ حَسَنَةٍ سعيدةٍ في الدنيا والآخرة! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا فيما تدعوهم إليه من إسلامٍ فيه كلّ خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون العقاب والهلاك لإثبات صِدْقِك!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك؟! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (32) من سورة الأنفال "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)").. ".. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)" أيْ وهذا مَطْلَبٌ آخرٌ أفْظَع سَفَهَاً وقُبْحَاً.. أيْ أو تأتي لنا بالله، بإلاهِك الذي تَدَّعِيه، وبالملائكة، فنُشاهده ونُشاهدها، قبيلاً، أيْ مُقَابَلَة ومُعَايَنَة ومُوَاجَهَة وَجْهَاً لوَجْهٍ نراه ونراها بأعيننا ويَشهد وتَشهد لك بصِدْق مَا جِئْتنا به مِن قرآنٍ وإسلام، فإنْ فَعَلْتَ ذلك كنتَ صادقاً وسنُؤمن وإنْ لم تَفْعله فأنتَ كاذبٌ وسنَكْفر!!.. "أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)" أيْ وهذا مزيدٌ مِن البَيان لبَقِيَّة مَطالبهم السفيهة القبيحة.. أيْ أو يكون لك بيتٌ من زِينَةٍ أيْ مُزَخْرَفٌ مُزَيَّنٌ مُجَمَّلٌ بأفْخَم وأثْمَن الزخارف والزينات كالذهب ونحوه، بما يعني أنك غَنَيٌّ عظيمٌ حتي نَثِقَ بك ونُصِدّقك!.. ".. أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ.." أيْ أو تَصْعَد في السماء ونحن ننظر إليك ولن نُصَدِّق لِصُعودك فيها إنْ أنتَ صَعَدْتَ إلا إذا تُنَزّل علينا كتاباً من عند إلاَهِك الذي تَدَّعِيه، من عند الله، نقرؤه يكون فيه تَصْدِيقك وفيه دلالة واضِحَة قاطِعَة علي أنك رسولٌ من عنده وفيه ما يدعونا للإيمان بك واتّباع دينك وفيه ما نَعلم منه أنك قد صَعَدْتَ بالفِعْل لإلاهك!.. ".. قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)" أيْ قل يا رسولنا الكريم لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدِين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل التّعَجُّب مِمَّا يَطلبون والذي يدلّ علي سوء فِكْرهم وقُبْح أخلاقهم وإصرارهم التامّ علي سُوئهم لأنهم متأكّدون أنَّ هذا سَفَهٌ وبعضه يستحيل أن يَحدث كرؤية الله تعالي والملائكة مثلا، قل لهم ما قد يُوقظهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم وإسلامهم: سبحان ربي أيْ أُنَزّه ربي أيْ أُبْعِده عن كل صفةٍ لا تليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ – كما أنَّ كلمة سبحان ربي تُسْتَخْدَم للتّعَجُّب من عظيم وتمام قُدْرته تعالي ومِمَّا يَسمع منهم ويَرَيَ – وأُنَزّهه عن العَجْز عن فِعْل ما اقترحتم فهو قادرٌ على كلِّ شيءٍ والجميع تحت سلطانه ونفوذه وقُدْرَته وعلمه، وأنَزّهه عن أن يَتَحَكّم فيه أحدٌ أو يشاركه في قُدْرِته فهو لا يُنزل آياته أيْ يُحْدِث مُعْجِزاته حسبما يَقترحه خَلْقه وإنما علي حسب كمال حِكْمته وعِلْمه بما يُحَقّق أفضل وأسْعَد مَصالحهم فهم لا يعلمون ما يعلمه سبحانه.. ".. هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل أنا كنتُ إلا بَشَرَاً كَكُلِّ البَشَر ورسولاً ككلّ الرسل وهم لم يأتوا الناس بآيةٍ إلا بأمر الله يُنَزّلها علي حسب ما يُناسبهم ليؤمنوا فكيف بالتالي إذَن تَطلبون مِنّي مَا لا يَقدر عليه إلا خالق البَشَر الذي يقول للشيء كُنْ فيكون فأمر الآيات ليس لي حتماً فليس من شأن مَن كان كذلك بشراً رسولاً مِثْلي أن يأتي الناس بتلك المَطالِب المُتَشَدِّدَة التي طلبتموها وإنما مِن شأنه فقط أن يُبَلّغهم ما أمره الله بتبليغه إيَّاهم مِن إسلامٍ يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه وقد فعلتُ ذلك وأمركم فيما سألتم إلى الله تعالي يَفعل ما يشاء منه أو لا يفعله
ومعني "وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)"، "قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)" أيْ هذا بيانٌ لتَبْريرٍ وسَبَبٍ آخرٍ من تَبْريراتهم وأسبابهم السفيهة الضعيفة التي يَدَّعُونها ويُراوِغُون بها حتي لا يُسْلِموا والتي لا يَقْبلها أيُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل.. أيْ ولا يَمنع الناس الكافرون المُكَذّبون المُعانِدُون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغُون وأشباههم مِن أن يؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا بوجود الله ورسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويفعلوا الخير ولا يفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات إذ جاءهم الهُدَيَ أيْ حين يَصِلُهم الإسلام من خلال رسله وكتبه التي أوْحَاها إليهم ليُبِلّغوها لهم إلا أنهم قالوا مُسْتَبْعِدين الأمر هل بَعَثَ أيْ أرْسَلَ الله بَشَرَاً لكي يكون رسولاً منه لنا؟! إنهم لذلك لم يؤمنوا ولو بَعَثَ مَلَكَاً لكانوا آمنوا علي الفور! فالمشكلة إذَن ليست فيهم! ولذلك فهُمْ مُصِرُّون علي حالهم! فالله لم ينزل أيَّ تشريعٍ لتوصيله لنا فالرسول الذي جاءنا هو بَشَرٌ مثلنا وليس مَلَكَاً فيكون له فضلٌ علينا بل نحن أفضل منه من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك! ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع ملائكته! فهو إذَن كاذب! وبالتالي فنحن في المُقابِل مُكَذّبون بما أرْسِل به إلينا!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم قد تَرَفّعوا واستكبروا أن يَتَّبعوا رسولا من البَشَر ولم يَتَأَفّفوا أن يكونوا عابدين لأصنامٍ وأحجارٍ وأبقارٍ وغيرها!!.. ثم خاتم المرسلين الرسول الكريم محمد (ص) ليس هو حتماً أوّل رسولٍ من الرسل أرسله الله تعالى إلى الناس وإنما سَبَقه كثيرون هم يعرفونهم من أخبارهم وأقوامهم، كنوح وإبراهيم وموسي وعيسي وغيرهم، فليس الأمر إذَن ابْتِدَاعَاً أيْ اخْتراعَاً لا مِثال سابِق له! ومادام كذلك فكيف يُكَذّبون ويَرْفضون أنه هو أيضا رسول مِثْلهم ويُشَكِّكون في دعوته لعبادة الله وحده واتّباع دينه الإسلام وكلهم قد جاءوا بمِثْل ما جاءهم به؟!.. "قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا وللمُكَذّبين منهم المُعانِدِين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لإسْكات أَلْسِنَة مَن يُنْكِرون أن يكون الرسول مِن البَشَر: لو وُجِدَ واسْتَقَرَّ وفُرِضَ أنه كان في الأرض ملائكة بَدَل البَشَر يمشون عليها مُطْمَئِنّين أيْ آمِنين مُسْتَقِرِّين كالآدَمِيِّين من غير أن يطيروا للسماء لأداء مهامّهم فيها التي خَلَقهم الله لها لِنَفْع البَشَر كتَسْيير الرياح والسُّحُب ونحو ذلك لكُنّا أرسلنا إليهم من السماء مَلَكَاً صِفَته أن يكون رسولاً لهم ليكون مِن جِنْسهم، فحِكْمتنا حينها تَتَطَلّب ذلك، ولكنَّ أهل الأرض بَشَر، فالرسول إليهم بالتالي يجب أن يكون مِن جِنْسِهم لِيُمْكِنهم مُخَاطَبَته وسؤاله وفَهْم كلامه والتّعَلّم منه بأن يُطَبِّق الإسلام أمامهم، هكذا بكل بَسَاطَة وعُمْق، لأنَّ كلَّ جِنْسٍ هو أَمْيَل إلي جِنْسه والرسول يجب أن يكون مِن جِنْس المُرْسَل إليهم فلو كان المُرْسَل إليهم ملائكة لكَانَ الرسول إليهم مَلَكَاً مِثْلهم ولو كان المُرْسَل إليهم من البَشَر لكان الرسول إليهم بَشَرَاً مِثْلهم فكيف تَطلبون إذَن أيها المُكَذّبون أن يكون الرسول إليكم مَلَكَاً وتَسْتَبْعِدون أن يكون بَشَرَاً مع أنكم من البَشَر؟!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (9) من سورة الأنعام "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)" أيْ قل لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم مِن بَعْدِه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم يَكفيني كفاية تامّة – ولا أحتاج أبداً لأيّ شهادة أخري منكم ولا مِن أيّ أحدٍ وقد أظهر ربي من الأدِلّة على صِدْقِي وصِدْق ما جِئت به ما يُغْنِي عن شاهدٍ يَشهد عليها – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أي الشاهد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بيني وبينكم، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل أحد ما يستحقّ، سيُعطي الصادقين وهم المسلمين كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وهذا هو ما يشهد لهم تماما أنهم علي الحقّ، بعد أن شهِد لهم بأنهم علي الحقّ بإعطائهم القرآن واستجابتهم له وتمسّكهم به، وسيُعطي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين كل شرٍّ وتعاسة فيهما بما يناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، وهذا هو شهادته عليهم بأنهم علي الباطل وأنهم لم يحفظوا نعمة القرآن عليهم فلم يُصَدِّقوا ويَعملوا بها، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بيننا وبينكم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أي خافية مِمَّا تقولونه أو تفعلونه أنتم أهل الشرّ سواء أكان عَلَنِيَّاً أم سِرِّيا ومِمَّا يفعله المؤمنون أهل الخير.. وفي هذا تمام الطمْأنَة للمسلمين المُتمسّكين بإسلامهم، وتمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب للمُكذبين، لعل ذلك يُوقظهم فيعودوا لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. ".. إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ونزول العذاب في الداريْن، كما أنه تذكيرٌ لكل عاقلٍ أنْ يُحْسِنَ في حياته بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال عمله بكل أخلاق الإسلام حيث الله تعالي مُطّلِعٌ علي كل أقواله وأفعاله مُحَاسِبه عليها بما يُناسِب في دنياه وأخراه.. أيْ لأنَّه كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان خبيراً بخَلْقه أيْ عليماً بكلّ خِبْرة عن كلّ شيءٍ وعن أسرار الأمور وخفايا العقول، عن أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، وبصيراً أيْ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي فهو سيُحاسبهم عليها بما يُناسب في دنياهم وأخراهم بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شرَّاً وتعاسة بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكلّ أخلاق الإسلام، فيَشاء الله لهم ذلك ويأذن، بأن يُوَفّقهم ويُيَسِّرَ لهم أسبابها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)" أيْ ومَن يَشاء الهداية لله وللإسلام مِن البَشَر بكامل حرية إرادة عقله فيَشاء الله له هذا الهُدَيَ بعد ذلك أي يُوَفّقه له ويُيَسِّر إليه أسبابه بسبب حُسْنِ اختياره هو بإحسان استخدام عقله، فمِثْل هذا هو الذي وَصَلَ للهداية الحقيقية المُؤَكّدَة في الحياة، إنه هو المُهْتَدِي بحقّ وبجَدٍّ وبكل تأكيدٍ ولن يستطيع أيّ أحدٍ أن يُضِلّه، إنه بالقطع السعيد السعادة التامّة في الدنيا والآخرة، لأنَّ الله خالِقه سيكون هو وَلِيّه أيْ وَلِيّ أمره يَتَوَلّيَ كلّ أموره وشئونه فيهما (برجاء مراجعة الآية (257) من سورة البقرة "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُضْلِلْ.." أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ.." أيْ فلا يُمكن أبداً مُطلقاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أن تَجِدَ لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وكل عاقل يُشاهدهم ويُتابعهم أولياء من غير الله أيّ نُصَرَاء وأعوان يَتَوَلّون أمورهم فيَهْدُوهم له وللإسلام ويُعينوهم ويَنصروهم ويُسْعِدوهم ويَمنعون الضرَرَ عنهم في كل شئون حياتهم ويمنعونهم من عذاب الله تعالي الذي أعَدَّه لهم حين يُعَذّبهم به في دنياهم وأخراهم بسبب سُوئهم.. إلا إذا تابوا أيْ استفاقوا ورجعوا إليه واختاروا بعقولهم الهداية واتّباع الإسلام فحينها حتماً يتوب عليهم ويُعينهم علي الهداية ويكون وَلِيَّاً لهم مُسْعِدَاً في الداريْن، لكنْ إنْ لم يتوبوا وأصَرُّوا علي ما هم فيه من سوءٍ فالنتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة إذَن – بعد تعاسة الدنيا – لابُدَّ أن تكون ".. وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا.." أي ونَجْمعهم يوم القيامة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم بعد كوْنهم تُرابَاً ونَسْحَبهم زاحِفِين علي وجوههم وبطونهم بواسطة ملائكة العذاب إهانة وتعذيباً لهم لكي يُقذفوا في عذاب النار الذي لا يُمْكِن وَصْفه ليَنالوا ما يَسْتَحِقّونه بما يُفيد أنهم حينها في مُنْتَهَيَ الذلّة والإهانة والانكسار والعار والندامَة والفضيحة والضعف في مُقابِل استكبارهم واستهزائهم الذي كانوا عليه في دنياهم ويكونون في هذه الحالة من فَظَاعَة المَوْقِف والذهول والرعب الذي يُصيبهم وقتها عُمْيَاً أيْ كأنهم لا يَرَوْنَ شيئاً وبُكْمَاً أيْ كأنهم لا يَنْطِقون بشيءٍ وصُمَّاً أيْ وكأنهم لا يسمعون شيئا.. ".. مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.." أيْ ومَرْجعهم يومها الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف – وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم بسبب ضلالهم وبُعْدهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في قلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المُستقرّ الذي يَستقرّون فيه.. هذا، ولفظ "مأواهم" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المأوي مَكَانَاً للراحة والاستقرار والأمان لا للعذاب!.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. ".. كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)" أيْ كلما أرادت أن تَخْبُو أيْ تَضْعف وتَسْكن وتهدأ نيرانها وتتهيَّأ للانطفاء، بسبب أنها أكَلَت جلودهم ولحومهم، زدناهم اشتعالاً بأنْ نُبَدّلهم جلوداً ولحوماً غيرها فتعود مُشْتَعِلَة، فإرادة النار أن تَهْدأ لا يعني نقصان شيئاً من عذابهم بل هم كلما خَبَتْ تَوَهَّمُوا أنَّ عذابها قد خَفَّ عليهم فإذا بهم يُصْدَمُون بزيادة سعيرها فيزدادون عذاباً ونَدَمَاً وحَسْرَة بانقطاع أملهم في نجاتهم منها فهُمْ لا يُقْضَيَ عليهم فيها فيَموتوا ويَرْتاحوا ولا يُخَفّف عنهم من عذابها بل هم في عذابٍ مُتَزَايِدٍ مُتَنَوُّعٍ لا يُوصَف (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (56) من سورة النساء ".. كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)" أيْ ذلك العذاب الشديد الذي لا يُوصَف المَذْكُور سابقاً هو عقابهم الذي يَستحِقّونه، عقاب أمثال هؤلاء الضالّين، بسبب أنهم كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، كفروا بآياتنا أيْ لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار إذ قالوا مُستنكِرين مُسْتَبْعِدين مُسْتَهزِئين عن كيف يُبْعَثون بعد موتهم بعد كوْنهم ترابا وقد تَحَلّلَت وتَفَتّت أجسامهم وأصبحوا عظاماً ورُفاتاً أيْ فُتاتاً؟! قالوا هل إذا كنا عظاماً ورُفَاتَاً هل نحن مَبْعُوثون أيْ هل سنُحْيَا خَلْقَاً جديداً فيه حياة مرة أخري في يوم القيامة الذي يَدَّعِيه المسلمون؟! إنَّ هذا لا يُصَدِّقه عقل!! أي لا يُصَدِّقون أبدا ويَسْتَبْعِدون تماما علي الله تعالي أنه في الآخرة يُحييهم مرة أخري هم والسابقين منذ آدم بتمام قدْرته وعلمه من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا وعظاما مُتَفَتِّتَة ليَخرجوا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الخِتامِيّ حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم.. إنَّ السبب في كُفرهم وضَلالهم وسُوئهم هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)" أيْ وأَلَمْ يُشاهِد الناس ويَنظروا ويَتدَبَّر كلّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ – والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم، أيْ لقد رَأوا وتأكّدوا، كما أنه للتّعَجُّب وللرفض للذين يُكَذّبون ذلك والذي هو في مُنْتَهَيَ الوضوح – وهل بَلَغَ العَمَىَ وإغلاق العقول بالمُكذبين منهم المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُسْتَبْعِدين لِحُدُوث البَعْث أنهم لم يَرَوْا ولم يعقلوا أنَّ الله تعالى الذي خَلَق السموات والأرض أيْ أوْجَدهما مِن عدمٍ بإبداع أيْ علي غير مثالٍ سابقٍ بتمام قُدْرته وعلمه بكل ما فيهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لا يعلمها إلا هو ولم يستطع أيّ أحدٍ أن يخلق مثلها أو يَتَجَرَّأ فيَدَّعِي أنه هو الذي خَلَقها ولم يَعْيَ بخَلْقهِنَّ أى ولم يَتْعَب حتما بسبب أنه خلقهما بل بمجرّد أن قال لهما كن فكانتا كما يريد، ألم يروا أنه قادر بكل تأكيدٍ علي أن يَخْلق مِثْلهم أيْ إيَّاهم أيْ يخلق الناس بعد موتهم أيْ قادر حتماً علي إحياء الموتي من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الختاميّ حيث يُعطِي لأهل الخير كل خير وسعادة علي حسب درجات أعمالهم ولأهل الشرّ كل شرّ وتعاسة بما يستحِقّونه بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم؟!.. هل الذي خَلَقَ السماوات والأرض والتي هي أكبر مِن خَلْق الناس كما قال تعالي في الآية الأخري "لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" (غافر:57) وذلك لأنها باقِيَة منذ القِدَم وتستمرّ حتي يوم القيامة دون أيّ تغييرٍ بينما الناس يَتغيَّرون ويَمرضون ويَضعفون ويَشيخون ويَموتون فهي إذن أكبر وأعظم وأدْوَمَ منهم، هل الذي خَلَقَ الأكْبَرَ لا يقْدِر علي خَلْق الأصْغَرَ والأقلّ؟!! إنه بكلّ تأكيدٍ ومِن باب أوْلَيَ يُمكنه بسهولة خَلْق الأقلّ، خَلْق مِثْلهم أيْ الناس، والخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثْبِت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قدْر ما تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. وفي هذا ذمٌّ شديدٌ لأمثال هؤلاء الذين يُكذّبون بالبَعْث لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. ".. وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ.." أيْ وقد جَعَلَ الله للناس جميعاً ولهؤلاء المُكَذّبين قطعاً معهم وقتاً مُحَدَّدَاً لا شكّ في حصوله، لموتِ كل منهم والذي يَرَوْنه يَحْدُث أمامهم واقِعَاً كلّ وقتٍ لأيِّ أحدٍ ولا يُمْكِنهم إنكاره، ولإعادتهم بعد الموت وهو يوم القيامة لحسابهم، ولعذاب مَن أراد تعذيبه في الدنيا ثم الآخرة لاستحقاقه له لِتَكْذيبه ولِعِصْيانه ولِفِعله الشرور والمَفاسد والأضرار، وهذا الأجل الذي لا رَيْب فيه يُحَدِّد سبحانه موعده علي حسب حِكْمته وعِلْمه، لِيَتَحَقّق العدل التامّ وينال كلٌّ حقّه وأجره، وهو معلومٌ له تعالي وحده لا لأحدٍ غيره، وهو لا يَتَقَدَّم ولا يَتَأخَّر، وإذا كان الأجل مُحَدَّدَاً مَعْدُوداً هكذا أيْ أياماً يُمكن عَدَّها فإنه آتٍ بكل تأكيد، وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ مهما تَوَهَّمَ أحدٌ أنه بعيد، وكل مَن مات فقد قامَت قيامته إذ قد انتهي عمله في دنياه ودخوله قبره هو بالنسبة له من بدايات الآخرة، فأَحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شَرٍّ من خلال التّمَسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)" أيْ فرَفَضَ الظالمون البَعْث رغم إقامة الأدِلّة القاطِعَة عليه والتي سَبَقَ ذِكْرها تَعَاظُمَاً وتَعَالِيَاً مُسْتَكْبِرين ومُعانِدين له ولم يَقْبَلُوا إلا كفوراً أيْ إلا الكفر به أيْ تكذيبه بل الكفر بالله تعالي ذاته أيْ تكذيب وجوده ورسوله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ففَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم ما شابه هذا، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)" أيْ هذا إرشادٌ للمسلم ألاّ يكون أبداً بخيلاً، أيْ حَريصاً حِرْصَاً شديداً علي ما معه من نِعَم الله عليه والتي لا تُحْصَيَ فلا يُنْفِق منها شيئا مطلقا، لغيره أو حتي لنفسه! أو يُنْفق منها الشيء النادر القليل الخفيف التافه بل وقد يَأمر غيره بهذا من شدّة بُخْله وشَرِّه!! وإرشادٌ كذلك وتذكيرٌ ضِمْنِيٌّ بكرم الله تعالي وعطاءاته لِخَلْقه التي لا تَنتهي لِيُعْبَد وحده ويُشْكَر ويُتَوَكّل عليه وحده.. إنَّ البُخْل شَرٌّ علي البخيل وعلي مَن حوله، لأنه بانتشاره تنتشر الأنانية والانفراد والانعزال والتّقاطُع والتّدَابُر والتّشاحُن والحقد والكراهية والثأر والانتقام وفقدان الأمل ونحو ذلك مِمَّا يُتعس الجميع في دنياهم ثم أخراهم، بينما بانتشار الكرم، سواء أكان ماديا أم معنويا كبَسْمَةٍ أو دعوةٍ لخيرٍ أو نحوها، والإنفاق من كل أنواع النِّعَم بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ وبما تَيَسَّر وبما لا يَضُرّ المُنْفِق ينشر التعاون والتآلُف والتآخِي والترابُط والحب والتسامح والأمن ونحو ذلك مِمَّا يُسعد الجميع في الداريْن.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا وللمُكَذّبين منهم المُعانِدِين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لو كنتم أنتم الذين تمتلكون بأيديكم وتحت تَصَرّفكم مفاتيح الخزائن – جَمْع خَزِينَة وهي ما تُخَزَّن فيها الأشياء – التي فيها رحمات وخيرات وأرزاق وتقديرات وتدبيرات وترتيبات ربي وربّ الناس والخَلْق جميعا في كوْنه من أجل منافعهم وسعاداتهم وهو المُرَبِّي لهم والرازق والراعِي والمُعين والمُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة، لَكُنتم إذَن بالتالي أمسكتم أيْ امتنعتم عن الإنفاق منها خشية الإنفاق أيْ مَخافَة نتيجة هذا الإنفاق وهو الفقر فتَقِلّ وتَنتهي فتَفتقروا! مع أنَّ خزائن الله يستحيل أنْ تَقِلّ أو تَنتهي أبداً ولكنَّ السبب في إمساككم هو شدَّة بُخْلِكم الذي تَتَّصِفون به!.. وفي هذا ذمٌّ ولَوْمٌ شديدٌ ورفضٌ تامٌّ وتَعَجُّبٌ من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ حال غالِب أو كلّ الكفار والمشركين والمُتَشَبِّهين بهم، مهما كثر ما يملكون من أموال، حتي ولو كانت كل أرزاق الله في الكوْن ونِعَمه ورحماته، فلن يُنفقوا منها إلا القليل حتي علي ذواتهم ومِن باب أولي علي غيرهم بسبب حرصهم الشديد علي الحياة وعدم إيمانهم بالآخرة، فهم يخشون الإنفاق ويعتبرونه سَفَهَاً لأنه سيُؤَدّي للفقر!! لأنهم لا يؤمنون إلا بما في أيديهم أثناء حياتهم ولذا يحرصون عليه أشدّ الحرص ويعتبرون إنفاقه إضاعة له حيث لا يؤمنون بإنفاقه في الخير من أجل تحقيق سعادتيّ الدنيا والآخرة لأنهم لا يؤمنون بها أصلا.. ".. وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)" أيْ هذا بيانٌ للسبب الذى يَجعل الإنسان يَفعل ذلك من أجل التحذير منه والتذكير بتَجَنّبه وعدم فِعْله أبداً من خلال التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام التي تدعو لكل خُلُقٍ حَسَنٍ ومنه الكَرَم لنتائجه المُسْعِدَة في الداريْن.. أيْ وكان الإنسان قتوراً أيْ كثير التّقْتِير أيْ التّضْييق علي ذاته ومَن حوله أيْ البُخْل في الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم فكرا أم علما أم غيره بسبب خوفه مِن فقدان مُمْتَلَكاته بما يؤدّي لتعاسة الجميع في دنياهم وأخراهم.. لقد خَلَقَ الله تعالي الإنسان بصفةٍ فيه من ضِمْن صفاته في فطرته أيْ خِلْقته هي الحِرْص علي ما يَملك، وهي صفة خيرٍ مِن حيث الأصل (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك لكي لا يُضَيِّعه بل يُنَمِّيه ليَنتفع ويَسعد به هو وغيره في الداريْن، لكنْ إنْ أساء استخدام هذه الصفة الطيّبة بالإفراط فيها ليَصِل لمرحلة البُخْل، وخالَف بذلك إسلامه، فَلْيَتَحَمَّل إذَن نتائج مُخَالَفته السيّئة المُتْعِسَة في دنياه ثم أخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (28) من سورة النساء ".. وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وبالتالي فكوْن الإنسان قتوراً لا يعني أنه سبحانه قد خَلَقه كذلك سيِّئا!! وهو الذي يقول "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين:4)، ولكنَّ الإنسان هو قطعاً الذي لم يُحْسِن استخدام عقله ويَتَعَلّم الكرم ويَتَدَرّب عليه ويكتسبه تدريجياً مع الوقت كما يكتسب أيّ أخلاقٍ ومهاراتٍ أخري مُفيدة مُسْعِدَة يريدها، كما يَنصحه الإسلام بذلك
