الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)" أيْ قد فازَ ونَجَحَ ورَبحَ وحقّق تمام السعادة في الدنيا والآخرة حَتْمَاً بالتأكيد بلا أيِّ شك، فوزاً ونجاحاً ورِبْحَاً ونَصْرَاً لا يُقارَن بشيء، المؤمنون أيْ المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم الذين كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتهم حتي وفاتهم
ومعني "الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)" أيْ الذين مِن صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة والتي علي كل مسلمٍ أنْ يَتَّصِف ويَعمل بها ليَسعد في الداريْن أنهم في صلاتهم ساكِنُون مُطْمَئِنّون مُسْتَشْعِرون عَظَمتنا وهَيْبتنا ورحمتنا ووُدّنا وفضلنا وتَيْسِيرنا خائفون مِنّا مُراقِبون مُحِبِّون لنا مُتَدَبِّرون بعقولهم وأحاسِيسهم بتركيزٍ بلا انشغالٍ لركوعها وسجودها وقيامها ولِمَا يُقرأ فيها من قرآنٍ وأذكارٍ وأدعيةٍ للاستفادة منها والسعادة بها بتطبيقها خارج الصلاة حيث تُحَرِّك مشاعِرهم السعيدة الآمِنَة بداخل عقولهم فيَدْفعهم هذا لحُسْن التعامُل بأخلاق الإسلام خارجها، مُحْسِنُون مُتْقِنُون لأدائها مُتَذَكّرُون تكريمنا بجعلنا الصلاة صِلَة معنا نحن مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلبون مِنّا ما يشاءون علي مَدَارِ يومهم من كل خيرٍ وسعادة لهم ولمَن حوله في الداريْن.. هذا، ومِن ثِمار ونتائج خشوعهم في صلاتهم أنهم خاشعون خارجها بتأثير إحسان أدائها بمعني خاضِعون مُسْتَسْلِمُون تماماً مُرَاقِبون مُحِبُّون لوَصَايا الله تعالي وإرشاداته التي أوْصَيَ بها في الإسلام وذلك في كلّ أقوالهم وأفعالهم في كل شئون حياتهم خارج صلاتهم فهُم مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. هذا، والتقديم والتأخير في الآية الكريمة بمعني قول "في صلاتهم خاشعون" بَدَلَاً مِن "خاشعون في صلاتهم" هو للاهتمام بأمر الصلاة لعظيم أهميتها وثمارها، وتكون بخشُوع
ومعني "وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنَة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم مُعْرِضُون أيْ مُبْتَعِدُون مُنْصَرِفون مُمْتَنِعُون عن اللغو وهو أيّ كلامٍ غير مُفيدٍ ومِن باب أوْليَ أيّ كلامٍ – أو فِعْلٍ – شرِّيّ ساقِطٍ بَذِيءٍ حيث كل كلامهم – وأفعالهم – خيرٌ مُسْعِدٌ للنفس وللغير.. هذا، والتقديم والتأخير في الآية الكريمة بمعني قول "عن اللغو مُعْرِضون" بَدَلَاً مِن "مُعْرِضون عن اللغو" هو للاهتمام بأمر اللغو أيْ بالإعراض تماماً عنه
ومعني "وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنَة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم فاعِلُون للزكاة أيْ مُؤَدُّون مُعْطون الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال، وكانوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. كذلك من المعاني أنهم للزكاة فاعلون أيْ للتطهير من كل المُعتقدات والأخلاق الفاسدة المُضِرَّة المُتْعِسَة في الداريْن، ومن كل ما يَضُرّ أجسادهم ويُؤذيها ويُتعسها، فاعلون، وذلك من خلال عملهم بكل أخلاق إسلامهم فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعرهم فيسعدون بالداريْن، حيث التَّزْكِيَة هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات.. هذا، والتقديم والتأخير في الآية الكريمة بمعني قول "للزكاة فاعلون" بَدَلَاً مِن "فاعلون للزكاة" هو للاهتمام بأمر الزكاة أيْ بفِعْلها
ومعني "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)"، "إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)"، "فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنَة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم حافظون لفروجهم أيْ يمنعون العضو التناسليّ عن الزنا وهو الجِمَاع الجنسيّ بين رجل وغير زوجته وعن اللواط وهو جماع جنسيّ بين رجلٍ ورجلٍ وإدخال العضو في فتحة الشَّرَج وما شابه هذا، فهم لا يُجَامِعُون إلا زوجاتهم – وكذلك النساء يحفظن فُرُوُجَهنّ فلا يُجَامِعْنَ إلا أزواجهنّ – أو ما مَلَكَت أيْمانهم أيْ ما يملكونه بأيديهم أيْ بما هو عندهم من عَبْدَاتٍ فلا يَحرم عليهم أنْ يُجَامِعُوهنّ، مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب وبالتالي فقد انتهت هذه الرخْصَة، ولقد كان الإسلام سَمَحَ بجِمَاعِهِنَّ كنوعٍ من التّعامُل مع واقعهم قبل مَجِيئِهِ حيث كانوا يفعلون ذلك حتي استطاع تغييره مع الوقت ومَنْعه، بما يُشْبِه ما فَعَلَه معهم عند تحريم الخمر عليهم حيث لم يمنعهم منها مرة واحدة وإلا صَعُبَت عليهم الاستجابة لأنها كانت جزءاً أصيلاً من حياتهم وإنما مَنَعَهم بالتدريج.. هذا، وقد يَحدث في بعض حروب الإسلام ضدّ المُعتدين عليه وعلي بلاد المسلمين أن يتمَّ أَسْر بعض النساء ويرفضنَ العودة لبلادهنّ لسببٍ من الأسباب فأمثال هؤلاء مَن أرادَت منهنّ الزواج تُزَوَّج بعقدٍ ومَهْر، أيْ إذا أَسَرَتهنّ الدولة المسلمة بعد الحروب ولم يَكُن لهنّ أزواج أو فقدنهن في الحرب ويَرْغَبْنَ في العيش في الدولة المسلمة مع البقاء علي دينهن فتقوم الدولة برعايتهن والإنفاق عليهن وإيجاد عمل لهن وتزويجهن حينما يُرِدْنَ الزواج ومِمَّن يريد الزواج منهن وهي صورة من صور حفظهن ورعايتهن وعيشهن بين المسلمين والمسلمات في المجتمع المسلم لعلهن يتعلمن الإسلام فيُصبحن مسلمات فيَسعد الجميع.. فإنهم في هذه الحالة غير مُؤَاخَذِين حتماً علي تَرْك الحِفْظ لأنه أمرٌ حَلالٌ أيْ مُفِيدٌ مُسْعِدٌ مِمَّا أحَلّه الله تعالي في الإسلام.. "فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)" أيْ فمَن طَلَبَ وفَعَلَ غير ذلك، أيْ يَزْنِي، فهؤلاء هم المُعْتَدُون، أيْ فقد اعتَدَيَ علي شرع الله، علي الإسلام، أيْ جاوَزَ الحلال وهو المُفِيد المُسْعِد في الداريْن ودَخَلَ في الحرام وهو المُضِرّ المُتْعِس فيهما
ومعني "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنَة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم راعون لأماناتهم أيْ حافظون تماماً دائماً ولا يَخونون ويَرُدّون كل ما تمَّ الائتمان عليه عندهم سواء أكان مالا أم شيئا عَيْنِيَّاً أم أسراراً قولية أم ما شابه هذا، وأعظم هذه الأمانات التي يُراعونها وأوّلها وأهمّها حفظ أمانة الله ورسوله (ص) وهي الإسلام من خلال التمسّك والعمل به والدعوة له بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة والدفاع عنه ضِدّ مَن يعتدي عليه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وهم دوْماً راعُون ولا يَنقضون أبداً عهودهم وعقودهم ومواثيقهم ومعاهداتهم ووعودهم ومواعيدهم ونحو هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالعمل بكل أخلاق إسلامهم ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فبانتشار رعاية الأمانات وهذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس علي أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم بينما بانتشار الخيانة والغَدْر والخِسَّة والتَّلاعُب والمُرَاوَغَة والكذب يفقدون أمانهم وينتشر بينهم الثأر والانتقام والتَّشَاحُن والتَّبَاغُض والتَّقَاطُع فيَتعسون حتما فيهما
ومعني "وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنَة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم دائماً على صلواتهم يحافظون – إضافة للآية السابقة رقم (2) والتي تفيد أنهم فيها خاشعون – أيْ يُؤَدّونها على أكمل وأفضل وجه، ويُداومون عليها فلا يتركون أيّ وقتٍ من أوقاتها الخمسة ولا ينشغلون عنها بأيِّ شاغِلٍ ويحافظون علي كيفية أدائها بكل إتقانٍ ليسعدوا بآثارها في دنياهم ثم أخراهم، وكلٌّ من الآيتين الكريمتين معناهما مُتَقَارِب ويُكْمِل ويُؤَكِّد بعضه بعضا ويُنَبِّه لأهمية الصلاة ويَمدحهم علي عنايتهم التامّة بها ويُشجعهم علي الاستمرار فيما هم فيه من خيرٍ كثيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن
ومعني "أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)"، "الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها هم الوارثون حتماً يوم القيامة لتمام ما لا يُوصَف من كلِّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ في جناتٍ فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر أيْ يَنتقل كل ذلك إليهم ويَصير كالميراث لوَرَثَته حيث يكون ملْكَاً وحَقّاً خالصاً باقياً لهم يَتَصَرَّفون فيه كما يشاؤون خالدين، من عظيم فضلي ورحمتي عليهم، في مُقابِل الذي كانوا يعملونه من كل خيرٍ وَصَّيْتهم به في الإسلام أثناء دنياهم.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمتهم بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. "الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)" أيْ هذا بيانٌ لِمَا سيَرِثونه وتعظيمٌ وتأكيدٌ له.. أيْ هم الذين يَرِثون الفردوس أيْ أعلي الجنة وأفضلها.. ".. هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)" أيْ هم في هذه الجنات العظيمات بخيراتها التامّات خالدون أيْ دائمون باقون مُقِيمون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)"، "ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)"، "ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ ولقد أوْجَدنا وابْتَدَعنا الإنسان من عَدَمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ ووَضَعْنا فيه رُوحَاً وعَقْلَاً وحَوَاسَّاً وقوىً متنوِّعة مُبْهِرَة، كل ذلك من سلالةٍ من طين أيْ خِلْقَته قد سُلَّت أيْ أُخِذَت من طينٍ أيْ تُرابٍ وماء، فأبوه آدم منه ثم كل نَسْله أيْ ما يخرج منه مِن سُلالته وذرّيته هم من ماءٍ مَهينٍ أيْ حقير مُسْتَقْذَر معروف هو المَنِيّ، وهذا تذكيرٌ ضِمْنِيٌّ له بأنْ يظلّ مُتَذكِّرا أصله دائما فلا يَتَعَالَيَ علي مخلوقات الله في كوْنه فيتعس بذلك في دنياه وأخراه بل يُحسن استخدامها ليسعد تمام السعادة فيهما.. "ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)" أيْ ثم جعلنا الإنسان بعد أن خلقناه مِن سُلاَلَةٍ مِن طين، بقُدْرَتنا وعِلْمنا، جعلناه نُطفة، يَتَنَاسَل منها وتكون بداية تكوينه، أيْ قطرة ماءٍ صغيرة، والمقصود جعلناه حيواناً مَنَوِيَّاً ضعيفاً مهيناً موجوداً في المَنِيّ الذي يَقْذِفه الرجل في قرارٍ مكينٍ أيْ في مكانٍ مُسْتَقِرٍّ مُتَمَكِّنٍ حَصِينٍ وهو رَحِم المرأة.. "ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)" أيْ ثم بعد ذلك، بقُدْرَتنا وعِلْمنا، خَلَقنا النطفة عَلَقَة وهي التي تَتَكَوَّن حينما يَجتمع الحيوان المَنَوَيّ من الرجل مع البويضة من المرأة وهي عبَارَة عن مجموعة خلايا دقيقة تَتَعَلّق بالجدار الداخليّ للرحم، ثم خلقنا العَلَقَة مُضْغَة بأنْ تَزداد في الحَجْم تدريجياً حتي تصبح مِثْل حَجْمِ قطعةِ لحمٍ صغيرةٍ قَدْر مَا يَمْضغ الماضِغ، ثم خَلَقْنا المُضْغَة عظاماً بأنْ حوَّلناها تدريجياً ليَظْهَر فيها عظام الهيكل العظميّ ثم أَلْبَسْنَا وغَطّيْنا العظام لحماً هو عَضَلاَت الحَرَكَة، ثم جعلناه أي الإنسان خَلْقَاً آخر مُخْتَلِفَاً عن بداية تكوينه حيث أصبح مُكَوَّنَاً من روحٍ وجسدٍ من لحمٍ ودمٍ وعظمٍ وأعضاءٍ وأجهزةٍ وعقلٍ وفكرٍ وشعورٍ وكلامٍ وتفاهمٍ وطموحٍ وحركةٍ بما يجعله ينتفع بالحياة ويسعد بها تماما.. ".. فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)" أيْ فبالتالي إذَن تَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله لأنه هو أحسن الخالقين حيث خَلْقه كله سبحانه علي أحْسَن وأتْقَن حال، والإنسان هو أحسن مخلوقاته علي الإطلاق، فهو عز وجل أحسنَ مَن خَلَق وصَنَع ولم ولن يتمكن أيّ أحدٍ مهما كان أن يَخلق مثل أيٍّ مِن خَلْقه سبحانه مهما صغر وهو المُتَّصِف بأحسن الصفات وأكملها الذي خَلَق الخَلْق جميعا وأحسن خَلْقهم ويُرَبِّيهم ويَرزقهم فيُحْسِن تربيتهم ورزقهم بكلّ أنواع الأرزاق المُسْعِدَة ويَفيض عليهم بكلّ نِعَمه الظاهرة والباطنة ويُرشدهم إلي كلّ ما فيه خيرهم وسعادتهم في الداريْن، أيْ فاسْتَحَقَّ بالتالي كلّ تعظيمٍ وتنزيه حيث لا يشبهه أيّ أحدٍ في ذلك، فاطلبوا إذن بَرَكته وعَظّموه وابْعِدوه عن كلّ صفةٍ لا تليق به فله كلّ صفات الكمال الحُسني وهو القادر علي كلّ شيء وهو الذي قد زادَت بركاته وحَلّت أيْ زادت خيراته وأفضاله في كل شيءٍ علي كلّ خَلْقه وهي مستمرّة لهم ومُتَزَايِدَة دون انقطاع، فهو تعالي إذن المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، فاعبدوه واشكروه والجأوا إليه لتَسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)" أيْ ثم إنكم أيها الناس بعد ذلك الخَلْق لكم ونَفْخ الأرواح فيكم وإحيائكم في الحياة الدنيا لفتراتِ آجالكم المُحَدَّدَة مَيِّتُون حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – واللام للتأكيد – أيْ صائِرُون إلي الموت وهو زوال الحياة أيْ سيَنتهي أجلكم في دنياكم بقَبْض أرواحكم التي هي سبب حياتكم بقُدْرَتنا وعِلْمنا وحِكْمتنا في التوقيت المُحَدَّد لذلك دون تقديمٍ أو تأخير، وستَتَحَوَّلون إلي ترابٍ مثلما كنتم سابقا، فلا يَتَوَهَّم أحدٌ أنه مُخَلَّد فيها ولن يُحَاسَب علي ما فَعَل!
ومعني " ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)" أيْ ثم إنكم تُبْعَثون يوم القيامة أي تُحْيَوْنَ بقُدْرَتنا مرة ثانية بأجسادكم وأرواحكم بعد موتكم وكوْنكم ترابا حيث الجميع سيرجعون إلينا لا إلي غيرنا لنكون نحن الحاكم بينكم بحُكمنا العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلتم فيكون للمُحْسِن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة ويكون للمُسِيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، فأحسنوا بالتالي الاستعداد لذلك بفِعْل كلِّ خيرٍ وتَرْك كلِّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)"، "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)"، "فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)"، "وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)"، "وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)"، "وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)" أيْ وهذا مزيدٌ من البيان لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ ولقد أوْجَدنا من عَدَمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ فوقكم أيها الناس سَبْع سماوات، وسُمِّيَت طرائق لِتَطَارقها أيْ لأنَّ بعضها فوق بعض حيث العرب يقولون طارَقْتُ الشيءَ أيْ جَعَلْتُ بعضَه فوق بعض، ولأنَّ بها طرُقَاً للملائكة من أجل حركتها، وطرُقَاً أيْ مَسَاراتٍ لحركة الشمس والقمر والكواكب والنجوم وغيرها.. ".. وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)" أيْ ولسنا حتماً أبداً في أيِّ لحظةٍ من اللحظات غافلين عن الخَلْق الذي خَلَقْناه كله أيْ مُنْشِغِلين عنهم ناسِين لهم لأننا معهم دَوْمَاً بقُدْرَتنا وعِلْمنا أينما كانوا نَحفظهم ونَرْعاهم ونَرْزقهم ونُرَبِّيهم ونُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ ونقوم دائماً وتماماً علي إدارة كلِّ شيءٍ في كوْننا علي أكمل وجهٍ بما يَرْعَيَ ويُصْلِح ويُسْعِد خَلْقنا ونُسَجِّل علي بني آدم أقوالهم وأفعالهم لنُحاسِبهم عليها بما يُناسب في دنياهم وأخراهم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فعَلَيَ الناس بالتالي حُسْن التعامُل مع ذلك بفِعْل كلِّ خيرٍ وتَرْك كلِّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)" أيْ وكذلك من بعض مُعجزاتنا ومن تمام قدْرتنا وعلمنا ورحمتنا وعطائنا أنزلنا من السُّحُب في السماء ماءً بقَدَرٍ أيْ بمِقْدارٍ مُحَدَّدٍ دقيقٍ مَضْبوطٍ في توقيتٍ وبأسلوبٍ نافِعٍ مُسْعِدٍ لا مُضِرٍّ مُتْعِس وبحكمةٍ وتقديرٍ في تكوينه وإنزاله فهو علي حسب حاجة الخَلْق فلا يزيد فيغرقوا ويهلكوا ولا يَقِلّ فيعطشوا ويموتوا، فأحيينا بهذا الماء كل حيّ وأنبتنا وأخرجنا كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. ".. فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ.." أيْ فجعلناه ساكِنَاً مُسْتَقِرَّاً في داخل الأرض وسطحها علي هيئة أنهارٍ أو آبارٍ أو ينابيع أو نحوها أو بحارٍ للأحياء البحرية، وذلك حتي يسهل انتفاعكم وسعادتكم به.. ".. وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)" ونحن قادِرون – واللام للتأكيد – حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ علي إزالةٍ وإنهاءٍ وإخفاءٍ له فلا تَنتفعون به بل وتهلكون بإذهابه كما كنّا قادِرين علي إنْزاله وإسْكانه، وذلك بعدم إنزاله أصلاً أو تجفيفه أو تعميقه بحيث يصعب الوصول إليه والحصول عليه أو نحو هذا، فنحن حتماً علي كل شيءٍ قادرون تمام القُدْرة فبمجرّد أن نقول لشيءٍ كن فيكون كما نريد لا يمنعنا مانِع ولا يصعب علينا شيء، ولكننا لم نفعل ذلك رحمة بكم.. وفي هذا تذكيرٌ للناس بأنْ يكونوا دوْمَاً من الشاكرين لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحَمْدِه وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم: 7)، كما أنَّ فيه تهديداً وتحذيراً وتنبيهاً شديداً أنَّ عدم شُكْر النِّعَم وسوء استخدامها يُؤَدِّي إلي ذهابها.. "فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)" أيْ فأوْجَدْنا وأنْبَتْنَا وأخْرَجْنا وخَلَقْنا لكم أيها الناس بهذا الماء بساتين كثيرة مُتَنَوِّعَة من نخيلٍ وأعنابٍ وغيرها وهما صِنْفان مُتَمَيِّزان مَشْهُورَان نافِعان مُرْبِحان لمَن يمتلكهما لكم فيها أيْ في هذه الجنات فواكه كثيرة أيْ متنوّعة لذيذة مِمَّا تَشْتَهُونَه وتَتَمَنّونه ومنها تأكلون أي وتأكلون من هذه الجنات والفواكه هنيئاً كيفماَ تُريدون وحسبما تَختارون بما يَنفعكم ويُسعدكم، والفاكهة بعد الطعام الأساسيّ دلالة علي تمام الفخامة والرفاهية والنعيم.. "وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)" أيْ وأنشأنا لكم به كذلك شجرة تَنْبُت مِن طور سيناء، وهو جبل الطور بمنطقة سيناء بمصر وهو الجبل المُقَدَّس المُكَرَّم لأنه هو المكان الذي حَدَثَت عنده معجزة أنَّ الله تعالي كَرَّمَ موسى (ص) بأن كَلّمَه وأسْمَعَه صوته بدون ساتِرٍ وأنزل عليه التوراة فيها الإسلام المُناسب لعصره المُسْعِد للبَشَر وقتها، والمقصود شجرة الزيتون التي من صفاتها ومزاياها أنها تَنْبُت بالدُّهْن أيْ تُثْمِر بالزيت أيْ تُثْمِر بثَمَرٍ به زيت الزيتون النافِع المُفيد لكم كتغذيةٍ وتجارةٍ وصناعةٍ وعلاجٍ ونحوه وصِبْغٍ للآكِلِين أيضاً أيْ وإدَامٍ لهم والإدام هو كل ما يُؤْكَل بالخبز أيْ ويَغْمِس الآكل فيه اللقمة ويَأكلها فينتفع ويسعد بها ويُسَمَّيَ الإدام بالصبْغ لأنه عادة يَصْبِغ لقمة الخبز بلونه، والمقصود بيان كثرة فوائد هذه الشجرة وخيراتها ونِعَم الله تعالي علي الناس فيها لشكره عليها وعلي كل نِعَمه التي لا تُحْصَيَ، وقد خُصَّت شجرة الزيتون بالذكر لانتشارها ولطول عمرها ولسهولة زرعها ولمنافعها الكثيرة الغذائية والصناعية والتجارية والعلاجية وغيرها، كما خُصَّت سيناء بالذكر رغم أنَّ زراعتها تكون في أماكن غيرها وذلك لكثرتها بها ولِرَبْطها بمكانٍ مُبَارَكٍ للتذكير بأنها شجرة مُبَارَكة كثيرة الخير.. "وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)" أيْ وأيضا إنَّ لكم أيها الناس في خَلْق الأنعام – جَمْع نَعَم وسُمِّيَت كذلك لأنها نِعْمَة من الله وتُطْلَق علي الإبل والبقر والغنم – لَعِظَة، واللام للتأكيد، أيْ مَوْعِظَة تَتّعِظون بها حينما تَتَدَبَّرون في قُدْرَة خالِقها وعِلمه وحِكمته ورحمته وكيف سَخّرها لكم رغم قوَّتها حيث كان من المُمْكِن أن تَفْتَرِسَكم كحيواناتٍ أخري مُفْتَرِسَة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (5) من هذه السورة سورة النحل "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ" حتي الآية (8) منها، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن منافعها وسعاداتها).. ".. نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا.." أيْ هذا بيانٌ لِعِبْرَةٍ من بين العِبَر التي في خَلْق الأنعام والتي عليكم أن تَتَدَبَّروها حيث قد تَسْتَقِلّوها وتَغْفلوها إذ نُشْرِبكم من بعض ما في بطونها مِن بين فَرْثٍ أيْ فَضلاتِ طعامٍ مَهْضُومٍ في مَعِدَتِها كَريه الرائحة ودَمٍ حوله في جدارها لا يُسْتَساغ شُرْبه نُشْرِبكم ونُخْرِج لكم بقُدْرتنا ورحمتنا لمنافعكم ولسعاداتكم لَبَنَاً صافياً بلا روائح سَيِّئة ولا شَوائب ولا أضرار رغم وجوده بين الفرث والدم سائغاً أيْ سَهْلاً في تَناوُله وابْتِلاعه لذيذاً مُمْتِعَاً في مَذاقه للشاربين الذين يريدون شُرْبَه والانتفاع والتّغَذّي والتّمَتّع والسعادة به.. ".. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ.." أيْ وأيضاً لكم في الأنعام منافع كثيرة مُتَعَدِّدَة غير ذلك حيث تأخذون منها أصْوَافها وأوْبَارها وأشْعَارها وجلودها فتصنعون مَلْبُوسات ومَفروشات وأغطية وغيرها وحيث تُتاجرون فيها ونَسْلها فتَرْبحون وتستخدمونها وعظامها ودهونها وألبانها وغيرها في استخداماتٍ وصناعاتٍ مختلفة وتحملكم وتنقلكم من مكانٍ لآخر وتحملون عليها أمتعتكم وبعض تجاراتكم في بعض أماكنكم غير المُمَهَّدَة، ونحو هذا.. ".. وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)" أي ومن بعضها تأكلون ما يمكن أكله من لحومها النافعة المُتَنَوِّعَة وبعض أعضائها.. وقد خَصَّ تعالي بالذكر مَنْفَعَة الأكل رغم أنها من المنافع عموماً لأنها غالباً الأكثر استخداما.. "وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)" أيْ وعلى بعض هذه الأنعام التي تُرْكَب في البَرّ وعلى السفن في البحر تُحْمَلون أيْ يَحملكم ويَنقلكم وبضائعكم الله الذي سَخَّرَ لكم كلّ هذا وسَهَّلَ أسبابه بقدرْته وأعطاكم العقول والقوَيَ المختلفة لتنتفعوا ولتسعدوا به.. فاعبدوه واشكروه وتوكّلوا عليه وحده
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وغيره عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة الأعراف وهود وإبراهيم وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)" أيْ ولقد بعثنا رسولنا الكريم نوحا إلي مَن يُقيم فيهم ومَن حوله مِن الناس ليُبَلّغهم الإسلام ليسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فقال لهم مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً لهم يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي اعبدوا الله أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام، حيث هو وحده الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة، فلا يَدَّعِي أحدٌ أبداً أنه ربّ الناس والخَلْق الآن وعليهم أن يعبدوه لأنه حتما سيكون كاذبا لأنه لو كان كذلك فمَن إذَن الذي خَلَقَ الخَلْقَ السابق قبل أن يُولَد هذا المُدَّعِي الكاذِب؟!! وحيث هذا الإسلام هو الذي يُنَظّم لكم كل لحظات حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنه من عند خالقكم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها.. هذا، ولفظ "يا قوم" يُفيد تذكيرهم بأنه منهم وهم منه وهو أخوهم وهو يُحِبّهم ويُشْفِق عليهم ويريد مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم كما يريدها لنفسه، من أجل تحريك مشاعرهم بداخل عقولهم وتوجيهها لقبول دعوته، رسالة ربه، وصاياه ومواعظه وأخلاقه وأنظمته وتشريعاته، الإسلام.. ".. أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)" أيْ فبالتالي، ألَاَ تتقون الله الذي خَلَقكم ورَزقكم وتخافون عقابه في الداريْن وزوال نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليكم بسبب عبادتكم لغيره؟! هل لا تُحْسِنُون استخدام عقولكم فتكونوا من المُتّقِين له فتعبدوه وحده وتتركوا عبادة غيره؟! أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يعبد الله ولا يَتّقِيه ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)" أيْ فقال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – الذين كفروا من قومه أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا لِقومهم ولأتْبَاعهم ولِعُموم الناس حولهم لِمَنْعِهم من اتّباعه بعبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام، مُكَذّبين له مُشَكّكِين فيه مُحَذّرِين منه مُعانِدين مُستكبرين مُسْتَهْزِئين مُصِرِّين علي ما هم فيه، ما هذا أيْ ما نوح، ولم يذكروا اسمه للتقليل من شأنه ودينه، إلا بَشَرٌ مثلكم تماماً إنسانٌ لا فرق بينكم وبينه ولا يَتَمَيَّز عنكم بشيءٍ فكيف يَدَّعِي أنه يُوحَيَ إليه ولكنّه يريد أن يَتَرَأّسَ ويَتَرَفّع عليكم فتكونوا تابِعين له فيَنْهَب خَيْراتكم، يريدون بذلك التنْفير منه والحَثّ علي عَداوته ومقاومته ومَنْعه مِن نَشْر إسلامه، ولو أرادَ الله الذي يَدَّعِي نوحٌ أنه الإله الأحد أنْ يُرْسِل إلينا رسولاً لِيُرْشِدنا لعبادته وحده لَكَانَ أرْسَلَ ملائكة من عنده تكون رُسُلَاً لنا فتَفعل ذلك وبما أنه لم يَفعل هذا فإذَن بالتأكيد هو ما أرسل أيَّ رسولٍ ونوح كاذب، ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه نوح وهو عبادة الله وحده واتّباع دين الإسلام وبهذا الإرسال لرسولٍ مِن البَشَر في تاريخ أجدادنا السابقين الذين نَعْبد الأصنام مِثْلهم.. إنهم يعتبرون الرسول الكريم نوحا (ص) ليس إلا بَشَرَاً مثلهم فهو ليس مَلَكَاً من الملائكة أو له فضل عليهم بل هم أفضل منه من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك! ولم يُنزِل الله أيَّ تشريع ليوصله لهم ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع ملائكته! فنُوُحٌ إذَن كاذب! وبالتالي فهم في المُقابِل مُكَذّبون بما أرْسِل به إليهم!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة
ومعني "إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لتكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغَتهم وتَشْكيكهم حيث يَصِفون رسولهم الكريم كذباً وزُورَاً وسُخْرِيَة بما هو بَريءٌ منه حتما.. أيْ ما هو أيْ ما نوح إلا رجلٌ به جنون ولذا يقول هذا الذي يقوله، فهو لا عقل له يتكلّم كلاماً لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل، وهم لا يَذكرون اسمه للتقليل وللتحقير من شأنه ودينه، فبالتالي وإذا كان أمره كذلك تَرَبَّصُوا به حتي حين أيْ انتظروا به إلي زمنِ موته أو إلي وقتِ شفائه وإفاقته من جنونه وتَرْكه للسَّفَه الذي يقوله وحينها ستَرْتاحون وستَتَخَلّصُون من شَرِّ وتعاسة هذا الذي يَدْعوكم إليه!!
ومعني "قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)" أيْ قال نوح لاجِئَاً مَتَوَسِّلَاً إلي ربه – وعلي كل مسلم أنْ يَتَشَبَّه دائماً بالرسل الكرام ويتوكّل دَوْمَاً علي الله في كل شئونه ويدعوه ويَلْجَأ إليه خاصَّة عند الشدائد – يا رب انصرني بسبب أنهم كذّبوني ولم يُصِدِّقوني ويَتّبِعُوني في عبادتك وحدك، أيْ اجْعَل الغَلَبَة والفوز لي وللمؤمنين بعَوْنك وتأييدك وتَيْسيرك واهْزِم المُكَذّبين واضعفهم واهلكهم وانْشُر وأعِزّ دينك الإسلام ليَسعد الناس به في الداريْن فأنت القويّ القادر علي كل شيء، وذلك الدعاء بعدما أوْحَيَ الله تعالي إليه في قوله "وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ.." (هود:36) وتَأَكَّدَ أنهم لن يؤمنوا باستثناء القِلّة القليلة التي أسْلَمَت معه، رغم بقائه بينهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذَكَرَ القرآن في مَوْضِعٍ آخرٍ يَدعوهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة وبتَنَوُّعٍ لكل أساليب الدعوة المُمْكِنَة وبصَبْرٍ تامٍّ علي أذاهم.. إنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)" أيْ فاسْتَجَبْنا دعاءه حينها فأخبرناه عن طريق الوَحْي من خلال المَلَك جبريل أن اصْنَعِ الفلْك بأعْيننا ووَحْينا أيْ قُمْ يا نوح بصناعة السفينة لِنُنجيكم عليها حينما يَحْدُث العذاب والهلاك للمُكَذّبين بالفيضان الهائل، بأعيننا أيْ بنَظَرنا، أيْ بتمام رعايتنا وحمايتنا وحِفْظنا وتأييدنا وعوْننا وتيسيرنا لأمورك وتوفيقنا ونصرنا، ووَحْيِنا أيْ وبإخبارنا وتَوْجِيهنا لك عن طريق الوَحْي من خلال المَلَك بما عليك فِعْله وكيفية عِلْم تصنيعها حيث أنت لا تعلم ذلك.. وأيّ إكرام واهتمام وحب وأمان وعزّ أفضل من هذا؟!.. وفي هذا طَمْأَنَة وتسلية للمسلمين أنَّ الله معهم دوْما بعِلْمه وقُدْرَته وناصرهم ومُعِزّهم ومُسْعِدهم ومُنْتَقِمٌ لهم مِن عدوّهم.. ".. فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ.." أيْ فبَعْدَ إتْمامك لِصِناعته فإذا جاء وقت أمرنا بعذابهم وبإهلاكهم وفارَ التّنُّور أيْ وخرج الماء من التنور وهو سطح الأرض بقوةٍ فائراً ذا رغوةٍ كالماء الذي يَغْلِى فوق النار وانْفَجَرَ وانْدَفَعَ من كل مكانٍ ليُغْرقهم حتي جاء من التنور وهو أيضا يعني المَوْقِد أيْ مكان إشعال النيران لعمل الخبز وطهي الطعام رغم أنه من المُفْتَرَض أن يكون أبْعَدَ شيءٍ عن الماء ولكنه أمر الله وغضبه وعذابه الشامِل، سيكون فَوَرَان التنور هذا هو علامة بَدْء مَجِيء العذاب، فإذا حَدَثَ ذلك فحينها اسْلُك فيها أيْ فأدخل في السفينة معك من كل نوعٍ من أنواع المخلوقات كالحيوانات والطيور والنباتات وغيرها ذكراً وأنثى، وسنُعاوِنك علي ذلك ونُوَفّقك له ونُيَسِّره عليك، لتبدأ بهم الحياة الجديدة النَّقِيَّة السعيدة بعد إهلاك أهل الشرِّ والظلم والتعاسة، وأَدْخِل فيها كذلك أهل بيتك جميعاً إلا مَن سَبَقَ عليه القول منهم فلا تُدْخِله معكم واتْرُكه خارجها لِيَغْرَق مع المُغْرَقِين أيْ الذي سَبَقَ عليه الحُكْم مِنّا بإهلاكه سابقاً قبل إنجائكم لاختياره الكفر والسوء وإصراره عليه، كزوجتك وابنك ومَن تَشَبَّه بهما، ويَشْمَل لفظ "وأَهْلَك" أيضاً كلّ أهل الإيمان مِمَّن آمَنوا معه من قومه وعموم الناس.. هذا، والحال والواقع أنه ما آمَنَ معه إلا عددٌ قليلٌ رغم حُسْن دعوته وطول مدّتها.. ".. وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)" أيْ ولا تُكَلّمني في شأن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بكفرهم وتكذيبهم وفِعْلهم للسوء وإصرارهم التامّ علي ذلك بأنْ تَدْعُوني وتَسألني وتَرْجُوني تأجيل أو تخفيف أو منع عذابهم أو رحمتهم إشفاقاً عليهم فإنهم مُغْرَقُون حتماً بسبب هذا أيْ مَحْكُومٌ عليهم بالإغراق بفيضان الماء وليس هناك أيّ طريقٍ لمَنْعه حيث قد صَدَر حُكْمِي بهذا ولا رَادَّ له، ومَن كان هكذا فهو لا يَسْتَحِقّ الدعاء له، وذلك رحمة بالمؤمنين وإسعاداً لهم بتطهير الأرض من شرورهم وتعاساتهم
ومعني "فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)" أيْ فإذا اسْتَقَرَّيْتَ آمِنَاً أنت ومَن معك من المؤمنين علي السفينة فقل وقولوا جميعا شاكرين الله تعالي علي نِعَمِه التي لا تُحْصَيَ عليكم وعلي كل خَلْقه ومنها نِعْمَة إنْجائكم: الحمد لله الذي أنقذنا برحمته وفضله وقوّته وعَوْنه ورعايته من شرِّ القوم الظالمين حولنا ومن العذاب والهلاك بالغَرَق، الحمد لله حمداً كثيراً علي أنْ نَصَر أهل الخير وأعَزّهم وأسعدهم وصَدَق وَعْدَه معهم وطهَّرهم من أهل الشرّ وأذَلّهم وأذاقهم ما يستحِقّونه بسبب ما فعلوه من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات.. إنَّ هذا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خير دون أيّ شرّ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولاً وقوة وصحة وأعانهم ورزقهم وخَلَقَ وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها
ومعني "وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)" أيْ وقل وقولوا داعِين ربكم ليستجيب لكم ليُسْعِدكم في الداريْن يا ربّ أنْزلنى إنْزالاً أو مَكانَ إنزالٍ أيْ ضَعْنِي مَوْضِعَاً ومَكّنِي في مَكانٍ، مباركاً دائماً في كل أحوالي بكل لحظات حياتي، أيْ كثيرَ دائمَ الخيرِ أيْ كله بَرَكَة أيْ زيادة دائمة مُيَسَّرَة في كلّ خيرٍ وسعادةٍ ورحمةٍ وأمنٍ واستقرارٍ ويُسْرٍ وتوفيقٍ وعَوْنٍ وتكريمٍ ورزقٍ من كل الأنواع، بلا مَشَقّةٍ وتعاسة، يَتَسَبَّب في خيرٍ مُسْتَمِرٍّ بدنياي وأخراي، فأنتَ خيرُ المُنْزِلِين لعبادك الصالحين في مكانِ الأمن والخير والسعادة بفضلك وكرمك ورحمتك، أيْ أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالق بالمخلوق؟! لأنَّ كلّ مُنْزِلٍ غيرك يُنْزِل لغرضٍ مَا أمّا أنت يا ربنا فإنْزالك لا لطَلَب عِوَضٍ أو غرضٍ وإنما هو لفضلك وكرمك الخالص بلا مُقابِل، وتُعْطِي نَزِيلَك ما يُسْعِده، ولا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منك فأنت خالِقهم وهم خَلْقك وصَنْعَتك وتُحِبّهم وما خَلَقْتهم إلاّ لتُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمتك سبحانك فأنت أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة والمُنْزِلِين إنْزالا.. إنَّ المسلم الدائمَ التّوَاصُل مع ربه، بهذا الدعاء وما يُشْبِهه من أدعية (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (80) من سورة الإسراء "وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، سيَعيش حتماً دَوْماً في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، وذلك بقُدْرته ورحمته وكَرَمه الخالق المالِك للمُلك كله الرزّاق الكريم الوهّاب الودود الرحيم سبحانه
ومعني "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)" أيْ إنَّ فِي ذلك الإهلاك للأمم المُكَذّبة السابقة وفي ذلك الذي ذُكِرَ في السورة الكريمة وفي ذلك القَصَص في القرآن الكريم كله والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه بالتأكيد ولاشكّ – واللام للتأكيد – آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وتدلّ علي أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتماً سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. ".. وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)" أيْ وإنّا كنّا، وقد كنّا وما زلنا وسنظل حتما، وما كنّا إلا، وما كان حالنا وشأننا إلا، بالتأكيد، مُبْتَلِين، أيْ مُخْتَبِرِين للناس، أحياناً واستثناءً بالسَّيِّء المُضِرّ المُتْعِس مُتَمَثّلَاً في الخوف والتعْسِير والفقر والمرض والضرَر ونحوه، وكثيراً وهو الأصل لا الاستثناء بالحَسَن المُفِيد المُسْعِد المُتَمَثّل في السلامة والأمن والتيسير والعافية والخير والرزق والكثرة في الأنفس والذرِّيَّات والمَالِيَّات والمُمْتَلَكات وما شابه هذا، لكي يكون هذا الاختبار بالشَّرِّ والخير ابتلاءً أيْ اختباراً لهم، أيْ لكي يَتَمَيَّزَ الشاكر للخير والصابر على الشرّ مِن الذي لا يشكر الخير ولا يَصْبِر علي ما يُصِيبه مِن شَرّ، أيْ لكي يَنْتَبِهوا ويَظلّوا دائماً مُتَذَكّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنهم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولهم فبالتالي يستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فيسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لهم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – ليكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا يَفعلوا أبداً مِثْله.. هذا، وإنْ كان الاختبار في صورةِ ضَرَرٍ مَا فعليهم أنْ يَصْبِروا عليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن.. ثم برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولاكتمال المعاني مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم الآية (155) من سورة البقرة "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين".. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، ( 15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة.. ثم مراجعة كيفية حُسْن خلافة الله تعالي في أرضه في الآية (30) من سورة البقرة "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.."، ثم مراجعة تجربة وقِصَّة الحياة وسببها وسبب الخِلْقَة وحِكْمَة سَمَاح الله تعالي بوجود الشرّ فيها في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف).. ثم جميع الناس حتماً سيُرْجَعُون إلينا لا إلي غيرنا في الآخرة يوم القيامة حين نبعثهم بأجسادهم وأرواحهم من قبورهم، ونحن أعلم بهم تمام العلم، لنكون الحاكم بينهم بحُكْمِنا العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلوا فيكون للمُحسن الشاكر الصابر كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء غير الشاكر غير الصابر ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين الشاكرين الصابرين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه سبحانه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31)" أيْ ثم خَلَقْنا وأوْجَدْنا من بعد قوم نوح قَرْنَاً آخرين غيرهم، والقَرْن هم مجموعة من الناس تعيش في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض
ومعني "فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)" أيْ فأتْبَعْنا إنشاءهم بأنْ أرْسلنا فيهم أيْ بَعَثْنا إليهم رحمة بهم وإسعاداً لهم رسولاً أيْ مَبْعُوثَاً ليُبَلّغهم الإسلام ليسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم هو منهم ليس من خارجهم غريباً عنهم بل يعيش بينهم في بيئتهم بحيث يَعرفون أصْلَه ونَسَبَه ونشأته وصَلاحه وأخلاقه وصِدْقه لكي يَسهل عليهم بالتالي الثقة به وتَصديقه واتّباعه والاقتداء بأقواله وأفعاله حين يُطَبِّق الإسلام أمامهم عملياً فيُسْلِموا فيَسعدوا في الداريْن كما أنَّ كوْنه منهم يكون أبْعَد لنُفورهم منه ويَكْشِف كَذِب حُجَّة مَن يُكَذّب به مُدَّعِيَاً كذباً وزُورَاً أنه لا يعرفه لأنه غريبٌ عنهم وقد يكون مُخَادِعَاً لهم، وهذا الإرسال هو مثلما نفعل مع كل الأمم فهذه هي دائما طريقتنا وعادتنا فنحن مِن عظيم رحمتنا وحُبِّنا لخَلْقنا وحِرْصنا علي إسعادهم بالداريْن لا نَتْرُكهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة.. ".. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.." أيْ فقال لهم ما قاله كلُّ رسولٍ لقومه مُتَلَطّفَاً معهم مُشْفِقَاً عليهم ناصِحَاً إيَّاهم أن اعبدوا الله يا قوم يا أهلي وأحِبَّائي أيْ أطيعوه وحده ولا تشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، فليس لكم أيّ إله أيْ مَعْبُود يَسْتَحِقّ العبادة غيره، فأطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظامه وشرعه الإسلام، حيث هو وحده الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة، فلا يَدَّعِي أحدٌ أبداً أنه ربّ الناس والخَلْق الآن وعليهم أن يعبدوه لأنه حتما سيكون كاذبا لأنه لو كان كذلك فمَن إذَن الذي خَلَقَ الخَلْقَ السابق قبل أن يُولَد هذا المُدَّعِي الكاذِب؟!! وحيث هذا الإسلام هو الذي يُنَظّم لكم كل لحظات حياتكم علي أكمل وأسعد وجهٍ لأنه من عند خالقكم الكامل المُنَزّه عن الأخطاء والأهواء الذي يعلم تمام العلم خِلْقَته صَنْعَته وما يُصلحها ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها.. ".. أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)" أيْ فبالتالي، ألَاَ تتقون الله وتخافون عقابه في الداريْن وزوال نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليكم بسبب عبادتكم لغيره؟! هل لا تُحْسِنُون استخدام عقولكم فتكونوا من المُتّقِين؟! أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يعبد الله ولا يَتّقِيه ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)" أيْ وقال الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – من قومه الذين كفروا أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكذبوا بلقاء الآخرة أيْ ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ بإحيائهم بعد موتهم بأجسادهم وأرواحهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار ففَعَلوا بالتالي الشرور والمَفاسد والأضرار لأنَّ الذي لا يُؤمن بذلك يفعلها حيث لا حساب من وجهة نظره بينما مَن يَتَذَكّر الآخرة فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة دائما لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه.. وأترفناهم في الحياة الدنيا أيْ ومَتَّعْناهم فيها من كل مُتَعِها فأساءوا استخدامها حيث استخدموها في الشرِّ لا في الخير فكانت سَبَبَاً في ظلمهم، والمُتْرَفُون هم المُنْغَمِسون في كلّ تَرَفٍ أيْ في كلّ نعيمٍ زائدٍ يَغْلب عليه الفساد والشرّ والاستكبار الأمر الذي يكون كالأغشية علي عقولهم فلا يُحسنون استخدامها بسبب حرصهم الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا الرخيصة، وهؤلاء الملأ هم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، قالوا لِقومهم ولأتْبَاعهم ولِعُموم الناس حولهم لِمَنْعِهم من اتّباع رسولهم بعبادة الله تعالي وحده واتّباع دينه الإسلام، مُكَذّبين له مُشَكّكِين فيه مُحَذّرِين منه مُعانِدين مُستكبرين مُسْتَهْزِئين مُصِرِّين علي ما هم فيه، ما هذا أيْ ما هذا الرسول، ولا يذكرون اسمه للتقليل من شأنه ودينه، إلا بَشَرٌ مثلكم تماماً إنسانٌ لا فرق بينكم وبينه ولا يَتَمَيَّز عنكم بشيءٍ ويُؤَكّد ذلك أنه يَأكل مِمَّا تأكلون منه من طعامٍ ويَشرب مِمَّا تَشربون منه من شراب، فكيف إذَن بالتالي يَدَّعِي أنه يُوحَيَ إليه؟! ولكنّه يريد أن يَتَرَأّسَ ويَتَرَفّع عليكم فتكونوا تابِعين له فيَنْهَب خَيْراتكم، يريدون بذلك التنْفير منه والحَثّ علي عَداوته ومقاوَمته ومَنْعه مِن نَشْر إسلامه، ولو أرادَ الله الذي يَدَّعِي هذا الرسول أنه الإله الأحد أنْ يُرْسِل إلينا رسولاً لِيُرْشِدنا لعبادته وحده لَكَانَ أرْسَلَ ملائكة من عنده تكون رُسُلَاً لنا فتَفعل ذلك وبما أنه لم يَفعل هذا فإذَن بالتأكيد هو ما أرسل أيَّ رسولٍ ورسولنا هذا كاذب! إنهم يعتبرون رسولهم الكريم ليس إلا بَشَرَاً مثلهم فهو ليس مَلَكَاً من الملائكة أو له فضل عليهم بل هم أفضل منه من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك! ولم يُنزِل الله أيَّ تشريع ليوصله لهم ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع ملائكته! فهذا الرسول إذَن كاذب! وبالتالي فهم في المُقابِل مُكَذّبون بما أرْسِل به إليهم!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي أثمان الدنيا الرخيصة الزائلة
ومعني "وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)" أيْ وهذا مزيدٌ من تأكيدهم سُوئهم وقُبْحِهم وتَنْفِيرهم وتَحذيرهم غيرهم من اتّباع رسولهم الكريم.. أيْ وإذا اسْتَجَبْتُم ونَفّذْتُم مَا يأمركم به بَشَرَاً مثلكم إنكم بالتالي إذَن بالتأكيد – واللام للتأكيد – خاسرون بسبب طاعتكم له!! حيث لن تنتفعوا بطاعته بل ستَخسرون مَكَاسبكم من مَكَانتكم وطاعة الآخرين لكم وتَخسرون شَرَفكم ومَجْدَكم باتّباع غير دين آبائكم وأجدادكم وستُصْبِحُون تابِعين تُؤخذ خيراتكم بعد أن كنتم قادة مَتْبُوعين تنتفعون بخيراتكم وغيركم!!.. إنهم مِن شِدَّة سُوئهم يَرَوْنَ الذي يعبد الله تعالي وحده ويعمل بأخلاق إسلامه الصالح المُصْلِح السعيد في نفسه المُسْعِد لغيره، يَرونه خاسراً!!
ومعني "أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من تأكيدهم سُوئهم وقُبْحِهم وتَنْفِيرهم وتَحذيرهم غيرهم من اتّباع رسولهم الكريم.. أيْ وقالوا لهم أيضا مُكَذّبين بالبَعْث بعد الموت يوم القيامة مُشَكّكِين فيه مُسْتَبْعِدين له والحساب والعقاب والجنة والنار: هل يُعطيكم هذا البَشَر مِثْلكم الذي يَدَّعِي أنه رسولٌ وَعْدَاً وعَهْدَاً والْتِزَامَاً لا يُخْلَف أنكم إذا متُّم وأصبحتم تراباً وعظاماً مُفَتّتَة أنكم مُخْرَجُون من قبوركم أحياء مرة أخرى بأجسادكم وأرواحكم كما كنتم في حياتكم الدنيا قبل موتكم للحساب والجزاء حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم في دنياهم في جناتٍ لا يُوصَف نعيمها وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نيرانٍ لا يُوصَف عذابها بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم؟!
ومعني "هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)" أيْ هذا مزيدٌ من تأكيدهم علي تكذيبهم للبَعْث واسْتِبْعادهم له وتَشكيكهم فيه واسْتِهْزائهم به.. أيْ بعيدٌ بعيدٌ ما تُوعَدون به، وهذا تعبيرٌ عند العرب يُفيد البُعْد الشديد للحُدُوث بل وأنه بالتأكيد لن يَحْدُث أبدا
ومعني "إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)" أيْ هذا مزيدٌ من تأكيدهم علي تكذيبهم للبَعْث واسْتِبْعادهم له وتَشكيكهم فيه واسْتِهْزائهم به.. أيْ وقال هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن المُرَاوِغون، قالوا أثناء حياتهم الدنيا مُكَذّبين بالبَعْث أيْ بإحياء الموتي بأجسادهم وأرواحهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا في قبورهم ليوم القيامة حيث الحساب الختاميّ لِمَا فَعَلوا، قالوا مُكَذّبين بوجود الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب، ولذا يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نظرهم، قالوا على سبيل التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحيا فيها وما نحن بمَبْعُوثين بعدها أيْ وليس هناك حياة أخري نُبْعَث إليها بعد موتنا كما تَدَّعون أيها المسلمون لكي نُحَاسَب ونُعَاقَب علي الخير والشرّ بجنةٍ أو نارٍ ونحيا حياة أخري فيهما، فكلّ هذه أمور لا يُمكن تصديقها ومُسْتَبْعَدَة تماما!! فنحن نموت ثم يحيا أولادنا مِن بَعْدِنا ويموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن مُعَيَّن، وَما يُهلكنا عند انتهاء آجالنا إلا الدَّهْر أيْ إلا مرور الزمن والأيام والسنين والعُمْر ومَجِيء الموت، وهم بذلك يُكَذّبون وجود ربٍّ لهم يَخلقهم ويرعاهم ويرزقهم ويُرشدهم بشرعه الإسلام لكل خير وسعادة ويُميتهم ويَبعثهم ويُحاسبهم، وهو أسلوب يدلّ ضِمْنَاً علي شدّة التكذيب بالبعث وغَلْق العقل عن الحديث والتفكير فيه والاستبعاد التامّ له والاستكثار علي الله سبحانه القدْرة عليه!!.. والسبب في قولهم هذا هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لتكذيبهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغَتهم وتَشْكيكهم حيث يَصِفون رسولهم الكريم كذباً وزُورَاً وسُخْرِيَة بما هو بَريءٌ منه حتما.. أيْ وقالوا أيضاً ما هو أيْ ما هذا الرسول إليكم إلا رجلٌ كذبَ علي الله كذباً شديداً لا أَصْلَ له فيما يَدْعو إليه ويَعِد به – والافتراء هو الكذب بكذبٍ شَنِيعٍ ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا، والجَمْع بين الافتراء والكذب هو لمزيدٍ من التأكيد علي الكذب الشديد القبيح – ولذلك ما نحن بمؤمنين أيْ مُصَدِّقين له أبداً فيما يَدَّعِيه كَذِبَاً وزُورَا، وفي هذا تأكيدٌ لكفرهم وبيانٌ لإصرارهم علي الاستمرار عليه ودعوة غيرهم له
ومعني "قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)" أيْ قال الرسول لاجِئَاً مَتَوَسِّلَاً إلي ربه – وعلي كل مسلم أنْ يَتَشَبَّه دائماً بالرسل الكرام ويتوكّل دَوْمَاً علي الله في كل شئونه ويدعوه ويَلْجَأ إليه خاصَّة عند الشدائد – يا رب انصرني بسبب أنهم كذّبوني ولم يُصِدِّقوني ويَتّبِعُوني في عبادتك وحدك، أيْ اجْعَل الغَلَبَة والفوز لي وللمؤمنين بعَوْنك وتأييدك وتَيْسيرك واهْزِم المُكَذّبين واضعفهم واهلكهم وانْشُر وأعِزّ دينك الإسلام ليَسعد الناس به في الداريْن فأنت القويّ القادر علي كل شيء، وذلك الدعاء من الرسل الكرام يكون بعدما يُوحِي إليهم الله تعالي أنه لن يؤمن مِن قومكم إلا مَن قد آمَنَ مثلما حَدَثَ مع الرسول الكريم نوح (ص) قبله كما قال تعالي "وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ.." (هود:36) ويتَأَكَّدوا تماماً أنهم لن يؤمنوا باستثناء الذين آمنوا معهم رغم بقائهم بينهم لفتراتٍ طويلةٍ يَدْعُونهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة وبتَنَوُّعٍ لكل أساليب الدعوة المُمْكِنَة وبصَبْرٍ تامٍّ علي أذاهم وبدعاءٍ لهم بالهداية، ثم قوم هذا الرسول الكريم قد أعلنوا صراحة إصرارهم علي كفرهم بقولهم في الآية السابقة وما نحن له بمؤمنين.. إنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)
ومعني "قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)" أيْ قال الله تعالي لرسوله الكريم بوَحْيِهِ إليه مُجِيبَاً لدعائه مُبَيِّنَاً أنَّ نَصْره لأهل الحقّ دائماً قريب: عن قليلٍ مِن الوقت أيْ بَعْدَ قليل سيَصِيرون هؤلاء المُكَذّبون حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شَكّ – واللام والنون للتوكيد – نادمين أيْ مُتَأَلّمين حَزِينين أشدّ النَّدَم والألم والحُزْن علي ما فَعَلوه من تكذيبٍ وسُوءٍ عندما يَنزل بهم عذابٌ في دنياهم قبل أخراهم لا يُوصَف مناسبٌ لسُوئهم في وقتٍ لن ينفعهم فيه أيُّ نَدَمٍ لأنه في غير وقته حيث سيكون العذاب قد وَقَعَ بالفِعْل قبل توبتهم لأنهم مُصِرُّون علي ما هم فيه بلا توبة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك، ثم الآية (214) من سورة البقرة ".. أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أخذتهم الصيحة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة، أيْ أهلكتهم وأعدمتهم، والصَّيْحَة هي الصوت الشديد الذي يُؤدِّي إلي زلازل مُدَمِّرَة، أخذتهم بالحقّ أيْ بالعدل لا بالظلم وبالحقّ الذي يَسْتَحِقّونه وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تكون عليه بما يُناسب سُوئهم ومن أجل الحقّ أيْ لكي يُحِقّ الله بها الحقّ أيْ يُحْدِثه ويُثبته وهو الوعد الحقّ أيْ الصدْق الأكيد بنصر الإسلام والمسلمين وإعزازهم وإعلائهم وإسعادهم في دنياهم قبل أخراهم وهزيمة أعدائهم وإذلالاهم وإتعاسهم فيهما.. ".. فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً.." أيْ فبالتالي وبسبب الصيْحَة وإهلاكهم بها جعلناهم غثاءً أيْ أشياءَ مُهَشَّمَة مُفَتَّتَة هالِكَة لا قيمة لها حَقِيرَة مُهْمَلَة مُسْتَقْذَرَة كالشوائب والأعشاب والفقاعات والقاذورات التي يحملها الماء أثناء جَرَيانه.. ".. فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)" أيْ فبسبب كفرهم فبالتالي فبُعْدَاً أيْ فهَلاَكَاً وإبْعاداً من الحياة ومن رحمات الله ومن كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن للناس الظالمين – أيْ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – بسبب إصرارهم علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لربهم، وهذا تعبيرٌ في اللغة العربية يقوله كثيراً الصالحون بعد أن يَنصرهم ربهم ويُسعدهم بإهلاك عدوّهم وبالتمكين لهم في أرضه ينتفعون بخيراتها ومعناه بُعْدَاً لهم أي دعاء يعني اللهمّ لا تُرْجِعهم أبداً ولا أمثالهم وأبْعِدهم عن رحمتك وأبْعِدهم حتي عن ذاكرتنا فلا نتذكّرهم أبداً إلا للعِبْرَة.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)" أيْ ثم خَلَقْنا وأوْجَدْنا من بعد هؤلاء الظالمين المُكَذّبين المُهْلَكِين قرونَاً آخرين غيرهم، والقرون جَمْع قَرْن والقَرْن هم مجموعة من الناس تعيش في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ واقْتَرَنَ أيْ تَلاَزَمَ وتَصَاحَب بعضها مع بعض، كأقوام رسلنا الكرام صالح ولوط وشعيب وغيرهم.. وفي هذا بيانٌ أنَّ الأمر يَتَكَرَّر، فَلْيَتَّعِظ بالتالي إذَن مَن أرادَ الاتّعاظ، وعليه أنْ يكون مؤمناً لا كافرا، ليَسعد في دنياه وأخراه، ولا يُصيبه مِثْلما يُصيب هؤلاء المُكَذّبين التُّعَساء فيهما
ومعني "مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)" أيْ هذا بيانٌ لمَظْهَرٍ مِن مَظاهِر تمام قُدْرَة الله تعالى وإحكامه لشئون خلقه وكمال عِلْمه بهم.. أيْ لا تَسبق أبداً بكل تأكيدٍ أيُّ أمَّةٍ من هذه الأمم المُعَاقَبَة المُعَذّبَة المُهْلَكَة أجلها أيْ وقتها المُحَدَّد المُقَدَّر لها في الهلاك أو تَتَأخَّر عنه، حيث يَستحيل ذلك، إذ لا يمكن لأحدٍ تأخيره ولو لِلَحْظَةٍ بطَلَبِ مزيدٍ من الوقت والإمهال أيْ الترْك للإصلاح فقد فات الأوَان، ولا يمكن أيضا استقدامه واستعجاله وإحداثه قبل وقته، لأنه بحكمته تعالي قد قَدَّر هذا الموعد لمصلحةٍ مَا مِن مصالح البَشَر والخَلْق سواء عَلِموها أم لم يَعلموها، حيث أحيانا قد يستعجل الظالمون العذاب استهزاءً به وتكذيباً له وكأنه سبحانه عاجز عن القيام به! وأحيانا قد يستعجل أهل الخير موتهم اشتياقاً لِجَنّة ربهم.. كذلك من المعاني أنَّ لكل مجموعةٍ من الناس وقتٌ محدودٌ في هذه الحياة الدنيا، ثم تنتهي ويَخْلفها من بعدها أمة أخري ثم أخري، ولكل جيلٍ أجله كذلك ثم يَخْلفه غيره، ولكل فردٍ في هذه الأمة وهذا الجيل أجله أيضا ثم يأتي مَن بَعْده، وهكذا، وسيأتيهم جميعا الموت حتماً في موعده المُحَدَّد لكلٍّ منهم بلا تقديمٍ أو تأخيرٍ.. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ بأنْ يُسارِع المسلم لفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وأنْ يَحذر تماما تأجيل ذلك، لأنَّ أحداً لا يعلم موعد موته، وكل ما هو آتٍ فهو قريب مهما تَوَهَّم أحدٌ أنه بعيد، كما أنها تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُصِرِّين علي سُوئهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان وحلول العذاب حتي يسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)" أيْ ثم بَعَثْنا بعد ذلك الإنشاء لكل قَرْنٍ إلي الأمم التي أنشأناها رسلنا أيْ مَبْعُوثِينا مُتَوَاتِرين أيْ مُتَتابِعين الواحد يَلِي الآخر واحداً بعد واحدٍ من الوتْر وهو الفَرْد ومع كل واحدٍ منهم التشريع من الإسلام الذي يُناسِب زَمَنه ليُبَلّغه للناس حوله ليسعدوا بأخلاقه تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها وذلك رحمة مِنّا بهم وإسعاداً لهم، ويكون هؤلاء الرسل منهم ليسوا مِن خارجهم غريبين عنهم بل يعيشون بينهم في بيئتهم بحيث يَعرفون أصْلَهم ونَسَبَهم ونشأتهم وصَلاحهم وأخلاقهم وصِدْقهم لكي يَسهل عليهم بالتالي الثقة بهم وتَصديقهم واتّباعهم والاقتداء بأقوالهم وأفعالهم عند تطبيقهم الإسلام أمامهم عملياً فيُسْلِموا فيَسعدوا في الداريْن.. ".. كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ.." أيْ كلّما وَصَلَ مجموعة من الناس رسولها الذي أرسلناه إليها لم يُصَدِّقوه بعضهم أو أحيانا أكثرهم أو حتي كلهم فيما أَبْلَغَهم به بوَحْيٍ مِنّا فلم يعبدونا ولم يعملوا بدين الإسلام وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من حُسْن دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ.." أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ أتْبَعْنا بعضهم بعضاً بالإهلاك أيْ أهلكنا بعضهم بَعْدَ بعض كما اتّبَعَ بعضهم بعضاً في الإصرار علي التكذيب الذي هو سبب الهلاك في الدنيا والآخرة، وجعلناهم أحاديث أيْ مُجَرَّد ذِكْرَيَ يَتَحَدَّث الناس عن حَوَادِثها وعِظاتها.. ".. فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)" أيْ فبسبب كفرهم فبالتالي فبُعْدَاً أيْ فهَلاَكَاً وإبْعاداً من الحياة ومن رحمات الله ومن كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لأناسٍ لا يؤمنون – أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعاندون ويستكبرون ويستهزؤون ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – بسبب إصرارهم علي كفرهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لربهم، وهذا تعبيرٌ في اللغة العربية يقوله كثيراً الصالحون بعد أن يَنصرهم ربهم ويُسعدهم بإهلاك عدوّهم وبالتمكين لهم في أرضه ينتفعون بخيراتها ومعناه بُعْدَاً لهم أي دعاء يعني اللهمّ لا تُرْجِعهم أبداً ولا أمثالهم وأبْعِدهم عن رحمتك وأبْعِدهم حتي عن ذاكرتنا فلا نتذكّرهم أبداً إلا للعِبْرَة.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)" أيْ ثم بعد تلك الأمم السابقة والرسل الذين أرسلناهم إليهم أرسلنا أيْ بَعَثْنا رسُولَيْنا الكريمَيْن موسى وأخاه هارون للناس حولهما بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقهما وأنهما من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقهما أم آيات في الكوْن حول الناس قامَا بإرشادهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في التوراة تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه، ومَنَحْنَاهما وأعطيناهما أيضا وأرسلناهما بسلطانٍ مُبِينٍ أيْ بدليلٍ مُبَيِّنٍ أيْ واضحٍ قويٍّ يَقْضِيان به علي أدِلّة وحُجَج أعدائهما فيُعْطِيهما سُلطاناً ونُفُوذَاً مُؤَثّرا.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده أنَّ النصر والعِزَّة والمَكَانَة في الأرض لهم حتما لا لأعدائهم، في دنياهم، ثم أخراهم، كما حَدَثَ مع موسي وهارون (ص) (برجاء لاكتمال المعاني، ولأنَّ الآيات يُكمل بعضها بعضاً حيث كل مجموعة آيات تركز علي مجموعة من المعاني، مراجعة قصة موسي (ص) في سورة الأعراف والإسراء وطه ثم القصص، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)" أيْ أرسلناهما إلي فرعون الذي كان مَلَك مصر وقتها ومَلَئِه، والملأ هم الزعماء والقادة وأصحاب النفوذ والسلطان والمال والجاه وأشباههم مِمَّن حوله – وسُمُّوا الملأ لأنهم يَملأون العيون والمَجالس بمناصبهم وبما يَملكونه – سواء أكانوا كافرين يكذبون بوجود الله أم مشركين يعبدون غيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم منافقين أيْ مُظْهِرين للخير مُخْفِين للشرّ أم ظالمين غير عادلين مُعْتَدِين أم فاسدين أو مفسدين ينشرون الشرّ أم مَن يُشبههم، وهم الذين يحاولون منع انتشار دعوة الإسلام حتي لا يستفيق الناس فيَظلّوا يَستعبدوهم ويخدعوهم وينهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم، وكل ذلك ما هو إلا من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَاسْتَكْبَرُوا .." أيْ رغم كل هذه الآيات المُفَصَّلات تَرَفّعوا فاسْتَعْلُوا عن التصديق بها وتعالَوْا علي الله وعلي رسولَيْه فلم يُطيعوا ويؤمنوا ويعملوا بالإسلام بل كفروا أي كذّبوا بوجوده وأشركوا أي عبدوا غيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نحوه وعانَدوا واستهزؤا وتعالَوْا علي الناس فاستعبدوهم ونَهَبوا جهودهم وخيراتهم وثرواتهم وظلموهم وعذبوهم واحتقروهم وقتلوا بعضهم ونشروا المَظالِم والمَفَاسِد والشرور والأضرار في كل مكانٍ وصلوا إليه من الأرض.. ".. وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي اسْتِكْبارهم.. أيْ وتَعالَوْا لأنهم استكبروا ولم يؤمنوا بهذه الآيات المُفَصَّلات.. كذلك من المعاني أنهم كانوا دائما من قبل أن تأتيهم هذه الآيات قوماً عالِين وبالتالي فليس بمُسْتَبْعَدٍ عليهم إذَن أن يَسْتَكْبروا ولا يؤمنوا بها ويَتَعَالوا ويَتَطاوَلوا علي الله ورسله وآياته وتشريعاته، فهم مُصِرُّون تماماً علي تَعالِيهم.. وخُلاصَة القول في وَصْفِهم أنهم اسْتَكْبَرُوا علي الإيمان واتّباع الإسلام وكانوا قوماً عالِين علي الناس بكل صُوَر الاسْتِعْلاء
ومعني "فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مظاهر اسْتِكْبارهم واسْتِعْلائهم.. أيْ وقالوا فيما بينهم مُكَذّبين مُعَانِدين مُسْتَكْبِرين مُسْتَهْزئين مُرَاوِغِين مُشَكّكِين فيهما مُحَذّرِين من اتّباعهما مُتَعَجِّبين منهما مُعْلِنين عن أسباب تكذيبهم لهما هل نُصَدِّق لِرَجُلَيْنِ بَشَرَيْن مِثْلنا تماماً إنسانَيْن هما موسي وهارون لا فرق بيننا وبينهما ولا يَتَمَيَّزان عنّا بشيءٍ فكيف يَدَّعِيان أنهما يُوحَيَ إليهما ولكنّهما يريدان أن يَتَرَأّسَا ويَتَرَفّعا علينا فنكون تابِعِين لهما فيَنْهَبا خَيْراتنا، فكيف يكون ذلك؟! كيف نَتبعهما ونُطيعهما بعد أنْ كنّا مَتْبُوعِين مُطاعِين قادة زعماء ننتفع بخيراتنا وغيرنا؟!.. إنهم يريدون بذلك التنْفير منهما والحَثّ علي عَداوتهما ومقاومتهما ومَنْعهما مِن نَشْر إسلامهما.. إنهم يَعْتَبِرون الرسوليْن الكريميْن لَيْسَا إلا بَشَرَيْن مِثْلهم فهما ليسا مَلَكَيْن من الملائكة أو لهما فضل عليهم بل هم أفضل منهما من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك!.. إنهم يقولون الحُجَّة ذاتها السفيهة اللّامَنْطِقِيَّة التي قالها المُكَذّبون السابقون قَبْلهم المُغْلِقون لعقولهم مِثْلهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (24) والآية (33) من سورة "المؤمنون"، للشرح والتفصيل).. ".. وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)" أيْ والحال والواقع أنَّ قومهما أيْ بني إسرائيل هم عابدون لنا أيْ مُطِيعون مُنْقادُون لنا فيما نأمرهم به كانْقِياد وانَحِطاط وذِلّة العبيد فكيف بالتالي إذَن نَقْبَل أنْ نُطيعهما ويكونا زعيمَيْن سَيِّدَيْن علينا؟!
ومعني "فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)" أيْ فلم يُصَدِّقوهما فيما قامَاَ بإبْلاغهم به بوَحْيٍ من الله تعالي ولم يعبدوه سبحانه وحده واستمرّوا علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار وأصَرُّوا تمام الإصرار علي ذلك رغم فتراتٍ طويلةٍ من حُسْن دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فبالتالي كان لابُدَّ إذَن من أن يَسْرِيَ عليهم ما يَسْري علي كل الأمم التي تُكَذّب رسلها وتُصِرّ علي فسادها، وهو إهلاكهم ليرتاح أهل الخير من شرورهم ويسعدوا بحياتهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك، وبسبب تكذيبهم هذا، أنْ كانوا مِن المُهْلَكِين أيْ مِن الذين يُهْلِكهم الله تعالي أيْ يُبيدهم ويُفْنِيهم بتمام قُدْرَته وكمال علمه بسبب إصرارهم علي تكذيبهم وسُوئهم حيث أغرقهم جميعا في ماء البحر.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)" أيْ ولقد أعطينا بكرمنا ورحمتنا رسولنا الكريم موسي (ص) الكتاب الذي أوْحَيْناه إليه وهو التوراة والذي فيه قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسبة لعَصْرِه والناس حوله لكي تُصْلِحهم وتُكْمِلهم وتُسعدهم في حياتهم ثم آخرتهم.. ".. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)" أيْ لكي يَهتديَ أيْ يَصِلَ به الناس إلي مصالحهم ومنافعهم وسعاداتهم، وكذلك لعلهم بكل هذه الآيات أي الدلائل وبكل هذه النِّعَم التي لا يُمْكِن حَصْرها يُحَرِّكون عقولهم فيَتّعِظون بها فيَهتدون أيْ يَصِلُون للهداية، لربهم ولدينهم الإسلام، للخير وللسعادة في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعل" يُفيد الاحْتِمَالِيَّة مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافِعَاً وتَشجيعاً للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه
ومعني "وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)" أيْ وأرسلنا بكرمنا ورحمتنا بالناس بعد موسي رسولنا الكريم عيسي ابن مريم ومعه الكتاب الذي أوْحَيْناه إليه وهو الإنجيل والذي فيه قواعد وأصول كلّ وَصَايا وأخلاق وتشريعات الإسلام المُناسبة لعَصْرِه والناس حوله لكي تُصْلِحهم وتُكْمِلهم وتُسعدهم في حياتهم ثم آخرتهم، وجعلناه وأمه آية أيْ مُعجزة للناس جميعا دالّة علي تمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا ووجوب عبادتنا والتوكّل علينا وحدنا لتَتَحَقّق لهم السعادة في دنياهم وأخراهم حيث بقُدْرتنا التي لا يمنعها شيء أدْخَلْنا فيها أيْ في جَوْفِها روحَاً بأمرنا وإذننا والتي لا يعلم سِرَّها إلاّ نحن لجَنِين يَتَخَلَّق في رَحِمها لتُحَرِّكه وتُعطيه الحياة ليكون إنسانا يَتَكَوَّن بصورةٍ خارِقَة للعادة وبغير الأسباب المُعْتَادَة من أبٍ وأمٍ هو عيسي ابن مريم والذي كان هو الآخر (ص) له مُعْجِزاته بإذننا والتي منها أنه كَلّم الناس في المَهْد وهو رَضِيع وأشْفَيَ المَرْضَيَ وأحيا المَوْتَيَ.. ".. وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)" أيْ ومن تمام رِعايتنا وحِمايتنا وحِفْظنا وحُبِّنا لهما آوَيْناهما أيْ أسْكَنّاهما آمِنَيْن مُسْتَقِرَّيْن وجعلناهما يَأويان أيْ يَسْكُنان ويَسْتَقِرَّان إلي رَبْوَةٍ أيْ منطقةٍ مُرْتَفِعةٍ مُمَيَّزَةٍ من الأرض ذات أيْ صاحِبَة قرارٍ أيْ استقرارٍ وأمانٍ وراحةٍ ومَنْظَرٍ ومناخٍ بَهِيجٍ لاسْتوائها ولوجود كل عوامل الصلاحية للسكن والاستقرار والراحة والسعادة بها من زروعٍ ومَنافع يحتاجانها وأيضا ذات مَعين أيْ صاحِبَة ماءٍ معينٍ أيْ ظاهرٍ للعين جارٍ علي سطح الأرض وفي العيون عَذْبٍ كثيرٍ يمكن تحصيله بسهولة، وكل ذلك يُفيد أنَّ مكان إقامتهما كان طيباً آمِنَاً مُبارَكاً مُريحَاً مُسْعِدَا
ومعني "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)"، "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ الله تعالي قد أوْصَيَ كلَّ رسله الكرام والذين هم كلهم من البَشَر كعموم الناس بوَصِيَّةٍ واحدةٍ ليُبَلّغوها لهم وهي الإسلام بما يُناسِب عَصْرَ كلِّ واحدٍ منهم والذي أصله عبادة الله تعالي وحده وأكل الطيِّبات لا الخبائث وعمل الصالح لا الفاسِد ليسعدوا بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، والخطاب والنداء في الآية الكريمة هو للرسل لأنهم هم القُدْوَة الذين يُقْتَدَيَ بهم لكنه لعموم الناس قطعا.. أيْ وقلنا للرسل لِيُبَلّغوا الناس يا أيها الرسل – ويا أيها التابِعُون لهم من المسلمين – كلوا من الطيِّبات أيْ كلوا واشربوا من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب النافعات المُفِيدَات المُسْعِدَات لا الضارَّات والتي تَستطيبها وتَستسيغها النفوس السليمة ولا تَسْتَقْذرها والتي رزقناكم إيّاها وخلقناها في الأرض والتي أحللناها أيْ سَمَحْنا بها لنفعها ولإسعادها والتي لم تحصلوا عليه بمُعَامَلَةٍ مُحَرَّمة، ولا تأكلوا وتشربوا أبداً مِمَّا حَرَّمْناه لضَرَره ولتعاسته علي الناس كما يفعل بعضهم مِمَّن لا يعملون بأخلاق الإسلام، حتي تتحقّق لكم بذلك البَرَكة فيه أيْ تمام الاستمتاع والسعادة به والزيادة له دون أيّ نقصانٍ أو ضَرَر.. وكونوا دوْمَاً من الشاكرين لله علي نِعَمه والتي لا يُمكن حَصْرها، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعدكم ووعده لا يُخْلَف مُطلقاً ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. واعملوا صالحا أيْ واعملوا بكل أخلاق إسلامكم بحيث تكون كل أقوالكم وأعمالكم في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وعمل أحدٌ من الناس شَرَّاً مَا تابَ منه سريعاً وأوَّلاً بأوَّل.. ".. إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)" أيْ إني بكلِّ تأكيدٍ عليمٌ تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله أيها الناس جميعا سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليَّ شيءٌ وسأحاسبكم عليه بما يُناسب في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم بالخير خيرا وسعادة وأَزِيِد، وبالشرّ شرَّاً وتعاسة أو أعفو، فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ من خلال عملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)" أيْ وهذا بيانٌ للهدف الأصلِيّ مِن ذِكْر قصص الأنبياء وهو التذكير باجتماع جميع الخَلْق علي عبادة الله تعالي وحده.. أيْ وقلنا للرسل ليُبَلّغوا الناس إنَّ هذه جماعتكم جماعة واحدة مُجْتَمِعَة علي الإسلام وأنا ربكم أيْ خالِقكم ومُرَبِّيكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دين الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم وبالتالي إذَن فاتقوني أيْ فخافوني وراقِبوني وأطيعوني واجعلوا بينكم وبين عذابي وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم، وكونوا دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حبي وعوْني وتوفيقي ورضاي ورعايتي وأمني ونصري وقوَّتي ورزقي وإسعادي لكم في الدنيا ثم أعلي درجات جنتي في الآخرة ولا تصِلُوا أبداً لمرحلة إغضابي بل تُسارعوا لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم، والمقصود تَذْكِرتهم جميعاً باتّحادهم علي عبادته سبحانه وحده بلا أيِّ شريكٍ وتَقْواه واتّباع دينه الإسلام وحده بلا أيِّ نظامٍ آخرٍ يُخالِفه واتّقاء تَفَرّقهم بعبادة غيره وبعدم تقواه وباتّباع غير أخلاق إسلامهم وذلك ليسعدوا في الداريْن وإلا تَعِسوا فيهما (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (213) من سورة البقرة "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.."، ثم الآية (19) من سورة آل عمران "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من المعاني إنَّ هذه شريعتكم الإسلامية شريعة واحدة غير مختلفة عند الأنبياء وغير مختلفة في أخلاقها وأحكامها بل هي وحدة مُتَكَامِلَة مُتَجَانِسَة وهي التي عليكم اتّباعها فاتّبعوها وأنا ربكم لا شريك لي الذي أمرتكم بهذا فاتّقون أيْ فخافوا عقابي إنْ عَصَيْتُم واتّقوه بطاعتي، وذلك علي اعتبار أنَّ معني أمّة هو شريعة كما في قوله تعالي في الآية (23) من سورة الزخرف ".. إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ.." أي علي شريعةٍ تُؤّمّ وتُقْصَد.. والمَعْنَيان مُتَقَارِبان ويُؤَدِّيان لذات النتيجة وهي عبادة الله وحده وتقواه حيث أنتم أيها الناس خَلْقٌ واحدٌ فلا تكونوا إلا على دينٍ واحدٍ وهو الإسلام
ومعني "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)" أيْ فَبِرَغْمِ هذا الإرشاد الواضِح المُسْعِد، وبَدَلَاً أنْ يحرص الناس تمام الحِرْص علي هذا الأصل الذي ذُكِرَ في الآية السابقة ليسعدوا في الداريْن، تَقَطّعوا أيْ تَفَرَّقوا في أمرِ وشأنِ دينهم فيما بينهم زُبُرَاً أيْ قِطَعَاً، والمقصود جعلوا أنفسهم فِرَقَاً فمنهم مَن التزم به تماماً فآمَن بربه وعمل بكل أخلاق إسلامه ومنهم من كفرَ فكَذّب بوجوده وفَعَلَ الشرور ومنهم مَن أشركَ فعَبَدَ معه غيره ومنهم مَن نافَقَ فأظْهَرَ خيراً وأخْفَيَ شَرَّاً ومنهم مَن أسْلَمَ لكنه تَرَكَ بعض أو حتي كلَّ العمل بأخلاق الإسلام ومنهم مَن فَسَدَ في ذاته أو أفْسَدَ كذلك غيره بنَشْر الشَّرِّ وهكذا، وما كل ذلك إلا لأنَّ أمثال هؤلاء قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)" أيْ وصار كل فريقٍ وتَجَمُّعٍ وطائفةٍ من هؤلاء يَفرح أيْ يَفتخر ويَغْتَرّ ويَتعَالَيَ علي الآخر بما لديه أيْ بما عنده من قوةٍ وعَدَدٍ وعدَّةٍ ومالٍ وعلمٍ وغيره، وهو مُتَوَهِّمٌ مِن شِدَّة إغلاقه لعقله بسبب شدّة حرصه علي أثمان الدنيا الرخيصة أنه علي الحقّ والصواب، فيختلفون فيما بينهم ويتشاحنون ويتباغضون ويتقاطعون ويتصارعون وقد يقتتلون، فيضعفون بذلك ويتخلّفون ولا يَتقدَّمون ولا يَتطوَّرون، فيتعسون في دنياهم وأخراهم.. فليحذر المسلمون تمام الحذر أن يتشبّهوا بمِثْل هؤلاء فيَسْعوا للتفرقة بين المسلمين أو حتي بين عموم الناس والإنسانية وإلا تَعِسوا مثلهم تمام التعاسة في الداريْن
ومعني "فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)" أيْ إذا كانوا مُصِرِّين علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لله وللإسلام وما دُمْتَ قد أحسنتَ وأتْمَمْتَ قَدْر استطاعتك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم تبليغهم الإسلام وإنذارهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فذَرْهُم بالتالي إذَن أيْ فاتْرُكهم أيْ فاتْرُك أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، في غَمْرَتهم أيْ في غَفْلَتِهم وضلالتهم وجَهَالتهم أيْ في سَكْرَتهم ونِسْيانهم وتِيهِهم وحَيْرَتهم وضَياعهم وغِوايتهم وإعراضهم وتعاستهم وعدم إدراكهم مصلحتهم وسعادتهم وتعطيلهم عقولهم حيث هم مَغْمُورون في الضلال أيْ الضياع بالبُعْد عن ربهم وإسلامهم وبسبب ذلك هم مُنْغَمِسُون تماما في الشرور والمَفاسد والأضرار، فلا تَتَأثّر بأقوالهم وأفعالهم واستمرّوا علي عملكم بإسلامكم ودعوتكم له ودفاعكم عنه وادعوهم هم أيضا لكن بين الحين والحين وبما يُناسبهم واصبروا وتوكّلوا علي ربكم، فإن لم يستجيبوا ويعملوا بالإسلام، فسوف يعلمون سوء نتائج ذلك، أيْ فإذا أصَرَّ المُكذبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن المُفْتَرون علي الله كل أنواع الكذب، علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وافترائهم، فذرْهم إذن، أيْ اتركهم فيما هم فيه، فلقد وَصَلَتْهم نصيحة الإسلام بما يَكْفِي ولكنّهم مُعاندون مُعَطّلون لعقولهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة، فاتْرُكهم يَنْغَمِسوا ويَتَوَغّلوا ويَسِيروا ويَزدادوا ويستمرّوا في حالهم مُنشغلين بلَعِبهم فيما لا يُفيد بل يَضرّ من كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار غافِلين تائهين مُتَخَبِّطِين، اتركهم حتي حينٍ أيْ إلي وقتٍ يُلاقون ويُقابِلون فيه العذاب الدنيويّ والأخرويّ الذي وَعَدْناهم إيّاه وحينها سيتأكّدون من سوء أفعالهم ومصيرهم، ففي دنياهم سيُلاقون درجة مَا مِن درجاته كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراهم حين موتهم ثم بَعْثهم سيَنالون ما هو أعظم وأتمّ وأشدّ عذابا وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم حيث كأنه يقول لهم اعملوا ما بَدَا لكم فالله يعلمه تماما وستُعَاقَبُون عليه حتما بما يُناسِب وقد نُصِحْتُم كثيرا وبكل حِكْمَةٍ مُمْكِنَةٍ ولكنكم مُعانِدون، فلعلّهم بهذه الصدمة بِتَرْكِهم لفترةٍ قد يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا قبل فوات الأوَان ونزول العذاب، فهذا التَّرْك مِن الداعِي لمَنْ يَدْعُوه رغم أنه أمرٌ اسْتِثْنائيٌّ إلا أنَّ الداعي قد يحتاج إليه أحيانا مع المَدْعُو حينما يراه مُصِرَّاً تمام الإصرار علي عِناده وجِداله بغير حقّ وذلك من أجل أن يكون هذا الترْك دافِعَاً له لمراجعة ذاته لعله يستفيق ويعود لربه ولإسلامه.. كما أنَّ فيه تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتبشيراً للمسلمين بعوْن الله لهم وانتقامه من أعدائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسبا مُسْعِدَاً لهم
ومعني "أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)"، "نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)" أيْ هل يَتَوَهَّم هؤلاء المُسِيئون السابق ذِكْرهم أنما نُزَوِّدُهم ونُكَثّرهم ونَرزقهم به من أموالٍ وأولادٍ ومُمْتلكاتٍ وأرزاقٍ بكل أنواعها في دنياهم هو أننا نُسَرِّع ونُعَجِّل لهم في إمدادهم بكل الخيرات لأنهم يَسْتَحِقّونها ولرضانا عنهم وإكرامنا لهم وكدليلٍ على أنهم من أهل الخير والسعادة وأنَّ لهم خير الدنيا والآخرة؟! لا، ليس الأمر كذلك كما يَتَوَهَّمون مُخْطِئين، ولكننا نُسَرِّع ونُعَجِّل لهم في هذه الخيرات لتكون إمْلاءً واسْتِدْراجاً لهم، والإمْلاء هو الإمْهال أيْ الترْك لفترةٍ دون إهمالٍ قطعاً لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم، والاسْتِدْراج هو النزول للهلاك درجة بدرجة – إذا لم يستفيقوا – حتي إذا جاءهم العذاب المُناسب لسُوئهم جاءهم وهو تائهون غافلون بحيث لا يمكنهم استشعاره قبل حُدُوثه وبالتالي لا يُمكنهم الاستعداد للهروب منه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (178) من سورة آل عمران "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل، ثم الآية (55) من سورة التوبة ".. فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ الأرزاق للكافرين هي من أسباب عذابهم).. ".. بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)" أيْ ولكنهم لا يُحِسُّون بذلك لأنَّ المُصِرِّين علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ هم كالأنعام بل هم أضَلّ أيْ كالبهائم لا يشعرون لعدم استخدامهم عقولهم والتي لا تَعْقِل شيئا حولها والتي لا يشغلها إلا الأكل والشرب والتناسُل! وذلك لعدم انتفاعهم بما وَهَبهم الله تعالي من عقولٍ للتّدَبُّر، بل هم أضَلّ منها! أيْ أسوأ حالاً، لأنه علي الأقلّ هذه الأنعام التي لا تعقل شيئاً لها بعض عقلٍ وإدراكٍ تستجيب به لراعِيها الذي يَرْعاها حين يهديها ويُوَجِّهها للخير حيث مكان طعامها وشرابها وأمنها وحمايتها من الخطر وهي تَتّجه دائما نحو ما ينفعها وتَتَجَنّب ما يَضرّها بفطرتها التي خَلَقها فيها خالقها الكريم إضافة إلي أنها تنفع الإنسان بألبانها ولحومها وجلودها وغيرها، أمَّا هم فليسوا كذلك مُطلقا!!.. إنَّ أمثال هؤلاء قطعاً مُؤَكّدَاً هم التّائهون النّاسُون الضائعون اللّاهُون الذين لا يَدْرُون ما يُصلحهم ويُسعدهم التَّعِيسون في دنياهم الذين سيَتعسون أكثر وأشدّ في أخراهم إنْ لم يَستفيقوا ويَعودوا لربهم ويَتَّبعوا أخلاق إسلامهم
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)" أيْ بَعْد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ مِن صفات المؤمنين الطيِّبَة الحَسَنَة والتي علي كل مسلمٍ أنْ يَتَّصِف ويَعمل بها ليَسعد في دنياه وأخراه أنهم مِن خشية أيْ من خَوْف ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم – أيْ بسبب خوفهم منه أيْ خوف فقدان حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وخوفهم مِن عذابه وإتعاسه لهم فيهما لو عَصوه – والخشْيَة هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهَيْبَته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – مُشْفِقون والإشفاق هو الخوف مع الحَذَر من المُخَالَفَة أيْ خائفون حَذِرُون دائماً من فقدان خيراته وأفضاله ورحماته بسبب عصيانه أو الوصول لمرحلة إغضابه وعقابه.. إنَّ هذا الخوف مع الحبّ والحَذَر يَدْفَعهم دَوْمَاً إلي أن يعملوا بكل أخلاق إسلامهم الذي في قرآنهم فيَسعدوا في الداريْن
ومعني "وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنَة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ يؤمنون أيْ يُصَدِّقون بكل آيات ربهم سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في كتاب يُتْلَيَ عليهم أوحاه الله لرسوله وآخرها القرآن العظيم فيه أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يديه لتأكيد صِدْقه وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص)
ومعني "وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنَة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ لا يُشركون مع ربهم الله تعالي في العبادة أي الطاعة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نَجْمٍ أو نحوه، لأنه الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، كما أنهم دائما مُخْلِصون مُحْسِنون في عبادتهم له أيْ يَفعلون ما يفعلون مِن خيرٍ ويقولون ما يقولون منه مِن أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراهم الناس فيقولوا عنهم كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس لهم حيث يُوقِعهم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحهم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقولهم (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء)
ومعني "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)" أيْ ومن صفاتهم الطيّبة الحَسَنَة كذلك والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويَعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم يُعْطون ما أعطوا مِن كل مَا يَمكنهم قَدْر استطاعتهم مِن كل أقوالِ وأعمالِ خيرٍ في كل مجالٍ مُمْكِنٍ من مجالاتِ الحياة ومع ذلك تكون قلوبهم حالها وواقعها أنها وَجِلَة بسبب أنهم إلي ربهم عائدون يوم القيامة لحسابهم أيْ مَشَاعِر عقولهم وأجسادهم وَجِلَة أيْ مُهْتَزّة مُتَحَرِّكَة مُرْتَعِشَة مُشْفِقَة بسبب الحبّ له تعالي، والهَيْبَة منه، والشعور بعظمته وقُدْرَته وكماله، والتّحَرُّج من قِلّة أعمالهم الخَيْرِيَّة – رغم كل ما يُقَدِّمونه من خيرٍ علي الدوام – بالنسبة لمَقامه سبحانه حيث كان عليهم فِعْل المزيد من الخير، والخوف من بعض تقصيرهم أو عدم إكمالِ وإحسانِ كلّ قولٍ وعملٍ مَا أمْكَن، والحَذَر من الوقوع في أيِّ خطأٍ مستقبليّ، وبالجملة فعقولهم دائما مُتَوَاصِلَة مع ربهم ودينهم الإسلام حَسَّاسَة مُرْهَفَة تَتَحَرَّك وتَتَفاعَل بما يُناسِب الصورة التي ذَكَرُوا الله عليها عندما يُؤتون ما آتوا من خيرٍ فيَستجيبون إمّا بمشاعر حبٍّ أو هَيْبَةٍ أو حَرَجٍ أو خوفٍ أو حَذَرٍ أو مُرَاجَعَةٍ للذات أو تَدَبُّرٍ أو توبةٍ أو أملٍ أو استبشارٍ أو إحسانِ أقوالٍ وأعمالٍ أو بكل ذلك، وبهذا يَحْيَوْن حياتهم في سعادةٍ تامَّةٍ ويستبشرون بما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد في آخرتهم
ومعني "أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها يسارعون في الخيرات أيْ دائما في كل أحوالهم أصحاب هِمَمٍ عاليةٍ يَنطلقون مُسرعين مُسابِقين في فِعْل أيّ خيرٍ مُسْعِدٍ حسبما يستطيعون في كل شأنٍ من شئون حياتهم بلا أيّ تَرَدُّدٍ مُنْتَهِزين فرصته حريصين مُجتهدين ألاّ يَفوتهم ينتقلون من خيرٍ لغيره فهم في خيرٍ مستمِرٍّ دائمٍ وذلك لشدّة رغبتهم في تحصيل فوائده من سعادات دنياهم وأخراهم.. ".. وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مُسارَعَتهم.. أيْ وهم لهذه الخيرات ولِمَا يَتَرَتّب عليها من سعادة الداريْن سابقون لغيرهم في فِعْلها ونَيْل خيراتها وسعاداتها
ومعني "وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)" أيْ هذا طمأنةٌ وتَبْشِيرٌ وتَيْسِيرٌ وتَشْجِيعٌ من الله تعالي للناس أنَّ الاتّصَاف والتّخَلُّق بكل الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها والتي هي كل أخلاق الإسلام ليس فيه أيّ صعوبة أو فوق الطاقة بل هو في تمام السهولة واليُسْر والاستطاعة لمَن سَعَيَ إليه وحَرِصَ عليه حيث سيُيَسِّر له ربه كل أسبابه ويُوَفّقه لها ويُسَدِّد خُطاه نحوها ويُسْعِده تماما بها في دنياه وأخراه.. أيْ والله تعالى العادِل الكريم الرحيم الودود العالِم بتمام العلم بكلّ شيءٍ في كوْنه وعن خَلْقه لا يُكَلِّف نفساً أيْ لا يُوصِي ويُلْزِم أحداً من الناس في الإسلام إلا بما في وُسْعه، والوُسْع هو ما يستطيعه بيُسْرٍ وتَوَسُّطٍ وبحيث يبقي له من طاقاته بعده الشيء الكثير، أمّا قَدْر الطاقة فهو أن يستهلك ما أمكنه مِن قُدْرةٍ بحيث لا يبقي بعدها إلا الشيء القليل، وهذا لا يكون إلا للضرورة القُصْوَيَ – ويكون لها أجورها العظيمة بما يُناسب المَشَقّة فيها – ولظروفٍ استثنائيةٍ تختلف من فردٍ لآخرٍ ومِن موقفٍ لغيره، لِمَا فيه من الضرَر والمَشَقّة التي قد لا تُحْتَمَل والتي قد تَعوق فِعْل الخير إذ سيُصبح عَسِيراً لا يَسِيراً مُخَالِفَاً لتَيْسِير الله الدائم في كل وصايا وتشريعات وأنظمة الإسلام والتي كلها في وُسْع كلّ نفسٍ وليست خارجة في أيٍّ منها عن هذا الوُسْع (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (185) من سورة البقرة ".. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..").. وفي هذا تنبيهٌ أنَّ الإيمان والعمل الصالح هو مِن وُسْع بني آدم وطاقتهم وغير خارج عن قُدْرتهم، وتذكيرٌ أنَّ الجنة مع عِظَم قَدْرها يُمكن التّوَصُّل إليها بكل سهولةٍ بأيِّ عملِ خيرٍ سَهْل في حدود الطاقة من غير مَشَقّةٍ ولا صعوبة، وهذا تشجيعٌ كبيرٌ لهم علي اكتساب نعيمها الخالد الذي لا يُوصَف بما تَسعه طاقتهم ويَسهل عليهم.. ".. وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)" أيْ وعندنا كتابٌ سَجَّلَته الملائكة لكل أعمالكم وأقوالكم يَشْهَد بالصدق عليكم لأنه لا زيادة ولا نقصان فيه بل مكتوبٌ بكل دِقّةٍ كأنه يَنطق ويتكلّم، وقد يكون النُّطْق من الكتاب حقيقيا بقُدْرة الله تعالي القادر علي كلّ شيء، والسبب في صِدْقه تمام الصدق أننا نحن بعِلْمِنا التامّ الذين كنا نأمر ونَطلب من ملائكتنا نَسْخَ أعمالكم أىْ كتابتها وإثباتها بخيرها وشرّها كما هي في كتاب أعمالِ كلٍّ منكم لحسابكم عليها، فلا يُمكن لأحدٍ أن يُكذّب ما فيه أو يَتَهرَّب منه قطعا، ولن يُظْلَم أحد ولو بمقدار ذرّة أو أقلّ، فلن يَجِدَ مثلا حَسَنة فَعَلها ولم تُسَجَّل أو سَيِّئَة لم يَفعلها ومُسَجَّلَة عليه.. إنه كتاب خاصّ بكل إنسانٍ يُوضع أمامه يوم القيامة ويأخذه بيده وفيه تسجيلٌ لكلّ أقواله وأفعاله من خيرٍ وشرٍّ صغيرها وكبيرها سِرّها وعلانيتها في كل لحظات حياته وبكل دِقّةٍ وبلا أيِّ نسيانٍ لأيِّ شيءٍ أو زيادة أو ذرَّة ظلم، ويَراه مَفتوحاً مَكْشُوفاً ظاهراً بحيث يستطيع قراءته ولا يمكنه إخفاء شيءٍ منه أو تجاهله أو المُغالَطة فيه أو تكذيبه حيث تظهر به كل الخفايا والأسرار ظهوراً لا يحتاج معه لجدالٍ ودفاعٍ وشهودٍ ونحو هذا.. ".. وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)" أيْ وسيُعْطَيَ حتماً كلّ إنسانٍ جزاء وحقّ ما عمل في دنياه وافِيا كاملاً بلا أيّ انتقاصٍ بلا أيّ ذرّة ظلمٍ فلا يُزاد مُطلقا في سيِّئات أحدٍ ولا يُنْقَص من حسنات أحدٍ ودَرَجته حيث خالقهم تعالي أعدل العادلين الذي لا يَظلم مثقال ذرّة هو قطعا الأعلم بكلّ أفعالهم وأقوالهم مِن خيرٍ أو شرٍّ بتمام العلم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منهم فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه.. وما دام الأمر كذلك فعَلَيَ العاقل إذَن أنْ يُحْسِن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ولْيَطْمَئِنّ ويَسْتَبْشِر ويَسْعَد المُحْسِن ولْيَحْذَر المُسِيء ولْيَعُدْ لربه ولإسلامه قبل فوات الأوَان ونزول العذاب المُناسب لِسُوئه في الداريْن
ومعني "بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ هذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها هى صفات المؤمنين الصادقين لكن الكافرين قلوبهم أيْ عقولهم، أيْ عقول المُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين المُرَاوِغين، ومَنْ يَتَشَبَّه بهم، في غمرةٍ أيْ في غَفْلَةٍ وضَلالَةٍ وجَهَالَةٍ تَغْمُر وتُغَطّي تماماً هذه العقول أيْ في سَكْرَةٍ وغِيابِ عقلٍ ونِسْيانٍ وتِيهٍ وضَياعٍ وإعْراضٍ، من هذا الإسلام المُيَسَّر الذي في كُتُبنا وآخرها القرآن العظيم فلا يعملون بأخلاقه التي تُسعدهم تماماً في الداريْن، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)" أيْ ولهؤلاء الكافرين أَعمالٌ سَيِّئة كثيرةٌ غير ذلك الذي ذَكَرْناه عنهم أنَّ قلوبهم فى غَمْرَةٍ من الحقّ أيْ غير ذلك العمل الأَسْوَأ الذي عملوه وهو الكفر، هم لها عاملون أيْ هم فاعِلون لها مُعْتَادون مُسْتَمِرُّون مُصِرُّون علي عملها مُنْغَمِسُون فيها بلا أيِّ تَعَقّلٍ حيث هم بسبب كفرهم أيْ تكذيبهم بوجود الله والآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار يفعلون كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار إذ لا حِساب مِن وِجْهَة نَظَرهم
ومعني "حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)" أيْ يَسْتَمِرُّون في غَفْلتهم مُصِرِّين علي كفرهم وأعمالهم السيِّئة التي هم لها عامِلُون إلي أنْ أخذنا أيْ أَصَبْنا وعاقبنا مُترفيهم بالعذاب المُوجِع المُهين المُتْعِس الذي لا يُوصَف – والمُتْرَفُون منهم وفيهم هم المُنْغَمِسون في كلّ تَرَفٍ أيْ في كلّ نعيمٍ زائدٍ يَغْلب عليه الفساد والشرّ والاستكبار الأمر الذي يكون كالأغشية علي عقولهم فلا يُحسنون استخدامها بسبب حرصهم الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا الرخيصة – علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم حيث هم يَسْتَحِقّونه، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم، وقد خَصَّ سبحانه المُتْرَفِين بالذكْر لأنهم يَتَوَهَّمُون أنهم بتَرَفِهِم وغِناهم يمكنهم حماية أنفسهم من أيِّ عذاب! وهذا يدلّ علي أنَّ العذاب حينما يَنْزِل سيشمل الجميع وليس أيّ أحدٍ في أمانٍ منه، حينها إذا هم يَجْأرون أيْ يُسارِعون بمُجَرَّد نزوله برفع أصواتهم بالصراخ والاستغاثة والألم، مُتَمَنّين مُحاوِلين يائسين الهروب منه والذي هو مُتَحَقّقٌ حتماً وليس له أيّ مَهْرَب، وهم الذين كانوا قبل نزوله مُتَعالِين مُتَفَاخِرين مُنْتَفِخِين مُسْتَقْوِين بإمكاناتهم وشرورهم إذا هم الآن فجأة سريعاً يَنْهارُون مُسْتَسْلِمِين!!