ومعني "وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)" أيْ هذا مِثالٌ يَذْكُره الله تعالي مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ للكثيرين يُبَيِّن فيه أنَّ المشكلة ليست في وجود آيات مَحْسُوسَة مَرْئِيَّة أمام الكافرين والمشركين ومَن شابههم، كما بَيَّنَ في الآيات السابقة من الآية (86) حتي (96) (برجاء مراجعتها للشرح والتفصيل واكتمال المعاني) ولكنَّ المشكلة في تعطيلهم لعقولهم وعِنادهم وكِبْرهم واستهزائهم ومُرَاوَغَتهم حتي لا يَتّبِعوا المُعْجِزَة الكبري وهي القرآن العظيم ويُسْلِمُوا، كما أنَّ هذا المِثال أيضا هو تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء مِن بعض مَن حولهم ليس أمراً جديداً مُسْتَغْرَبَاً مُسْتَبْعَدَاً بل هو مُتَوَقّع يَحْدُث في كلّ عصر، فلْيَصبروا وليعملوا بأخلاق إسلامهم وليُحسنوا دعوة الغير له وليعلموا وليتأكّدوا أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. أيْ ولقد أعطينا رسولنا الكريم موسى (ص) تسع آيات بينات أيْ دلالات واضِحاتٍ قاطِعاتٍ دامِغاتٍ تُثْبِت صِدْقه أنه رسول من عندنا وصِدْق التوراة التي أوحيناها إليه وفيها الإسلام الذي يُناسب عصرهم ويُسعدهم ليُبَلّغه للناس ولفرعون ملك مصر وقومه ومع ذلك لم يؤمنوا، فلا تظنّ يا رسولنا الكريم محمد أنَّ إيمان مَن يَكفر مُتَوَقّفٌ علي الاستجابة لِمَا طَلَبوه منك مثل أن تفجر لهم من الأرض ينبوعاً أو تُسقط السماء عليهم كِسَفَاً أو ما شابه هذا فإنَّ المُعجزات مهما عظمت لا تجعل مَن اختار مُتَعَمِّدَاً عدم الإيمان أنْ يُؤمِن، وهذه الآيات هي العَصَيَ التي تَتَحَوَّل إلي ثعبان حقيقيّ وإرسال عليهم الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم كنوعٍ من التعذيب لهم ليستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم وإخراج يده بيضاء لامعة بعد إدخالها في ملابسه وأخذهم بالسنين أيْ بالجفاف والفقر والتاسعة ضَربه بعَصَاه للبحر فيَنْفَلِق إلي فلْقتَيْن بينهما مَمَرّ يَنْجُو منه موسي (ص) وبنو إسرائيل بينما يَنْطَبِق الماء علي فرعون والمُتَجَبِّرين معه عندما يَمُرُّون فيغرقون.. ".. فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)" أيْ فاسأل يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْدِه – المؤمنين الذين آمنوا من بنى إسرائيل أيْ من اليهود عن ذلك فسَتَجِد منهم الجواب عَمَّا حَدَثَ وقتها بين موسى وأعدائه عن طريق ما طالَعُوه في التوراة إذ جاءهم أيْ حين جاء موسى أجدادهم بهذه الآيات البَيِّنات فقال له حينها فرعون مُكَذّباً مُعَانِدَاً مُسْتَكْبِرَاً مُسْتَهْزِءَاً بعد أنْ رَأَىَ الآيات كلها إني لأظنك يا موسي مَسْحُورَاً أيْ سَحَرَك السَّحَرَة فأفسدوا عقلك بما خَيَّلُوه لك مِمَّا ليس بحقيقةٍ فأنت مَخْدُوعٌ ومُخْتَلٌّ ومُخَيَّلٌ لك حيث تَتَصَرَّف تصرفات لا يعقلها عاقل ولستَ أبداً رسولاً مُرْسَلاً من ربك بهذه المُعجزات!.. وهذا دائماً هو حال الطغاة المُتَجَبِّرين في كل زمانٍ ومكانٍ عندما يَرَوْن الإسلام يُقْنِع الناس ويَنْتَشِر ويَكْشِف كذبهم ويَخافون علي سلطانهم عليهم واسْتِعْبادهم إيّاهم ونَهْبِهم ثرواتهم أن يزول يَتّهِمون حينها المسلمين كذباً وزُورَاً بكل سوءٍ للتشكيك فيهم ولتشويه صُورتهم لمَنْع الناس من اتّباع دينهم الإسلام.. إنَّ سؤال الذين أسلموا من بني إسرائيل والاستشهاد بإجاباتهم يَزيد المسلمين تَأكّداً علي تَأكّدهم بصِدْق قرآنهم ورسولهم الكريم محمد لأنه كلّما تَعَدَّدَت وتَجَمَّعَت الأدِلّة كلما كان التّأَكّد أشَدّ وأثْبَت ولا يَتَزَحْزَح
ومعني "قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)" أيْ قال موسى (ص) بكلِّ ثِقَةٍ وعِزّةٍ وقوّةٍ مُسْتَعِينَاً بالله مُتَوكّلاً عليه لفرعون ردَّاً على كذبه وعِناده واسْتكباره واستهزائه – وهكذا دائما يَرُدّ المسلمون أصحاب الحقّ علي المُكَذّبين من أجل أن يَنشروا دينهم الإسلام ويُدافعوا عنه – لقد علمتَ يا فرعون يقيناً أيْ بتَأَكّدٍ ودون أيِّ شكّ داخل فطرتك وعقلك إنْ كنتَ عاقِلاً مُنْصِفَاً عادِلاً (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويناديه باسمه دون تعظيمٍ له، أنه ما أوْجَدَ هذه الآيات التسْع المُعْجِزات وغيرها إلا خالِق ومالِك ومُدَبِّر السموات والأرض حيث لا أحد حتماً يُمْكِنه أن ينزل هؤلاء الآيات – ولم يَقل هذه الآيات لأنَّ هؤلاء تستخدم للعاقل ليُذَكّرهم أنها آيات قاطِعات تُحَرِّك العقول فهي كأنها تعقل كالإنسان – إلا الله خالِق الكَوْن والخَلْق جميعا القادر علي كلّ شيء (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (14) من سورة النمل "وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. بَصَائِرَ.." أيْ أنْزَلها لكي تكون بصائر للناس، جَمْع بَصيرة أي إدراك العقل، أي لكي يتبَصَّروا بها أي يَروا ويُدْركوا ويَتدبَّروا بعقولهم ويَسْتَدِلّوا علي قُدْرَة خالقهم ووجوده فيعبدوه أيْ يُطيعوه وحده ويُصَدِّقوا رسولهم ويَتّبِعوا ما جاءهم به من إسلامٍ يُنير لهم طريقهم في حياتهم ويكون لهم هديً أيْ إرشاداً فيَعرفوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة وبالتالي تتحقق لهم الرحمة أي السعادة التامّة في الدنيا والآخرة.. ".. وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)" أيْ وإني مُتَيَقّنٌ أيْ مُتَأَكّدٌ تماماً بلا أيِّ شكّ – واللام للتأكيد – ويَغْلِب علي ظَنّي غَلَبَة تَصِل إلي درجةِ اليقين أنك يا فرعون ستكون مَهْلُوكَاً أيْ سَيُهْلِكك الله تعالي كما أهْلَكَ ويُهْلِك دائما المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين أمثالك بسبب إصرارهم علي سُوئهم وعدم عودتهم عن تَكْذيبهم واسْتِكْبارهم رغم مَجِيء البصائر لهم.. هذا، والمُراد بالظنّ اليقين لأنَّ كلّ مؤمنٍ مُتَيَقّنٌ حتماً بأنَّ عذاب الله وإهلاكه لأمثاله سواء في الدنيا أو في الآخرة هو حقّ، كما أنَّ استخدام لفظ "لأظنّك" سببه أنَّ حقيقة الظنّ في الأصل هي أنه عِلْمٌ لم يَتَحَقّق ويوم الإهلاك لهم سواء أكان في دنياهم أم أخراهم يوم القيامة لم يَقَع بالفِعْل بَعْدُ ولم يَخْرُج إلى عالَم الحِسّ، وفي هذا تمام الدِّقّة، كذلك سببه أنه يَتَوَقّع هذا الإهلاك وهذا التوقّع هو ظَنِّيّ لا يَقِينِيّ لأنَّ خواتيم الحياة لأيِّ ظالِمٍ مُتَكَبِّرٍ لا يعلمها كيف تكون إلا خالقه سبحانه فقد يتوب ويعود لربه ولإسلامه فيسعد بعد توبته في الداريْن ولا يتعس ويهْلك فيهما.. كما أنه أراد أنْ يُقابِله بقوّةٍ مُسْتَمَدَّة من قوّةِ الله القويّ العزيز ويُعامِله بالمِثْل بألفاظٍ تُساوي ما قاله له سابقاً إني لأظنك يا موسي مَسْحُورا
ومعني "فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)" أيْ فبالتالي أرادَ فرعون حينها بعد أن أقامَ موسي (ص) عليه الحُجَّة وهَزَمَه وهَدَّدَه أرادَ أن يستخدم القوة كحالِ كلّ طاغِيَةٍ مُسْتَبِدٍّ ظالِمٍ حيث دائما يَتّخِذ من الإجراءات ما يَحمي به مُلْكه ومَصالِحه والتي هي إجراءات قَمْعِيَّة لاإنسانِيَّة يَفعلها غالباً لحماية سلطانه وما يَنْهَبه بغير حقّ خاصة عند شعوره بضعف حُكْمه واهتزازه فأراد أن يستفزهم من الأرض أي يُزْعِجهم أيْ يُزْعِج موسي (ص) وبني إسرائيل بإيذائهم بأقواله وأفعاله ومَكائده السيِّئة في الأرض التي يعيشون بها وهي أرض مصر التي كان يحكمها وقتها لكي يُخرجهم منها ليَتَخَلّص من دعوة موسي له ولقومه لعبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام.. ".. فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)" أيْ فكانت النتيجة أنْ عَكَسْنَا عليه كَيْده وظُلْمه بقُدْرَتنا حيث عاقبناه هو ومَن معه من جنوده وعذّبناهم عذاباً شديداً بأنْ أغرقناهم جميعاً بلا استثناءٍ في ماء البحر، وذلك في الدنيا قبل عذاب الآخرة الأشدّ والأتمّ والأخلد (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)، وأنْجينا موسي وبني إسرائيل برحمتنا وقُدْرتنا وعِلْمنا
ومعني "وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)" أيْ وقلنا من بعد إهلاكه أيْ فرعون لبني إسرائيل علي لسان رسولنا الكريم موسي (ص) اسكنوا الأرض التي أراد أنْ يَسْتَفِزَّكم منها.. وفي هذا تأكيدٌ تامٌّ بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)" أيْ فإذا أَتَيَ مَوْعِد الآخرة أيْ موعد الحياة الأخري غير الحياة الدنيا أيْ موعد قيام الساعة، أَتَيْنَا بكم وأحْضَرْناكم إلينا لفيفاً أيْ جميعاً من قبوركم بأجسادكم وأرواحكم أنتم وفرعون وقومه وكل الناس رغم اختلاف أزمانهم وأماكنهم وأشكالهم للحساب علي الخير خيراً وسعادة خالدة وعلي الشرِّ شرَّاً وتعاسة علي قَدْر سُوء مَن أساء بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلم، فليُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستَجِد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)" أيْ وبالحقّ أنزلنا هذا القرآن العظيم علي رسولنا الكريم محمد (ص) وفيه الإسلام الذي يُصْلِح الناس جميعا علي اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وأفكارهم وبيئاتهم بكل مُتَغَيِّراتهم إلي يوم القيامة ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه، أنزلناه بالحقّ، أيْ بكلّ صِدْقٍ وعدل دون أيّ كذب أو ظلم، وبكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يكون عليه بما يُناسب أنه من عند الله الخالق العزيز الحكيم سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ومن أجل أنْ تَسِيَر الحياة الدنيا بالحقّ أيْ بالعدل أي بالإسلام الذي في هذا الكتاب لأنّ خالقها ومُنزله هو الحقّ.. ".. وَبِالْحَقِّ نَزَلَ.." أيْ وبذلك نَزَل من عند الله تعالي علي رسوله الكريم محمد (ص) مَحْفُوظَاً بحِفْظِه إلي يوم القيامة، وهذا مزيد من التأكيد للمعني الذي سَبَقَ ذِكْره في قوله تعالي "وبالحَقّ أنْزَلْنَاهُ..".. ".. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)" أيْ وما بعثناك يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده يَتَشَبَّه ويَقْتَدِي به ويَدعو لله وللإسلام – إلا ومهمّتك فقط لتكون مُبشّرَاً ونذيراً أيْ مُبَشِّرا للناس أيْ مُخْبِرَاً بالأخبار السارَّة وهي تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك ويعمل بكل ما في القرآن العظيم من أخلاق الإسلام، ومُنْذِرَاً أيْ مُحَذّرَاً مِن تمام الشرّ والتعاسة فيهما علي قَدْر ما يُتْرَك منه، فإنْ فعلتَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعدك هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآيات من سورة البقرة (75) حتي (78) والآيات (159) حتي (162) عن كيفية نشر الدعوة، والآية (251) عن دَفْع الخير للشرّ، والآية (218) عن صور الجهاد وسعاداته، ثم الآية (109) عن مقابلة الإساءة بالحسنة، والآية (136)، (137) عن الإيمان بجميع الرسل والذي يؤدي لإحسان معاملة كل إنسان من أجل إنسانيته، والآية (139) عن تَرْك الجدال، ثم الآية (207) عن بيع الذات لله وللإسلام، ثم النظر للآية (63) من سورة النساء عن كيفية دعوة المنافقين والمُعاندين، ثم أخيرا الآية (187) من سورة آل عمران)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما (برجاء مراجعة الآية (256) من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين)، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الأمر كله لله فهو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)" أيْ وأعطيناك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْده حتي يوم القيامة قرآناً فَرَقْناه أيْ فَلَقْناه أيْ جَعَلْناه كالفَلَق أيْ كالصُّبْح أيْ كالنور الذي يزيح ويلْغِي أيَّ ظلامٍ والمقصود جَعَلْناه فُرْقَانَاً وفارِقَاً أيْ يُفَرِّق أيْ يُبَيِّن ويُوَضِّح الفرُوق بين الهُدَيَ والضلال حيث يُعين مَن يَتَعَقّله ويَتَدَبَّره ويَتَعَمَّق فيه علي أن يُفَرِّق بكل سهولة ويُسْر بين الخير والشرّ والحقّ والباطل والصواب والخطأ والنافع والضارّ وبذلك يحيا حياته في سعادة تامَّة ويَنتظر مُسْتَبْشِرَاً آخرته التي فيها ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، وهو في ذات الوقت يُنْذِر الجميع أيْ يُحَذّرهم أنَّ مَن يَترك فَهْمَه وتَدَبُّره والعمل بأخلاقه بعضها أو كلها فسَيَتعس في دنياه وأخراه علي قَدْر ما تَرَك.. كذلك من معاني فَرَقْناه أيْ جَعَلْناه وأنْزَلناه مُفَرَّقَاً أيْ آية بعد آية أو مجموعة آيات بعد أخري وليس دفْعَة ومَرَّة واحدة بحسب الوقائع في ثلاثٍ وعشرين سنة لِحِكَمٍ كثيرة أهمها طمأنة الرسول (ص) والمسلمين أنه تعالي دائما معهم بعَوْنه وقوَّته وحبه ورعايته وتوفيقه ونصره، فيُثَبِّت عقولهم ومَشاعرهم بذلك أيْ يَصْمُدوا ويَستمِرُّوا علي الحقّ، كما أنَّ نزوله مُلائماً لأحداث الحياة يكون أكثر تأثيراً وأسرع وأسهل تطبيقا، وأيضا نزوله بهذه الصورة وترتيله بهذا التناسُق والتناغُم يجعل حفظه سهلا وتَدَبُّره أعْمَق واتّخاذه مَرْجِعَاً لكل الشئون أوْكَد حيث يُوَضِّح كل أصول وقواعد التّعامُل معها بما يُحَقّق إصلاح الناس وكمالهم وإسعادهم تماما في دنياهم وأخراهم.. ".. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ.." أيْ وذلك لكى تقرأه على الناس ويقرأوه هم جميعا على تَمَهُّلٍ أيْ دون استعجالٍ حتي يُمكنهم فَهْم مَعانيه وتَدَبُّرها والتّعَمُّق فيها مِمَّا يُعينهم علي تطبيقها في كل لحظات شئون حياتهم فيسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره، أيْ ونَزّلناه تنزيلاً مُتَفَرِّقَاً أيْ شيئاً فشيئاً علي مَدَيَ سنواتٍ طِوالٍ بما يناسب الأحداث ليَسْتَنْتِجُوا ويُدْرِكوا من ذلك أنْ يَرْجِعوا إليه في كلّ حَدَثٍ ليعلموا الصواب ليسعدوا في الداريْن
ومعني "قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدِين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم علي سبيل التقليل من شأنهم وعدم المُبَالَاة بهم وتحذيرهم وتهديدهم لعلهم يستفيقون فيعودون لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم، آمِنُوا به أيْ صَدِّقوا بهذا القرآن العظيم واعملوا بأخلاق الإسلام التي فيه أو لا تُصَدِّقوا به وتُخالِفوه فإنَّ إيمانكم به لا يزيده كمالاً فهو أكمل الكمال وعدم إيمانكم به لا ينقص من كماله أيّ شيء، لكنْ إنْ آمنتم به سعدتم تماماً في الداريْن وإنْ لم تؤمنوا تعستم فيهما، فافعلوا ما بَدَاَ لكم فأنتم الخاسرون حتماً بعدم إيمانكم ولن تَضُرُّوا الله قطعاً بأيِّ شيء.. ".. إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)"، "وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)"، "وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)" أيْ فإنْ لم تُؤمِنوا به فأنتم حتماً لستم أهل خيرٍ لعدم إيمانكم وأنتم من الجُهلاء السفهاء الذين أغلقوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره لأنه قد آمَنَ وسَعِدَ به مَن هو خيرٌ منكم وهم الذين أُعْطُوا العلم مِن قبله أيْ مِن قَبْل الاطّلاع علي القرآن والمقصود أصحاب العقول السليمة المُنْصِفَة العادِلَة القابِلَة لتحصيل العلم الصحيح المُفيد المُسْعِد – أو أعطوا العلم في الإسلام الذي أُنْزِلَ مِن قَبْل نُزول القرآن في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل وكانوا مؤمنين بها بحقّ من اليهود والنصاري – وفي هذا تَحْفيزٌ وإثارةٌ لكل عاقلٍ أنْ يُحْسِن استخدام عقله ويَتَدَبَّر فيه ويَتَعَلّمه ليكون منهم الذين حين يُتْلَيَ عليهم أيْ يُقْرَأ عليهم ويَقرأونه ويَسمعونه ويَتَدَبَّرونه ويَعقلونه ويَتَعَلّمونه يَتَأَثّرون عند سَماعه وتَفَهّمه وتَعَلّمه غاية التأثّر ويَخِرّون أيْ يَنْزِلون للأذقان – جَمْع ذقن وهو أسفل الوجه – ساجدين أيْ خاضِعين لخالقهم ورازقهم ولتوجيهاته وإرشاداته مُسْتَجِيبين مُسْتَسْلِمين لها ويَقومون بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون حياتهم بكلّ هِمَّةٍ وسرعةٍ وحماسٍ وإقبال وانشراح وسرور، وأيضا يَسجدون لله مُتَوَاضِعين خاشِعين ساكِنين علي جِباههم في صلاتهم أو في خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، ويكتسبون من ذلك تَوَاضُعَاً لكلّ خَلْق الله في كوْنه ولا يستعلون عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما، وكل ذلك لتأكّدهم تماماً بأنَّ هذا القرآن العظيم بما فيه من نظام الإسلام هو وحده النظام الذي يُسعدهم في دنياهم وأخراهم بينما غيره من أنظمة مُخَالِفَة له ستُتْعِسهم حتما فيهما.. وفي هذا مزيدٌ من المَدْح للقرآن العظيم والتسلية للرسول الكريم (ص) وللمسلمين لكي لا يتأثّروا بمَن يُكَذّبوهم ويستمرّوا علي إسلامهم أنَّ قرآنهم عظيمٌ لا يؤمن به إلا مَن كان صاحب عقلٍ وفِكْرٍ وعِلْمٍ، ومَن كان يهوديا أو نصرانيا بحقّ مِن قبله ويُتْلَيَ عليه يُؤْمِن، ومَن كَفَرَ به وبمَن أُوحِيَ إليه وهو الرسول الكريم محمد (ص) فهو مِن المُؤَكّد جاهلٌ سَفِيهٌ قد عَطّلَ عقله وفِكْره وعِلْمه لتحصيل ثمن من أثمان الدنيا الرخيصة ولن يَسعد كالمؤمن في الداريْن بل سيَتعس حتما فيهما.. "وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)" أيْ ويقولون في سُجودهم وخارجه وعند سَماع القرآن العظيم ودائماً في كل وقتٍ ومكانٍ مُمْكِنٍ سبحان ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – أيْ نُنَزّهه عن كل صفةٍ لا تَلِيق به مِمَّا يقوله الجُهَلاء السُّفهاء غيرُ المؤمنين، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كما أنَّ كلمة سبحان ربنا تُسْتَخْدَم للتّعَجُّب من عظيم وتمام قُدْرته تعالي فهو علي كل شيء قدير، ونُنَزّهه كذلك عن أنْ يخْلِف وَعْده الذي لا يُخْلَف مُطلقاً وهو كل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمُحْسِنين وكل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما للمُسِيئين بما يُناسب إساءاتهم، إنَّ وَعْد ربنا كان بكلّ تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ مُحَقّقَاً حاصِلاً واقِعَاً، واللام للتأكيد، ولفظ "كان" في هذا المَوْضِع يدلّ علي الاستمرار.. "وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)" أيْ هذا مزيدٌ من المَدْح لهم والتذكير ببعض صفاتهم ليَقْتَدِيَ بها مَن يريد سعادتيّ الدنيا والآخرة.. أيْ ويَنْزِلُون للأذقان وهم يَبْكُون، فهُمْ عند صلاتهم وسجودهم ودعائهم ربهم وسماعهم قرآنهم مِن شِدَّة حبّهم له ولربهم ولدينهم الإسلام – أو إذا فَعَلوا شيئاً سَيِّئاً – يَتَذَكّرون دائماً رحماته سبحانه وخَيْراته وسعاداته فتَتَحَرَّك مشاعرهم فتَدْمَع أعينهم حبَّاً في كلّ عطاءٍ وفضلٍ منه في الداريْن حيث يَبْكُون فَرَحَاً بأمنه وتوفيقه ورعايته ورضاه وحبه ورزقه واستبشاراً بما ينتظرهم مِن أتمّ السعادة في دنياهم ثم أخراهم وقد يَبْكون كذلك مِن شِدَّة حزنهم إذا فُرِضَ وفَعَلُوا سُوءَاً مَا علي فقدانهم حب ربهم وعوْنه فيَدْفَعهم هذا للمُسَارَعَة بالتوبة والعودة له ولرحمته ولإسلامهم لتعود لهم سعاداتهم، ويَزيدهم سَماع القرآن وقراءته وتَدَبُّر مَا فيه مِن أخلاقٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ خُشُوعَاً، وكذلك يزيدهم الله تعالي بفضله وكرمه وتوفيقه وتَيْسيره خشوعاً كما وَعَدَ في قوله "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، أيْ يزيد عقولهم ومشاعرهم بداخلها كلّما استمعوه لِينَاً واطمئناناً وأمْنَاً وسكينة وهُدوءاً واستقراراً وَرِقّة وخوفاً من ربهم ومُراقَبَة وحبّاً له واستشعاراً بعظمته وهَيْبته وتَدَبُّرَاً وتَعَقّلاً في قرآنه وإسلامه الذي به وانْقِيادَاً واسْتِسْلامَاً وطاعة له وعَمَلاً به كله في كل شئون حياتهم لأنَّ فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماماً في دنياهم وأخراهم.. إنهم بالجملة سيكونون بذلك من المُتّقين بحقّ أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده لهم في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون التعامُل مع أسماء الله تعالي وصفاته، فكلها الحُسْنَيَ، بمعني الكمال وتمام الحُسن، فإنْ كان الله تعالي قادرا فهذا يعني تمام القُدْرَة علي كل شيء، وإنْ كان حكيما فمعناه تمام الحكمة بوَضْع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، وهكذا.. ولذا، فعندما تدعوه تأتي بما أمكن بما يُناسِب دعاءك، فلعلّ هذا قد يكون أقرب للإجابة، وإنْ كان أيّ دعاءٍ مِن أيِّ محتاج له سبحانه الكريم الودود سيكون مُجَابَاً بإذنه تعالي (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الدعاء، وكيفية اتَّخاذ أسباب الإجابة، وسعاداته في الداريْن)، فمثلا إنْ كنتَ تريد رزقا تقول ارزقني يا رزَّاق وإن أذنبتَ ذَنْبا فاستغفر الغفور الرحيم، وهكذا.. كذلك تَتَعَبَّد له، أيْ تُطيعه، بهذه الأسماء والصفات الحسني، في كل أقوالك وأفعالك في كل مواقف حياتك، بمعني أنه إذا كان سبحانه سميعا بصيرا فلا تَقُلْ ولا تفعل إلا خيرا لأنه يَسمعك ويُبْصِرك، وإذا كان مُنتقما من كلّ ظالمٍ فكن عادلا لا تظلم أحدا بأيِّ ظلم حتي لا ينتقم منك له، وهكذا.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه بأيِّ اسمٍ تَدعوه وتتعامَل معه به سبحانه فقد حَصَلَ المقصود من حُسْنِ تواصُلك معه وحبك له وحبه لك واعتمادك عليه وعوْنه وإسعاده لك، فكلها أسماؤه تعالي وصفاته، وكلها حَسَنَة، وليس له اسم أو وَصْف غير حَسَنٍ!