ومعني "لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)" أيْ يُقال لهم لِذَمِّهم ولإهانتهم ولإذلالهم ولمزيدٍ من تعذيبهم بتَيْئِيسهم ببيانِ عدم نَجَاتهم حتماً من العذاب فليس لهم أيّ أملٍ في ذلك: لا تَرْفعوا أصواتكم بالصراخ والاستغاثة والألم الآن وقت نزول عذابكم فلن ينفعكم صُرَاخكم شيئاً فإنكم من عذابنا لا تُنصرون أيْ لا تُنْقَذون ولا تُمْنَعون أيْ لا تَجدون مطلقا أيَّ أحدٍ ينقذكم مِمَّا أنتم فيه ويمنعكم منه لا في دنياكم ولا في أخراكم، فلن يَنْصركم أحدٌ ولن تَنصروا أنفسكم، فقد فاتَ الأوَان وجاء وقت عقابكم في مُقابِل إصراركم علي سُوئكم بما تَسْتَحِقّونه من عذابٍ كنتم تُكَذّبونه
ومعني "قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)" أيْ هذا بيانٌ للأسباب التي أَدَّت إلي أخْذِهم بهذا العذاب الذي لا يُوصَف حتي يتَجَنّبها تماماً كلّ عاقل.. أيْ لا عُذْر لكم لأنه قد كانت آياتي تُقْرَأ عليكم وتُذْكَر لكم من خلال رُسُلي والمسلمين، سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في كتاب يُتْلَيَ عليهم أوحاه الله لرسوله وآخرها القرآن العظيم فيه أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يديه لتأكيد صِدْقه وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص)، وذلك لتؤمنوا وتعملوا بها لتسعدوا في الداريْن فكنتم علي أعقابكم تَنْكِصُون أيْ تَرْجِعون علي أعقابكم – والعَقِب هو مُؤَخّر القَدَم – أيْ ترجعون علي أقدامكم للخَلْف هارِبين مُبْتَعِدين والمقصود شِدَّة إعراضهم عنها أيْ إعطائهم ظهورهم لها والتفاتهم وانصرافهم وابتعادهم عنها وتَرْكها وإهمالها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ومقاومة نَشْرها وإيذاء مَن يَتّبعها بما يُفيد إصرارهم التامّ الشديد علي سُوئهم
ومعني "مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)" أيْ هذا تأكيدٌ علي مَا سَبَقَ ذِكْره من شِدَّة إعراضهم وسُوئهم.. أيْ وكنتم في حال إعراضكم مُسْتَكبرين به أيْ مُكَذّبين مُسْتَهْزِئين بهذا الذي يُتْلَيَ عليكم من آياتي أيْ مُكَذّبين بكتابي وآخر كتبي القرآن العظيم ومُكَذّبين برسولي وآخر رسلي الرسول الكريم محمد (ص)، وأيضا كنتم مُستكبرين به أيْ بسببه أيْ يُحْدِث لكم سماعه كِبْرَاً أيْ تَعَالِيَاً علي اتّباعه وتعالياً علي المسلمين بإيذائهم لتُحاولوا مَنْعهم من الإيمان والعمل به، وعند بعض العلماء لفظ "به" يعود علي البيت الحرام حيث كان المشركون بمكة المُكَرَّمَة يَتَعالون علي الناس بسببه أيْ بسبب وجوده عندهم وخدمتهم له مُتَوَهِّمين أنهم أفضل وأعلي من غيرهم وعليهم حقّ تعظيمهم وجعلهم رؤساء عليهم واتّباعهم وأنهم لا يَغْلبهم أحد.. ".. سَامِرًا.." أيْ وكنتم سامِرِين أيْ تَجْلِسون للحديث تَتَسَامَرُون أيْ تَتَحَدَّثون في مَجالسكم الفاسِدَة للتّسَلّيِ أيْ للضحك واللعب والتّلَهِّيِ بالإساءة للقرآن العظيم والرسول الكريم والإسلام الحنيف بَدَلَاً من تعظيمه بالعمل بأخلاقه بما يُفيد شدّة تكذيبكم وعِنادكم واسْتكباركم واسْتهزائكم واسْتِخْفافكم ولامُبَالاتكم.. ".. تَهْجُرُونَ (67)" أيْ وكنتم تَهْجُرونه أيْ تُقاطِعونه وتَتْرُكونه، من الهَجْر، ولا تَتَعامَلون معه وتَتَدَبَّرونه وتَنتفعون وتَسعدون به.. كذلك من المعاني أنْ تقولوا فيه الهُجْر أيْ الفُحْش أيْ القول الفاحِش البَذِيء القَبِيح
ومعني "أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)"، "أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)"، "أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)" أيْ هذه أسئلة لبيان أسباب إعراضهم وبالتالي عذابهم الذي سَبَقَ ذِكْره في الآيات السابقة كما أنها للذّمِّ الشديد وللرفض وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء التعيس وللنَّهْي والمَنْع حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتعس مثلهم، وأيضا للتشجيع علي التَدَبُّر – حيث لفظ "أفَلَم" من معانيه أنه يُفيد الحَضَّ والحَثَّ – لعل أمثال هؤلاء يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. أيْ فهل لم يَتَدَبَّروا أيْ يَتَعَقّلوا القول أيْ القرآن العظيم؟! فإنهم لو تَدَبَّرُوه أيْ تَفَكّرُوا فيه بتَعَمُّقٍ وبِصِدْقٍ وعَدْلٍ بلا انْحِيازٍ لَعَلِموا ولَتَأكّدوا حتماً أنه حقّ وصِدْقٌ وخيرٌ ولمصلحتهم ولإسعادهم تماماً في دنياهم وأخراهم ولآمَنُوا وعملوا به ولم يكفروا ولكنهم أعرضوا عنه بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (82) من سورة النساء "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)" أيْ هذا هو السبب الثاني لإعراضهم وبالتالي لعذابهم – بعد الأول الذي هو عدم تَدَبُّرهم القرآن الكريم وتَكْذيبهم به وعدم عملهم بأخلاقه – وهو تكذيبهم لإرسال الله تعالي لرسلٍ وكتبٍ فيها إسلام وهو أمرٌ يَدَّعُون كذباً وزُورَاً عدم معرفتهم به لعدم حُدُوثه قَبْلهم، وفي هذا مزيدٌ من الذمِّ لهم لمزيدٍ من إفاقتهم.. أيْ هل لم يَدَّبَرُوا القول أو هل وَصَلَهم دينٌ من خلال رسولٍ وكتابٍ لم يَصِل آباءهم السابقين ولذلك أنكروه وأعرضوا عنه؟! فلقد جاء رُسُلٌ في السابق لآبائهم وأجدادهم ومعهم كُتُبٌ فيها دين الإسلام بما يُناسب كل عصرٍ كما هي سُنَّة الله تعالي دائما في الناس ألا يَتْركهم يَضيعون فآمَن البعض فسعدوا وكفر البعض فتعسوا وهلكوا وهم يَعْرفون ذلك ويَشْتَهِرَ بينهم ويَتناقلونه كأخبار الرسل الكرام نوح وإبراهيم وموسي وعيسي مع أقوامهم، فهل لا يَدْعوهم ذلك إلى تصديق رسولهم الكريم محمد (ص)؟! إنهم بالقطع قد سَمِعوا وعَلِموا وتَنَاقلوا فيما بينهم أخبار رسلٍ سابقين وكتبٍ سابقة مثل التوراة مع موسي (ص) والإنجيل مع عيسي (ص)، فلماذا إذَن يُنْكِرون أيْ يُكَذّبون ويَرْفضون القرآن العظيم الذي مع محمد (ص) والذي لم يُخالِف كل الكتب السابقة التي أَتَت آبائهم الأولين والتي قد جاءت بشيءٍ واحدٍ وهو عبادة الله تعالي وحده واتباع الإسلام؟! ولكنهم قطعا كاذبون مُعانِدون!!.. "أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)" أيْ هذا هو السبب الثالث لإعراضهم وبالتالي لعذابهم وهو تشكيكهم في صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) رغم معرفتهم التامَّة بصِدْقه وأمانته، وفي هذا مزيدٌ من الذمِّ لهم لمزيدٍ من إفاقتهم.. أيْ أوْ لمْ يَعرفوا رسولهم الكريم محمد (ص) وبالتالي فهم مُنْكِرُون له أيْ مُكَذّبون رافِضون له غير مُعْتَرِفين غير مؤمنين به؟! لا، ليس الأمر كذلك حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ لأنهم يعرفونه تماماً ويعرفون تمام صِدْقه وأمانته وحُسْن خُلُقِه منذ صِغره وحتي دعاهم للإسلام حيث نَشَأ بينهم ويعرفون أصله وحَسَبَه ونَسَبَه بل كانوا يُلَقّبونه بالصادق الأمين قبل أن يأتيه الوَحْي بالقرآن العظيم فلم لا يُصَدِّقونه الآن حين جاءهم به وهو الصدْق المُبين؟! وإذا لم يُجَرِّبوا عليه الكذب مع الخَلْق فهل يَتَصَوَّرون منه أنْ يَكذب على الخالِق؟!.. "أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)" أيْ هذا هو السبب الرابع لإعراضهم وبالتالي لعذابهم وهو شِدَّة قُبْحهم بوَصْفِهم كذباً وزُورَاً للرسول الكريم محمد (ص) بما يُوقِنون حتماً أنه بَريءٌ منه تماماً وهو الجُنون ولذا فهُمْ يُكَذّبون به لأنهم لا يُمْكِن أنْ يُؤمنوا بمَجْنون!!.. وفي هذا مزيدٌ من الذمِّ لهم لمزيدٍ من إفاقتهم.. أيْ أوْ يقولون به أيْ بمحمدٍ (ص) جِنّة أيْ جُنُون ولذا يقول هذا الذي يقوله فهو لا عقل له يتكلّم كلاماً لا يُفْهَم ولا يُعْقَل ولا يُقْبَل!! رغم عِلْمهم التامّ المُؤَكّد بكذبهم حيث هو كما يراه الجميع أكمل الناس عَقْلَاً يَنْطِق بكل خيرٍ ويعمل به ويدعو إليه.. ".. بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ.." أيْ ليس الأمر كما يَدَّعُون كذباً وزُورَاً من أكاذيب وافتراءات وتخريفات أنه (ص) به جِنّة أو جاءهم بما لم يَأْتِ آباءهم الأوَّلِين أو نحو هذا ولكنّه جاءهم بالحقّ أيْ حَضَرَ ووَصَلَ إليهم ومعه الحقّ أيْ الصدْق الثابت الذي لا يَتَغَيَّر أبداً وهو القرآن العظيم الذي كله حقّ أيْ صِدْق حيث فيه عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام الذي كلّ أخلاقه تحمل تمام الحقّ والصدق والعدل والخير والصلاح والكمال والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك ويعمل بها كلها.. ".. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)" أيْ ولكنَّ أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حالهم وواقعهم أنهم كارهون للحقّ أيْ غيرُ مُحِبِّين غير مُرِيدِين غير قابِلين له وبالتالي مُكَذّبين غير عامِلين به مُقاوِمين مُحارِبين مُعانِدين له مُحاوِلين مَنْع غيرهم من اتّباعه والعمل بأخلاقه مع إيذاهم قولاً وفِعْلاً، وما كل ذلك الكُرْه للحقّ إلا لأنه يُصْلِح الناس ويُكْمِلهم ويُسعدهم فيُضَيِّع بالتالي علي هؤلاء الكارهين فُرَص أنْ يَسْتَغْفِلوهم ويَسْتَعْبِدوهم ويَستَغِلّوهم ويَخدعوهم ويَنْهَبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم كما أنه يَمنعهم من شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره وإلا فكل عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ يعلم تمام العلم بداخله – وهذا الذي يعلمه هو الذي يوافق فطرته المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) – صِدْق القرآن الكريم وعظمته وإصلاحه وإكماله وإسعاده للبشريّة كلها حتي يوم القيامة وأنَّ فِعْل أيّ خيرٍ يُحَقّق كل خيرٍ وسعادة.. هذا، ولفظ "أكثرهم" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلّة منهم قد أحسنوا استخدام العقول فآمنوا بربهم وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، كما أنَّ القليل منهم لم يكن كارهِاً للحقّ ولكنه لم يؤمن خوفاً مِمَّن حوله من الكفار وليُحافظ علي مصالحه معهم وليُحَقّق بعض أثمان الدنيا الرخيصة
ومعني "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)" أيْ هذا تذكيرٌ للناس بأعظم نِعْمَة أنعم بها ربهم عليهم مِن نِعَمه التي لا يُمكن حصرها وهي نعمة وجود الحقّ في الحياة والذي به تَصْلُح وتَسْعَد وبدونه تَفْسَد وتَتْعَس، نِعْمَة وجود كتبه وآخرها القرآن العظيم والذي فيه الإسلام بكل الأخلاقيَّات والتشريعات والأنظمة والقواعد والأصول التي تُصْلِحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في الداريْن، لأنه يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، ثم يَنتظرون بكل استبشارٍ وأملٍ في آخرتهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، لأنه من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعْلَمهم تمام العلم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (57)، (58) من سورة يونس "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"، "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ ولو فُرِضَ، ولن يَحْدُث حتماً، اتّبَعَ الحقّ أهواءهم أيْ سارَ خَلْفَ وأطاعَ الحقّ – وهو القرآن العظيم الذي كله حقّ أيْ صِدْق حيث فيه عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام الذي كلّ أخلاقه تحمل تمام الحقّ والصدق والعدل والخير والصلاح والكمال والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك ويعمل بها كلها – شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أيْ أقرَّها الله تعالي في القرآن ووَافَق عليها وأوْصَيَ بها وفَرَضَها وشَرَعَها، لكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك أنْ فَسَدَت أيْ خَربَت وهَلَكَت السماوات والأرض ومَن فيهنّ مِن مخلوقاتٍ بسبب انتشار قوانين وتشريعات الظلم والعدوان والخلاف والصراع والاقتتال بين الناس والتي يَتْعسون بسببها ويَهْلَكون ويُهْلِكون حتي بقية المخلوقات لأنها كلها مُسَخَّرَة تابِعَة لهم وهم الذين يتعامَلون معها ويَتَحَكَّمون فيها فيَهلك بذلك الجميع ويَتْعس وتَخْتَلّ كل أنظمة الحياة وتَفْنَي (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (251) من سورة البقرة ".. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ.." أيْ ليس الأمر كما يَتَوَهَّمُون أنَّ الحقّ يَتّبِع أهواءهم ولكنّا جِئْناهم بذِكْرهم أيْ جِئْنا لهم بما فيه ذِكْرهم وهو القرآن العظيم أيْ أحْضَرْناه وأوْصَلْناه إليهم فيه تَذْكيرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتْعسوا فيهما، كذلك فيه ذكْرٌ لهم أيْ صِيتٌ طيِّبٌ أيْ كلُّ شرفٍ وعِزَّةٍ وجَاهٍ ومَكَانَةٍ وسُمْعَةٍ طيِّبةٍ ونحو ذلك ممّا يَنتفعون ويَسعدون به تمام الانتفاع والسعادة.. ".. فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)" أيْ فبَدَلَاً أنْ يُقْبِلُوا ويَحْرِصوا عليه ويَتّبِعوه ويَنْتَفِعوا ويَسعدوا به كما هو يُتَوَقّع مِن أيِّ عاقل، هم مع ذلك مُعْرِضُون عنه فلم يؤمنوا به ويعملوا بأخلاقه ليسعدوا في الداريْن أيْ يُعطونه ظهرهم ويَلتفتون ويَنصرفون ويَبْتَعِدون عنه ويَتركونه ويهملونه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء!! وذلك بسبب إغلاقهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ أوْ تَسألهم أيْ تَطلب منهم أجراً ماليا أو غيره تَفْرِضه عليهم يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بعده – علي بَلاغِك ودعوتك لهم لله وللقرآن وللإسلام بحيث يغرمون شيئا إذا تمسّكوا وعملوا بأخلاقه!! أو أنَّك ستخسر مَكْسَبَاً مَا كنتَ ستأخذه منهم إذا لم يَستجيبوا!! وبالتالي فهُمْ من هذه الغَرَامَة مُتْعَبُون مُرْهَقُون كأنَّ عليهم حِمْلا ثقيلا حيث لا يستطيعون دفع قيمتها حتي يُسْمَح لهم بالدخول في الإسلام وبالتالي فهم لم يُسْلِموا لهذا السبب كما أنهم أصبحوا يكرهونه ويتضايقون منه بسبب غراماته المُرْهِقَة الكثيرة المفروضة عليهم مَهْمُومِين مَشغولين بهمومها لا يمكنهم التفكير في الإسلام بتَعَمّق ليَقتنعوا به ليَدخلوا فيه؟! بالقطع لا، لم تَطلب منهم شيئا، بل أنت والمسلمون معك تنفقون بلا أيّ مُقابِلٍ من جهودكم وفِكْركم وأموالكم وأوقاتكم وغيرها لحُسن دعوتهم لإسعادهم في الداريْن بالإسلام.. فليس عليهم إذن أيّ ضَرَرٍ من أن يُسْلِموا بل سيكون لهم كلّ السعادة ولكنَّ السبب في امتناعهم هو كما ذُكِرَ في كلّ الآيات السابقة أنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ.." أيْ فبسبب أنَّ خراج أيْ أجر ربك في دنياك وأخراك خيرٌ أيْ أعظم وأكثر وأفضل خيراً لك مِمَّا عندهم ولا يُقارَن لكثرته ودَوَامه وبسبب أنك وكل المسلمين تَحْتَسِبون أجوركم في الداريْن عند ربكم لا عندهم حيث سيُعطيكم ما يُسعدكم في دنياكم وما هو أسعد في أخراكم ما دُمْتُم قد أحسنتم دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا، لذلك لم تسألهم خَرْجَاً مُطْلَقَاً، وهم يعلمون ذلك بكل تأكيد ويرونه واقعا، وبالتالي فليس لهم أيّ عُذْرٍ في عدم إسلامهم.. ".. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وربك حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ هو خير الرازقين أيْ المُعْطِين أيْ أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمَخْلُوق؟! فرِزْقه أيْ عطاؤه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا وهو خالِق رزقه من عدمٍ ويَمْلكه كله ويَملك أسبابه وأصوله وخاماته كالماء والهواء والطاقات والخلايا ونحوها وخزائنه لا تنتهي مُطلقا، أمّا غيره من البَشَر مِمَّن يَرزقون غيرهم هم مجرّد أسبابٍ لرزقه فهو خالقهم وخالق كل شيءٍ ولم يَخلقوا هذا الرزق من أصله ورِزْقهم محدود ومُتَقَطّع وينتهي بمرضٍ أو موت أو غيره وهم أيضا مَرْزُوقون به منه قد مَلّكهم إيّاه لفتراتٍ وهو الذي يَسَّرَ لهم أسبابه وأَعانهم عليها بما أعطاهم من عقلٍ وصحة وقوة وطاقة ونحو هذا.. وفي هذا تذكيرٌ بأنْ يَطلب الخَلْق من خالقهم وحده سبحانه الرزق، وأنْ يُحْسِنوا اتّخاذ أسبابه بما يستطيعون، وسيُيَسِّره لهم حتماً، إمّا مباشرة وإمّا بتيسير مَن يُسَهِّله لهم ويُعينهم عليه مِن خَلْقه
ومعني "وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)"، "وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)" أيْ هذا بيانٌ وإثباتٌ للحقِّ والذي يجب عليهم الإيمان به وعدم تكذيبه والاستكبار عليه ومُعاداته، بعد نَفْي وتَسْفيه باطلهم الذي هم عليه، لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولرسولهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلَ تعاستهم فيهما.. أيْ وإنك حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه تَدعو أمثال هؤلاء المُكَذّبين، وعموم الناس، أيْ تُرْشِدهم وتَدُلّهم وتَطْلُب منهم وتُشَجِّعهم علي المَجِيء والحُضور – وإنَّ واللام للتأكيد – إلي صراطٍ مستقيم أيْ إلي طريقٍ مُعْتَدِلٍ صحيحٍ صوابٍ بلا أيِّ انحرافٍ مُتَّجِهٍ دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، طريق الله والإسلام، طريق تمام الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (153) من سورة الأنعام "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، ثم مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. "وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)" أيْ هذا بيانٌ لسبب انحرافهم وابتعادهم عن الإسلام.. أيْ وإنَّ الذين لا يصدّقون بوجود الآخرة حيث البعث للناس بالأجساد والأرواح بعد كوْنهم ترابا والحساب والعقاب والجنة والنار لأنهم قد أغلقوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم وَصْفهم وحالهم أنهم ناكِبُون أيْ مُنْحَرِفون مائلون مُبْتَعِدُون حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عن الصراط المستقيم هذا إلي غيره من الطرق المُنْحَرِفَة الفاسِدَة المُتْعِسَة في الداريْن – وإنَّ واللام للتأكيد – رغم وضوح الأدِلّة الأكيدة التي ليس فيها أيّ ذرَّة شكّ علي استقامته لكلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل حيث هم يَرْفضونه ولا يَقبلونه ولا يَستجيبون له ولا يَتّبِعونه ويُخالِفونه فيَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، بينما مَن يؤمن بالآخرة ويتذكّرها دائما فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال اتّباعه لهذا الصراط المستقيم أيْ من خلال تمسّكه وعمله بكل أخلاق إسلامه
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. ثم إيّاك وإيّاك أن تَعْبَدَ أو تتوَكَّل علي غيره حين تُصاب بشيءٍ مِن ضررٍ أو اختبارٍ ما (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن كيفية الصبر علي هذا والخروج مُستفيدا)، في أيّ مكانٍ أو مجالٍ، فتَدعو أو تعتصم أي تتحَصَّن بغيره وتَلجأ له مُتَيَقّنا أنه هو الذي سيُنجيك – وليس سَبَبَاً من الأسباب مع يقينك أنَّ الله وحده هو النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك) – ثم إيّاك وإيّاك بعد أن يُعينك الله برحماته وتيسيراته علي المرور والخروج والنجاة من هذه الأزمة، وأيّ أزمة أنت فيها، حينما لجأتَ إليه واعتصمتَ به، أن تبتعد عن ربك ودينك وتعود إلي شرٍّ ما كنت عليه أو تكفر بنِعَم ربك عليك أي تكذبها ولا تعترف بها وتَنْسبها لغيره، أو تفعل كما يفعل بعض السَّيِّئين فيكفر بوجود الله أصلا أو يُشرك معه في العبادة شيئا آخر كصنمٍ أو حجر أو غيره أو ما شابه هذا من صور الخِسَّة والسوء (برجاء مراجعة الآية (22)، (23) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن الاعتصام علي الدوام بالله تعالي وليس وقت الشدَّة والأزمات فقط)
هذا، ومعني "وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)" أيْ هذا بيانٌ للحال السَّيِّء القبيح الذي عليه بعض المُكَذّبين حيث تمام الإصرار علي سُوئهم بلا أيِّ توبةٍ أيْ عَوْدَةٍ لله وللإسلام بأيِّ حالٍ من الأحوال، فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتْعس كتعاساتهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة الذين هم عن الصراط لناكِبُون ومَن يَتَشَبَّه بهم وأزَلْنَا مَا بهم مِن ضَرَرٍ أصابهم في دنياهم أيْ مِن شرٍّ مَا يَضرّهم ويُسيء إليهم في صحتهم أو مالهم أو أعمالهم أو أحبابهم أو ما شابه هذا كمرضٍ أو فقرٍ أو جوعٍ أو جفافٍ أو غلاءٍ أو نحوه، لَلَجُّوا أيْ لاسْتَمَرّوا وتَمَادوا وازدادوا مُعَانِدِين مُصِرِّين في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس ويَظَلّون علي ذلك الأمر الذي يَجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يُؤَدّي حتما إلي كل سوء – بينما العَمَيَ هو عَمَيَ البَصَر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية (10) من سورة البقرة "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا، ثم برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (12) من سورة يونس "وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من معاني الآية الكريمة عند بعض العلماء أنَّ هذا يكون يوم القيامة بمعني أننا لو فُرِضَ ورحمناهم أيْ عَطَفْنا وأَشْفَقْنا عليهم ورَفَعْنا عنهم عذاب النار لفترةٍ وأَعَدْناهم إلي الدنيا لَعَادوا حتما لِمَا كانوا عليه أيْ للَجُّوا في طغيانهم يَعْمهون لأنّ المشكلة فيهم هم إذ هم مُصِرُّون علي سُوئهم، كما يقول تعالي في الآية (28) من سورة الأنعام ".. وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)
ومعني "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)" أيْ هذا تأكيدٌ واسْتِشْهادٌ علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ولقد أَصَبْناهم وعاقبناهم بالعذاب المُوجِع المُهين المُتْعِس الذي لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم حيث هم يَسْتَحِقّونه، في دنياهم أولا قبل آخرتهم، بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) – وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم – فمَا اسْتَكانوا لربهم بذلك أيْ فما سَكَنُوا واسْتَسْلَموا وانْقادوا بعده لربهم ولإسلامهم، وما يَتضرَّعُون أيْ ولم يَتَضَرَّعُوا أيْ لم يلجأوا إليه ويَدْعُوه ويَرجوه ويَطلبوا عَوْنه وتوفيقه وتَيْسيره ورزقه وقوَّته وأمنه وحُبّه ورضاه وإسعاده لهم في دنياهم وأخراهم وبالجملة لم يعبدوه أيْ يطيعوه وحده ويَخضعوا ويَستسلموا له ويعودوا عن تكذيبهم ويتوبوا ويعملوا بأخلاق إسلامهم ليسعدوا في الداريْن، فهُمْ بَدَلَاً أنْ يُقْبِلُوا علي ربهم والإيمان به والعمل بدينه الإسلام ويَحْرِصوا عليه ويَتّبِعوه ويَنْتَفِعوا ويَسعدوا به كما هو يُتَوَقّع مِن أيِّ عاقل، حيث الشدّة تَجعل الإنسان حتماً يُرَاجِع ذاته كما يُثْبِت الواقع ذلك، هم مع هذا لم يَسْتَكِينوا ولم يَتَضَرَّعوا لكنهم استمرّوا وتَمَادوا في طغيانهم يَعْمهون! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيتين (94)، (95) من سورة الأعراف "وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ"، "ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)" أيْ يَسْتَمِرُّون في غَفْلتهم مُصِرِّين علي طغيانهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وسُوئهم بلا أيِّ توبةٍ إلي أنْ فتحنا عليهم باباً – وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان مَحْجُوزَاً عنهم – مِن عذابٍ شديدٍ أيْ فظيعٍ عظيمٍ مُؤْلِمٍ مُوجِعٍ مُهينٍ مُتْعِسٍ لا يُوصَف ولا يُرَدّ، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم حيث هم يَسْتَحِقّونه، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلَهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)" أيْ فإنهم حينئذ في هذا العذاب الشديد يائسون من أيِّ أملٍ في أيِّ نجاةٍ أو خير، مَحْزُونُون مُتَحَيِّرُون مُتَحَسِّرون مَخْذُولون
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)"، "وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)"، "وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ والله تعالي الخالق الرحيم الكريم الوهَّاب الرزّاق وحده بلا أيّ شريكٍ ومِن تمام قدْرته وكمال علمه وبفضله وكرمه ورحمته هو الذي أنشأ أيْ خَلَقَ وأوْجَدَ وأحْدَثَ وجَعَلَ لكم أيها الناس وأعطاكم مُقَوِّمَاتٍ وإمكاناتٍ لتمام نفعكم وسعادتكم بحياتكم والتي منها وأهمها الآذان التي تسمعون بها والأبصار التي ترون بها والأفئدة – جمع الفؤاد أي القلب وهو يعني العقل عند كثيرٍ من العلماء وسُمِّيَ بالقلب لأهميته كالقلب لأنَّ العقل إذا تَوَقّف تماماً عن العمل توقّفت الحياة كما إذا توقّف القلب – أيْ العقول والمشاعر بداخله التي تعقلون بها بما فيها من قُدْرة علي التفكير والإدراك والشعور فتُمَيِّزون بكل ذلك بين الخير والشرّ والصواب والخطأ والسعادة والتعاسة فتتحقّق لكم السعادة الكاملة في دنياكم ثم أخراكم.. ".. قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)" أيْ لكنْ رغم كل هذه النِّعَم الواضحة والتي لا يُمكن حَصْرها، فإنكم تشكرون أيها البَشَر شكرا قليلا وفي أوقاتٍ قليلة! بل بعضكم قد يكفر هذه النِّعَم أيْ لا يعترف بها بل وقد يَنْسِبها لغيره سبحانه! بل والبعض قد يَكفر أيْ يُكَذّب بوجود الله أصلا!! فإيّاكم أن تكونوا كذلك، بل كونوا دوْما شاكرين لنِعَمه تعالي، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحمده وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. "وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)" أيْ وأيضا الله تعالي الخالق الرحيم الكريم الوهَّاب الرزّاق وحده بلا أيّ شريكٍ ومِن تمام قدْرته وكمال علمه وبفضله وكرمه ورحمته هو الذي خَلَقَكم ونَشَرَكم وكَثّرَكم في كل نَوَاحِي الأرض لتنتفعوا ولتسعدوا بكل خيراتها، وبعد ذلك إليه وحده لا إلي غيره تُجْمَعون ليوم الحشر أيْ يوم القيامة حين يبعثكم من قبوركم بعد مَوْتكم وكوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم حيث يُثاب أهل الخير بكل خير وسعادة وأهل الشرّ بكل شرٍّ وتعاسة بما يستحِقّون بكل عدل، فأحْسِنُوا إذَن الاستعداد للقائه تعالي بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. "وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)" أيْ وأيضا الله تعالي الخالق الرحيم الكريم الوهَّاب الرزّاق وحده بلا أيّ شريكٍ ومِن تمام قدْرته وكمال علمه وبفضله وكرمه ورحمته هو الذي في كلّ لحظة من اللحظات – كما يُثبت الواقع ذلك – يُحيي مخلوقات ويرعاها ويُرَبِّيها ويحفظها، مِن بَشَرٍ وغيره، ويُميت أخري انتهي أجلها بأخذ أرواحها منها، فلا تموت نفسٌ ولا يَهلك شيءٌ إلا بإذنه، وبالتالي وبما أنه قادرٌ علي كل شيءٍ عالِمٌ به فإنه كذلك بمجرّد أن يقول لأيّ شيءٍ كن فيكون كما يريد من غير أيّ جهدٍ ولا وقتٍ ولا غيره مِمَّا يحتاجه البَشَر من أسباب ولا يُمكن لشيءٍ أن يَمتنع أو يُخالِف، وسَيُحْييكم بعد موتكم يوم القيامة للحساب الختاميّ علي ما فعلتم، فاعبدوه إذن واشكروه وتوكّلوا عليه وحده لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.." أيْ وله كذلك سبحانه وحده لا لغيره وهو وحده الذي يملك تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي ويُتابِع بعضهما بعضا ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)" أيْ فهل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك وغيره حولكم أيها الناس فتعبدون ربكم لا غيره وتَتّبِعون إسلامكم فتُحْسِنون بذلك الاستعداد لبَعْثكم في آخرتكم فتسعدون بالتالي في دنياكم وأخراكم ولا تتعسون فيهما؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تُرْشِدكم لهذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا السؤال مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني " بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)"، "قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)"، "لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)" أيْ هذا بيانٌ للحال السَّيِّء المُتَشابِه للمُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُسْتَهْزِئين في كل زمنٍ حتي لا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ فيَتْعس كتعاساتهم في الداريْن حيث لم يُحْسِنوا استخدام عقولهم والاستجابة لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فلم يعبدوا الله تعالي وحده ويَتّبِعوا دينه الإسلام ويشكروه علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ فيُحسنوا بذلك الاستعداد للآخرة بل كذّبوا بالبَعْث بعد الموت يوم القيامة وشَكّكوا فيه واسْتَبْعَدُوه واستهزأوا به والحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرهم.. أيْ رغم كل هذه الأدِلّة القاطِعَة السابق ذِكْرها لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، لكنَّ المُكَذّبين سواء أكانوا كافرين أيْ يُكَذّبون بوجود الله أم مشركين أيْ يعبدون غيره تعالي كصَنَمٍ أو حَجَرٍ أو نحوه أم مَن يَتَشَبَّه بهم، لم يعبدوه سبحانه ولم يؤمنوا بالبعث لكنهم قالوا مِثْل مَا قال السابقون لهم من المُكَذّبين أمثالهم حيث قالوا مُكَذّبين بالبَعْث بعد الموت يوم القيامة مُشَكّكِين فيه مُسْتَبْعِدين له مُتَعَجِّبين منه مُسْتَهْزِئين به والحساب والعقاب والجنة والنار: هل إذا مِتْنَا وأصبحنا تراباً وعظاماً مُفَتّتَة هل نحن مَبْعُوثون أيْ هل سنُحْيَا خَلْقَاً جديداً فيه حياة مرة أخري بأجسادنا وأرواحنا كما كنا في حياتنا الدنيا قبل موتنا للحساب والجزاء في يوم القيامة الذي يَدَّعِيه المسلمون؟! إنَّ هذا لا يُصَدِّقه عقل!! أي لا يُصَدِّقون أبداً ويَسْتَبْعِدون تماما علي الله تعالي أنه في الآخرة يُحييهم مرة أخري هم والسابقين منذ آدم بتمام قدْرته وعلمه من قبورهم بعد موتهم وكوْنهم ترابا وعظاما مُتَفَتِّتَة ليَخرجوا بأجسادهم وأرواحهم للحساب الخِتامِيّ حيث يُعطِي أهل الخير كلّ خيرٍ وسعادة علي قدْر أعمالهم وأهل الشرّ كلّ شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيِّ ذرّة ظلم، رغم أنه مَن كان قادراً سبحانه علي كل هذه المُعْجِزات المُبْهِرات السابق ذِكْرها في الآيات السابقة وبَدْء خَلْق البَشَر من عدمٍ فهو قادرٌ حتماً علي أن يُعيد إحيائه بعد موته وبَعْثه يوم القيامة لحسابه علي ما فَعَل حيث الخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قَدْر مَا تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. "لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)" أيْ وقالوا كذلك مُؤَكّدين لتكذيبهم واستهزائهم وسُوئهم وإغلاقهم لعقولهم لقد وُعِدْنا نحن مِن محمدٍ وَوُعِدَ آباؤنا مِن رسلٍ سابقين هذا الوعد بالبعث مِن قبل محمدٍ ومن قبلنا ولم يَحْدُث ولم نشاهده ولم يأتِ بَعْد، وما هذا الوعد إلا أساطير الأوَّلِين جَمْع أُسْطُورَة أيْ قصة مَسْطُورَة مَكتوبة قديماً، أيْ هو قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها!! فهو إذَن وَعْدٌ كاذبٌ هزلِيّ خرافيّ وبالتالي فلن نؤمن به أيْ لن نُصَدِّقه.. إنَّ السبب في كُفرهم وضَلالهم وسُوئهم هو أنَّ مِثْل هؤلاء السفهاء ومَن يُشبههم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)"، "سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)"، "قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)"، "سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)"، "قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)"، "سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)"، "بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)" أيْ هذا إرشادٌ من الله تعالي لرسله الكرام وللمسلمين مِن بَعْدِهم أن يُحاوِروا أمثال هؤلاء بالحُسْنَيَ، وأنْ يدعوهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ لله وللإسلام (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وأنْ يُوَضِّحُوا لهم الحقائق بأنْ يُحَرِّكوا عقولهم من خلال سؤالهم بعض أسئلة حاسِمَةٍ قاطِعَةٍ ليس لها إلا إجابة واحدة مُحَدَّدَة مِن أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهي: الله وحده! وذلك لبيان بعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عاقلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وأنه مَن كان قادراً سبحانه علي بَدْء خَلْق البَشَر من عدمٍ فهو قادرٌ حتماً علي أن يُعيد إحيائهم بعد موتهم وبَعْثهم يوم القيامة لحسابهم علي ما فَعَلوا.. تعالي عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم لِمَن الأرض ومَن فيها مِن مخلوقاتٍ كبَشَرٍ وغيرهم؟! هي لمَن؟! مَن الذي خَلَقها وخَلَقهم ويَمْلكها ويَحفظها ويَرْعاها ويُدَبِّر كل أمورها وأمورهم علي أكمل وأسعد وجه؟!.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به.. وفي هذا حَثّ وتشجيعٌ علي التَّدَبُّر والعلم للوصول لكل خير كما أنَّ فيه ذَمَّاً ضِمْنِيَّاً لمَن يَبْقَيَ منهم علي جهله وإغلاقه لعقله.. "سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)" أيْ لن يكون لهم أيّ إجابة إلا أنْ يقولوا لله، وحده، لشدَّة وضوح الأمر!! وذلك إنْ فكّروا وكانت لهم عقول مُنْصِفَة عادِلَة!! لأنه لم يستطع ولم يَجْرُؤ ولا يوجد أيّ أحدٍ ادَّعَيَ أنَّ الأرض ومَن فيها له! فليس لهم إذَن إلا هذه الإجابة! فهم مُجْبَرون عليها ومُقِرُّون تماما بها! وهذه هي إجابة المشركين، فهم يعترفون لله بأنه وحده الخالق الرازق المُحْيي المُمِيت المُدَبِّر للأمور لكنهم لا يعترفون له بأنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة!!.. أمّا الكافرون وهم الذين يكفرون بوجود الله أصلا، والكفر في أصله من الناحية اللغوية هو تغطية الحقائق وإخفاؤها، فإنهم لا يُعلنون ولا يَنطقون بأنَّ الله تعالي هو الخالق ولكنهم إمَّا يَنطقون بمعاني أخري للإله مُلْتَوِيَة مُرَاوِغَة كالطبيعة مثلا والقوّة الخَفِيَّة وما شابه هذا من سَفَهٍ وتخريفٍ وإمَّا يصمتون، ولكنَّ فطرتهم بداخلهم بالقطع تنطق بالحقّ بأنَّ الله هو الذي خَلَق كلّ الخَلْق (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة).. فكيف يكون منهم هذا الكذب الواضح السخيف؟! هذا الانصراف عن الحقّ بكل هذا التَّبَجُّح وبلا أيّ حياءٍ أو تَعَقُّل!.. ولماذا إذَن بعد أن اعترف المشركون بأنَّ الله وحده هو الخالِق يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مِمَّا لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضرر كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!.. إنَّ كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار سببه تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)" أيْ فبالتالي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم حين يعترفون بذلك ألاَ تتدبَّرون ما تقولون فتعرفوا خطأه فتمتنعوا عنه؟! هل لا تتذكّرون هذا الذي هو موجود في فطرتكم المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّرون ربكم وإسلامكم، وتعقلون كل هذا بعقولكم وتتدَبَّرونه وتدرسونه، وتذاكرونه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونون مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يَتَذَكّر عبادة الله تعالي والآخرة والبعث والحساب ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. "قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)" أيْ كذلك قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، للمشركين الذين يعبدون غير الله تعالي، وللمُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُستهزئين، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من جميع الناس، اسألهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَن خالِق السماوات السبْع ومالِكها بكل مَا فيها وراعِيها وحافِظها ومُتَوَلّي ومُدَبِّر كل شئونها وكل الخَلْق بها؟ ومَن ربّ العرش العظيم؟ أيْ ومَن مالِك المُلْك العظيم كله الذي لا يعلم مَدَيَ عظمته إلا هو سبحانه لأنه هو الذي خَلَقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصْلِحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. والسؤال هو للنفي القطعيّ لوجود ربٍّ غيره سبحانه وللذمِّ الشديد لهؤلاء المشركين الذين قد عَطّلوا عقولهم وعبدوا آلهة هي أضعف منهم عقلاً بل لا عقل لها!! وهل يكون العابد أقوي من المعبود هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!! ولكنه العِناد والتكذيب والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)" أيْ أيضاً لن يكون لهم أيّ إجابة إلا أنْ يقولوا لله، وحده، لشدَّة وضوح الأمر!! وذلك إنْ فكّروا وكانت لهم عقول مُنْصِفَة عادِلَة!! (برجاء مراجعة الآية (85) لإكمال المعاني).. ".. قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)" أيْ فبالتالي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم حين يعترفون بذلك ألَاَ تتقون الله وتخافون عقابه في الداريْن وزوال نِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليكم بسبب عبادتكم لغيره؟! هل لا تُحْسِنُون استخدام عقولكم فتكونوا من المُتّقِين؟! أيْ من الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك لا يعبد الله ولا يَتّقِيه ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. "قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)" أيْ كذلك قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، للمشركين الذين يعبدون غير الله تعالي، وللمُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُستهزئين، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من جميع الناس، اسألهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَن يَملك كلَّ شيء، والمَلَكُوت صيغة مُبَالَغَة من المُلْك، أي يَملك المُلك الهائل العظيم التامّ الذي يشمل كلّ شيءٍ في هذا الكوْن المُعجزة، وهو يُجيرُ أيْ ومَن يُجير أيْ يَحفظ ويَحمي ويَرْعَيَ ويُكْرِم كل خَلْقه ويَدْفَع عنهم الشرور والأضرار وينْقِذ ويُغيث ويَحْرُس ويُؤَمِّن مِن أيِّ سوءٍ مَن أراد إنقاذه وإغاثته وحِراسته وتأمينه وإسعاده في الداريْن بتمام قُدْرَته وكمال علمه فلا يستطيع أحدٌ أن يناله بسوء، ولا يُجارُ عليه أيْ ولا يُحْمَىَ عليه أيْ ولا يستطيع أيُّ أحدٍ أن يَحْمِيَ ويَحفظ عليه ويَمْنَع منه أحداً أراده بسُوءٍ وعقابٍ وعذابٍ لأنه يَسْتَحِقّه في الداريْن؟.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)" أيْ إنْ كنتم تعقلون أيْ إنْ كنتم من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكنتم من أصحاب العلم والفهم فتتعمَّقون وتتدبَّرون فيما تسمعون فتنتفعون وتَسعدون به.. وفي هذا حَثّ وتشجيعٌ علي التَّدَبُّر والعلم للوصول لكل خير كما أنَّ فيه ذَمَّاً ضِمْنِيَّاً لمَن يَبْقَيَ منهم علي جهله وإغلاقه لعقله.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية (84) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. "سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)" أيْ أيضاً لن يكون لهم أيّ إجابة إلا أنْ يقولوا لله، وحده، لشدَّة وضوح الأمر!! وذلك إنْ فكّروا وكانت لهم عقول مُنْصِفَة عادِلَة!! (برجاء مراجعة الآية (85) لإكمال المعاني).. ".. قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)" أيْ فبالتالي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك من الناس، ولأمثال هؤلاء المشركين السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم حين يعترفون بذلك أنّيَ تُسْحَرُون أيْ كيف تَذْهب عقولكم وتُخْدَعُون كما يَخْدَع الساحِر مَن يراه بأوْهامٍ وتَخَيُّلاتٍ ليست حقيقية بعد كل هذه الإثباتات والدلالات وتَعبدون غيره وتُكَذّبون بقُدْرَته علي بَعْثكم وتُصْرَفون عن الحقّ مع عِلْمكم به إلي باطِلكم وقد اعترفتم بأنه بيده ملكوت كل شىءٍ وهو تحت قُدْرَته وسَيْطرته؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. "بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)" أيْ ليس الأمر كما يَدَّعُون كذباً وزُورَاً وخَبَلَاً وسَفَهَاً وتَخْريفاً أنَّ ما أخبرناهم به في كتبنا مع رسلنا الكرام هو أساطير الأوَّلين أو أنه يوجد شركاء لنا في العبادة يعبدونهم غيرنا أو لنا ولد أو لا يوجد بَعْث وآخرة وحساب وعقاب وجنة ونار أو ما شابه هذا مِن ادِّعاءات كاذبة ولكنّا جِئْناهم أيْ جِئْنا لهم بالحقّ أيْ أحْضَرْناه وأوْصَلْناه إليهم والحقّ هو الصدْق الثابت الذي لا يَتَغَيَّر أبداً وهو كتبنا وآخرها القرآن العظيم التي كلها حقّ أيْ صِدْق حيث فيها عبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام الذي كلّ أخلاقه تحمل تمام الحقّ والصدق والعدل والخير والصلاح والكمال والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك ويعمل بها كلها.. ".. وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)" أيْ وإنهم حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – وإنَّ واللام للتأكيد – كاذبون في كل ما يَدَّعُونه
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)"، "عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)" أيْ هذا تكذيبٌ لبعض ما يَدَّعِيه بعض المُكَذّبين من أكاذيب وافتراءات وادِّعاءات وتَخْريفات.. أيْ ما جَعَلَ الله تعالي له أيَّ ولدٍ أيها المُعَطّلون لعقولهم المُخَرِّفون المُتَطَاوِلون علي خالقهم سبحانه المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن الذين يقولون ذلك والذي هو كل كذبٍ وزُورٍ وتَخْريف! فهو ليس له زوجة وقد أنْجَبَ منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! كأنه تعالي يريد ولداً ليُعاونه علي إدارة مُلْكه وليكون سَنَدَاً له ويَسْتَأنِس به وهو الذي علي كل شيءٍ قدير!! فقد ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.. " أيْ وما كان معه أيّ مَعْبُودٍ غيره ليُعْبَد لأنه بالعقل والمَنْطِق لو كان معه معبود آخر أو أكثر شريك له في الألوهِيَّة إذَن كان حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شك – واللام للتأكيد – ذهبَ أيْ انْفَرَدَ وابْتَعَدَ وانْفَصَلَ واسْتَقَلَّ كل معبودٍ بما خَلَقَ مِن خَلْقه وقامَ بتنظيم الجزء من الكوْن الذي يَمْلكه وتَحَكّم فيه بما يشاء من أنظمةٍ وكان عَلَاَ بعضهم علي بعضٍ أيْ وكانوا تَصَارَعُوا فيما بينهم ليحاول كل منهم أن يكون هو العالِي الغالِب فيكون هو الإله المُسَيْطِر وحده! كما يفعل ملوك الدنيا عادة فيما بينهم لأنَّ المَلِك القويّ لا يَرْضَيَ أنْ يَعْلُوه ضعيفٌ ويكون حينها الضعيف المَغْلُوب لا يَسْتَحِقّ ولا يَصْلُح أن يكون إلاهاً! وبالتالي لن يوجد نظام بل كلّ فَوْضَيَ وخَلَل! وبما أنَّ نظام الكوْن واحدٌ ودَقيقٌ ولا يوجد فيه أيّ اختلال أو فَوْضَيَ في كل نواحيه وكل لحظاته، كما هو واضحٌ لكل ذي عينين وذي عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، إذَن فبكل بَدَاهَةٍ وبالقطع وحتماً لا توجد آلهة مُتَعَدِّدَة أو أيّ شيءٍ مِن هذا السَّفَه والخَبَل والتخريف وإنما هو إلهٌ واحدٌ هو الله تعالي الخالِق القادر علي كل شيءٍ المُسْتَحِقّ وحده للعبادة!! هكذا بكل عقلانِيَّة وبَسَاطَة وعُمْق! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (42) من سورة الإسراء "قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا"، والآية (22) من سورة الأنبياء "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)" أيْ سَبِّحوه، أي نَزّهوه، أي ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تليق به وَصَفَهَا المُكَذّبون كَذِبَاً وزُورَاً، وعَظِمُوه واعلوا شأنه، فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، وبالتالي فاعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. "عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ هو وحده سبحانه عالمٌ بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ، وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط!.. إنه بالتالي وقطعاً يعلم في دنياكم وعندما يبعثكم في أخراكم أيها الناس كل ما تسِرّونه وتُعلنونه كبيره وصغيره من أعمالكم وأقوالكم بتمام العلم والرؤية، لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)" أيْ فتَعَاظَم الله وارتفع وابتعد أيْ فبالتالي عَظّمُوه واعلوا شأنه أيها المسلمون فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة عمَّا يُشركون به هؤلاء السفهاء الذين يعبدون معه آلهة أخري كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو غيره مِمَّا هو أضعف منهم! أين العقول التي تعبد معبودا هو أضعف من عابده!! فالإنسان ولا شكّ أقوي كثيرا من هذه الآلهة التي يدَّعون كذبا وزورا أنها تنفعهم أو يخافون ضررها!! ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التّوَاصُل معه (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُتَمَسِّكَاً عامِلَاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتماً سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتماً سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)"، "رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)"، "وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)" أيْ قل داعِيَاً سائلاً مُتَوَسِّلَاً الله تعالي يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يارب إنْ تُرِنِي أيْ تَجْعَلْنِي أرَيَ وأشاهِد ما يُوعَدُون به منك من عذابٍ دنيويٍّ أليمٍ – ثم أخرويّ – هؤلاء الظالمين أي المُكَذّبين أو العاصِين المُسْتَحِقّين له بسبب ظلمهم أيْ سُوئهم فلا تجعلني حينها يا رب فيهم – وذلك لأنَّ عذابه تعالي أحياناً لِحِكَمٍ يعلمها لا يُصيب الذين عَصَوْا الظالمين فقط بالتخصيص وإنما يَعُمّ الجميع إذا سَكَتَ الصالحون عن دعوتهم للخير ومَنْعهم من الشرّ وكانوا مُستطيعين لذلك كما قال تعالي في الآية (25) من سورة الأنفال "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) – ولكنْ أخرجني منهم وأبْعِدْنِي عنهم حتى لا أهلك معهم واجعلني مِمَّن رضيتَ عنهم بسبب أني دائماً عامِلٌ بأخلاق الإسلام مُيَسَّرٌ منك لي ذلك بفضلك ورحمتك.. هذا، والرسول (ص) حتماً ليس مع القوم الظالمين ولكنه إرشادٌ للمسلمين حتي لا يكونوا أبداً منهم بدَوَام العمل بالإسلام والتناصُح فيما بينهم بكل خيرٍ ومَنْع أيِّ شَرٍّ والدعاء الدائم لربهم لتَيْسِير ذلك.. "وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)" أيْ ونحن حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شَكّ قادرون – واللام للتأكيد – علي أن نُرِيَك أيْ علي أن نجعلك تَرَيَ مَا نَعِدُهم به من عذابٍ مُوجِعٍ مُناسِبٍ لسُوئهم، إذا لم يتوبوا، وذلك بتمام القُدْرة والعلم إذ بمُجَرَّد أن نقول لشيءٍ كن فيكون كما نريد لا يمنعنا مانِع ولا يصعب علينا شيء، سواء رَأَيَ هذا العذاب الذي لا يُوصَف بعض المسلمين في حياتهم أم رآه ذرِّيَّاتهم، والتأخير يكون لِحِكَمٍ من أجل تحقيق مصالح خَلْقِنا، فهو حقّ ووَعْدنا صِدْق لا يُخْلَف مُطْلَقَاً (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (46) من سورة يونس "وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسِبَاً مُحَقّقَاً للمصالح، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُقابِلُون السيِّئة بسَيِّئة مثلها بل يُقابِلُونها بكل ما هو حَسَن من قولٍ أو عمل، وذلك حتي لا ينتشر السوء وتَنْقَطِع دائرته ولا يَتَوَاصَل فيَتَوَقّف ويَحِلّ مَحلّه الحُسْن والخير فيَنالون أعظم الأجر في دنياهم وأخراهم ويسعد الجميع فيهما بذلك
هذا، ومعني "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)" أيْ دافِع وأبْعِد ورُدّ وقابِل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم السيئة بالفِعْلَة التي هي أحسن فِعْلَة من غيرها كالعفو والنصح والصبر وكظم الغيظ والابتعاد ونحوه أيْ اجْتَهِد دائما في مُقابَلَة الإساءة ودَفْعها ومَنْعها بالتي هي أحسن أيْ بأحسن صِفَة ومَقُولَة وفِعْلَة وطريقة حَسَنَة مُمْكِنَة، فلا تُقابِل السيئة بسيئة مثلها حتي لا ينتشر السوء ولكي تنقطع دائرته فلا تَتَوَاصَل فيَتَوَقَّف، وإنْ كان مِن حقّك مُعاقبة المُسيء بمِثْل إساءته (برجاء مراجعة الآية (194) من سورة البقرة ".. فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"، ثم الآية (126) من سورة النحل "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ"، للشرح والتفصيل)، لكنك ستَسعد كثيرا في الداريْن إذا كنتَ مُتَسَامِحَاً ذا فضلٍ وإحسان من غير ضعف ولا ذِلّة فتعفو عَمَّن أساء إليك بقولٍ أو عملٍ وتصبر عليه، وذلك بأن تكون قويّ الإرادة بعقلك فتتدرَّب تدريجيا علي عدم الغضب وإذا غضبتَ فتَدَرَّب علي كظمه وكتمانه وعدم إخراجه في صورةِ خطأٍ مَا لفظِيٍّ أو عملِيٍّ أو غيره من صور الانتقام، وذلك في كل تصرّفات حياتك، مع جميع الناس، فكلهم هم مَدْعُويك، أي كلهم يحتاجون لدعوة الإسلام التي معك (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، والتسامح يجعلك أكثر عزّة ويَجعلهم يُراجعون ذواتهم بداخل عقولهم ويكونون أكثر قُرْباً منك وتكون أنت أكثر صفاءً بينما العقوبة والانتقام تشغل الأذهان وتُرْبكها وتؤذيها وتضيع الجهود والأوقات وتُبَاعِد بين الجميع فيَتَصارَعُون فيَضعفون فيَتعسون في دنياهم وأخراهم، والخلاصة أنَّ المُتسامِح هو الأقوي والأعزّ والأعلي والأحسن والمُنْتَصِر والأصْفَيَ ذِهْنَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي والأعظم ثوابا قطعا في الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (34) من سورة فصلت "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، والآية (13) من سورة المائدة ".. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"، والآية (40) من سورة الشوري ".. فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.."، والآية (199) من سورة الأعراف "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)" أيْ ونحن أعلم مِن أيّ أحدٍ قطعاً بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما يَصِفون ويَذْكُرون به الله ورسله وكتبه والإسلام والمسلمين من صفاتٍ سَيِّئة لا تَلِيق فيها كل تكذيبٍ وعنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ واعتداءٍ وقُبْحٍ هؤلاء المُتَطاوِلون المُخَرِّفون المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن وسنُجازيهم حتما بعذابٍ دنيويّ وأخرويّ بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، إذا لم يستفيقوا ويتوبوا أيْ يعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، فاصبروا علي أذاهم أيها المسلمون واستمرّوا في تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم وفي دعوتهم بما يُناسبهم وتَأكَّدوا أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدَّ الحَذَر من الشيطان، وإذا اتَّخذته دائما عدوا، وإذا لم تَتَّبِع خطواته، أي قاوَمتها، ولم تَسْتَجِب لأيّ شرٍّ مُتْعِس (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)، بل تَمَسَّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك التي كلها خير وسعادة (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)"، "وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)" أيْ وقل داعِيَاً سائلاً مُتَوَسِّلَاً الله تعالي يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم يارب أتَحَصَّن وأحْتَمِيِ بك أيْ بقُدْرَتك وبقُوَّتك وبعِلْمك من وَسْوَسَات الشياطين والتي تُشَجِّع علي كلِّ شَرٍّ وتُبْعِد عن كلّ خير، والوَسْوَسَات أي الوَساوِس جَمْع وَسْوَسَة والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مُخَالَفَة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب، والشياطين جمع شيطان، والشيطان في اللغة العربية هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. أيْ لَجَأْتُ إليك وتَحَصَّنْتُ بك واعْتَمَدْتُ عليك يا ربي في أن تساعدني علي مقاومة خواطر الشَّرِّ بعقلي حينما أفكر فيها ولا أُحَوِّلها إلي أقوالٍ أو أفعالٍ شَرِّيَّة فأَبْتَعِد بذلك عن أخلاق إسلامي فأتعس في الداريْن علي قَدْر شُرُوري.. "وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره والتعميم له في كل الأحوال والأوقات.. أيْ وأتَحَصَّنُ وأَحْتَمِيِ بك يا رب أنْ يأتوني من الأصل بشرور وَسَاوِسهم في أيِّ حالٍ من أحوالي أثناء كل أقوالي وأعمالي بكل أمور حياتي.. وفي هذا تذكيرٌ للمسلمين بالاعتصام بالله دَوْمَاً القادر علي كل شيء ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)"، "لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)" أيْ يَسْتَمِرّ المُكَذّبون المُعانِدون المُسْتَكْبِرون المُستهزؤن المُرَاوِغُون الظالمون الفاسدون مُصِرِّين علي سُوئهم بلا توبة حتي إذا أيْ إلي أنْ جاء أيْ حَضَرَ ووَصَلَ الموتُ أحَدَهم فجأة وجاءته بداياته وعلاماته وسَكرَاته ورَأَيَ مقعده من النار قال كل واحد منهم نادِمَاً مُتَحَسِّرَاً مُتَأَلّمَاً مَذْعُورَاً مَذْلولاً حَزيناً بسبب سُوئه يا رب ارجعوني ورُدُّوني إلي الدنيا، يطلب ذلك الطلب اليائس – والذي لن يُجاب أبداً لفوات وقت العمل ومَجيء وقت الحساب عليه وقد حُذّرَ كثيرا بكل أنواع التحذير قبل ذلك في حياته الدنيا فلم يستجب – من الله تعالي بصيغة الجَمْع تعظيماً له سبحانه فلم يقل ارجعني أو لأنه رأيَ مَلَك الموت مع مجموعة الملائكة التي جاءته لقَبْض روحه.. "لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)" أيْ لكي أعمل صالحا فيما تركته ورائي من أهلٍ ومالٍ وحياةٍ وإيمانٍ، أيْ لكي أتَدَارَك وأُعَوِّض ما فاتني وأُصْلِح من نفسي وأعمل بالإيمان الذي تركته فأكون مؤمناً بك وبآخرتك وأعمل صالحا في باقي حياتي كما أمرتني ورسولك بذلك في دينك الإسلام.. هذا، ولفظ "لعلّي" يُفيد عدم ثقته باستجابة الله تعالي له بالعودة لأنه قد حُذّرَ كثيراً في دنياه من انتهاء العمل بعد الموت أو لعدم ثقته من نفسه أنه سيعمل صالحاً لأنه قد اعتاد علي التكذيب والعِناد وفِعْل السوء.. ".. كَلَّا.." أيْ لا، ليس الأمر كما يَطْلُب ويَتَمَنَّيَ مُتَوَهِّمَاً هذا الإنسان المُسِيء أنه سيرجع إلي الدنيا ليعمل صالحا فيما تَرَك فلا رجوع أبدا، فعليه أنْ يَرْتَدِع ويَتَرَاجَع ويَنْتَهي عن ذلك، فلفظ كَلاَّ يُفيد الرَّدْع أيْ المَنْع والنَّهْي بقوةٍ عَمَّا هو فيه، وفي هذا تَيْئِيسٌ تامٌّ له في الرجوع للدنيا وزيادةٌ في حَسْرته ونَدَمه وأَلَمه وذُعْرِه.. ".. إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا.." أيْ إنَّ قَوْلَته وكلمته التي يقولها وهي "ربّ ارْجِعون" هي مجرّد كلمة هو قائلها بلا فائدة فلن تنفعه بأيِّ شيءٍ فلن ينالها لأنه قالها بعد فوات أوان العمل حيث الوقت وقت الحساب، وهو قائلها بلسانه فقط أيْ هو كاذبٌ فيها ليُحاوِل يائساً واهِمَاً النجاة مِمَّا هو فيه ولو فُرِضَ ورَجَع لعَادَ لِمَا نُهِيَ عنه من سوءٍ كما يقول تعالي مُؤَكّدَاً ذلك ".. وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الأنعام:28) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) لأنه كان اختياره الذي اختاره بكامل حرية إرادة عقله بلا أيّ إجْبارٍ عليه، ثم هو قائلها حتماً مِن شِدَّة الحسرة والألم.. كذلك من المعاني عند بعض العلماء إنها كلمة هو قائلها أي الله تعالي هو الذي يقولها وبالتالي فلن تُخْلَف مُطْلَقَاً وهذه الكلمة هي أنه لن يُؤَخّر الله نفساً إذا جاء أجلها.. ".. وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي حَتْمِيَّة عدم الرجوع للدنيا أبداً وتَيْئِيس أمثاله تماماً منه وتَهديدهم بعذابٍ في قبورهم إلى يوم القيامة.. أيْ ويَنتظرهم أمامهم وراء حياتهم التعيسة بعد موتهم أمثال هؤلاء بَرْزَخٌ أيْ حاجِزٌ وهو القَبْر يَمْنَعهم تماماً من الرجوع للدنيا إلي يوم يُبْعَثون أيْ وسيَبْقون فيه مُسْتَمِرِّين يُعَذّبون علي قَدْر سُوئهم إلي يوم يَبْعثهم الله تعالي وكل بني آدم يوم البَعْث أيْ يوم القيامة أيْ يُحْيِيهم مرة أخري كما كانوا في دنياهم من قبورهم بعد موتهم وكَوْنهم تراباً بأرواحهم وأجسادهم في الآخرة للحساب وللعذاب الختاميّ التامّ المُناسِب لِمَا عملوا من سوءٍ بكل عدلٍ بلا أيِّ ذرّة ظلم
ومعني "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)" أيْ فإذا نُفِخَ يوم القيامة في الآلة التي تُخْرِج صوتاً يُعْلِن بدء البعث أيْ إحياء الموتي من قبورهم بأجسادهم ونُفِخَ بالأرواح في الصُّوُر جَمْع صُورَة أيْ في صُوَرِ الأجساد لتحيا مرة أخري ويبدأ يوم القيامة والحساب، ولا يَعلم كيفية حُدُوث النّفْخ وشكله ودرجته وتأثيره إلا هو سبحانه ولا يكون إلا بأمره.. ".. فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)" أيْ فيومها لا أنساب بينهم تَنْفَعهم أيْ لا تَنْفَع قَرَابَة أحدٍ أحداً إذ النافع وقتها فقط هو الإيمان والعمل الصالح ولا يتساءلون أيْ ولا يَسأل بعضهم بعضاً شيئاً ينفعه ولا عن أحوالهم ونحو هذا مِمَّا كانوا يفعلونه في دنياهم فلا يُمكِن أبداً أن يسأل أحدٌ أحداً حتي أقرب الناس إليه كأبٍ أو أمٍ أو ابنٍ أو أخٍ أو زوجٍ أو قريبٍ أو صديقٍ أو نحوه أنْ يَنْصره أو يُعينه أو يُخَفّف أو يَمنع عنه ما هو فيه وينقذه منه لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم مشغول بهمومه مَذْهُول من فَظَاعَة الموقف.. هذا، وأحيانا تَذْكُر بعض الآيات أنهم يَتَساءلون ويَتَلاوَمُون ويَتَلاعَنُون، ولا تَعَارُض مع هذه الآية الكريمة، لأنَّ هذا يَحْدُث في بعض المواقف الأخري بإذن الله لهم حيث مواقف وأهوال يوم القيامة مُتَعَدِّدَة مُتَنَوِّعَة
ومعني "فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)"، "وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)"، "تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)" أيْ هذا بيانٌ للعدل التامِّ يوم القيامة حيث الوزن يومها للأعمال لتقديرها للجزاء عليها يكون بالحقّ أي بالعدل بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ لأيِّ أحدٍ بأيِّ حالٍ من الأحوال.. هذا، وليس من الضروريّ أن يكون الوزن بالميزان ولكنَّ المقصود هو تمام العدل الحَتْمِيّ عند الحُكْم والقضاء من الله تعالي.. أيْ فإذا نُفِخَ في الصور وبَدَأ الحساب، وما دام الأمر كذلك أنه لا أنْساب بينهم فبالتالي حسابهم لن يعتمد عليها بل سيَنْبَنِي علي أعمالهم فقط وبالتالي فأيّ إنسانٍ ثقلت موازينه أيْ رَجَحَت كِفَّة موازين حسناته على كِفَّة موازين سيئاته في ميزان الحسنات والسيئات ولو بحَسَنَة واحدة، فهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في أخراهم بعد دنياهم بسبب عملهم الخير، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أنْ يُثْقِلَ ميزان حسناته بكل خيرٍ من خلال عمله بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته.. "وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ومَن خَفّت مَوَازين حسناته عن موازين سيئاته بسبب كثرة فِعْله السوء وقِلّة فِعْله الخير بحيث رَجَحَت كِفّة موازين سيئاته علي كِفّة موازين حسناته في ميزان الحسنات والسيئات ولو بسيئةٍ واحدة، فإنه يُحَاسَب علي قَدْر سُوئه، فهؤلاء حتماً هم الذين خسروا أنفسهم أيْ أهلكوها وأضاعوها بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شَكّ لأنهم قد عَرَّضُوها للعذاب في هذا اليوم يوم القيامة.. إنهم يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتماً ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ.. ".. فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)" أيْ وهم في جهنم بعذابها الذي لا يُوصَف – وجهنّم اسم من أسماء النار وهي دار العذاب في الآخرة – خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. هذا، ومَنْ كان مؤمناً وزادت سيئاته علي حسناته ولم يكن قد تاب منها في دنياه فإنه لا يُخَلّد في النار وإنما يَنال منها جزءاً علي قَدْر شروره ثم يخرج إلي أقلّ درجات الجنة وقد يرحمه الغفور الرحيم فلا يُعَذّبه أصلا فرحمته أوْسَع من أيِّ ذنبٍ وتَسْبِق دَوْمَاً غضبه.. "تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)" أيْ تَحْرِق بِشِدَّة النار وجوههم، وكل أجسادهم قطعاً لأنها تُحيط بهم من كل جانب، وتَمَّ تَخْصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء بما يُفيد تمام ذِلّتهم وإهانتهم واحتقارهم حيث وجه الإنسان هو رمز تكريمه فإذا أُهِينَ الوجه أهِينَ الإنسان كله، وهم فيها بداخلها حالهم وواقعهم أثناء عذابهم بها أنهم كالِحُون جَمْع كالِح وهو الذي تَقَلَّصَتْ شَفَتَاه وبَرَزَت أسنانه وشُدَّ واسْوَدّ جِلْده وتَشَوَّه شكله مِن أثَرِ الحَرْق الشديد وهو مَنْظَر فظيعٌ قبيح
ومعني "أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)" أيْ يقول لهم الله تعالي حينها علي سبيل الذّمِّ واللّوْم الشديد والتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا هم بأنفسهم أنهم هم الذين ظلموا ذَوَاتهم ولم يظلمهم تعالي بأيِّ ذرَّة ظلمٍ حيث قد أصَرُّوا في دنياهم علي تكذيبهم وسُوئهم رغم طول مُدَّة حُسْن دعوتهم لله وللإسلام، وليكون ذلك نوعاً من التعذيب النفسيِّ مع الجسديِّ من خلال تَذْكِرتهم بسبب ما هم فيه، وعِبْرَة لكل عاقلٍ لازال حَيَّاً لكي يَتَجَنّب هذا السبب تماما، يقول لهم: هل لم تكن آياتي تُقْرَأ عليكم وتُذْكَر لكم في دنياكم من خلال رُسُلي والمسلمين؟! سواء أكانت آياتٍ أيْ دلالات ومُعجزات في الكوْن حولهم والتي لا يَقْدِر علي خَلْقها أحد غيره سبحانه أم آياتٍ في كتاب يُتْلَيَ عليهم أوحاه الله لرسوله وآخرها القرآن العظيم فيه أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ تَحْدُث علي يديه لتأكيد صِدْقه وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص)، وذلك لتُؤمنوا وتَعملوا بها لتسعدوا في الداريْن، فكنتم بها تُكَذّبون أيْ لا تُصَدِّقونها ولا تعملون بها وتفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، فبالتالي إذَن لا عُذْر لكم!!
ومعني "قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)"، "رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)" أيْ قالوا حينها مُعْتَرِفِين تماماً بتكذيبهم وسُوئهم، بكل نَدَمٍ وحَسْرَةٍ ومَرَارَةٍ وألمٍ وذِلّة، مُتَوَهِّمين أنَّ اعترافهم هذا قد يُخَفّف عنهم، لكنه اعترافٌ جاء في وقتٍ لن يَنْفع فيه كل ذلك بأيِّ شيءٍ بل سيَزدادون به ألَمَاً وعذاباً وتعاسة، قالوا يا ربنا كَثُرَت وزادَت وسَيْطَرَت وتَغَلّبَت علينا شِقْوَتنا أيْ شُرورنا وسُمِّيَت فِعْلَة الشرور بكامل حرية إرادة العقل شِقْوَة لأنها تُؤَدِّي عاجِلَاً أو آجِلَاً إلي شِقْوَة أيْ إلي شِدَّة ومِحْنَة وتعاسة وشقاء في الداريْن.. ".. وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)" أيْ وكنا بسبب ذلك دَوْمَاً مُسْتَمِرِّين مُصِرِّين أناسَاً ضالّين أيْ ضائعين بَعيدين عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. "رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)" أيْ وقالوا سائلين الله تعالي أمراً لن يُجَابُوه أبداً: يا ربنا، مُعْتَرِفين الآن أنه سبحانه ربهم بعد تكذيبهم له ولرسله ولِمَا كانوا يُوعَدون به بعدما رأوه واقِعَاً صادِقَاً، أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، ربنا أخرجنا من النار بعذابها وأَعِدْنا للدنيا لنؤمن ونعمل صالحا فإنْ عُدْنا أيْ رَجعنا لِمَا كنّا عليه من الكفر وعمل السوء فنحن ظالمون حَتْمَاً حينها أيْ مُتَجَاوِزون مُتَعَدُّون لأوامرك مُسْتَحِقّون لعذابك بسبب ذلك.. وهم كاذبون قطعا في وَعْدِهم هذا حيث هم فقط يحاولون يائسين واهِمين النجاة مِمَّا هم فيه ولو فُرِضَ ورَجَعوا لعَادَوا لِمَا نُهُوا عنه من سوءٍ كما يقول تعالي مُؤَكّدَاً ذلك ".. وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الأنعام:28) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) لأنه كان اختيارهم الذي اختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم بلا أيّ إجْبارٍ واستمرّوا مُصِرِّين عليه حتي ماتوا بلا توبة
ومعني "قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)" أيْ قال الله تعالي لهم مُحَقّرَاً مُذِمَّاً مُيَئّسَاً رادِعَاً إيَّاهم: اخْسَئُوا فيها أيْ اسْكُتُوا وابْتَعِدُوا في النار مَطْرُودين خائبين عن رحمتنا وعن كلّ خيرٍ وعِزّةٍ ذليلين مُهانين حَقِيرين مَنْبُوذِين، والخَسْء هو الإسْكات والطرْد والإبْعاد بإذلالٍ وإهانةٍ وغِلْظَةٍ وغَضَبٍ وإشعارٍ بالخَيْبَة، ولا تُكَلّمون أيْ وإيَّاكم أنْ تُحَدِّثوني مُطْلَقَاً فى شأن خروجكم منها وعودتكم للدنيا بل لا تُكَلّموني أصلا، بما يُفيد تمام غَضَبه سبحانه عليهم وتَيْئِيسهم مِن أيِّ أملٍ في أيِّ رحمةٍ ونَجَاة
ومعني "إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)"، "فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)"، "إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)" أيْ هذا بيانٌ لسبب ما هم فيه وهو عدم إيمانهم بالله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار بسبب ذلك لأنه لا حساب مِن وِجْهَة نَظَرِهم، وأسوأ شرورهم الاستهزاء بالإيمان والمؤمنين والتّعالِي عليهم والانشغال بإيذائهم عن الإيمان بربهم.. أيْ اخْسَئُوا فيها ولا تُكَلّمون لأنه كان في الدنيا فريقٌ من عبادى، وهم المؤمنون الصالحون، الذين امْتَلَؤُا وتَشَبَّعُوا بالإيمان بي فظَهَرَ ذلك علي ألسنتهم وفي تَصَرُّفاتهم بدَوَام تَوَاصُلِهم معي وتوكّلهم عليَّ ودعائهم قائلين مُتَوَسِّلِين إليَّ بإيمانهم يا ربنا – أي يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – قد آمَنّا أيْ صَدَّقنا بوجودك وبرسلك وبكتبك وبحسابك وعقابك وجنتك ونارك وعملنا بكل أخلاق إسلامك فكانت كل أقوالنا وأعمالنا ما استطعنا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفَعَلْناه تُبْنا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، فلذلك فاغْفِر لنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وامْحُها كأن لم تَكُنْ وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وارحمنا أيْ وأدْخِلْنا في رحمتك الواسعة التي وَسِعَت كل شيء والتي وَعَدْتَ بها المؤمنين، في دنيانا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخرانا حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأنت خير الراحمين أي أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالق بالمخلوق؟! لأنَّ كلّ راحِمٍ غيرك يَرْحَم لغرضٍ مَا أمّا أنت يا ربنا فرحمتك لا لطَلَب عِوَضٍ أو غَرَضٍ وإنما هي لفضلك وكرمك الخالص بلا مُقابِل، ولا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منك فأنت خالِقهم وهم خَلْقك وصَنْعَتك وتُحِبّهم وما خَلَقْتهم إلاّ لتُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمتك سبحانك فأنت أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة.. "فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)" أيْ فبسبب إيمانهم وبَدَلَاً أنْ تَقْتَدُوا بهم كان حالكم معهم دائماً أنْ اتّخذتموهم سِخْرِيَّاً أيْ جعلتموهم مَصْدَر ومَوْضِع سُخْرِيَةٍ واسْتِهْزاءٍ واحتقارٍ بكل الصور حيث تسْخَرون بأقوالكم وأفعالكم منهم ومن إيمانهم وتحتقرونهم وتحتقرونه وذلك بالتعامُل معه بغير جِدِّيَّة وبجَعْله مَسْلاَة تتَسَلّون بها وكنتم تضحكون منهم بَدَلَاً من تعظيم الإيمان بالعمل به بما يعني شدّة تكذيبكم واستكباركم واستهزائكم واسْتِخْفافكم واحتقاركم لهم وله (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيات (29) حتي (36) من سورة المطففين "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي.." أيْ اسْتَمَرَّ ذلك الاتّخاذ منكم لهم سِخْرِيَّاً وانْشَغلتم به تماماً إلي أنْ أَدَّيَ هذا بكم أنْ نَسيتم بسببهم أيْ تَرَكْتم وأهْمَلتم ذِكْري أيْ عبادتي بالكُلّيَّة فلم تؤمنوا وتَتّبِعوا الإسلام ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم وعذابكم الآن.. ".. وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)" أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي اتّخاذهم سِخْرِيَّاً بما يُفيد غاية الاستهزاء.. "إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)" أيْ إني بفضلي وكرمي ورحمتي أعطيتهم اليوم أيْ يوم القيامة أيْ اليوم الذي تُعَذّبون فيه أنتم الآن هذا العذاب الأليم أعطيتهم أعظم العطاء من كل خيرٍ وسعادة في نعيمٍ خالِدٍ لا يُوصَف بجنّاتٍ بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر.. ".. بِمَا صَبَرُوا.." أيْ بسبب أنهم صبروا أيْ بسبب صَبْرهم في دنياهم، حيث كانوا دائما من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمرّين علي الإسلام رغم ما قد أصابهم أحياناً من أذَيَ وظلم أمثال هؤلاء الظالمين، وكانوا من المستمرّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كل شرّ، وكانوا إنْ أصابتهم فتنة مَا أي اختبارٌ أو ضررٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)" أيْ جَزَيْتُهم بأنهم هُمْ لا أنتم الفائزون بالجنة قطعاً أيْ هم الذين يفلحون وينجحون ويربحون وينتصرون ويسعدون اليوم في الآخرة فلاحا ونجاحا وربحا ونصرا وسرورا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم الفائزون وليس غيرهم.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)"، "قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)"، "قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)" أيْ قال الله تعالي لهم بعد ذلك كم عدد السنين بَقِيتم في الأرض التي كانت فيها حياتكم الدنيا؟ وهو سبحانه حتماً يعلم مِقْدار ما لَبِثَ كلُّ واحدٍ منهم ولكنّه يسألهم ليُبَيِّن لهم قِصَر أيام دنياهم جدا بالنسبة لِمَا هم فيه من عذابٍ مُقيمٍ في أخراهم فيزدادون بذلك عذاباً نفسياً إضافة للمادِّيِّ بسبب الندم والحَسْرَة والذمّ.. "قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)" أيْ قالوا بتمام اليأس والذلّ مُسْتَقْصِرين تماماً مُدَّة بقائهم بالدنيا بالنسبة لطول بقائهم في عذابهم بالآخرة: بَقِينا يوماً كاملاً أو جُزْءَاً من يوم!!.. إنهم يَتَوَهَّمون أنهم ما بَقوا في دنياهم وفي قبورهم بعد انتهاء آجالهم فيها إلا زَمَنَاً قليلاً حيث يَسْتَقْصِرُون المدة الطويلة بالنسبة لِمَا هم فيه وقادِمُون عليه من خُلُودٍ في عذاب نار جهنم الذي لا يُوصَف، بما يُفيد أنَّ الحياة الدنيا مهما طالَت لا تُذْكَر نسبة للحياة الآخرة الخالدة، فليُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، وإلا فتمام الحَسْرة والنّدَامَة والألم يومها لمَن أساء في وقتٍ لن ينفعه ذلك بأيِّ شيءٍ حيث تمام الخسارة والتعاسة وحيث شدّة العذاب والموقف تُنْسِيه وأمثاله مِن المُسيئين كل مُتَع الدنيا التي كانوا قد تَمَتّعوها ويعلمون حينها أنهم ما لبثوا فيها إلا قليلا.. ".. فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)" أيْ فاسأل الحاسِبين المُتَمَكّنين من العدِّ والحساب، يَقْصِدون سؤال غيرهم من خَلْقه كملائكته التي تَعدّ أعمالهم أو أناس يَعرفون، لأنهم لا يستطيعون الإجابة حيث هم لا يَدْرُون، بما يُفيد أنهم في ذهولٍ تامٍّ مِن هَوْل الموقف والعذاب والألم فلا يُمكنهم أن يكونوا من العادِّين فيُجيبوا السؤال.. "قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)" أيْ قال الله تعالي لهم مَا بَقِيتم إلا زَمَنَاً قليلاً بالفِعْل، لأنَّ الحياة الدنيا مهما طالَت لا تُذْكَر بالنسبة للحياة الآخرة الخالدة، ولو أنكم كنتم تعلمون أيْ تعقلون شيئاً وعندكم ذرَّة مِن عقلٍ مع ذرَّة مِن علمٍ لكنتم عَلِمتم ذلك كما عَلِمه المؤمنون فآمَنتم فسعدتم مِثلهم في الداريْن، ولكنكم أغلقتم عقولكم فلم يكن عندكم أيّ عقلٍ وفكرٍ ولا أيّ علمٍ بل كان عندكم كل السَّفَه والجهل! أغلقتموهما بالأغشية التي وضعتموها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا مزيدٌ من ذَمِّهم وإذلالهم وتعذيبهم بإيلامهم نَفْسِيَّاً
ومعني "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)" أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ وهل ظننتم وتَوَهَّمتم مُخْطِئين أيها المُسِيئون – السابق ذِكْرهم وأمثالهم – وأيها الناس جميعا أننا خَلَقْناكم وكلَّ الخَلْق عَبَثَاً أيْ بلا حِكْمَة بل لمُجَرَّد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد؟!! وحسبتم كذلك أنكم إلينا لا تُرْجَعون في الآخرة يوم القيامة؟!! وذلك حين نَبْعثكم بأجسادكم وأرواحكم من قبوركم، ونحن أعلم بكم تمام العلم، لنكون الحاكم بينكم بحُكْمِنا العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلْتُم فيكون للمُحْسِن الشاكر الصابر كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسِيء غير الشاكر غير الصابر ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. وفي هذا تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد للمسلمين المُحسنين الشاكرين الصابرين المتوكّلين علي ربهم المُستعينين دوْما به، كما أنه تهديد وتحذير للمُسيئين لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. إنه ليس الأمر كما تَحْسَبون، فإننا ما خَلَقْناكم وما خَلَقْنا، أيْ ما أوجدناكم وما أوْجَدنا من عدمٍ علي غيرِ مثالٍ سابقٍ، بقدْرتنا التامّة، السماء والأرض وما بينهما من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها، ما خَلَقْنا كلّ ذلك عَبَثَاً وإنّما خَلَقْناه لِحِكَم ومنافع كثيرة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. لقد خَلَقْنَاه بالحقّ والذي هو عكس الباطل أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن يُخْلَق عليه بما يُناسب عظمتنا وقدرتنا، ومِن أجل الحقّ أي لكي نُعْرَف وتُعْرَف خيراتنا ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقنا، ولكي يَسير بالحقّ أيْ بالعدل أيْ بالإسلام لأنّنا خالقها الحقّ، تعالي الله عمَّا يقوله ويفعله المُكذبون المُعاندون المُستكبرون عُلُوَّاً كبيرا.. فهل يَتَوَهَّم أمثال هؤلاء أنّ حياتهم ستنتهي هكذا بكل عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلوا حينما يرجعون إليه في الحياة الآخرة بعد بَعْثهم أيْ إحيائهم من قبورهم بعد موتهم؟! تعالي سبحانه عن هذا اللعب وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وهو الذي وجوده حقّ أيْ صِدْق وقدْرته التامَّة وعلمه الكامل حقّ وكتبه ورسله حقّ ووعده حقّ وهو الخالق الحقّ وهو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل، ثم برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (17) من سورة الأنبياء "لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17)"، والآية (27) من سور ص "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)"، والآية (36) من سورة القيامة "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)" أيْ فبالتالي، وما دام الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم في الآية السابقة، فتَعَاظَم الله وارتفع وابْتَعَدَ عن كلِّ نَقْصٍ وأيِّ شريكٍ وعن مُمَاثَلَة مخلوقاته في أيِّ شيءٍ فليس كمِثْله أيّ شيءٍ وعَمَّا يَقوله ويَفْعله المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُسْتهزؤن، أيْ فعَظّمُوه واعْلوا شأنه أيها المسلمون فله كل صفات الكمال والعُلُوّ والعَظَمَة، فإنه وحده هو المَلِك أيْ المالِك لجميع الأشياء والمُتَحَكِّم في جميع المخلوقات المُتَصَرِّف فيها تَصَرُّف المالِك في مُلْكِه بلا أيِّ مانعٍ علي أكمل وجهٍ بما يُصلح شئونها ويُسعدها فهو المالِك الحقيقيّ ولا يزول مُلْكه أبداً وما يَمْلكه البَشَر ما هو إلا مِمَّا مَلَّكه هو لهم، وهو وحده الحقّ أي الصدْق المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريك الذي وجوده صِدْق بلا أيّ شكّ، بل هو أحقّ حقّ أيْ أصدق صدقٍ في هذا الوجود، والذي يَتَفَرَّع منه بعد ذلك أيّ صدقٍ آخر، وعبادته وحده هي الصدق كله، والإيمان به وبرُسُله وبكُتُبه هو الصدق كله، والتمسّك والعمل بإسلامه كله هو الصدق كله، ووعوده بنصر المؤمنين في الدنيا ثم الآخرة كلها صدق، والبَعْث بعد الموت ليوم القيامة والحساب في الحياة الآخرة والجنة والنار واللقاء به تعالي كلها صدق، بينما أيّ آلهةٍ غيره أو أديان غير الإسلام كلها كذب وادِّعاء وافتراء وكلها باطلة زائلة مَعْدومة لا تؤدِّي إلا إلي كلّ ضياع وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة.. ".. لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.." أيْ وإذا كان هو وحده الخالِق والمالِك، فبالتالي إذَن لا إلهَ أيْ مَعْبُود يستحِقّ العبادة أيْ الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)" أيْ وهو تعالي الذي قد تَمَلّكَ المُلْك العظيم كله الذي لا يعلم مَدَيَ عظمته إلا هو لأنه هو الذي خَلَقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصْلِحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه، فلا حاجة له إذن لولدٍ أو وزيرٍ أو غيره يُعينه كما يحتاج البَشَر لأنَّ له تمام الغِنَيَ عن كلّ ذلك!.. هذا، وقد وُصِفَ العرش العظيم بالكريم لحُدُوث كل الرحمات والخيرات والبركات منه ولأنَّ مَن اسْتَوَيَ عليه هو الكريم أكرم الأكرمين سبحانه الذي فاضَ كرمه وإنعامه وإحسانه علي الكوْن والخَلْق كله
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)" أيْ ومن يعبد مع الله معبودا آخر غيره كصنم أو حجر أو كوكب أو نحوه وهو المستحق وحده للعبادة حيث هو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. ".. لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ.." أيْ لا دليل – قَطْعَاً وحَتْمَاً ومُطْلَقَاً – له أيْ لهذا العابد لغير الله، به أيْ عليه أيْ علي صِحَّة ذلك أيْ بما يَدَّعِيه، لأنه يستحيل لكلِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ قبول وجود دليل أصلاً علي ألوهِيَّة أيِّ شيءٍ غير الله تعالي بل كلّ الأدِلّة مِن مُعْجِزات الكوْن في أيِّ مَخْلوقٍ هي ضِدَّه لأنها تَدلّ بالقطع علي وجود خالقٍ لها وهو الله، تعالي عَمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيراً.. ".. فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ.." أيْ لا يُحاسِبه إلا ربه، فحسابه عنده وحده لا غيره مُجَهَّزٌ له، فهو ربه الحقّ لا الذي يَدَّعِيه وهو الذي يَتَوَلّيَ حسابه حيث هو الذي خَلَقه ورَزَقه ويَعلم كل شيءٍ عن شِرْكِه أيْ عبادته لغيره أو كُفْره أيْ تكذيبه به ويعلم سوء أقواله وأفعاله، وفي هذا إنذارٌ شديدٌ له بعذابٍ أليمٍ مُؤَكّدٍ حَتْمِيٍّ مُناسِبٍ بعضه في دنياه ثم تمامه بما لا يُوصَف في أخراه، إذ ربّه تعالي هو القاهر أيْ الغالِب الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر والذي يُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم في الداريْن ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم فيهما، فهل يُعْبَد غيره؟!.. ".. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)" أيْ إنه بكل تأكيدٍ لا يُفلح الكافرون أي لا يَفوزون ولا يَنجحون ولا يَسعدون في دنياهم وأخراهم.. إنما الذي يفلح فيهما حتماً هم المؤمنون.. والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم.. إنهم يُعاقَبون بما يُناسب سوئهم بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
تفسير الآية (118)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم التوبة مِن أيِّ ذنب (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب).. وإذا عشتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ رعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ، فكن حريصا دوْما عليها بفِعْل كلّ خيرٍ مجتهدا في ألاّ تخرج عنها أبدا بفِعْل أيّ شرّ، وإنْ فعلته فعُد سريعا بالندم والاستغفار وَرَدّ كلّ حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعمل وكسب وكرم وبرٍّ وَوُدٍّ وتعاون وغيره
هذا، ومعني "وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)" أيْ وقل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم دائماً داعِيَاً سائلاً إيَّانا مُتَوَسِّلَاً إلينا مُتَوَاصِلَاً معنا مُتَوَكّلَاً علينا يا رب – أيْ يا مُرَبِّيني وخالِقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينك الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – اغْفِر لنا أيْ سَامِحْنا فلا تُعاقِبنا علي ذنوبنا وامْحُها كأن لم تَكُنْ وامْحُ عنّا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن واسْتُرْها واخْفيها فلا تُعَذّبنا بفَضْحنا بها فيهما، وارحمنا أيْ وأدْخِلْنا في رحمتك الواسعة التي وَسِعَت كل شيء والتي وَعَدْتَ بها المؤمنين، في دنيانا حيث كل خيرٍ وسعادة ورضا ورعاية وأمن ورزق ونصر وتوفيق وعوْن ثم في أخرانا حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، فأنت خير الراحمين أي أَخْيَرهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالق بالمخلوق؟! لأنَّ كلّ راحِمٍ غيرك يَرْحَم لغرضٍ مَا أمّا أنت يا ربنا فرحمتك لا لطَلَب عِوَضٍ أو غَرَضٍ وإنما هي لفضلك وكرمك الخالص بلا مُقابِل، ولا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منك فأنت خالِقهم وهم خَلْقك وصَنْعَتك وتُحِبّهم وما خَلَقْتهم إلاّ لتُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمتك سبحانك فأنت أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنك أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)" أيْ هذه سورةٌ عظيمةُ الشأن – ككلّ سُوَرِ القرآن العظيم – أنزلناها إليكم بوَحْينا إلي رسولنا الكريم رحمة وإسعاداً لكم وأوْجَبْناها عليكم لتعملوا بأخلاقها وأحكامها وأنزلنا فيها آياتٍ بَيِّناتٍ أيْ واضِحَاتٍ بها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وَجْه لعلكم تَذَكّرون أيْ لعلكم تتذكّرون هذا، أيْ لكي تتذكّروه، لكي تتذكّروا ولا تنسوا ما هو موجود في فطرتكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّروا ربكم وإسلامكم، وتعقلوا كل هذا بعقولكم وتتدَبَّروه وتدرسوه، وتذاكروه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليكم فقط إلا أن تتذكّروا هذا بحُسْن استخدام عقولكم وحُسن التفكير فيه بما يُؤَدِّي إلي حُسن العمل به، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ لا تَقْرَب الزنا مُطْلَقَاً لأنه شديد الأضرار والتعاسات، وهو إدخال العضو الذَكَرِيّ في عضو الأنثي بغير زواج (برجاء مراجعة الآية (32) من سورة الإسراء "وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فهو من أسوأ الذنوب ومن أشدّها ضَرَرَاً علي الفرد والمجتمع ككلّ، فأمراض الزنا الفَتّاكَة التي تصيب الزناة أصبحت معروفة مشهورة، ثم الأهم أنَّ الزنا لو انتشر فإنه يُؤَدِّي إلي عدم وجود أسرة وبالتالي لا يوجد مجتمع وينتشر الأطفال بغير أبوين وبدون رعاية فينشأون حاقِدين علي مَن حولهم مُنْتَقِمين منهم بكل صور الانتقام فتنتشر الجرائم إضافة للمَفاسد والأمراض ويضعف الإنتاج ويتعس الجميع، ثم في الآخرة لهم قطعاً في مُقابِل كل ذلك ما هو أشدّ تعاسة وأتَمّ وأعظم
هذا، ومعني "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)" أيْ ومِمَّا أنْزلناه وفَرَضْناه فيها لكي تَتذكّروه وتعملوا به لتسعدوا في الداريْن هذا الفَرْض: الزانية والزاني اللذان لم يَسْبِق لهما الزواج فاضربوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جَلْدَةٍ كعقوبةٍ لهما، أمَّا مَن زَنَا وهو مُتَزَوِّج فإنَّ عقابه هو الرَّجْم أيْ الضرب بالحجارة حتي الموت كما فَعَلَ الرسول (ص).. هذا، وتقديم ذِكْر الزانية علي الزاني بسبب أنَّ الزنا من المرأة أقبح حيث يُؤَدِّي إلي فساد الأنساب وإلحاق العار بأهلها وانكشاف أمرها بالحمل إضافة إلي أنَّ تمكينها نفسها من الرجل هو السبب في فِعْله، فعَلَيَ كلٍّ منهما خاصة المرأة تجنّبه مَنْعَاً لأضراره وتعاساته علي الفرد والمجتمع فيَسعد الجميع في الداريْن.. ".. وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ.." أيْ ولا تأخذكم وتَسْتَوْلِي عليكم وتَحْدُث لكم رأفة بهما في تنفيذ دين الله أيْ حُكْم الله أيها الحُكّام المُنَفّذون للحُكْم فتُؤَدِّي هذه الرأفة أيْ الشفَقَة والرفْق واللّيِن إلي أنْ تُعَطّلوه أو تُخَفّفوه أو نحو هذا – مع مراعاة أنَّ رأفة القلب الفطريَّة لا شيء فيها ما دامت لا تَمْنَع من تنفيذ العقوبة – ولكنْ افعلوا ما أمركم الله به من عقابهما بضربٍ مُوجِعٍ لكنْ لا يكون مُؤَدِّيَاً لجروحٍ أو كُسُورٍ أو إعاقاتٍ أو إصاباتٍ أو وَفيات لأن الهدف التأديب لا الإتلاف، وذلك لِيَمْتَنِع مَن يَفعل مِثْلهم، حيث الرأفة الحقيقية بمَن قام بالجريمة وبالمجتمع ككل هي التمسّك والعمل بكل أخلاقيَّات الإسلام وأنظمته وتشريعاته وإلا لو تَمَّ تَرْكها بعضها أو كلها فإنَّ المجرم – وآخرين غيره – سيزداد في إجرامه حيث لا عقاب وبالتالي سيزداد سُوءَاً وتعاسة في دنياه وأخراه فمِن الرأفة به عقابه ليستفيق ويَمتنع ثم كل المجتمع سيَتَضَرَّر بانتشار مثل هذه المَفاسد وسيَتْعس الجميع في الداريْن علي قَدْر ما تَرَك مِن إسلامه، ثم هل أنتم أكثر رأفة من خالقهما الذي شَرَعَ هذا الحُكْم وهو الرؤوف الرحيم بهما أكثر من نفسيهما ومن والديهما ومن أيِّ شيءٍ وبخَلْقه أجمعين؟!! إنَّ عقابهما تكفيرٌ لهما عن ذنبهما وتطهيرٌ منه وعَوْنٌ لهما وللمجتمع علي العودة لكل خيرٍ ومصلحةٍ وسعادة.. ".. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره، كما أنَّ في هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة.. أيْ لو كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر أي يوم القيامة حيث تُلاقوه سبحانه وحسابه وعطاءه، بحقّ كما تقولون، أيْ تُصَدِّقون بوجودهما وتعملون بدين الإسلام وتريدون حقّاً أيْ صِدْقَاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مَقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لما تقولون، فإنَّ الإِيمان يَقْتَضِي ويَعني ويَتَطَلّب الجدّ في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله واليوم الآخر وأنه سيحاسب فيه علي كل قولٍ وفِعْلٍ في دنياه فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه تعالي لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، ولتأكّده التامّ أنه سيكون له حتما أجره العظيم في الدنيا ثم في اليوم الآخر حيث تمام السعادة فيهما، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)" أيْ وهذا عقابٌ نفسيٌّ إضافيٌّ للجَلْد لمزيدٍ من التخويف من عقوبة الزنا لعلّ البعض يمتنع بذلك لأنَّ انكشاف الجريمة وإعلانها قد يكون عذابها النفسيّ عند البعض أشد من العذاب الجسديّ بالجَلْد فيُعينه ذلك علي الامتناع.. أيْ ولْيَحْضِر عذابهما مجموعة من المؤمنين لِيَشْتَهِرَ الأمرُ لِيَمْتَنِع الآخرون فتَتَحَقّق الفائدة بأنَّ للمجتمع المسلم نظامه وانضباطه الذي يُحَقّق لأفراده تمام العِفّة والطهارة والأمن والعدل والحقّ، وكل خيرٍ وسعادة، في دنياهم وأخراهم
ومعني "الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)" أيْ هذا مزيدٌ مِن تَقْبِيح الزنا والزناة وتأكيدٌ لحُرْمَته لأضراره ليُعين ذلك علي مزيدٍ من التنْفير منه ليَتْركه المجتمع فلا يَتَضَرَّر بأضراره ويَتْعس بل يَطْهر ويَسْعد في الداريْن.. أيْ الزاني الذي اعتاد الزنا ومَعْلومٌ اتّصافه به لا يَنكح أيْ لا يتزوج أيْ لا يَلِيق به – ولا يَرْغَب هو أصلا غالبا – أنْ يتزوج العفيفة الشريفة إنما يتزوج زانية مثله أو مَن هي أسوأ منها أيْ مشركة، فكل امرأة مسلمة عاقلة عفيفة عليها ألا تقبل به زوجا – وهذا واقعٌ بالفِعْل في الأعَمّ الأغْلَب – فهو مِمَّا ترفضه الفطرة لأنه سيُدَنّسها وسيُسِيء إليها، ولن يقبل به إلا مَن تَفعل مثله، أيْ زانية اعتادت علي الزنا، أو مشركة تَعْبُد غير الله تعالي كصنمٍ أو حجرٍ أو غيره ولا تؤمن بوجود إلاهٍ أو حسابٍ أو عقابٍ أو جنةٍ أو نارٍ ولا تَتَمَسَّك ولا تعمل بأخلاق أو ضوابط ومُستعِدّة هي الأخري للزنا أو هي من الزناة بالفِعْل، وفي هذا تحقيرٌ شديدٌ له ليَنْفر من الزنا فلا يفعله، وتخويفٌ شديدٌ للعفيفة لكي لا تتزوج مِثْله حتي لا تَتَشَبَّه بالمُسِيئات.. ".. وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.." أيْ وكذلك الزانية التي اعتادت الزنا ومعلومٌ اتّصافها به لا يَليق أنْ يتزوج بها المؤمن العفيف إنما يتزوجها زاني مِثْلها أو مَن هو أسوأ منه أيْ مُشرك، فكل مسلمٍ عاقلٍ عفيفٍ عليه ألا يقبل بها زوجة – وهذا واقع بالفعل في الأعَمّ الأغْلَب – فهو مِمَّا تَرْفضه الفطرة لأنها ستُدَنّسه وستُسِيء إليه فهو أمرٌ غير مقبولٍ لا مِن فطرته ولا مِن كرامته ولا مِن رجولته وحِرْصَاً علي معرفة مَن هم أبناؤه وأولا وأخيراً ليس ذلك من إسلامه في شيء، وإنما الذي يُقْبِل علي الزواج منها ويفكّر فيه مَن هو زاني مِثْلها أو مُشرك لا دين ولا كرامة ولا غَيْرَة ولا رجولة له، وفي هذا تحقيرٌ شديدٌ لها لتنْفر من الزنا فلا تفعله، وتخويفٌ شديدٌ للعفيف لكي لا يتزوج مثلها حتي لا يَتَشَبَّه بالمُسيئين.. هذا، وعند بعض العلماء "لا ينكح" ليس بمعني الزواج ولكنْ بمعني الجِماع فقط فيكون معني الآية الكريمة التحقير لهما عند ارتكابهما فاحشة الزنا للتنفير الشديد منها لعلهما يستفيقان ويمتنعان، أيْ إنك أيها الزاني الحَقير الوَضِيع الخَسِيس لا تُجَامِع الآن أثناء الزنا ولا يَلِيق بِكَ إلا حَقيرة وَضِيعَة خَسِيسَة مِثْلك وأنتِ أيتها الزانية الحقيرة الوضيعة الخسيسة لا تُجَامِعِين الآن ولا يَلِيق بِكِ إلا حقير وضيع خسيس مِثْلِك، حيث هو لا يُطاوِعه على مُراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مُشْرِكَة لا تَرَىَ حُرْمَة ذلك وكذلك هي لا يُطاوِعها علي مُرادها من الزنا إلا زاني عاصي أو مُشْرِك لا يَرَيَ تحريمه.. والمَعْنَيَان للعلماء مُتَقارِبَان في تحقيق الهدف وهو التنفير والتحريم الشديد للزنا.. ".. وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)" أيْ ومُنِعَ ذلك، أيْ الزنا والزواج من الزانِيَات إلا أنْ يَتُبْن وتزويج الزناة للعَفِيفات إلا أنْ يتوبوا، علي المؤمنين بربهم العامِلين بإسلامهم لأنه يضرّهم ويتعسهم تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تَتّهِم أحداً بجريمة الزنا، سواء أكان امرأة أم رجلا، لأنّ هذا يُسيء تماما للسُّمْعَة ويُعَطّل حركة حياة الذي يُساء إليه في معاملات حياته سواء أكانت زواجاً أم علاقات أُسَرِيَّة واجتماعية أم مالية أم وظيفية أم غيرها، فتَتَقَطّع بذلك الصِّلات وتنتشر الإساءات والمُشاحَنات والصراعات والانتقامات، ويتعس الجميع في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)" أيْ والذين يَقْذِفون بالزنا أيْ يَتّهِمون به المُحصنات أيْ النساء العفيفات الطاهرات اللاتي يُحَصِّنَّ ويَحفظنَ أنفسهنّ من الوقوع في الزنا ذوات السُّمَعَة الطيِّبة البعيدات عن أيِّ شكّ أو سوءٍ أو انحراف، أو يَرْمُون به أيضا الرجال الطاهرين لأنَّ لفظ المحصنات يعني النفوس المُحْصَنَات بما يعني شمولهم لكنْ خُصَّ النساء بالذكر لأنَّ قذفهنَّ أشنع والعار الذى يلْحقهنّ بسبب ذلك أشدّ وإلا فالرجال والنساء فى هذه الأحكام سواء بإجماع العلماء، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء أيْ ثم لم يُحْضِروا أربعة شُهُود عادِلين صادِقين يَشهدون بصِدْق الاتّهام لإثباته، ويُقْسِمون بالله أنهم قد شَهِدُوا الحَدَثَ بالتفصيل أيْ إدخال العضو الذكريّ في عضو الأنثي وهذا أمرٌ مستحيلٌ في الغالب إلا إذا انعدم أيّ حياءٍ فطريٍّ وكان الأمر عَلَنِيَّاً في الشارع والمقصود من توفير هذا العَدَد المُسْتَحِيل تَوَفّره تشديد التّثَبُّت قبل أيّ اتّهامٍ بل مَنْع الاتّهام أصلاً لمَنْع أضراره المُتْعِسَة في الداريْن وعدم عقاب المُتَسَتّرين وإنما مُعاقَبَة فقط المُتَبَجِّحِين بالجريمة المُعْلِنين الناشِرين لها وبالجملة فتحريم القذف يعني تعظيم الرغبة في الستْر وصِيانة الأعراض وإخفاء الفواحش لأنَّ الستْر أعْوَن علي التوبة والعودة للخير بينما الفَضْح يزيد الجرْأة علي الشرِّ كما يُثْبِت الواقع ذلك.. ".. فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)" أيْ فاضربوا أيها الحُكَّام المُنَفّذون للأحكام القضائية هؤلاء القاذِفين ثمانين جلدة كعقوبةٍ لهم، بضربٍ مُوجِعٍ لكنْ لا يكون مُؤَدِّيَاً لجروحٍ أو كُسُورٍ أو إعاقاتٍ أو إصاباتٍ أو وَفيات لأنَّ الهدف التأديب لا الإتلاف، فالعقوبة تُعين علي عدم تِكْرار الجريمة وتُحَذّر غيرهم مِن فِعْلها، ولا تقبلوا لهؤلاء القاذفين شهادة أبداً علي أيِّ شيءٍ مهما كان طوال حياتهم بسبب اتّهامهم الكاذب للأبرياء، حتي يتوبوا، وهذه عقوبة مَعْنَوِيَّة نفسيَّة أدَبِيَّة إضافية شديدة تعني نَبْذهم وعَزْلهم وفقدان اعتبارهم في مجتمعهم فلا ثقة فيهم عند التعامُل معهم فيخسرون ويتعسون في الداريْن ليكونوا عِبْرَة للجميع ليمتنعوا عن مِثْل هذه الجرائم المُتْعِسَة لهم فيهما، وأولئك هم الفاسقون أيْ وهؤلاء هم الخارجون عن طاعة الله والإسلام، وفي هذا الوصف لهم مزيدٌ من عقوبتهم نفسيَّا ومن التنفير مِن فِعْلِهم لكي لا يُفْعَل مطلقاً
ومعني "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)" أيْ لكنْ يُسْتَثْنَيَ من هذا العقاب الشديد الذي سَبَقَ ذِكْره الذين تابوا أيْ قاموا بالتوبة من ذنوبهم مِن بعد ذلك الظلم الذي فعلوه وذلك بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها بالاسْتِسْلام لإقامة العقوبة عليهم أو بطلب العفو من المَظلوم، وأصلحوا أيْ وعملوا الصالحات من الأعمال وقاموا بإصلاح كلّ ما أفسدوه قَدْر استطاعتهم بكلّ وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ حيث هذا من كمال التوبة وإلا كانت ناقصة لا يقبلها الله ولا يتوب علي فاعلها.. ".. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)" أيْ فإنَّ الله بذلك يَقْبَل توبتهم ويعفو عن ذنوبهم ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِبهم عليها ويزيل عنهم آثارها السَّيِّئَة المُتْعِسَة ويُوَفّقهم لكل خيرٍ فيسعدون تمام السعادة في الداريْن بفِعْلهم الخير بعد توبتهم واستمرارهم عليه وإنْ عادوا لأيِّ شرٍّ تابوا منه سريعا أوَّلاً بأوّل فيسْتُرهم ويُعِينهم ويُسعدهم، لأنَّ الله حتما غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)"، "وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)"، "وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)"، "وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)"، "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)" أيْ والذين يَقْذِفون بالزنا أيْ يَتّهِمون به زوجاتهم ولم يكن لهم شُهُود على صِدْق اتّهامهم لهنَّ إلا أنفسهم فشهادة أحدهم التى تمنع عنه عقوبة القذف التي بالآية (4) هي أربع شهاداتٍ بالله إنه لَمِن الصادقين في اتّهامه لها أيْ فعَلَىَ الواحد منهم أن يَشْهَد ويُقْسِم بالله أمام القاضي أربع مرات بقوله: أشهد بالله أني صادق فيما رميتها به من الزنا، وذلك مراعاة من الإسلام لسَتْر الأسرة والعائلة ولاسْتِحَالة الإتْيان بأربعة شهود في مثل هذه الأحوال والتي يعلم الإسلام أنها أصلا تكون ثقيلة لا تُحْتَمَل علي النفس فليس من المعقول أن يُطالبه بفضح نفسه أمام شهود آخرين، وبالتالي وللتيْسير عليه ومَنْعَاً لإرهاقه خاصة وأنه عَقْلاً ومَنْطِقَاً في الغالِب لا يَرْمِي زوجٌ زوجته بالزنا إلا وهو صادقٌ لِمَا في ذلك من تدنيسٍ لسُمْعته وشَرَفه وكرامته، يَجْعله الإسلام يَحلّ هو مَحلّ الشهود الأربعة من خلال شهادته وقَسَمِه بالله أربع شهادات إنه لمن الصادقين.. "وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)" أيْ والشهادة الخامسة يزيد فيها الدعوة على نفسه أنَّ لعنة الله عليه أيْ طَرْده وإبْعاده مِن رحماته وإسعاداته في دنياه وأخراه إنْ كان مِن الكاذبين في اتّهامه، وفي هذا تخويفٌ شديدٌ له أن يكون كاذباً في قَسَمِه وادِّعائه فلعلّه يَتراجَع عنه ويَتوب وحينها يُقام عليه حدّ القذف ثمانين جلدة.. فإنْ أتمَّ شهاداته فقد ثَبَتَ عليها حَدَّ الزنا وامْتَنَعَ عنه حَدَّ القذف.. "وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)" أيْ ويَدْفَع ويَمْنَع عنها العذاب الدنيويّ وهو إقامة حَدّ الزنا عليها أيْ الرجْم بالحجارة حتي الموت لأنها متزوجة أنْ تشهد أربع شهادات بالله أيْ تُقْسِم بالله مثل زوجها أمام القاضي أربع مرات قائلة: أشهد بالله إنه لَمِنَ الكاذبين فيما رَماني به من الزنا.. هذا، وإن اعترفت أو إنْ سَكَتَت خوفاً من الحلف الكذب ومن غضب الله عليها يُقام عليها الحَدّ.. "وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)" أيْ والشهادة الخامسة تزيد فيها الدعوة على نفسها أنَّ غضب الله عليها إنْ كان مِن الصادقين في اتّهامه، وغضبه تعالي عليها – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المَثَل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – هو كُرْهه لها كراهية شديدة لفِعْلِها وانتقامه منها بعقابها بما يُناسِب في الداريْن مُتَمَثّلَاً في درجةٍ مَا من درجات العذاب في دنياها أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم سيكون لها في أخراها عذاب هائل شديد مُؤْلِم مُوجِع لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه.. وفي هذا تخويفٌ شديدٌ لها أن تكون كاذبة في قَسَمِها فلعلها تَسْكُت وحينها يُقام عليه الحدّ تكفيراً وتطهيراً لذنبها ونجاة لها من عذاب الآخرة.. فإنْ أتَمَّت شهادتها يُفَرِّق القاضي بينهما إلي الأبد.. هذا، وكلٌّ من اللعنة والغضب كلاهما مُخيفٌ مُتْعِسٌ لكل مسلمٍ ومسلمةٍ ويسعي كلٌّ منهما دَوْمَاً لتَجَنّب الإصابة بأيِّ ذرَّةٍ منهما بدَوَام العمل بكل أخلاق الإسلام وإلا تَعِسَا بهما أشدّ التعاسة في الداريْن ولكنَّ الخالق العليم الخبير بخَلْقه سبحانه اختار لفظ اللعنة للزوج ولفظ الغضب للزوجة لعِلْمه التامّ بشدّة تأثير هذا لهذا وذاك لذاك.. "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)" أيْ ولولا عطاء الله وإحسانه الزائد عليكم ورحمته أيْ رأفته وشفقته بكم وأنه تَوَّابٌ أيْ كثير عظيم التوبة لمَن يتوب حكيمٌ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث، فلم يُعَجِّل العقوبة لكم بمجرَّد أنْ تُذْنِبُوا لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم وفَتَحَ باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكم ولكل البَشَر وأرْشَدكم إليها ووَفّقكم لها ويَسَّر أسبابها لكم وقبلها منكم وجعل لكم فِطْرَة مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وجعل لكم عقولا تَتَدَبَّرون بها وأرسل إليكم رسلاً خاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها تشريعاته وأخلاقيَّاته وأنظمته التي تُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه ويَسَّرَ لكم أسباب اتّباعكم لأخلاق إسلامكم بعد اختياركم أنتم لها كنظامٍ لحياتكم بكامل حرية إرادة عقولكم وثَبَّتَكُم عليها، لولا هذا كله، لَكُنْتُم وَقَعْتُم في الضلال أيْ الضياع وحَدَثَ بينكم الخِلاف والصراع والاقتتال ولَمَا سَعِدتم في دنياكم وأخراكم أيّ سعادةٍ بل تَعِسْتم تمام التعاسة فيهما، فاشكروا الله كثيراً علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأحسنوا استخدامها بفِعْل كلِّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. هذا، ولم يَذْكُر تعالي جواب لفظ "لولا" أيْ ماذا كان سيكون من الشرّ لولا فضل الله ورحمته علينا وأنه تواب حكيم وذلك لتعظيم وتفخيم وتكثير الفضل والرحمة والحِكْمَة والخير والعطاء والستْر والتوبة
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)" أيْ إنَّ الذين جاءوا بالكذب الشنيع القبيح الشديد الظالم الزوُر الذي لا أصل له ويَقْلِب الحقائق ولا يُمْكِن وَصْفه، وهو الاتّهام بالزنا لأشرف وأطهر النساء السيدة عائشة رضي الله عنها زوجة أكرم خَلْق الله الرسول الكريم محمد (ص) ابنة الصِّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه وهو مَن هو، هم عُصْبَة أيْ مجموعة منكم أيها المسلمون مِمَّن يَعيشون معكم ويَنْتَسِبُون لمجتمعكم، بما يُفيد ضِمْنَاً أنهم قليلون فيَطْمَئِنّ المسلمون علي أخلاقهم حيث أنَّ عموم المجتمع المسلم لم يَقْبِل بإفكهم، وهذا هو المطلوب عند محاولة نَشْر شَرٍّ مَا حيث علي المسلمين أن يرفضوه وينصحوا فاعله ويمنعوه بكل حكمة وموعظة الحسنة ليتوب وإنْ أصَرَّ يُعاقَب مِن المسئول علي قَدْر شَرِّه ليسعد الجميع في الداريْن ولا يتعسون.. ".. لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ هذا تسلية وطَمْأَنَة للرسول (ص) ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتَخْفيفٌ عنهم وتَبْشيرٌ وإسعادٌ لهم وعَوْنٌ للصبر في مَواقِف الشدَّة.. أيْ لا تَظُنّوا مُخْطِئين حديث الإفك هذا شَرَّاً لكم بسبب ما نالكم منه مِن حزنٍ وضَرَرٍ بل هو خيرٌ لكم لأنه لو أحسنتم التعامُل معه ومع أيِّ مَوْقِفٍ فيه شَرّ قد يَحْدُث منكم أو مِن غيركم مِن خلال الاستعانة بالله والتوكّل عليه والعمل بأخلاق الإسلام لَخَرَجْتم منه مُستفيدين استفاداتٍ وخبراتٍ كثيرة في دنياكم ثم أعظم الأجر في أخراكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن، ثم الآية (216) منها ".. وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)"، ثم الآية (179) من سورة آل عمران "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.."، ثم الآية (7) من سورة هود ".. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ.." أيْ لكل إنسانٍ مِن هذه العُصْبَة أيْ مِن هؤلاء الذين شاركوا في هذا الشرِّ أيْ في هذا الإفك – وكذلك دائما كل مَن يُشارك في أيِّ شَرٍّ مَا ولا يتوب منه – بصورةٍ مَا مِن صُوَر المُشارَكَة، ما اكتسب من الإثم أيْ عقاب الذي كَسَبه أيْ عمله وحَصَّله من الذنب أيْ الشرّ والفساد والضرَر المُتْعِس، أيْ سيكون له عقابه الدنيويّ والأخرويّ المُناسب علي قَدْر مشاركته وشَرِّه وضَرَره.. ".. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)" أيْ والذي تَحَمَّل مُعْظَمه منهم أيْ تَكَفّل وقام منهم بالجزء الأكبر من هذا الشرِّ له عذابٌ عظيمٌ حتماً بالداريْن مُناسِبٌ لِعِظَمِ وكِبَرِ شَرِّه أيْ عذابٌ هائلٌ شديدٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ لا يعلم مِقْدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه، فهذا هو عدله تعالي حيث كل مُجْرِمٍ لم يَتُبْ يَنال عقابه علي قَدْر إجرامه
ومعني "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)" أيْ لو حين سمعتم هذا الإفك ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم – أيْ أنتم – ظنّاً يُشْبِه التأكّد التامّ خيراً أيْ ظنّ بعضهم ببعضٍ خيراً أي ظنّاً حَسَنَاً جميلاً عند سماعهم ذلك الإفك وهو البراءة التامَّة مِمَّا قُذِفُوا به، وقالوا هذا كذبٌ فظيعٌ واضحٌ لا يُصَدَّق، لأنه اتّهامٌ بالزنا لأشرف وأطهر النساء السيدة عائشة رضي الله عنها زوجة أكرم خَلْق الله الرسول الكريم محمد (ص) ابنة الصِّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه وهو مَن هو، لو فَعَلْتم ذلك حينها لَكَانَ خيراً لكم في دنياكم وأخراكم، حيث في الدنيا تَنْجُون من تعاساتِ تأثيرِ انتشار مثل هذا الإفك وفي الآخرة تنالون أعظم الثواب علي الصبر عليه ومقاومته ومَنْعه، وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة، كما أنه إرشادٌ للمؤمنين بالظنِّ الحَسَن فيما بينهم حتى لكأنَّ الذى يظنّ السوء بأخيه المسلم فكأنما ظنّه بنفسه كما يُفيد لفظ "بأنفسهم".. هذا، ولفظ لوْلَا في اللغة العربية مِن مَعانيه أنه يُفيد الحَثّ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده، فهو سبحانه يَحثّهم علي حُسْن الظنّ وعدم فِعْل الشرّ والقَذْف بالسوء ليَسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما
ومعني "لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)" أيْ لو كان جاء المُتّهِمون لغيرهم بالزنا بأربعة شُهُود عليه أي علي صِدْق اتّهامهم لَكَانَ تَمَّ تَصْديقهم وتَمَّت مُعَاقَبَة المُجْرِم وانتهي الأمر وعاد المجتمع لاستقراره ولسعادته، أربعة شهود عادِلين صادِقين يَشهدون بصِدْق الاتّهام لإثباته، ويُقْسِمون بالله أنهم قد شَهِدُوا الحَدَثَ بالتفصيل أيْ إدخال العضو الذكريّ في عضو الأنثي وهذا أمرٌ مستحيلٌ في الغالب إلا إذا انعدم أيّ حياءٍ فطريٍّ وكان الأمر عَلَنِيَّاً في الشارع والمقصود من توفير هذا العَدَد المُسْتَحِيل تَوَفّره تشديد التّثَبُّت قبل أيّ اتّهامٍ بل مَنْع الاتّهام أصلاً لمَنْع أضراره المُتْعِسَة في الداريْن وعدم عقاب المُتَسَتّرين وإنما مُعاقَبَة فقط المُتَبَجِّحِين بالجريمة المُعْلِنين الناشِرين لها وبالجملة فتحريم القذف يعني تعظيم الرغبة في الستْر وصِيانة الأعراض وإخفاء الفواحش لأنَّ الستْر أعْوَن علي التوبة والعودة للخير بينما الفَضْح يزيد الجرْأة علي الشرِّ كما يُثْبِت الواقع ذلك.. ".. فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)" أيْ وحين لم يأتوا بالشهداء فهؤلاء حينها في حُكْم الله وحسابه في دنياهم وأخراهم هم الكاذبون كذباً شنيعاً قبيحاً المُسْتَحِقّون حتماً لعقوبة حدِّ القَذْف كما في الآية (4) (برجاء مراجعتها)، مع نَبْذهم وعزلهم وإسقاط اعتبارهم في المجتمع وعدم الثقة بهم بعدم قبول شهادتهم بعد ذلك أبداً فيَخْسرون ويَتْعسون إلا إذا تابوا وحَسُنَت توبتهم
ومعني "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)" أيْ ولولا عطاء الله وإحسانه الزائد عليكم ورحمته أيْ رأفته وشفقته بكم في الدنيا والآخرة حيث عَمَّكُم فيهما بخيره التامِّ الذي لا يُحْصَيَ ولا يُوصَف حيث لم يُعَجِّل العقوبة لكم بمجرَّد أنْ تُذْنِبُوا لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم وفَتَحَ باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكم ولكل البَشَر وأرْشَدكم إليها ووَفّقكم لها ويَسَّر أسبابها لكم وقبلها منكم وجعل لكم فِطْرَة مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وجعل لكم عقولا تَتَدَبَّرون بها وأرسل إليكم رسلاً خاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها تشريعاته وأخلاقيَّاته وأنظمته التي تُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه ويَسَّرَ لكم أسباب اتّباعكم لأخلاق إسلامكم بعد اختياركم أنتم لها كنظامٍ لحياتكم بكامل حرية إرادة عقولكم وثَبَّتَكُم عليها، لولا هذا كله، لَكَانَ مَسَّكُم فيما أفضتم فيه أيْ أصابكم بسبب مَا خُضْتُم ودَخَلْتُم فيه من حديث الإفك – وغيره من الشرّ – عذابٌ عظيمٌ أيْ هائلٌ شديدٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ لا يعلم مِقْدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه علي قَدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم، في دنياكم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في أخراكم سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار، فاشكروا الله كثيراً علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأحسنوا استخدامها بفِعْل كلِّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن ولا تتعسوا فيهما