هذا، ومعني "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم سَمُّوا الله المَعْبُود بحقّ الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء بلفظ الله أو بلفظ الرحمن فبأىِّ واحدٍ منهما سَمَّيْتُمُوه فقد أَصَبْتُم، فله الأسماء الحُسْنَيَ، أيْ لأنَّ له وحده جميع الأسماء التي تدلّ على أحسن المعاني وأكمل الصفات، فليس له اسم أو وَصْف غير حَسَنٍ حتي يُمْنَع تسميته به كما أنَّ تَعَدُّد أسمائه لا يعني مطلقاً بالتأكيد أنكم تَدْعُون آلهة مُتَعَدِّدَة! وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي إذَن فسَمُّوه واذْكُرُوه ونادُوه واعبدوه بها وتَعَامَلُوا وتَوَاصَلُوا معه بما شِئْتُم منها وحسبما يُناسِب احتياجاتكم (برجاء مراجعة ما كُتِبَ سابقا تحت عنوان بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)" أيْ هذا تَذْكيرٌ ضِمْنِيٌّ للمسلم أن يكون في كل شئون حياته صغيرها وكبيرها مُتَوَازِنَاً مُتَوَسِّطَاً مُعْتَدِلَاً دون إفراطٍ ومُغَالاة أو تَفْريطٍ وتقصير (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا.."، للشرح والتفصيل).. أيْ وابْتَغِ أيها المسلم أيْ اطْلُبْ سبيلاً أيْ طريقاً مُتَوَسِّطَاً بين الجَهْر أيْ الصوت المُرْتَفِع أثناء الصلاة وقراءة القرآن والدعاء – ومن المُمْكِن أن يُقاسَ علي ذلك الكلام العادِيّ مع الناس – والذي قد يُؤدّي إلي ضَرَرٍ كإيذاء الآخرين بالتشويش عليهم أو عدم التركيز والتَّدَبُّر في المعاني أو تَنْفيرهم فيَكْرَهوا الإسلام أو نحو هذا، وبين أن يكون الصوت خافِتَاً تماماً أيْ سِرِّيَّاً غير مَسْمُوعٍ للنفس مِمَّا قد يؤدي أيضا إلي ضَرَرٍ كعدم توصيل المعني المُراد توصيله أو النعاس أو السَّرَحان أو مَنْع انتشار الخير وحِرْمان مَن أراد سماعه أو ما شابه ذلك، والأمر يحتاج إلي حُسْنِ اختيارٍ حيث يختلف من شخصٍ لآخرٍ ومِن مَوْقِفٍ ووقتٍ لغيره.. كذلك من المعاني ولا تَجْهَر بكلّ صلاتك ولا تخافت بها كلها تَنْبيهَاً لأنْ تكون صلاة النهار المَفروضة كالظهر والعصر سِرِّيَّة خافِتَة غير جَهْرِيَّة وصلاة الليل كالمغرب والعشاء والفجر جَهْرِيَّة كما علّمنا الرسول (ص)
ومعني "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ليكون ذلك تَذْكِيراً وتعليماً من الله تعالي لهم لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7) حيث قد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولاً وقوة وصحة وخَلَقَ وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها وبَيَّنَ لهم في كتبه وآخرها القرآن العظيم التي أوْحاها لرسله الكرام وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) أنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة وأنَّ شَرْعه الإسلام هو وحده النظام المُناسب تماماً لإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم دون غيره من الأنظمة المُخَالِفة ليتمسّكوا ويعملوا بكل أخلاقه لتَتِمّ سعادتهم في الداريْن، قل لهم احمدوا الله حَمْدَاً كثيراً علي هذه النّعَم العظيمة وأعظمها وأهمها أنهم يعبدون الله الذي له الأسماء الحُسْنَيَ أيْ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ المُتَعَالِي عن أيِّ نَقْصٍ وصِفَةٍ لا تَلِيق به فهو لم يَتّخِذ ولداً أيْ لم يَجعل له ولداً ولم يكن له شريكٌ في المُلْك أيْ في الألوهية لأنه واحدٌ لا شريك له في مُلْكه ولا في عبادته لأنه قادرٌ علي كل شيءٍ فلا يَحتاج إذَن لِمَا يحتاجه البَشَر من زواجٍ وإنجابِ أولادٍ يَسْعَد بهم ويُساعدونه أو اتّخاذ شركاء أو وزراء أو مُعاونين أو نحوهم يُعاوِنونه علي إدارة مُلْكه! وهذا من النّعَم العظيمة التي تَسْتَحِق عظيم الشكر منهم له سبحانه، لأنه لو كان له ولد لَكَانَ مَيَّزَه عن بقية خَلْقه ولكنَّ الخَلْق جميعاً عنده مُتساوين فهُمْ خَلْقه وعليه رعايتهم ورزقهم كلهم، ولو كان له شريك في الألوهِيَّة لاحتاروا أشَدَّ الحيرة أيهما يُطيعون ويُرْضُون كما قال تعالي "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)" (الزمر:29) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، ولم يكن له وَلِيٌّ من الذلِّ أيْ ليس له مَن يَتَوَلّيَ أموره لِيُعِزّه ولِيَمْنَع عنه الذلّ وما شابه هذا مِمَّا هو من صفات المَخْلُوق لا الخالِق سبحانه، ولو كان له ولد أيْ هو يتزوّج ويُنْجِب وكان له شريك في المُلْك يشاركه فيه وكان له وَلِيّ من الذلّ لم يَسْتَحِقّ بالتالي إذَن أن يكون إلاَهَاً لأنَّ هذه صفات مَخلوق لا خالِق، فتَعَالَيَ عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، بل الكلّ خَلْقه ومَمْلُوكين له، فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه وهو المُسْتَغْنِي عنهم وهم المُحتاجون إلي أفضاله وأرزاقه ورحماته ومَعوناته في كل شئون ولحظات حياتهم، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو أعطي كلّ سائلٍ مَا يريد، فلا حاجة له إذن لولدٍ أو وزيرٍ أو غيره يُعينه كما يحتاج البَشَر لأنَّ له تمام الغِنَيَ عن كلّ ذلك!.. إنَّ الله تعالي يُحَذّر الناس تحذيراً شديداً في دينه الإسلام الذي أرسله لهم مع رسله أن يعبدوا إلاهَاً لا يستحقّ العبادة وإلا سيَضيعون حيث لن يَجدوا من يَلجأون إليه ويَرْزقهم ويُيَسِّر لهم أمورهم وبالتالي يُعَذّبون ويَتْعَسون ويَهْلكون كما يَحدث مع السفهاء الذين يُغْلِقون عقولهم فيَعبدون آلهة ليس لها أيِّ صِفَة من صفات الألوهية كالخَلْق والقُدْرَة والعلم والرزق ونحو ذلك كالذين يعبدون الأصنام والنجوم ونحوها التي لا تَنْفَع ولا تَضُرّ بأيِّ شيء، ومع تحذيره هذا فهو سبحانه يُوَجّههم من خلال العقل المُنْصِف العادل الذي خَلَقه فيهم والفطرة التي وَضَعَها فيه والتي هي مسلمة أصلا إلي أن يعبدوه هو وحده فهو القويّ المَتين مالِك الملك القادر علي كل شيء فيَطلبون منه علي مَدَار حياتهم كلها ما يشاءون من كل خيرٍ وعَوْنٍ وتوفيق وسَدادٍ وحب ورضا ورعاية وأمن ورزق وقوة ونصر وسعادة وينتظرون مُسْتَبْشِرين ما هو أعظم من ذلك وأتَمّ وأخْلَد في الآخرة حيث الجنات للمُحْسِنين منهم التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار، وبالتالي فاعبدوه وحده واشكروه وحده وتَوَكّلُوا عليه وحده لتسعدوا تماماً في الداريْن.. ".. وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)" أيْ وعَظّمه تَعْظيماً تامَّاً شديداً بالتالي إذَن أيها المسلم يَلِيق بمَا سَبَقَ ذِكْره من عظيم قَدْرِهِ ومَقامِه وذلك بتعظيم شَرْعه الإسلام بتمام العمل بكل أخلاقه وتَرْك أيِّ شَرْعٍ آخرٍ يُخَالِفه لتكون عبادة الله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ واتّباع دينه الإسلام وحده أكبر عندك في كل أقوالك وأفعالك بكل شئون حياتك من أيِّ شيءٍ يَتَعارَض مع ذلك، فهو تعالي المُسْتَحِقّ وحده لكل إكبارٍ وإعْلاءٍ وتعظيمٍ وحُسْنٍ للعبادة وشكرٍ وتَوَكّلٍ عليه، فتَعامَلُوا معه أيها المسلمون وأنتم مُتَأكّدون بلا أيِّ شكّ بكل هذه الصفات الكبيرة العظيمة السابق ذِكْرها لتسعدوا بذلك تماما في دنياكم وأخراكم.. هذا، ومن التعظيم والتكبير قطعا قول الله أكبر حيث هو تعالي أكبر وأعظم من أيِّ كبيرٍ وعظيم، وذِكْره بكل صفةٍ تَلِيق به فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وتنزيهه أيْ إبعاده سبحانه عن كل وَصْفٍ لا يَليق
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)" أيْ هذا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن والإسلام، وهي النعمة التي عليهم أن يَحرصوا عليها أشدّ الحِرْص من خلال أن يُسارعوا بالإجابة وبالتّلْبِيَة وبالانقياد وبالطاعة لها بكل قوةٍ أيّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها ستُسْعِدهم تماما، لأنها كالروح بالنسبة للجسد، فالقرآن والإسلام هو الذي يُحي البَشَر، فإذا خرج من حياتهم عاشوا كأنهم أموات تماما كما تخرج الروح من جسدها، وذلك لأنه يدعو إلي الحياة، الحياة الحقيقية، الحياة السعيدة السعادة التامّة في الدنيا والتي ستُؤَدِّي إلي الحياة الأتمّ والأخلد سعادة في الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (122) من سورة الأنعام "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.."، ثم الآية (24) من سورة الأنفال ".. اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ كل الأنظمة والتشريعات والأخلاقيَّات الأخري المُخَالِفَة للإسلام مُضِرَّة مُتْعِسَة في الداريْن، لأنها تُؤَدِّي إلي الظلام والمَوَات، إلي الكذب والخداع والظلم والتّخَبُّط والنقص والشرّ والسوء وبالجملة إلي العذاب والكآبة والتعاسة بصورٍ ودرجاتٍ مختلفة، وحتي لو شَعَرَ البعض ببعض سعادةٍ بشرورها وفسادها فهي سعادة وَهْمِيَّة لا حقيقية سطحِيَّة لا مُتَعَمِّقَة ناقِصَة لا كاملة مُتَقَطّعَة لا تامَّة، والأهمّ أنها غالبا أو دائما يَتْبعها مرارات وكآبات وعذابات وتعاسات دائمات علي قَدْر الشرِّ الذي تَمَّ فِعْله، كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا، ثم قَلَق وتَوَتّر واضطراب بانتظار ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد من عذاب نيران الآخرة.. إنَّ الآية الكريمة تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نِعْمَة القرآن العظيم والذي فيه الإسلام بكل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، لأنه من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعْلَمهم تمام العلم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (57)، (58) من سورة يونس "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)"، "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فالحمد لله وحده بالتالي إذَن حمداً كثيراً طيّباً مُبَارَكَاً فيه لأنه هو وحده لا غيره الذي أنزل علي عبده الرسول الكريم محمد (ص) وأوْحَيَ إليه الكتاب أيْ القرآن العظيم ليُبَلّغه للناس جميعاً ولم يجعل لذلك الكتاب أبداً أيّ اعْوِجاجٍ أيْ مَيْل والْتِواء وانْحِناء وانْحِراف عن الحقّ أيْ الصدق والعدل والخير والسعادة في الداريْن بل كله استقامة ومُتَّجِه بدِقَّةٍ نحو هذه الصفات التي تُسْعِد مَن يعمل بها كلها تمام السعادة في الدنيا والآخرة، وهو تعالي يَنْسِب رسوله الكريم إليه أنه عبده، كما يَنْسِب إليه الذين يَعبدونه أيْ يُطيعونه أي المؤمنين أنهم عباده، تكريماً لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره
ومعني "قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)"، "مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وجَعَلَه قَيِّمَاً أيْ مستقيماً أيْ مُتَّجِهَاً دائماً نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ وذا قيمة عالية وذا قِيَم أخلاقية سامِيَة تُصْلِح الناس وتُكْمِلهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها وقَيِّمَاً أيْ قائماً يَقوم علي إدارة أمورهم في حياتهم بنظامه حيث يُنَظّم لهم كل لحظاتها وشئونها علي أكمل وَجْهٍ مُسْعِدٍ وبدونه تَضطرب وتَخْرَب وتَفْسَد وتَتْعَس.. ".. لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ.." أيْ أنزل علي عبده الكتاب ولم يجعل له عِوَجَاً وجَعَلَه قَيِّمَاً لكي يُحَذّر عذاباً عظيماً صادراً من عنده تعالي بعضه في الدنيا وتمامه في الآخرة بما لا يُوصَف لِمَن يَسْتَحِقّه من المُسِيئين علي قَدْر إساءاتهم وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. إنه عذابٌ بما يُناسِب سُوئهم بدرجةٍ مَا من درجاته، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وكذلك لكي يُخْبِر ويُذَكّر دائماً بمَا يَسُرّ المُصَدِّقين بوجود الله وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره الذين لم يَكْتَفوا بالإيمان فقط بلا عملِ خيرٍ والذي هو لابُدَّ مُلَازِمٌ له تلقائياً ومن أهم ما يطلبه وبدونه لا قيمة لإيمانهم حتماً بل الذين يعملون الصالحات أيْ يعملون بكل أخلاق الإسلام فتكون كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، يُخْبِرهم بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم أجراً حَسَنَاً أي عطاءً طيِّبَاً جميلاً جيداً مُسْعِدَاً مَحْبُوبَاً واسِعَاً عظيماً هائلاً من فضل الله تعالي ورحمته وكَرَمه الذي لا يُحْصَيَ حيث كل خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم في أخراهم ما هو أحْسَن وأتَمّ وأخْلَد خيراً وأمْنَاً وسعادة في نعيمِ جناتٍ بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. "مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)" أيْ باقِين مُقِيمين مُسَتَمِرِّين مُطْمَئِنّين في هذا الأجر الحَسَن الأخرويّ دائماً بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنه أو تَرْكٍ له
ومعني "وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)"، "مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)" أيْ أنزل علي عبده الكتاب ليُنْذِر بأساً شديداً من لدنه للمُسِيئين ويُنْذِر منهم علي وَجْه الخصوص إنذاراً شديداً بعض المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين الذين قالوا كذباً وزُورَاً اتّخَذ الله ولداً أيْ جَعَلَ له ولداً أيْ له زوجة وقد أنْجَبَ منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. "مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)" أيْ هذا ذمٌّ شديدٌ لهم علي جَهْلهم وافترائهم حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيُعاقَب مِثْلهم في الداريْن.. أيْ ليس لهم بالله تعالي وبعَظَمَة وهَيْبَة مَقامه الذي يَستحيل له ذلك، وليس لهم بهذا القول الكاذب القبيح الشنيع من اتّخاذ الله تعالي ولدا، ليس لهم أيّ عَلْم، كذلك ليس لآبائهم السابقين لهم قَبْلهم أيّ عِلْمٍ بذلك، أيّ علمٍ ثابت قطعىّ حقيقيّ مُؤَكّد له دليل موثوق يَسْتَنِدون إليه، والمقصود أنهم يقولونه عن جَهْلٍ تامٍّ وإغلاقٍ لعقولهم وتَقْليدٍ أعْمَيَ بلا أيِّ تَعَقّلٍ ولا تَدَبُّر لآبائهم الذين وَرَّثُوهم ذلك فاتّبعوهم وقلّدوهم في ضلالهم وقُبْحِهم وفِعْل الشرور والمَفَاسِد مِثْلهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي الذمِّ الشديد لهم.. أيْ اشْتَدَّتْ وعَظُمَتْ في الجَهْل والسَّفَه والافتراء والقُبْح وفي العقوبة الدنيويَّة والأخْرَوِيَّة كلمة كهذه الكلمة التي تَخْرج من أفواههم وهي قولهم اتّخَذ الله ولداً فإنهم لا يقولون إلا كذباً خالِصَاً ليس فيه أيّ شيءٍ مِن صِدْقٍ وليس له أيّ أصلٍ وليس له أيّ دليلٍ وليس بَعْده كذبٌ أكذب منه وهو مستحيلٌ على الله تعالى ولا يقوله عاقل
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون الدعوة إلي الله والإسلام بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)" أيْ فلعلك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مُهْلِك نفسك أسَفَاً أيْ حُزْنَاً شديداً بسبب آثار ونتائج عدم إيمانهم إذا لم يؤمنوا هؤلاء المُكَذّبون بهذا الحديث أيْ القرآن العظيم – ولفظ "لعل" يُفيد احتمالِيَّة حُدُوث ذلك فخُذْ حِذْرَك منه ولا تَفعله – ولا تَشعر بالحزن علي المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغين ومَن يَتَشَبَّه بهم بسبب عدم إيمانهم وإصرارهم علي سوئهم، ولا تتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء، فهم لا يَستحِقّون مثل هذا الأسَف عليهم، فكن أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام مثل رسولك الكريم حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمْرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تذكرة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحب الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذَن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذَن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما، وهؤلاء بالقطع لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يَحزنَ عليهم! بل يَتمنّي الجميع التخلّص من شرّهم! بمرضٍ أو ضعف أو فقر أو موت أو إهلاكٍ بعذابٍ يستأصلهم أو ما شابه هذا من عذاب القويّ المُنتقم الجبّار سبحانه لأمثال هؤلاء.. هذا، ويُراعَيَ أنَّ الداعي إلي الله والإسلام هو المُستفيد الأول من دعوته، حيث سيُكَوِّن حوله مجتمعاً سعيداً في كل مكانٍ يذهب إليه في حياته، بَدْءَاً من بيته وأسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه وأصدقائه وأهل شارِعِه ومنطقته وكل العاملين في كل مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والعلمية والإنتاجية وغيرها، وبهذا لم يَتَبَقّ له حوله مكان بغير أخلاق الإسلام بحيث يَتعس فيه!!.. هذا عن سعادة الدنيا.. أمّا في الآخرة فعظيم الثواب وأتمّ السعادة وأخلدها بسبب دعوته كما يقول (ص) "إنَّ الدَّالَّ علي الخيرِ كفَاعِلِه" (رواه الترمذي).. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، كما أنه طمْأَنَة لهم أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإيّاك ثم إيّاك أن تكون من الذين يُسيئون طَلَبها فلا يُمَيِّزون بين خيرٍ نافعٍ مُسْعِدٍ وشرٍّ ضارٍّ مُتْعِسٍ، كالكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وأشباههم، وإلا تَعَذّبتَ وتَعِسْتَ مثل عذاباتهم وتعاساتهم في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)"، "وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)" أيْ إنا برحمتنا وقُدْرَتنا وعِلْمنا وحِكْمتنا خَلَقْنا وجعلنا كل ما علي الأرض من خيراتٍ ومنافع وأرزاق ومخلوقات – وما بداخلها وحولها في الكوْن كله – زينة لها أيْ لكي تَتَزَيَّن به أيْ تَتَجَمَّل وتَتَحَسَّن لتكون في مَنْفَعَة البَشَر وكل الخَلْق يَنتفعون ويَسعدون بها طوال حياتهم، وذلك حبّاً مِنّا لهم وحِرْصَاً علي إسعادهم فهم خَلْقنا وصَنْعَتنا (برجاء مراجعة قِصَّة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)" أيْ إنا جعلنا ما علي الأرض زينة لها وللناس لكي نختبرهم أيّ أحدٍ منهم هو أحسن عملا والمقصود أن انْتَبِهُوا تماما أيها الناس أنه ليس خَلْق كلّ هذا هو لمجرد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد ودون أيّ حِكْمَة وأنَّ الحياة الدنيا ستَنتهي هكذا بكلّ عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جَدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم حينما ترجعون إلينا في الحياة الآخرة بعد بَعْثكم أيْ إحيائكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم، فلا يُمكن أن يَفعل ذلك الله سبحانه الذي تعالَيَ وارتفعَ عن كل صفةٍ لا تَلِيق حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وإنما خَلَقَ السماوات والأرض والموت والحياة بهذا النظام وأرسل لكم نظامه في الإسلام مع رسله ليُنَظّمها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ، ليَبلوكم أيْ ليَختبركم، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، ( 15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة.. ثم مراجعة كيفية حُسْن خلافة الله تعالي في أرضه في الآية (30) من سورة البقرة "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..").. "وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حُسْن الاستعداد للآخرة.. أيْ ونحن سنَجْعَل حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ كلّ ما عليها – واللام للتأكيد – عند انقضاء الحياة الدنيا حين يوم القيامة صعيداً أيْ تُرابَاً جُرُزَاً أيْ يابِسَاً لا شيء فيه من نباتات أو كائنات أو جمادات أو غيره، والمقصود أنْ تذكّروا دائما ولا تنسوا أبداً أيها الناس أنَّ هذه الحياة الدنيا – أيْ القريبة والأدني نسبة للأعلي وهي الآخرة – حتي ولو كانت كلها خير وسعادة كحياة المؤمنين العاملين بكل أخلاق إسلامهم فهي لا تُذْكَر بالنِسْبة إلي الحياة الآخرة الخالدة والتي هم مُوقِنون بها والتي فيها لهم لا لغيرهم نعيم جناتٍ بها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأحْسِنوا بالتالي إذَن تمام الإحسان الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية، بلا أيّ موت، بلا أيّ تَعَب، بلا أيّ ذرّة تعاسة، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين.. إنَّ الآية الكريمة تُفيد سرعة زوال مُتَع الحياة الدنيا وأنها مهما طالَت فلا تُذْكَر بالنسبة للآخرة التي لا نهاية لها، وأنها ستَنتهي يوماً مَا، إمّا بتَلَفٍ أو خسارة أو بانتهاء وقتها أو صلاحيتها أو باستهلاكها أو بما شابه هذا، أو بعدم القدْرة علي التمتّع بها بمرضٍ أو عَجْزٍ أو نحوه، أو بموتٍ يأتي فجأة، وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد سواء الموت أو عقاب الدنيا والقَبْر لِمَن يَسْتَحِقّه أو يوم القيامة والحساب وبالتالي فأحْسِنُوا طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (24) من سورة يونس "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.."، والآية (4)، (5) من سورة الأعلي "وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ"، "فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ دائما من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)" أيْ هذه الآية الكريمة وما بعدها هي بيانٌ لقِصَّة أصحاب الكهف لبيانِ أنَّ قِصَّتهم رغم أنها عَجِيبَة لكنها ليست عجيبة بالنسبة لقُدْرَة الله تعالي الذي أَوْجَدَ مَا هو أَعْجَب وأعظم من ذلك في كلّ خَلْقه، وهي القصة التي كانت مَعْلوُمَة لمَنْ نَزَل عليه كتابٌ سابقٌ من الله كاليهود والنصاري حيث طَلَبوا من الرسول (ص) إنْ كان صادقاً ويُوحَيَ إليه من ربه أن يَذْكرها بتفاصيلها – هي وما وَرَدَ من قصصٍ أخري للاعتبار بها علي مَدار السورة كلها – فإنْ لم يذكرها فهو ليس برسولٍ إذَن!.. أيْ هل ظَنَنْتَ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا آية عَجَبَاً من آياتنا أيْ تدعو للتّعَجُّب أيْ للانْدِهاش والاسْتِغْراب؟! أيْ ليسوا بشيءٍ عجيبٍ أيْ شديد العَجَب من بين آياتنا أيْ دلالاتنا التي تدلّ علي تمام قُدْرَتنا وكمال عِلْمنا بل في آياتنا في كل كوْننا من مَخْلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ مَا هو أعجب من خَبَرهم هذا فلا تظنّ أنَّ آياتهم هذه هي أعجب الآيات فإنَّ آياتنا كلها عَجَب وهم ليسوا أعجبها وإنَّ قُدْرَتنا لا يُعْجِزها شيء.. والكهف هو فتحة في جبلٍ اختفي فيه مجموعة من الفتية المؤمنين بالله هَرَبَاً من مَلِكٍ ظالمٍ غير مؤمن في زمنهم يريد قَتْل كلّ مَن يؤمن، والرقيم هو اسم الجبل الذي فيه الكهف المَرْقُوم عليه أيْ المَكْتُوب والمُرَقَّم عليه أسماؤهم حيث خُلّدَت ذِكْراهم تكريماً لهم من ربهم بسبب حِفاظهم علي دينهم الإسلام.. إنَّ قصتهم بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فهو تعالي وحده الذي له كل ما في الكوْن وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار
ومعني "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين لَجَأ الشباب الذين آمَنوا بالله واتّبَعوا الإسلام في زَمَنِهم إلي الكهف وجَعَلوه مأوَي لهم أيْ مَرْجِعَاً ومَسْكَنَاً يَستَقِرُّون ويعيشون فيه تارِكين كل حياتهم ومُمْتَلَكاتهم من أجل الحِفاظ علي العمل بإسلامهم فارِّين من قومهم الذين كانوا يعبدون غير الله تعالي ويُحاولون إجبارهم علي ذلك، فبمجرَّد أن اسْتَقَرُّوا قالوا حينها سائلينه سبحانه مُتَوَسِّلين إليه يا ربنا – أي مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – أعْطِنا من عندك رحمة أيْ تَثْبيتَاً علي إسلامنا بما فيه من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ وسكينة وأمْنَاً وطمأنينة عليه وبه وحِفْظَاً من كل ما يُخالِفه بما فيه من كل شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ ونجاة منه، فهم يَطلبون منه تعالي وحده لا من غيره رحمة عظيمة واسعة شامِلَة لجميع أحوالهم وشئونهم تُؤَدِّي لكلّ خيرٍ وأمنٍ ورزقٍ وسعادةٍ بهم في الداريْن.. كما ندعوك ونسألك ونَتَوَسَّل إليك يا ربنا أنْ هَيِّيء لنا من أمرنا رَشَدَاً أيْ صَوَابَاً أيْ اجعل كل أمورنا صواباً وصلاحاً وحقاً وصِدْقَاً وعَدْلاً وهُدَيً ورُشْدَاً واستقامة وخيراً وسعادة، وهَيِّيء أيْ وجَهِّزْ وأَعِدّ ويَسِّرْ لنا كل الأسباب لذلك بفضلك ورحمتك وكرمك وتَوْفيقك وتَيْسيرك فليس لنا غيرك يا ربنا
ومعني "فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)"، "ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)" أيْ فبِمُجَرَّد أنْ دعونا لاجِئين إلينا مُسْتَغِيثين بنا مُتَوَكّلِين علينا مع إحسان قَدْر استطاعتهم اتّخاذ أسباب الحِفاظ علي إسلامهم بلُجوئهم للكهف كانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أن اسْتَجَبْنا لدعائهم واسْتغاثتهم ونحن مالِك المُلْك المُجيبون لمَن يدعونا أو يَستغيث بنا القادرون علي كل شيءٍ وأنجيناهم وحفظناهم حتي زال أغلب أو كل الظالمين الذين كانوا يريدون ظلمهم وذلك بأن ضربنا علي آذانهم أيْ وَضَعْنا عليها ساتِرَاً يَمنعهم من سماع أيّ أصواتٍ تُوقِظهم وأغْلَقناها وفَرَضْنا عليها عدم السماع ومَنَعْناها منه والمقصود أَنَمْنَاهم بأمانٍ نوماً لا يُوقِظهم منه شيءٌ في الكهف سنين عديدة كثيرة.. "ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)" أيْ ثم أيْقظناهم من نومهم بعد هذه السنين الطويلة والتي تُشْبِه الموت وهم علي حالهم كشبابٍ لم يَتَغَيَّروا رغم طول المُدَّة لنُعْلِم الناس ما عَلِمْناه في الأَزَلَ قَبْل خَلْق الخَلْق أيْ لكي يَظْهَر عِلْم الله تعالي واقِعَاً علي الأرض يَعْلَمه الناس بعد أن كانوا يَظنّون ويَغْلِب عليهم التّخْمِين، لأنه سبحانه بالقطع يَعْلَم كلَّ شيءٍ عن أيِّ شيءٍ في الماضي والحاضِر والمستقبل ولن يَعْلَم قطعا عِلْمَاً جديداً عليه!! أيْ ليُعْلَم أيّ الفريقين – فريق الفِتْيَة الذين كانوا يَتَوَهَّمون أنهم بَقوا في كهفهم يوماً أو بعض يومٍ كما سيُذْكَر في الآيات القادمة وفريق أهل البلد التي هم منها والذين أيْقَظ الله الفتية من نومهم في زمنهم والذين كانوا يعلمون تاريخ اختفائهم ويتناقلونه بينهم في أحاديثهم عنهم – أحْصَيَ، أيْ أكثر إحصاء، أي عَدَّاً بدِقّة، لِمَا لَبِثُوا، أيْ لِلَبْثِهم أيْ لمُكْثهم في كَهْفِهم، أمداً أيْ مُدَّةً، أيْ أيُّهُم أَضْبَط عَدَّاً لمُدَّة لَبْثِهم فيه، والمقصود من هذا الحساب لمدة بقائهم في الكهف هو تذكير الناس بأنَّ إيقاظهم بعد نومهم الطويل هذا الشبيه بالموت هو بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فهو تعالي وحده الذي له كل ما في الكوْن وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. إنه لو لم يُوقِظهم سبحانه لَمَا عَلِم أحدٌ بقِصَّتهم ومُعْجِزتهم والتي مِن بعض حِكَمِ الإعلام بها عَوْن الناس علي الإيمان بربهم واتّباع إسلامهم حين يَتَدَبَّرون فيها
ومعني "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)" أيْ هذا بيانٌ لبعض تفاصيل قِصَّتهم للاعتبار بها لتحقيق السعادة في الداريْن.. أيْ نحن الله تعالي ربكم أيها الناس نقرأ عليك ونَذْكُر ونَحْكِي لك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلمٍ ويا كل مُسْتَمِعٍ عاقلٍ خَبَرَهم بالصِّدْق الذي ليس فيه أيّ شكّ حتماً في صِدْقه لأنه قصصٌ من الله تعالي الحقّ الذي لا يقول إلا حقَّاً والذى لا يَخْفَىَ عليه أيّ شيءٍ مِن خَلْقه وكَوْنه: إنهم فتية أيْ شبابٌ جَمْع فَتَيَ أيْ شابّ آمنوا بربهم – أي مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – أيْ صَدَّقوا بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل وثَبَتُوا دائماً عليها وأخْلَصُوا وأحْسَنُوا أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ.. ".. وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)" أيْ أمثال هؤلاء، وكلّ مَن يَتَشَبَّه بهم، حتماً وبكل تأكيدٍ وبسبب أنهم هم الذين بدأوا بالإيمان بأنْ أحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم الهداية أيْ الرُّشد والصواب والحقّ والعدل والخير والسعادة أيْ اختاروا الإيمان بخالقهم واتّباع إسلامهم لأنهم تأكّدوا بلا أيّ شكّ أنّ ذلك فيه تمام صلاحهم وكمالهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، فأمثال هؤلاء حتما وبكل تأكيدٍ وبسبب أنهم هم الذين بدأوا السعي للهداية للإيمان واجتهدوا في طَلَبها والحرص الصادق الدائم التامّ عليها والتمسّك والعمل بها زادهم الله خالقهم العالِم تمام العلم بهم هُدَيً علي هُداهم وفاءً بوعده تعالي الذي لا يُخْلَف مُطلقا أنه سيَزيد المُحْسِنين فِعْلاً لكلَّ خيرٍ وإحسانٍ وثواباً عليه في الداريْن كما يقول ".. وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِين" (البقرة:58) وحبَّاً فيهم وتكريماً لهم بسبب إيمانهم وعملهم بأخلاق إسلامهم، أيْ زادهم رَشَادَاً وصَوَابَاً وحَقّاً وعَدْلاً وخيراً وإحساناً وصِدْقاً وإخلاصاً وحِرْصَاً واجتهاداً وقُرْبَاً منه وحُبَّاً له وللإسلام وفَهْمَاً لفوائده ولسعاداته في دنياهم وأخراهم وتمسّكا وعملاً به، وذلك بأنْ وَفَّقَهم وعاوَنهم ويَسَّرَ لهم أسباب كلّ هذا وثَبَّتهم عليها، وأيضا بأنْ أعطاهم مِن قوة الإرادة العقلية والصبر والحِكْمة والعَوْن ووَضَّحَ لهم وبَيَّنَ ومَيَّزَ ما يَتَّقون به أي يَتَجَنَّبون كلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة.. وبالتالي وبسبب زيادة الله لهُداهم وإعطائهم تَقْواهم فقد وَجَدوا حتماً في دنياهم البيان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كلّ شيء، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ في العقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، ووَجدوا النور كله، والهُدَي كله، والتذكرة كلها، والمواعظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والرحمة كلها، والقوة كلها، والرزق كله، والنصر كله، وبالجملة وَجدوا السعادة كلها.. ثم في أخراهم سيَجدون قطعا ما هو أتمّ وأعظم وأخلد سعادة حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني "وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)" أيْ وكذلك، وبسبب إيمانهم، شَدَدْنا علي عقولهم ومَشاعِرهم بداخلها برحمتنا وفضلنا وقُدْرَتنا وعِلْمنا – والربْط هو الشدّ علي شيءٍ لحِفْظ ما بداخله فلا يَخرج منه أيْ الربط علي العقل لحفظ الإيمان به – أيْ جعلناها شديدة قويّة ثابتة صابرة ساكِنَة لا تَتراجَع بل مُرْتَبِطَة بربها وبالإيمان به وبالعمل بدينه الإسلام مُلاَزِمَة له مُطمَئِنّة به، وذلك حين قاموا بين قومهم الذين كانوا يعبدون غير الله تعالي فقالوا أيْ ذَكَرُوا لهم وذَكّرُوهم، بقولهم وعملهم، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم، قالوا لهم ربنا الذي نَعبده هو ربُّ السماوات والأرض أيْ خالِقهما ومالِكهما بكل مَن ومَا فيهما وعليهما وراعِيهما وحافِظهما ومُتَوَلّي ومُدَبِّر كل شئونهما وكل الخَلْق بهما، ولن نعبد غيره إلاَهَاً أبَدَاً حَتْمَاً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ، ولو قُلْنا غير هذا، وفَعَلْنا ما نقول بأنْ عَبَدْنا غيره، فلقد قلنا وفعلنا بالتالي إذَن قطعاً قولاً وفِعْلَاً شَطَطَاً أيْ بعيداً تماماً عن الحقّ والعدل والصدق والصواب والخير والسعادة في الداريْن، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد لبَرَاءتهم من كل عبادةٍ لغير الله تعالى
ومعني "هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)" أيْ وقال الفِتْيَة بعضهم لبعضٍ علي سبيل الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من الحال السَّيِّء الذي عليه قومهم بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره: هؤلاء قومنا جَعَلوا غيره أيْ غير الله تعالي آلهة يعبدونها، فلَوْ يأتون عليهم أيْ علي ألُوهِيَّة آلهتهم وصِحَّة عبادتهم لها بسلطانٍ بَيِّنٍ، أيْ يُحْضِرون دليلاً واضِحَاً قَوِيَّاً عَقلِيَّاً مَنْطِقِيَّاً يَقبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي ذلك ويُثْبِته ويُؤَيِّده ويُعطيهم سُلطاناً ونُفُوذَاً مُؤَثّراً علي غيرهم، لَكَانَ لهم أن يعبدوها، كأنْ تكون لها صفات الإله أيْ تَخْلُق وتَرْزُق وتُرَبِّي الخَلْق وتَرْعاهم وتُرْشِدهم لكل خيرٍ وتُعينهم وتُدِير شئونهم والكَوْن كله ونحو ذلك من صفات الكمال التي يَتّصِف بها الله تعالي، ولكنهم لم ولن يأتوا وسيَعْجَزوا حَتْمَاً لأنه لا دليل مُطْلَقَاً علي سَفَهِهم هذا، فهُمْ بالتالي إذَن بالقطع سُفهاء كاذبون.. هذا، ولفظ "لَوْلا" في اللغة العربية من معانيه أنه يُفيد الحَثّ والتشجيع والطلب بإلْحاحٍ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده، والمقصود إثبات عَجْزهم.. ".. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)" أيْ فإنهم حتماً ظالمون فيما فَعَلُوا ولا أحد أشدّ ظلماً وأعظم عقوبة في الداريْن بما يُناسِب مِن الذي يَفْتَري علي الله الكذب أيْ يَختلق كذبا ليس له أيّ أصل والذي هو أعظم من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، كمَن يَدّعِيَ مثلا كذباً وزُورَاً وتَخْريفاً أنَّ لله تعالي شركاء يُعْبَدون غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها! أو له ولد! أو يُوحَيَ إليه وهو لم يُوح إليه أيّ شيء! أو سيُنْزِل كلاماً مثل ما أنزله الله في كتبه! أو ما شابه هذا من افتراءات وادِّعاءات وتَخْريفات
ومعني "وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)" أيْ وقال الفتية بعضهم لبعضٍ بعد أن قاموا بين قومهم الذين كانوا يعبدون غير الله تعالي فقالوا ربنا ربّ السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلاهاً لقد قلنا إذَن شَطَطَاً: وإذ اعتزلتموهم أيْ وحين فارَقْتموهم وتَرَكْتُموهم وتَجَنّبْتُموهم وابْتَعَدْتُم عنهم أيْ فارَقْتُم وتَرَكْتُم قومكم فارِّين بدينكم الإسلام لتُحافظوا عليه حيث سيُجْبِرُونكم علي غيره، واعتَزَلْتُم كل ما يعبدون من آلهةٍ غيره سبحانه، إلا الله أيْ إلا عبادة الله تعالي وحده فلم تُفارِقوها وتَتْرُكوها بل عَبَدْتُموه وحده بلا أيِّ شريك، فالجأووا حينها بالتالي إذَن إلي الكهف – والكهف فتحة في الجبل – واجعلوه مَأْوَيً لكم أيْ مَلْجَأ ومَرْجِعَاً ومَسْكَنَاً تَستَقِرُّون وتَعيشون فيه لعبادة ربكم وحِفاظَاً علي إسلامكم، فإنه تعالي حينها حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ بسبب عبادتكم له وتَوَكّلكم عليه وحده سيَنْشُر لكم كثيراً من رحمته أيْ يَبْسط أيْ يُوسع ويزيد ويمدّ ويفيض رحماته وعِناياته ومَحَبَّاته وعطاءاته وسَكِيناته ويجعلها مُنْتَشِرَة عليكم مُحِيطَة بكل جوانبكم بما يَكْفيكم تماماً منها أنْ يُثَبّتكم علي إسلامكم بما فيه من كلّ خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ وأن يجعلكم في سكينة وأمْن وطمأنينة وأن يحفْظكم من كل ما يُخالِفه بما فيه من كل شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ وينجيكم منه وأنْ تكون جميع أحوالكم وشئونكم في كلّ خيرٍ وأمنٍ ورزقٍ وسعادةٍ بالداريْن، وكذلك حتماً سَيُهَيِّيء لكم من أمركم مِرْفَقاً، والجَمْع مَرافِق أيْ مَنافِع، أيْ مَكَانَاً يكون لكم فيه تمام النفع والرِّفْق والرحمة والسكون والطمأنينة أيْ سيَجعل كل أموركم نَفْعَاً ورِفْقَاً ورحمة وسُكُونَاً وطمأنينة وسعادة وسيُهَيِّيء أيْ وسيُجَهِّز ويُعِدّ ويُيَسِّر لكم كل الأسباب لذلك بفضله ورحمته وكرمه وتَوْفيقه وتَيْسيره فليس لكم غيره تعالي الرحيم الكريم القادر علي كل شيء.. وبالفِعْل قد تَحَقّق ذلك بما لم يكونوا يَتَوَقّعونه كمُعْجِزَةٍ لهم ولمَن سيُتابِعون خَبَرهم بتَدَبُّرٍ وتَعَقّلٍ حيث ناموا نوماً عميقاً هادِئاً لسنواتٍ وأغناهم سبحانه عن كل احتياجات الحياة ومَرَافِقها من طعامٍ وشرابٍ وعملٍ وغيره ويَسَّر لهم أمر اعتزالهم وحِفاظهم علي إسلامهم وحُسْن ذِكْرهم طوال فترة غيابهم وحُسْن استقبالهم بعد خروجهم مِمَّن آمنوا بالله في هذا الزمن بسبب سماعهم قِصَّتهم.. وفي هذا بيانٌ وتأكيدٌ أنَّ الله تعالي القادر علي كلّ شيءٍ يَنصر حتماً دينه الإسلام بغير عوْنٍ من أيِّ أحدٍ في كل الظروف والأحوال حتي في أصْعبها وأسْوَئها بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، فهو يَنصر كل مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه ويَثِق به ولا يَيْأس من رحمته وقُدْرَته من المسلمين العاملين بأخلاق إسلامهم ويُحَقّق له كلَّ خيرٍ وأمنٍ ونصرٍ وسعادةٍ في الداريْن في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُحَقّقَاً لأفضل وأسْعَد النتائج
ومعني "وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر نَشْر رحمته وتَهْيِئة رِفْقِه لأمرهم كله، منه وحده سبحانه لا من غيره.. أيْ ولو رأيتها أيها الرائي في هذا الوقت والحال لرأيت الذي نَصِفَه لك.. أيْ وتري الشمس أيها الرائي إذا طلعت من مَشرقها تَميل عن كهفهم إلي جِهَة اليمين وإذا غربت نحو مَغربها تَتْرُكهم إلى جهة اليسار، والمقصود أنه من رحمة الله بهم ومُعْجِزَته أنَّ جعل أشعتها لا تَصِل إليهم بصورةٍ عموديةٍ مباشرةٍ شديدةٍ بحيث تَضُرُّهم كما أنها ليست ممنوعة عنهم تماماً فيَتَضَرَّرُون بغيابها وإنما دفئها وشعاعها الفاتِر غير المباشر المُفيد النافِع لهم أثناء مَيْلها عند شروقها وغروبها هو فقط الذي يَصِلُهم، وهم في فَجْوَةٍ منه أيْ وحالهم وواقعهم أنهم فى مكانٍ مُتَّسِعٍ من الكهف بما يَعنِي تَحَرُّك الهواء فيه حولهم خفيفاً كالنسيم بما ينفع أجسامهم ولا يَضُرّها.. ".. ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ.." أيْ ذلك المَذْكُور سابقاً كله عنهم هو من بعض مُعْجِزَات ودلالات الله الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ".. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)" أيْ مَن يَشاء الهداية لله وللإسلام مِن البَشَر بكامل حرية إرادة عقله فيَشاء الله له هذا الهُدَيَ بعد ذلك أي يُوَفّقه له ويُيَسِّر إليه أسبابه بسبب حُسْنِ اختياره هو بإحسان استخدام عقله، فمِثْل هذا هو الذي وَصَلَ للهداية الحقيقية المُؤَكّدَة في الحياة، إنه هو المُهْتَدِي بحقّ وبجَدٍّ وبكل تأكيدٍ ولن يستطيع أيّ أحدٍ أن يُضِلّه، إنه بالقطع السعيد السعادة التامّة في الدنيا والآخرة، لأنَّ الله خالِقه سيكون هو وَلِيّه أيْ وَلِيّ أمره يَتَوَلّيَ كلّ أموره وشئونه فيهما (برجاء مراجعة الآية (257) من سورة البقرة "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَنْ يُضْلِلْ.." أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، فكيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيَّاً مُرْشِدًا (17)" أيْ فلا يُمكن أبداً مُطلقاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أن تَجِدَ له يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم وكل عاقل يُشاهده ويُتابعه وَلِيَّاً مُرْشِدَاً من غير الله أيْ لن تَجِدَ أيّ أحدٍ يكون له نَصِيرَاً ومُعيِنَاً ومُوَجِّهَاً يَتَوَلّي أموره فيَهْديه ويُرْشِده له وللإسلام ويُعينه ويَنصره ويُسْعِده ويَمنع الضرَرَ عنه في كل شئون حياته ويمنعه من عذاب الله تعالي الذي أعَدَّه له حين يُعَذّبه به في دنياه وأخراه بسبب سُوئه.. إلا إذا تاب أيْ استفاقَ ورجع إليه واختار بعقله الهداية واتّباع الإسلام فحينها حتماً يتوب عليه ويُعينه علي الهداية ويكون وَلِيَّاً له مُسْعِدَاً في الداريْن، لكنْ إنْ لم يَتُبْ وأصَرَّ علي ما هو فيه من سوءٍ فالنتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة إذَن تعاستيّ الدنيا والآخرة علي قَدْر سُوئه
ومعني "وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لبعض مظاهر نَشْر رحمته وتَهْيِئة رِفْقِه لأمرهم كله، منه وحده سبحانه لا من غيره.. أيْ ولو رأيتهم أيها الرائي في هذا الوقت والحال لرأيت الذي نَصِفَه لك.. أيْ وتَظنّهم مُسْتَيْقِظين كأنهم كالمُنْتَبِهين وهم في الواقِع نائمون لا يُحِسُّون بأحدٍ ولا يَشعرون، لأنهم كانوا بقُدْرَة الله يَتَنَفّسُون ويَتَقَلّبُون من جِهَةٍ لأخري رغم أنهم لا يأكلون ولا يشربون وأمثالهم من المُفْتَرَض أنْ يَموتوا، ونُقَلّبهم في نَوْمهم بقُدْرَتنا إلي جِهَة اليمين مَرَّة وإلي جهة اليسار مَرَّة لنَحْفَظ أجسامهم من تأثير الأرض إذ قد تَتَقَرَّح ببقائها علي مكانٍ واحدٍ بسبب طول نومهم عليها لسنوات، والله تعالي قادِرٌ حتماً علي حِفظ أجسادهم ورعايتها كما رعاها بلا طعامٍ ولا شرابٍ حتي دون تَقْلِيبٍ ولكنْ لتذكرة الناس بهذا الفِعْل بأنَّ هناك أسبابا لابُدَّ أنْ تُتَّخَذ في الحياة لتحقيق النتائج، وكلبهم الذي صاحَبهم مادٌّ يديه بالوَصِيد أيْ بباب الكهف أو بفِنائه وهو نائمٌ أيضا مِثْلهم كأنه مُسْتَيْقِظ حتي لا يُوقِظهم ولقد جَعَله الله تعالي يُصاحِبهم في كَهْفهم ليكون سَبَبَاً لأمانهم حين يستشعرون أنه يَحْرسهم بعده سبحانه مِن كل سوء، وكأنَّ مَن يصاحب الكِرام لابُدَّ أنْ يُكْرَم حتي ولو لم يكن إنسانا فما بالنا بالإنسان! حيث قد ذَكَر سبحانه هذا الكلب في قرآنه الكريم بصورةٍ فيها تكريم بسبب مصاحبتهم ليكون ذلك تَذْكِيرَاً ضِمْنِيَّاً بأنَّ مُصاحَبَة الصالحين فيها كل التكريم والأمن والخير الكثير منه تعالي بما يُحَقّق السعادة في الداريْن كما يقول (ص) "المَرْءُ مع مَن أحَبَّ" (أخرجه البخاري).. ".. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)" أيْ لو رأيتهم أيها الرائي وهم في حالتهم هذه حتماً سَتَلْتَفِت وتَنْصَرِف وتَبْتَعِد هَرَبَاً منهم وستَمْتَلِيء نفسك منهم خوفاً شديداً بسبب مَنْظرهم، والمقصود أنَّ مَا سَبَقَ ذِكْره كان بعض وسائل حِفْظه تعالي من إذابة الأرض لأجسادهم أمّا حِفْظهم من البَشَر أيْ من أعدائهم من غير المؤمنين الذين كانوا في زَمَنِهم فقد حَمَاهم تعالي بالرُّعْب الذي نَشَره عليهم وأحاطهم به بحيث لو فُرِضَ واطّلَعَ عليهم أيّ أحدٍ لامْتَلأ رُعْبَاً وفَرَّ مُسْرِعَاً مُوَلّيَاً أيْ مُعْطِيَاً ظَهْره لهم استعداداً للجَرْي بعيداً عنهم وذلك لأنَّ الناظر إليهم يَحْسَبهم أيْقاظاً لكنهم نائمون وهو أمرٌ لم يَعْتَدْ عليه الناس فلذا يُخيفهم فيَبْتَعِدُون عنهم فلا يَقْتِرب منهم أحدٌ ليُؤْذيهم كما أنَّ الكهف في ذاته مُخِيفٌ فتَتَحَقّق بذلك بالتالي الرِّعَايَة والحِمَايَة الإلاهِيَّة لهم
ومعني "وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)" أيْ وكما أَنَمْنَاهُم وحَفِظناهم هذه المُدَّة الطويلة الخارِقَة للعادَة والتي تُشْبِه الموت فكان ذلك آية كذلك أَيْقَظناهم من نومهم على حالهم كشبابٍ بثيابهم وشكلهم وصِحَّتهم وقوَّتهم دون أيِّ تَغَيُّرٍ رغم طول السنين لتكون أيضاً آية أي مُعْجِزَة ودلالة واضِحة قاطِعة دامِغة تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أننا الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحدنا للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَنا وتوكّل علينا وحدنا سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وذلك ليتساءلوا بينهم، أيْ فأدَّيَ ذلك إلي أن يتساءلوا بينهم أيْ يَسأل بعضهم بعضاً فيَعْرِفوا بالتالي حالهم – هم ومَن يسمع بقِصَّتهم – وما فَعَلْناه معهم فيزدادوا يقيناً على وجودنا وكمال قُدْرَتنا وتمام عِلْمنا ويعلموا به أمر البَعْث ويَشكروا ما أنعمناه عليهم من نِعَمٍ لا تُحْصَيَ ويتأكّدوا أننا نَحفظهم ونَرْزقهم ونُوَفّقهم ونَنْصرهم ونُثَبِّتهم في حياتهم الدنيا وسنَبْعثهم يوم القيامة فيزدادون بذلك هم وكل مَن يَتَّعِظ بقِصَّتهم حبا لنا وتَمَسُّكَاً وعَمَلَاً بدينهم الإسلام ودعوة لغيرهم له ليسعدوا مِثْلهم في دنياهم وأخراهم.. ".. قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ.." أيْ فقال واحدٌ منهم كم بَقيتم نائمين في الكهف فقالوا بَقينا يوماً كاملاً أو جزءاً من يومٍ، ولَمَّا لم يكونوا مُسْتَيقنين من ذلك قالوا ربكم أعلم بما بَقيتم أيْ هو تعالي وحده العليم بتمام العلم بذلك، وهذا بسبب حُسْن إيمانهم، وفي هذا إرشادٌ للمسلم أنه إذا اشْتَبَه عليه أمرٌ مَا أنْ يَرْجِع إلي العالِم به حتي لا يُخطيء فيَتْعس بل يُصيب فيَسعد.. ".. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ.." أيْ فبالتالي وبعد أنْ أَرْجَعْتُم العِلْم لربكم فانْشِغُلوا إذَن بما هو أهمّ من مُدَّة بقائكم في كَهْفِكم وهو واقِعكم واحتياجكم للطعام – حيث بدأت مَظاهر الحياة الطبيعية تعود إليهم إذ قد شعروا بالجوع – فأَرْسِلُوا واحداً منكم بفِضَّتكم أيْ بدَرَاهِمِكم هذه التي معكم، والوَرِق هو الفِضَّة، حيث كانت الدراهم المصنوعة من الفضة هي عُمْلَة زمنهم التي يَتَعامَلون بها، إلي المدينة التي كنا نسكنها والتي كان الكهف علي حدودها، وعليه أنْ يَرَيَ – واللام للأمر – أيّ أطعمتها أطْهَر وأحَلّ وأجْوَد وأفْضَل طعاماً ليأتيكم أيْ ليُحْضِر لكم ببعضِ طعامٍ منه تُرْزَقون أكله من رِزْق الله وفضله.. وفي هذا إرشادٌ للمسلم أن يكون حاله دائماً ألّاَ يَنْشَغِل بالشكل عن المَضْمُون – وإنْ كان كلاهما مطلوب – أو بالأقلّ أهمية عن المُهِمّ والأهَمّ أو بما يُمكن تأجيله عن العاجل الذي لابُدَّ تعجيله ولا يمكن تأخيره ولا بالوسائل والوقوف عندها دون تحقيق الأهداف ونحو ذلك مِمَّا يُحَقّق سعادته في الداريْن.. ".. وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)" أيْ وعليه كذلك أنْ يَتَلَطّف – واللام للأمر – أيْ يكون لطيفاً مع مَن سيَتَعامَل معه أيْ رقيقاً رفيقاً مُؤَدَّبَاً كما يأمرنا ديننا الإسلام وأنْ يَتَحَرَّك بِلُطْفٍ أيْ بِرِقّةٍ وبِخِفَّةٍ والمقصود التّسَتُّر والتَّكَتُّم قَدْر الاستطاعة في الطريق وبداخل المدينة كما يأمر الإسلام بالحَذَر في مِثْل هذه المَوَاقِف حتي لا يُكْتَشَف أمره، ولا يَجعل أحداً من الناس يشعر أيْ يحِسّ بكم بمعني يعلم بكم – والنون للتأكيد – حتي لا يَنْكَشِف أمركم ويعلم أعداؤكم مكان اختفائكم فيُؤذونكم
ومعني "إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)" أيْ هذا التّلَطّف وعدم إشعار أحدٍ بكم، لأنهم، أيْ لأنَّ قومكم غير المؤمنين المُعادِين لكم الذين فَرَرْتُم منهم للكهف حِفاظَاً علي دينكم الإسلام، إنْ يطَّلعوا عليكم يَرْجُمُوكم أيْ يَقْذِفوكم بالحجارة حتي تُقْتَلُوا أو يُرْجِعُوكم في دينهم فتصيروا كفاراً مِثْلهم وذلك بكل الوسائل المُمْكِنَة قَدْر استطاعتهم سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو نحو هذا، ولن تَنْجَحوا وتَفوزوا بتحقيق تمام السعادة بالتالي إذَن أبداً لا في دنياكم ولا في أخراكم إنْ أنتم فَعَلْتُم ذلك فكَفَرْتُم وتَرَكْتُم إسلامكم
ومعني "وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)" أيْ وكما أَنَمْنَاهُم وحَفِظناهم هذه المُدَّة الطويلة الخارِقَة للعادَة والتي تُشْبِه الموت فكان ذلك آية وكما أَيْقَظناهم من نومهم على حالهم كشبابٍ بثيابهم وشكلهم وصِحَّتهم وقوَّتهم دون أيِّ تَغَيُّرٍ رغم طول السنين فكان ذلك أيضاً آية كذلك أعثرنا عليهم أيْ جَعلنا أهل مدينتهم في زمن خروجهم من كهفهم يَعْثُرون عليهم أيْ يَجِدُونهم – بعد أنْ كَشَفَ البائع نوع الدراهم التي جاء بها مَبْعُوثهم لشراء طعامٍ لهم فعرف أنها قديمة منذ زمن اختفائهم – ليكون ذلك كذلك آية أيْ مُعْجِزَة ودلالة واضِحة قاطِعة دامِغة تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أننا الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحدنا للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَنا وتوكّل علينا وحدنا سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ليعلموا أيْ لكي يتأكّد الجميع بسبب كل هذه الآيات أنَّ وعد الله بالبَعْث حَقّ أيْ صِدْقٌ وليتأكّدوا كذلك أنَّ الساعة لا شكّ فيها أي الساعة المُحَدَّدَة لنهاية الحياة الدنيا وقيام الحياة الآخرة يوم القيامة حيث ساعة أيْ وقت الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها، فقد شاهَدُوا الأمر عَمَلِيَّاً أمام أعينهم، فمَن كان منهم صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ سيتأكّد قطعاً أنَّ مَن كان قادراً على إنامتهم تلك المدة الطويلة ثم على بَعْثهم بعد ذلك فهو قادرٌ حتماً على إعادة الحياة إلى الموتى أيْ بَعْث الناس بالأجساد والأرواح بعد كوْنهم تراباً يوم القيامة لحسابهم، لأنَّ نومهم وانتباهم كحال مَن يَموت ثم يُبْعَث، ومَن يُحْسِن استخدام عقله سيَرَيَ البَعْث في كل لحظةٍ أمامه لمَن يستيقظ من نومه حيث يحييه الله بعد موته موتاً مُؤَقّتَاً.. إنه لو لم يُوقِظهم سبحانه ويُعْثِر عليهم لَمَا عَلِم أحدٌ بقِصَّتهم ومُعْجِزتهم والتي مِن حِكَمِ الإعلام بها عَوْن الناس علي الإيمان بربهم وبَعْثهم واتّباع إسلامهم حين يَتَدَبَّرون فيها.. ".. إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ.." أيْ أعثرنا عليهم حين كان أهل مدينتهم يختلفون فيما بينهم في أمرِ أيْ شأنِ وحالِ هؤلاء الفتية هل هم قد ماتوا أم ناموا، وفي أمرهم هم أنفسهم أهل المدينة حيث كانوا يختلفون ولم يكونوا مُتّحِدين علي الإيمان إذ بعضهم مؤمن بالله وبالبَعْث وبالساعة وبعضهم لم يؤمن بذلك فتَبَيَّن لهم بسبب أنْ أعثرنا عليهم أنهم قد ناموا ولم يموتوا وأنَّ الله والبَعْث والساعة حقّ بلا أيِّ شكّ فكان ذلك دليلاً للمؤمنين ضِدَّ الكافرين والذين آمَنَ بالفِعْل منهم كثيرون من أصحاب العقول السليمة بسبب ذلك، بسبب تلك الآيات العظيمة.. ".. فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا.." أيْ فقال بعض المُطّلِعِين عليهم في ذلك الزمن، بعد أن ماتوا، ابْنُوا علي قَبْرِهم بناءً يكون كشاهِدٍ يُكْتَب عليه أسماؤهم وقِصَّتهم، كتكريمٍ لهم وإعلاءٍ لشأنهم حيث أجدادهم سابقا قد آذوهم بسبب إيمانهم ولكنهم حافظوا علي إسلامهم وصَبَرُوا وثَبَتُوا، فتخليد ذكراهم هو لكي يكونوا مِثالَاً وقُدْوَة لمَن كان في مِثْل حالهم ليَقْتَدِيَ بهم في الصبر والثبات علي إسلامه ويكونوا دليلاً على أنَّ الله تعالى ينصر المسلمين العاملين بكل أخلاق إسلامهم في كل زمانٍ ومكانٍ ويَرْعاهم ويَحفظهم ويُدافِع عنهم ويُخَلّد ذِكْراهم إلى قيام الساعة ويُكْرِمهم في دنياهم ثم بما لا يُوصَف في أخراهم.. ".. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ.." أيْ ربُّ هؤلاء الفِتْيَة ربُّ الخَلْق جميعاً أعلم من الجميع بمَكَانتهم في الدنيا وبأجرهم العظيم في الآخرة، وتكريمهم ما هو إلا تكريم دنيويّ لهم لتذكرة الناس بالله وبالإسلام.. وهذا الجزء من الآية الكريمة قد يكون من بَقِيَّة كلام الذين قالوا ابنوا عليهم بنيانا أو من كلام الله تعالي.. ".. قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)" أيْ لَمَّا قال بعض المُطّلِعين عليهم ابْنُوا عليهم بُنْياناً قال الذين غَلَبوا على أمرهم وهم المسئولون الذين لهم غَلَبَة وسُلْطَة ونُفوذ ويُمكنهم تنفيذ ما يَتّخِذونه من قراراتٍ سنَجعل علي مَكانهم مسجداً قريباً من مكان كهفهم ودَفْنِهم – واللام والنون للتأكيد – أيْ مَعْبَدَاً مِمَّا كان المؤمنون بالله يتعبّدون فيه وقتها، فيكون ذلك أكثر تكريماً لهم حيث يُذَكّرون كل مَن يأتي بالثبات علي الإيمان بالله والعمل بالإسلام فيزدادون ثوابا
ومعني "سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)" أيْ هذا إرشادٌ للمسلم أنه إذا اشْتَبَه عليه أمرٌ مَا أنْ يَرْجِع إلي العالِم به حتي لا يُخطيء فيَتْعس بل يُصيب فيَسعد.. أيْ سيقول بعض الناس الذين سيَسمعون قِصَّتهم ولم يَرَوْهم ويَعرفوا كَمْ هُمْ، كان عدَدهم ثلاثة أفراد وكلبهم هو الرابع لهم، وسيقول آخرون العَدَد خمسة والسادس الكلب، رَجْمَاً بالغَيْب أيْ رَمْيَاً وقَذْفَاً بكلامٍ غائبٍ عنهم ليس لهم به أيّ علمٍ ولا أيّ دليل، أيْ سيَقولون ذلك تَوَهُمَّاً وتَخْمِينَاً وليس مُؤَكّدَاً في أمرٍ غائب عنهم، كمَن يَرْجم بحَجَرٍ أيْ يَرْميه لا يُصيب هدفه، والمقصود أنَّ كلامهم ليس صحيحا، وسيقول بعضهم سبعة وثامنهم كلبهم، ولعلّ عدم ذِكْر أنَّ هذا القول هو أيضا من الرَّجْم بالغَيْب يدلّ علي أنه هو الأقرب للصواب، لكنْ لو كان لتحديد عددهم مَنْفَعة وعِظَة يُتَّعَظ بها لحَدَّده تعالي وبما أنه لم يُحَدِّده فليس للأمر نَفْعٌ إذَن وتَبْقَي العِظَة العُظْمَيَ هي في قِصَّتهم لا عددهم فلا يُنْشَغَل بالتالي به.. ولذا يقول تعالي ".. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ربي أعلم من الجميع العليم بتمام العلم بعَدَدهم.. ".. مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.." أيْ ولا يَعلم عَددهم الحقيقيّ إلا عَدَدٌ قليلٌ من الناس، كالذين رأوهم مثلا بمجرّد موتهم في زمنهم، أو بما يكون الله تعالي أوحاه للرسول (ص) وعَلِمه منه بعض الصحابة الكرام، أو بما استنتجه بعض العلماء أنهم سبعة وثامنهم كلبهم حيث لم يَقُل تعالي أنَّ هذا العدد هو من الرجْم بالغَيْب مثل الأعداد الأخري التي ذُكِرَت.. هذا، ولا تَعارُض حتماً بين أنْ يعلمهم قليلٌ وبين أنَّ ربي أعلم بعِدَّتهم لأنَّ هذا القليل ما عَلِمَ إلا بإعلام الله لهم ولو أراد ألّا يُعْلِمهم لَمَا أعلمهم، كما أنَّ عِلْمهم عنهم ليس شاملاً بل في بعض شئونهم لكنَّ علمه بهم سبحانه علمٌ شامِلٌ عن كل تفاصيلهم وليس عددهم فقط كنشأتهم وكيفية إيمانهم ونومهم وحياتهم بكهفهم وإعادة مظاهر الحياة لهم ودرجتهم في جنات يوم القيامة ونحو ذلك.. ".. فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا.." أيْ إذا كان الحال كما أخْبَرْناك عن أصحاب الكهف فلا تُحاوِر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم في أمرهم وعَدَدهم أحداً من الخائضين فيه بغير علمٍ إلا حواراً ظاهراً أيْ إلا بما قد أظهرناه لك من أمرهم ويكون واضِحَاً لا يَتَجَاوَز حدود ما أوحيناه إليك وقصصناه عليك في القرآن الكريم فقط ويكون حواراً سَهْلَاً خفيفاً بلا تَعَمُّقٍ في عَدَدِهم وما يُشْبِه هذا لأنَّ أمر العَدَد ونحوه لن يَتَرَتّب عليه كثيرُ فائدة.. وفي هذا إرْشادٌ للمسلم أن يكون كذلك دائماً في كل أمرٍ من أمور حياته لا يُؤَدِّي لفوائد، إذ ما فائدة معرفة عددهم؟! المُهِمّ الدروس المُسْتَفَادَة، وهي البَعْث والاستعداد للآخرة والثبات علي الإسلام، وهذه العِبَر هي التي تَستحِقّ الحوار المُعَمَّق المُدَلّل بالأدِلّة المَوْثُوقة في إطار الأُخُوَّة وصَفاء العقول من العِناد والتّعَالِي ونحو هذا من أجل الوصول لكلّ حقّ وخيرٍ وعدلٍ فيسعد الجميع بذلك في الداريْن.. ".. وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)" أيْ وكذلك لا تَسأل أحداً منهم وتَطلب فَتْواه وعِلْمه فيهم أيْ في أمر أصحاب الكهف، لأنَّ ما قَصَصْناه عليك من خَبَرهم يَكْفيك تماماً عن السؤال والاسْتِيضاح من أيِّ أحدٍ حيث قد جاءك الحقّ الذي لا شكّ فيه، كما أنهم يَخوضون في أمرهم بغير علمٍ فلن يُجيبوك بالتالي حتماً إجابة صحيحة شافِيَة نافِعَة.. وفي هذا مزيدٌ من الإرشاد للمسلم ألّا يستفتي في أيِّ شأنٍ من شئون حياته مَن لاَ يَصْلُح للفَتْوَيَ بل مَن هو صالحٌ لها خبيرٌ بها مَشْهورٌ مَوْثوقٌ بعِلْمه وخبرته وأمانته وذلك من خلال السؤال عنه واشتهار أمر صلاحه بين الناس