ومعني "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)" أيْ لَمَسَّكُم فيما أفَضْتُم فيه من حديث الإفك عذابٌ عظيمٌ حين تَلَقّوْنه أيْ تَتَلَقّوْنه أيْ يَتَلَقّاه هذا الإفك بعضكم من بعضٍ ويُلْقِيه بعضكم علي بعضٍ وتتَنَاقلونه بينكم بألسنتكم أيْ بلسانٍ عن لسان.. ".. وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.." أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مُبَالَغتهم ومُسارَعَتهم في تَلَقّيهم إيَّاه واستمرارهم عليه.. أيْ وتقولون بأفواهكم كلاماً ليس لكم به علمٌ مُطْلَقَاً علي صِحَّته وصِدْقه ولا أيّ دليلٍ فهو مُجَرَّد تَرْديد له بالأفواه بلا تَعَقّلٍ فيه ولا تَثَبُّتٍ منه بما يَتَعارَض مع ضرورة التّثَبُّت وحُسْن الظنّ الذي يَطْلبه الإيمان وخُلُق الإسلام، وفي هذا نهيٌ شديدٌ وتأديبٌ للمسلمين لعدم فِعْل ذلك.. ".. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)" أيْ وهذا مزيدٌ من النهي والتحذير الشديد من فِعْله.. أيْ وتظنونه مُتَوَهِّمِين مُخْطِئين حديث الإفك هذا الذي تَلَقّيْتُموه بألسنتكم ونَشَرْتُمُوه بأفواهكم أمراً سَهْلَاً لا إثْم فيه ولا عقاب لكم عليه بما يُناسِب في الداريْن والحال والواقع أنه ليس كذلك ولكنه هو عند الله أيْ في حُكْم الله وحسابه في دنياكم وأخراكم أمرٌ عظيمٌ أيْ كبيرٌ هائلٌ شديدٌ في إثمه وعقابه الدنيويّ والأخرويّ لِعِظَمِ وكِبَرِ شَرِّه وضَرَره وإتعاسه للجميع في الداريْن
ومعني "وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره ومن الإرشاد لِمَا يجب فِعْله في مِثْل هذه الأحوال.. أيْ ولو حين سمعتموه هذا الإفك قلتم رافِضين له أشدَّ الرفْض ناصِحين بكل حِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ بمَنْع الإفاضة فيه ما يكون لنا أيْ ما يجوز لنا وما يَصِحّ مِنّا ولا يَلِيق بنا مُطْلَقَاً أن نتكلم بهذا الكذب الشنيع القبيح الشديد الظالم الزوُر الذي لا أصل له ويَقْلِب الحقائق ولا يُمْكِن وَصْفه، وقلتم كذلك علي سبيل التّعَجُّب من شَنَاعَته سبحانك أيْ نَتَعَجَّب يا ربنا مِن قُبْحه وزُورِه وظُلْمه وكيف يُقال ويَحْدُث بيننا فهذا الإفْك بهتانٌ عظيمٌ أي كذبٌ شديدٌ، والبُهْتان هو الكذب الفظيع غير المعقول الذي يُبْهِت العقل أيْ يُحَيِّره لأنه لا مُبَرِّر ولا أصل له ولشِدّة غرابته وبُعْده عن الحقيقة، لو حين سمعتموه قلتم هذا وفَعَلْتُم مَا يَتَرَتَّب عليه حينها لَكَانَ خيراً لكم في دنياكم وأخراكم، حيث في الدنيا تَنْجُون من تعاساتِ تأثيرِ انتشار مثل هذا الإفك وفي الآخرة تنالون أعظم الثواب علي مقاومته ومَنْعه.. هذا، ولفظ لولا في اللغة العربية مِن مَعانيه أنه يُفيد الحَثّ علي فِعْل الشيء الذي يأتي بعده، فهو سبحانه يَحُثّ المؤمنين علي حُسْن الظنّ وعدم فِعْل الشرّ والقَذْف بالسوء مع الامتناع عن حتي مُجَرَّد الاستماع له ورفضه مباشرة من أيِّ أحدٍ وحُسْن نصحه بتَرْكه وذلك ليَسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما
ومعني "يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)" أيْ يُذَكّركم ويُوصِيكم ويَنْصَحكم ويُرَغّبكم ويُرَهِّبكم ويُحَذّركم ويَنْهاكم الله، حتي لا، أو كراهة أنْ، تَرْجِعُوا أبداً طوال حياتكم مستقبلاً مرة أخري لمِثْل هذا الفِعْل القبيح ولغيره من الشرور والمَفاسِد والأضرار المُتْعِسَة لكم في الداريْن.. ".. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)" أيْ لو كنتم مؤمنين بحقٍّ كما تقولون، أيْ مُصَدِّقين بوجود الله مُتَمَسِّكين عامِلين بأخلاق إسلامكم وتريدون حَقاً أي صِدْقاً أن تكون عبادتكم أيْ طاعتكم مقبولة وتسعدون بها في الداريْن، فافعلوا إذَن ذلك كإثباتٍ لِمَا تقولون، فإنَّ الإِيمان يَقْتَضِي ويَعني ويَتَطَلّب الجدّ في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه.. إنه بالتأكيد كل مَن يُؤمن بالله فإنه حتما سيقوم بالتنفيذ لوصاياه لتأكّده التامّ أنَّ فيها المصلحة التامّة لأنها مِن خالِقه الذي يعلم تماما كل ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده، أمّا غير المؤمن فلن يُنَفّذ لعدم إدراكه لهذا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا التعبير والتذكير بالإيمان مزيدٌ من الإلهاب للمَشاعِر للعَوْن علي سرعة الاستجابة
ومعني "وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)" أيْ ويُوَضِّح الله لكم الآيات في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، وذلك لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا، لو عملتم بها، فاعملوا بها كلها لتسعدوا تماما فيهما.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَلْتَزِم بالفرائض ومَن يُقَصِّر فيها وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)" أيْ إنَّ الذين يَرْغَبُون ويُريدون ويَوَدُّون ويَتَمَنّون أن تنتشر الفاحشة وهي الشرّ العظيم الضرَر علي الذات والغير الشديد القُبْح والعقاب في الداريْن بسبب أضراره وتعاساته، ويَسْعَوْن لذلك بما استطاعوا من أقوالٍ وأفعالٍ، في الذين آمنوا أيْ بين الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ويَصِفهم سبحانه بصِفَة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة لفِعْل كلِّ خيرٍ ونَشْره وتَرْك كلِّ شَرٍّ ومَنْعه، لهم عذابٌ أليمٌ حتماً أيْ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا أولا بإقامة حَدِّ القَذْف علي مَن قَذَفَ واتّهَمَ أحداً بالزنا ولم يأتِ بأربعة شهداء وبكل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ، وذلك إذا لم يتوبوا، وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وهذا العذاب لهم في الداريْن هو لأنه بانتشار الفساد منهم يَنْتشر الشرّ المُضِرّ المُتْعِس للجميع في دنياهم وأخراهم فيُعَذّبُون بما يُناسب بتمام العدل في مُقابِل ذلك.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه إذا استقرّ في فكرِ أحدٍ – ولم يكن مُجَرَّدَ خاطِرٍ عابِرٍ – حبُّ أنْ تَشيع الفاحشة في الذين آمنوا أصيب بهذا العذاب الشديد لأنه قد عَقَدَ العَزْم بداخل عقله على ارتكاب القبيح حيث هو مُسْتَعِدٌّ ومُنْتَظِرٌ ويَضع خططه لنشرها لو سَمَحَت له أيّ فرْصَةٍ فهو قد بَدَأَ في فِعْلٍ سَيِّءٍ بفِكْره، فإذا أشاعها بالفِعْل قولاً وعملاً إزدادت شِدَّة عذابه.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)" أيْ والله تعالى وحده، لا البَشَر، الذي يعلم أيها الناس كل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، ويعلم مستقبل أحوالكم كلها، ويعلم مَن يُحِبُّون شُيُوع الفاحشة ويَنْشرونها، ويعلم ما تُجادِلون فيه بعلمٍ وبغير علمٍ، بالعَلَن وبالسِّرّ، وما بدَوَاخِل الأفكار والعقول، ومَن هم أهل الخير وأهل الشرّ وسيُجازي كُلّاً بما يستحِقّه في الداريْن، ويعلم كل شيءٍ عن أيِّ شيءٍ في هذا الكوْن، وبالجملة يعلم ما غاب عنكم من مصالحكم وما هو خير أو شرّ لكم حاليا ومستقبلا وأنتم لا تعلمون كل ذلك حتماً ونتائج الأمور في المستقبل فسَارِعوا بالتالي إذَن إلي الاستجابة لكل ما فُرِضَ عليكم وتَمّ توصيتكم به من أخلاق الإسلام لتسعدوا في الدنيا والآخرة حيث هي تُنَظّم لكم كل شئون حياتكم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وَجْه، لأنها من عند خالقكم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم، فهو تعالي لا يأمرهم إلا بما هو خير أيْ مُفيد مُسْعِد لهم فيهما ولا يمنعهم إلا عمَّا هو شرّ أيْ مُضِرّ مُتْعِس لهم فيهما وهو أرحم بهم وأحرص علي مصلحتهم وسعادتهم وأقْدَر عليها من أنفسهم
ومعني "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)" أيْ ولولا عطاء الله وإحسانه الزائد عليكم ورحمته أيْ رأفته وشفقته بكم وأنه رؤوف رحيم بالناس كلها وبالخَلْق كلهم فما بالكم بكم أنتم أيها المؤمنون؟! أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها، والرأفة هي كراهية إصابة الغير بأيّ شرٍّ أو ضَرَرٍ بما يُتعسه، والرحمة هي حب إيصال الخير والنفع له بما يُسعده، ورحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه، فلم يُعَجِّل العقوبة لكم بمجرَّد أنْ تُذْنِبُوا لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم وفَتَحَ باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكم ولكل البَشَر وأرْشَدكم إليها ووَفّقكم لها ويَسَّر أسبابها لكم وقبلها منكم وجعل لكم فِطْرَة مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وجعل لكم عقولا تَتَدَبَّرون بها وأرسل إليكم رسلاً خاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها تشريعاته وأخلاقيَّاته وأنظمته التي تُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه ويَسَّرَ لكم أسباب اتّباعكم لأخلاق إسلامكم بعد اختياركم أنتم لها كنظامٍ لحياتكم بكامل حرية إرادة عقولكم وثَبَّتَكُم عليها، لولا هذا كله، لَكُنْتُم وَقَعْتُم في الضلال أيْ الضياع وحَدَثَ بينكم الخِلاف والصراع والاقتتال ولَمَا سَعِدتم في دنياكم وأخراكم أيّ سعادةٍ بل تَعِسْتم تمام التعاسة فيهما، فاشكروا الله كثيراً علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأحسنوا استخدامها بفِعْل كلِّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. هذا، ولم يَذْكُر تعالي جواب لفظ "لولا" أيْ ماذا كان سيكون من الشرّ لولا فضل الله ورحمته علينا وأنه رؤوف رحيم وذلك لتعظيم وتفخيم وتكثير الفضل والرحمة والرأفة والحِكْمَة والخير والعطاء والستْر والتوبة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في بدايات الآيتين السابقتين (10)، (14) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تَسِيروا خَلْف طُرُقات الشيطان الذي يأخذكم حتما للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات التامَّات في الدنيا والآخرة تدريجيا خطوة وراء خطوة حتي تنغمسوا تماما فيها ويصعب خروجكم منها والعودة للخير والسعادة فيهما، فكونوا دوْما حَذِرين من الشيطان أشدّ الحَذر واتّخذوه علي الدوام عدوا، أيْ إيَّاكم ثم إيَّاكم أن تتّبعوا خطواته وقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تمسّكوا واعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، والشيطان هو كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكير شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ ويلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.." أيْ ومَنْ يَسِرْ خَلْف خطوات الشيطان فقد عَصَيَ وضَلَّ أيْ ضاعَ وتَعِسَ في الداريْن حتماً لأنه أيْ الشيطان – أو المُتّبِع لخطوات الشيطان حيث سيكون مِثْله فيَأمر غيره بالسوء – يأمره بالفحشاء والمنكر مُخَادِعَاً إيَّاه أنَّ ما يَطْلبه منه هو لمصلحته ولسعادته، والفحشاء هي الشرّ الفاحِش أيْ المُضِرّ ضَرَرَاً شديداً بالذات وبالغَيْر، مِن كل أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، والمُنْكَر هو عكس المعروف أيْ كل ما يُنكره العقل الصالح أي يَرفضه وهو كل شرّ وفساد مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن.. ".. وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا.." أيْ ولولا عطاء الله وإحسانه الزائد عليكم ورحمته أيْ رأفته وشفقته بكم أيها الذين آمنوا حيث لم يُعَجِّل العقوبة لكم بمجرَّد أنْ تُذْنِبُوا لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم وفَتَحَ باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكم ولكل البَشَر وأرْشَدكم إليها ووَفّقكم لها ويَسَّر أسبابها لكم وقَبِلها منكم وجعل لكم فِطْرَة مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وجعل لكم عقولا تَتَدَبَّرون بها وأرسل إليكم رسلاً خاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) ومعهم كتبه وآخرها القرآن العظيم والتي فيها تشريعاته وأخلاقيَّاته وأنظمته التي تُدير لكم كل شئون حياتكم علي أكمل وأسعد وجه ويَسَّرَ لكم أسباب اتّباعكم لأخلاق إسلامكم بعد اختياركم أنتم لها كنظامٍ لحياتكم بكامل حرية إرادة عقولكم وثَبَّتَكُم عليها، لولا هذا كله، لَمَا كانَ زَكَاَ منكم مِن أحدٍ أبداً أيها المؤمنون – وكذلك أيها الناس عموما – أيْ لَمَا كانَ تَطَهَّر مِن كل سوءٍ وتَرَقّيَ ونَمَاَ وسَمَاَ في فِكْره وخُلُقِه ومُعامَلاته أيُّ أحدٍ منكم مُطْلَقَاً طوال حياته، ولَكُنْتُم وَقَعْتُم في الضلال أيْ الضياع وحَدَثَ بينكم الخِلاف والصراع والاقتتال ولَمَا سَعِدتم في دنياكم وأخراكم أيّ سعادةٍ بل تَعِسْتم تمام التعاسة فيهما، فاشكروا الله كثيراً علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأحسنوا استخدامها بفِعْل كلِّ خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في بدايات الآيات السابقة (10)، (14)، (20) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ.." أيْ ولكنَّ الله يُزَكّيِ مَن يشاء منكم التّزَكّي أيها الناس، بكلِّ صِدْقٍ تامٍّ، حيث يشاؤه سبحانه له بعد أنْ شاءه أيْ أراده هو أولا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، أيْ يُيَسِّر له أسبابه ويُوَفّقه لهذه الأسباب ويُسَدِّد خطاه نحوها (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)" أيْ والله وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم أنتم وجميع خَلْقه، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. إنه سميع عليم بمَن شاء التّزَكّي فيَسْتَحِقّ بالتالي أنْ يُعينه عليه ومَن لم يُرِدْه فلا يُعينه.. وما دام الأمر كذلك فعَلَيَ كلِّ عاقلٍ إذَن أنْ يُحْسِن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره من طُرُق الشيطان ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
ومعني "وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)" أيْ ولا يَحْلِف، من الأَلِيَّة وهي الحَلِف، ولا يَأْلُو جهْداً أيْ لا يُقَصِّر فيه ويَبْذل أقْصاه، أصحاب الفضل منكم أيْ العطاء والإحسان والزيادة والغِنَي والخُلُق المسلم الفاضِل وأصحاب السَّعَة أيْ التوْسِعَة أيْ المُوَسَّع عليهم من ربهم في أرزاقهم بكل أنواعها، لا يَحْلِفون علي ألّا يُؤْتُوا ولا يُقَصِّرون في أنْ يُؤتوا أيْ يُعْطوا أوُلِي القُرْبَيَ أيْ أصحاب القَرَابَة بكلِّ درجاتها والمساكين أيْ المُحتاجين لكلِّ أشكال العَوْن والمهاجرين في سبيل الله أيْ المُفَارِقِين التارِكِين دِيَارَهم وأموالهم من أجل الله أيْ من أجل الحِفاظ علي إسلامهم ونشْره والدفاع عنه حبا في الله وأجره بالداريْن، ومَن شابَهَ هؤلاء مِمَّن يحتاجون للعطاء وللعَوْن، أنْ يُؤتوهم أيْ يُعطوهم من عطائهم المُسْتَحَقّ لهم.. ".. وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا.." أيْ وعليهم أنْ يُسَامِحُوا فلا يُعاقِبوا فيُقَابِلوا الإساءة بمِثْلها بل بالحَسَنَة وكأنَّ الإساءةَ قد مُحِيَتْ، وأنْ يَصْفحوا أيْ يجتهدوا في أنْ يَنْسوا الأمر تدريجيا ويلْغوه من أذهانهم، وذلك إذا حَدَثَت إساءة مَا مِن أحدٍ مِن هؤلاء الذي يُعْطونهم عطاءاتهم، والمقصود الاستمرار في عطائهم وعدم مَنْعه بسبب معصية العاصِي منهم، وكذلك يكون الحال مع أيِّ عاصِي غيرهم، مع الاستمرار في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم معهم وغيرهم فلا تُقابَل أيّ إساءةٍ إلّا بكلِّ حَسَنَةٍ والاستمرار في حُسْن مُعَامَلَتهم والصبر علي أذاهم ودعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين ليمتنعوا عن إساءاتهم ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، فهذه هي صفات المسلم العامِل بكل أخلاق إسلامه مع جميع الناس فما بالنا مع أمثال هؤلاء الضعفاء المُحْتاجين! فالتّسَامُح يَجعل المُتَسامِح أكثر عزّة ويَجعلهم يُراجعون ذواتهم بداخل عقولهم ويكونون أكثر قُرْباً منه ويكون هو أكثر صفاءً بينما العقوبة والانتقام تشغل الأذهان وتُرْبكها وتؤذيها وتضيع الجهود والأوقات وتُبَاعِد بين الجميع فيَتَصارَعُون فيَضعفون فيَتعسون في دنياهم وأخراهم، والخلاصة أنَّ المُتسامِح هو الأقوي والأعزّ والأعلي والأحسن والمُنْتَصِر والأصْفَيَ ذِهْنَاً والأسعد والأحبّ عند الله تعالي والأعظم ثوابا قطعا في الآخرة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (96) من سورة "المؤمنون" "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.." أيْ هل لا تَرْغَبُون وتُريدون وتَوَدُّون وتَتَمَنّون أيها المسلمون أن يغفر الله لكم بسبب عَفْوِكم وصَفْحِكم عن المُسِيئين إليكم أيْ يُسامِحكم فلا يُعاقِبكم علي ذنوبكم ويمْحُوها كأن لم تَكُنْ ويَمْحو عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن ويَسترها ويخْفيها فلا يُعذبكم بفَضْحِكم بها فيهما؟! فإذا كنتم تُحِبُّون ذلك حقّاً أيْ صِدْقَاً، وحتماً بالقطع بلا أيِّ شكّ كلُّ مسلمٍ يحِبّ ذلك، فاعفوا واصفحوا إذَن فيغفر الله لكم في المُقابِل ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم، أيْ افعلوا مع المُسِيء إليكم مِثْل مَا تُحِبّون أن يَفعل الله معكم وتَأدَّبوا بأدبه تعالي، فكما تَغْفِرون وتَصْفَحون عنه يَغْفِر ويَصْفَح عنكم.. ".. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)" أيْ وهذا مزيدٌ من الترغيب في العفو والصفْح والدعوة للتّخَلّق بهما ليسعد الجميع في الداريْن.. أيْ والله حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ غفورٌ أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيعٌ للمُسِيئين وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)" أيْ إنَّ الذين يَقْذِفون بالزنا أيْ يَتّهِمون به المُحصنات أيْ النساء العفيفات الطاهرات اللاتي يُحَصِّنَّ ويَحفظنَ أنفسهنّ من الوقوع في الزنا ذوات السُّمَعَة الطيِّبة البعيدات عن أيِّ شكّ أو سوءٍ أو انحراف – أو يَرْمُون به أيضا الرجال الطاهرين لأنَّ لفظ المحصنات يعني النفوس المُحْصَنَات بما يعني شمولهم لكنْ خُصَّ النساء بالذكر لأنَّ قذفهنَّ أشنع والعار الذى يلْحقهنّ بسبب ذلك أشدّ وإلا فالرجال والنساء فى هذه الأحكام سواء بإجماع العلماء – الغافِلات أيْ المُنْشَغِلات بكلِّ خيرٍ وحُسْنِ خُلُقٍ بحيث يَغْفَلنَ أيْ لا يَدْرِينَ مَا يُقْذَفْنَ به لأنهنَّ مِن شِدَّة عِفّتِهِنَّ وانشغالهنَّ بالخير لم يَخْطر بفِكْرِهِنَّ مُطْلَقَاً أن يَتّهمهنَّ أحدٌ بالزنا أو حتي مجرّد خاطِرَة فِعْله بما يُفيد تأكيد أنهنَّ مُحْصَناتٍ تماماً وتأكيد شِدَّة قُبْح جريمة مَن يَقذفهنَّ بالزنا وخِسَّته ودَناءته واسْتحقاقه للعقاب الشديد، المؤمنات بالله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره إيماناً بحقّ بحيث يَعْمَلنَ بأخلاق الإسلام بما يُفيد مزيداً من التأكيد علي عِفّتِهِنَّ حيث إيمانهنّ الحقّ يَمنعهنَّ من كل سوءٍ وبما يُفيد مزيداً من التأكيد علي فظاعة جريمة القَذْف في حَقّهِنَّ وبالتالي شِدَّة عقوبة فاعِلها في المُقابِل.. ".. لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)" أيْ طَرَدَهم وأبْعَدَهم الله من رحمته وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا والآخرة، إذا لم يتوبوا، ولهم مع اللعنة، رغم أنها وحدها كافِيَة تماماً كعذابٍ مُؤْلِمٍ مُتْعِسٍ، عذابٌ عظيمٌ أيْ شديدٌ هائلٌ علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسباً لسُوئهم، في دنياهم أولا يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ويَتَمَثّل أيضاً في أنهم يُذْكَرون من الناس بالسوء الذي ارتكبوه، ويُعاقَبون بالجلد ثمانين جلدة، ولا يُقْبَل لهم شهادة أبداً فيُنْبَذون ويُعْزَلُون ويَفْقِدون اعتبارهم في مجتمعهم فلا ثقة فيهم عند التعامُل معهم فيَخْسَرُون ويَتْعَسُون، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أعظم وأشدّ عذابا وأتمّ حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)" أيْ ولهم عذابٌ عظيمٌ يوم القيامة يوم تَعْتَرِفُ عليهم وتُخْبِرُ وتُعْلِمُ وتُبَيِّنُ ألسنتهم بما نَطَقَت به من سوءٍ وتَتَكلّم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملونه من شرور ومَفاسد وأضرار في دنياهم، فالذي يَعْتَرِف ويتكلّم ويَشهد علي أفعالهم السَّيِّئَة بالحقّ هو أجزاء من أجسادهم، حتي لا يُمكن لأيّ أحدٍ أنْ يُنْكِرَ فِعْله، فالذي فَعَلَ قد شَهد!! فليس هناك أيّ أملٍ في أيِّ إنكار!! فهي تتكلّم بقدْرة الله تعالي بكل صدقٍ بما فَعَلت لأنها كانت في الدنيا مُجْبَرَة علي فِعْلها بسبب تَحَكّم عقل المُسِيء فيها.. وفي هذا مزيدٌ من العذاب المُهِين لهم حيث تَشْهَد أنفسهم علي ذواتها شهادة تكذيبٍ وفَضْحٍ لو حاوَلُوا الكذب.. فعَلَيَ كلِّ مسلمٍ قطعاً ألّا يَتَشَبَّه بهم في قولهم وفِعْلهم السوء وإلّا تَعِسَ مِثْل تعاساتهم في الداريْن
ومعني "يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)" أيْ يومها، يوم القيامة، يوم يَحْدُث ذلك، يُعْطِيهم الله جزاءهم العدل المُسْتَحَقّ وافِيَاً أيْ كامِلَاً تامَّاً ليس فيه ذرَّة نُقْصانٍ بكلِّ عدلٍ بلا أيِّ ظلمٍ علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم حيث يتمّ لهم كل الشرّ والتعاسة في عذابٍ عظيمٍ لا يُوصَف بنار جهنم – إضافة إلي ما كانوا فيه من عذابِ الدنيا – ويعلمون حينها عند رؤيتهم جزاءهم الحقّ عِلْمَاً مُؤَكّدَاً يَقِينِيَّاً واقِعِيَّاً حقيقيَّاً بلا أيِّ شكّ أنَّ الله هو الحقّ المُبين أيْ هو وحده الصدْق الواضِح، أيْ وجوده هو صِدْق بلا أيّ شكّ، بل هو أحقّ حقّ أيْ أصْدَق صدقٍ في هذا الوجود، والذي يَتَفَرَّع منه بعد ذلك أيّ صدقٍ آخر، وعبادته وحده هي الصدْق كله حيث هو الإلاه الحقّ أيْ المَعْبُود الحقّ الواحد الأحد بلا أيِّ شريكٍ الذي لا يُمْكِن أبداً أنْ يُعْبَد غيره، والإيمان به هو الصدق كله، والتمسّك والعمل بإسلامه كله هو الصدق كله، ووعوده بكلّ خيرٍ وأمنٍ ونَصْرٍ وسعادةٍ للمؤمنين في الدنيا ثم الآخرة كلها صدق، والبعث بعد الموت ليوم القيامة والحساب في الحياة الآخرة والجنة والنار واللقاء به تعالي كلها صدق، بينما أيّ آلهةٍ غيره أو أديان غير الإسلام كلها كذب وادِّعاء وافتراء وكلها باطلة زائلة مَعْدومة لا تؤدِّي إلا إلي كلّ ضَيَاعٍ وشَرٍّ وخوفٍ وانْهِزامٍ وتعاسةٍ في الدنيا والآخرة.. كذلك من معاني المُبِين – إضافة لمعني الواضِح – أيْ المُبَيِّن الذي يُبَيِّن ويُوَضِّح كل ما هو حقّ وعدل وصواب وكل الحقائق وكل ما بخَبَايَا العقول ونوايا الأقوال والأفعال والقادر وحده علي مُجازاة المُحْسِنين والمُسِيئين علي كل أقوالهم وأفعالهم في السِّرِّ والعَلَن
ومعني "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)" أيْ هذا مِثْل قوله تعالي في الآية (3) "الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) من أجل مزيدٍ مِن تَقْبِيح الزنا والزناة وتأكيدٍ لحُرْمَته، مع إضافةٍ في هذه الآية الكريمة (26) لدليلٍ عقليٍّ واقِعِيٍّ لتَبْرِئة الطيِّبين مِن قَذْف الخَبيثين لهم بالزنا، مع بيانٍ لسُنَّةٍ مِن سُنَنِه تعالي وهي أنَّ المُتَجَانِسِين في الخير يَتَآلَفُون غالباً فيما بينهم فالتَّجَانُس من أسباب الألْفَة ويَتَنَافَرُون مع أهل الشرّ فعَلَيَ كلّ صالحٍ أن يجتهد في التواجُد بوَسَطٍ طيِّبٍ أيْ حَسَنٍ جَيِّدٍ صالحٍ ليسعد في الداريْن.. أيْ الخبيثاتُ أيْ الزانِيَاتُ للخَبِيثين أيْ للزانِيِين والزانِيُون للزانِيَات، والطيِّبات أيْ العَفِيفات للطيِّبين أيْ للعَفِيفين والعَفِيفون للعَفيفات، وبالتالي ولذلك فهؤلاء العَفِيفات والعَفِيفون مُبَرَّأون أيْ مُبْعَدُون بَريئون مِمَّا يقولونه عنهم هؤلاء القاذِفون مِن اتّهامٍ كاذبٍ بالزنا لأنه كيف يُتَصَوَّر السُّوء في طيِّبةٍ وهي زوجة طيِّبٍ أو يُتَصَوَّر السوء في طيِّبٍ وهو زوج طيِّبة لأنه ما كان الله تعالي لِيَجْعَل طيِّبَة زوجة لطيِّبٍ إلا وهي طيِّبة ولو كانت خَبِيثة لَمَا صَلحت له لا من ناحية الشرع ولا كان الله قَدَّرَها ويَسَّر أسبابها له، ولهذا قال أولئك مُبَرَّءون مِمَّا يقولون أيْ هُم مُبْعَدُون بَريئون بتَبْرِئة الله العليم الخبير الحكيم الناصِر لهم بُعَدَاء تماماً عمَّا يقولونه هؤلاء الخَبيثون، وتَكْفِيهم وتُسْعِدهم شهادته سبحانه وحده عن أيِّ شاهِد.. كذلك من المعاني الخَبيثات من الكلمات هي تَلِيق للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس هم يَلِيقون للخبيثات من الكلمات، والطيِّبات من الكلمات هي تَلِيق للطيِّبين من الناس والطيِّبون من الناس هم يَلِيقون للطيِّبات من الكلمات، وإعادة الألفاظ هو للتأكيد ولتثبيت المعاني حتي تُتَذَكّر ولا تُنْسَيَ، فكونوا جميعا طَيِّبين حَسَنِين صالحين، والمقصود أنه لا يَتَكلّم بالخبيثات من الكلمات إلا الخبيث من الرجال والنساء ولا يتكلم بالطيِّبات إلا الطيِّب من الرجال والنساء وأنَّ الكلام الخبيث أوْلَىَ أن يُناسِب أهل الخُبْث من الناس لا الطيِّبين والكلام الطيِّب أوْلَىَ أن يُناسِب الطيِّبين من الناس وبالتالي فما نَسَبَه أهل الخُبْث إلى الطيِّبين هم الذين أوْلَىَ به ويَلِيق بهم والطيبون أوْلَيَ بالبراءة منه ولهذا قال أولئك مُبَرَّءون مِمَّا يقولون.. وفي هذا ذمٌّ للذين يَقْذفون ويَتّهِمون كذباً وزُورَاً الأبرياء بفِعْل الخَبيث ويقولون ويفعلون ما هو خبيث أيْ شَرّ سَيِّء رَدِيء دَنِيء خَسِيس مُنْحَطّ كَريه فاسِد قَذِر مُضِرّ مُتْعِس في الداريْن لعلهم يستفيقون ويعودون لخير الإسلام، ومَدْحٌ للذين يُبَرِّؤنهم ويقولون ويفعلون كل ما هو خير مُسْعِد فيهما لتشجيعهم علي الاستمرار عليه.. ".. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)" أيْ ولهم مغفرة لذنوبهم أيْ مَحْوٌ لها ولآثارها المُتْعِسَة في الداريْن، ولهم أرزاقٌ وعطاءاتٌ مادِّيَّة ومَعْنَوِيَّة كريمة نفيسة طيِّبَة هانِئَة واسعة مُبَارَك فيها مُتَزَايِدَة تَعُمّهم يَحْيون في ظلالها وأمانها وخيراتها، في دنياهم وأخراهم، فهم في كل خيرٍ ورضا وأمنٍ وسعادةٍ في حياتهم الدنيا من فضل ربهم وكرمه عليهم ثم لهم ما هو أتمّ وأعظم وأخلد من الخير والسعادة في الآخرة علي حسب درجات أعمالهم الدنيوية حيث جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وكل ذلك بسبب وجزاء وفي مُقابِل إيمانهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم وطِيبِ أخلاقهم وصَبْرِهم علي أذَيَ مَن أساء إليهم وحُسْن دعوتهم لغيرهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يستأذنون قبل الدخول إلي بيوتٍ غير بيوتهم، لأنَّ عدم الاستئذان يعني أنَّ شَرَّاً مَا يُراد أنْ يُفْعَل، كسرقةٍ أو استكشافِ مَساويء لنشرها أو تخريبٍ أو اعتداءٍ بزنا أو اختطافٍ أو قتلٍ أو ما شابه هذا من شرور ومَفاسد وأضرار كلها تُتْعِس الناس في دنياهم وأخراهم، بينما بالاستئذان يَحْدُث التآلُف فيكون كلّ خيرٍ وسعادةٍ لهم فيهما
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)" أيْ هذا بيانٌ لبعض أخلاق الإسلام التي تُسْعِد الناس في الداريْن والتي تُساعِد في مَنْع مَا سَبَقَ ذِكْره مِن سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِس.. أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأذنوا أهلها ساكِنيها في الدخول وتُسَلّموا عليهم قائلين السلام عليكم ويَأذنوا لكم أيْ يَسْمَحُوا بالدخول، وقد سُمِّيَ الاستئذان اسْتِئْناسِاً لأنْ به يحصل الأُنْس أيْ الأُلْفَة والمَحَبَّة والفَرَح والاطمئنان والسكُون وبدونه يَحصل العكس.. ".. ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ.." أيْ هذا كله الذي نوُصِيكم به من أخلاق الإسلام – والتي منها الاسْتِئْذان والسلام – هو حتماً خير لكم في دنياكم وأخراكم لأنه يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة فيهما فسارعوا بالاستجابة له.. ".. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)" أيْ لعلكم تتذكّرون هذا، أيْ لكي تتذكّروه، لكي تتذكّروا ولا تنسوا ما هو موجود في فطرتكم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وتتذكّروا ربكم وإسلامكم، وتعقلوا كل هذا بعقولكم وتتدَبَّروه وتدرسوه، وتذاكروه كما تذاكرون دروسكم وعلومكم وتربطون بين أجزائها ومعلوماتها وتحفظونها وتراجعونها حتي لا تنسوها، وتكونوا مُنْصِفِين عادلِين عند تَدَبُّر كل ذلك لتنتفعوا وتسعدوا به تمام الانتفاع والسعادة في الداريْن.. إنَّ ما عليكم فقط إلا أن تتذكّروا هذا بحُسْن استخدام عقولكم وحُسن التفكير فيه بما يُؤَدِّي إلي حُسن العمل به، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصِدْق.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لِمَا يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وحَذرين تمام الحَذر مِمَّا يُفسدهم ويُنقصهم ويُتعسهم فيهما
ومعني "فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)" أيْ فإنْ لم تَجِدوا في هذه البيوت التي لغيركم أحداً يَأْذَن لكم أيْ يَسْمَح لكم بدخولها فلا تدخلوها حتى يُسْمَحَ لكم مِمَّن يَمْلِك الإذْن بذلك وإلا كان تَصَرُّفَاً في ملْك الغير بغير إذنه وهذا يَمْنَعه الإسلام، وإنْ قيل لكم ارْجِعُوا ولا تَدْخُلوا لسببٍ مَا – إنْ كان في البيت قوم – فارْجعوا وأنتم راضون غير ساخِطِين ولا تُلِحُّوا وتُكَرِّرُوا في طَلَب الدخول، فإنَّ هذا الرجُوع هو أزكي لكم أيْ أطهر لكم مِن كل سوءٍ وأرْقَيَ وأنْمَيَ وأسْمَيَ في فِكْركم وخُلُقكم ومُعامَلاتكم فتَسعدون بذلك في الداريْن ولا تَتْعَسون فيهما، لأنَّ الإلحاح حينها دَناءة لا تَلِيق بكرامة المسلم الكريم وتُثِير الشكّ فيه وتُنَفّر منه وتُؤذِي وتُتْعِس وكل ذلك يُخالِف أخلاق الإسلام.. ".. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)" أيْ وتذكّروا دوْماً أنَّ الله بكل تأكيد عليم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فأحْسِنوا إذَن العمل دائما وافعلوا كلَّ خيرٍ واتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم
ومعني "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)" أيْ ليس عليكم أيّ إثمٍ أو حَرَجٍ أيها المسلمون فى أنْ تدخلوا بغير استئذانٍ بيوتاً غير مَسْكُونَةٍ بسُكّانٍ مُعَيَّنِين خاصَّة بهم ولكنها بيوتٌ عامَّة للجميع لا تحتاج لاستئذانٍ فيها متاعٌ لكم أيْ اسْتِمْتَاعٌ وانْتفاعٌ وإسعادٌ كاستراحاتِ المُسافرين علي طرُق السفر ونحوها من مَرافق.. ".. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)" أيْ والله حتماً يعلم بتمام العلم كل ما تُظهرونه أيها الناس في العَلَن من أقوالكم وأفعالكم وكل ما تُخفونه منها في السِّرِّ وبداخلكم.. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يَنظرون بشهوةٍ إلي النساء وإنما ينظرون النظرة العادِّيَّة التي تحتاجها مُعامَلات الحياة اليومية وهي النظر للوجه والكَفّيْن لأنهما ليسا بعَوْرَةٍ لا للجسد لأنه عَوْرَة وذلك إذا أَمِنْتَ الفتنة أيْ الشّرّ أيْ الوقوع في شَرٍّ مَا فإنْ لم تَأْمَنْها فلا تَنْظُر – وكذلك الحال للنساء لا يَنْظُرْن لعَوْرَات الرجال – وذلك سواء أكان النظر في الواقع أم في الصوَر والرسُومات وما شابهها، وإذا كنتَ من الذين يَحفظون فروجهم، جَمْع فَرْج وهو العضو الذكَرِيّ أو الأنْثَوِيّ، وهو العَوْرَة، أيْ يَسْتُرونها بالثياب ويَمْتَنِعون عن الزنا (برجاء مراجعة الآية (32) من سورة الإسراء "وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا"، للشرح والتفصيل)، وعن اللواط وهو مُمَارَسَة الجِنْس بين رَجُلٍ ورَجُل وإدخال العضو في فتحة الشَّرَج (وبالنسبة للنساء يَمْتَنِعْنَ عن السِّحَاق وهو مُمَارَسَة الجِنْس بين امرأةٍ وأخري)، فإنَّ الامتناع عن كل ذلك يَحمي الناس من انتشار الشرور والمَفاسد والأضرار فيما بينهم والتي تُتْعِسهم أشدَّ التعاسة في دنياهم وأخراهم، وبهذا سيَنْشَغِلون بكل خيرٍ نافعٍ كعملٍ وانتاجٍ وبناءٍ وعلمٍ وفكرٍ وغيره مِمَّا يُقَوِّيهم ويُنَمِّيهم ويُسعدهم فيهما
هذا، ومعني "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمؤمنين، والمؤمنون هم المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، اذْكُر لهم وذَكّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – مُحَذّرَاً إيَّاهم تَحْذيراً شديداً مِمَّا يُوصلهم للزنا وغيره من الفواحش الجنسية المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم وللمجتمع ككلٍّ في الداريْن، قل لهم يَغُضُّوا مِن أبصارهم أيْ يَخْفِضوا وينْقصوا ويُقَلّلوا بعض أبصارهم لأنَّ "مِن" تُفيد التَّبْعِيض والمقصود أنَّ الأصل أنَّ النظر بالعين لكلِّ شيءٍ قد جَعَله الله تعالي حلالاً لنفعه وإسعاده للناس لكنْ يُمْنَع عن بعض الأشياء وهي مَا حَرَّم الله النظر إليه لضَرَره وتعاساته في الداريْن كالنظر بشَهْوَةٍ للنساء غير الزوجات والنظر للآخرين نظرةَ اسْتِعْلاءٍ واحتقارٍ وحَسَدٍ وبَحْثٍ عن العيوب ونحو هذا والمقصود هنا في الآية الكريمة والذي يَظْهَر مِن سياق الحديث عن الزنا وحِفْظ الفُرُوج مَنْع النظر لِمَا يَحْرُم النظر إليه وهو جَسَد المرأة لأنَّ جسدها كله عَوْرَة فيما عدا الوجه والكفّيْن فيُمْكن النظر إليهما أثناء مُعامَلات الحياة اليومية حيث يُحْتاجُ لهذا لقضاء الحَوائِج مع عدم استمراره وغَضِّه بمعني إنْقاصه وتَقْليله أيْ لا يُثَبِّت الناظر عينه ويُطيل النظر عند نَظَرِه لمعرفة التفاصيل حتي لا يَحْدُث ضَرَرٌ بتحريك الشهوات بأضرارها المعروفة وذلك النظر للوجه وللكَفّيْن يكون إذا أُمِنَت الفتنة أيْ الشّرّ أيْ الوقوع في شَرٍّ مَا فإنْ لم تُؤْمَن فلا يُنْظَر لهما.. ".. وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ.." أيْ ويمنعوا أعضاءهم التّنَاسُلِيَّة عن الزنا وهو الجِمَاع الجنسيّ بين رجل وغير زوجته وعن اللواط وهو جماع جنسيّ بين رجلٍ ورجلٍ وإدخال العضو في فتحة الشَّرَج وما شابه هذا، فهم لا يُجَامِعُون إلا زوجاتهم، وكذلك يَحفظوا فروجهم بمعني يَسْتروها بالثياب، والفروج جَمْع فَرْج وهو العضو الذكَرِيّ أو الأنْثَوِيّ، وهو العَوْرَة.. ".. ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ.." أيْ ذلك المَذْكور وهو غَضّ البصر وحِفْظ الفَرْج أطْهَر لهم مِن كل سوءٍ وأرْقَيَ وأنْمَيَ وأسْمَيَ في فِكْرهم وخُلُقهم ومُعامَلاتهم فيَسعدون بذلك في الداريْن ولا يَتْعَسون فيهما، لأنَّ الوقوع في الزنا والذي من أهم أسبابه عدم غضّ البصر يُؤَدِّي لأضرارٍ اجتماعيةٍ شديدةٍ مُتْعِسَةٍ في الدنيا أولاً كتفككٍ في المجتمع حيث لا توجد أسرة وكتَشاحُنٍ وتَباغُضٍ وانتقامٍ واختلاطٍ للأنساب واختلالٍ للمواريث وانتشارٍ لأطفالٍ بغَيْر أبويْن وبدون رعاية فينشأون حاقِدين علي مَن حولهم مُنْتَقِمين منهم بكل صُوَرِ الانتقام فتَنْتشر الجرائم إضافة للمَفاسد والأمراض ويَضعف الإنتاج ويَتعس الجميع، ثم في الآخرة سيكون قطعاً لمَن يَفعل ذلك في مُقابِله مَا هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتَمّ وأعظم.. ".. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)" أيْ وعليهم أن يَتَذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما يصنعونه أيْ يعملونه ويقولونه كله سواء في سِرِّهم أو علانيتهم لا يَخْفَيَ عليه شيء – ولفظ "يَصنعون" يُفيد يَعملون لكن بصنعةٍ واحترافٍ واعتيادٍ كعادةِ الصانع في صَنْعَتِه – وسيُحاسبهم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فعليهم أنْ يُحْسِنوا إذَن العمل دائما ويفعلوا كلَّ خيرٍ ويتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)" أيْ وقل أيضا للمؤمنات كما تقول للمؤمنين حيث حالهنّ مِثْل حالِ الرجال في كل ما يُؤْمَرون به مِن غَضِّ البصر وحِفْظ الفَرْج.. هذا، ومع أنَّ القرآن الكريم حينما يُخاطِب الرجال فإنه مَعْلُومٌ أنه يشمل النساء كذلك أيْ كان الخطاب في الآية السابقة يكفي ليلتزم به النساء أيضا إلا أنَّ الله تعالى خَصَّهنَّ بالخطاب هنا بعد الرجال لتأكيد الأمر بغَضِّ الأبصار وبحِفْظ الفُرُوج.. ".. وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا.." أيْ وقل لهنَّ إضافة لذلك، أيْ إضافة لغَضّ أبْصَارهنَّ وحِفْظ فروجهنّ عن الزنا والسِّحَاق وحِفظها بمعني ستْرها بالثياب أيْ ستْر عَوْراتِهِنَّ أيْ سَتْر جميع جَسَدهنَّ بما في ذلك الشعر ما عدا الوجه والكَفّيْن لأنهما ليسا بعورةٍ وذلك بثيابٍ غير مُجَسِّمَة غير شَفّافَة، قل لهنَّ لا يُظْهِرْنَ زينتهنَّ أيْ مَا يَتَزَيَّنَّ به أيْ مَا يَتَجَمَّلْنَ به أيْ مَا يُظْهِر جَمَالَهنَّ قاصِدَاتٍ جَذْبَ الرجال لهنَّ كالحُلِيّ والمَسَاحِيق والأصْبَاغ والثياب الجَذّابة ونحو هذا – وجميع أجزاء البَدَن كله بالقطع هو مِن الزينة التي لا تُظْهَر – إلا مَا ظَهَرَ منها أيْ إلا ما ظَهَرَ مِن زينتهنَّ أيْ إلا الزينة الظاهِرَة فيجوز إظهارها لمَشَقّة الاحتراز من عدم إظهارها ولأنه لا يُمكن إخفاؤها وجَرَت العادة علي ظهورها بدون قصدٍ لإظهارها ولا نيةٍ سيِّئةٍ لاجتذاب الرجال وأَدَّت الضرورة أثناء التعامُل إلى إظهارها لأنَّ تشريعات الإسلام كلها سَهْلَة سَمْحَة كالوَجْه والكَفّيْن وكالخاتم بالإصْبع وكالصبْغَة باليد وكالكُحْل المُعْتَدِل بالعَيْن وكالثياب والخُمُر الظاهرة التي تُلبَس عادة وليس فيها ما يدعو للفتنة بها وما يُشْبِه ذلك من الأمور التى لا غِنَىَ للمرأة عن إظهارها أثناء تعامُلاتها.. ".. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ.." أيْ وعليهنَّ أنْ يَضْرِبْنَ أيْ يَضَعْنَ بإحْكامٍ بخُمُرِهنَّ – جَمْع خِمَار وهو ما تَخْمر أيْ ما تُغَطّى وتَسْتُر به المرأة شَعْر رأسها وأذنها وعُنُقها – علي جيوبهنّ جَمْع جَيْب وهو فتحة فى أعلى الثوب يَظهر منها بعض صَدْر المرأة وعنقها والمقصود أنْ يُغَطّين بخُمُرِهِنَّ جُيُوبهنَّ بحيث لا يَظهر شيءٌ من صُدُورِهِنَّ ليَكْمل بذلك سَتْرهنَّ فلا يَطّلع أحدٌ من الأجانب عنها على شىءٍ منها.. ".. وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ.." أيْ ولا يُظْهِرْنَ زينتهنَّ الخَفِيَّة لأحدٍ وهى ما عدا الوجه والكَفّيْن كشَعْرِ الرأس والذراعَيْن والساقَيْن إلا لبُعُولتهنَّ، والبُعُولَة جَمْع بَعْل وهو الزوج، أيْ لأزواجهنّ حيث كل جِسْم الزوجة حلال لزوجها، وبعض زينتهنّ التي تَعْتاد النساء إظهارها في بيوتهنّ كالوجه والعُنُق والشعْر واليديْن والساعِدَيْن والساقين حتي الركبتين والعقد في الرقبة وزينة الأذن وملابس المنزل المُعْتَدِلَة ونحو ذلك يُباحُ رؤيته للمَحارِم الذين لا يَحِلّ للمرأة الزواج بواحدٍ منهم وقد جَرَت العادة باحتياج النساء إلى مُخالَطَتِهم وعادة تكون الفتنة مَأْمُونَة بالنسبة لهم لأنه من طبيعة النفوس الكريمة السليمة أنها تَأْنَف من التّطَلّع إلى المَحارِم بالنسبة لها – ويلْحَق بهؤلاء المَحارم الأعمام والأخوال والمَحارم من الرضاع والأصول وإنْ علوا والفروع وإنْ سفلوا – كآبائهنّ أو آباء أزواجهنّ أو أبنائهنّ أو أبناء أزواجهنّ من غيرهنّ أو إخوانهنّ أو أبناء إخوانهنّ أو أبناء أخواتهنّ، وكذلك لنسائهنّ أيْ يجوز للنساء أن يَنظر بعضهنّ إلى بعضٍ مُطْلَقَاً لكنْ عند بعض العلماء يُحْتَمَل أنَّ الإضافة تقتضي التخصيص أيْ نسائهنّ المسلمات لا الكافرات حتي لا تَصِفهنّ لرجالهنّ فقد يُؤذينهنّ فإنهنّ لا يَمْنَعهنّ من ذلك مانِع لكن المسلمة تعلم أنَّ ذلك حرام فلا تفعله، أو ما مَلَكَتْ إيمانهنّ أيْ مَا امْتَلَكْنَ في أيديهنّ مِن الإمَاء – جَمْع أَمَة وهي العَبْد من النساء – لا من العَبِيد الذكور البالغين إذا كُنَّ في زمنٍ فيه عَبِيد مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب، أو التابعين غير أولي الإرْبَة من الرجال أيْ الرجال الذين يتبعون أبواب بيوت الناس يَتَرَدَّدُون علي بيوتهم وفيها نساء طَلَبَاً لإحسانهم ولخدماتهم أو يعيش بعضهم في بيوتٍ فيها نساء وهم غير أصحاب الإربة أيْ الحاجة للنساء أيْ لا شهوة عندهم لهنّ كالمَعْتُوه مثلا أيْ ناقص العقل الذي لا يَدْرِي مثل هذه الأمور وككبير السِّنِّ الذي لم يَعُدْ له شهوة لا في عقله ولا في فَرْجِه وكالمصاب بمرضٍ يَمْنَعه من إتْيان النساء ومَن شابههم وذلك السماح لهنّ بإبْداء بعض زينتهنّ أمام أمثال هؤلاء هو لرَفْع المَشَقّة عنهنّ مع السلامة الغالبة من حُدُوث الشهوة وآثارها المُحَرَّمَة مِن الجانبين في مِثْل هذه المواقف، أو الطفل الذين لم يَظهروا علي عَوْرات النساء أيْ الأطفال – والطفل في اللغة العربية يشمل المفرد والجَمْع – الذين لم يَطّلِعُوا على عورات النساء أىْ الصغار غير المُمَيِّزين الذين لم يعرفوا ما العَوْرَة ولم يستطيعوا بَعْد التمييز بينها وبين غيرها ولم يَبْلُغوا السِّنَّ التى يَشتهون فيها النساء.. ".. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ.." أيْ ولا يَخْبِطن الأرض بأرجلهنّ بطريقةٍ فيها اهتزاز وتَمَايُل في مشْيَتِهِنّ ليُعْرَف للرجال مَا يَسْتُرْنَ ولا يُظْهِرْنَ من زينةِ جَسَدهنَّ وحُلِيِّهنَّ فيَنْجَذِبُون لهنَّ ويُفْتَنون بهِنَّ فتُثار بذلك الشهوات وتَقَع الأضرار والتعاسات في الداريْن، والمقصود إرْشادهنَّ للامتناع تماما عن كل ما يُثير الفِتَن والشهوات كالمشْيَة والحركة المُتَكَلّفة المُثيرة المُظْهِرَة للزينة وكالتّعَطّر والكلام والصوت المُلْفِت للنظر وما شابه هذا وعليهنّ أنْ يَلْتَزِمْنَ عند خروجهنّ من بيوتهنّ الأدب والاحتشام والمَشْى بوقارٍ واتّزان.. ".. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ.." أيْ وارْجعوا وعودوا إلي طاعة الله جميعا أيها المؤمنون، والمؤمنون هم المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك، ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة، فكلكم يحتاج للتوبة عند خَطَئِه فكل ابن آدم خَطّاء وخير الخطّائين التّوَابُون كما قال رسولكم الكريم (ص) وإذا لم يُخْطيء فلا يَكاد يَخْلُو أحدٌ أحياناً من بعض غفلةٍ عن فِعْل خيرٍ مَا أو بعض تقصيرٍ فيه يحتاج لتوبةٍ فلا تتركوا التوبة في كلّ حال فهي مَحْوٌ للذنوب وزيادة للثواب، فعُودوا مِن كلّ شرٍّ أوّلا بأوَّل بالتوبة وهي الاستغفار باللسان والندم بداخل العقل والعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ ورَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، لكي تعود لكم سعادتكم التامّة بإسلامكم وخيره من غير أيّ تعكيرٍ بأيّ تعاسةٍ بسبب أيّ شرّ (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. ".. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)" أيْ لعلكم بذلك تكونوا من المُفْلِحِين أيْ الناجحين الفائزين الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أيْ لكي تُفلحوا فيهما.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك دائما من المؤمنين التائبين الشاكرين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يَحْرِصُون علي الزواج وتَيْسِيره لأنفسهم ولغيرهم والذي هو مِن النّعَم المُسْعِدَة للفرد وللمجتمع
هذا، ومعني "وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)" أيْ هذا إرشادٌ من الإسلام للعلاج الحاسِم البَديل للزنا بأضراره وتعاساته علي الفرد والمجتمع في الداريْن والتي سَبَقَ ذِكْرها في الآيات السابقة وللعَوْن علي غَضِّ الأبصار وتَجَنّب أضرار تَرْكه وهو تَيْسير الزواج والحَثّ عليه والذي به تنتشر العِفّة في المجتمع ويتحقّق الاستقرار والعلاقات الأُسَرِيَّة والعائلية والاجتماعية الطيِّبَة المُسْعِدَة وتَتَرَبَّي الأجيال في مناخٍ كله حبّ وحوار وتعاون في إطار أخلاقِيَّات الإسلام فيَقْوَيَ الجميع ويَسعدون في دنياهم وأخراهم.. أيْ وأنْكِحُوا أيْ وزَوِّجُوا ويَسِّرُوا زواج الآيامَيَ منكم أيها المسلمون جَمْع أيِّم وهو كلّ مَن ليس مُتَزَوِّجَاً سواء أكان رجلا أم امرأة، وهذا دعوة من الإسلام لنَشْر الزواج وتشجيعه وتَيْسير أسبابه وعدم تَعْسِيرها بصورةٍ فرديةٍ وجماعيةٍ من خلال مؤسسات الدولة لمَن لا يستطيعه من الأفراد.. ".. وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ.." أيْ وأيضا زَوِّجُوا ويَسِّروا زواج الصالحين للزواج من حيث السِّنِّ والصِّحَّة وتَحَمُّل المسئولية وصلاح الأخلاق بحيث يحافظون علي أُسَرِهم ونحو هذا من عبادكم جَمْع عَبْد أيْ عبيدكم الذكور وإمائكم جَمْع أَمَة وهي العَبْدَة من النساء، إذا كُنتم في زمنٍ فيه عَبِيد مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب، فعَلَيَ مَن يَمتلكهم أنْ يُسَهِّل لهم زواجهم حتي يَعُمَّ خير الزواج وسعاداته جميع أفراد المجتمع.. ".. إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.." أيْ إنْ يكونوا هؤلاء الراغِبون في الزواج غير أغنياء فلا يَمنعهم فقرهم من إقبالهم عليه وإحسان اتّخاذ الأسباب للوصول إليه ليُحَقّقوا أهدافه التي طَلَبَها منهم سبحانه وهي التّمَتّع بالحلال المُسْعِد والامتناع عن الحرام المُتْعِس الذي هو الزنا والحِفاظ علي النسل لإعمار الحياة والانتفاع والسعادة بها، وذلك لأنَّ الله الغنيّ القادر الكريم حتماً سيُغْنيهم حينما يبدأون بالأسباب أيْ سيَجعلهم أغنياء غير مُحتاجين وقادِرين عليه عاجِلَاً أو آجِلَاً تدريجياً مع الوقت بوسائل وأبواب رزقٍ كثيرةٍ لا تُحْصَيَ يُيَسِّرها لهم من فضله أيْ من عطائه وإحسانه الزائد إليهم وتوفيقه وتَيْسيره الذي هو بلا حسابٍ ويَلْمَسه الجميع واقعياً كل لحظات حياتهم وذلك حينما يشاء أيْ عندما يريد وإرادته تكون لَمَّا يَرَيَ بحِكْمته وعِلْمه الإغناء مُحَقّقَاً مصلحتهم وسعادتهم في الداريْن هم وغيرهم لا ضَرَرهم وتعاستهم فيهما فيُغنيهم في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُسْعِدَاً للجميع، وهذا وَعْدٌ لا يُمْكِن أنْ يُخْلَف مُطلقاً وتَبْشِيرٌ منه وهو الخالق الكريم الودود الرزّاق الوَهَّاب لكلِّ فقيرٍ بالغِنَيَ حينما يُحْسِن اتّخاذ كل أسباب الرزق المُمْكِنَة المُسْتَطَاعَة المُتَاحَة المُبَاحَة ويُحْسِن الاستعانة به والتوكّل عليه ودعاءه وشكره حيث سيُيَسِّر له سبحانه حتماً أموره ويُوَفّقه ويُسَدِّد خُطاه وبالتالي يُمكنه تحقيق الزواج وغيره من احتياجات وأهداف حياته فيَسعد بذلك في دنياه وأخراه، وقد أكَّدَ ذلك الرسول (ص) بقوله "ثلاثةٌ حقٌّ على اللَّهِ عونُهُم: المُجاهدُ في سبيل اللَّه، والمُكاتِبُ الَّذي يريدُ الأداء، والنَّاكِحُ الَّذي يريدُ العفافَ" (أخرجه الترمذي وغيره).. ".. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)" أيْ وهذا الذي تَفَضَّلَ به عليهم هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ واسع أيْ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. إنه عليم بمَن يَسْتَحِقّ كل ذلك الفضل العظيم وأحسن اتّخاذ أسباب الوصول إليه.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. واطمَئِنّوا واسعدوا واحمدوا ربكم علي فضله ليزيدكم منه ولا تَغْتَرُّوا أو تَتَعَالوا علي الآخرين به فيَمنعه عنكم