ومعني "وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)"، "إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)" أيْ ولا تقول أبداً – والنون لتأكيد المَنْع – يا كل مسلم لأيِّ شيءٍ ستَفعله إني فاعلٌ ذلك الشيء مستقبلاً، إلا بأنْ يشاء الله، أيْ إلا قَوْلَاً مَصْحُوبَاً بمشيئته بأنْ تقول إنْ شاء الله، لأنَّ في ذِكْر مشيئته سبحانه استعانة به وتَوَكّلاً عليه بما سيُؤَدِّي حتماً لتيسير كل الأمور وحصول البركة فيها وبالتالي السعادة بها، فالمسلم العامِل بكل أخلاق إسلامه يَتَّخِذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة ويَتوكّل علي ربه ويَتواصَل دَوْمَاً معه وينطلق في حياته مُسْتَبْشِرا بالحصول علي كل خير وسعادة وهو يعلم تمام العلم أنَّ مشيئته كإنسانٍ فيما يريد تحقيقه في دنياه من أهدافٍ وسعاداتٍ مُرْتَبِطَة بمشيئة ربه خالِقه ومُرَبِّيه ومُرْشِده والذي يعلم كل شيءٍ عن أيِّ شيءٍ والقادر علي كل شيءٍ والذي يعلم المستقبل وما فيه، فإنْ حَقّق المسلم ما يريده من خيرٍ وشاءَ أيْ أَذِنَ له ربه ذلك فليحمد الله ولا يَغْتَرّ ليزداد منه خيراً وسعادة، وإنْ لم يتَحَقّق أيْ لم يشأ له الله تحقيقه فلابُدَّ أنَّ هناك ضَرَرَاً مَا كان سيَحْدُث وأنَّ الخير في شيءٍ آخر، فلْيَرْض بذلك تمام الرضا وليطمئن ولينطلق لغيره وبكل هِمَّةٍ أيضا دون أيِّ يأس، حيث أنَّ الله لا يَمنع أيَّ شيءٍ فيه خير وسعادة عَمَّن يتوكّل عليه، بل هو لا يُحَقّق لكل خَلْقه إلا كل ما فيه مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم ويَمنع عنهم كل ما فيه ضَرَرهم ونَقْصهم وتعاستهم، وما قد يَحْدُث من ضَرَرٍ لهم أحيانا فهو من سوء تَصَرّفهم أو ليَختبرهم ليخرجوا من الاختبار مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة في دنياهم وأخراهم.. إنَّ فِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة وإرادة الإنسان وإنما يَتِمّ بعد إرادة الله تعالي وإذنه ومَشيئته لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يمكن مُطلقا أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وليعبدوه وليشكروه وحده سبحانه ليسعدوا في الداريْن.. إنه ليس المقصود من الآية الكريمة مَنْع الإنسان عن التفكير فى أمر مستقبله وإنما المقصود منعه عن الجزم بما سَيَقَع فى المستقبل لأنَّ ما سيقع عِلْمه عند الله تعالى وحده.. إنَّ العاقل من الناس هو الذى يُباشِر الأسباب التى شرعها سبحانه ثم يُصاحِب كل ذلك بمشيئته تعالى وإرادته فلا يقول سأفعل غدا كذا وكذا لأننى أعْدَدْتُ العُدَّة لذلك وإنما يقول سأفعل غدا كذا وكذا إذا شاء الله ذلك وأراد، وأنْ يُوقِن بأنَّ إرادة الله فوق إرادته، وتدبيره سبحانه فوق كل تدبير.. إنَّ الواقِع يُثْبِت أنَّ كثيراً من الأمور أعَدَّ الإنسان لها أسبابها التي تُؤَدِّى إلى حُدُوثها ثم غَيَّرَت إرادة الله تعالى ما أعَدَّه، لأنه لم يستشعر عند إعداده للأسباب أنَّ إرادته سبحانه فوق إرادته وأنه وحده القادر على مَنْع هذه الأسباب وما تؤدّى إليه أو تنفيذها، ولأنه لم يَقُل عند فِعْل ما يريد فِعْله في المستقبل إنْ شاء الله.. ".. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ.." أيْ وكُنْ دَوْمَاً مع ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – في كل لحظات حياتك بكل شئونها لتسعد فيها تماماً ثم في آخرتك، وذلك باستصحاب نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة صُوَر الذكر وسعاداته في الآية (152) من سورة البقرة "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، واذكر مَشيئة ربك إذا نسيتها، ولو فُرِضَ وانْشَغَلْتَ ونَسِيتَ – كأيِّ إنسانٍ مُعَرَّض للنسيان أحيانا – هذا التوجيه والاتّجاه الدائم نحو ربك وإسلامك، أو تركته لبُعْدِك عنهما بسبب فِعْلِك لشَرٍّ مَا، فعَاوِد سريعاً التّذَكّر فالإنسان كلَما فَكّرَ بالخير تَذَكّره وكلّما نسيتَ فاذْكِر الله فإنَّ ذِكْرَه يُذهِب نسيانك فمقاومة النسيان تكون بالتدريب التدريجِيّ علي التّذَكّر فيَقِلّ أو يَنْعَدِم، فالفِكْر الخَيْرِيِّ وذِكْر الله يُشَجِّعك علي تعويض ما فاتك من خير، وعُدْ إلي الله واعمل بكل أخلاق الإسلام بنوايا خير، وكذلك إذا نسيتَ قول "إن شاء الله" قبل أعمالك المستقبلية فقُلْهُ حينما تَتَذَكَّر، ومِن باب أوْلَيَ إذا نسيتَ فعَصيت أيْ ففَعَلْتَ شَرَّاً مَا فتَذَكّر ربك وثوابه وعقابه وإسلامك وارْجِع إليهما فوراً بالتوبة لتسعد في الداريْن ولا تتعس فيهما بمِقْدار شَرِّك الذي فَعَلْته والتوبة تكون بالاستغفار باللسان وبالندم بالعقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة وبِرَدِّ الحقوق لأصحابها إنْ كانت المعصية مُتَعَلّقة بحقوق الآخرين، وكذلك إذا نسيتَ صلاة أو طاعة ما فافْعَلها عند تَذَكّرك لها، وإذا نسيتَ قول كلامٍ مَا كنت تريد قوله أو عمل فِعْلٍ مَا كنتَ تريد عمله فذِكْر الله بأيِّ ذِكْرٍ سيُذَكّرك به إنْ كان فيه الخير لك ولغيرك فإنْ لم تَتَذَكّره فاعلم أنه لا خير فيه وسيُذَكّرك سبحانه بما هو أكثر خيراً في الداريْن.. ".. وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)" أيْ وقل دائماً يا كل مسلم داعِيَاً الله تعالي سائِلاً إيَّاه لعلّ ربّي أنْ يُرْشِدَنِي مستقبلاً لشيءٍ وأمرٍ أقْرَب أيْ أسرع وأكثر وأعلي وأعظم رَشَدَاً أيْ صَوَابَاً من هذا الذي نَسيته أو من هذا الصواب الذي أفعله الآن أو مِن هذا الحال الطيّب الذي أنا عليه حاليا إلي ما هو أطْيَب، والمقصود أنْ يُداوِم المسلم في كل أقواله وأفعاله علي دعاء ربه ليَنالَ دَوْمَاً القُرْبَ التّامَّ مِن تمام الصواب والصلاح والحقّ والصِدْق والعَدْل والهُدَيَ والرُشْد والاستقامة والخير والسعادة، لينال أقْرَبَ الطرُق المُوصلَة للرشْد الكامل في كل شئون حياته، لينالَ القُرْبَ أكثر وأكثر من الكمال، ليكون علي الدوام في ارْتِقاءٍ نحو كل عُلَاَ، نحو التّمَسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وإرشاد جميع الناس لها لتتحقّق للجميع السعادة التامَّة في الداريْن، وذلك بدعائه سبحانه أنْ يُيَسِّر له كل الأسباب لذلك بفضله ورحمته وكرمه وتَوْفيقه وتَيْسيره، فليس له ربّ غيره.. هذا، ولفظ "عسي" أيْ لعلّ يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافِعَاً وتشجيعاً للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك قريبين من الرُّشْد التّامِّ مُحَقّقين له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه مع تَوَكّله التّامّ علي ربه واستعانته الكامِلَة به
ومعني "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)" أيْ هذا بيانٌ مُؤَكّدٌ من الله تعالي للمُدَّة الحقيقية التي لَبِثها أيْ مَكَثها الفتية أصحاب الكهف حتي لا يُخْتَلَف عليها وتتأكّد مُعجزتهم.. أيْ وبَقوا نِيَامَاً في كهفهم ثلاثمائة سنة بالحساب الشمسيّ للسنة، وازدادوا تِسْعَاً من السنين بالحساب القَمَرِيّ لها، لأنه من علم الفلك أنَّ السنوات القمرية تزيد عن الشمسية ثلاث سنين كل مائة سنة
ومعني "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)" أيْ هذا إرشادٌ للمسلم أنه إذا اشْتَبَه عليه أمرٌ مَا أنْ يَرْجِع إلي العالِم به حتي لا يُخطيء فيَتْعس بل يُصيب فيَسعد في الداريْن.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم الله أعلم من الجميع بما بَقوا في كَهْفهم من زَمَنٍ أيْ هو تعالي وحده العليم بتمام العِلْم بذلك وبكلّ شيء.. ".. لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.." أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره من كمال عِلْمه سبحانه.. أيْ لله تعالي وحده عِلْم كلّ غَيْبٍ في السموات والأرض، وهو قادرٌ عليه بتمام القُدْرَة.. والغَيْب هو كل ما غابَ عن إدْرَاك وحَوَاسِّ البَشَر، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل كالآخرة والبَعْث للناس فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار وما يَحْدُث في الكَوْن من أحداثٍ تَغِيب عنهم أو في مستقبلهم ونحو هذا.. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن.. إنه لا أحد يعلم الغَيْب أيْ المستقبل وكل ما يَغيب عن عقول البَشَر إلا هو سبحانه فهو الذي يُدَبِّر أمور الخَلْق والكَوْن كلها علي أكمل وأسعد وجه.. إنه تعالي وحده الذي يعلم ما سيَحِلّ بالمُسيئين من شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن بسبب إساءاتهم وما سيكون للمُحسنين من خيرٍ وسعادةٍ فيهما بسبب إحسانهم.. ".. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ أبْصِر بالله وأَسْمِع به، وهذه صيغة تَعَجُّب في اللغة العربية تعني مَا أَبْصَرَه ومَا أَسْمَعَه سبحانه أيْ ما أعظم وأكْمَل بَصَره بكل المُبْصَرَات وما أعظم وأكمل سَمْعه لكل المَسْمُوعات وما أعظم وأكمل عِلْمه بكل المَخْلوقات أيْ ما أَبْصَرَه بكل أفعال خَلْقِه ومَا أَسْمَعه لكل أقوالهم أيْ لا أحَدَ أشَدّ بَصَرَاً وسَمْعَاً وعِلْمَاً بكل شيءٍ منه تعالي.. كذلك من المعاني عند بعض العلماء أنهما فِعْلان أمرٍ أيْ أَبْصِر بالقرآن وبالإسلام أيها المسلم طريقَ الحقّ والصواب والعدل والخير والسعادة في دنياك وأخراك وأَسْمِع به العالَم أيْ أَرْشِد الجميع إليه ما استطعت بكل الوسائل المُمْكِنَة المَسْمُوعَة والمَرْئِيَّة وغيرها لتسعدوا جميعاً في الداريْن.. ".. مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ.." أيْ ليس للناس وللخَلْق جميعاً غير الله تعالي الخالق الرازق المُعِين الرحيم الودود أيّ وَلِيّ وأيّ ناصر يَتَوَلَّيَ أمورهم فيُعِينهم ويَنصرهم ويَمنع الضرَرَ عنهم في كل شئون حياتهم.. إنه مَن كان الله وَلِيّه ونَصيره فسيُوَفّر له حتماً في دنياه وأخراه الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها.. وفي المُقابِل مَن ابتعد عن ربه وإسلامه وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فأمثال هؤلاء عند نزول ما يُناسبهم مِن عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ لا يَجدون أيَّ وَلِيٍّ أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافِع عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئاً منه.. ".. وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)" أيْ ولا يَجعل أحداً مِن خَلْقه معه أبداً حتماً يُشاركه في حُكْمِه وسلطانه ونفوذه ونظامه ومُلْكِه كوزيرٍ أو مُشِيرٍ أو نَصيرٍ أو مُعينٍ أو غيره لأنه هو وحده كامل الغِنَيَ لا يحتاج لأيّ شيءٍ فهو وحده تعالي بلا أيِّ شريكٍ الحاكِم في الدنيا الذي يُرْجَع إليه أمر كل شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقياته التي بَيَّنَها وفصَّلها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله لهم عن طريق رسله والذي يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه، ثم الجميع سيُرْجَعُون إليه لا إلي غيره في الآخرة يوم القيامة ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلوا فيكون للمُحسن كل زيادة من إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقاب علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم، لأنه وحده المُسْتَحِقّ لذلك لأنه هو الخالق لكل شيءٍ العالم به وبما يُصْلِحه ويُكْمِله ويُسْعِده القادر عليه سبحانه، فلا حُكْم إذَن أبداً لأيِّ آلهةٍ مَزْعُومَةٍ قد يَدَّعِي بعض الناس السفهاء أنهم يعبدونها في أيِّ شيءٍ بالكَوْن إذ هو ملكه وحده.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو مزيدٌ من البيان والتوضيح والتدْليل والتأكيد أنه سبحانه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة حيث تَجْرِي وتَتَحَرَّك في كل لحظةٍ أوامره في الكوْن كله وتنفذ إراداته وتصرّفاته وأحكامه فيه مُتَمَثّلَة في رحماته وخيراته وأرزاقه وتقديراته وتدبيراته وترتيباته للناس وللخَلْق جميعا من أجل منافعهم وسعاداتهم حيث هو وحده الذي يملك أصول الأرزاق وأسباب وجودها ونمائها كالماء والهواء والطاقة والقوة والأرواح والعقول وحركة ونمو الخلايا والجُزَيْئَات والذرَّات وما شابه ذلك ولو مَنَعَ شيئاً منها لتوقّفت الأرزاق بل والحياة كلها، وهو أيضا المُرَبِّي لهم والرازق والراعِي والمُعين والمُرْشِد لكلّ خيرٍ وسعادة من خلال تشريعاته في كتبه وآخرها قرآنه الكريم، فلْيَعبدوه أيْ يطيعوه إذَن وحده وليتمسّكوا بكلّ أخلاق إسلامهم ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنه تعالي وحده الذي له كل ما في الكوْن وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. إنه مَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)" أيْ واتّبِعوا في كل شئون حياتكم في كل أقوالكم وأعمالكم ما أُوحِيَ إليكم من خلال رسولكم الكريم (ص) من كتاب ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – أيْ في هذا القرآن العظيم، مِن يَتلو الشيء أي يَجيء بعده ويَتْبَعه، واتلوه أيضا أي اقرأوه بكل تدبُّر وتعَمُّق واعملوا بما فيه كله، لكي تسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. ".. لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ.." أيْ إنه لا مُغَيِّر أبداً لكلام الله في آياته في كل كتبه التي أرسلها مع رسله منذ خَلَقَ الخَلْق وآخرها القرآن العظيم والتي فيها الوعود التي لا تُخْلَف مُطْلَقَاً بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاق شَرْعه الإسلام وبنصر أهل الحقّ والخير الصابرين الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم ما داموا يُحسنون اتّخاذ ما استطاعوا من أسباب النصر، والتي فيها كذلك الإنذار بكل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن لمَن يُخَالِف أخلاق الإسلام وبهزيمة أهل الباطل والشرّ، فلا بُدّ من تَحَقّق هذه الوعود والإنذارات في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً للمُحسنين.. فهذه هي دائماً سُنَّته أيْ طريقته وأسلوبه في كوْنه، فهو مالِك المُلْك كله المُسَيْطِر عليه القويّ العزيز ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ مهما كان أن يُغَيِّر أيَّ حرفٍ من كلماته والتي تشمل توجيهاته وأحكامه ووعوده وإنذاراته وأنظمته وتشريعاته المُنَظّمة المُسْعِدَة لخَلْقه كما أكّدَ ذلك بقوله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحِجْر:9) (برجاء مراجعة تفسيرها) (برجاء أيضا لاكتمال المعاني مراجعة الآيات "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51)، ".. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر:43)، "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"، "إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ"، "وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" (الصافات:171،172،173)، "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة:21)).. ".. وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)" أيْ ويَستحيل أنْ تجد أبداً أيها المسلم وأيها الإنسان غيره أيْ غير الله والقرآن والإسلام مَلْجَأ تَلْجَأ إليه وتَعْتَصِم أيْ تَتَحَصَّن به في دنياك إذا كنتَ تريد السعادة التامَّة فيها ثم أتَمَّ منها وأعْظَم وأخْلَد في أخراك وتريد النجاة من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما، فلا تُخالِف مُطْلَقَاً أخلاقه فإنْ خالَفتها وفَعَلْتَ الشرور والمَفاسد والأضرار أو هَمَمْتَ حتي بمجرّد التفكير في تغيير حرفٍ من كلمات الله لن تجد غيره تعالي ملجأ تلجأ إليه بالتوبة له لكي تَنْجُو من عقابه لك في الداريْن بما يُناسب مُخالَفاتك والمُتَمَثّل في كل تعاسةٍ فيهما فاحْذَر إذَن حَذَرَاً شديداً من ذلك
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً مِمَّن يُحسنون الدعوة لله وللإسلام وهو الحقّ والعدل والخير والسرور كله ويَدْعُون له بالقُدْوة والقول والعمل بالحِكْمة والمَوْعِظَة الحَسَنَة في كل مكانٍ مُمْكِنٍ مناسبٍ أثناء عملهم وعلمهم وإنتاجهم وكسبهم وغيره وبكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ مناسبةٍ ومع كل فردٍ ممكنٍ مناسبٍ من الأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء وعموم الناس بما يُناسب ظروفهم وأحوالهم وثقافاتهم وبيئاتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، وذلك ليسعدوا بأخلاقه وأنظمته التي تُنَظّم لهم كل لحظات حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنها من عند خالقهم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)" أيْ واثْبت واصْمد أيها المسلم وكن دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ فلا تَبْتَعِد عنهم ولا تُبْعِدهم عن نصائحك وتوجيهاتك ودعوتك الدائمة لهم للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام لتسعدوا جميعا بذلك تماماً في الداريْن، وهم الذين يَدْعون أيْ يَعبدون أيْ يُطيعون ربهم بأوَّل النهار وآخره أيْ طوال اليوم وبالتالي طوال حياتهم حتي مماتهم، يريدون وجهه سبحانه أيْ ذاته تعالي أي ثوابه وعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وإسعاده في الداريْن، أيْ يَعبدونه مُخلصين مُحْسِنين أيْ لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ودائما وباستمرارٍ وبرغبةٍ قويةٍ أكيدةٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة هو توجيهٌ وإرشادٌ لكل مسلم أن يكون دائما مع الصالحين المُصْلِحين، أيْ مع الصحبة الصالحة ما أمكنه هذا، في مجتمع الصلاح والخير والحقّ والعدل، المجتمع الذي يُعين بعضه بعضاً ويَتناصح فيما بينه علي التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام ليسعد السعادة التامّة في دنياه وأخراه، وهذا المجتمع يقوم بواجبه – فُرَادَيَ وتَجَمُّعات ومؤسّسات – بدعوة الآخرين لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ مع الصبر علي أذاهم لتسعد البشرية كلها مثل سعاداتهم في دنياها وأخراها.. كما أنَّ الآية الكريمة تُوَجِّه ضِمْنَاً الدعاة لله وللإسلام لعدم التفرقة أبداً بين المَدْعوين، بمعني أن يُبْعِدوا مثلا الفقراء الضعفاء ولا يَهْتَمّوا بهم ويُقَرِّبوا الأغنياء الأقوياء ويُعطونهم مزيداً من الاهتمام لأنهم من وجهة نظرهم قوة للإسلام والمسلمين وهذا قد يكون صحيحا أحيانا لكن دون تفرقةٍ في دعوتهم والأمر يرجع لتقدير الداعي فلعلّ فقير ضعيف لكنه قوي التمسّك والعمل بالإسلام أفضل وأعظم وأنفع مِن غَنِيٍّ بعيدٍ عن ربه ودينه وأعلي وأكرم وأعزّ منه في الداريْن والواقع يُثبت ذلك كثيراً فعَلَيَ المسلم إذَن أن يبدأ بدعوة مَن يريد الاقتراب مِن ربه والعمل بإسلامه ويسعي لذلك سواء أكان غنيا أم فقيرا مُتَعَلّماً أم جاهلاً شريفا أم وضيعا أم غيره، ويُؤَجِّل دعوة المُعانِد المُكابِر سواء أكان غنيا أم فقيرا أيضا، ويتّخِذ من أساليب الدعوة ما يراه مناسبا لتحريك فطرة عقله وتغييره تدريجيا، وأن يحرص علي دعوة الجميع لكن مع حرصه الشديد هذا وحبه العظيم لهم ليعملوا بكل أخلاق إسلامهم ليسعدوا مثله تمام السعادة في دنياهم وأخراهم عليه أن يكون مِثْل الرسول الكريم (ص) مُتَوَازِنَاً في دعوته لهم مُحْسِنَاً في تصنيفهم مِن حيث درجة إقبالهم وكيفية معاملتهم مُوسِعَاً جهده وفِكْره وصبره للجميع داعياً كلاّ منهم بما يُناسب أحواله وظروفه وبيئته وثقافته، مُجْتَهِدَاً ألاّ يَصِل إلي المرحلة التي يُعَاتِب فيها الله تعالي الدعاة إذا وَصَلُوا إليها أحيانا حينما تَكْثُر عليهم جهود الدعوة والتَّعامُل مع المَدْعُوِين وهي مرحلة ما وَرَدَ في سورة عَبَس "عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1)"، "أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2)" أيْ تَغَيَّرَ وَجْهُه وكَشَّرَ جَبِينَه بما يُظْهِر بعض الضِّيق مِن تَصَرُّفات مَن يَدْعوه، وتَوَلّي عنه أيْ أعطاه ظَهْره والْتَفَتَ وانْصَرَفَ وابْتَعَدَ وتَرَكَه وأهمله، وذلك بسبب أنْ أتَاهُ مثلا مَدْعُو أعمي أو جاهل أو فقير أو مَن يُسِيء التَّصَرُّف أو القول أو مَن يُشبه هؤلاء مِمَّا يَصعب حَصْره مِن أحوال الناس الذين يحتاجون الصبر عليهم لتعريفهم بربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن .. "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3)"، "أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (4)" أيْ وأيّ شيءٍ يَجعلك دَارِيَاً عالِمَاً بحقيقة أمره أيها الداعي إلي الله والإسلام حتي تَتَوَلّي عنه فلعلّ هذا المَدْعُو الذي قد عَبَسْتَ في وجهه وتَوَلّيْتَ عنه يَتَزَكَّي أيْ يَتَطَهَّر من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأن يعمل بأخلاق الإسلام فيَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعره فيَسعد – والتزكية هي التَّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمعاملات – ويَتَذَكَّر ما كان في غَفْلَةٍ عنه ويَتَّعِظ ويَنتفع بما سَتُذَكِّره به من ذِكْرَيَ وعِظَة مِن كل خيرٍ في الإسلام، لو كنتَ صَبَرْتَ عليه وأحسنتَ دعوته بما يناسبه، فتنالَ بذلك أعظم الثواب، فإنَّ الذي يُيَسِّر أسباب الهداية للناس ويهديهم إليها هو الله تعالي خالقهم وما أنت إلا سبب من هذه الأسباب، فلو دَرِيتَ كلّ هذا وتَنَبَّهْتَ له لَمَا حَدَثَ ذلك منك، "أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ (5)"، "فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6)"، "وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7)" أيْ أمَّا مَن كان مُسْتَغْنِيَاً عن الله تعالي والإيمان به وطَلَبَ عَوْنه وتوفيقه وتيسيره وعن الإسلام والعمل بأخلاقه وتَوَهَّمَ أنه ليس مُحتاجا لهما فأَعْرَضَ عنهما أيْ ابْتَعَدَ بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء وحَسبَ وعَدَّ نفسه غنيا بثرواته وقُوَاه المُتَعَدِّدَة فاغْتَرّ وتَكَبَّرَ بها وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار "فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6)" أيْ فأنتَ تُقْبِل عليه وتَتَقَدَّم إليه وتَتَعَرَّض له وتَهْتَمّ بدعوته لله وللإسلام، وكان مِن المُفْتَرَض ألاّ تَهتمّ به إلاّ بالقَدْر الذي يُناسبه علي حَسَب تقديرك لحاله، لأنَّ الإقبال على المُعْرِض قد يكون فيه تضييع للجهود والأوقات فيكون من الأفضل توفيرها لغيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (7) حتي (12) من سورة عبس، ثم الآية (52) من سورة الأنعام "وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ").. ".. وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ ولا تَصْرِف نَظَرَك عنهم وتَبْتَعِد منهم أبداً إلى غيرهم من غير الصالحين وغير المسلمين من أهل الدنيا الناسِين للآخرة أو الغير المؤمنين بها – وإلا تَعِسْتَ مِثْلهم في الداريْن لو فَعَلْتَ ذلك – وحالك وواقِعك أنك تريد التّمَتّع معهم بزينة الحياة الدنيا أيْ بمُتَعِها كالأموال وغيرها من كل أنواع الأرزاق وهم الذين يعملون فيها ولها وحدها فقط وهي الزائلة ولا يريدون الآخرة معها ولا يعملون لها وهي الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ، سواء أكانوا كافرين أيْ غير مُصَدِّقين بها أصلا أم مسلمين لكنهم ناسِين لها بسبب ترْكهم لأخلاق إسلامهم بعضها أو كلها أو مَن يشبههم مِمَّن لا يُحْسِنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا كما وَصَّاهم ربهم وإسلامهم (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)، بل قد يستمتعون بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً ويختارون معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها ويُفَضِّلونها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبهم للآخرة لأنهم قد نَسوها مُطْلَقَاً أو لا يُصَدِّقون بها مِن الأصل، ويُفْرِطُون ويُبالِغون في التّمَتّع دون تَوَازُنٍ وتَوَسُّطٍ واعتدالٍ بل بكلِّ نَهَمٍ لأنهم يَنْسون آخرتهم أو يتشكّكون فيها فليس لهم إلا دنياهم وليس لهم نوايا خيرٍ أثناء تَمَتّعهم طَلَبَاً لآخرتهم ونعيمها الخالد، ويَتَمَتّعون دون مراعاةٍ للمشاعر الإنسانية للذين حولهم ولا يَجِدُون مِثْل هذا التّمتّع ويَتَرَفّعون عليهم ولا يُعينوهم حتي ولو بجزءٍ منه بل قد يَسخرون منهم لضعف مستواهم أو لامتناعهم عن التّمتّع بما هو ضارّ!! إلي غير ذلك من مِثْل هذه الصور المُضِرَّة لزينةِ ومَفَاتِن الحياة والتي يُحَذّر الله المسلمين منها أشدّ التحذير لِمَا فيها من ضغائن ومَرَارات ومُشاحَنات وانتقامات وتعاسات.. وهم ما فَعَلوا كلّ ذلك إلا لتعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولا تَسْتَجِب وتُنَفّذ وتَتّبِع أبداً سوءَ مَن أغفلنا قلبه أيْ عقله عن ذِكْرنا أيْ عبادتنا أيْ طاعتنا واتّباع إسلامنا واتّبَعَ هواه أيْ سارَ خَلْفَ أفكاره الشَّرِّيَّة في عقله باختياره ففَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار سواء أكانت هذه الشرور كفراً أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا، وكان أمْرُهُ أيْ فِعْلُهُ كلّه فُرُطَاً أيْ تفريطاً في كل خيرٍ وإفراطاً في كل شرٍّ وضَرَرٍ وانْحِلالٍ وضَياعٍ وعدم انضباطٍ في أيِّ شيء، وإلا حتماً تَعِسْتَ مثل تعاساته في دنياك وأخراك، بل عليك أن تُطيع الصالحين السعداء لتَصْلُح فتَسعد مِثْلهم فيهما.. إنَّ مِثْل هذا الغافِل لمَّا تَرَك وأهمل الإسلام، واختار بكامل حرية إرادة عقله أن يكون غافِلَاً أيْ تائِهَاً ناسِيَاً ضائعاً لاهِيَاً عن ذِكْر ربه في حياته لا يَدْرِي ما يُصْلِحه ويُكْمِله ويُسْعِده فكان تَعيساً في دنياه وسيَتعس أكثر وأشدّ في أخراه إنْ لم يَسْتَفِق ويَعُدْ لِذِكْره ويَتّبِع إسلامه، فإنَّ الله لا يَمنعه من غفلته ويشاءها له أيْ يَتركه فيها، في ظلامه لا يُبْصِر أيْ لا يُدْرك ولا يعقل أيَّ نورٍ أيْ لا يَرَيَ أيَّ خيرٍ وسعادةٍ ولا يهتدي إليهما ولا إلي الطريق للخروج مِمَّا هو فيه مِن شرٍّ وتعاسة، يتركه في ظلماتٍ مُضَاعَفَة، في حالةٍ دائمة من التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ، يَتركه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص علي الغفلة دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد : 11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذه الغَفْلَة، هذا المرض الذي هو فيه، هذه الظلمات التي هو فيها، فكأنه تعالي هو الذي أغفل قلبه أيْ عقله لكنَّ الواقع أنه هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله مرضه هذا (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض من أمثاله قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ثم بعد موتهم، في قبورهم ويوم القيامة، سيَتركهم الله حتماً في ظلماتٍ لا تُوصَف من العذاب والتعاسة أشدّ وأعظم مِمَّا لاقوه من ظلماتِ وتعاساتِ دنياهم.. إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم فحينها يسعدون في الداريْن ولا يتعسون فيهما
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم ما جِئتكم به من القرآن العظيم وأدعوكم للعمل بكل ما فيه من أخلاق دين الإسلام بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ هو الحقّ أي الصدْق التامّ الثابت المُؤَكَّد بلا أيِّ باطلٍ الذي وَصَلَكم من عند ربكم – أي مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – والذي فيه كل الصلاح والكمال والسعادة لكم في الداريْن لو عملتم بكل أخلاقه، بينما غيره من الأنظمة والتشريعات التي تُخَالِفه هي بالقطع مُضِرَّة مُتْعِسَة لكم فيهما.. إنه ليس من عندي ولا غيري من أيِّ بَشَرٍ فيمكن تغييره أو تبديله بل هو شَرْع الله الأَخْيَر والأفضل والأكمل والأسعد للبشرية كلها في الداريْن الذي يُنَظّم كل شئون الحياة علي أكمل وجهٍ فيُسْعِد كل لحظاتها لأنه من عند الله الخالق العدل الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الحكيم العليم الذي هو علي كل شيءٍ قدير والذي يَعلم ما يُصْلِح خَلْقه ويُكْمِلهم ويُسعدهم فهُمْ خَلْقه وصَنْعَته والصانع سبحانه هو الأقْدَر علي إرشاد صنعته بكلّ دليلِ خيرٍ مُسْعِدٍ.. ".. فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.. " أيْ فبالتالي إذَن إذا كان الأمر كذلك حيث قد تَبَيَّنَ واتّضَحَ تماماً أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة من خلال تشريعات ربكم وأنظمته وأخلاقيَّاته التي بَيَّنَها وفصَّلها لكم في دينه الإسلام، فمَن أرادَ منكم أن يؤمن به أيْ يُصَدِّق ويعمل به فليؤمن إذَن فسيكون له كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه، ومَن أراد منكم أن يكفر به أيْ لا يُصَدِّقه فيَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فليكفر فسيكون له حتماً كل شَرٍّ وتعاسةٍ فيهما، فإنه لا يظلم إلا نفسه، فالأمر لا إكراه فيه كما يقول تعالي "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.." (البقرة:256) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، لكنْ كلّ إنسانٍ سيَتَحَمَّل نتيجة اختياره، فقد اختار الإيمان أو الكفر بكامل حرية إرادة عقله، وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ ضِمْنِيٌّ لمَن يكفر لعله يستفيق ويعود لربه فيؤمن ويعمل بالإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس بهما.. ".. إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا.." أيْ ولِمَن كَفَرَ ولِمَن أساءَ فلم يَسْتَجِب للحقّ فنحن قد أعْدَدنا وجَهَّزنا في الآخرة للظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – ناراً شديدةً لا تُوصَف لتعذيبهم علي قَدْر سُوئهم قد أحاط أيْ لَفَّ بهم سُورُها من كل جانبٍ إحاطة تامَّة بحيث لا يكون لهم أيُّ أملٍ في أيِّ هَرَبٍ وخَلاصٍ ونجاةٍ منها.. ".. وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ.." أيْ وإنْ يَطلبوا الإغاثة أي النّجْدَة والمَعُونَة السريعة والإنقاذ من أجل النجاة من شِدَّة العذاب والحرارة والإنهاك والعَطَش يُعانُوا ويُنْقَذوا بماءٍ يَزيدهم عذاباً ويَهْزَأ بهم ويُهينهم لأنهم كانوا يَتَوَقّعون أن يَرويهم ويَقطع أملهم في إنقاذهم مِمَّا هم فيه فهم يُعذَّبون من حيث ينتظرون الرحمة لأنه يكون كالمُهْل أي كالمَعْدن الحارّ المُذاب الشديد السخونة الذي يَحْرِق الوجوه للمُعَذّبين وأجسامهم وأمعاءهم ويَجعلها بلهيبه وشِدَّة حرارته كاللحم المَشْوِيِّ وذلك عند مُحاولتهم الشرب منه.. ".. بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)" أيْ ما أسْوَأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا الشراب، وساءت النار مَكَانَاً للارْتفاق أيْ مَنْزِلَاً يَنْزِلون به أيْ وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المرْتَفَق أيْ المكان والمَنْزل والمرْفق الذي يكون فيه الارتفاق أيْ الانتفاع والرِّفْق والأمان والارتياح، لأنه بالقطع انتفاعٌ مَعْكُوسٌ ليس فيه أيّ رِفْق وأمان وارتياح! فهو انتفاع بكل عذابٍ وسُوءٍ وشَرٍّ وضَرَرٍ وخوفٍ وتَعَبٍ وشقاءٍ مُسْتَمِرٍّ لا يُوصَف!! يُناسب سُوءهم وشَرّهم وضَرَرهم الذي فعلوه في دنياهم.. هذا، ولفظ "مرتفقا" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المنزل مكانا للراحة لا للعذاب!.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)"، "أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أيْ عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فبسبب إيمانهم وعملهم الصالحات فنحن لا يمكن أبداً أن نُضِيع ونُذْهِب أجر من أحسن عملا أيْ من أتقن وأجاد عمله في كلّ تصرّفاته بكل شئون حياته المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، بل نُعْطِيه له كاملا علي قَدْر إحسانه لأعماله بل ونُنمِّيه ونزيده أضعافاً مُضَاعَفَة بلا حسابٍ من فضلنا وكرمنا ورحمتنا وحُبِّنا له، في دنياه أولا حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَته بنا وعمله بأخلاق إسلامه، ثم في أخراه حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد.. "أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها لهم حتماً في الآخرة جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ولن يَخرج منها أبداً ولن يُخرجه أحدٌ ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم، يُدْخِلهم خالقهم الكريم الودود الغفور الرحيم إيَّاها، وهم تجري من أسفل قصورهم وحدائقهم الأنهار أيْ يُطِلّون علي كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وهم لهم فيها كلّ ما يريدون من أنواع النعيم الطّيِّب التامّ اللّذّة، فمَهما طَلَبوا وَجَدوا ما يَطلبون حتي بمجرّد تَمَنّيه في خاطِرهم، وهم يُحَلّوْنَ فيها أيْ يَتَزَيَّنون فيها بكل ما يُسعدهم كأساور الذهب ونحوها – جَمْع سِوار وهو حِلْيَةٌ مستديرة كالحلقة تُلْبَس في اليد – ويَلبسون أفخم الثياب بكل أشكالها وأنواعها وألوانها المُسْعِدَة المُريحَة التي تَدلّ علي رفاهيتهم التامّة وتكريمهم التّامّ فهم يَلْبسون ثيابا خضراء كلَوْن الزروع النضرة المُطَمْئِنَة المُبْهِجَة للنفوس وغيرها مِمَّا يُحِبّونه من ثيابٍ وألوانٍ حسبما يريدون والتي نُسِجَت مِن سُندسٍ أيْ حريرٍ رقيقٍ وإستبرقٍ أيْ حرير سميكٍ ونحو هذا، وفي بعض أحوالهم يكونون فيها مُتَّكِئين أيْ جالِسين جلْسَةً وسطاً بين الجلوس ومَدّ الجسم للنوم وهي تُفيد تمام التمتع بالراحة والاسترخاء، علي الأرائك جَمْع أَرِيكَة وهي ما يُجْلَس عليه كالسرير وما يُشبهه المَفْروش بالمَفْرُوشات الفَخْمَة اللّيِّنَة المُريحَة تمام الراحة.. ".. نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)" أيْ ما أَنْعَمَ وأَخْيَرَ وأَطْيَبَ وأَسْعَدَ هذا الأجر والجزاء والعَطاء العظيم الهائل الكريم، وحَسُنَت الجنة مَكَانَاً للارْتفاق أيْ مَنْزِلَاً يَنْزِلون به أيْ وما أَحْسَنَ وأَخْيَرَ وأَطْيَبَ وأَسْعَدَ هذا المرْتَفَق أيْ المكان والمَنْزل والمرْفق الذي يكون فيه تمام الارتفاق أيْ الانتفاع والرِّفْق والأمان والارتياح والنعيم والرفاهية والرحمة والسعادة التامَّة الخالدة.. وفي هذا تشجيعٌ للناس جميعاً علي أن يكونوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لِتَتِمَّ سعاداتهم في الداريْن
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ وكذلك اذْكُرْ وبَيِّنْ للناس جميعاً يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مثلاً يُتَّعَظ به – إضافة إلي مَا ذُكِرَ سابقاً مِن مَوَاعِظ – هو رَجُلِيْن، أحدهما مؤمن والآخر كافر، أحدهما مُطيع عامِل بأخلاق الإسلام والآخر عاصٍ مُخَالِف لها كلها أو بعضها، أعطينا لأحدهما، وهو الكافر العاصِي، جنّتَيْن من أعنابٍ أيْ حديقَتَيْن جميلتَيْن من أنواع مُتَعَدِّدَة من العِنَب، وهذا رَمْزٌ لصنفٍ من الفاكهة مُتَمَيِّز نافع مُرْبِح لمَن يمتلكه، وحَفَفْناهما أيْ وأَحَطْناهما بنخلٍ يُنْتِج كذلك تمراً نافِعَاً مُرْبِحَاً ليكون هذا النخل الكثير كسُورٍ لهما يُحيطهما ليَحفظهما ولِيُزَيِّنهما وليس سُورَاً عادِيَّاً من بناءٍ أو سِلْكٍ أو غيره، وجعلنا وأنبتنا أيضاً بينهما أيْ بين الجنتين زَرْعَاً أيْ مَزْرُوعات أخري كثيرة مُتَنَوِّعَة نافِعَة مُرْبِحَة، وكل ذلك يُفيد الفَخَامَة ووَفْرَة الرزق والمال
ومعني "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لجَوْدَتهما وكثير خيراتهما.. أيْ كلّ واحدةٍ من الحديقتين أعْطَتْ ثمرها مِمَّا يُؤْكَل ويُباع كامِلاً كثيراً وَفِيرَاً ولم تنْقص منه شيئا.. ".. وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)" أيْ وشَقَقْنَا فيهما نهراً جارِيَاً ليمدّهما بما يحتاجان إليه من ماءٍ بلا تَعَبٍ ويزيدهما بهجة ومنفعة فيكون سَقْيهما سَهْلٌ مَيْسُورٌ دون حُدُوث جفافٍ لهما حيث مياههما من داخلهما ولا حاجة لماءٍ من خارجهما قد يصعب الحصول عليه أو تكون تكلفته عالية فيتحقّق بذلك الإنتاج الوفير والربح الكثير
ومعني "وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)" أيْ وكان لصاحب الحديقتين مالٌ مُثْمِرٌ مُتَزَايِدٌ كثيرٌ غيرهما إضافة لثَمَرِهما، مِن تجارةٍ ونحوها، فاغْتَرّ بماله وبكثرة أنفاره فقال لصاحبه المؤمن وهو يُحاوره في الحديث ويتكلّم معه والغرور والكِبْر والفَخْر يَملؤه مُتَعَالِيَاً مُسْتَكْبِرَاً عليه مُقَلّلَاً مُحَقّرَاً من شأنه أنا أكثر منك مالا وأقْوَيَ أنصاراً وأعواناً من أولادٍ وأقارب وخَدَمٍ وعُمَّالٍ وأتْباعٍ ونحوهم
ومعني "وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)" أيْ ولم يَكْتَفِ باسْتِكْباره وتَطاوُله علي غيره بل ودخل حديقته وهو ظالمٌ لنفسه لأنه ظلمها ومَن حوله ولم يَعْدِل معها ومعهم فأتعسها وأتعسهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وقال مُنْخَدِعَاً بحال الغِنَيَ الذي هو فيه مُتَوَهِّمَاً دَوَام حال الدنيا إلي الأبد بلا مُتَغَيِّراتٍ لا أعتقد ولا أثِق وأتَشَكّك أن تَهْلك وتَفْنَيَ وتَنتهي هذه الحديقة أبداً مَدَيَ الحياة فهي جيدة لا تَتْلَف!! وذلك لسوء تفكيره بسبب إغلاقه لعقله ونسيانه لربه وتقديراته في كَوْنه وخَلْقه
ومعني "وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)" أيْ ويضيف إلي قوله السَّيِّء السابق قولاً أشدّ سوءَاً وهو أنه مُتَشَكّك في قيام الساعة أيْ حُدُوث يوم القيامة والبَعْث بالأجساد والأرواح في الآخرة مُكَذّب بها مُستهزيء بما فيها من حسابٍ وعقاب وجنة ونار.. أيْ ولا أعْتَقِد ولا أَثِق وأتَشَكَّك أنَّ الساعة حادِثَة حاصِلَة واقِعَة مُتَحَقّقة، أي الساعة المُحَدَّدَة لنهاية الحياة الدنيا وقيام الحياة الآخرة يوم القيامة حيث ساعة أيْ وقت الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار، وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها.. ".. وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)" أيْ ولو افْتِراضَاً كان هناك آخرة موجودة كما تَدَّعون أيها المؤمنون وأُعِدْتُ وأُرْجِعْتُ إلي ربي الذي تَدَّعونه باعتبار أنكم صادقون سأَجِدُ بالتأكيد عنده أفضل من هذه الحديقة مَرْجِعَاً أَرْجِع إليه، أيْ سأجد مرجعا أكثر خيراً من الحالة التي أنا فيها الآن، وذلك لكرامتي ومَنْزِلَتي عنده ولأننى أهْلٌ للنعيم في كل حال! إذ لوْلا مَكَانتي عنده ما أعطاني ما هو عندي حاليا فأنا مُسْتَحِقّ له وسيَبقي لي وأجد أكثر منه في الآخرة التي تَدَّعونها!! إنه يَتَوَهَّم أنَّ إعطاء نِعَم وخير الآخرة سيكون مثل إعطاء نِعَم وخير الدنيا!! وهذا مِن شدّة جهله وتكبّره وغروره وجرأته علي ربه وقوله عليه بغير علم وتعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قال له صاحبه المؤمن حينها وهو يحاوره في الحديث ويتكلم معه واعِظَاً له داعِيَاً إيّاه لله وللإسلام بكل حكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ هل كَذّبْتَ بوجود الله الذي خَلَقك بقُدْرَته أيْ أَوْجَدَك من تراب، حيث أبوك آدم من طين، ونحن جميعا من سلالته، ثم تَتَكَوَّن كجنين علي مراحل دقيقة في بطن أمك من ماءٍ مَهين تعرفه يَحمل نُطْفَة هي المَنِيّ من أبيك لتَتَّحِدَ مع بويضة من أمك، فتَتَكَوَّن عَلَقَة أي مجموعة خلايا دقيقة تتعلّق بجدار الرحم الداخلي، ثم تتطوّر وتَنمو وتُولَد طفلا لا تعلم ولا تستطيع أيّ شيء، ثم تَكبر وتَقوَيَ وتُرْزَق وتَنتشر في الأرض تَنتفع من خيراتها وتَسعد بها، ثم سَوَّاك رجلا أي صَوَّرك وشَكّلك رجلا علي الصورة التي اختارها لك وأكمل خَلْقك وجعلك فى أحسن تقويمٍ أيْ في أكمل وأفضل تقديرٍ وشَكْلٍ وصُورةٍ مُتَّصِفَاً بأجمل ما يكون من الصفات الجسدية والنفسية والعقلية سَوِيَّاً أيْ سليما خاليا من الخَلَل والاضطراب والنقصان مُتَنَاسِقاً مُتَوَازِنَاً في أعضائك وشكلك لا خَلَلَ ولا اعوجاج فيك بل علي أحسن صورةٍ وأدَقّها وأتَمّها مُجَهَّزَاً لتحقيق منافعك بكل تَنَاسُقٍ وإحكامٍ وإتقانٍ وإحسان.. إنَّ خلق الله تعالى لك من ترابٍ ثم نطفةٍ ثم تسويته إيّاك رجلا، وكل هذه الأمور التي لا يستطيع أن يُكَذّبها أيُّ أحدٍ ولا أن يَدَّعِيَ أنه يَخْلِقها لا هي ولا أيٍّ من مخلوقات الله المُعْجِزات المُبْهِرات في كل كوْنه، كان مِن المُفْتَرَض مِن أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنْ يُقابِل ذلك بالإيمان بهذا الخالق العظيم واتّباع دينه الإسلام وشكره علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ والتوكّل عليه وحده لا الكفر به والتّعالِي عليه وعلي خَلْقه وإنكار قُدْرَته علي بَعْث الناس يوم القيامة للحساب والعقاب والجنة والنار رغم أنَّ القادر علي الخَلْق أول مرة مِن عَدَمٍ قادرٌ حتماً علي إعادته حيث الخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قدْر ما تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. وفي هذا تذكيرٌ للإنسان بالآخرة والبَعْث والحساب والذي سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لحُسْن الاستعداد لذلك بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، كما أنَّ فيه تذكيراً له بالتواضُع، حيث أصله مَخْلوق من طين، ثم من نُطْفةٍ ضعيفة مهينة، وله أجَل محدود في الحياة ثم يعود مرة أخري للطين والتراب والدود بعد موته، فعَلَيَ ماذا يَتَعَالَيَ إذَن ويَتَكَبَّر علي خَلْق الله أو علي خالقه ذاته ورسله ودينه الإسلام؟!.. إنه بانتشار التواضُع، الاحترام، المساواة، الأدب، حُسْن التعامُل، كل أخلاق الإسلام، يسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، وبعكس ذلك يتعسون فيهما
ومعني "لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)" أيْ هذا إعلانٌ صريحٌ حاسِمٌ من المؤمن عن إيمانه بالله واتّباعه لدينه الإسلام ليسعد في الداريْن ولا يتعس فيهما.. أيْ إنْ كنتَ أنتَ تقول أنك تكفر بالله تعالي وبالبعث وبالحساب لَكِنْ أنا أقول – ولفظ "لَكِنَّا" مُكَوَّنٌ مِن لَكِنْ أنا ثم حُذِفَت الألف وأُدْغِمَت النون في النون فصارَت لَكِنَّا – هو الله ربي وحده الذي خَلَقَنِي والكَوْن كله بكل مَخْلوقاته المُعْجِزات المُتَوَلّي دائماً لأمورهم كلها علي أكمل وأسعد وَجْهٍ المُنْعِم عليهم بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وحده وللشكر وللتوكّل دَوْمَاً عليه وحده.. ".. وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ الله هو وحده ربّه وربّ العالمين.. أيْ ولا ولن أشارك مع ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – في العبادة أحداً أبداً مهما كان أيْ لن أعبد آلهة غيره كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو بَشَر ضعفاء يُصيبهم المرض والفقر والموت مثلنا وكلها لا تنفع ولا تمنع ضَرَرَاً وليس لها أيّ صفةٍ مِن صفات الكمال التي يَتَّصِف بها الإله بل أعبده وحده بلا أيِّ شريكٍ فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)"، "فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)"، "أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)" أيْ هذا تَرْغيبٌ من المؤمن المُطيع للكافر وللعاصي في الإيمان بالله والعمل بأخلاق الإسلام والشكر لِنِعَمه التي لا تُحْصَيَ وحُسْن استخدامها لِتَتِمّ السعادة في الداريْن، وتَرْهيبٌ وتَحذيرٌ من الكفرِ به وإنْكارِ نِعَمه وتَرْكِ الإسلام كله أو بعضه وفِعْل السوء حتي لا تُسْحَب النِّعَم بسبب سوء الاستخدام لها ويكون العذاب والشقاء فيهما علي قَدْر ما يُفْعَل من سُوء.. أيْ ولو حين دخولك حديقتك، وكل مكانٍ تَرَي فيه خيراً لك ولغيرك، حَمدْتَ الله وقلتَ هذا ما شاء الله لي ولا قوة لي على تحصيله إلا بعوْن الله وقوّته وتوفيقه وتَيْسيره لأسباب ذلك، لَكَانَ خيراً لك، حيث حَمْدك له علي نِعَمه واعترافك بأنها بسبب مشيئته وقوّته وما أنت وغيرك إلا أسباب لتحصيلها وكان من المُمْكِن ألا يُنْجِح أسبابكم فلا تَحْصُل عليها، يَجْعله يَحْفظها ويزيدها لك ويُوَفّقك لحُسْن استخدامها في كل خيرٍ فتنتفع وتسعد بذلك في دنياك وأخراك.. هذا، ولفظ "لَوْلا" في اللغة العربية من معانيه أنه يُفيد الحَثّ والتشجيع والطلب بإلْحاحٍ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده.. ".. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)" أيْ إنْ كنتَ ترانِى الآن أنا أقل منك مالاً وأقل أولاداً وأنصاراً وأعواناً ولذلك تَتَعالَيَ وتَتَفاخَر عَلَيَّ وعَلَيَ أمثالي.. "فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)" أيْ فلعلّ ربي أن يُعطيني خيراً من حديقتك من كل أنواع الأرزاق في الدنيا أولا يوماً مَا في التوقيت وبالأسلوب الذي يَراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً لي ولمَن حولي، ثم حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ سيُعطيني في الآخرة خيراً وأعظم منها في نعيم جناتٍ أُعِدَّت للمؤمنين فقط فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وفي ذات الوقت فلعلّ ربي خالِقي وخالِقك والخَلْق جميعا والذي تَكفر به وبتمام قُدْرته وكمال علمه وتَعْصاه وتُكَذّب بَعْثَه للناس لحسابهم ولا تُصَدِّق بآخرته وجنته وناره وحسابه وعقابه فتَفعل السوء لعلّه بسبب كُفرك وسُوئك هذا أنْ يَبْعَث علي حديقتك ومُمْتَلَكاتك التي لا تَشكره عليها وتَتَعالَيَ بها علي الناس وتُؤذيهم وتُسيء استخدامها في الشرِّ لا الخير في وقتٍ مَا وبشكلٍ مَا حُسْباناً من السماء أيْ عذاباً منها يكون حساباً لأعمالك السيئة كمطرٍ غزيرٍ مُهْلِكٍ أو عواصف أو صواعق مُدَمِّرَة أو ما شابه هذا، فتَصِير بسبب ذلك صعيداً أيْ تُرابَاً زَلَقَاً أيْ تَنْزِلق عليه الأقدام فلا تَثْبُت أيْ تصير تراباً أَمْلَسَاً يابِسَاً لا شيء فيه من نباتات أو كائنات أو جمادات أو غيره أيْ تصير عديمة النفع حتي من المَشْي عليها، فيَسْحَب بالتالي منك نِعَمه عليك التي تُسِيء استخدامها كعقابٍ لك.. فانْتَبِه واحْذَر إذَن هذا التّبَدُّل للحال بأنْ تُسْلِم وتَشْكُر وتُحْسِن استخدام النِّعَم.. "أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)" أيْ أو يصير ماؤها بقُدْرَة ربي غائراً في الأرض ذاهِبَاً عميقاً فلا تَقْدِر بالتالي أبداً تَحْصِيلَاً له بأيِّ وَسِيلَةٍ من الوسائل لكي تسقيها فيهلك زرعها بعد أن كان النهر يَمُرّ بها
ومعني "وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)" أيْ وبالفِعْل حَدَثَ مَا تَوَقّعه المؤمن وحَذّره تَحْذيرَاً شديداً من احتمالِيَّة بل حَتْمِيَّة حُدُوثه، فمَن أساءَ لابُدَّ حتما أنْ يَجِدَ إساءةً حتي ولو بعد حين، فالأمر مِن باب الأسباب والنتائج الذي نَبَّه له سبحانه بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. أيْ وأحاطَ الله الهلاك والدمار بثمره بحُسْبانٍ من السماء بقُدْرَته أيْ لَفّه حوله من كل جانبٍ إحاطة تامَّة بحيث لا يكون هناك أيّ أملٍ في أيِّ خَلاصٍ ونجاةٍ منه حتي أهلكه كله، فصار هذا الكافر والعاصِي بالتالي بسبب ذلك يَضْرب بكَفّه علي كَفّه الآخر نَدَمَاً وتَحَسُّرَاً شديداً علي ما أنفق في عمارتها من جهدٍ كبيرٍ ومالٍ كثيرٍ ناظراً إلي حالها بكل ألمٍ وهي خاوية علي عروشها أيْ خالية ساقطة قد سَقَطَتْ جدرانها وأعمدتها علي عروشها أيْ سُقُوفِها فهي مُدَمَّرَة مُهَدَّمَة خَرِبَة فارغة مَهْجُورة قد هَلَك كل زرعها ونَخْلها وعِنَبها وثمرها، وهو يقول بما يَدلّ علي زيادة شِدَّة تعاسته وحَسْرته ونَدَمه وحُزْنه وذِلّته يا ليتنى أيْ كنتُ أتَمَنّيَ لو اتّبَعْتُ نصيحة صاحبى فلم أشرك مع ربى أحداً فى عبادته واتّبَعْتُ دينه الإسلام وعرفتُ نِعَمه وقُدْرَته فلم أُعَذّب وأتعس بل أُرْحَم وأسعد حيث الآلهة التي عبدتها غيره لم تنفعني بأيِّ شيء، وهذا نَدَمٌ وتَمَنّي منه في وقتٍ لا ينفعه الندم ولا التّمَنّي إذ قد حَدَثَ ونَزَلَ العذاب بالفِعْل.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة يُفيد احتمالية أنَّ نَدَمَه كان حقيقياً كجزءٍ مِن توبةٍ صادقةٍ منه أيْ عَوْدَةٍ لربه وللإسلام وحينها حتماً سيُعَوِّضه الله خيراً وسعادة في الداريْن بسبب صِدْق توبته.. إنَّ هذا بيانٌ لتمام عدل الله تعالي بأنه لا يُغَيِّر نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، كما يقول "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال:53)، فهذا من قوانينه سبحانه العادلة في الحياة، أنه مَن أساء استخدام نِعْمَة مَا مِن نِعَمِه عليه والتي لا تُحْصَيَ، فاستخدمها في شَرٍّ مُتْعِس، وما أعطاه إيّاها إلا ليستخدمها في خيرٍ مُسْعِدٍ، له ولغيره، فإنه يَسْحبها منه، بعضها أو كلها، فجأة أو تدريجياً، حتي لا يزداد بها سوءاً وضَرَرَاً وتعاسة عليه ومَن حوله، ولعله يستيقظ بهذا فيعود للخير لتعود له نِعَمه فيَسعد بها، فهذا هو قانون الأسباب والنتائج وهو القانون الإلهيّ العادل للحياة والذي نَبَّهنا له ربنا بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7) فمَن زَرَعَ خيراً حَصَدَ خيراً ومَن زرَع شرَّاً فلن يَحصد بالقطع إلاّ كلّ شرّ، ومَن كان دوْماً مِن الشاكرين لربه علي نِعَمه، بعقله باستشعار قيمتها وبلسانه بحمده وبعمله بأنْ يستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. إنَّ ذلك العذاب الذي ينزل بأمثال هؤلاء الكفار ومَن يَتَشَبَّه بهم هو بسبب أنَّ الله بتمام عَدْله وحِكْمته لا يُغَيِّر ولا يُبَدِّل أبداً نعمة أنعمها علي أناسٍ كأمنٍ ورخاءٍ وقوةٍ وسعادةٍ وغير ذلك إلي خوفٍ وفقرٍ وضعفٍ وتعاسةٍ حتى يبدأوا هم بأنْ يُغَيِّرُوا ما بأنفسهم بأنْ يكفروا ويظلموا ويفسدوا وبالجملة يتركوا إسلامهم كله أو بعضه فحينها يُغَيِّر تلك النِّعَم إلي مصائب تُناسب سُوءهم.. فَلْيَتّعِظ إذَن مَن أرادَ الاتّعَاظ ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنالَ مصيرهم
ومعني "وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)" أيْ وحينها لم تنفعه أيُّ فئةٍ أيْ مجموعةٍ حوله مِن أنصارٍ وأعوانٍ من أولادٍ وأقارب وخَدَمٍ وحَرَسٍ وعُمَّالٍ وأتْباعٍ ونحوهم مهما بلغت قوّتها – مِمَّن كان يقول فيهم لصاحبه المؤمن أنا أكثر منك مالا وأعَزّ نَفَرَاً – أنْ ينصروه أيْ يَنْقذوه من عذاب الله والذي لا ناصر وقتها غيره سبحانه وهو قد أمَرَ بعذابه، ولا كان هو بالقطع مُنتصراً لنفسه أيْ مُستطيعاً لإنقاذها بقوّته بمُفْرَدِه (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة.. أيْ عند ذلك الوقت والحال – ودَوْمَاً قطعاً في كل حالٍ من أحوال الدنيا ثم الآخرة – الذي يُحْدِث الله فيه هذا العقاب بالسوء لمَن أساء، والعطاء بكل خير وسعادة لمَن أحسن، يَتَبَيَّنَ تماماً أكثر من أيِّ وقتٍ لكل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ الولاية الحقّ أيْ الحقيقية لا الوَهْمِيَّة – أي السلطان والحُكْم والنفوذ الحقيقي وإعطاء النصر والرزق والعِزَّة أو الهزيمة والفقر والذلّة – هي بالقطع لله وحده الذي هو الحقّ أيْ الذي لا يُخالِطه أيّ شكّ المُتَحَقّق تماماً وجوده وسلطانه المالِك للمُلْك كله والخالِق للخَلْق جميعهم والمُتَوَلّي لكل أمورهم فلا سلطان ولا حُكْم ولا ولاية لأيِّ أحدٍ غيره المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريكٍ العدل الذي لا يَحكم إلا بالحقّ الذي يَنصر ويُعِزّ ويُسعد في الداريْن أولياءه المؤمنين أيْ الذين يجعلونه وَلِيَّاً لهم يَتَوَلّيَ كل أمور حياتهم ويَهزم ويذِلّ ويتعس فيهما أعداءه الكافرين والمُتَشَبِّهين بهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسباً مُسْعِدَاً لأوليائه، ويَتَبَيَّن ويَتّضِح كذلك وضوحاً تاماً أنَّ اللجوء في الدنيا لطَلَب العَوْن والتيسير والنصر والخير والسعادة لا يكون إلا إليه سبحانه فهو وحده الوَلِيّ بحَقّ وبصِدْق وبجدّ الذي يَتَوَلّيَ شئون جميع خَلْقه علي أكمل وأسعد وجْهٍ أمّا ولاية غيره فهي كاذبة خادِعَة وَهْمِيَّة غير مُؤَكّدَة غير نافعة وقت الشدَّة غير مُستَمِرَّة.. ".. هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)" أيْ وإنه هو خَيْرُ مَن يُثيب – أي يُجزي ويُعطي جزاءً وعَطَاءً عظيماً هائلاً كريماً – المؤمنين العاملين بأخلاق إسلامهم بكل خيرٍ وأمنٍ ونصرٍ وسعادةٍ في الداريْن، فعطاؤه أخْيَر عطاءٍ بلا مُقارَنَة، وخيرُ مَن يُحْسِن لهم عاقبتهم أيْ نهايتهم في آخرتهم بسبب حُسْن أعمالهم في دنياهم بما هو أعظم وأتَمّ وأخْلَد خيراً وأمْنَاً ونصراً وسعادة مِمَّا كانوا عليه فيها وذلك عندما يَصيرون إليه عند بَعْثهم يوم القيامة، فالنهاية في نعيم جناته الذي لا يُوصَف هي أَخْيَرُ انتهاءٍ يتَمنّاه ويأمل فيه كل المؤمنين