ومعني "وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)" أيْ وعلي الذين لا يَجِدُون زواجاً أيْ لا يستطيعونه، لسببٍ من الأسباب، أنْ يَسْتَعْفِفوا أيْ يَطلبوا العِفّة أيْ يَتَعَفّفوا عَمَّا حَرَّمَ الله تعالي – والسين والتاء لبيان شِدَّة الطلَب لها وللمُبالَغَة فيها – أيْ أنْ يَتَجَنّبُوا تماماً ويَمتنعوا ويَتَرَفّعوا تَرَفّعَاً شديداً عن كلِّ سُوءٍ وشَرٍّ وفسادٍ يَضُرُّهم ويُتْعِسهم في الداريْن كالنظر بشهوةٍ للنساء أو الزنا أو ما شابه ذلك من شرور، وذلك بأنْ يجتهدوا حتي يَتَزَوَّجُوا في تقوية إرادة عقولهم بالصوم وبالانشغال بما هو مُفيد نافع كالعمل والإنتاج والعلم والرياضة ونحو هذا مع التواجُد دائماً مَا أمْكَنَ وَسطَ صُحْبَةٍ صالحةٍ تُعين علي كل خيرٍ وتَمْنَع من أيِّ شرّ.. ".. حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.." أيْ وعليهم أن يستمرّوا علي ذلك إلي أنْ يجعلهم الله أغنياء قادرين علي الزواج من عطائه وإحسانه الزائد إليهم حينما يُحْسِنون مَا أمكنهم من أسبابه فيُيَسِّرها لهم ويُسَدِّد خُطاهم نحوها، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي وَعْدِه سبحانه الذي سَبَقَ ذِكْره لأمثالهم والذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً (برجاء مراجعة الآية السابقة ".. إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.."، للشرح والتفصيل).. ".. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا.." أيْ هذا بيانٌ لبعض وسائل الإسلام للقضاء علي ظاهرة وجود العبيد حينما تنشأ في مجتمعٍ مَا حيث حرية الإنسان التي لا تَضُرّ الآخرين أصلٌ من أصول الإسلام التي أعطاها له والتي بها تَسعد حياته حيث يَنْطَلِق فيها يعرف ربه ويستكشفها وينتفع بخيراتها إذ خَلَقَه خَالِقه لذلك وبدونها يَتْعَس، ثم الحرية للعبيد ستكون سَبَبَاً في تيسير زواجهم فيَعُمَّ خير الزواج وسعاداته أغلب أفراد المجتمع.. أيْ والذين يطلبون راغبين الكتاب مِن مَا امْتلكتموه بأيديكم من العبيد أيها المَالِكُون لهم أي يطلبون الكتابَ لعَقْدٍ بينهم وبينكم أن يشتروا حُرَّيتهم بمبلغٍ من المال يُسَدِّدُونه لكم علي أقساطٍ تَتّفِقون عليها، فكاتبوهم أيْ فاعْقِدُوا معهم هذا العَقْد واستجيبوا لطَلَبهم ولا تَرْفضوه، وذلك بشرط إنْ علمتم فيهم خيراً أيْ صلاحاً في خُلُقِهم وقدرةً علي العمل والكسب للوفاء بعَقْدهم الذي عَقَدُوه ونحو ذلك بحيث يمكنهم سداد ما عليهم ولا يُؤذون الناس بأن يكونوا عالة عليهم أو بفسادهم أو ما شابه هذا.. ".. وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ.." أيْ وأعطوهم من مال الله الذي أعطاكم إيَّاه بمعني أعينوهم أيها المَالِكُون لهم والناس عموماً علي نِعْمَة التّحَرُّر من عبوديتهم والوفاء بسَداد ما تَعاقدوا عليه بإعطائهم مثلا بعضاً من مال الزكاة أو الصدقة أو بإسقاط بعض الأقساط عنهم أو نحو هذا لأنهم مُحتاجون للعَوْن، وتَذَكّروا أنَّ المال أصْلاً مال الله تعالي وما عندكم فمِن فضله وكرمه وإحسانه فكما أحسنَ إليكم فأحسنوا لغيركم ليَأجُرَكم ويزيدكم في الداريْن.. ".. وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ ولا تُجْبِرُوا عَبْدَاتكم علي الزنا – ولفظ فتاة هو من باب تكريم الإسلام لهنَّ – وهُنَّ يُرِدْنَ تَحَصُّنَاً أيْ تَعَفّفَاً أيْ التّحَصُّنَ منه أيْ الوقاية منه والامتناع عنه أيْ العَفاف، لكي تَبْتَغوا أيْ تَطلبوا وتُريدوا راغبين ثمناً عارِضَاً أيْ زائلاً يوماً مَا من أثمان الحياة الدنيا الرخيصة كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فكيف يَحْدُث ذلك منكم أن تَرْفضوا أنتم العِفّة وتكونوا بلا كرامةٍ هكذا وتقوموا بإكراهِهِنَّ علي غيرها وهُنَّ اللاتي يُرِدْنها ويَحْرِصْنَ عليها؟! وفي هذا غاية التشنيع لفِعْلهم القبيح الحَقير لعلهم بذلك ينتهون عنه.. ".. وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)" أيْ ومَن يُجْبِرْهُنَّ عليه فإنَّ الله من بعد إجبارهِنَّ غفور رحيم لهنَّ لأنَّ المُكْرَه لا يُؤَاخَذ بما يُكْرَه عليه بل يَغفره الله له لعُذْره بالإكراه، وهذا طمأنة لهنَّ، والمُكْرَهَة رغم أنها غير آثمة لكنها تحتاج لمغفرة ورحمة الله تعالي لأنها ربما لم تَخْل تماماً من شائبة مُطَاوَعَة إما بحُكْم الخِلْقَة البَشَرِيَّة أو يكون الإكراه قاصِرَاً عن حَدِّ الإلجاء المُزيل للاختيار، والله غفور رحيم أيضا لِمَنْ تاب مِمَّن أكرهنّ، والتوبة تكون بالندم بالعقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة وبالاستغفار باللسان وَبِرَدِّ الحقوق إلي أصحابها إنْ كان الذنب في حقّ آخرين، فهو تعالي حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ غفورٌ أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيعٌ للمُسِيئين وللناس جميعاً علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)" أيْ ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس من خلال ما أوْحَيْناه لرسولنا الكريم آياتٍ مُبَيِّناتٍ أيْ دلالاتٍ مُوَضِّحاتٍ قاطِعاتٍ دامِغاتٍ تُثبت صِدْقه وأنه مُرْسَلٌ من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّده لتَثِقوا به وتَتّبعوه أم آيات في الكوْن حولكم أرشدكم إليها لتَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربكم أم آيات في القرآن العظيم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليكم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.." أيْ وأنزلنا إليكم أيضا فيها أمثلة من الذين مَضوا وذهبوا مِن قبل زمانكم أيها المسلمون الحالِيُّون لتنتفعوا بالتاريخ السابق وبما فيه من دروس وعِبَر، فما فيه من خيرٍ فَعَلْتُم مِثْله بما يُناسبكم وازددتم منه وطوَّرتموه وسَعِدتم به في الداريْن، وما فيه من شرٍّ تجنّبتموه تماما فلا تَتْعَسون به فيهما مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروساً وعظات وخبرات هائلة يمكنكم تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة.. ".. وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)" أيْ وجعلناها تَذْكِرَةً للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الإرشادات والعِبَر، أمّا غيرهم فلا يَنتفعون بها، أيْ لا يَسْتَرْشِد ويَنتفع ويَسعد بها تمام الاسترشاد والانتفاع والسعادة إلا فقط المُتّقون – رغم أنها لعموم الناس – حيث هم الذين سيَتَّعِظون بما فيها وسيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون وسيَعملون وسيَلتزمون بها في كل شئون حياتهم، والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله و كالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون غيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم
ومعني "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)" أيْ الله تعالي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه نور السماوات والأرض حِسِّيَّاٍ ومَعْنَوِيَّاً، لهما ولكل ما فيهما ومَن عليهما، فهو تعالي بكمال قُدْرَته وتمام عِلْمه يُنيرهما حِسِّيَّاً بأشعة الشمس وبالقمر وبالنجوم وبغيرها من وسائل الإنارة المختلفة المُتَعَدِّدَة بما وَضَعه مِن قُدْراتٍ في مخلوقاته وكذلك مَعْنَوِيَّاً هو تعالي بآياته في كُتُبه وآخرها القرآن العظيم يُنير لعقول البَشَر طريقهم في الحياة ولولا هذه الإنارة – إضافة لفطرة الخير بعقلهم – لَمَا أمكنهم التمييز بين الخير والشرِّ والصواب والخطأ وذلك حتي يَصْلُحُوا ويَكْمُلُوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فهو يُنير لهم الطريق للإيمان به وللعمل بكل أخلاق الإسلام حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف فهو يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه أيْ يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.." أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ مَثَل نورِهِ أيْ صِفَة نور الله تعالي العجيبة الشأن في إنارة قلب المؤمن، أيْ صِفَة نور الإيمان ونور القرآن بما فيه من إسلامٍ وأدِلّةٍ عقليةٍ مَنْطِقِيَّةٍ واضِحَةٍ قاطِعَةٍ حاسِمَةٍ والذي يَهْدِي أيْ يُرْشِد به سبحانه عقل المؤمن لكلِّ خيرٍ وسعادةٍ بالداريْن، أيْ صفة نوره من حيث شِدَّة وقوَّة وتمام تأثيره العجيب العظيم الشديد المُسْعِد علي العقل المُنْصِف العادِل فيَجعل الإنسان يُؤْمِن أيْ يُصَدِّق بخالِقه ويعمل بإسلامه ويَطمئنّ ويَسعد بذلك، صِفَة هذا النور وشَبَهه كمشكاةٍ أيْ كصفةِ مشكاةٍ أيْ كفجوةٍ في حائطٍ غير نافذةٍ فيه، فيها مصباح بداخلها، وحينما توجد إضاءة في تجويفٍ مَا تكون أكثر تَجَمُّعَاً وأقلّ تَشَتُّتَاً وأشدّ إنارة، وهذا المصباح قد وُضِعَ في زجاجة أيْ قارورة مِن زُجَاج، وهذه الزجاجة كأنها كوكبٌ دُرِّيٌّ أيْ لُؤْلُئِيٌّ أيْ لامِعٌ مُتَلَأْلِيءٌ مُضِيء مِثْل اللؤلؤ – نِسْبَة إلي الدُّرِّ وهو اللؤلؤ – من شِدَّة إنارتها وصفائها ونقائها وجمالها، وهذا المصباح يُوقَد أيْ يَسْتَمِدّ وقود إشْعاله الذي يُشعله لكي يُنير من زيتِ شجرةٍ مباركةٍ أيْ كثيرة دائمة الخيرِ أيْ كلها بَرَكَة أيْ زيادة دائمة في كلّ خيرٍ ونفع من حيث الطعام والتجارة والتداوي ونحو ذلك كما أنها تُذَكّر بأرض الشام إذ معظم زراعتها هناك والتي فيها عاشَ كثيرٌ من الرسل ونَزَلَ عليهم وَحْي الله بالإسلام في كُتُبه ليكون مَنَارَة لتعليم البَشَرِيَّة عبادة الله تعالي وحده والعمل بأخلاق إسلامها لإسعادها في دنياها وأخراها وبالتالي فهي مُبَارَكَة لأنها تُذَكّر بكل هذا الخير، زيتونةٍ أىْ هى شجرة الزيتون.. ".. لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ.." أيْ ومن الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة لهذه الشجرة أيضا أنها ليست شرقية فقط بمعني ليست في مكانٍ لا تُصيبها الشمس فيه إلا عند الشروق ولا غربية فقط لا تصيبها إلا عند الغروب بل هي شرقية وغربية أيْ بمكانٍ تُصيبها الشمس باعتدالٍ في كل أوقات وجودها ومن جميع الاتجاهات ليكون ذلك أَنْضَر لها وأجْوَد لزيتونها وزيتها، كذلك من المعاني أنها في مكانٍ مُعْتَدِلٍ مُتَوَسِّطِ الحرارة فهي ليست في شرق الأرض الحارّ فيضرّها الحَرّ ولا في غربها البارد فيضرّها البَرْد فيكون ذلك أجود لثمرها، وأيضاً من المعاني أنها ليست شرقية ناحية شرق الأرض ولا غربية ناحية غربها بل هي في الوسط بينهما والمقصود أرض الشام بما يُفيد عظيم جَوْدتها لأنَّ المعروف أنَّ أجْوَدَ أشجار الزيتون بالشام.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ المعني الضِّمْنِيّ هو أنَّ نور الله تعالي لا يُمكن أنْ يَنْحَرِف بمَن يَسِير فيه ويَهْتَدي به لا إلي أفكارٍ شرقيةٍ ولا غربيةٍ مُخَالِفَةٍ للإسلام بل إضاءته دائما مستقيمة تمام الاستقامة علي الطريق المستقيم المُوصِل لسعادتيّ الدنيا والآخرة.. ".. يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.." أيْ ومن الصفات الطيِّبَة الحَسَنَة لهذه الشجرة أيضا أنه يُقارِبُ زيتها يُضِيء أيْ يَقْتَرِب ويُوشِك مِن شِدَّة صَفائه ونَقائه ولَأْلَأَتِه ولَمَعَانه وجَوْدته ونَفَاسَته يُنير من ذاته حتي ولو لم تَمْسَسْه نارٌ لتُشْعله ليُضِيء فإذا مَسَّته النار واشْتَعل ازداد شِدَّةً في إنارته.. ".. نُورٌ عَلَى نُورٍ.." أيْ هو نورٌ فوق نورٍ، نورٌ مِن إشراق الزيت الصافي على نورٍ مِن إشعال النار تَضَاعَف بلَمَعَان الزجاجة التي كأنها كوكبٌ دُرِّيٌّ وتَجَمَّع بالمِشكاة، فهو نورٌ عظيمٌ مُتَضَاعِفٌ.. إنَّ مَا ذُكِرَ سابقاً هو تَشْبِيهٌ لنور الله تعالي الذي لا يُوصَف المُتَضَاعِف العظيم الشديد التأثير في إنارته للعقول حيث يُضِيء به عقل الإنسان المُنْصِف العادِل الذي يُحْسِن التفكير ويستجيب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا وللأدِلّة القاطِعَة علي وجود ربه والموجودة بكل كَوْنه في كل مخلوقاته المُبْهِرَة المُعْجِزَة فيُؤمِن به ويعمل بأخلاق الإسلام التي في كتبه وآخرها القرآن العظيم فحينها يُعطيه الله أنواره ويزيده منها فوق نور عقله الذي أحسنَ استخدامه وذلك في مُقابِل أنه قد بدأ هو أولا بالاستجابة فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أن يعمل بكل أخلاق الإسلام فيكون ذلك نوراً علي نورٍ فيحيا بالتالي حياة مُسْتَنِيرَة كلها نور علي نورٍ أيْ كلها سعادة علي سعادة أيْ سعيدة تمام السعادة في دنياه ثم أخراه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (17) من سورة محمد "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ.." أيْ مَن يَشاء من الناس الهداية لنور الله أيْ لنور الإيمان به أيْ لنور القرآن والإسلام أيْ للطريق المستقيم، أيْ للطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، أيْ لطريق الله والإسلام، أيْ لطريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، يَهْدِيه الله أيْ سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ.." أيْ ويَذْكُر ويُبَيِّن الله التوْضيحات والتشبيهات في القرآن الكريم للناس عن أحوالهم في كل شئون حياتهم بما يُرْشِدهم طوالها لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وذلك مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يَسْهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)" أيْ والله حتماً بكلِّ شيءٍ في كوْنه وخَلْقه عليمٌ تمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه ولذلك أرسل إليكم هذا الرسول الكريم (ص) وهذا القرآن العظيم وهذا الإسلام الحَنِيف أي البعيد عن أيّ باطل لأنه الأعلم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فتَمَسّكوا واعْمَلوا بهم تمام التمسّك والعمل ليَتحَقّق لكم ذلك تماما وبكلّ تأكيد.. كذلك يعلم بتمام العلم كل أقوالكم وأفعالكم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانكم ودواخل كل الأمور فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل الخَلْق والكَوْن، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فهو سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن عُمَّار المساجد الذين يبنونها ويشاركون في بنائها ويُصَلّون ويَذْكُرون ربهم فيها ويَتَعَلّمون العلم ويُعَلّمونه بها ويَخدمون عموم الناس من خلالها ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة، فالمساجد هي بيوت الله تعالي في أرضه وهي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين فهي من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم
هذا، ومعني "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36)"، "رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)"، "لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)" أيْ هذا بيانٌ لأكثر الأماكن التي يُوجَد فيها نُوُره سبحانه للتشجيع علي التواجُد فيها لِنَيْلِه للسعادة به في الداريْن وبيانٌ لأكثر الناس انتفاعَاً وسعادة بهذا النور فيهما ليكون الجميع كذلك مِثْلهم.. أيْ هذا النور يكون في بيوتٍ أيْ مساجد أَمَرَ ووَصَّيَ الله أنْ تُرْفع أيْ تُقامَ وتُبْنَيَ وتُعْلَيَ مَكانتها فتُعَظّم وتُعَمَّر وتُكْرَم وتُحْتَرَم ويُتَأَدَّب فيها وتُصان من كلِّ سُوءٍ لأنها بيوت الخالق العظيم سبحانه وفيها نُوُره، وأمَرَ ووَصَّيَ أيضاً أنْ يُذْكَر فيها اسمه بكل أنواع الأذكار والعلوم والمنافع وأن يُسَبِّح له فيها المُسَبِّحُون بكلّ أسمائه وصفاته أيْ يُقَدِّسُونه ويُعَظّمونه ويُنَزّهونه أيْ يُبْعِدونه عن كل صفةٍ لا تَلِيق به فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ ويُصَلّون له فيها لأنّ مِن معاني التسبيح الصلاة لِمَا بها من تسبيحٍ وتكبيرٍ وحَمْدٍ ودعاءٍ وقراءةٍ للقرآن، بالغُدُوِّ والآصال أيْ بأوائل النهار وأواخره أيْ اذكروه وصَلّوا له واعبدوه وافْعَلوا كل خيرٍ في كل الأوقات، في كل لحظات حياتكم، حين الصباح والمساء وفي كل وقت، لتَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياكم وأخراكم.. هذا، وتخصيص الله تعالي للصباح والمساء لأهمية الذكر في هذه الأوقات من أجل التجهيز والاستعداد لليوم صباحاً بالاستعانة به سبحانه ثم مساءً للمراجعة وللاستغفار ممَّا قد يكون حَدَثَ فيه من أخطاءٍ فيكون اليوم كله سعيداً رابِحَاً في الداريْن، ثم كلّ الأيام، ثم بالتالي كلّ الحياة.. "رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)" أيْ يُسَبِّحُ لله في هذه المساجد بالغُدُوِّ والآصال رجالٌ من صفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة والتي علي كلِّ مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم لا تشغلهم تجارةٌ مهما عظمت ولا يشغلهم بيعٌ مهما عظم ومهما كان رِبْحه واحتياجهم إليه عن ذكر الله أىْ عن أن يكونوا أثناء كل ذلك دائما من الذاكرين الله كثيرا في كل أحوالهم طوال يومهم باستحضار نوايا حَسَنَة داخل عقولهم (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة) أو عن أن يكونوا أثناءها ودَوْماً في طاعةٍ لله فيَقَعُوا في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار، ولا تشغلهم أيضا هذه التجارات والبيوع عن إقام الصلاة أيْ إقامتها أيْ المُوَاظَبَة علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وتأديتها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنُوها ويُتْقِنُوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المَخْلُوق وخالِقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، والمقصود من إقامة الصلاة هو إقامة شعائر الله كلها أيْ مَعَالِم دين الله الإسلام، والشعائر مأخوذة مِن شَعَرَ أيْ عَلِمَ وفَطِنَ وأَحَسَّ، وقد شَرَعَها سبحانه لمصلحة الناس ولسعادتهم، إذ هي تُحَرِّك المشاعِر الإنسانية في العقول فتَدْفعها لحُسْن التعامُل، كالصلاة والذكر وقراءة القرآن والصدقة والعمرة ونحوها، فهي ليست مطلوبة لذاتها وفقط بمعني إحسانها والاكتفاء بذلك كما يفعل البعض وإنما للانتفاع بثمارها ونتائجها حيث تَدْفَع مَن يَحْرِص عليها ويُتْقِنها دَفْعَاً قوياً سَهْلاً مُحَبَّبَاً للتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام كالإنفاق في الخير والصدق والأمانة والوفاء والإتقان والتعاون والتسامح والعلم والعمل والإنتاج ونحو ذلك مِمَّا يُسْعِد البشرية كلها في الداريْن.. وإيتاء الزكاة أيْ وإعطاء الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال فهم دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمُعاملات.. ".. يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)" أيْ ومِن صِفاتهم الطيِّبَة الحَسَنَة كذلك والتي علي كلِّ مسلمٍ أن يَتَّصِفَ ويعمل بها ليسعد في الداريْن أنهم يخافون يوماً هائلاً فظيعاً علي المُسِيئين فلا يُريدون التّشَبُّه بهم ولذلك يُحْسِنون، هو يوم القيامة الذى تَتَقَلّب فيه القلوب أيْ تضطرب وتَتَحَرَّك وتَتَغَيَّر وتَتَحَوَّل وتَنْتَقِل من حالٍ لآخرٍ بشِدَّةٍ فَزَعَاً وتَتَقَلّب فيه الأبصار أيْ تَتَلَفّت بكثرةٍ وبشِدَّةٍ حَيْرَةً، تَقَلّبَاً شديداً فلا تَثْبُت، من شِدَّة الخوف (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (60) من سورة "المؤمنون" "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ"، والآية (42) من سورة إبراهيم "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. "لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)" أيْ يفعلون ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره لكي يَجْزيهم الله أي يُكافِأهم ويُعطيهم أعظم العطاء في دنياهم وأخراهم بأحسن ما عملوا أيْ بجزاءٍ أحسن وأعظم وأكرم وأفضل كثيراً وكثيراً مِن عملهم الذي كانوا يعملونه في دنياهم، فهو سبحانه بكرمه ورحمته ووُدِّه يُضاعِف يوم القيامة جزاءَ الأعمال الحَسَنَة أضعافاً مُضَاعَفة، بل ويمحو تماما ما بينها من سيئات ويعفو عنها، بل ويَتخَيَّر أحسنها وأفضلها وأعظمها في الأجر ويرفع لدرجة ثوابها الأعمال الأخري الأقل حُسنا فيُثيب فاعلها عليها كأنها هي أيضا كانت أحسن وأفضل وأعظم! وما شابه هذا من صور كرمه وسخائه وعطائه الدائم الذي لا ينقطع، وكل ذلك بالقطع هو إضافة لأسعد حياة دنيوية لهم كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصِّدْق "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97) (برجاء مراجعة تفسيرها لمزيدٍ من الشرح والتفصيل ولتكتمل المعاني).. وأيضاً يفعلون ذلك الذي سَبَقَ ذِكْره لكي يزيدهم من فضله حيث هو سبحانه الكريم العظيم مالِك المُلْك كله لا يَكتفِي بهذا بل يَزيدهم من عطائه وإحسانه الزائد في دنياهم وأخراهم بما لا يتوقّعونه من أضعافٍ مُضاعَفَة من الأفضال والخيرات والتيسيرات والسعادات بما هو بزيادةٍ كثيرةٍ عن الجزاء المُقابِل لأعمالهم والذي وَعَدَهم به وبما هو أكثر مِمَّا يَسْتَحِقّون بما يَلِيق بكرمه سبحانه.. ".. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ.." أيْ والله تعالي كما أنه هو وحده الخالِق للكوْن وللخَلْق فهو أيضا وحده الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه، إنه يُعِين بكل العَوْن مَن يستعين به، ويُيَسِّر له الأسباب، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقه يُعينوه علي ما يريد تحقيقه، إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه، حتي ولو كان كافرا! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات، فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم حيث هو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله، ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا (برجاء مراجعة أيضا الآية (26) من سورة الرعد، لمزيد من الشرح والتفصيل)، فالرزق ليس مالا فقط، وإنما إضافة للمال، الصحة والعافية والأمن والأمان وراحة البال والمَأكل والمَشرب والمَلْبَس والمَرْكَب والمَسْكَن الطيِّب الهنيء والأسرة والأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء الأمناء الصالحين الخَيِّرِين وبالجملة كل ما يُسْعِد الإنسان ومَن حوله في الداريْن.. ".. بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)" أيْ هذه الأرزاق، في الدنيا، وفي الآخرة بما لا يُوصَف ولا يُقَارَن لمَن يؤمنون بها، تكون بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ ولا يُمكن أبداً حِسابها وحَصرها وتقديرها فهي هائلة عظيمة وفيرة لا يُمكن لأحدٍ أن يَتَخَيَّلها أو يعلم مقدارها إلا مَن أعطاها سبحانه الكريم الوَهَّاب، فهو يُعْطِي بلا خشيةٍ من انتهاء العطاء ولا يُحاسبه أيضا أيّ أحدٍ فالأملاك كلها ملكه فهو مالك المُلك كله
ومعني "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)"، "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ وحالُ وشَبَهُ أعمال الذين كفروا بربهم – في مُقابِل أعمال المُحْسِنين السابِق ذِكْرهم وجزائهم الحَسَن الذي لا يُوصَف في الداريْن – أيْ الذين كذّبوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، مِن حيث أنهم في الآخرة لن يجدوا لأعمالهم أيّ أثَرٍ وكأنهم لم يعملوا شيئاً في حياتهم وليس لهم أيّ ثواب بل سيجدون كل شرّ يُناسب مَا يَسْتَحِقّونه لأنَّ أعمالهم معظمها كانت في شَرٍّ لأنهم لم يؤمنوا بآخرةٍ أو حسابٍ أصلاً، وحتي ما فعلوه من خيرٍ فهو غالباً أو دائماً مُرْتَبِط بشَرٍّ مَا كأنْ يفعلوه رياءً للناس أيْ لكي يَروا منهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون به رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون به وبها من الأصل، ولو كانوا فعلوا خيراً مَا صافِيَاً بصِدْقٍ فقد أعطاهم الله في دنياهم بعدله خيراً يُناسبه ويزيد عليه فلا شيءَ لهم إذَن في أخراهم فقد أخذوا حقّهم، فحَالُ أعمالهم لذلك بالتالي كحَالِ سرابٍ بقيعةٍ أيْ كشُعَاعٍ لامِعٍ يُرَيَ كأنه ماءٌ يَجْرِي بأراضٍ مُنْبَسِطَةٍ – والقِيعَة جَمْع قاعٍ وهو الأرض المُنْبَسِطَة المُسْتَوِيَة التي ليس فيها شيء والسرَاب يَحْدُث بها من انعكاس أشعة الشمس عليها ويُطلَق عليه اسم سَرَابٍ لأنه يُشاهَد من بعيدٍ يَتَسَرَّب فوق الأرض كأنه ماءٌ وهو وَهْمٌ ليس بشيء – يَتَوَهَّمه مُخْطِئاً الظمْآن أيْ العَطْشان ماءً يَرْوِي عَطَشَه حتي إذا جاءه أيْ فلمَّا وَصَلَ إليه لم يَجِدْه شيئاً مِمَّا تَوَهَّمه أيْ لم يجده ماءً فصُدِمَ وخابَ أمله في النجاة وتَأكَّد هلاكه فازداد عذاباً وألَمَاً ونَدَمَاً وحَسْرَة، وكذلك سيكون هذا هو حال الكافر إذا جاء يوم القيامة وهو في أشدِّ الاحتياج لعملٍ صالحٍ حين يُحاسَب فيُصْدَم بأنه لن يَجِد له شيئا منه فيَهْلَك بعذاب جهنم.. ".. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ.." أيْ ووجد الله القويّ المُنْتَقِم الجبَّار الذي كان يكفر به واقعاً حقاً عنده أيْ عند ذلك السراب وعند مَجيئه وحَشْره يوم القيامة وعند عمله السيِّءِ الذي حَضَرَ به وليس فيه أيّ عملٍ صالح، وجده عند كل ذلك يَنْتَظِره لِيُفاجِئه بعذابه، فوَفّاه حسابه بالفِعْل أيْ فأعطاه الله حسابه وافياً أيْ عذابه المَحْسُوب المُسْتَحَقّ له جزاء كفره وفِعْله للسوء كاملاً بلا أيِّ نقصانٍ علي قَدْر سُوئه، وفي هذا زيادة تهويل لهذا الموقف الرهيب المُخِيف المُؤْلِم المُتْعِس حيث اجتمعت عليه مُصيبتان: مصيبة أنه لا يجد له أيّ عملٍ صالحٍ ينفعه ومصيبة وجود عذاب مُؤَكّد لا يُوصَف ولا مَهْرَب منه مِمَّن كان يُكَذّب بوجوده سبحانه، فما أسوأ هذه المُفاجأت وهذه المُصيبات وهذه الخَيْبات والتعاسات التي هو فيها.. ".. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ والله تعالي وحده لا غيره لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ بلا بُطْءٍ ولا خطأٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مِثْلَما يَفعل خَلْقه وهو لا يشغله حساب عن حسابٍ ولا عمل عن عملٍ بل حساب الناس جميعاً عنده كحساب النفس الواحدة، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ.. "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)" أيْ هذا مَثَلٌ آخرٌ لأعمال الكفار فكما أنها تُشْبِه السراب كما ذُكِرَ في الآية السابقة فهي أيضا تُشْبِه الظلمات وبما أنَّ أعمالهم كلها ظلمات أيْ كلها شرور ومَفاسد وأضرار تَتَكاثَر وتَتَرَاكَم فحياتهم الدنيوية ثم الأخروية بالتالي حتماً كلها ظلمات أيْ عذابات وتعاسات مُتَرَاكِمَة مُتَكَاثِرَة مُرَكّبَة لا تُوصَف إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يَحْصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. أيْ ومَثَلُ أعمال الكفار وأحوال حياتهم المُظْلِمَة الكئيبة التعِيسَة بالدنيا قبل الآخرة في أنها علي ضلالٍ وشَرٍّ وفسادٍ وحَيْرَةٍ وتَخَبُّطٍ وعذابٍ شديدٍ والتي علي كل عاقلٍ أنْ يَتَجَنّبها تماماً لتكون حياته بالداريْن نوراً علي نورٍ، كمَثَلِ ظلماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ أيْ عميقٍ أسودٍ من شِدَّة عُمْقِه وكثرة مائه، يَغْشاه أيْ يَعْلُوه ويُغَطّيه مَوْجٌ – وهو ما ارتفع من ماء البحر – ومِن فوق المَوْج مَوْجٌ آخرٌ أعليَ وأشَدّ منه والأمواج المُتَرَاكِمَة هذه مُظْلِمَة سوداء بسبب ارتفاعها وهَيَجَانها وتَلاطُمها ومِن فوق كل هذا الموج سحابٌ كثيفٌ مُظْلِمٌ يَمنع الضوء عنه، فهذه ظلماتٌ شديدةٌ مُتَرَاكِمَة بعضها فوق بعض بحيث إذا أخرج يده أحدٌ وهو فيها لم يَقْتَرِب مِنْ أنْ يَراها وهي التي جزءٌ منه وأقْرَب ما يُمْكِنه رؤيته فكيف بغيرها وذلك من شِدَّتها، فهذا هو حال الظلام الشديد المُتَرَاكِم المُتَكَاثِر المُرَكّب الكئيب المُؤْلِم التعيس مِن كفرٍ وبُعْدٍ عن الله والإسلام وشَرٍّ وفسادٍ الذي يعيش فيه كل كافرٍ في دنياه ثم مَا سيكون له مِمَّا هو أعظم منه وأتَمّ وأخْلَد ظلاماً وعذاباً في أخراه، وما كل ذلك إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)" أيْ وأيّ إنسانٍ لم يشأ ويُصَيِّر الله له هداية أيْ إرشادً للإيمان به ولاتّباع الإسلام وبالتالي سعادة تامَّة بالداريْن فليس له أيّ هدايةٍ وسعادةٍ مِن أيِّ أحدٍ غيره تعالي، لأنه وحده هو الذى يَملك مَنْح هذا النور الهادى المُسْعِد، أيْ مَن يَشاء من الناس الهداية لنور الله أيْ لنور الإيمان به أيْ لنور القرآن والإسلام أيْ للطريق المستقيم، أيْ للطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، أيْ لطريق الله والإسلام، أيْ لطريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، يَهْدِيه الله أيْ سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاوِنه عليها وسيُوَفّقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتد فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم أنَّ جميع مَن في السماوات والأرض وما في الكوْن كله يُسَبِّح الله تعالي، أيْ هو يَنْقاد ويَخْضَع لإرادته، أيْ يُؤَدِّي مهمّته التي خَلَقه من أجلها لنفع الإنسان وسعادته، وكل المخلوقات بما فيها مِن عجائب خالِقها تَدْفَع كل عاقلٍ لتسبيحه سبحانه حين يُحْسِن التّدَبُّر فيها وتَدْفَعه لأنْ يَعبده بالقطع وحده دون غيره، كما أنها في ذاتها تُسَبِّحه وتحمده علي نِعَمه عليها، بطريقتها الخاصَّة التي خَلَقها عليها والتي حَوَاسّ البَشَر غير مُؤَهَّلَة لإدراكها.. ".. وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ.." أيْ والطيور أيضا التي تطير في الجَوِّ تُسَبِّح لله وهي صافات أيْ باسِطات أجنحتها أحيانا في الهواء فيظهر حينها ريش الجناح مَصْفُوفا ثم تقبضها أيْ تَضُمّها نحو جسدها أحيانا أخري حتي يمكنها الطيران وهي تطير صافات أيْ في صفوفٍ وما يحفظها في الجَوِّ في حالتيّ البَسْط والقَبْض أثناء طيرانها ويمنعها من سقوطها ويحفظها في كل أحوالها بل وما يحفظ الكوْن كله والخَلْق كلهم إلا الرحمن سبحانه بقُدْرته ورحمته التي وَسِعَت كل شيءٍ مِن بَشَرٍ وطيرٍ وغيره والذى أحْسَنَ كل شيءٍ خَلَقه وسَخَّرَ له وخَلَقَ فيه من رحماته كل ما يُعينه علي الانتفاع بحياته والسعادة فيها من إمكاناتٍ مُعْجِزَات.. هذا، وتخصيص الطير بالذكْر مع أنها ضِمْن مخلوقات السموات والأرض لِمَا فيها من الصنْعَة البديعة حيث تستطيع الطيران أحيانا والمَشْي أحيانا أخري بخلاف غيرها من المخلوقات، وكل خَلْق الله سبحانه مُعْجِزٌ مُبْهِرٌ، كما أنَّ ذِكْر حالتها وهي صافات لأجنحتها دون تحريكٍ أحيانا وتَظلّ تَطير دون سقوطٍ يزيد الأمر إعجازاً وإبهاراً.. ".. كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ.." أيْ كلُّ مَخْلُوقٍ قد عَلِمَ مِن الله تعالي خالِقه كيفية عبادته أيْ طاعته وصلاته وتسبيحه وذِكْره له سبحانه وأدائه لمُهِمَّته في الحياة والتي خَلَقه مِن أجلها، وكل ذلك بكيفية لا يعلمها إلا هو وحده عزَّ وجَلَّ ولا يعلمها البَشَر، وكذلك من المعاني كلّ مخلوقٍ قد علم الله كيف حاله مِن حيث عبادته أيْ طاعته وصلاته وتسبيحه وذِكْره له سبحانه وأدائه لمهمّته في الحياة والتي خَلَقه مِن أجلها.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)" أيْ والله بكل تأكيدٍ عليمٌ تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما يفعلونه ويقولونه كله سِرّه وعلانيته لا يَخْفَيَ عليه شيءٌ وسيُحاسِب البَشَر منهم علي كل قولٍ وفِعْلٍ بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فعليهم أنْ يُحْسِنوا إذَن العمل دائما ويفعلوا كلَّ خيرٍ ويتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم
ومعني "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)" أيْ وهو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)" أيْ ومَصِير الجميع ومَرْجِعهم يوم القيامة إليه وحده لا إلي غيره، وهو أعلم بهم تمام العلم، فيُجَازِي كلاًّ بما يستحقّه، أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، إضافة إلي ما كانوا فيه من تمام الخير والسعادة في دنياهم بسبب إيمانهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم، وأهل الشرّ بما يستحقّونه من شرٍّ وتعاسة علي قدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، إضافة أيضا إلي ما كانوا فيه من تعاسةٍ في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. فليُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. هذا، ومن المعاني أيضا أنه إليه وحده لا إلي غيره المصير أيْ المَرْجِع في الدنيا فهو سبحانه الذي يُرْجَع إليه أمر كلّ شيءٍ ليُبَيِّن حُكمه فيه، أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، من خلال تشريعاته وأنظمته وأخلاقياته التي بَيَّنها وفَصَّلَها للبَشَر في الإسلام الذي أرسله إليهم عن طريق رسله
ومعني "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)"، "يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)"، "وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعجزاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم أنَّ الله يُزْجِي أيْ يُجْرِي ويُسَيِّر ويَسُوُق ويُحَرِّك ويَدْفع برِفْقٍ ويُسْرٍ سَحاباً في السماء إلي حيث يريد بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه ثم يُؤَلّف بينه أيْ يُجَمِّع بينه بعد كَوْنه مُتَفَرِّقَاً ثم يَجعله رُكامَاً أيْ مُتَرَاكِمَاً بعضه فوق بعض فتَرَيَ الوَدْق يخرج من خلاله أيْ فيُؤَدِّي بالتالي هذا الإزْجَاء والتأليف للسحاب أنْ تُشاهِد أيها المُشاهِد الوَدْق أيْ المَطَر المُعْتَدِل النافِع للخَلْق لا الضارّ المُهْلِك يَخرج ويَظهر ويَنْزِل مِن بَيْنِه.. ".. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ.." أيْ والله أحياناً لا يُنَزّل مَطَرَاً مُعْتَادَاً وإنّما بقُدْرَته وعِلْمه يُنَزّل مِن السماء بَرَدَاً كثيراً يُنَزّله مِن جبالٍ فيها أيْ في السماء مُكَوَّنَة مِن بَرَدٍ، والمقصود بالجبال السُّحُب الضَخْمَة كالجبالِ والتي جعلها رُكَامَاً وهي مُكَوَّنة مِن بَرَدٍ لا مِن ماءِ مَطَرٍ عادِيّ، كذلك من المعاني يُنَزّل مِن السماء بَرَدَاً مِن جبالٍ فيها أيْ في الجبال بعض بَرَدٍ حيث مِن تُفيد التبْعِيض أو من نوعِ بَرَدٍ حيث مِن تُفيد بيان جِنْس البَرَد – والبَرَد هو قِطَعُ ثلجٍ صغيرةٍ كالحَصَيَ عبارة عن قطراتِ مَطَرٍ قابَلَت بُرُودَة فتَجَمَّدَت – فيُصِيب به أيْ فيُؤْتِي بهذا البَرَد والمطر بما فيه مِن نِعَمٍ أو أضرارٍ مَن يشاء من الناس نِعَمَه وسعاداته لأنهم يَسْتَحِقّونها لطاعتهم لربهم أو أضراره وتعاساته لاسْتِحْقاقهم إيَّاها لإصرارهم علي معصيته بلا توبة، ويَصْرِفه أيْ يُبْعِده ويُذْهِبه بنِعَمِه أو بأضراره عَمَّن يشاء منهم فلا يُصيبه، وذلك بحسب حِكْمته وعِلْمه وتَقْديره فهو فَعَّالٌ لِمَا يريد لا يمنعه مانع لكي يُحَقّق المصالح والسعادات لمُسْتَحِقّيها أو العقوبات والتعاسات لمَن يَسْتَحِقّها.. ".. يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)" أيْ ويَقْتَرِب ضوء بَرْق السحاب أنْ يزيل ويَخْطف الأبصار التي تَنْظر إليه فلا تَرَيَ من شِدَّة هذا الضوء ولَمَعانه، والبَرْق ضوء شديد يكون أحياناً في السماء للحظاتٍ بسبب احتكاك السُّحُب ببعضها يَتْبَعه غالبا ما يُخيف كالرعد وهو صوتٌ شديدٌ قد يكون معه صَوَاعِق كهربائية تَنْزِل من السماء وتَتَّصِل بالأرض تُرْعِب وتَحْرِق مَن تُصيبه وكذلك معه عَواصِف ورياح شديدة مُدَمِّرَة ونحو ذلك، وفي هذا تذكيرٌ بعظيمِ قُدْرَة الله سبحانه الذي خَلَقَ كل هذا الخَلْق المُبْهِر المُعْجِز وبعظيم رحمته حيث يَرْحم مخلوقاته من هذه الأضرار وبعظيم عذابه للمُسِيئين لو أراد عقابهم إذا لم يتوبوا وذلك لكي يَعبده الناس أيْ يُطيعوه وحده ويَتّبِعوا أخلاق الإسلام لا غيره ليسعدوا بنِعَمِه ويَنْجُوا من عذابه في دنياهم وأخراهم.. "يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)" أيْ يُغَيِّر ويُحَوِّل الله أحوال الليل والنهار بأنْ يُظْهِر هذا ويُخْفِي هذا وبأنْ يَجعلهما يُوالِي أحدهما الآخر بدَوَرَان الشمس والقمر وبأنْ يُدْخِل هذا في هذا وهذا علي هذا ويزيد أحيانا في أحدهما ما ينقصه من الآخر والعكس، وهكذا، لكي يُحَقّق مصالح وسعادات خَلْقِه، وهذا التّقَلّب هو مِن الآيات والنِعَم التي عليهم دائما أنْ يَتذكّروها ويَشكروها حيث جَعَل الليل والنهار ليكونا من رحماته بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهما من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتهما وقد اعتاد الناس مشاهدتهما فلا يستشعرون قيمتهما مع الوقت، فقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعداداً لنهارٍ جديدٍ قادِمٍ سعيدٍ مُرْبِحٍ في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. وسَخَّر للخَلْق الشمس والقمر بكلّ منافعهما.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. إنَّ هذا التّقَلّب يَدُلّ دلالة قاطِعَة علي تَحَكُّمه التامّ تعالي وسَيْطرته وتَدْبيره لكل حركات الكَوْن وشئونه وشئون كل الخَلْق.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)" أيْ إنَّ في ذلك كله الذي ذَكَرْناه سابقاً، وغيره من آياتنا، بكل تأكيدٍ عِبْرَة – واللام للتأكيد – أيْ عِظَة عظيمة ودروس مُسْتَفَادَة كثيرة لأصحاب الأبصار جمْع بَصَر بمعني بَصِيرَة في هذا الموضع أيْ إدراك العقل أيْ الذين يتبَصَّرون أيْ يَرون ويُدركون ويَتدبَّرون بعقولهم، فهؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَهتدون ويَسعدون به تمام السعادة في الداريْن، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره فهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم.. "وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)" أيْ وكذلك الله أوْجَدَ مِن عدمٍ علي غير مِثالٍ سابق، بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه، كل دابّة، وهي كل ما يَدُبّ ويتحرّك علي الأرض وفي داخلها من إنسانٍ وحيوانٍ وحشراتٍ وغير ذلك مِمَّا ظَهَرَ أو خَفِيَ وعُلِمَ أو لم يُعْلَم من مخلوقاته المُبْهِرَات المُعْجِزَات سبحانه، مِن ماءٍ، فالماء هو أصل الحياة لكلّ حيّ به روح وبه تُحْفَظ وبدونه تَموت وتَنْتهي.. هذا، وعند بعض العلماء الماء يعني النُّطْفَة التي يَتَخَلّق منها المَخْلُوق أيْ ماء الذكر أيْ المَنِيّ وماء الأنثي أي البويضة.. وفي هذا تذكيرٌ للناس بعظيم خَلْق السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقاتٍ مُبْهِرَةٍ وبأهمية الماء ومُعْجِزَة خَلْق كل مخلوقٍ حيٍّ منه وأنه رغم كَوْنه شيئاً واحداً وأنَّ ظاهره أنه لا حياة فيه لكنه يُنْتِج من المَخلوقات المُتَنَوِّعَة المُختلفة مَا لا يُحْصَيَ وذلك ليَتَدَبَّروا أنه هو وحده سبحانه المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر وللتّوَكّل عليه.. فمِن هذه الدوابّ نوعٌ يمشي على بطنه زحفاً كالحيَّات ونحوها ومنها مَن يمشي على رجلين كالإنسان ومنها نوعٌ يمشي على أربعٍ من الأرْجُل كالبهائم ونحوها، فهي مختلفة في أشكالها وصفاتها ومهامِّها رغم أنَّ أصلها واحد وهو الماء وذلك بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه سبحانه الخلّاق العليم.. ".. يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.." أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بما يُعين علي مزيدٍ من التَّدَبُّر والاعْتِبار.. أيْ ويَخْلُق الله ما يشاء مِن مخلوقاتٍ علي أيِّ شكلٍ وصِفَةٍ ومُهِمَّةٍ أراد، مِمَّا ذُكِرَ ومِمَّا لم يُذْكَر ومِمَّا عَلِمْتُم ومِمَّا لم تعلموا، للدلالة علي تمام القُدْرَة والعلم وحسبما تقتضيه حِكْمته من أجل تحقيق كل مصالح وسعادات خَلْقه بأنْ يَنْفع بعضهم بعضاً.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة وللشكر وللتوكّل عليه، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء.. ومَن يَعبده وحده ويشكره ويتوكّل عليه وحده ويُحسن الاستعداد للآخرة بالعمل بكل أخلاق الإسلام فقد سَعِدَ حتما في الداريْن.. ".. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)" أيْ وذلك لأنَّ الله حتماً بلا أيِّ شكّ علي ذلك وعلي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرّد أن يقول لشيءٍ كُن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء
ومعني "لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)" أيْ هذا استخدامٌ في الجزء الأول من هذه الآية الكريمة لذات الألفاظ تقريبا كما في الآية (34) لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها وذلك لعظيم أهميتها.. أيْ لقد أنزلنا إليكم أيها الناس من خلال ما أوْحَيْناه لرسولنا الكريم آياتٍ مُبَيِّناتٍ أيْ دلالاتٍ مُوَضِّحاتٍ قاطِعاتٍ دامِغاتٍ تُثبت صِدْقه وأنه مُرْسَلٌ من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّده لتَثِقوا به وتَتّبعوه أم آيات في الكوْن حولكم أرشدكم إليها لتَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربكم أم آيات في القرآن العظيم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليكم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتكم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)" أيْ ومَن يشاء مِن الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن منافقا، لأنَّ المنافق يُظْهِر الخير ويُخْفِي داخل عقله الشَّرّ، فإنْ كان الشرّ الذي يُخفيه هو كُفر بالله أيْ تكذيب بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره فهو كافر يُخَلّد في النار، أمَّا إذا أخْفَيَ ما هو غير ذلك من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنه يُحاسَب علي قَدْرها إن لم يَتُبْ منها من غير الخلود في جهنم بل يخرج إلي أقل درجات الجنة.. وهذا النفاق هو من أهم أسباب التعاسة لأنه من أكبر علامات الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة، فيعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة مُتَوَهِّمَاً أنه يَخدع من معه ولا يَشعر أنهم كاشفوه بعقولهم ومِن تصرّفاته، فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس لم ينتفع بنِعَم ربه عليه وأهمها العقل والإسلام فازداد أمراضا علي أمراضه بسبب ما حَصَده بيديه من سوء أفعاله وأقواله
هذا، ومعني "وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)" أيْ ويقولون هؤلاء المنافقون صَدَّقنا بالله أيْ بوجود الله وعبادته وحده وبكتبه ورسله واليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار، وبالرسول أيْ وبنُبُوَّة الرسول أيْ وبما جاء به الرسول من إسلامٍ، وأطعنا أيْ وأطعنا أمرهما أيْ واسْتَجَبْنا ونَفِّذنا ما وَصَّانا به الله والرسول مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، يقولون ذلك بألسنتهم فقط ولا يعملون بما يقولونه، فهم كاذبون حيث يُظْهِرون خيراً ويُخفون شَرَّاً وما يقولونه مِن خيرٍ هو ظاهريّ ومجرّد كلام بالأفواه والألسنة لدَفْع الإحراج والمُسَاءَلَة عنهم وليسوا مُقْتَنِعين به حقيقة في عقولهم وصادقين فيه ويعملون به، ولهذا قال ".. ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.." أيْ ثم يتولّيَ بعضٌ مِن هؤلاء المنافقين مِن بعد ذلك الذي يقولونه أيْ يُعْرِضُوا أيْ يُعْطوا ظهورهم ويَلْتَفِتُوا ويَنْصَرِفوا ويَبْتَعِدوا عن أخلاق الإسلام ويَتركوها ويهملوها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل ويُقاوِموا نشرها ويُؤذوا مَن يَتّبعها.. هذا، ولفظ "فريق" يُفيد أنَّ بعضهم يَستمرّ على النفاق بإظهار الخير وإخفاء الشرّ وبعضهم يُظْهِر الكفر ويَفعل السوء عَلَنَاً.. ".. وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)" أيْ وليس أمثال هؤلاء الذين يُظْهِرُون الإسلام ويُخْفُون الكفر – أو يُعْلِنوه – بالتالي بالمؤمنين بل هم الكافرون حتما، فلا يَتَشَبَّه بهم أحدٌ مُطْلَقَاً حتي لا يَتعس مِثْل تعاساتهم في دنياهم ثم أخراهم
ومعني "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)"، "وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)"، "أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)" أيْ ومِن أحوالهم وصفاتهم السيِّئة الدنيئة والتي علي المسلمين ألاّ يَتَشَبَّهوا بها أبداً حتي لا يَتعسوا مثل تعاساتهم في الداريْن أنهم إذا دعاهم أحدٌ إلي كتاب الله وسُنَّة رسوله لكي يَحْكُم بينهم أيْ ليَحْتَكِمُوا إليه ويَرْجِعُوا له أيْ ليَعملوا بحُكْمِ الله الذي فيه أيْ حُكْم ونظام وأخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياهم وأخراهم يكون فريقٌ أيْ بعضٌ منهم حالهم أنهم مُعْرِضُون أيْ يُعْطون ظهورهم لمَن يَدْعوهم ويَلْتَفِتُون ويَنْصَرِفون ويَبْتَعِدون ويَتْرَكون الدعوة لله ولرسوله ويهْمِلونها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء.. هذا، ولفظ "إذا" في اللغة العربية في هذا المَوْضِع يُفيد المُفاجأة، فهم فاجؤوا مُسْرِعين بالإعراض مفاجأة تُفيد ثباتهم التامّ عليه، حيث حُدُوث مِثْل هذه الأحداث تُفاجِيء بكَشْف نفاق فريق منهم أيْ بعضهم لا كلهم وهم الذين تَحْدُث لهم هذه الأحداث غالباً وأنه كلّما حَدَثَت تَكْشِف بعضاً آخر ثم آخر وهكذا حيث جميعهم يَرْفض العمل بشَرْع الله لكنهم لا يُظْهِرون هذا الرفض إلا في مثل تلك الأحوال والمَواقِف.. "وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)" أيْ ومِنْ خِسَّتهم ودناءتهم أنهم إنْ يكن لهم الحقّ أيْ المصلحة في الإسلام يأتوا إليه مُنْقَادِين مُسْتَسْلِمِين مُتَذَلّلِين أيْ يَحْضُروا حينها إلي الإسلام مُسْرِعِين لتحقيق مصلحتهم فقط مُظْهِرين أنهم مسلمون مع الإسلام والمسلمين دائما! فلماذا لا يُسْلِمون بحقّ لا ظاهِرَاً فقط ويَستمرّون علي الإسلام وهم يعلمون بفطرتهم وبعقولهم لو أحسنوا استخدامها أنَّ الإسلام كله مصالح وسعادات حيث هو لكي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماما في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه؟! ولكنهم أغلقوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ إنَّ سبب إعراضهم لا يخرج عن أحد هذه الأمور: هل أنهم في قلوبهم أيْ عقولهم مرضٌ وهو النفاق أو ارتابوا أيْ شَكّوا في نُبُوَّة الرسول (ص) وصِدْقه فيما جاء به وفي وجود الله أصلا ووجوب عبادته وحده وفي صلاحية دينه الإسلام لإسعاد البَشَرِيَّة كلها في الداريْن أو يخافون أنْ يَحِيفَ أيْ يَجُورَ الله ورسوله عليهم أيْ يَظلمهم في شأنٍ من شئون حياتهم إذا اتّبَعوه والذي هو أصل العدل في الأرض ويَستحيل منه الظلم، إنَّ هؤلاء حتماً بسبب كل ذلك هم الظالمون أيْ الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)" أيْ ما كان قول المؤمنين بحقّ الصادقين في إيمانهم، دائماً باستمرارٍ في كل وقت، في مُقابِل قول المُسِيئين السابق ذِكْرهم، إذا دُعُوا إلي كتاب الله وسُنَّة رسوله ليَحْكُم بينهم أيْ ليَحْتَكِمُوا إليه ويَرْجِعُوا له أيْ ليَعملوا بحُكْمِ الله الذي فيه أيْ حُكْم ونظام وأخلاق الإسلام في كل شئون حياتهم لكي يَصلحوا ويَكملوا ويَسعدوا تمام السعادة بذلك في دنياهم وأخراهم، إلا فقط أن يقولوا راضِين قابِلِين مُسْتَسْلِمِين مُحِبِّين مُقْبِلِين مباشرة وفوراً وسريعاً وبلا أيِّ تَرَدُّدٍ أو تَأَخُّر: سَمِعْنا وأطَعْنا أيْ سمعنا قولك يا ربنا في كتابك الكريم وأطعنا كل ما فيه واستجبنا له وعملنا به، سمعنا أخلاقيَّاته وتشريعاته وأنظمته سَمَاعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالنا وأعمالنا في كلّ شئون حياتنا لنَصْلُح ونَكْمُل ونَسْعَد تمام السعادة في دنيانا وأخرانا.. والمؤمنون هم المُصَدِّقون بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل الثابتون دائما عليها المُخْلِصون المُحْسِنون أثناء ذلك، ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة.. إنَّ هذا تذكيرٌ وإرشادٌ لِمَا يجب أنْ يكون عليه المؤمنون وأنْ يَتّصِفوا به علي الدوام.. ".. وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)" أيْ وهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها
ومعني "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره وتفصيلٌ له ومزيدٌ من المَدْح للمؤمنين والتشجيع لهم ليستمرّوا علي خيرهم ولتشجيع الناس جميعا ليكونوا مِثْلهم ليسعد الجميع في الداريْن.. أيْ والذي يُنَفّذ كلّ ما وَصَّيَ به الله تعالي والرسول (ص) من أخلاق الإسلام والتي مَن يعمل بها كلها فإنها حتماً تُصلحه وتُكمله وتُسعده في دنياه وأخراه.. ".. وَيَخْشَ اللَّهَ.." أيْ ويَخاف الله ويخاف فقدان حبه وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ورزقه وقوّته ونصره وإسعاده له في دنياه وأخراه ويخاف عذابه وإتعاسه له فيهما لو عَصَاه – والخشْيَة هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله – فيَدْفَعه هذا إلي أن يحيا حياته مُتَوَازِنَاً بين الخوف من الله والرجاء في رحمته (برجاء مراجعة الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) وأن يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) وأن يُخْلِص ويُحْسِن في كلّ أقواله وأفعاله (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان)، وبذلك يكون في تمام السعادة في دنياه ثم له في أخراه حتما ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. ".. وَيَتَّقْهِ.." أيْ وهذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ ويَخافه ويُراقِبه ويُطيعه ويَجعل بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، ويكون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما جاء في الآية السابقة أنهم هم المُفْلِحُون.. أيْ فهؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة الكريمة السابق ذِكْرها بالقطع هم الكاسِبُون الذين يَكْسبون ويَنالون من الله تعالي تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يكسبون ويُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما كَسْبَاً وفلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مِثْلهم هم الفائزون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن مُنافقا تُظْهِر الخير وتُخْفِي الشرّ (برجاء مراجعة الآيات (8)، (9)، (10) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن النفاق وتعاساته في الداريْن.. ثم مراجعة الآيات (47) حتي (50) من هذه السورة للشرح والتفصيل عن صفات المنافقين)، بل كنتَ قوِيَّاً شجاعا مِقْدامَاً مُستعدا دائما للتضحية ببذل دمك وروحك وكل ما تملك من أجل الحفاظ علي أخلاق إسلامك ونشره والدفاع عنه حتي بالقتال، لكن فقط ضدّ مَن يعتدي بالقتال ودون أن يبدأ المسلمون به (برجاء مراجعة الآيات (190) حتي (194) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الجهاد بالقتال وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، وكنتَ كذلك من المجاهدين في سبيل الله (برجاء مراجعة الآية (218) من سورة البقرة، لمزيد من الشرح والتفصيل عن الجهاد وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)" أيْ وحَلَفوا بالله تعالي علي آخر جهدهم وبكل ما يستطيعونه من أيْمانٍ، حَلف المنافقون أنهم إنْ أمرتهم يا رسولنا الكريم وجاءهم أمرٌ من الإسلام بأنْ يخرجوا للجهاد بالقتال ضِدَّ المُعْتَدِين علي الإسلام والمسلمين سيَخْرجون بالتأكيد حتماً طائعين للأمر مُسْرِعين لتنفيذه – واللام والنون للتأكيد – قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لهم ولأمثالهم لا تحلفوا كذباً لأنَّ طاعتكم طاعة معروفة بأنها باللسان فقط أمّا فِعْلكم فيُكَذّبها، كذلك من المعاني عند بعض العلماء: لا تُقْسِموا، فطاعة معروفة أيْ مَعْلُومَة مُحَقّقَة واقِعِيَّاً علي أرض الواقِع ومعروفة أيْ طيِّبَة حَسَنَة بنِيَّةٍ خالِصَةٍ صادِقة، أفضل وأمْثَل حتماً مِن يمينٍ باللسان لا يُوافِقه الفِعْل، فالمطلوب منكم طاعة معروفة كطاعة المؤمنين، لا قَسَم بألسنتكم لا تُنَفّذوه بأعمالكم.. ".. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)" أيْ وعليكم أن تتَذكّروا دوْماً أنَّ الله عليم تمام العلم بكل خبرةٍ وعلمٍ ليس بعده أيّ خبرة ولا علم أكثر منه بما تعملونه وتقولونه كله سواء في سِرِّكم أو علانيتكم لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبكم علي ذلك بالخير خيرا وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فعليكم أنْ تُحْسِنوا إذَن العمل دائما وتفعلوا كلَّ خيرٍ وتتركوا كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لمَن حولك، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أطيعوا أي استجيبوا ونَفِّذوا أيها الناس ما وَصَّاكم به الله وما وصاكم به الرسول (ص) مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ.." أيْ فإنْ اسْتَجابوا فلهم كل الخير والسعادة فيهما وإنْ تَوَلّوْا أيْ أعطوا ظهورهم لرسولهم الكريم (ص) والْتَفَتُوا وانْصَرَفوا وابْتَعَدُوا عنه وعن الإسلام وتَرَكوه وأهْمَلوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بما يُفيد إصرارهم التامّ علي فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار فلهم كل الشرّ والتعاسة فيهما، فإنَّما عليه مَا حُمِّلَ أيْ فليس علي الرسول إلا فقط ما حُمِّلَ به مِن الله وهو تبليغ الإسلام لهم وحُسْن دعوتهم له وليس عليه أنْ يَسْتَجِيبوا ويُسْلِموا فهذا ليس في استطاعته، وقد أحْسَنَ حَمْل الأمانة وأداءها وتبليغها بإحسان دعوتهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليس عليه أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه منه لأحدٍ لكي يهتدي لله وللإسلام، وعليكم أنتم أيها الناس مَا حُمِّلْتُم به من الله ربكم وهو طاعته والاستجابة له باتّباع الإسلام، فهو قد أحْسَنَ القيام بما حُمِّلَ به تمام الإحسان فعليكم أنتم أيضاً أنْ تُحْسِنوا القيام بما حُمِّلْتُم به بحُسْن الطاعة والاتّباع، لمصلحتكم ولسعادتكم، فإنْ لم تُحْسِنوا وأسأتم فسَتَتَحَمَّلُون نتيجة ذلك لا الرسول ولا الدعاة مِن بَعْدِه حيث ستُعَاقَبُون بما يُناسِب علي قَدْر إساءاتكم في الداريْن، فانْتَبِهُوا لذلك واحْذَرُوا.. ".. وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.." أيْ وإن تستجيبوا وتُنَفّذوا أيها الناس ما وَصَّاكم به ترْشدوا وتَصِلُوا لطريق الهداية لله أيْ لطريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ لطريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وإنْ لم تُطيعوه تَصِلُوا لطريق الشرِّ والتعاسة فيهما علي قَدْر عدم طاعتكم ومُخالفاتكم له.. ".. وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره أنَّ الناس يَتَحَمَّلون نتيجة اختيارهم الذي اختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم فإنْ اختاروا طاعة رسلهم فلهم تمام السعادة في الداريْن وإنْ اختاروا ألا يُطيعوهم فلهم التعاسة فيهما بمِقْدار مُخالفاتهم.. أيْ وليس علي الرسول إلا فقط البلاغ المُبين أيْ وليس مهمَّة الرسول إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليه ربه، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمةٍ وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُخالفون إذَن نتيجة مخالفاتهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان
ومعني "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)" أيْ أعْطَيَ الله بفضله وكرمه وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيءٍ للذين صَدَّقوا منكم أيها الناس بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، بأنّه سيَسْتَخْلِفهم في الأرض حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شكّ – واللام والنون مع السين والتاء للتأكيد – كما اسْتَخْلَفَ بقُدْرَته وعِلْمه الذين مِن قَبْلِهم السابقين لهم من المؤمنين الصالحين أيْ سَيَجْعلهم خُلَفَاء له تعالي فيها أيْ نُوَّابَاً عنه يَخْلفونه عليها لإدارة شئونها بنظام الإسلام ويكونوا قادَة حُكّامَاً لها صالحين عادلين ليَتَصَرَّفوا فيها ويُديروها بإحسانٍ فينتفعوا ويسعدوا هم وغيرهم بكل خيراتها، ويكونوا هم الذين يَخْلفون الظالمين الفاسدين في حُكْمها بعد إضعافهم أو إهلاكهم هم وشَرِّهم وظلمهم وتعاستهم لكي تمتلأ خيراً وعدلاً وسعادة.. وهذا الاسْتِخْلاف يكون في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِدَاً لهم ولمَن حولهم، وبالتالي وبكل تأكيد فإنَّ العاقبة أي النتيجة النهائية السعيدة في الدنيا والآخرة ستكون حتماً لهم ما داموا مُسْتَمِرِّين مُتَمَسِّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم وبالتالي مُسْتَحِقّين لهذا الاسْتِخْلاف.. وفي هذا طمْأَنَة وتَبْشِيرٌ وإسْعادٌ وتَثْبيتٌ للمسلمين الصالحين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز المُحِبّ لهم حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، ووَعْدٌ منه سبحانه لا يُمْكِن أنْ يُخْلَفَ أبداً قطعاً أنْ يُمَكّن لهم في الأرض يُديرونها بنظام الإسلام فيسعدوا بذلك في الداريْن، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم.. ".. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ.." أيْ وسيُمَكّنَ لهم حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شَكّ – واللام والنون للتأكيد – دينهم وهو دين الإسلام الذي ارتضي لهم أيْ ارتضاه أيْ قَبِلَه ووَافَقَ عليه وأحَبَّه واختارَه أنْ يكون ديناً لهم أيْ نظاماً لحياتهم ولحياة كل البَشَر يَلْتَزِمون به ليُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تماماً فيها ثم في الآخرة، أي وليَجْعَلَنَّ الله الإسلام مُتَمَكّنَاً في الأرض أيْ ثابِتَاً قوياً مُنْتَشِرَاً ذا مَكَانَة وعِزَّة ورِفْعَة ويتمكّنوا هم وجميع الناس من فهمه وتَدَبُّره والعمل بكل أخلاقه ليسعدوا بذلك في الداريْن.. ".. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا.." أيْ وسيُغَيِّر حالهم حتماً بالتأكيد بلا أيِّ شَكّ – واللام والنون للتأكيد – ليكون أمْنَاً في أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم وكل شئون حياتهم من بعد خوفٍ أيْ قَلَقٍ واضطرابٍ يكونون فيه في أيٍّ من هذه الأمور فيَحْيون بالتالي مُسْتَشْعِرين دائماً السكون والاطمئنان والأمن والحماية والسلامة والهدوء والاستقرار والصبر والثبات وحُسْن التَّعَقّل والتَّدَبّر وتمام السرور والرضا والراحة والثقة التامّة الدائمة في تَحَقّق وَعْد الله بكلّ خيرٍ ونصر.. ".. يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.." أيْ هذا الاسْتِخْلاف والتمْكِين والأمْن يَتَحَقّق حتماً إذا كانوا يعبدونني وحدي لا يشركون بي في العبادة شيئاً آخر غيري يعبدونه وذلك بأنْ يَتّبِعوا كل أخلاق الإسلام ليكونوا أهْلَاً لذلك فإنْ لم يَفْعلوا فلا اسْتِخْلاف ولا تَمْكِين ولا أمان بالقطع، وإنْ لم يَسْتَمِرُّوا انْقطع الاسْتِخْلاف، وبالتالي فعليهم أنْ يستمرّوا ويُداوِمُوا علي حُسْن عبادتي ليستمرّ لهم الاستخلاف لأنَّ الاستخلاف لأنهم يعبدونني، ولقد اسْتَخْلَفتهم أيضا لكي يعبدوني أيْ سَهَّلْتُ لهم الاستخلاف لكي تستمرّ عبادتهم لي، وهكذا، عبادة فاسْتِخْلاف فعبادة فسعادة تامَّة بالداريْن.. ".. وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)" أيْ ومَن اختار الكفر بالله أو استمرَّ علي كفره أو ارْتَدّ عن الإسلام أو كَفَرَ هذه النِعَم أيْ لم يَعترف بها ونَسَبَها لغيره سبحانه ولم يُحْسِن شُكْرها بأنْ استخدمها في الشرِّ لا الخير، بعد ذلك الوعد الصادق الذي لا يُمْكِن أنْ يُخْلَف مُطْلَقَاً أو بعد ذلك الحصول للاسْتِخْلاف والتمْكِين والأمان، فهؤلاء حتماً هم الفاسقون أيْ الخارِجون عن طاعة الله والإسلام المُسْتَحِقّون للعقاب علي قَدْر خروجهم بما يُناسِب مِن عقابٍ وحِرْمَانٍ من هذا الخير وتعاسةٍ في الداريْن لأنهم كفروا أو ارْتَدّوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار بعد وضوح مثل هذه الآيات أو كفروا نِعَم الله العظيمة تلك التي لا تُحْصَيَ وأساءوا استخدامها، لكنْ إنْ تابوا وعادوا لربهم ولإسلامهم عادَ تَحَقّق الوَعْد لهم
ومعني "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)" أيْ هذا بيانٌ لأهم أركان هذه العبادة وفيه مزيدٌ من التأكيد علي مَا سَبَقَ ذِكْره لكي يَتَحَقّق ويَسْتَمِرّ الاسْتِخْلاف والتمْكِين والأمْن.. أيْ وادْخُلُوا في دين الإسلام وتمسّكوا واعملوا دوْماً بكل أخلاق إسلامكم والتي منها أن تُوَاظِبوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وتُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ تُحسنوها وتُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، والتي منها أيضا ".. وَآتُوا الزَّكَاةَ.." أيْ وأعْطُوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كنتم مِن أصحاب الأموال، وكونوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.." أيْ واستجيبوا ونَفّذوا أيها الذين آمنوا – وأيها الناس – ما وَصَّاكم به الرسول مِن التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وداوِموا واستَمِرّوا علي ذلك طوال حياتكم لتسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. ".. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)" أيْ لكي تُرْحَموا، أيْ ليكون ذلك سَبَبَاً أكيداً لكم لنَيْل رحماته تعالي وخيراته العظيمة في دنياكم وأخراكم حيث تمام الخير والأمن والسعادة.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقّق وذلك ليكون دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا دائما كذلك طائعين لله والرسول ليسعدوا برحمات ربهم وعطاءاته التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وأخراهم
ومعني "لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)" أيْ هذا طمْأَنَة وتَبْشِيرٌ وإسْعادٌ وتَثْبيتٌ وتَسْلِيَة للمسلمين الصالحين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز المُحِبّ لهم حتماً ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم.. أيْ لا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً أيها المسلم أبداً مُطْلَقَاً أنَّ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم مُعْجِزين الله في الأرض أيْ جاعلين إيَّاه تعالي عاجزاً عن عقابهم وعذابهم والذي سيكون حتماً حتي ولو أمْهلهم أيْ تَرَكَهم لفترات، فليس أيّ أحدٍ مِن الناس سواء أكان مُكَذّباً مُعَانداً مُستكبِراً، أم حتي مؤمناً، أم أيّ مخلوق، يستطيع أن يُعجز الله أي يجعله عاجزاً أي يمنعه عمَّا يريده في مُلكه! فهو مُلكه! وهو خالقُ كلِّ شيءٍ وقادرٌ تماماً عليه! ولو اجتمعتم أيها الخَلْق جميعا، كل الخلق في الأرض، وكل الخلق في السماء، لكي تمنعوه من فِعْل أيّ شيء يريده ما استطعتم قطعا! فحين يُسْعِد سبحانه المؤمنين به تمام السعادة بكل خيراته وسعاداته ما استطعتم أبدا أيها الكافرون به منع ذلك! وحين يُنزل عذابا ما بمَن يستحقّ العذاب ما أمكنكم مُجْتَمِعِين مهما بلغت قوّتكم أن تمنعوه! حتي ولو اختبأ المستحقّون للعذاب في أعماق الأرض أو في فضاءات السماء!.. إنهم بكل تأكيد سيُعَاقَبون بما يستحِقّون يوما ما، بما يُناسب شرورهم ومفاسدهم وأضرارهم، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لهم، لعلهم يَستفيقون ويستيقظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن.. إنهم سيُعَاقبون في دنياهم أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيُعَاقَبون بكلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم سيُعَاقبون في أخراهم قطعا بما هو أشدّ ألما وتعاسة وأتمّ وأعظم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مِثْلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)" أيْ ومَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب النار الذي لا يُوصَف، يُعاقَبون فيها علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وما أسوأ بكل تأكيدٍ – واللام للتأكيد – وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المَرْجِع والمُنْتَهَيَ والمُستقبَل والمَصِير الذي يصيرون إليه.. هذا، ولفظ "مأواهم" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون المأوَيَ مَكَانَاً للراحة والاستقرار والأمن لا للعذاب والشقاء والخوف!.. وفي هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يَحْرِصُون تماماً دائماً علي التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والتي منها خُلُق الاسْتِئْذان حتي داخل البيت الواحد وبين الأسرة والعائلة الواحدة، وليس فقط عند دخول بيوت الآخرين كما في الآيات (27)، (28)، (29) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) وذلك لمنع بعض الشرور والمَفاسد كانكشاف العورات أو ما يُكْرَه ظهوره ومعرفته وما شابه هذا من أضرارٍ مُتْعِسَةٍ من أجل أنْ يَتِمَّ الأمن والتآلف والخير وتَتِمَّ السعادة في البيوت ومنها تنتشر للمجتمع كله وللناس كلهم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – لِيَطْلُب الإذْن منكم في الدخول عليكم الذين مَلَكَتْ أيمانكم وهم الذين امْتَلَكْتُم في أيديكم مِن العبيد ذكوراً أو إناثاً – إذا كُنتم في زمنٍ فيه عَبِيد مع مراعاة أنَّ وجود العَبِيد قد قَضَيَ عليه الإسلام تدريجيا بنشره الوعي والحرية والكرامة وبتحريرهم بكَفّارات الذنوب – ويُقاس عليهم الخَدَم ومَن يُشْبِههم، والذين لم يَبْلغوا الحُلُم منكم وهم الذين لم يبلغوا سِنَّ الاحتلام أيْ سِنَّ نزول المَنِيّ ولكنهم مُمَيِّزُون يَعْرِفون معنى العَوْرَة ويُمَيِّزون بين ما يَصِحّ الاطّلاع عليه وما لا يصح، أيْ عليكم أنْ تُوصُوهم وتُعَلّمُوهم بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ أن يستأذنوا قبل دخولهم عليكم.. ".. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ.." أيْ في ثلاث أوقاتٍ باليوم وهي مِن قَبْل صلاة الفجر وذلك أنَّ الإنسان ربما يَبِيت عرياناً أو على حالٍ لا يحبّ أن يراه غيره في تلك الحال وحين تَضعون ثيابكم من الظهيرة أيْ تَخْلَعُون ثيابكم في وقت الظهر للنوم لبعض الراحة من العمل ومِن بَعْد صلاة العشاء أيْ وقت إرادتكم النوم واستعدادكم له، فهذه الأوقات هي ثلاث عَوْرَاتٍ لكم وقد سَمَّى سبحانه هذه الأوقات عورات لأنَّ الإنسان غالباً عادةً يَخْلَع فيها ثيابه فتظهر عورته، ورؤية مِثْل هذه الأحوال تُؤذِي النفوس السليمة وتُتْعِسها فاعملوا بالتالي إذَن بخُلُق الاستئذان.. ".. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.." أيْ ليس عليكم ولا عليهم حَرَجٌ بعد كلِّ وقتٍ من هذه الأوقات الثلاثة فى الدخول عليكم بدون اسْتِئذان حيث هي في الغالب ليست أوقات تغيير ثيابٍ أو نومٍ أو غيره، وذلك لأنهم طوَّافون عليكم أيْ كثيروا الطواف أيْ الترَدُّد والمُرور عليكم حيث يَطوف أيْ يَتَرَدَّد ويَمُرّ ويَدُور بعضكم أيْ هم علي بعضٍ أيْ عليكم أنتم كثيرا فهم يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون أنتم أيضا عليهم للاستخدام وذلك أثناء معاملات الحياة اليومية لتحقيق المنافع وكل ذلك لا يحتاج إلي إذْنٍ بالقطع وإلا كان الأمر فيه مَشَقّة شديدة مُتْعِسَة تُخالِف الإسلام المُيَسِّر المُسْعِد دائما.. ".. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ.." أيْ هكذا دائما بمِثْل هذا البيان الواضِح، وكما بَيَّنَ ما سَبَقَ ذِكْرُه، يُوَضِّح الله لكم الآيات في قرآنه العظيم التي تشتمل علي قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه، أيْ كما بَيَّنَ الله لكم أيها الناس خُلُقَ الاستئذان في هذه الآية الكريمة، كذلك يُبَيِّن لكم كل أخلاق الإسلام في كل آيات القرآن، وذلك لكي تَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسعدوا، لو عملتم بها، فتَدَبَّروها واعملوا بها كلها لتسعدوا تماما في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)" أيْ والله تعالي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه عليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في الداريْن وبمَن يَلْتَزِم بالفرائض ومَن يُقَصِّر فيها وبمَن يَستحِقّ خيراً ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده، ومَن يَتوب بصدقٍ فيُعينه ومَن لا يتوب، وهو حكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
ومعني "وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)" أيْ وإذا وَصَلَ الأطفال منكم أيها المؤمنون سِنَّ الاحتلام أيْ سِنَّ نزول المَنِيّ فعليهم أنْ يَطْلُبوا الإذْن فى الدخول عليكم فى كل الأوقات – وليس في الأوقات الثلاثة السابق ذِكْرها فقط – كما استأذن الذين مِن قَبْلهم السابقين لهم الذين هم أكبر منهم فى السِّنَّ عندما بَلَغوا سِنَّ الاحتلام وأصبحوا رجالا، حيث قد أمر تعالي أمراً عاماً بالاستئذان كما قال في الآية (27) من هذه السورة الكريمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) والتي تُفيد أنَّ الأصل الاستئذان وبالتالي فعَلَيَ كل مسلمٍ حتي في بيته مع أقرب المُقَرَّبين له تقدير الموقف في استئذانه لكي لا يَرَيَ ما يُؤذِي مَشَاعِرَه أو يُؤذِي هو مَشاعِرَ أحدٍ قد يَرَيَ منه شيئاً سَيِّئاً.. ".. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)" (برجاء مراجعة نهاية الآية السابقة).. هذا، واستخدام ذات الألفاظ – تقريبا – كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها، مع مُرَاعَاة أنَّ نِسْبَة الآيات لله تعالي في قوله "آياته" هو لمزيدٍ من تعظيمها وتقديسها
ومعني "وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)" أيْ والعَجائز من النساء – والقواعد جَمْع قاعِد وهي المرأة العجوز وسُمِّيَت بذلك لأنها تُكْثِر القعود لِكِبَر سِنِّها وقِلّة جهدها كما أنها قَعَدت عن الحيض والزواج والولادة أيْ لم تَعُدْ تهتمّ بذلك وتَوَقّفت عنه منذ وقتٍ طويل – اللاتي لا يُرِدْنَ زَوَاجَاً ولا يُريدهنَّ أحدٌ لزواجٍ لِكِبَرِهِنَّ، لكنْ مَن كانت فيها بَقِيَّة مِن جَمالٍ وهي مَحلّ شَهْوَةٍ فلا تدخل في هذه الآية، فليس عليهنَّ إثمٌ أنْ يَخْلَعْنَ بعض ثيابهنَّ أمام الرجال بحيث يَكُنَّ غير مُظْهِراتٍ لزينةٍ أيْ لِتَجَمُّلٍ لكي يُنْظَر إليهنّ، مِثْل وَضْع الخِمار مِن علي الشعر ومِثْل لبْس الملابس المُعتادة التي لا تَلْفِت انتباهاً حيث ذلك من العجائز لا يثير شهوة في الغالب، وهذا مِن تَيْسير الإسلام لهنَّ، ولكنْ أنْ يَسْتَعْفِفْنَ بالاسْتِتار الكامل أفضل لهنَّ مِن التخَفّف من بعض الثياب، أيْ يَطْلُبْنَ العِفّة أيْ يَتَعَفّفنَ عن ذلك – والسين والتاء لبيان شِدَّة الطلَب لها وللمُبالَغَة فيها – أيْ أنْ يَتَجَنّبنَ ذلك ويَتَرَفّعنَ عنه، لأنه الأنْسَب والأكثر احتراماً لهنّ والأطْهر للقلوب والأبْعَد لسوء الظنّ بهنّ والأكثر بياناً لكَوْن الاحْتِشَام والتّسَتّر خيرٌ للمرأة حتي ولو كانت من القواعد وسيكون لها حتما أجرها علي ذلك في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)" أيْ والله وحده بالتأكيد الذي له كلّ صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه سميع أي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وهو عليم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه بكل أقوالكم وأفعالكم، وبالتالي سيُجازِي في الدنيا والآخرة حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة، وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم.. إنه تعالي حتماً سميعٌ لكل أقوالهنّ عليمٌ بكل أفعالهنّ ونواياهنّ ومُحاسِبهنّ عليها، فَلْيَحْذَرْنَ ولْيَحْذَر الجميع من ذلك ولْيَنْتَبِهْنَ ولْيَنْتَبِهُوا له بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ مِن خلال التمسُّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)" أيْ هذا بيانٌ للعلاقات الاجتماعية الأُسَرِيَّة العائلية الطيِّبَة التعاونِيَّة السَّمْحَة المُيَسَّرَة المُسْعِدَة بين الأقارب ومع الأصدقاء ومع الجميع.. أيْ ليس علي هؤلاء وأشباههم من أصحاب الإعاقة والاحتياجات الخاصة حرجٌ أيْ مُؤَاخَذَة أو عِتاب أو عقاب أو ضيق أو إحراج أو شعور بارتكاب ذنبٍ أو نحوه في الدنيا ولا إثم في الآخرة حينما يتعامَلون مع الآخرين في شأنٍ ما من شئون الحياة كعملٍ أو علمٍ أو طعامٍ أو نحوه، وعلي الآخرين كذلك ألا يُشْعِروهم أبداً بشيءٍ مِن هذا، لأنَّ البعض منهم قد يكون شديد الخَجَل والإحْراج فلا يَتَعامَل مع الناس حتي لا يُؤذيهم بصورةٍ مَا بسبب العَمَيَ أو العَرَج أو المَرَض أو نحوه، كما أنَّ البعض قد يَتَأفّف مِن التعامُل معهم أو يَسْتَقْذرهم أو يَتَعَالَيَ عليهم أو يَشعر بأنه يَظلمهم في بعض حقوقهم للفارِق بينهم أو نحو هذا.. كذلك من المعاني أنَّ هؤلاء هم مِن أصحاب الأعْذار فلا يُكَلّفون إلا بما يستطيعون من أعمال الحياة.. إنه بمِثْل هذه الأخلاق الإسلامية المُسْعِدَة يستفيد الجميع بكل طاقات وإمكانات الجميع فيسعدون في الداريْن.. ".. وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ.." أيْ ولا علي أنفسكم أيها المسلمون أيضا حَرَجٌ في أن تأكلوا بغير إذْنٍ بعَدْلٍ وإنْصافٍ من هذه البيوت لأنَّ هذا من الأمور المُسْعِدَة النافِعَة إلا إذا كنتم تعلمون بعض ضيقٍ أو ضَرَرٍ لأحدٍ منهم مِن ذلك فلا تفعلوا وعليكم الاستئذان بالأكل حِفاظاً علي العلاقات الطيّبة بينكم.. هذا، ولفظ "بيوتكم" قد تَمَّ ذِكْره رغم أنه أمرٌ مَعْلُومٌ مَفْرُوغٌ منه وذلك لكي يَتَبَيَّن مساواة ما بعده في الحكم، وهو يشمل ضِمْنَاً بيوت الأبناء والزوجات.. ".. أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ.." أيْ أو مِن البـيوت التي تَمْلِكُون التَّصَرَّف فيها بإذْن أصحابها في غِيابهم وتَمْلِكون مفاتيحها حيث قد أعطوكم إيَّاها بما يدلّ علي إذنهم لكم باستخدامها والأكل منها.. ".. أَوْ صَدِيقِكُمْ.." أيْ أو مِن بيوت أصدقائكم – والصديق في اللغة العربية يشمل المفرد والجَمْع وهو الصاحب الصادق في حبِّه لك – إلا إذا كنتم تعلمون بضيقِ أو تَضَرُّرِ أحدٍ منهم من الأكل من بيته من غير إذنٍ فلا تفعلوا حتي لا تقطعوا الوُدَّ والتوَاصُل بينكم.. ".. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا.." أيْ هذا بيانٌ للحالة التى يكون عليها الأكل بعد بيانِ البيوت التى يجوز منها الأكل.. أيْ وليس عليكم أيها المسلمون إثمٌ ولا تَحَرُّجٌ ولا عقوبة بالداريْن في أنْ تأكلوا مُجْتَمِعين أو مُتَفَرِّقين مُنْفَرِدين فَرْدَاً فرداً أو اثنيْن اثنين فكل ذلك جائز وهو مِنْ تَيْسِير الإسلام لكم فلا تُضَيِّقوا وتُعَسِّرُوا علي أنفسكم باشتراط الاجتماع علي الطعام وإنْ كان هو الأفضل والأثْوَب لكثرة منافع التّجَمُّع وبركاته وإنما يكون الأمر علي حسب الظروف والأحوال بما يُحَقّق الخير والسعادة للجميع.. ".. فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً.." أيْ فإذا دخلتم أيها المسلمون بيوتاً من البيوت المَذْكُورَة أو من غيرها بعد الإذْن، فسَلّموا على أهلها الذين هم بمَنْزِلَة أنفسكم فى شِدَّة المَحَبَّة والأُلْفَة لأنَّ المسلمين كلهم كأنهم نفسٌ واحدةٌ بسبب تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطفهم، وحَيُّوهُم تحية من عند الله أيْ مَشْرُوعَة من عنده لمصلحتكم ولسعادتكم فاعملوا بها وهي مُبَارَكَة أيْ كثيرةُ دائمةُ الخيرِ أيْ كلها بَرَكَة أيْ زيادة دائمة في كلّ خيرٍ ونفع وحب ورحمة وسعادة حيث بها يزداد خير الله تعالي ورزقه وتوفيقه وتيسيره وعوْنه وفضله وإسعاده الدنيويّ ثم ثوابه الأخرويّ لمَن تُقال دائما بينهم وهي طيِّبَة أيْ حَسَنَة جميلة مُفيدَة مُسْعِدَة مَحْبُوبَة تَطِيب وتَصْفو وتَرْقَيَ وتَرْضَيَ وتَنْشَرِح بها النفوس والمَشاعِر، وهذه التّحِيَّة التي من عند الله المُبَارَكَة الطيِّبَة هي أن تقولوا السلام عليكم أيْ تَدْعُوا لأنفسكم بأنْ يُعطيكم الله جميعا من فضله وكرمه ورحمته السلام والأمن والاستقرار والخير كله والسلامة والحِفْظ مِن كلِّ سوءٍ قوليّ أو فِعْلِيّ والطمأنينة والسعادة في أعلي درجات الجنات بعدما يُعطي لكم ذلك في دنياكم، وهذه التّحِيَّة وهذا الدعاء دلالة علي الحب والصفاء والأمان والترحيب والتعاون بين الناس، وفيها ما يُشَجِّع علي فِعْل كل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن وتَرْك كل شَرٍّ مُتْعِسٍ فيهما من خلال العمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)" (برجاء مراجعة نهاية الآية (58)).. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها.. ".. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)" أيْ لعلكم أيها الناس تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَدَبَّرون فيها، أيْ لكي تعقلوا، أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَعَقّلِين العقلاء أي الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتعمَّقون في الأمور ويَتدَبَّرون فيها فيَستفيدون منها ويَسعدون بها في الداريْن.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافِعَاً وتشجيعاً لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك عاقِلين عامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمناً لا كافراً (برجاء مراجعة (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، وإذا كنتَ مُتَمَسِّكَاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) والتي منها الاجتماع للأمور الهامَّة التي يحتاجها الإسلام والمسلمون والحقّ والعدل من أجل المشاركة بالرأي أو الجهد أو المال أو غيره لتحقيق الخير والسعادة للجميع في الداريْن، وعدم مُفارَقة هذه الاجتماعات إلا لعُذْرٍ مَقْبُولٍ عند الله تعالي يوم القيامة وبعد استئذان المسئول وقتها حِفاظاً علي الوحدة وتجميع الجهود وتنظيمها وعدم تشتيتها وإضعافها والإخلال بها، وبذلك يتحقّق الهدف المطلوب من التَّجَمُّع
هذا، ومعني "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)" أي إنَّ المؤمنين بحقّ أيْ بصِدْقٍ، هم الذين آمنوا بالله ورسوله أيْ صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وصَدَّقوا برسوله (ص) وبالكتاب الذي أَنْزَلَ عليه وهو القرآن العظيم، وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويَذْكُرُهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – وإذا كانوا معه أيْ مع الرسول (ص) أو مع مَن يأتي بَعْده مِن مسئولي المسلمين علي أمرٍ جامعٍ أيْ على أمرٍ جَمَعهم له لتحقيق مصالح المسلمين أيْ علي أمرٍ هامٍّ عليهم أن يجتمعوا له لأهميته مع قياداتهم ومسئوليهم للتشاور فيه وللقيام به، لم يذهبوا حتي يستأذنوه أيْ لم يَنْصِرف أحدٌ منهم حتى يستأذنه في الذهاب والانْصراف ويأذن له، فهم حريصون تماما علي الحضور والاجتماع والمشاركة وعدم التّخَلّف وتنفيذ الأوامر لأنَّ فيها المصلحة والسعادة للجميع بالداريْن، وإنَّ الذين يستأذنونك هؤلاء هم الذين يؤمنون بالله ورسوله حقّ الإيمان أيْ يعملون بكل أخلاق الإسلام حيث استئذانهم هذا فى هذه الأوقات دليلٌ على ذلك، وفي هذا مَدْحٌ لهم وتشجيعٌ للاستمرار علي عملهم بأخلاق إسلامهم وتأكيدٌ إضافيٌّ علي خُلُق الاسْتِئْذان، فإذا استأذنوك في الذهاب لقضاء بعض أمرهم ومصالحهم فأْذَن بالانْصراف لمَن أرَدْتَ منهم وهم الذين عَلِمْتَ أنَّ لهم عُذْرَاً يَدْفعهم للانصراف ولا يَتَطَلّب الاجتماع وجودهم، فالأمر مَتْرُوكٌ لحُسْن تقديرك للمصلحة العامة، ومع ذلك اسْتَغْفِر لهم الله أيْ اطْلُب لهم من الله المَغْفِرَة علي استئذانهم لأنه قد يكون هناك بعض تقصيرٍ فيه حيث كان من المُمْكِن ألا يستأذنوا خاصة وأنَّ الأمرَ جامِع، فإنَّ الله غفورٌ أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)" أيْ لا تَجعلوا دعوة الرسول لكم التي يَدْعوها بينكم لأمرٍ جامِعٍ كدعوة بعضكم بعضا يُمْكِنكم التّسَاهُل في عدم إجابتها أو الانْصراف عنها بدون إذْن.. كذلك من المعاني لا تجعلوا دعاء أيْ نِداء الرسول بينكم كدعاء أيْ نِداء بعضكم بعضاً أيْ لا تُنادوه باسمه كما يُنادِي بعضكم بعضاً فتقولوا يا محمد أو يا عبد الله ولكنْ فَخّمُوه وشَرِّفوه وعَظّموه وكَرِّمُوه فقولوا يا رسول الله في لينٍ ورِفْقٍ وتَوَاضُعٍ.. هذا، ويُقاسُ علي هذا الاحترام احترام وتقدير المسئولين – والعلماء – في كل شئون الحياة ومواقعها، لأنّ الاحترام والتقدير هو مِمَّا يُعينهم علي حُسن إدارة شئون مَن يَرْعُونهم، ولا يُتَبَسَّط معهم ويُدْعَوْنَ بألفاظٍ وألقابٍ تُقَلّل مِن هَيْبتهم، وهم عليهم في ذات الوقت التّبَسُّط والتواضع معهم وقضاء حَوَائجهم لأنهم سيُسْأَلون عنها يوم القيامة.. ".. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا.." أيْ قد عَلِمَ الله وأحاطَ عِلْمه حقّاً وبكل تأكيدٍ ودائما – قد للتحقيق وللتأكيد – أيْ أنَّ الله تعالي العالِمَ بكلّ شيءٍ في مُلكه يعلم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه حيث لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، يَعلم الذين يَتَسَلّلون أيْ يَخْرجون في الخَفاء منكم أيْ مِن جماعتكم المُجْتَمِعَة لأمرٍ جامِعٍ ومنكم أيها المُتَسَلّلُون وهم يكونون لِوَاذَاً أيْ يَلُوذ أيْ يَسْتَتِر بعضهم ببعضٍ عند هروبهم مُتَخّفِين كأنهم لصوصٌ خوفاً أنْ يَراهم أحد، وفي هذا ذمٌّ شديدٌ لمَن يَترك الأمر الجامِع بغير استئذانٍ لعُذْرٍ مَقْبُولٍ عند الله تعالي يوم القيامة كما أنه تهديدٌ بالعقاب بما يُناسب في الداريْن وتحذيرٌ منه حتي لا يفعله أحدٌ من المسلمين لأنه من صفات المنافقين الذين يُظْهِرون الخير ويُخْفون الشرَّ والذي يَظْهَر منهم في مِثْل هذه المَوَاقِف.. ".. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)" أيْ وإذا كان الأمر كذلك، فبالتالي، وبسَبَبِه، علي الذين يُخَالِفون أيْ يُعْرِضُون عن أمر الله ورسوله (ص)، أيْ عن الإسلام، أيْ يَبْتَعِدون عنه ويَتركونه ويهْملونه ويُعاكِسونه ويُغايِرونه ويُضادُّونه ويُعارِضونه ولا يُطيعونه ويُنَفّذونه، أنْ يَحْذَروا أيْ يَخافوا ويَحتاطوا ويَحْتَرِسوا بشِدَّة أنْ تُصيبهم أيْ تَنْزِلَ وتَحلَّ بهم وتَسْتَهْدِفهم بالإصابة كعقابٍ من الله تعالي في مُقابِل مُخَالَفاتهم فتنةٌ أيْ مَضَرَّةٌ وشَرٌّ في الدنيا تَتَمَثّل في درجةٍ مَا مِن درجات العذاب بما يُناسب المُخَالَفَة كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، كذلك تَتَمَثّل الفتنة في الدنيا بالافتتان عن الإسلام أيْ بوقوعهم في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والنفاق والكفر بسبب إصرارهم علي استمرارهم في مُخَالَفَة أخلاقه بلا توبة، أو يُصيبهم عذاب أليم في الآخرة أيْ عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف حيث سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. هذا، وقد نَوَّعَ تعالى حال ذلك المُخَالِف بين هذين الأمرين لأنه قد يموت بلا عقابٍ دنيويٍّ بل أخرويّ وقد يُعاقَب في دنياه، فلهذا السبب ذَكَرَه سبحانه على سبيل التنويع
ومعني "أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)" أيْ ألاَ إنَّ لله وحده كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. ".. قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ.." أيْ قد عَلِمَ الله وأحاطَ عِلْمه حقّاً وبكل تأكيدٍ ودائما – قد للتحقيق وللتأكيد – أيْ أنَّ الله تعالي العالِمَ بكلّ شيءٍ في مُلكه يعلم تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه حيث لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، يَعلم ما أنتم عليه من حال، يعلم كل أقوالكم وأفعالكم، من خيرٍ وشَرٍّ، من إيمانٍ وكفر، من عملٍ بالإسلام ومُخَالَفَةٍ له بعضه أو كله، يعلم كل أقوالكم وأفعالكم سِرَّها وعلانيتها، وبالتالي فلا تُخَالِفوا أمره، فسَيُحاسِبكم، ولكم أجركم أو عقابكم بما يُناسِب في دنياكم وأخراكم.. ".. وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا.." أيْ ويوم يُعادُ الناس جميعا إليه يوم القيامة بعد انتهاء الحياة الدنيا حين يَبعثهم من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم بعد كَوْنهم تراباً فحينها يُخْبِرهم بكل ما عملوا وقالوا في دنياهم من خيرٍ وشَرٍّ وسيُجازيهم عليه بكلّ عدلٍ بلا أيِّ ذرَّة ظلمٍ بالخير خيراً وسعادة في نعيمِ جناتٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر وبالشَّرِّ شَرَّاً وتعاسة في عذاب نيرانٍ لا تُوصَف، فلْيُحْسِن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)" أيْ والله تعالي عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهل لا يعلم سبحانه شأنَ وسِرَّ خَلْقه الذين خَلَقهم؟!.. حتماً يعلم، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)" أيْ تَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله ربّ العالمين الذي نَزّلَ الفرقان أيْ القرآن العظيم، وسُمِّيَ الفرقان – كما تُسَمَّي كل كتب الله تعالي – لأنَّ فيه كلّ ما يُعين مَن يَتَعَقّله ويَتَدَبَّره ويَتَعَمَّق فيه علي أن يُفَرِّق بكل سهولة ويُسْر بين الخير والشرّ والحقّ والباطل والصواب والخطأ والنافع والضارّ وبذلك يحيا حياته في سعادة تامَّة ويَنتظر مُسْتَبْشِرَاً آخرته التي فيها ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، وهو في ذات الوقت يُنْذِر الجميع أيْ يُحَذّرهم أنَّ مَن يَترك فَهْمَه وتَدَبُّره والعمل بأخلاقه بعضها أو كلها فسَيَتعس في دنياه وأخراه علي قَدْر ما تَرَك، علي عبده أيْ علي رسوله الكريم محمد (ص)، وهو تعالي يَنْسِبه إليه أنه عبده، كما يَنْسِب إليه الذين يَعبدونه أيْ يُطيعونه أي المؤمنين أنهم عباده، تكريماً لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره.. ".. لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)" أيْ لكي يكون هذا القرآن العظيم وهذا الرسول الكريم للناس جميعاً نذيراً أيْ مُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا له بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وليَتَحَمَّلوا إذَن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة مِن بَعْدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُوِيهم.. إنه نذيرٌ مُبِين أيْ مع إنذاره فهو مُبَيِّن أيْ مُوَضِّح لكل الناس أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة.. هذا، وكما أنه سيكون نذيراً فهو أيضاً حتماً يكون بشيراً بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاقه، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات القادمة سيَتكلّم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)" أيْ هو وحده سبحانه الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلِّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فهو له كلّ الملك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقبض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ.." أيْ وهو سبحانه وحده الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ المُتَعَالِي عن أيِّ نَقْصٍ وصِفَةٍ لا تَلِيق به فهو لم يَتّخِذ ولداً أيْ لم يَجعل له ولداً ولم يكن له شريكٌ في المُلْك أيْ في الألوهية لأنه واحدٌ لا شريك له في مُلْكه ولا في عبادته لأنه قادرٌ علي كل شيءٍ فلا يَحتاج إذَن لِمَا يحتاجه البَشَر من زواجٍ وإنجابِ أولادٍ يَسْعَد بهم ويُساعدونه أو اتّخاذ شركاء أو وزراء أو مُعاونين أو نحوهم يُعاوِنونه علي إدارة مُلْكه! وهذا من النّعَم العظيمة التي تَسْتَحِق عظيم الشكر من الناس له سبحانه، لأنه لو كان له ولد لَكَانَ مَيَّزَه عن بقية خَلْقه ولكنَّ الخَلْق جميعاً عنده مُتساوين فهُمْ خَلْقه وعليه رعايتهم ورزقهم كلهم، ولو كان له شريك في الألوهِيَّة لاحتاروا أشَدَّ الحيرة أيهما يُطيعون ويُرْضُون كما قال تعالي "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (الزمر:29) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني).. ".. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)" أيْ وهو سبحانه وحده لا غيره الذي أوْجَدَ كلَّ شيءٍ مِن عَدَمٍ في هذا الوجود بتمام قُدْرَته وكمال عِلْمه وحِكْمته وقَدّره تقديراً دقيقاً تامَّاً بَدِيعَاً مُبْهِرَاً أيْ وحَدَّدَه تَحْديداً وحَسَبَه حساباً وضَبَطَه ضَبْطَاً وأحْكَمَه إحْكامَاً ووَزَنَه وَزْنَاً ونَظّمَه تنظيماً دقيقاً تامَّاً بلا أيِّ خَلَلٍ بل بكلِّ كمالٍ وحكمةٍ وإحسانٍ وإتقانٍ وإبداعٍ وإبهارٍ وتمامِ تجهيزٍ لِمَا خُلُق له فلا يُمكنه مُخَالَفته لكي يُحَقّق مُهَمَّته في الحياة التي خَلَقَه من أجلها علي أكمل وجهٍ مطلوبٍ منه لتَتَحَقّق بالنهاية كل مصالح وسعادات خَلْقِه كلهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (8) من سورة الرعد ".. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ"، والآية (50) من سورة طه "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فاعبدوه بالتالي وحده لا غيره لتسعدوا بالداريْن
ومعني "وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)" أيْ ومع كل هذا السابِق ذِكْره جَعَلوا أيْ جَعَلَ السفهاء غير العقلاء كالمشركين ومَن يَتَشَبَّه بهم مِنْ دونه أيْ مِن غيره أيْ مِن غير الله تعالي آلهة أيْ مَعْبُودات يَعبدونها أيْ يُطيعونها غيره كأصنامٍ أو أحجارٍ أو غيرها أو حتي بَشَرَ ضعفاء مثلهم يَضعفون ويَفتقرون ويَمرضون ويَموتون (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)؟!!.. إنهم يعبدون غيره وهو مَخْلوق مِثْلهم وليس له أيّ صِفَةٍ من صفات الخالِق كالقُدْرَة التامّة والعلم الكامل ونحو ذلك من صفات الكمال الحُسْنَيَ!.. وهل يُقارَن الخالِق بمَا خَلَقَه؟!!.. كيف يعبدون ما هو ليس له أيّ صفةٍ من صفات الألوهيَّة بل هو مخلوق مثلهم بل هو أضعف منهم!! كيف يكون المَعْبُود أضعف من العابِد هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!!.. إنه تَصَرُّفٌ يَدعو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك! ألَاَ يستقيظ ويعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن؟!.. ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)" أيْ والآلهة التي يعبدها غير الله تعالي هؤلاء المشركون لا تَخْلق شيئاً مُطلقاً أبداً حتي ولو كان صغيراً، بل هي تُخْلَق بأيديهم وهي مِن مخلوقات الله فكيف يعبدونها؟!! وهل يكون الإله عاجزاً تماماً هكذا يحتاج إلي مَن يَخْلقه ويَرْعاه وهو الذي مِن المُفْتَرَض أنْ تكون له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وأهمها تمام القُدْرَة والعلم؟!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (17) من سورة النحل "أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ")، وهي لا تَقْدِر ولا تَمْتَلِك لأنفسها وليس بيدها مُطلقاً مَنْع أيّ ضَرٍّ أيْ شَرٍّ عنها ولا جَلْب وإحضار أيّ نفعٍ أيْ خيرٍ لها، فكيف بغيرها؟! إنها لا تَضرّ أحداً ولا تنفعه بأيِّ شيءٍ حيث هي كما يَرَيَ الجميع واقِعَاً لا تستطيع نَفْع ذاتها أو دَفْع الضرَرَ عنها فكيف بغيرها؟! إنها لن تمنع قطعاً أيّ ضَرَرٍ عن أيّ أحدٍ يعبدها ولن تحميه وتُطَمْئِنه بأيّ شيءٍ بل هي لا تستطيع حماية أنفسها! وهي لا تَمْلِك أيْ لا تستطيع موتاً لحَيٍّ بنَزْع رُوحه ولا إحياءً لحَيٍّ بخَلْقِه وإعطائه رُوحاً ومُقَوِّمَاتٍ لحياته، في الدنيا، ولا تستطيع نُشُورَاً أيْ بَعْثَاً لمَيِّتٍ في الآخرة أيْ إحياءً له بجسده وروحه بعد موته وكوْنه تراباً، فكل ذلك لا يَمْلِكه إلا الله الخالق سبحانه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة لا تلك الآلهة المَزْعُومَة.. هذا، وأحيانا يتحدّث القرآن الكريم عن الآلهة بصيغة العاقل فيقول يَخْلُقون بَدَلَاً عن تَخْلق والتي هي صيغة غير العاقل تَسْفِيهَاً لهم لأنَّ بعضهم يعتبرونها كأنها عاقلة حيث يَدَّعُون سَفَهَاً وخَبَلَاً وكذباً وزُورَاً أنَّ هذه الأصنام والأحجار والكواكب ونحوها تَعْقِل عنهم وتَعْلَم بأحوالهم وتَنْفعهم وتَضرّهم ولذلك يُخاطَبون علي قَدْر عقولهم ومَفاهيمهم وهي مُؤَكَّدَاً ليست كذلك، ولكي يُسَايِرهم في حديثهم ليكون مدْخَلاً لإقناعهم، وأيضا لأنَّ بعضهم قد يَعْبُد بَشَرَاً مثله يَتَوَهَّم أنه قويّ يُعينه ويَرزقه رغم أنه يَمْرَض ويضعف ويموت مِثْله كأيِّ بَشَر!!