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ وكذلك اذْكُرْ وبَيِّنْ للناس جميعاً يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم – إضافة إلي مَا ذُكِرَ سابقاً مِن مَوَاعِظ – حال وشَبَه الحياة الدنيا في ازدهارها ثم سرعة زوالها وزوال مُتَعها، أنها كحالِ وشَبَهِ ماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط بهذا الماء نبات الأرض فنَمَا وكَثُر واختلط ببعضه لكثرته واخضرّ وأَزْهَرَ وأَثْمَرَ وأَبْهَجَ فجَفَّ بعدها فأصبح هَشِيمَاً تَذْرُوه الرياح أيْ فصارَ مُتَفَتّتَاً تَنْثُره وتُفَرِّقه الرياح، هكذا بكل سرعة!! فكأنه ما كان!!.. والمقصود أنْ تذكّروا دائما ولا تنسوا أبداً أيها الناس أنَّ هذه الحياة الدنيا – أيْ القريبة والأدني نسبة للأعلي وهي الآخرة – حتي ولو كانت كلها خير وسعادة كحياة المؤمنين العاملين بكل أخلاق إسلامهم فهي لا تُذْكَر بالنِسْبة إلي الحياة الآخرة الخالدة والتي هم مُوقِنون بها والتي فيها لهم لا لغيرهم نعيم جناتٍ بها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأحْسِنوا بالتالي إذَن تمام الإحسان الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية، بلا أيّ موت، بلا أيّ تَعَب، بلا أيّ ذرّة تعاسة، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين.. إنَّ الآية الكريمة تُفيد سرعة زوال مُتَع الحياة الدنيا وأنها مهما طالَت فلا تُذْكَر بالنسبة للآخرة التي لا نهاية لها، وأنها ستَنتهي يوماً مَا، إمّا بتَلَفٍ أو خسارة أو بانتهاء وقتها أو صلاحيتها أو باستهلاكها أو بما شابه هذا، أو بعدم القدْرة علي التمتّع بها بمرضٍ أو عَجْزٍ أو نحوه، أو بموتٍ يأتي فجأة، وكل ما هو آتٍ فهو قريبٌ مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد سواء الموت أو عقاب الدنيا والقَبْر لِمَن يَسْتَحِقّه أو يوم القيامة والحساب وبالتالي فأحْسِنُوا طَلَب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (24) من سورة يونس "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.."، والآية (4)، (5) من سورة الأعلي "وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ"، "فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)" أيْ وكان الله قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، علي كلّ شيءٍ مقتدراً أي قادراً كاملَ القُدْرة من حيث الإنشاء والإفناء الذي لا يَصعب عليه أيّ شيءٍ يريد فِعْله وتحقيقه وإنما يقول له فقط كن فيكون كما أراد ولا يمنعه أيّ مانعٍ حتما
ومعني "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتوضيح لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ الأموال والأولاد جمالٌ ومُتْعَةٌ وقوّةٌ لكم في الحياة الدنيا ولكنْ لا دوام لها فهي قريباً فانِيَة غير باقية (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (14)، (15) من سورة آل عمران "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ.."، "قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ.."، ثم الآية (9) من سورة (المنافقون) "يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ"، ثم الآية (15) من سورة التغابن "إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ"، ثم الآية (37) من سورة سبأ "وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً.."، لمزيد من الشرح والتفصيل).. ".. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)" أيْ المال والبنون كل ذلك يَفْنَيَ ولكن الطاعات بكل أنواعها من أقوالٍ وأفعالٍ التي يُصاحِبها نوايا خيرٍ – بما فيها إحسان استخدام المال والبنون في كلّ خيرٍ لا شَرّ – هي الباقيات الصالحات التي تَبْقَيَ للإنسان غير فانية يَسعد دائماً بنتائجها من ربه والمُتَمَثّلَة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياه ثم أخراه حيث هي حتماً خيرٌ عند ربه ثواباً أيْ أفضل وأعظم جزاءً وعطاءً وأجراً دنيوياً وأخروياً مُجَهَّزَاً مُعَدَّاً مَحْفُوظاً له عنده وموجوداً في حُكْمِه وشَرْعِه بكرمه وفضله ورحمته من الأموال والأبناء التي يُسَاء استخدامها، وهي حتماً كذلك خيرٌ أملاً أيْ أفضل وأعظم أملاً له من صاحب المال والبنين دون عملٍ صالح حيث ينال بها في الآخرة أفضل مِمَّا كان يأمله هؤلاء الأغنياء في تحصيله من دنياهم إذ سينال ما كان يأمله – أي ينتظره باستبشارٍ ويرجوه ويحبّه ويتمنّاه ويتوقّعه – أثناء وجوده في الدنيا من نعيم ربه الخالد في جناته التي بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بشر وسيُحقَقه بالفِعْل لأنه أملٌ صادقٌ لأنه وَعْدٌ صادقٌ من الله تعالي الذي لا يُخْلِف وَعْدَه مطلقاً بينما صاحب المال والبنين دون عملٍ صالح ليس له أمل في الآخرة وحتي لو حَقّق بعض آماله الدنيوية في الدنيا فهي إلي زوالٍ يوماً مَا بينما تحقيق أمل الآخرة يكون خالداً لن يزول أبداً بعد تحقّقه.. وفي هذا تشجيعٌ للناس جميعاً علي أن يكونوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات الباقيات وأحْسَنُوا طَلَبَ الدنيا والآخرة معا لِتَتِمَّ سعاداتهم فيهما
ومعني "وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)" أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد.. أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد، اذكروا يوم القيامة، يوم لا تَنْفع إلا الباقيات الصالحات، يوم تَحْدُث مُتَغَيِّرات هائلة تدلّ علي نهاية الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة والتي منها أننا نُحَرِّك ونُذْهِب ونُزِيل الجبال من أماكنها بعد تَفْتِيتها، وتُشاهِد الأرض ظاهرة للأَعْيُن لا يَسترها أيّ شيءٍ مِمَّا كان عليها من مخلوقاتٍ حيث قد فَنِيَت كلها، وحَشَرْناهم أيْ وجَمَعْنا وحَشَدْنا الناس جميعاً مَحْشُورِين مُتَزَاحِمين فلم نترك منهم أحداً منذ آدم حتي نهاية الحياة الدنيا لحسابهم علي كل أقوالهم وأفعالهم بعد بَعْثِهم بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم بعد كَوْنهم ترابا
ومعني "وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)" أيْ ورغم كوْنهم مَحْشُورين مُتَزاحِمين إلا إنهم عند العَرْض علي ربك ورب العالمين يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لحسابهم فإنهم يُعْرَضُون جميعاً أيْ يُظْهَرُون كالمَعْرُوضات التي تُعْرَض في المَعارِض مُنْتَظِمين مَصْفوفين صفاً واحداً مُنْتَظِمَاً مُنْضَبِطَاً أو عدَّة صفوف مُنتظمة مُنضبطة كصفوف الجنود في الجيش بحيث يَظهر الجميع ولا يُمكن لأيِّ أحدٍ أن يختفي في أيِّ مكانٍ أو لا يَظهر للحساب بل الكلّ ظاهِرٌ واضِحٌ مُنْتَظِمٌ مُنْضَبِط بلا أيِّ فَوْضَيَ مُنْتَظِرٌ لِمَا سيَحْدُث بما يفُيد أنه سيكون حساباً مُنَظّمَاً دقيقاً عادلاً، ويقول تعالي لهم حينها لقد حَضَرْتُم إلينا حيث بَعَثْناكم بعد موتكم للحساب والجزاء فَرْدَاً فَرْدَاً كلّ فردٍ بمُفْرَدِه كما أوْجَدناكم وأحْيَيْناكم في الدنيا أوّل مرّةٍ حُفَاة عُرَاة مُنْفَرِدِين بلا أملاكٍ ولا أولادٍ ولا أصحابٍ ولا أعوانٍ ولا آلهةٍ عَبَدَها بعضكم غيرنا ولا أيّ شيءٍ معكم إلاّ أعمالكم التي عملتموها في دنياكم من خيرٍ أو شرّ.. ثم يَنْتَقِل سبحانه بالكلام مُوَجِّهَاً إيَّاه للمُكَذّبين الذين كانوا في دنياهم لا يُصَدِّقون بوجود البَعْث والحساب والعقاب والجنة والنار ففَعَلوا الشرور لأنه لا حساب مِن وِجْهَة نَظَرِهم وقد شاهَدُوا كل ذلك بأعينهم واقِعياً حقيقياً صادقاً فلا يُمكنهم تكذيبه قائلا لأمثالهم علي سبيل الذمِّ الشديد والتخويف الهائل مِمَّا يَنتظرهم من عذابٍ لقد ادَّعَيْتُم كذباً وزُورَاً وسَفَهَاً أننا لن نجعل لكم موعداً أيْ ميعاداً أيْ وقتاً وزماناً ومَكَانَاً لتنفيذ وَعْدنا للبعث وللحساب وللعقاب بما يُناسب شروركم ومفاسدكم وأضراركم
ومعني "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)" أيْ ويُوضَع الكتاب الخاصّ بكل إنسانٍ أمامه ويأخذه بيده وفيه تسجيلٌ لكلّ أقواله وأفعاله من خيرٍ وشرٍّ صغيرها وكبيرها سِرّها وعلانيتها في كل لحظات حياته وبكل دِقّةٍ وبلا أيِّ نسيانٍ لأيِّ شيءٍ أو زيادة أو ذرَّة ظلم، ويَراه مَفتوحاً مَكْشُوفاً ظاهراً بحيث يستطيع قراءته ولا يمكنه إخفاء شيءٍ منه أو تجاهله أو المُغالَطة فيه أو تكذيبه حيث تظهر به كل الخفايا والأسرار ظهوراً لا يحتاج معه لجدالٍ ودفاعٍ وشهودٍ ونحو هذا.. هذا، والمؤمن الصالح يُعْطَيَ كتاب أعماله في يده اليُمْنَيَ بما يدلّ علي أنه من أهل اليمين أيْ أهل الجنة الذين هم كلهم يُمْن أيْ بركة وخير وسعادة بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم السعداء السعادة التامّة الخالدة، بينما الكافر يُعْطَيَ كتاب أعماله في يده الشِّمَال للدلالة علي أنه من أهل الشِّمَال أيْ أهل النار الذين يَظهر عليهم تمام الشّؤْم أيْ الشرّ بما يَرْمز ويُفيد أنهم هم التُّعَساء التعاسة التامّة.. فتُشَاهِد أيها المُشَاهِد حينها المُجرمين – وهم الذين ارتكبوا في دنياهم الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مُشْفِقين أيْ خائفين مَرْعوبين مُرْتَعِشين حَذِرين مُتَرَقّبين أشدّ الخوف والرعب والحَذر والترقّب مِمَّا في هذا الكتاب من جرائم مَكْتُوبَة هي كل ما فعلوه في دنياهم من شرور ومَفاسد وأضرار يعلمونها جيداً وينتظرون الآن العقاب عليها بالعذاب الذي لا يُوصَف والذي هو يُناسبها والذي هو حتماً نازِلٌ بهم بكل تأكيدٍ سواء خافوا أم لم يخافوا والذي ليس لهم منه أيّ مَفَرّ ولا نجاة فلن ينفعهم إذَن أيّ إشفاق، ويقولون حينها بما يدلّ علي شِدَّة خوفهم واضطرابهم وحَسْرَتهم ونَدَمهم وألمهم وتعاستهم يا هَلاَكنا نحن هَالِكون حقّاً بكل تأكيد، ثم يقولون على سبيل التّعَجُّب والدَّهْشَة مِن دِقّة ما اشتمل عليه هذا الكتاب مَا شأن وحال هذا الكتاب؟! أيّ شيءٍ له حال كَوْنه على غير حال الكتب التي في الدنيا وأىّ شيءٍ ثَبَتَ له واخْتَصَّ به وأيّ شأنٍ حَصَلَ له حيث نراه لا يترك معصية صغيرة ولا كبيرة من معاصينا في أقوالنا وأفعالنا بالسِّرِّ أو العَلَن وبأيِّ وقتٍ إلا حَسَبَها وعَدَّها وجَمَعَها وحَفِظَها وضَبَطها بكلِّ تفاصيلها وبتَمامها حِسَابَاً وعَدَّاً وجَمْعَاً وحِفْظَاً وضَبْطَاً دقيقاً مُحْكَمَاً بتمام الدِّقّة؟! ووَجَدوا ولَقُوا حينها كلّ مَا عملوا في دنياهم من جرائم حاضراً موجوداً معهم ظاهراً ثابتاً واضحاً كأنه قد أٌحْضِرَ من الدنيا إلى الآخرة فيَرَوْنه بأعينهم مُسَجَّلاً في كتابهم المُسَجَّل فيه كل أقوالهم وأفعالهم الشَّرِّيَّة لحظة بلحظةٍ صغيرها وكبيرها سِرَّها وعلانيتها بكل دِقّةٍ وعدلٍ دون أيِّ ذرّة خطأٍ أو ظلمٍ حيث سيُعَاقَبُون بالعذاب المُناسب لهذه الجرائم، ولا يظلم ربك أحدا أيْ وما ظلمهم الله بذلك حَتْمَاً أيْ ولم يَكُن أبداً الله الخالق الرحيم الكريم لِيَظلم أحدا بأيّ ذرَّة ظلم، بأن يُعَذّب مثلا مَن لم يظلم أو يُعَذّبه بظلم غيره، أو يضيع أجر عمله الخيريّ، أو نحو هذا، بل كانوا يَسْتَحِقّون العذاب تماما، في مُقابِل أنهم كانوا يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في دنياهم وأخراهم، فهذا هو تمام العدل حيث لا يُمكن أبداً أن يُعَامَل المُحْسِن المُسْعِد لنفسه ولغيره وللكوْن كله كالمُسِيء المُضِرّ المُتْعِس لهم! لقد كانوا هم الظالمين بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وفَعَلوا كل الجرائم، كل الشرور والمَفاسد والأضرار، رغم حُسْن دعوتهم من رسلهم والمسلمين حولهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة، والصبر عليهم لفتراتٍ طويلة وإعطائهم فرصا كثيرة للتوبة والعودة لربهم وإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن، ولكنهم أصرُّوا تمام الإصرار علي ما هم فيه مِن أجل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلفك بهذا حيث خَلَق سبحانه خَلْقَه لينتفعوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه (برجاء مراجعة الآية (30) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا وَثَقْتَ تماما أنَّ خالقك الكريم قد وضع في عقلك بذور معرفة كل أسرار الكوْن ومنافعه وعلومه وما عليك إلا أن تُنَمِّيها (برجاء مراجعة الآيات (31)، (32)، (33) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا عِشْتَ حياتك كلها عزيزاً كريما عفيفا مُتَرَفّعَاً عن كلّ ما يَحطّ مِن قَدْرك مِن عملٍ قبيح سَيِّءٍ يضرّك ويتعسك، حيث نَبَّهَكَ خالقك لذلك حين أسجدَ لك ملائكته وجعل الأرض كلها بما عليها وفيها مِن مخلوقاتٍ مُسَخَّرَة لنفعك ولسعادتك إذا أحسنتَ تسخيرها واستخدامها (برجاء مراجعة الآيات (34) حتي (39) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. إنَّ الله تعالي في هذه الآيات الكريمة يستخدم أسلوب التمثيل القصصيّ ليُوَضّح لنا تجربة الحياة وأصولها وكيفيتها والمُؤَثّرات فيها قبل أن تبدأ لنَعْتَبِرَ بها ونستعدّ لها أحسنَ وأتمّ الاستعداد لنَنْصِلَح ونَكْمُل ونسعد فيها تمام السعادة ثم بسعادة الخلود التامّة العظيمة في الآخرة (برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة بدء الحياة وقصتها وسببها وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان)
هذا، ومعني "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسَارَعَت كلها بالسجود له استجابة لأمر الله تعالي، وهذا من أعظم التكريم للإنسان ليَسْتَشْعِر مَكَانَته فيكون علي مستوي هذه المَكَانَة فلا يَتَدَنّيَ ويَنْحَطّ ويُهِين كرامته بفِعْل الشَّرّ المُضِرّ المُهِين المُذِلّ المُتْعِس وإنما يَفعل دائما كلّ خيرٍ مُفِيدٍ مُعِزّ مُسْعِدٍ في الداريْن، فقد أسْجَدَ سبحانه له ملائكته كدلالة علي أنَّ الأرض بما فيها مِن مخلوقاتٍ هي مُسَخّرَة له فليُحْسِن إذَن التعامُل معها والانتفاع والسعادة بها، إضافة إلي أنه قد خَلَقه سبحانه علي أفضل صورةٍ ووَضَعَ فيه تعالي جزءَاً من روحه أيْ قدْرته ليكون علي صِلَةٍ تامَّةٍ دائمةٍ معه فيَطْمَئِنّ ويَسْعَد تمام الاطمئنان والسعادة بذلك في دنياه وأخراه.. هذا، وسجود الملائكة يعني الانحناء والتعظيم لأنَّ السجود المعروف لا يكون إلا لله تعالي.. ".. إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.." أيْ فيما عدا إبليس، الذي كان من الجنِّ أيْ الذي لم يكن طائعاً مثل الملائكة والتي هي أيضا من الجنَّ – لأنَّ الجنّ في لغة العرب هي كل مخلوق خَفِيّ عن الأعْيُن – ولكنها أيْ الملائكة جَمْع مَلَك هي خَلْق من خَلْقه سبحانه خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه، أيْ إلا إبليس فقد أَبَيَ أيْ رَفَضَ وامْتَنَعَ تَعَاظُمَاً وتَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي أمر السجود واستهزأَ به فلم يَستجب له ففَسَقَ بسبب ذلك الرفض والاسْتعلاء بالتالي عن أمر ربه أيْ خَرَجَ عن طاعته فكان بالتالي بسبب هذا من العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين.. ومقصود هذا الجزء من الآية الكريمة أن يعلم الإنسان أنه سيكون في الحياة استكبار وعِناد واستعلاء علي الحقّ والعدل والخير وظلم وفساد وضَرَر فلا يفعل مِثْل هذا مطلقا وإلا سيكون مصيره مثل مصير الشيطان أيْ مثل مصير كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه، أي التعاسة التامّة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا.. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام).. ".. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.." أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فهل بعد ذلك يا بني آدم تَجْعلونه وذرِّيَّته – أيْ والشياطين الذين يُوَسْوِسُون لكلِّ واحدٍ منكم حيث كلّ إنسانٍ يُولَد وعقله يُمْكِنه التفكير في الشرّ، فكأنَّ فيه جزءاً من إبليس، من سُلالته، من ذُّرِّيَّته أيْ أبنائه، كما أنَّ كلّ مَن كان على طريقته من الناس في الإضلال والإغواء يُعْتَبَر مِن ذرِّيَّته – أولياء غيري لأمور حياتكم يُديرونها لكم ويُوَجِّهونكم فيها وتطيعونهم أثناءها وتتركون طاعتي والحال والواقع أنهم لكم أشدّ عدو وسيأخذونكم بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لكلّ شَرٍّ وفسادٍ وظلمٍ وحتي كفر، لكلّ شقاءٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ في دنياكم وأخراكم، بسبب إبْعادكم عن ربكم وأخلاق إسلامكم والتي كانت حتماً ستأخذكم لكل خيرٍ وسعادةٍ تامَّة فيهما؟!!.. عَجَبَاً لكم!! أين عقولكم؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!!.. إنَّ ذلك لو حَدَثَ منكم فإنه سيكون بسبب إغلاقكم لعقولكم بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فانْتَبِهوا لذلك واحذروه تمام الحذر بأنْ تُحْسِنوا استخدام عقولكم لتسعدوا في الداريْن وإلا تعستم فيهما.. ".. بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)" أيْ ما أسْوَأ هذا البَدَل للظالمين – والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – حيث اسْتَبْدَلُوا ولاية الله تعالي لكل شئون حياتهم أيْ تَوَلّيِه لأمورهم لإدارتها لهم علي أكمل وأسْعَد وَجْهٍ والتي هي كلها خير وسعادة في الداريْن بولاية أعدائهم إبليس وذرِّيَّته والتي هي كلها شرّ وتعاسة فيهما، فلقد تَرَكوا طاعة الله تعالي التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم وقَبِلُوا وفَضَّلُوا بَدَلاً منها وبادَلُوها وأخذوا عِوَضا عنها طاعة الشيطان التي تُفسدهم وتنْقصهم وتتعسهم تماماً حتماً فيهما!.. إنَّ مَن يَفعل ذلك فقد فَعَلَ حتماً فِعْلَاً ظالِمَاً عجيباً مُسْتَغْرَبَاً مَذْمُومَاً ذَمَّاً شديداً مَرْفُوضَاً رَفْضَاً تامَّاً عند أيِّ عاقِلٍ دالّاً علي إغلاقه لعقله وسوءِ اختياره وتَصَرُّفه وسَطْحِيَّةِ تفكيره وخِفّته وطيشه وحماقته وعليه أن يستفيق ويعود لربه ولإسلامه ليسعد وإلا تعس في دنياه وأخراه!
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة أنه لا مَعْبُود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ الله تعالي وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. أيْ مَا أشهدتهم، أيْ ما أشْهَدْتُ الخَلْقَ، لا الناس، ولا الآلهة التي يعبدها بعضهم غيري كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو ملائكة أو غيرها، ولا إبليس وذرِّيَّته، ولا أيَّ أحدٍ، أيْ مَا أحضرتهم ليَشهدوا لكي آخُذَ مَشُورتهم ومَعُونتهم ويُشاركوني في الخَلْق وبالتالي يكون مِن حَقّهم المُطالَبَة بأنْ يَشتركوا معي في أن يُعْبَدُوا مِثْلِي، خَلْقَ السماوات والأرض، حيث أنا لستُ في حاجةٍ لمِثْل هذا حتماً لأني أقول للشيء كُنْ فيكون كما أريد ثم إني خَلَقْتهما قبل خَلْقِهم، وكذلك مَا أشهدتهم خَلْق أنفسهم، وكيف يَشهد المَخْلوق خَلْقَ نفسه وهو لم يُوجَد بَعْد؟!.. إنه لأمْرٌ عجيبٌ حقّاً وغريبٌ وغير مَنْطِقِيّ ولاعَقْلانِيّ أن يجعل أحدٌ من سفهاء البَشَرَ من نفسه شريكاً لخالِقه ويريد لغيره أن يعبدوه!! وهو بَشَرٌ ضعيفٌ مِثْلهم يُصيبه ما يُصيبهم مِن مرضٍ وضعفٍ وعجزٍ وموت!! والأعْجَب والأغْرَب والأسْفَه أنْ يُصَدِّقه بعض الذين هم أشدّ سَفَهَاً وبَلاَهَة وخَبَلاً وجَهْلاً منه أنه إله!! بل بعضهم قد لا يَتّخِذ بَشَرَاً إلاهاً وإنما يَتّخذ مَن هو أشدّ ضعفاً مِن البَشَر كصنمٍ أو حجرٍ أو حيوانٍ أو نحو هذا!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ الله تعالي يُبَيِّن في هذا الجزء من الآية الكريمة عَجْز كل هؤلاء تماما، فهم كلهم مخلوقات خَلَقهم هو سبحانه، وهم أصلاً بالقطع لم يشهدوا أيْ يَحضروا وقت خَلْق السموات والأرض ولا حتماً وقت خَلْقهم هم أنفسهم حتي يمكنهم ادّعاء مثلاً أنهم قد اقترحوا عليه تعالي اقتراحاتهم في هذا الخَلْق أو هو قد شاوَرهم فيه أو ساعدوه عليه ولذا فلهم حقّ المُشارَكة في إدارة شئون الكَوْن والخَلْق معه!! إنه وحده القادر علي كل شيء، وهو وحده الذي خَلَق خَلْقه، وهو وحده الذي يدير كل شئونه علي أكْمَلِ وأسْعَدِ وَجْه.. ".. وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وليس مِن شأني أبداً مُطلقاً أنْ اتّخِذ أيْ أجْعَل عَضُدَاً لي أيْ مُعِينَاً مُساعِدَاً كوَزِيرٍ أو نَصِيرٍ أو مُشِيرٍ أو مُرْشِدٍ أو غيره، مِن أيِّ أحد، حتي ولو كان صالِحَاً مُهْتَدِيَاً، فمِن باب أوْلَيَ ألاّ أتّخِذ أحداً من المُضِلّين!! أي الذين يُضِلّون أيْ يُضَيِّعون أنفسهم وغيرهم بأن يُبْعِدوهم عن العمل بأخلاق إسلامهم كلها أو بعضها ويُشَجِّعوهم علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار سواء أكانت هذه الشرور كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كبَشَرٍ أو صَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. وفي هذا إرشادٌ وتحذيرٌ ضِمْنِيٌّ لبني آدم بعدم الاستعانة أبداً بالضالّين لأنفسهم المُضِلّين لغيرهم وإلا نالوا التعاسة في الداريْن بسبب ذلك لأنهم حتماً سيُضِلّونهم
ومعني "وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)" أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد.. أيْ واذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد، اذكروا يوم القيامة، يوم يقول الله تعالي للذين أشركوا أيْ عَبَدُوا آلهة غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو كواكب أو بَشَرٍ ضِعافٍ مِثْلهم أو نحو هذا، يقول لهم علي سبيل الذمِّ والتقبيح والتّحْقير والتّرْهيب الشديد والاستهزاء وكنوعٍ من التعذيب النفسيّ قبل التعذيب الجسديّ في النار، نادُوا وصِيحُوا علي شركائي الذين ادَّعَيْتُم كذباً وزُورَاً في دنياكم أنهم آلهة يشتركون معي في العبادة لكي يَنْفعوكم وينْقذوكم من عذابي الذي لا يُوصَف فى هذا اليوم الشديد عليكم، فدَعَوْهم أيْ فنادوهم وصاحوا عليهم وطَلَبوهم مُسْتَغِيثين مُسْتَنْجِدين بهم فلم يُجيبوهم ويَرُدّوا عليهم وينقذوهم بكل تأكيدٍ لأنهم بالقطع كاذبون لأنه لا إله إلا الله ولا يُوجَد له أيّ شريكٍ وله وحده المُلْك والحُكْم ولن يَنْفع أحدٌ أحداً حينها ولن يَجرؤ أيُّ أحدٍ أن يعترف أنه قد عُبِدَ في الدنيا بل سيَتَهَرَّب وسيَعْتَرِف حتماً بأنه كان إلاهاً مُدَّعِيَاً كاذبا.. ".. وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)" أيْ وجعلنا بين العابدين والمَعْبُودين مَهْلِكَاً أيْ مَكَانَاً للهَلاك يَشتركون في أنْ يُهْلَكُوا فيه جميعاً وهو جهنم بعذابها الذي لا يُوصَف، فهم كانوا في دنياهم يَشتركون في عِصيان الله تعالي فصاروا الآن مُشْتَرِكين أيضاً في عَذابه
ومعني "وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)" أيْ وشاهَد المُجْرِمون النار – والمجرمون هم الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا – فأَيْقَنُوا أنهم واقِعون فيها حتماً بسبب إجرامهم في دنياهم.. هذا، ولفظ "فظنوا" يُفيد أنهم قد غَلَبَ علي ظنّهم غَلَبَة تَصِل إلي درجة اليقين أنهم مُواقِعوها لأنهم مُجْرِمون، كما أنَّ استخدام لفظ الظن سببه أنَّ حقيقة الظنّ في الأصل هي أنه عِلْمٌ لم يَتَحَقّق ودخولهم فيها لم يَقَع بالفِعْل بَعْدُ، وفي هذا تمام الدِّقّة.. إنَّ رؤيتهم النار قبل وقوعهم فيها وتَوَقّعهم دخولها هو مزيدٌ من العذاب لهم حيث رؤيته قبل حُدُوثه هو في ذاته عذاب.. ".. وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)" أيْ ولم يجدوا عن النار وعذابها مَكَانَا يَنْصَرِفون ويَلْجَأون ويَهْرَبون إليه غيرها، بما يُفيد انقطاع أيِّ أملٍ لهم في أيِّ نجاةٍ منها
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)" أيْ ولقد نَوَّعْنا وعَدَّدْنا وأكْثَرْنا في هذا القرآن العظيم للناس من كل أنواع الأمثلة والأدِلّة المُمْكِنَة وبكل الصور والأشكال ومن جميع الزوايا والوجوه، وباستخدام أسلوب الترغيب والترهيب والكلام المباشر وغير المباشر ونحو هذا، بحيث يَصِل العقل المُنْصِف العادل لكل ما هو خير وصواب ونفع وسعادة في دنياه وأخراه ويبتعد تماما عن كل ما هو شرّ وخطأ وضَرَر وتعاسة فيهما، وهذا التصريف هو من أجل أن يَتَذَكّروا ولا يَنْسوا أبداً ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، ويتذكّروا ربهم وإسلامهم، ويعقلوا كل هذا بعقولهم ويتدَبَّروه ويدرسوه، ويذاكروه كما يذاكرون دروسهم وعلومهم ويربطون بين أجزائها ومعلوماتها ويحفظونها ويراجعونها حتي لا ينسوها، ويكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لينتفعوا ويسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليهم فقط إلا أن يتذكّروا هذا بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. وعليهم أن يحذروا بشدّة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. إنَّ عليهم في كل لحظات شئون حياتهم أن يتذكّروا دائماً ربهم وإسلامهم فيلجأوا إليه ويَدْعُوه ويَرجوه ويَطلبوا عَوْنه وتوفيقه وتَيْسيره ورزقه وقوَّته وأمنه وحُبّه ورضاه وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة أن يعبدوه أي يطيعوه وحده ويَخضعوا ويَستسلموا له ويعود من كذّب منهم عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماماً في الداريْن.. ".. وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)" أيْ هذا بيانٌ للسبب الذى يَجعل الإنسان يُكَذّب بهذا القرآن العظيم ولا ينتفع به ليسعد في الداريْن وهو الجدال بالباطل لا بالحقّ – والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلةٍ أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءا إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم – من أجل التحذير منه والتذكير بتَجَنّبه وعدم فِعْله أبداً من خلال التمسّك والعمل بأخلاق الإسلام التي تدعو لكل خُلُقٍ حَسَنٍ ومنه الحوار الأَخَوِيّ الوَدود من أجل الوصول للحقّ والذي يوصل لتمام السعادة في الداريْن.. أيْ ودائماً الإنسان البعيد عن ربه وإسلامه بدرجةٍ من الدرجات، حتي ولو كان مسلما، وكذلك الكافر الذي لا يُصَدِّق بوجود الله وكتبه ورسله وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعانِد ويَسْتَكْبِر ويَستهزيء ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره، وأيضا المُشرك بالله الذي يعبد غيره كأصنامٍ ونحوها، ومَن يَتَشَبَّه بهم، يكون رغم هذا التصريف التامّ في القرآن العظيم أكثر شيءٍ أيْ أكثر المخلوقات مُجادَلَة ومُنازَعَة فيه.. هذا، ولفظ "شيء" يُنَبِّه العاقل أنه كأيِّ شيءٍ في الكوْن أيْ لا يَصِحّ له التَّعالِي علي عبادة الله تعالي وعلي اتّباع إسلامه وعلي خَلْقه.. إنَّ الإنسان هو المَخْلوق الوحيد الذي كَرَّمَه خالقه سبحانه بالعقل وجَعَله قادراً علي الحوار والمناقشة لينتفع بالعلوم والخِبْرات والمُعاملات وما شابه هذا فيسعد في حياته ثم آخرته تمام السعادة، وهذا هو حال الإنسان المؤمن الذي يجتهد في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه، أمّا الإنسان التّارِك لإسلامه كله أو بعضه أو الكافر أو المشرك أو الظالم أو الفاسد أو مَن يُشْبِه هؤلاء، المُعانِد المُسْتَكْبِر المُسْتَهْزِيء المُرَاوِغ، الذي لا يريد الإيمان واتّباع الإسلام من أجل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيٍ زائلٍ يومَاً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فهو يُكْثِر الجَدَل بالباطل لا بالحقّ، في الله وفي القرآن وفي الإسلام وفي شئون الحياة.. إنَّ كَوْن الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً لا يعني أنه سبحانه قد خَلَقه سيِّئا!! وهو الذي يقول "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين:4)، فصِفَة الحوار التي خَلَقها الله تعالي فيه هي صِفَة طيِّبة مُسْعِدَة في الداريْن لا سَيِّئة مُتْعِسَة فيهما، ولكنَّ الإنسان هو قطعاً الذي لم يُحْسِن استخدام عقله ويَتَعَلّم حُسْن الحوار ويَتَدَرّب عليه ويكتسبه تدريجياً مع الوقت كما يكتسب أيّ أخلاقٍ ومهاراتٍ أخري مُفيدة مُسْعِدَة يريدها، كما يَنصحه الإسلام بذلك.. إنه إنْ أساء استخدام هذه الصفة الطيّبة، صفة الحوار، بأنْ جادَلَ بالباطل وخالَف بذلك إسلامه، فَلْيَتَحَمَّل إذَن نتائج مُخَالَفته السيّئة المُتْعِسَة في دنياه ثم أخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (28) من سورة النساء ".. وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)" أيْ هذا بيانٌ لسببٍ من الأسباب التي تَمْنَع بعض الناس من الإيمان بالله واتّباع الإسلام، وبيانٌ لتَبْريرٍ من تَبْريراتهم وأسبابهم السفيهة الضعيفة التي يَدَّعُونها ويُراوِغُون بها حتي لا يُسْلِموا والتي لا يَقْبلها أيُّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادل.. أيْ ولا يَمنع الناس الكافرون المُكَذّبون المُعانِدُون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغُون وأشباههم مِن أن يؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا بوجود الله ورسله وكتبه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويفعلوا الخير ولا يفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات إذ جاءهم الهُدَيَ أيْ حين يَصِلُهم الإسلام من خلال رُسُله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وكُتُبه التي أوْحَاها إليهم ليُبِلّغوها لهم وآخرها القرآن العظيم، ويستغفروا ربهم مِمَّا يفعلونه مِن سُوءٍ ويعودوا إليه ولدينهم الإسلام ليسعدوا بذلك في الداريْن، إلّا طَلَبهم أن تأتيهم أيْ تَحْضر لهم سُنّة الأوَّلِين أيْ طريقة الله في عقاب السابقين أمثالهم، أو يأتيهم أيْ يَحْضر لهم العذاب في الآخرة قُبُلَاً أي مُقابِلَاً مُوَاجِهَاً لهم أيْ مُقَابَلَة أيْ وَجْهَاً لوَجْهٍ يَرَوْنه بأعينهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)، والمقصود أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المُسْتَأْصِل لهم أو عند إتْيان أصناف عذاب الآخرة، في وقتٍ لا ينفع فيه الإيمان حينها، بما يُفيد شِدَّة إصرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وإغلاقهم لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (32) من سورة الأنفال " وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ أمثال هؤلاء السابقين الذين أهلكهم الله تعالي بسبب إصرارهم علي تكذيبهم دون توبةٍ كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم مِمَّن يعرفهم كثير من الناس ويتناقلون تاريخهم وأخبارهم هم عِبْرة لغيرهم، فاعتبروا إذَن أيها المُكَذّبون الحَالِيُّون وخُذُوا الدروس مِمَّا حَدَثَ لهم واستجيبوا لربكم ولإسلامكم لتسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب والتعاسة فيهما
ومعني "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)" أيْ هذا بيانٌ لمهِمّة الرسل الكرام ولحِكْمة إرسالهم.. أيْ ولا نَبْعَث المَبْعُوثين للناس أي الرسل إلا ليكونوا مُبَشِّرين أيْ يُبَشّرُون – ويُبَشِّر المسلمون كلهم مِن بعدهم وكلّ مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع بصورةٍ من الصور – أي يَأْتُون بالخَبَر السَّارَّ وهو تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لكلّ مَن آمَنَ بربه وتمسّك وعمل بأخلاق إسلامه، ومُنْذِرين أيْ مُحَذّرين بكلّ شرٍّ وتعاسة فيهما، كلّ مَن كذّبَ وعانَدَ واستكبرَ واستهزأ وتَرَكَ الإسلام كله أو بعضه، حيث سيَذوق ما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ.." أيْ ومع وُضوح الحقّ الذي أُرْسِلَ به الرسل وُضُوحَاً تامَّاً لكلِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنَّ نظام الإسلام هو تمام السعادة في الداريْن وأنَّ أيَّ نظامٍ يُخَالِفه هو يُؤَدِّي إلي تعاسةٍ فيهما علي قُدْر مُخَالَفَته، ورغم حُسْن دعوة المسلمين لهؤلاء الكافرين وجميع الناس بكلّ قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة، يُجادِل – والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلةٍ أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءا إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم – الذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، يَجادلون رسلهم والمسلمين مِن بَعْدِهم بالباطل، أيْ بغير حقّ، أيْ بكلِّ ظلمٍ وزُورٍ وشَرٍّ وضَرَرٍ وغيره، عِنادَاً وتكذيباً واستكباراً، في آيات الله ومُعْجِزاته وكتبه ورسله وإسلامه وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره، مُحاوِلِين مُتَوَهِّمِين دَحْض أيْ إبطال وإخْماد وإبْعاد وإزالة وهزيمة الحقّ الذي هو ثابت ولن يتغيّر ويَنتشر ويَنتصر وهو الإسلام الذي أُرْسِلَ به الرسل جميعاً والذي يُصلحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماماً في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه بِسَفَهِ أمثال هؤلاء السفهاء الجُهَلاء تَتَبَيَّن وتَتّضِح قيمة الحقّ إذ بضِدِّها تَتَمَيَّز الأشياء!.. ".. وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)" أيْ ولم يَكْتَفُوا بأنْ يُجادِلوا بالباطل ولكنهم أضافوا له قُبْحَاً شديداً آخر وهو أنْ يَجعلوا آياتي أيْ دلالاتي الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْق رُسُلِي الكرام وأنهم من عندي وأني وحدي المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ شَرْعِيَ الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت آياتي هذه مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقِيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، ويَجعلوا كذلك مَا أُنْذِرُوا وخُوِّفُوا به وحُذّرُوا منه بواسطة رسلهم من عذابٍ مُناسبٍ لكفرهم وسُوئهم إذا أصَرُّوا علي ما هم فيه بلا توبة، اتّخَذوا كل ذلك، الآيات والإنْذارات ونحوها، هُزُوَاً أىْ سُخْرِيَة ولَهْوَاً وعَبَثاً، وتَمَثّل ذلك في عدم تمسّكهم وعملهم بتشريعاتي والاستهانة بقيمتها والتّجَرُّؤ علي مُخَالَفتها والعمل بغيرها والمُرَاوَغَة في تطبيقها والاستخفاف بتفاصيلها واللامبالاة بعقوباتها وما شابه هذا من صور الاستهزاء
ومعني "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وهل هناك أيّ أحدٍ أظْلَم مِن هذا الظالم؟!.. أيْ ولا أحدَ أشدّ ظُلْمَاً لذاته ولغيره وأعظم عقوبة حيث أتعسها وأتعسهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، مِن الذي يُذَكِّره المُذَكِّر بآيات ربه، أيْ مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعيه ومُرْشِده من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه، سواء أكانت هذه التذكرة بآيات القرآن الكريم أم بأيٍّ من مخلوقاته تعالي المُعْجِزَة في كلّ كوْنه أم بما هو موجود في الفطرة التي بداخل عقله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، فبَدَلاً أن يَتَلَقّاها بكل تشوّقٍ وحبّ ويعمل بها بكلّ هِمَّةٍ وحماسة لأنَّ فيها سعادته التامَّة في الداريْن وفيها تكريماً ورَفْعَاً لشأنه له من ربه، إذا به يُعْرِض عنها أيْ يُعطيها ظَهْره ويَلتفت ويَنصرف ويَبْتَعِد عنها ويتركها ويهملها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء، وإذا به يَنْسَيَ مَا قَدَّمَت يداه أيْ أقواله وأفعاله السَّيِّئة الفاسدة الضارَّة المُتْعِسَة له ولغيره بل وأحيانا للكوْن كله من الشرور والمفاسد والأضرار والتعاسات بمعني أنه لا يَتُوب منها ولا يَرْجِع عنها لربه ولإسلامه ويستمرّ فيها مُصِرَّاً عليها مُضِرَّاً مُتْعِسَاً ذاته وغيره مُتَجَاهِلَاً لنتائجها غيرَ مُقَدِّرٍ لها مُسْتَهْزِئاً مُسْتَخِفّاً بعقابها الدنيويّ والأخرويّ ناسِيَاً لامُبَالِيَاً له.. ".. إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)" أيْ مَن يَختار بكامل حرية إرادة عقله أن يكون هكذا، أنْ يُذَكّرَ بآيات ربه فيُعْرِض عنها ويَنْسَيَ مَا قَدَّمَت يداه، أن يَستمع للقرآن العظيم ولا يَنتفع به، أن يكون في الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد، فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه، هو الذي جَعَلَه وأمثاله كذلك، يستمعون للقرآن بلا تَعَقّلٍ وانتفاع، ولكنَّ الواقع أنهم في الحقيقة هم الذين جعلوا أنفسهم هكذا بسبب الأغشية التي وضعوها علي عقولهم وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، إلاّ أنْ يستفيقوا ويتركوا إصرارهم وعِنادهم ويعودوا لربهم ودينهم حينها يُعاونهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، وهذا هو معني "إنا جعلنا"، ومعني علي قلوبهم أكِنّة أيْ علي عقولهم أغشية وأغْلِفَة حتي لا يفهموا ويَتَدَبّروا ما فيه وينتفعوا ويعملوا ويسعدوا به، وفي آذانهم وَقْراً أيْ صَمَمَاً أيْ عدم قُدْرَةٍ علي السَّمْع أيْ لا يفهمون ما يسمعونه، وإنْ تَدْعُهم إلي الهُدَيَ أيْ وإنْ تُرْشِدهم إلي الإيمان بالله واتّباع الإسلام ليسعدوا في الداريْن يارسولنا الكريم ويا كل مسلم فبالتالي إذَن لن يهتدوا أبداً مَا دامُوا علي هذه الحالة، إلا إذا استفاقوا وأحسنوا استخدام عقولهم واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فحينها حتماً سيُساعدهم ربهم علي الهداية له وللإسلام وسيسعدون في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)" أيْ وربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان هو الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، وهو صاحب الرحمة فهو دوْماً الرقيق الرفيق مع خَلْقه العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ.." أيْ هذا دليلٌ علي أنه هو الغفور ذو الرحمة.. أيْ هو سبحانه يُخْبِر عن حِلْمه وأنَّ رحمته دائما تَسبق غضبه فهو لا يُعَذّب الناس أو يُهلكهم فوراً بمجرّد ما يَكسبونه أي يَفعلونه مِن شرّ، سواء أكان هذا الشرّ كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادة لغيره كبشرٍ أو صنمٍ أو حجرٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا.. أيْ لو يُعاقبهم بما كَسَبُوا من الذنوب لعجَّل أيْ لَكَانَ سَرَّعَ لهم العذاب في الدنيا أوّلاً بأوَّل بسبب ذنوبهم وسُوئهم، ولكنه تعالى حليمٌ لا يُسَرِّع بالعقوبة، وإلاّ لو فَعَلَ هذا لم يُتْرَك أحدٌ علي وجه الأرض هو وما يملكه من دوابّ وأرزاق! لأنه حتي المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم مُعَرَّضِين كأيّ بَشَرٍ لفِعْل أيّ خطأ! لكنه من رحمته سبحانه وحبه لخَلْقه يُمْهِلهم أي يَتركهم ليُصَحِّحوا ذواتهم ليَسعدوا بحياتهم، وإلاّ فلماذا خَلَقهم أصلا إذا كان سيَقضِي عليهم بمجرّد خطئهم؟! إنَّ الحياة ستَنتهي بهذا حتما! وهل هناك مِن صانعٍ مَا يُدَمِّر صنعته بل هو قطعا يُحبّها ويُحافظ عليها تماما ويَصونها ويَرعاها لأنه هو الذي صَنَعَها فما بالنا بأحسن الصانعين الله تعالي؟! إنه بذلك لن يَعْتَبِر أحدٌ من خطئه! وحتي الكافر وأمثاله كثيرا ما يأتي من ذرِّيَّاتهم مَن يُؤمن ويُصْلِح ويُحْسِن ويَسعد بالحياة ويُسعدها! ولذلك كله ولغيره من الحِكَم فهو تعالي يُمْهِل لكن في ذات الوقت لا يُهْمِل، أي يَترك أهل الشرّ لفترات طويلة مع دوام حُسن نُصحهم ودعوتهم من المسلمين الدعاة حولهم، ويَحلم عليهم أي يصبر كثيرا ويعطيهم الفرصة بعد الأخري لكي يعودوا لربهم ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن، لكنْ إنْ أصَرُّوا وعانَدوا واستمرّوا علي شرِّهم ولم يَتقَدَّموا بأيّ خطوة نحو الخير حتي يعينهم تعالي علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، حينها يَتَدَخَّل سبحانه بإهلاكهم واستئصالهم ليُريح أهل الخير والكوْن كله من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولتعود للجميع سعاداتهم التامّة دون تعكيرٍ بشرور.. ".. بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)" أيْ لكن في الوقت ذاته، للمُذْنبين الذين لا يَتوبون، لكلٍّ منهم، وقتٌ لعقابه، لن يجدوا من دونه أيْ غيره أيْ غير هذا العقاب مَوْئِلَاً أيْ مَلْجأ يلجأون إليه ليَحْتَمُوا به منه بما يعني أنه حتماً واقعٌ بهم في الوقت المُحَدَّد وليس لهم أيّ نجاةٍ ومَهْرَبٍ منه، وهو سيكون بما يُناسب سُوئهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً نافِعَاً للبَشَر، في دنياهم أولا يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)" أيْ وهَاَ هِيَ البلاد السابقة دمَّرْنا أهلها في الدنيا – قبل عذاب الآخرة المُؤَكّد الذي لا يُوصَف والذي ينتظرهم – عندما ظَلَموا بتكذيب رسلهم، كقُرَىَ أقوام رسلنا الكرام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرها من القري، والذين يعرفهم كثير من الناس ويتناقلون تاريخهم وأخبارهم، الذين أَصَرُّوا علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء وفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بلا أيِّ توبة، وجعلنا لهلاكهم مَوْعِدَاً أيْ وَقْتَاً مُحَدَّدَاً لا يَتَأخّر ولا يَتَغَيَّر ولا يَفْلِت منه أحد، حيث حين وَصَلَ هذا المَوْعِد جاءهم عذابنا فأهلكناهم به، وكذلك حتماً سيكون حال المُكَذّبين المُسِيئِين الحالِيِّين إذا كانوا مِثْلهم لم يُؤمنوا ولم يَتوبوا، فلْيَعْتَبِروا بهم إذَن ولا يَنْخَدِعُوا بتأخير العذاب عنهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُسيئين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما، وكذلك طمْأَنَة للمسلمين المُحْسِنين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً حريصاً علي الاهتمام بالعلم ومُصَاحَبَة العلماء وأهل الخِبْرَة والتّخَصُّص، وعلي تبادُل المعلومات والخبرات مع الآخرين، في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والعسكرية والصناعية والتجارية والزراعية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها، لأنه بالعلوم وتطويرها وبالخبرات وتبادلها يَرْقَيَ الجميع ويسعدون، في دنياهم، ثم في أخراهم لمَن يُؤمن بها ويَعْمَل لها باستحضار نوايا خيرٍ بعقله في كل قولٍ وعملٍ أثناء ذلك، بينما بالجَهْل وكِتْمان العلم والخِبْرَة يَتَخَلّفون ويتعسون فيهما.. وإذا كنتَ من الذين يَتَثَبّتُون ويَتَأَنُّون في الأمور كلها ولا يُسارعون بالحُكْم علي الأشياء حتي يُعْرَف ما يُراد منها وما مقصودها.. وإذا كنتَ من المتأكّدين بلا أيّ شكّ أنَّ الله تعالي لا يريد بخَلْقه إلا كل خيرٍ وسعادة، خاصة بأهل الخير المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، فإنْ ظَهَرَ لك شَرٌّ أو ضَرَرٌ في أمرٍ مَا، فاصْبِر عليه، وابْحَث عن الخير فيه، وستَجِده حتماً حتي ولو بعد حين، وستَخْرُج منه بصَبْرك عليه قطعاً مُستفيداً استفاداتٍ وخبراتٍ كثيرة في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. إنَّ هذه هي بعض العِبَر التي تُسْتَخْلَص من هذه الآيات الكريمة، فالله تعالي أراد أنْ يُعَلّم رسوله الكريم موسي (ص) أنه رغم كَوْنه رسولاً يُوحَيَ إليه، إلا أنه عند الآخرين الصالحين من العلوم والخبرات في تفاصيل الحياة الدنيا ما يسعدهم فيها ثم في الآخرة، فالرسل الكرام يُرْشِدون لقواعد وأصول كلّ شيءٍ فيه كل خيرٍ وابْتعاد عن كل شرّ أمّا التفاصيل اليومية فمَتْرُوكَة للبَشَرَ وللمُتَخَصِّصين منهم يُصَرِّفونها كيف شاءوا مَا داموا في إطار هذه القواعد لا يُخالِفونها وإلا تَعِسُوا علي قَدْر مُخَالَفاتهم، وفي هذا يقول الرسول الكريم محمد (ص) "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (رواه مسلم).. لقد أوْحَيَ الله تعالي إلي موسي (ص) أنْ يُقابِل رجلاً صالحاً لكي تَتَحَقّق هذه الفوائد وغيرها
هذا، ومعني "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قال رسولنا الكريم موسي (ص) لفتاه أيْ لتلميذه الشابّ الذي كان يُصاحِبه في تَحَرُّكاته ليَتَعلّم منه الإسلام ويساعده ويَخْدمه في سَفَره وإقامته والذي سيَنتفع بما سيَحْدُث وسيَنْقله لغيره لينتفعوا أيضا، لا أبْرَح أيْ لا أتْرُك ما أفعله أيْ لا أترك السَّيْر أيْ لا أزال أسِير حتي أصِلَ مَجْمَع أيْ مُلْتَقَيَ البَحْرَيْن – أيْ البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط اللذيْن تُطِلّ عليهما دولة مصر والتي كان يَحكمها وقتها فرعون وحَدَثَت فيها الأحداث بينه وبين موسي (ص) وبني إسرائيل – وهو المكان الذي أوْحاه إليَّ ربِّي أني سأجد عنده الرجل الصالح الذي سأستفيد بعلومه وخبراته.. ".. أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)" أيْ ولو أسْتَمِرّ في سَيْرِي زَمَنَاً طويلاً إنْ لم أجِده حتى أصِلَ له لأتعلّم منه، والمقصود تصميم موسي (ص) وإصراره التّامّ علي تحقيق هدفه والتّرَقّيِ في علمه حتي ولو ظلّ سنواتٍ طويلة حتي يُحَقّقه، وهذا إرشادٌ ضِمْنِيٌّ لكل مسلمٍ أن يكون كذلك مُتوكّلاً علي ربه حريصاً مُصَمِّمَاً علي الوصول لأهدافه التي تُنَمِّيه وتُسعده ومَن حوله في الداريْن
ومعني "فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)" أيْ فعندما وَصَلَ موسي (ص) وفَتَاه مُلْتَقَيَ بين البحرين، نَسِيَا فيه حوتهما أيْ سَمَكَهما الذي كانا يحملانه معهما للأكل منه أثناء سَيْرهما، فأخذ السمك طريقه في البحر سَرَبَاً أيْ نَفَقَاً أيْ كالنفَق يَتَسَرَّب أيْ يَسير ويَذهب فيه نحو الماء، وذلك بعد أن أحياه الله تعالي بأنْ جَعَل ماء البحر يُصيبه
ومعني "فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)" أيْ فعندما تَجَاوَز وتَخَطّيَ وفارَقَ موسي (ص) وفتاه مكان مَجْمَع البَحْرَيْن والذي سيُقابِل عنده الرجل الصالح والذي نَسِيَا فيه حوتهما، وشَعَرَا بالتّعَب والجوع، قال موسي لفتاه حينها أَحْضِر لنا ما نَتَغَذّيَ به، لأننا قد قابلنا من سفرنا هذا تَعَبَا
ومعني "قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)" أيْ قال له فتاه أَتَذْكُر حين لَجَأْنا إلي الصخرة لنستريح – وهي صخرة كانت عند مكان مَجْمَع البَحْرَيْن والذي سيُقابِل عنده الرجل الصالح والذي نَسِيَا فيه حوتهما – فإني قد نَسِيتُ أيْ تَرَكْتُ الحوتَ عندها، ونسيتُ أنْ أذْكُرَ لك مَا حَدَثَ له، وقال مُعْتَذِرَاً له عن هذا مَا أنْسَانِي الحوتَ أنْ أذْكُره وأذْكُرَ لكَ مَا حَدث له إلا الشيطان الذى يُوَسْوِس للإنسان بوَسَاوِس مُتَعَدِّدَة تَجعله يَنْسَىَ ويَتْرُك بعض الأمور الهامة (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الحَذَر الشديد من الشيطان واتّخاذه دائماً عدوا)، فلقد أخَذَ الحوتُ طريقه في البحر اتّخَاذَاً عَجَبَاً أيْ بصورةٍ عجيبةٍ تَعَجَّبْتُ منها حيث أحياه الله تعالي بقُدْرَته ووَجَّهَه للعودة للماء
ومعني "قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64)" أيْ قال موسي لفتاه ذلك الذي حَدَث، ذلك النسيان، هو ما كنّا نَطْلبه، حيث قد أَوْحَيَ إليَّ ربّي أنَّ مكان نِسْيان الحوت سيكون هو ذات المكان الذي سأجِد فيه الرجل الصالح، فرَجَعا يَسِيرَان علي آثار أقدامها مُقْتَصِّين أيْ مُتَتَبِّعين إيَّاها حتي يَصِلاَ للمكان بلا خطأ، فوَصَلَا إليه.. وفي هذا إرشادٌ ضِمْنِيٌّ للمسلم بسرعة العودة للصواب عند اتّضاحه له ليسعد في الداريْن
ومعني "فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)" أيْ فلمَّا رَجَعَا إلي مَجْمَع البحرين مرة أخرى وَجَدَا عبْدَاً من عبادنا الصالحين أيْ مِمَّن يَعبدونني أيْ يُطيعونني أي من عبادنا الذين آمنوا أيْ الذين صَدَّقوا بوجودي وبكُتُبِي ورسلي وآخرتي وحسابي وعقابي وجنّتي وناري وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ويَنْسِبهم إليه سبحانه أنهم عباده تكريماً لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره، وهذا العبد قد آتيناه أيْ أعطيناه رحمة عظيمة أيْ حِكْمة هائلة وخيراً وحُسْنَاً ويُسْرَاً ورِفْقَاً وحِلْمَاً ورِزْقَاً كثيراً وسعادة تامَّة بسبب صلاحه وعمله بأخلاق إسلامه، من عندنا لا من عند غيرنا وبالتالي فهي رحمة ونعمة كاملة حقيقية دائمة في الدرايْن لا ناقصة وَهْمِيَّة مُتَقَطّعَة – وعند بعض العلماء رحمة أيْ نُبُوَّة ووَحْيَاً حيث يَعْتَبِرون العبد الصالح نبياً من الأنبياء – وعلّمناه من عندنا أيضاً عِلْمَاً كثيراً وبالتالي فهو عِلمٌ مُفيدٌ مُسْعِدٌ في الداريْن لا ضارٌّ مُتْعِسٌ فيهما، علّمناه علماً خاصَّاً وخبرة عن طريق الإلهام والتوفيق لا يَتَيَسَّر إلا لمَن نريد تَيْسيره ومَنْحه له، أيْ وَفّقْناه ويَسَّرْنا له كل أسباب العلوم والخبرات المُتاحَة وقتها من حُسْن التدبير للأمور بتَعَقّلٍ واتّزانٍ وبحُسْن علاقاتٍ مع الآخرين وتبادُلٍ لخبراته مع خبراتهم، وكل ذلك بسبب صلاحه وعمله بأخلاق إسلامه، ومَن يَتَشَبَّه به سيُعطيه الله تعالي حتماً من فضله وكرمه ورحمته وعِلْمه وإلهامه مِثْل مَا أعطاه
ومعني "قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)" أيْ قال موسي (ص) للعبد الصالح مُسْتَأْذِنَاً إيَّاه بأدَبٍ، وهذا خُلُقٌ من أخلاق الإسلام علي المُتَعَلّم أنْ يَتّصِف به مع مَن يُعَلّمه خيراً يُؤَدِّي به إلي تمام السعادة في الداريْن، هل تأذن لي أنْ أتّبِعك أيْ أسِير خَلْفك وأصاحِبك وأعاوِنك لتُعَلّمني من العلم الذي عَلّمك الله إيّاه بفضله عِلْمَاً رُشْدَاً أيْ ذا رُشْدٍ أيْ صَوَابَاً وصَلاحاً وحقّاً وصِدْقَاً وعَدْلاً وهُدَيً ورُشْدَاً واستقامة وخيراً وسعادة، أيْ تُعَلّمني مِمَّا أسْتَرْشِد به في حياتي وأنْتَفِع وأسْعَد فيها وفي آخرتي؟
ومعني "قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)"، "وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الحصول علي العلم والخِبْرَة وحُسْن إدارة الأمور لتحقيق الخير والسعادة يحتاج إلي صبرٍ وتَحَمُّل، وأنَّ بعض الأحْداث قد يكون ظاهرها سَيِّئاً حين حُدُوثها لكنَّ باطِنَها سيكون فيه الخير والذي سيَظْهَر مع الوقت تدريجياً بالصبر عليها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (216) من سورة البقرة ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ قال العبد الصالح لموسي (ص) إنك لن تَقْدِر علي الصبر معي واتّباعي ومُصاحَبَتِي، لأنك قد تَرَيَ أموراً مِنّي أفعلها يَظهر لك أنها حينها سَيِّئة، وأنت كرسولٍ عليك أن تُنْكِرَ عليَّ فعلها، لكنْ فيها خيراً يَظْهَر لاحِقَاً.. "وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)" أيْ وكيف تستطيع أن تَصْبِر علي أمرٍ لم تُحِطْ به عِلْمَاً أيْ لم تَعلمه بإحاطةٍ من كل جوانبه وليس لك خَبَر عنه وخِبْرة به.. وفي هذا بَيَانٌ ضِمْنِيٌّ لخُلُقٍ من أخلاق المُعَلّم مع المُتَعَلّم حيث يُبَيِّن له ضِمْنَاً أنه سيَلْتَمِس له العُذْر إنْ سأله عن أشياء لا تَبْدُو مَنْطِقِيَّة
ومعني "قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)" أيْ قال له موسي (ص) بأدَبٍ مُوَضِّحَاً له أنه يَنْوي الصبر والاستجابة بإذن الله وعَوْنه وتوفيقه وتَيْسيره: ستَرانِي إنْ شاء الله صابراً معك على ما تَفعله ولا أخَالِف لك أمراً تأمرني به
ومعني "قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)" أيْ قال العبد الصالح لموسي (ص) مُوَافِقَاً علي أنْ يَتّبِعه مُوصِيَاً إيَّاه ألّا يَسْتَغْرِب ولا يَرْفض شيئاً قد يكون ظاهره غريباً غير مَنْطِقِيّ حتي يُخْبِره هو بالأسلوب وبالتوقيت المناسب: فإنْ صاحَبْتَنِي فلا تسألني عن شيءٍ تَرْفضه حتي أحَدِّثك عنه وأذْكُره لك
ومعني "فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)" أيْ فسَارَا معاً إلي أنْ ركبا في السفينة التي ستَنْقِلهم لمكانٍ آخر، خَرَقها العبد الصالح أيْ جَعَلَ فيها خَرْقَاً ومَنْفَذَاً يَنْفذ منه الماء لداخلها، قال موسي (ص) مُتَعَجِّبَاً أشَدّ التَّعَجُّب مُنْكِرَاً عليه أشدّ الإنكار حيث يجب عليه إنكار أيْ رَفْض هذا المُنْكَر أيْ الشرّ الذي فَعَلَه أمامه: هل خَرَقْتها لكي تُغْرِق أهلها؟! لقد جِئْتَ أيْ أتَيْتَ أيْ فَعَلْت فِعْلًا إمْرَاً أيْ مُنْكَرَاً فظيعاً شَنِيعَاً عظيماً شديداً في سُوئه
ومعني "قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)" أيْ قال العبد الصالح لموسي (ص) هل لم أقل سابقاً من أوّل الأمر إنك لن تَقْدِر علي الصبر معي واتّباعي ومُصاحَبَتِي، لأنك قد تَرَيَ أموراً مِنّي أفعلها يَظهر لك أنها حينها سَيِّئة، وأنت كرسولٍ عليك أن تُنْكِرَ عليَّ فعلها، لكنْ فيها خيراً يَظْهَر لاحِقَاً؟
ومعني "قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)" أيْ قال موسي (ص) له مُعْتَذِرَاً بأدَبٍ عن نِسْيانه: لا تَلُمْنِي وسامِحْنِي بسبب أني نسيت ولم أتَذَكّر وَصِيَّتك لي بتَرْك سؤالك عن شيءٍ حتى تُحْدِث لي منه ذِكْرَاً، فإنَّ الناسِيَ يعُفْيَ عنه.. ".. وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)" أيْ ولا تُتْعِبْنِي بأنْ تَجْعَل مِن أمر اتّباعك عُسْرَاً أيْ شَقاءً وضِيقاً وشِدَّة وصعوبة فلا يمكنني أن أنتفع بعلمك، وعامِلْنِي بِيُسْرٍ حتي أتعلّم منك
ومعني "فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)" أيْ فسَارَا مَعَاً بعد قبوله عُذْره ونزولهما من السفينة إلي أنْ قابَلا شابّاً فقتله العبد الصالح، قال موسي (ص) مُتَعَجِّبَاً أشَدّ التَّعَجُّب مُنْكِرَاً عليه أشدّ الإنكار حيث يجب عليه إنكار أيْ رَفْض هذا المُنْكَر أيْ الشرّ الذي فَعَلَه أمامه: هل قتلتَ نَفْسَاً طاهرة بريئة مِمَّا تَسْتَحِقّ به القتل بغير قَتْلها لنفسٍ بحيث يُقتصّ منها؟! لقد جِئْتَ أيْ أتَيْتَ أيْ فَعَلْت فِعْلًا نُكْرَاً أيْ مُنْكَرَاً ظاهر السوء يَسْتَحِقّ الإنْكار الشديد .