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)"، "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)"، "قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)" أيْ وقال الذين كفروا أي كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ما هذا القرآن إلا إفكٌ أيْ كذبٌ شديدٌ افتراه محمد أي اخْتَلَقه وادَّعاه كذباً من عند نفسه ونَسَبَه إلي الله وليس وَحْيَاً منه – والافتراء هو الكذب بكذبٍ شَنِيعٍ ليس له أيّ أصلٍ والذي هو أفظع من الكذب في أمرٍ له أصل مَا – وأعانه عليه أيْ وساعَده علي هذا الافتراء قومٌ آخرون أيْ أناسٌ آخرون من أهل الكتاب وغيرهم حوله مِمَّن لهم القُدْرَة علي هذا الأمر لُغَوِيَّاً وأدبِيَّاً وفِكْرِيَّاً وعِلْمِيَّاً ونحو ذلك، وذلك ليُشَكّكوا في القرآن والإسلام فلا يَتّبعوه ولا يَتّبعه أحد، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)" أيْ فبالتالي، فبسبب قولهم هذا، قد جاءوا أيْ فعلوا ظلماً عظيماً أيْ مَا هو غير عدلٍ أبداً ومَا هو اعتداء تامّ علي الحقّ، وفعلوا أيضا زوراً فظيعاً أيْ كذباً شديداً مُخالِفَاً تماماً للحقيقة ليس له أيّ دليل، وذلك لأنهم جَعَلوا القرآن العظيم كَذِبَاً والرسول الكريم (ص) كاذِبَاً وهم يعلمون تمام العلم كذبهم وظلمهم وزُورهم حيث هم بأنفسهم لا غيرهم الذين سَمُّوه (ص) بالصادق الأمين قبل نزول القرآن! ثم إذا كان مِن وَضْع وكلام البَشَر فلماذا إذَن لا يأتون ولو بآيةٍ بمِثْل آياته وهم أكثر فَصَاحَة وعِلْمَاً منه (ص)؟! وقد تَحَدَّاهم بالفِعْل بهذا ولم ولن يستطيعوا أبداً حتي ولو اجتمعوا جميعا لذلك! لأنه القرآن العظيم، كلام الله تعالي الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمِثْل مَا أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. ولكنه التعطيل للعقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)" أيْ وقالوا أيضا عن القرآن العظيم إضافة لقولهم الشنيع السابق ما هو أشدّ ظلماً وزُورَاً وشَنَاعَة وقُبْحَاً أنه أساطير الأوَّلِين جَمْع أُسْطُورَة أيْ قصة مَسْطُورَة مَكتوبة قديماً، أيْ هو قصص السابقين الخُرافِيَّة المَكْذوبة التي لا أصل لها!! فهو إذَن كتابٌ كاذبٌ هزلِيّ خرافيّ وبالتالي فلن نؤمن به أيْ لن نُصَدِّقه!!.. ".. اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)" أيْ طَلَب كتابتها له مِمَّن يَعلمها وهي تُقْرَأ عليه صباحاً ومساءً بتكرارٍ دائماً لِيَحفظها لِيَقولها للناس، وذلك لأنهم يعلمون تماماً أنه أُمِّيٌّ لا يَقرأ ولا يَكتب فيُريدون أنْ يُبَرِّرُوا افتراءهم بهذا التبْرير الذي يَبْدُو كأنه عقلانِيٌّ حتي لا يُجادلهم فيه أحد!.. "قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين ولمَن يَتَشَبَّه بهم، ولعموم الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم أنزل القرآن العظيم الله تعالي الذي يعلم الخَفِيّ في السماوات والأرض بتمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه مِن بَشَرٍ وغيرهم ومِن كل كَوْنه فَضْلاً عَمَّا هو ظاهر وقد بَيَّنَ بعض هذا السِّرَّ الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه ويستحيل لبَشَرٍ العلم به في هذا القرآن الكريم ليكون دليلاً علي أنه وَحْيٌ من عنده لي كرسولٍ منه للناس وعلي صِدْقي وبالتالي فكيف تقولون عليه أساطير الأوَّلِين اكتتبتها وأنه إفكٌ افتريته وأعانني عليه قوم آخرون؟! ثم لو كنت قد افتريته عليه تعالي هل كان لا يعلم بافترائي ويُعاقِبني ويَفضحني أمامكم ويَمنعني وهو الذي يعلم كلّ سِرّ؟! إنه يعلم حتماً افتراءاتكم أنتم ومَا تُسِرُّونه من مَكائد وشرور ومَفاسد وأضرار فاحْذَرُوا وانْتَبِهوا وتُوبوا قبل أن يُنْزِل بكم ما تَسْتَحِقّونه من عذابٍ فهو القادر علي كل شيءٍ لكنه يُمْهِلكم لا يُهْمِلكم لكي تتوبوا، وسيَقْبَل توبتكم قطعاً رغم كل ما قُلْتُم وفَعَلْتم مِن سوءٍ، لأنه كان غفوراً رحيماً أيْ كان قبل خَلْق الخَلْق ولازال وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، كان من فضله وإحسانه علي كل خَلْقه غفوراً أيْ كثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ويمحوها كأن لم تكن ولا يُعَاقِب عليها لكلّ مَن تابَ توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إن كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، وكان رحيما أيْ كثير الرحمة أيْ الشفَقَة والرأفة والرفق الذي رحمته وَسِعَت كل شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)"، "أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)"، "انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)"، "انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)" أيْ وقالوا كذلك عن الرسول الكريم محمد (ص) – إضافة للذي قالوه سابقا عن القرآن العظيم مِن ظُلْمٍ وزُورٍ وقُبْحٍ للتشكيك فيه – علي سبيل السخرية والاستهزاء والاسْتِهانَة والتّحْقير والتكذيب والعِناد والاسْتِكْبار والمُرَاوَغَة والتشكيك في صِدْقه أنه رسولٌ من عند الله وبالتالي صِدْق مَا جاء به من قرآنٍ حتي لا يَتّبعه أحدٌ، قالوا ما شأن وحال هذا الرسول الذي يَدَّعِي كذباً وزُورَاً ما يَدَّعِيه أنه رسولٌ أيْ مَبْعُوثٌ من عند الله خالقهم للناس ليُسْلِموا يأكل الطعام كما نأكل ويمشي في الأسواق لشئونه كما نمشي؟! يقصدون بذلك أنه كان يجب أن يكون مَلَكاً مُسْتَغْنِيَاً عن الأكل وطَلَب المَعاش! ويقصدون أنه لو كان رسولاً بصِدْقٍ لكَانَ كَفاه ربه عن ذلك حيث هذا لا يَلِيق برسولٍ إذ حاله كحالنا ولا يَتَمَيَّز عنّا بشيءٍ بل نحن أفضل منه مالاً ومَكَانَة وعِلْمَاً فهو كاذبٌ إذَن!!.. إنهم يقصدون أنه بَشَرٌ ككَلِّ البَشَر وليس مَلَكَاً فيكون له فضلٌ عليهم بل هم أفضل منه من حيث المال والمَكَانَة والعلم ونحو ذلك! ولو أراد ربه وربهم إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع ملائكته! فهو إذَن كاذب! وهو ليس رسولاً ولا يُمْكِن أنْ يكون كذلك أبدا! وبالتالي فهم في المُقابِل عليهم أنْ يُكَذّبوا بما أرْسِل به إليهم!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم قد تَرَفّعوا واستكبروا أن يَتَّبعوا رسولاً من البَشَر ولم يَتَأَفّفوا أن يكونوا عابدين لأصنامٍ وأحجارٍ وأبقارٍ وغيرها!!.. ثم خاتم المُرْسَلِين الرسول الكريم محمد (ص) ليس هو حتماً أوّل رسولٍ من الرسل أرسله الله تعالى إلى الناس وإنما سَبَقه كثيرون هم يعرفونهم من أخبارهم وأقوامهم، كنوح وإبراهيم وموسي وعيسي وغيرهم، فليس الأمر إذَن ابْتِدَاعَاً أيْ اخْتراعَاً لا مِثال سابِق له! ومادام كذلك فكيف يُكَذّبون ويَرْفضون أنه هو أيضا رسول مِثْلهم ويُشَكِّكون في دعوته لعبادة الله وحده واتّباع دينه الإسلام وكلهم قد جاءوا بمِثْل ما جاءهم به؟!.. ".. لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)" أيْ هذا مزيدٌ من أقوالهم القَبيحَة حيث يَحْمِل هذا القول ضِمْنَاً مزيداً من السخرية والاستهزاء والاسْتِهانَة والتّحْقير للرسول الكريم (ص) والتكذيب والعِناد له والاسْتِكْبار والمُرَاوَغَة والتشكيك في صِدْقه أنه رسولٌ من عند الله وبالتالي صِدْق مَا جاء به من قرآنٍ حتي لا يَتّبعه أحدٌ حيث يقولون كاذبين مُرَاوِغِين لو أُنْزِل إليه مَلَكٌ من ربه الذي يَدَّعِيه يُساعده ليكون معه نذيراً أيْ مُحَذّرَاً يُحَذّر الناس مِن مُخَالَفَة الإسلام وإلا عُوقِبُوا بالتعاسة في الداريْن، لأنه وحده لا يستطيع ذلك، وليكون شاهِدَاً له علي صِدْقه، لَكُنَّا آمنّا به أيْ صَدَّقْناه واتّبَعْناه!.. "أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)" أيْ وهذا مزيدٌ ومزيدٌ من أقوالهم القبيحة حيث يقولون أيضا علي سبيل التَّعَنُّت والاسْتِكْبار والعِناد والتعْجِيز: أو يُنْزَل إليه كَنْزٌ من السماء من ربه يُنْفِق منه أيْ مالٌ كثيرٌ وذهبٌ مَكْنُوزٌ مُدَّخَرٌ يُنزله عليه بغير أسباب الكسب ليدلّ ذلك علي إرساله له ولينفقه كالملوك لكي يتّبعه الناس وليكون غنيا يَجذبهم بغِناه لا فقيراً يُنَفّرهم بفقره ما دام يَدَّعِي أنه من ربٍّ له خزائن السماوات والأرض، أو تكون له منه جَنّة أيْ حديقة مُتَمَيِّزَة كثيفة مُثْمِرَة يأكل منها كل ما يحتاجه من طعامٍ ليَسْتَغْنِي بهذا عن أن يمشي في الأسواق، وهم يقصدون بذلك ألا يَسْعَيَ لطلب الرزق بالجهد والعمل مثل عموم الناس! وبما أنه ليس كذلك فهو إذَن كاذب!! ولا يَنْتَبِهُون بسبب إغلاقهم لعقولهم أنَّ هذا ليكون قُدْوَةً عملية لهم في كل شئون حياتهم لإنعاشها وإسعادها بمُعاملات الإسلام وأخلاقِيَّاته وأنظمته وقوانينه!!.. ".. وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)" أيْ وقال هؤلاء غيرُ العادِلين المُعْتَدون علي الله ورسوله والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير والسعادة الذين لم يَكْتَفوا بكل القُبْح والسَّفَه السابق قوله ولكنْ زادوا عليه وقالوا ما هو أشدّ وأتمّ قُبْحَاً وسَفَهَاً للمؤمنين ولمَن حولهم من الناس حتي لا يُسْلِموا إنْ تَتّبِعون أيْ مَا تَسِيرون خَلْف وتُطيعون إلا رجلاً مسحوراً، يَقْصِدون الرسول الكريم محمد (ص)، أيْ أصابه السِّحْر فاخْتَلّ عقله! وما جاء به من دينٍ أي الإسلام ما هو إلا سِحْر أي يَسْحِر عقول الناس بأوهام وتَخَيّلات ليست حقيقية كما يفعل السحر بالعقل! فكيف تَتّبِعونه بالتالي إذَن أيْ تَسيرون خَلْفه وتَعملون بدينه ألَاَ تعقلون؟!! إنهم يريدون بقولهم هذا التشكيك في القرآن والرسول (ص) مُبَلّغه والإسلام وتشويه صورتهم حتي يَصُدُّوا الناس عنهم فلا يَتّبعونهم.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)" أيْ شاهِد وتَعَجَّب يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم – كيف ذَكَرُوا لك التشْبيهات القبيحَة الكاذِبَة فشَبَّهُوكَ بمَسْحُورٍ وبمَجنونٍ وبكذّابٍ وبغير ذلك من سوءٍ بما يدلّ علي شِدَّة سَفَههم وإغلاقهم لعقولهم.. ".. فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)" أيْ هذا بيانٌ للنتيجة الحَتْمِيَّة لمَن يَفعل ذلك.. أيْ فبالتالي بسبب ذلك ضَلّوا أيْ ضاعُوا أيْ ابْتَعَدَوا عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله والإسلام، فلا يُمْكِنهم بالتالي بسبب تكذيبهم أنْ يَجِدُوا سبيلاً أيْ طريقاً إليه، ما داموا مُصِرِّين علي سُوئهم، وما كل ذلك الضلال والسوء الذي هم فيه إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. كذلك من المعاني لا يستطيعون سبيلاً لصَدِّ الناس أيْ مَنْعهم عن الإسلام بضلالهم هذا لسَفَاهَة وخَبَل أدِلّتهم وتَنَاقُض أمثالهم وتَخَبُّطهم وتَحَيُّرهم فيها بما يدلّ علي كذبهم وهي الأدِلّة والأمثال والإساءات التي لا يُمكن أن يَقْبَلها أبداً أيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ما دام يُحْسِن استخدام عقله ويَتّخِذ ربه ورسوله (ص) وقرآنه وإسلامه مَرْجِعَاً ومَلْجَأ ليعتصم بهم من الضلال فيسعد بذلك في الداريْن
ومعني "تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)" أيْ تَعَالَيَ وتَعَاظَمَ شأنُ وتَسَامَت وتَكَاثَرَت بركاتُ أيْ خيراتُ الله ربّ العالمين الذي لو أرادَ جَعَلَ لك في الدنيا أفضل كثيراً بما لا يُقارَن من ذلك الذي قالوه وهو أنْ يَجعل لك حدائق وليست واحدة كما قالوا تجري أسفل منها الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب ويجعل لك كذلك قصوراً فخمة فتعيش في نعيمٍ لا يُوصَف، فهو حتماً علي ذلك وعلي كل شيءٍ قديرٌ بتمام القُدْرَة والعلم، لكنه تعالي مِن بعض حِكَمِه في ألّا يجعل ذلك أنه يريد أن يكون الاتّباع للحقّ لا للمال ويكون بالتّعَمُّق باستخدام الأدِلّة العقليّة لا السطْحِيَّة فيكون مقياس الاتّباع هو الإسلام ذاته لا الفقر والغِنَي ثم بعد اتّباع الحقّ أيْ عبادة الله تعالي وحده واتّباع نظام الإسلام وحده يأتي بسبب ذلك حتماً المال وتأتي السعادة التامَّة بالداريْن.. إنه تعالي مالِك المُلْك كله وقادرٌ علي أن يجعل لرُسُلِه ولكلِّ مسلمٍ يتّبعهم ويتمسّك ويعمل بكل أخلاق إسلامه كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم قبل أخراهم، ولكنْ بما يُناسبهم وفي التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه نافعاً مُسْعِدَاً لهم ولمَن حولهم في الداريْن لا مُضِرَّاً مُتْعِسَاً لهم فيهما، وقد فَعَلَ تعالي ذلك بالفِعْل مع رسله الكرام (برجاء مراجعة الآية (54) من سورة النساء "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا"، للشرح والتفصيل) ومع مَن اتّبَعهم وصحابتهم والصالحين مِن بَعْدِهم مِثْلَمَا فَتَحَ الدنيا للصحابة الكرام وهو لازال وسيَستمرّ يَفعل هذا – كما يُثْبِت الواقِع ذلك عَمَلِيَّاً ويُرَيَ يوميا – حتي يوم القيامة، فهو الكريم الوَهَّاب يُعطيهم في الدنيا تمام المَكَانَة والكَرامة والعِزَّة والرِّفْعَة والتكريم والأمن والرعاية والرضا والحب والعَوْن والتوفيق والسداد والتيسير والقوة والنصر ومن كل أنواع الأرزاق كالأموال والحدائق والزواج والأبناء والسكن الطيِّب المُريح والعلاقات الاجتماعية الطيِّبة وبالجملة يُعطيهم تمام السعادة، ثم في الآخرة سيُعطيهم بالقطع ما هو أتمّ سعادة حيث نعيم جناتٍ لا يُوصَف فيها ما لا عينٌ رَأَتَ ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر
ومعني "بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)" أيْ ولكنْ لم يُصَدِّقوا بقيام الساعة، أيْ إنهم قد كَذّبوا بالساعة، أيْ بل أَتَوْا بأعْجَب من ذلك كله السابِق ذِكْره وهو أنهم كَذّبوا بالساعة وما أعْدَدْناه للمُكَذّبين مِن سعير، ولذلك قالوا ما قالوا من أقوالهم القبيحة في القرآن العظيم وفي الرسول الكريم – والساعة هي وقت انتهاء الحياة الدنيا وابتداء الحياة الآخرة حيث ساعة الحساب الختاميّ لأقوالِ وأفعال البَشَر وحيث الثواب والعقاب والجنة والنار وأَخْذ كل صاحب حقّ حقّه وسُمِّيَت بالساعة لسرعة قيامها ولانضباط وقتها – لأنَّ الذين لا يؤمنون بالساعة يَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرهم، بينما المؤمن الذي يَتَذَكّرها دائما فإنه يكون دائم الحرص علي الاستعداد لها بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال تمسّكه وعمله بأخلاق إسلامه، فتَنَبَّهوا لذلك تماما أيها المسلمون ولا تَنْخَدِعوا بالشرّ مِثلهم وتذكّروا الآخرة علي الدوام لتمنعكم من الوقوع فيه ولو فُرِضَ ووَقَعْتم فأسرعوا بالتوبة منه، وما كل ذلك التكذيب والضلال والسوء الذي هم فيه هؤلاء المُكَذّبون إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)" أيْ والحال والواقِع أننا بقُدْرَتنا وعِلْمِنا قد أعْدَدْنا وجَهَّزْنا لِمَن كَذّب بالساعة ناراً ذات اشتعالٍ شديدٍ لا تُحْتَمَل ولا تُوصَف فيُعَذّب بعذابها المُتَنَوِّع علي قَدْر سُوئِه بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمَصير الذي يَصِير إليه، إضافة حتماً إلي بعض عذابٍ دنيويٍّ بصورةٍ من الصور بما يُناسب أفعاله السيِّئة كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم لعلهم به يستفيقون ويعودون لله وللإسلام ليَنْجُوا وليسعدوا في الداريْن
ومعني "إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)"، "وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)"، "لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)" أيْ إذا رَأَتْ النار المُكَذّبين من مكانٍ بعيدٍ عنها وقبل وصولهم إليها سمعوا لنيرانها الشديدة الاشتعال صوتا مُخيفا مُرْعِبا مُزْعِجا شديدا لا يُحْتَمَل كصوت مَن اشتدّ غَيْظه أيْ غضبه – والتغيظ هو شِدَّة الغَيْظ والغيظ هو الغضب الشديد – وسمعوا لها زفيراً أيْ صوتاً مِثْل زفير النَّفَس عند خروجه بصوتٍ من صَدْرِ الإنسان، ولكنْ بدرجةٍ لا تُقَارَن حتماً، وهي تُحْدِث هذه الأصوات المُخِيفَة أثناء فَوَرَان نيرانها أيْ غَلَيانها وكأنها تُناديهم بها، والمقصود بيان عظيم عذابها حيث يسمعونها من بعيدٍ وعظيم مَخاوِفهم وشقاواتهم وعذاباتهم وتعاساتهم مِمَّا ينتظرهم من عذابٍ لا يُوصَف بمُجَرَّد بَدْء مراحله الأولي، وكلما اقتربوا منها كلما ازداد غيظها وزفيرها بحيث عندما يُلقون فيها وتتمكَّن منهم تُفْرِغ فيهم هذا الغيظ وتَنتقم بشدَّةِ تعذيبهم بما يُناسبهم، والله تعالي بالقطع قادرٌ علي إعطائها هذه الصفات بأنْ تَراهم وتَشعر بقُدومهم وتَعرفهم وتُعَذّب كلَّ مُسِيءٍ بالقَدْر المُناسب لإساءاته.. "وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)" أيْ وإذا قُذِفُوا بواسطة ملائكة العذاب بكلّ ذِلّةٍ وإهانَةٍ في مكانٍ ضيِّقٍ منها، حيث هو مُزْدَحِمٌ بالمُعَذّبين بكل أنواع العذاب، وهذا الضيق والحَشْر هو في ذاته نوعٌ آخرٌ من عذابٍ إضافِيٍّ يزيدهم ضيقَاً وألَمَاً وتعاسة، ويكونون مُقَرَّنِين أيْ مُقَيَّدِين في السلاسل، مأخوذة من قَرَّنَ بمعني شَدَّدَ، وكل مجموعة عِبَارة عن قُرَنَاء قد اقترنَ بعضهم مع بعضٍ في القيود بحسب تُشابههم في جرائمهم في دنياهم، من قَرَنَ بمعني جَمَع.. ".. دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)" أيْ هنالك أيْ عند ذلك الوقت والمكان والحال دَعَوْا أيْ نادَوْا طالِبين ثبوراً أيْ هَلاكَاً أيْ موتاً داعِين علي أنفسهم به حتي يَتَخَلّصوا ويَستريحوا مِمَّا هم فيه من عذاب، ولن ينفعهم ذلك بأيِّ شيءٍ قطعاً حيث العذاب حَتْمِيٌّ لا مَفَرّ منه.. "لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)" أيْ فيُقالُ لهم، من ملائكة العذاب، علي سبيل التيْئِيس مِن أيِّ أملٍ في النجاة ولمزيدٍ من العذاب النفسيّ بزيادة الألم والحَسْرَة والندامَة والمَرارَة والسخْرية والإهانة والتّبْكِيت إضافة للعذاب الجسديّ، لا تدعو الآن هلاكاً واحداً وادعوا هلاكاً كثيراً لأنَّ العذاب كثيرٌ مُتَنَوِّعٌ مُسْتَمِرٌّ مُتَزَايِدٌ مُتَجَدِّدٌ لا ينقطع بحيث لا تكفيه دعوة واحدة بالهلاك!! فهلاكٌ واحدٌ لا ينفع شيئاً ولا يكفي شيئاً! فلن يُفيدكم أنْ تدعوا ثُبوراً واحداً ولكن ادعوا ثُبوراً وثبوراً وثبوراً لأنَّ عذابكم لن ينتهي!! ولو زِدْتُم دعاءكم أضعافاً فأيضاً لا خَلاصَ لكم!! ولن يَنفعكم هذا وإنْ كَثُر منكم!!
ومعني "قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)"، "لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَساء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السعداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للمُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُراوغين ولمَن يَتَشَبَّه بهم، ولعموم الناس، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هل ذلك العذاب الأليم المُهِين المُخِيف المُسْتَمِرّ الذي لا يُوصَف المَذْكور سابقاً أفضلُ أم جنّة الخُلْد التي وُعِدَ المُتّقون إيّاها من الله تعالي بفضله وكرمه بوَعْده أيْ عَهْده والتزامه الذي لا يُخْلَف مُطْلَقَاً لأنه القادر علي كل شيء؟!! أيْ جنّة الخُلُود أيْ البقاء الذي لا انتهاء له حيث هم سَيَبْقون فيها لا يُخْرَجون منها أبداً بلا نهايةٍ ولا تغييرٍ ولا تناقصٍ بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إنه لا يمكن أبداً لأيِّ عاقلٍ أنْ يُساوِيَ بين الحالَيْن!! فلا مُقَارَنَة حتماً أصْلاً وإنما هو التذكير لا غير!.. والمُتّقون هم الذين يَخافون الله ويُراقِبونه ويُطيعونه ويَجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتَجَنّبِين لكل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)" أيْ كانت جنّة الخُلْد للمُتّقين ثواباً حَسَنَاً وعَطاءً ومُكافأة مِن فضل الله وكرمه في مُقابِل أعمالهم وأقوالهم الصالحة في دنياهم، ومَصِيراً أيْ مَرْجِعَاً ومُنْتَهَيً طيِّبَاً يَصيرون أيْ يَرْجِعُون ويَنْتَهون إليه في الآخرة يوم القيامة يَسْتَقِرُّون فيه خالدين لا يُفارِقونه، وما أحسنَ وأجملَ وأطْيَبَ وأنْعَمَ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ الخالِد بلا نهاية.. "لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)" أيْ لأهل الجنة فيها كلّ ما يريدون من أنواع النعيم الطّيِّب التامّ اللّذّة، فمَهما طَلَبوا وَجَدوا ما يَطلبون حتي بمجرّد تَمَنِّيه في خاطِرهم، وعنده تعالي لهم مزيد منه، وعنده أيضا إضافة إلي ما يريدونه ويطلبونه مزيد من النِعَم المتزايدة دوْماً المُفاجِئَة المُبْهِرَة المُسْعِدَة مِمَّا لم يَطلبوه ومِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، ومنها متعة رؤيته سبحانه دون حائل حيث أكمل الجمال والتمتع بسماع كلامه والتَّنَعُّم بقُرْبه، تكريما وتشريفا وحبا وإسعادا لهم، وهم يكونون فيها خالدين أبداً بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا ولكنه في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. ".. كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)" أيْ كان ذلك الوَعْد العظيم الذي وُعِدَ المُتّقون وَعْدَاً علي ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مسؤولاً أيْ مَطلوباً واجِبَاً لهم فيَطلبوه بمعني أنهم مِن حَقّهم أن يطالبونا به وفي هذا عظيم تكريمٍ لهم حيث يَرْفعهم سبحانه لمَكَانَة أنْ يسألوه ما وَعَدَهم به رغم أنه سيُحَقّقه لهم حتماً بلا أيِّ شكّ وبلا سؤالٍ منهم فهو الكريم الوَهَّاب الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَاً ورغم أنه ليس مِن حَقّ أحدٍ ولن يستطيع أن يُوجِب عليه شيءٌ أو يَقْهره عليه فهو الخالِق المالِك القاهر لكل شيء، فهو وَعْدٌ قد أوْجَبه على نفسه سبحانه تَفَضُّلاً وإحساناً منه، ولفظ "علَيَ" يُفيد المُبَالَغة في الكَرَم وفي حَتْمِيَّة التّحَقُّق.. كذلك مِن معاني مسئولاً أيْ حقيقاً جَدِيرَاً أنْ يُسْأَل ويُطْلَب ويُتَنَافَس فيه في الدنيا مِثْل هذا الوَعْد لِعِظَمِه.. وأيضاً مِن معاني مسئولاً أنه كان مسئولاً مِن المُتّقين في دنياهم حيث كانوا قد سألوا الله تعالى في الدنيا الجنة بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سَألوا وأعطاهم ما طَلَبوا
تفسير الآيات (17) حتي (20)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)" أيْ هذا بيانٌ لمَشْهَدٍ من مَشَاهِد أهوال الآخرة وأحوال المُسِيئين أثناءها عندما يقفون أمام ربهم لحسابهم.. أيْ ويوم القيامة يَحشر أيْ يَجمع الله تعالي المشركين – وجميع البَشَر – وهم الذين كانوا في دنياهم يُشْرِكون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره، مع مَا يعبدون أيْ يُطيعون في الدنيا من دون الله أيْ غيره من آلهةٍ أيْ مَعْبُوداتٍ كأصنامٍ وأحجارٍ وكواكب ونحوها وبَشَرٍ وغيرهم، فيقول الله لهؤلاء المَعْبُودين علي سبيل الذمِّ والتخويف والتحْقير لعابِديهم كنوعٍ من بَدْء التعذيب النفسيّ لهم قبل العذاب الجسديّ في النار، حيث تَبدأ الحقائق في التّكَشُّف وتبدأ المحاولات اليائسة لهم في أن يَتَبَرَّأوا مِن فِعْلهم السَّيِّء، فتكون بهذا الحجَّة عليهم أقويَ وأشدّ ولا يكون لهم أيّ دفاع يدافعون به عن أنفسهم، يقول سائِلاً إيَّاهم هل أنتم الذين أضللتم عبادي هؤلاء الذين عَبَدُوكم أيْ أَضَعْتُموهم أيْ أَبْعَدْتُموهم عن طريق الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريقي والإسلام بأنْ دَعَوْتُموهم لعبادتكم أم هم الذين ضلّوا السبيل أيْ الطريق فعَبَدُوكم باختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم؟!.. فلْيَتَّعِظ إذن مَن أرادَ الاتِّعاظ ولْيُحسن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام
ومعني "قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)" أيْ قال المَعْبُودون لخالِقهم – ويُنْطِق الله تعالي الخالِق القادر علي كل شيءٍ غير العقلاء منهم – علي الفَوْر نافِين ذلك نَفْيَاً قاطِعَاً بكل أدبٍ وخشوعٍ وتَعَجُّبٍ سبحانك أيْ نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك يا ربَّنا عن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فَلَكَ كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ما كان يَحِقّ ويَصِحّ لنا أبداً أنْ نجعل غيرك أيَّ أولياء يَتَوَلّوْن أمورنا أيْ آلهة نعبدها، وإذا كنا نَعْبُدك وحدك بلا أيِّ شريكٍ ونَتَبَرَّأ من عبادة غيرك فكيف يَحِقّ ويَصِحّ لنا أنْ ندعو أحداً لعبادتنا لا لعبادتك مع كَوْنِنا لا نَعْبُد غيرك؟! إنَّ هذا لا يكون مُتَصَوَّرَاً مُطْلَقَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل.. ".. وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)" أيْ ولكنْ سبب ضلالهم أنك يا ربنا مَتّعْتَهم ومَتّعْتَ آباءهم بكل مُتَع الحياة المُتَنَوِّعَة حتي نَسْوا الذكْر أي انْشَغَلوا بها وانْغَمَسُوا فيها تماماً وفَعَلوا بها الشرور بَدَل الخيرات ولفتراتٍ طويلةٍ فهُمْ في شَرٍّ تامٍّ بلا خيرٍ طوال حياتهم حيث وَرِثُوا هذا الانْشغال والشرّ منذ نشأتهم من آبائهم والذين لم يُحْسِنوا تربيتهم إذ ذِكْر الآباء هو لبيان كثرة وطول أوقات النعَم عليهم ولبيان اتّباعهم لآبائهم في عبادة غير الله بلا تَدَبُّرٍ ولا تَعَقّلٍ إلي أنْ وَصَلُوا لمَرْحَلَة أنهم نَسُوا الذكْر أيْ لم يَتَذكّروا كل مَا يُذَكّرهم بك وعبادتك وحدك وتَرَكُوه وأهْمَلُوه مِن كُتُبك وآخرها القرآن العظيم وسُنَن رُسُلِك وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ودينك الإسلام والعمل به ودعوة المسلمين لهم لهدايتهم لك ولإسلامك لإسعادهم بالداريْن ونَسُوا إحسان استخدام عقولهم والتّدَبُّر في كَوْنِك ونِعَمك والاستجابة لنداء الفطرة التي بداخل هذه العقول والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فعَبَدوا غيرك وفَعَلوا السوء بَدَلاً أنْ يَعبدوك ويَشكروك ويَفعلوا الصالح، وكانوا بالتالي بسبب ذلك كله قوماً بُورَاً أيْ أُنَاسَاً بُورَاً أيْ كالأرض البُور الفاسِدة الهالِكَة التي لا خير فيها ولا قيمة لها، أيْ قوماً بائِرين أيْ فاسِدين هالِكِين خاسِرين – بُورَاً جَمْع بائِر – ولذا هَلَكُوا وخَسِروا بعقابك الدنيويّ والأخرويّ لهم بما يَسْتَحِقّونه مِمَّا يُناسِب أفعالهم حيث عاشوا حياتهم في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كلّ ألم وكآبة وتعاسة ثم الآن في الآخرة لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وكلّ ذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)" أيْ فيقول الله تعالي حينها للعابدين المشركين الذين عَبَدوا في حياتهم الدنيا غيره سبحانه، لمزيدٍ من فَضْحِهم وذمِّهم وتأنيبهم وتعذيبهم النفسيّ قبل الجسديّ في النار، إنْ كنتم تقولون عن الذين عبدتموهم أنهم آلهة لكم فقد كذبوكم بسبب ما تقولون وفيما تقولون أنهم كذلك، فبالتالي لا تستطيعون صَرْفَاً أيْ إبْعاداً للعذاب عن أنفسكم ولا نَصْرَاً لها بأيِّ ناصرٍ مهما كان يُخَلّصكم منه حيث قد ثَبَتَ وحَقّ عليكم العذاب الحَتْمِيّ بسبب سُوئكم وليس لكم الآن بعد انقطاع حُجَجكم وظهور كذبكم وثبوت جرائمكم أيّ أملٍ في أيِّ خلاصٍ سواء بواسطة أنفسكم أو بغيركم.. ".. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)" أيْ ومن يظلم منكم أيها الناس جميعا، كما فَعَلَ هؤلاء، يَظلم نفسه ومَن حوله فيُتْعِسها ويُتْعِسهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أيْ عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقاً أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، ويَمُتْ علي ذلك بلا توبة، نُذِقْه أيْ سنُذيقه أيْ سنَجْعله يَسْتَشْعِر ألم ويَذوق عَمَلِيَّاً عذاباً كبيراً بمَرارته وشِدَّته وفظاعته أيْ عظيماً شديداً أليماً أيْ مُوجِعَاً مُهِينَاً مُتْعِسَاً لا يُوصَف، علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكه واستئصاله التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون له بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة له، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ، وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ له ولأمثاله، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثله حتي لا يَنال مصيره
ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)" أيْ هذا ردٌّ حاسِمٌ من الله تعالي لإخْراس ألْسِنَة المُكَذّبين الذين قالوا في الآية رقم (7) ".. مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ.." (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) وذلك لتسلية الرسول (ص) والمسلمين وطمْأنتهم وتَبْشيرهم وعَوْنهم علي الصبر علي أذي مَن حولهم والاستمرار علي عملهم بأخلاق إسلامهم ودعوتهم غيرهم له بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ببيانِ أنه ليس أمراً غريباً أو جديداً تكذيب المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين للرسل الكرام وللمسلمين وللإسلام الذي يَدْعونهم إليه ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم.. أيْ وما بَعثنا قبْلك سابقاً يا رسولنا الكريم أحداً مِن المُرْسلين أيْ المَبْعُوثين كرُسُلٍ مِنّا للناس لتبليغهم الإسلام إلا إنهم كانوا بَشَرَاً مِثْلك لا ملائكة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق – واللام للتأكيد – وبالتالي فلا تَهْتَمَّ لِتَفاهاتهم وسَخافاتهم هذه فهُمْ يعلمون الحقَّ ولكنهم مُسْتَكْبِرون مُعانِدُون من أجل أثمان الدنيا الرخيصة واسْتَمِرّ علي إسلامك ودعوتك له وسينصرك الله حتماً أنت والمسلمين معك في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مناسباً مُسْعِدَاً لكم.. ".. وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.." أيْ وجعلنا بعضكم أيها الناس اختباراً لبعض، فعليكم جميعا أن تنتبهوا لذلك وتحذروا منه تماما حيث كل أحداث الحياة هي اختبار لكم يحتاج إلي حُسن تعامُلٍ معه لِيَرَيَ ويُقَيِّم كلّ فردٍ ذاته هل اتَّبَعَ الإسلام في كل مواقف ولحظات حياته أم لا؟ فإن اتَّبَعَه كله في كل مواقفها سَعِدَ تمام السعادة في دنياه ثم أخراه، وليَحمد ربه ليُثيبه ويزيده، وإنْ تَرَكَ بعضه أو كله تَعِسَ فيهما علي قَدْر ما يترك، فليجتهد أن يَتَدَارَك حاله ويتمسّك ويعمل به كله لتتمّ سعادته فيهما.. هذا، وإنْ كان الاختبار في صورةِ ضَرَرٍ مَا فلْيَصْبِر عليه ليَخرج منه مستفيدا استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. إنَّ عليكم أيها الناس أن تنتبهوا تماما أنه ليس خَلْق كلّ هذا الكوْن وخَلْقكم هو لمجرد التسلية واللهو واللعب فيما لا يُفيد ودون أيّ حِكْمَة وأنَّ الحياة الدنيا ستَنتهي هكذا بكلّ عَبَثِيَّة أيْ فَوْضَيَ وعشوائية دون حسابٍ جَدِّيّ خِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم حينما ترجعون إلينا في الحياة الآخرة بعد بَعْثكم أيْ إحيائكم من قبوركم بعد كوْنكم ترابا بأجسادكم وأرواحكم، فلا يُمكن أن يَفعل ذلك ربكم الله سبحانه الذي تعالَيَ وارتفعَ عن كل صفةٍ لا تَلِيق حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وإنما خَلَقَ الموت والحياة بهذا النظام وأرسل لكم نظامه في الإسلام مع رسله ليُنَظّمها لكم علي أكمل وأسعد وجهٍ ليَبلوكم أيْ ليَختبركم، أيْ لكي تَنتبهوا وتَظلوا دائما مُتَذَكِّرين مُنْتَبِهين يَقِظِين حَذِرِين أنكم في اختبارٍ دائمٍ بكل ما حولكم فبالتالي تستفيدون من هذا الانتباه والحَذَر دوام حُسْن طَلَب الدنيا والآخرة دون أيِّ تقصيرٍ فتسعدون تمام السعادة فيهما حيث سيَظْهَر لكم بهذه الاختبارات أنَّ المُحْسِن يُجَازَيَ بكلِّ إحسانٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه – ثم في أخراه – لتكونوا جميعا مِثْله وأنَّ المُسِيء يُعَاقَب بكلّ شَرٍّ وتعاسة فيهما بما يُناسِب شروره ومَفاسده وأضراره فلا تفعلوا أبداً مِثْله (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل مراجعة أيضا الآية (2)، (3) من سورة العنكبوت "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ "، " وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".. ثم مراجعة كيفية حُسْن طلب الدنيا والآخرة معا في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، ( 15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة).. ".. أَتَصْبِرُونَ.." أيْ هل تصبرون؟ والاستفهام والسؤال للأمر لا للاستعلام، وللعَرْض بعَرْضٍ لا يُمكن رفضه من أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، أيْ فبَعْد كلّ هذا التوضيح هل تصبرون علي الاختبار وتُحْسِنون فتُؤْجَرُون فتَسعدون بالداريْن فتُحَقّقون بذلك ما خَلَقكم خالِقكم من أجله وهو إسعادكم بخيراته أم لا تَصبرون وتُسيئون فتُعَاقَبُون فتَتعسون علي قَدْر عدم صَبْركم؟! اصْبِرُوا، فلا يَمْلِك أيّ عاقلٍ إلا أن يقول أصْبِر يا رب فساعِدْني وأسْعِدْني ويكون صَبْره تامّاً سريعاً وعن تمام اقتناعٍ وحِرْصٍ ويستمرّ فيه بلا أيّ تراجُعٍ عنه فيَسعد في دنياه وأخراه ولا يَتعس فيهما.. ".. وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)" أيْ وكان ربك يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – قبل خَلْق الخَلْق ولازالَ وسيستمرّ قطعا سبحانه لأنَّ له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ بصيراً أيْ يَرَيَ بكامِل الرؤية كل شيءٍ، وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن وأهل الشرّ بكل ما يستحقّونه فيهما من كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم