الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)" أيْ قالت امرأة العزيز مُسْتَكْمِلَة حديثها ولا أُخْلِي وأُبْعِد نفسي عن فِعْل السوء أيْ الشرَّ، لأنَّ النفس – واللام للتأكيد – بالتأكيد كثيرة الأمر بالسوء، والمقصود بالنفس العقل، أيْ العقل كثيراً ما يُفَكّر في الشرّ، وهذا من فِطْرته حيث خَلَقَه خالقه سبحانه هكذا، وهذا لا يَبْرَأ ولا يَخْلُو منه أحدٌ من البَشَر، لكنَّ المُهِمّ ألاّ يُتَرْجِمه لشَرٍّ مُتْعِسٍ للنفس وللغير في الواقِع العَمَلِيّ، حيث قد فَطَرَ أيْ خَلَقَ الخالق الكريم العقل علي أن يُفَكّر في الخير والشرّ (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، لا لِأَنْ يَتّبِع ويَفعل الشرَّ قطعا!! ولكنه سبحانه قد سَمَحَ بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيراً فله كل الخير ومَن اختار شَرَّاً فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له)، فمَن استعاذَ بربه وتمسّك وعمل بكل أخلاق إسلامه وانْشَغَلَ بكل ما هو خير مُسْعِد فلم يَعُدْ لديه وقت لفِعْل شَرٍّ مَا، فهذا ولا شكّ ستكون حياته ثم آخرته كلها خير وسعادة، وهذا الذي يَفعل ذلك سيُعينه ربه حتماً وسيُيَسِّر له أسباب ذلك وسيُوَفّقه وسيُسَدِّد خُطاه وسيزيده من كل خيرٍ وسعادةٍ وسيَمْنَع عنه كل شرٍّ وتعاسة.. إنَّ مَا سَبَقَ ذِكْره هو معني ".. إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.." أيْ إلا ما رحم ربي من النفوس أيْ إلا مَن رحمه ربي بأنْ عاوَنَه برحماته ومَعوناته وتيسيراته بعدما اختار هو أولا الإيمان به واتّباع دينه الإسلام بكامل حرية إرادة عقله (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة قصة الحياة وسببها وسبب الخِلْقِة وعلاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف).. ".. إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)" أيْ لأنَّ ربي – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – حتماً غفور أيْ كثير المغفرة يَعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)" أيْ وقال الملك الحاكم لدولة مصر في ذلك الوقت، بعدما تأكّدَ والجميع من براءة يوسف (ص) التامَّة وكَرَم أخلاقه ورَجَاحَة عقله، قال لأعوانه أحضروه لي مُعَزَّزَاً مُكَرَّمَاً مرفوعَ الشأنِ لكي أجعله خالِصَاً لنفسي لا لغيري – وحرفا السين والتاء للمُبَالَغَة في الخُلُوص والخُصُوصِيَّة له – خاصَّاً بي أستشيره في أموري وأستعين به على حُسْن حُكْم البلاد وإدارة شئونها لِيَعُمَّ الخير فيها.. ".. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)" أيْ فعندما كلّمَ المَلِك يوسف ازداد تَأكّدَاً من صِحَّة قراره وازداد إعجاباً بحُسْن خُلُقِه وعقله وفكره وعلمه وتخطيطه ورؤيته للمستقبل وثَبَّتَ قراره بجَعْلِه وزيراً عاماً له يُدير شئون بلاده وقال له إنك منذ اليوم عندنا مَكِينٌ أيْ صاحِب مَكَانَة ومُتَمَكّن لك سلطان ونفوذ يُمَكّنك من أنْ تُدير الأمور بحكمتك وعقلك الراجح ورؤيتك الثاقِبَة وأمانتك وعدلك وحُسْن خُلُقك، أمينٌ علي كل الأسرار والأشياء مُؤْتَمَنٌ عليها مَوْثُوقٌ بك في تَصَرُّفك فيها.. لقد كانت كلمات الملك هذه ليوسف (ص) هى أولى البشائر المُسْعِدَة له كنتيجةٍ لصبره وعِفّته وعِزّته وحُسْن خُلُقه وعَقْله واستعانته بربه ودعائه وتوكّله عليه وثقته التامّة به وشُكْره
ومعني "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)" أيْ حينها عَرَضَ يوسف (ص) إمكاناته، وفي هذا إرشادٌ لكل مسلمٍ أنّه عليه أنْ يَعْرِض كفاءاته ومَهاراته وخِبْراته، من أجل المصلحة ليُثاب عظيم الأجر من كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن كلما أصْلَح لا من أجل التّعالِي والتفاخُر وطَلَب المَدْح والنَّهْب وأكل الحقوق وإيذاء الآخرين وما شابه هذا مِمَّا يُعاقَب عليه بالشرِّ والتعاسة فيهما، قال للمَلِك اجعل مسئوليتي علي خزائن الأرض بمَمْلَكَتِك دولة مصر – جمع خِزانَة وهى اسمٌ للمكان الذى يُخَزَّن فيه الأشياء – والتي فيها الأموال والتجارات والحبوب ونحوها مِمَّا ينفع الناس ويحتاجونه، لأني حفيظٌ أيْ شديد الحِفْظ للأمانات ولمَوَارِد الدولة وثَرَواتها واقتصاداتها وقُوَّاتها فلا يَضيع شيءٌ منها أو يُهْدَر، عليم أيْ كثير العلم بإدارة الأمور وضَبْطها فلا تَخْتَلّ بما يُفيد ويُسْعِد، فأنا كُفْءٌ لذلك بإذن الله وعَوْنه وتوفيقه وتيسيره
ومعني "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)" أيْ وهكذا وكما وَصَفْنا وذَكَرْنا وبهذا التدبير الحكيم للأحداث وكما مَكّنا ليوسف مكاناً كريماً حسناً في بيت مَن اشتراه بعد أن أنجيناه من القتل ومن البئر كذلك مكنّا له في الأرض أيْ جعلنا له مكاناً ومَكَانَة ونُفُوذَاً حتي صار مَلِكَ مصر بما فيها يَحكمها ويَسُوسها بعدل ورحمة وأخلاق الإسلام فسَعِدَ الجميع بذلك.. إنَّ هذا يُذَكّر كل مسلم أنه رغم أنَّ ظاهر الأحداث أنه قد هُدِّدَ بالقتل وقُذِفَ به في البئر وتَمّ بَيْعه كالعبيد وتَعَرَّضَ لفتنة مُرَاوَدَة امرأة العزيز عن نفسه وأُدْخِلَ السجن إلا أنَّ باطنها كلها خير وسعادة حيث هي بداية التمكين والعِزّة له في الأرض، وكذلك يفعل الله تعالي لكل مسلمٍ عاملٍ بكل أخلاق إسلامه حيث يكون في باطن بعض الأحوال التي ظاهرها سيء الخير الكثير له ولغيره تدريجيا مع الوقت.. ".. يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ.." أيْ يَنْزِل من أماكنها أيّ مكانٍ يشاؤه يَتَصَرَّف فيها كيف يريد قد تَمَكَّنَ وتَسَهَّلَ له كل أسباب الأخْذ والعطاء والإنشاء والتعمير وغيره بما يُفيد ويُسْعِد الجميع لأنه أصبح وزيراً له حرية التّصَرُّف بلا أيِّ مانع.. ".. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ.." أيْ نُوَجِّه رحمتنا بما فيها من خيراتٍ وسعاداتٍ لا تُوصَف في الداريْن نحو ونُنَزّلها علي مَن نشاء مِن خَلْقنا الذين نريد رحمتهم ورزقهم وإسعادهم بها ونَهَبهم إيَّاها لأنهم يَسْتَحِقّونها بسبب عملهم بأخلاق إسلامهم إذ نحن نَفعل ما نَشاء بحسب حِكْمتنا ومَشيئتنا بما يُحَقّق المصالح والسعادات لخَلْقِنا.. ".. وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)" أيْ ولا يُمْكِن أبداً ويَستحيل أنْ نُذْهِبَ نتائج وأجور المُحسنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، وإنما نكافئهم بسبب إحسانهم بالأجر العظيم، في دنياهم حيث لهم كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَتهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم، ثم في أخراهم حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد
ومعني "وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)" أيْ وبكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام للتأكيد – ثواب وعطاء الآخرة حتماً بسبب أنَّ فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وبسبب أنها هي بكل تأكيدٍ الحياة بحقّ، لأنها حياة بلا أيّ نهاية، بلا أيّ موت، بلا أيّ تَعَب، بلا أيّ ذرّة تعاسة، بل فيها تمام السعادة أَبَدَ الآبِدِين، حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف، هذا الأجر أجر الآخرة هو بالقطع بلا أيّ شكّ أعظم خيراً من خير الدنيا، وخَيْرِيَّته لا تُقَارَن بكلّ خيرِها الذي هو زائل يوماً مَا، ولكنه ليس لأيِّ أحدٍ بل هو فقط للذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل وكانوا ثابتين دائما عليها مُخْلِصِين مُحْسِنين أثناء ذلك دون أيّ تراجعٍ طوال حياتهم حتي وفاتهم، وكانوا يتقون في الدنيا أيْ يخافون الله ويراقبونه ويُطيعونه ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، ويكونون دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)" أيْ وقَدِمَ وحَضَرَ إخوة يوسف إلى مصر ليُحْضِروا منها احتياجاتهم الغذائية لتَوَفّرها بها بسبب حُسْن تخطيط وإدارة يوسف بتوفيق الله للمَجاعة بعد أن حَلّت بهم هم أيضا في بلدهم بالشام، فدخلوا عليه فعَرَفهم لأنَّ التَّغَيُّر في أشكالهم كان قليلاً حيث هم كبار السِّنِّ وهم لم يَعرفوه لطول المُدَّة وتغيُّر شَكْله وهيئته كثيراً عَمَّا تَرَكوه عليه ولأنهم لم يُفَكّروا في وجوده أصلاً حيث يَتَوَهّمون هلاكه وانتهاءه كما أنهم لم يُمْكِنهم التّأَمُّل والتّفَحُّص فيه لهَيْبَته
ومعني "وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)"، "فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)" أيْ وعندما حَمَّلهم بحِمْلهم، أيْ بعدما جَهَّزَ وأَعَدَّ لهم ما يحتاجونه من احتياجاتٍ غذائية، قال جِيئُوني بأخٍ لكم من أبيكم أيْ من أمٍ أخري غير أمِّكم، وهو شقيقه الأصغر من أمِّه هو، حيث قد سألوه من خلال حديثهم معه حِمْلاً زائداً عَمَّا أعطاهم إيّاه ليكون لأخيهم الصغير الذي بَقي مع أبيهم يعقوب لصغره ولخدمته فأعطاهم إيّاه واشترط عليهم أن يأتوه به بعد عودتهم ليتأكّد من صِدْقهم، تمهيداً للإتْيان بالأسرة كلها كما ستَذكر الآيات القادمة، ثم رَغَّبَهم أكثر في الإتيان به قائلاً لهم ألم تشاهدوا أني أوُفِي الكَيْل – والكَيْل هو تقدير الأشياء بحجمها أمّا الوزن فيكون تقدير ثقلها بالميزان المعروف – أيْ أُعْطِيه وافِيَاً كاملاً بكل عدلٍ بلا أيِّ نقصانٍ فلا أظلم أحداً وقد أعطيتكم نصيب أخيكم وهو ليس موجوداً وأنا خير المُنْزِلين أيْ خير مِن أنْزَلَ ضَيْفَاً في ضيافته وقد شاهدتم هذا الحال والواقع بأنفسكم في حُسْن إنْزالكم وضيافتكم أنتم وغيركم؟.. "فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)" أيْ ثم أتْبَعَ تَرْغِيبه السابق في الإتيان به بتحذيرهم، وذلك لمزيدٍ من عوْنهم علي إحضاره، قائلا لهم فإذا لم تُحْضِروا لي أخاكم الصغير هذا فليس لكم عندي طعام أكيله لكم ولا تقربوني بدخول بلادي ولا تأتوا إليَّ مرة أخري
ومعني "قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)" أيْ قال إخوة يوسف له بعد أن أكّد لهم وجوب إحضار أخيهم من أبيهم معهم سنَطلب من أبيه بصورةٍ فيها تِكْرار وذِهَاب وعَوْدَة وخِداع ومُرَاوَغَة ورِفْق ولِين لنُحَوِّله عن نفسه وإرادته بإبقائه معه إلي إرادتنا فنأتي به إليك وإنا فاعلون بالتأكيد – واللام للتأكيد – ما طلبته منّا وهذه المُرَاوَدَة باجتهادٍ بلا كَلَلٍ ولا مَلَلٍ ولا تقصير
ومعني "وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)" أيْ وقال يوسف لعُمَّاله الشباب الذين يعملون معه اجعلوا بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام في أمتعتهم سِرَّاً دون أن يعلموا – حيث كان يوسف يُعْطِي الفقير حاجته دون مُقابِلٍ أمّا غيره فكان يُعطيه غذاءً في مُقابِل بعض مالٍ يُناسبه أو بضاعةٍ مَا حسب استطاعته والبضاعة هي المنتجات التي تُباع وتُشْتَرَيَ وقد كان إخوته دَفَعوا بضاعة لا مالا كمقابلٍ للحصول علي تموينهم الذي يحتاجونه – لعلهم يرجعون إلينا مرة أخري ومعهم أخوهم ليَدْفعوا لنا مُقابل ما أخذوه حينما يرون أنهم قد أخذوا طعاما ولم يدفعوا ثمنه فيكون ذلك مزيداً من دَفْعِهم للعودة لأنهم قد يرفضون أكل طعامٍ بلا ثمن
ومعني "فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)" أيْ فلمَّا عادوا إلى أبيهم يعقوب (ص) قصُّوا عليه ما كان من إكرام عزيز مصر لهم (الذي هو يوسف (ص) والذي لم يعلموا حقيقته بَعْد) وقالوا له يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكَيْل مُسْتَقْبَلاً أيْ الطعام الذي يُكالُ لنا إلا إذا كان معنا أخونا الذي أخبرناه به، فقد أكرمنا وأعطانا هذه المَرَّة نصيبه من غير أن يراه لكنه لن يُعطينا مرة قادمة إلا إذا رآه قائلاً لنا إنْ لم تَأتوني به فلا كَيْل لكم عندي ولا تَقْرَبُون فأرسلْه معنا لكي نَكْتَل أيْ نأخذ كَيْلَنا من الطعام الذي نحتاجه كاملاً ونحن له بالتأكيد – اللام للتأكيد – حافظون أيْ حارِسُون من أن يُصيبه أيّ أذَيَ
ومعني "قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)" أيْ قال يعقوب (ص) لهم بعد أن طَلَبوا منه بإلحاحٍ إرسال أخيهم معهم وبعد أنْ أكّدُوا أنهم له حافظون هل تُريدون أن أَأْتَمِنَكُم على أخيكم الصغير كما أئْتَمَنْتُكُم على شقيقه يوسف من قبل هذا الوقت فكانت النتيجة التى تعرفونها جميعا وهى فِراق يوسف لى فراقاً لا يعلم مَدَاه إلا الله تعالى؟! لا إننى لا أثق بوعودكم بعد الذى حَدَثَ منكم معى فى شأن يوسف حيث لم تَحفظوا الأمانة، فالاستفهام هو للإنْكار والنفْى.. ".. فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)" أيْ فالله خَيْرُكُم حافظًاً وخَيْرُكم حِفْظَاً، أيْ حِفْظ الله له ولخَلْقه خيرٌ من حِفظكم وحِفْظ أيِّ أحدٍ حتماً بلا مُقارَنَة، والمقصود إننى لا أَثِقُ بوعودكم لى بعد الذى حَدَثَ منكم بالنسبة ليوسف وإنما أثِق فقط بحِفْظ الله تعالي ورعايته، فالله خيرٌ حافظاً لمَن يُريد حِفْظه، فمَن حَفِظَه سَلِم ومَن لم يَحْفظه لم يَسْلَم كما لم يَسْلَم أخوه يوسف مِن قَبْل حين ائتمنتكم عليه، وهو أرحم الراحمين لجميع خَلْقِه فأرجو أن يَرْحمني ويُحيطني بعظيم رحمته التي وَسِعَت كل شيءٍ فيَحْفظه ويَرُدّه عليَّ فهو أعلم بحالي.. هذا، وكلام يعقوب (ص) عن حِفْظ الله تعالي ورحمته وتوكّله التام عليه وحده يُفيد ضِمْنَاً أنه قد بدأ يَميل للاستجابة لهم لتحقيق المصلحة، وذلك بتيسيرٍ منه تعالي لكي يُحَقّق سبحانه إرادته وخيره له بمعرفة مكان ومَكَانَة يوسف (ص) ولِيَجتمع شَمْل الأسرة في تكريمٍ وتشريفٍ وتنعيمٍ عظيمٍ بمَمْلَكَتِه بمصر
ومعني "وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)" أيْ وحينما فتحوا أوعيتهم التى بداخلها الطعام الذى اشتروه من عزيز مصر (أي يوسف) فوجئوا بوجود بضاعتهم التي كانت من المُفْتَرَض أنهم دفعوها كأثمانٍ لهذا الطعام قد أُرْجِعَت إليهم معه ولم يأخذها عزيز مصر بل وَضَعَها سِرَّاً داخل أوعيتهم دون أن يشعروا، فدُهِشُوا وقالوا لأبيهم مُتَعَجِّبين يا أبانا ما نبغي أيْ ماذا نطلب من الإحسان والكرم أكثر من هذا الذى فَعَله معنا عزيز مصر؟! لقد أعطانا الطعام الذى نريده ثم رَدَّ إلينا بضاعتنا التي هي ثمنه الذى دَفعناه له دون أن يُخبرنا بذلك.. وفي هذا تشجيعٌ وتَرْغيبٌ له علي أنْ يُقابِل كرمه بكرمٍ مثله وهو النبيّ الكريم بأنْ يَقْبَل بإرسال أخيهم معهم كما طَلَبَ ليَراه ولأنه حَذّر بأنه ليس لهم كَيْلٌ عنده ولا يَقربونه إذا لم يأتوا به له إضافة إلي إعادة البضاعة والتي هي ثمن الطعام له إلاّ أنْ يَتَصَدَّق بها عليهم لاحتياجهم لذلك لأنه لا يُقْبَل أكل طعامٍ بلا ثمن.. ".. وَنَمِيرُ أَهْلَنَا.." أيْ ونُطْعِم أهلنا، وفي هذا مزيدٌ من التشجيع والترغيب له في إرسال أخيهم معهم، أي لو أرسلته معنا سنُحْضِر طعامنا كاملا.. ".. وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من ترغيبه في إرساله معهم.. أيْ وكُنْ مُطْمَئِنّاً فسَنَحْفظ حتماً أخانا أيْ سنَحْرُسه وسنَحْمِيه من أن يُصيبه أيّ أذَيَ حتي نَصِلَ به للعزيز، وسنَزْداد بذلك حِمْل بعيرٍ أي مِقدار ما يحمله جَمَل كنصيبٍ له، وذلك الكَيْل من الطعام الذى أعطانا إيَّاه عزيز مصر هو كَيْلٌ يسيرٌ أيْ قليلٌ لا يكفينا إلا لمدة قليلة من الزمن ثم علينا أن نعود إليه مرة أخري لنأتى بغيره
ومعني "قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)" أيْ قال لن أبعثه معكم إلاّ بعد أن تُعطوني عَهْداً مُوَثّقَاً صادراً من الله أيْ مُؤَكّدَاً بقَسَمِ الله أيْ تُقْسِمُوا بالله أنكم تأتونني به أيْ تُحْضِرونه لي سالِمَاً – واللام للتأكيد – إلا إذا أحاط بكم سوءٌ مَا مِن كل جانبٍ ولم تستطيعوا مَنْعه، فلمَّا أعطوه عَهْدهم المُوَثّق بقَسَمِهم كما طَلَبَ منهم واشترط عليهم قال لهم على سبيل المزيد من التأكيد والتذكير بوجوب وفائهم به الله وحده على ما نقول أنا وأنتم وكيل أى مُطّلِعٌ ورقيبٌ وشهيدٌ علينا فليس معنا شاهد غيره وكفَيَ به شاهداً حافظاً لحقّ كلٍّ منّا وهو الذي سيُجازى المُوفِين بعهودهم كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ويُعاقِب المُخْلِفين لها بما يُناسب من كل شرٍّ وتعاسةٍ فيهما، وهو الذي يأخذ الحقّ للمظلوم حيث هو وكيل عنه، فهو وكيلي ووكيلكم ويتولّيَ أمورنا بحِفْظه ورعايته وتكفينا شهادته علينا وحِفظه وكفالته لنا
ومعني "وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)" أيْ وقال مُوصِيَاً لهم يا أبنائي إذا دخلتم أرض مصر فلا تدخلوا مِن بابٍ واحدٍ وأنتم أحدَ عشرَ رجلاً ولكن ادخلوها من أبوابٍ مُتَفَرِّقةٍ بحيث يدخل كل اثنين أو ثلاثة من باب، وذلك لتذكيرهم بإحسان اتّخاذ أسباب الحَذَر ما استطاعوا لأنهم سيَكونون أغراباً وقد يُساءُ الظنّ بهم فيُتّهَمُون ظلماً بأنهم جاءوا للسرقة أو للتّجَسُّس أو نحو هذا فيُعاقَبُون بسجنٍ أو قَتْلٍ أو غيره، أو يُحْسَدُون علي جَمْعهم وهَيْئتهم ويَتّخِذ حاسِدهم ضِدَّهم إجراءاتٍ عمليةٍ لمحاولة إذهاب نعمة تَجَمُّعهم فيُؤذيهم بعملٍ سَيِّءٍ يُفَرِّقهم أو ما شابه هذا مِمَّا يَخافه عليهم من أضرارٍ ومِمَّا قد يَمْنَعهم من إتمام مهمّتهم في إحضار تموينهم.. هذا، ولم يَذكر القرآن الكريم هذه الحاجة التي كانت في نفسه ليُوصيهم بذلك ولكنه قضاها ونَفّذها بهذه الوَصِيَّة.. ".. وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.." أيْ وإني حين أوصيكم بهذا لا أنفعكم بأيِّ شيءٍ ولا أفيدكم ولا أنصركم ولا أمنع عنكم من تقدير وقضاء وإرادة الله أيَّ شيء، فالمُقَدَّر لابُدَّ أن يكون، فلا يَمنع أبداً حَذَرٌ مِن قَدَر، سواء أكنتم مُجتمعين أم مُتَفَرِّقين، وإنما قد وَصَّيْتكم بذلك من باب ما أوْصانا به سبحانه مِن حُسْن اتّخاذ الأسباب المُتَاحَة المُبَاحَة ما استطعنا، لأنَّ الحُكْم أيْ الأمر في كل شيءٍ ليس إلا لله وحده لا لغيره فما شاءه وقَدَّرَه وحَكَمَ وأمَرَ به كان واقِعَاً حتماً لا يَمنعه أيُّ مانع، فهو وحده الدافع لأيِّ أذَيَ.. ".. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)" أيْ فهو وحده لا غيره الذى عليه أتوكّل أيْ أعْتَمِد ويَعْتَمِد كلُّ الذين يريدون الاعتماد حيث بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فليكونوا إذن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل عن التوكل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم
ومعني "وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)" أيْ وحينما دخلوا من المكان الذي أمرهم أبوهم بالدخول منه أيْ من الأبواب المُتَفَرِّقة ما كان هذا الدخول يَدْفَع عنهم مِن قَدَر الله أيَّ شيءٍ قَدَّرَه عليهم، ولكن الذى دَفَعَ يعقوب (ص) على أمرهم بذلك حاجة فى نفسه قضاها أىْ نَفّذَها وهي شَفَقَته عليهم وإرادته مَنْع معاناتهم ووقوع ضَرَرٍ مَا عليهم لشِدَّة حُبِّه لهم فلذلك وَصَّاهم بالدخول من أبوابٍ مُتَفَرِّقَة حتي لا يُصابُوا بأذيً مع اعتقاده التامّ بأنَّ كلَّ شيءٍ هو حتماً بتقدير وقضاء وإرادة الله وأنَّ المُقَدَّر لابُدَّ أن يكون فلا يَمنع أبداً حَذَرٌ مِن قَدَر.. ".. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ.." أيْ وليس هذا قُصُورَاً في عِلْمه حتماً فهو يعلم ذلك تماماً فإنه بالتأكيد – اللام للتأكيد – صاحب علمٍ وعملٍ عظيمٍ للشيء الذي عَلّمناه إيّاه بوَحْيِنا أيْ بسبب تعليمنا إيّاه وَحْيَنا، من فضلنا وكرمنا عليه، فهو رسولٌ كريمٌ من رسلنا الكرام.. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)" أيْ ولكنّ كثيراً من الناس لا يُدْرِكون هذا الذي سَبَقَ ذِكْره، ولا يَعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلَة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، وذلك لأنّ بعضهم يَكفر أي لا يُصَدِّق بوجود الله أصلا، وبعضهم يُشرك به أي يعبد غيره كصنمٍ أو حجر أو نحوه، وبعضهم يُنافق أي يُظهر الخير ويخفي الشرّ، وبعضهم مسلم لكنه تاركٌ لكثيرٍ من أخلاق إسلامه وأحيانا أو كثيرا يَنْسَيَ قُدْرة ربه وعظمته ورحمته وودّه ووفائه التامّ بوعوده وبعضهم لا يستطيع أن يُدرك ويَتفهَّم ويَعلم ويَستخرج الخير الكثير المَخْفِيّ الذي سيظهر مستقبلا بعد ذهاب الشرّ الحالي الواضح، وبعضهم ظالم يعتدي علي الآخرين، وبعضهم فاسد ينشر الشرّ، إلي غير ذلك من أسباب عدم علمهم وجهلهم بوعود ربهم ونسيانهم لها، وهم بذلك حتما في تمام التعاسة في دنياهم ثم أخراهم، تعاسة تكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، ما لم يَستفيقوا ويعودوا لربهم ودينهم ليسعدوا فيهما.. وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف لأنَّ قِلَّة مِن هؤلاء المُكذبين والمُعاندين والمُستكبرين والفاسدين وأشباههم في كل زمنٍ من الأزْمِنَة يعودون لربهم ولإسلامهم فيعلمون ذلك
ومعني "وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)" أيْ وعندما دخل إخوة يوسف عليه في مَقَرِّ حُكْمه ومكان ضيافته للضيوف ضَمَّ إليه أخاه الأصغر الذي اشترط سابقا حضوره معهم ليُعطيهم كَيْلَهم كاملاً من الطعام وقال له سِرَّاً مُطَمْئِنَاً مُوَاسِيَاً إني أنا أخوك فلا تَحْزَن بما كانوا يعملون معنا من أذيً فيما مَضَيَ فإنَّ الله تعالى قد عَوَّضَ صبرنا خيراً وأعطانا الكثير من خيره وإحسانه وإسعاده.. لقد اخْتَلَىَ بأخيه فأخبره بما حَدَثَ له وطَلَبَ منه كتمان هذا عنهم أنه أخوه يوسف وطَمْأَنَه بما يريد فِعْله من خيرٍ له حيث سيُبْقيه معه مُعَزَّزَاً مُكَرَّمَاً في مُلْكِه ليَستمتع برِفْقَته وصُحْبَته وليكون ذلك سَبَبَاً في مَجِيء والديْه لهذا الخير والنعيم ليُقيما فيه ويَجتمع شمل الأسرة
ومعني "فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)" أيْ فعندما حَمَّلهم بحِمْلهم، أيْ بعدما جَهَّزَ وأَعَدَّ لهم ما يحتاجونه من احتياجاتٍ غذائية، وَضَعَ سِرَّاً عن طريق عُمَّاله السِّقايَة أيْ الإناء الذي يُشْرَبُ فيه ويُكَالُ به مَكَاييل الحبوب ونحوها في متاع أخيه الصغير، ثمّ لَمَّا بدأوا في الرَّحِيل نادَيَ مُنَادٍ من العُمَّال عليهم يا أيّتها العِيِر أيْ يا أيّتها الإبل التي عليها الأحمال والمقصود يا أصحاب هذه القافلة إنكم مُتَّهَمُون بالسرقة حتى يُفْصَل فى أمركم فإمَّا أنْ تُبَرَّأوا أو تَثْبُت عليكم التّهْمَة
ومعني "قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)" أيْ قالوا مُقْبِلِين على المُنادِي ومَن معه مِن العُمَّال ما الذي تفقدونه أيْ ضاع منكم وتبحثون عنه حتي اتّهمتونا بأننا سارقون؟!
ومعني "قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)" أيْ قال المُنادِي ومَن معه من العُمَّال نفقد أيْ ضاع مِنّا ونبحث عن صُواع المَلِك أيْ الصَّاع أيْ المِكْيال الذي يَكيل به، ولِمَن يأتي به ويُحْضِره مكافأة هي مِقْدار حِمْل جَمَلٍ من الطعام، وأنا – أيْ المُنادِي – بهذا الوعد بحِمْل البعير ضامِن ومُتَكَفّل به
ومعني "قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)" أيْ قال إخوة يوسف لهم والله لقد تَحَقّقتم وتَأكّدتم مِمَّا شاهدتموه مِنّا أثناء تعاملكم معنا في المرّتَيْن اللتيْن أتينا فيهما أننا ما جئنا أبداً لنفسد في الأرض ببلدكم مصر بأيِّ نوعٍ من أنواع الفساد وإنما فقط لأخذ تمويننا وما كنا سارقين يوماً من الأيام وليس من صفاتنا أن نكون كذلك
ومعني "قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74)" أيْ قال العُمَّال المُكَلَّفون بالبحث عن صُواع الملك لإخوة يوسف فما عقاب السارق إذَن الذي وُجِدَ المَسْرُوق في مَتاعه عندكم في بلدكم إنْ كنتم كاذبين في قولكم ما كنا سارقين وكان معكم؟.. لقد سألوهم عن جزائه ليكون العقاب برضاهم ولا يكون فيه ظلمٌ لهم تمهيداً لأخذ أخيه منهم بحُكْمهم هُمْ وبالتالي يكون حُكْمَاً نهائياً لا وَجْه للشفاعة والرجوع فيه
ومعني "قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ (75)" أيْ قال إخوة يوسف جزاؤه في نظام بلدنا أَخْذُ مَن وُجِدَ المَسْرُوق في مَتاعه واسْتِعْبَاده أيْ يُسَلّم مع سِرْقته لمَن سَرَقَ منه ليكون عَبْداً عنده لفترةٍ مَا علي قَدْر سرقته.. ".. فَهُوَ جَزَاؤُهُ.." أيْ فأَخْذُه جزاؤه، وهذا منهم هو مزيدٌ من التقرير للحُكْم السابق والتأكيد عليه بإعادته حتي لا يكون فيه أيّ شكّ أو غُموض.. ".. كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ (75)" أيْ هكذا دائماً وبِمِثْل ذلك الجزاء نَجْزي ونُعَاقِب الظالمين لأنفسهم ولغيرهم بفِعْل جريمة السرقة، وفي هذا مزيدٌ من التأكيد علي حُكْمِهم السابق ذِكْره
ومعني "فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)" أيْ فبدأ المُفَتّش، أيْ المُنادِي الذي نادَيَ عليهم، أو يوسف بنفسه، بتفتيش أمتعتهم قبل متاع أخيه، كنوعٍ من إحكام الخطّة التي دَبَّرَها لإبْقاء أخيه معه حتي لا يظهر عند تنفيذها افْتِعَالٌ قد يكشفها لو هو بَدَأ بوعائه قبلهم، ثم استخرج السقاية من متاع أخيه.. ".. كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ.." أيْ هكذا وكما وَصَفْنا وذَكَرْنا وبهذا التدبير الحكيم للأحداث دَبَّرْنا من أجل يوسف ويَسَّرْنا له هذا الكَيْد أيْ التدبير الذي سيُوصله إلى هدفه والذي سيكون فيه المصلحة للجميع وهو إبقاء أخيه معه ليكون سَبَبَاً لإحضار بَقِيَّة الأسرة فيَجتمع شملها بجواره في مُلْكِه وذلك بأنْ أوْحَيْنا إليه فِعْل مَا قد فَعَلَه.. إنه كَيْدٌ خَيْرِيٌّ مُفِيدٌ له وللجميع مستقبلاً قام به بوَحْيٍ من الخالق القادر علي كل شيءٍ جزاءَ وفي مُقابِل كَيْدِهم الشَّرِّيِّ السابق ضِدَّه، وما سيَحْدُث منه مِن بعضِ ضَرَرٍ فسيكون قليلاً بالنسبة لعظيم مصلحته التي ستَتَحَقّق، كبعضِ إحراجٍ مثلاً لهم مع أبيهم يعقوب (ص) وبعض قلقٍ علي ابنه الصغير، ولكنْ سيُصَبِّره الله تعالي وسيُوحِي له بالخير العظيم المُسْعِد منه سبحانه الذي ينتظرهم جميعاً قريبا.. ".. مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ.." أيْ إنَّ يوسف ما كان فى استطاعته أخْذ أخيه في نظام وقانون المَلِك بمصر إلاّ أن يريد الله، وقد أراد، فدبَّر الأمر له ووَفّقه إلى ترتيب الأسباب وإحكام التدبير بما أوْحَاه إليه، وذلك لأنه ليس من قانون المَلِك وقتها أن يكون السارق عَبْدَاً عند مَن سَرَقَ منه إلاّ أنَّ مشيئة الله تعالي اقتضت هذا التدبير والاحتكام إلى نظام بَلَدِ إخوة يوسف القاضية بهذا.. إنَّ فِعْل أيّ شيءٍ من الأشياء عموما لا يَتِمّ بمجرّد مَشيئة الناس وإرادتهم وإنما يَتِمّ بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يُمكن مُطلقاً أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذْنه وعِلْمه، ومَشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ".. نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ.." أيْ كما رَفَعنا يوسف (ص) درجاتٍ ومَقامَاتٍ عظيماتٍ عالياتٍ فكان في كل أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه بسبب إحسان استخدام عقله واستجابته لنداء الفطرة بداخله وحُسْن إسلامه وحُسن دعوته له ونَشْره ودفاعه عنه وصَبْره، نَرْفع كذلك كلّ مَن يَتَشَبَّه به ويَشاء أن يكون مِثْله ويَجتهد في اتّخاذ أسباب ذلك بإحسان استخدام عقله هو أيضا وإحسان عمله فنَشاء له هذا بأنْ نُعينه ونُيَسِّر له هذه الأسباب بعد أن اختار هو هذا الطريق أولا بكامل حرية إرادة عقله واستعان بنا وتوكّل علينا وذلك من خلال توفيقه لمزيدٍ من التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام وللعلم والحِكْمة وحُسن التصرّف، إننا حتماً سنَرْفع مِن شأنه بسبب كل ذلك، في دنياه أولا، حيث المَكَانَة والعلم والفهم والحكمة وحُسْن التدبير والتيسير والعوْن والتوفيق والسَّدَاد والرعاية والأمن والحب والرضا والرزق والقوة والنصر والسعادة التامّة، ثم له في آخرته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (269) من سورة البقرة " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.."، والآية (11) من سورة المجادلة ".. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..").. ".. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)" أيْ وأعلي مِن كل صاحب علمٍ مِن الناس عليمٌ أيْ كثير العلم أيْ مَن هو أعلم منه إلى أن ينتهي العلم كله إلى الله تعالى فهو العليم بكلّ شيءٍ بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر والذي لا أعلم منه بل العِلْم كله له ومنه ولولاه سبحانه لَمَا عَلِمَ أحدُ شيئا.. إنَّ علي كلِّ صاحبِ علمٍ أو صاحب خيرٍ وفضلٍ ورزقٍ وغيره مِمَّا حَصَّله بعِلْمه وفِكْره، أنْ يعلم أنَّ ما هو فيه مِن نِعَمٍ لا تُحْصَيَ إنّما هي من خالقه الكريم الوهَّاب الرَّزَّاق الذي يَرزق الرزق الوفير، وأنَّ عليه أنْ يُحْسِن استخدامها في نفع وإسعاد نفسه ومَن حوله حتي تزداد ولا تُسْحَب منه وتُمْنَع عنه إذا استخدمها في شرّ، وألاّ يُصيبه الغرور فيَتَعَالَيَ علي الآخرين أو يَحتقرهم أو يُؤذيهم، وكأنه وحده فقط الذي عنده هذا! فإنَّ هناك الكثيرون مَن هم أكثر منه علماً وخيراً ورزقاً وفضلاً إلي أن ينتهي الأمر إلي الخالق سبحانه حيث تمام وكمال كل الصفات الحُسْنَيَ من العلم والخير والفضل وغيره
ومعني "قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)" أيْ قال إخوة يوسف كلمة سيئة كاذبة فيها ظلم وزور أساءت له (ص) ودَلّت علي أنَّ بعضهم لا زال يَحْمِل غِلّاً وحَسَدَاً نحوه، قالوا إنْ كان سَرَقَ هذا الأخ الصغير فقد سَرَقَ أخ له سابقا من قبل، فلا عَجَبَ إذَن أنْ يَحْدُث منه هذا فهو يَتَشَبَّه به – يَقْصِدون يوسف (ص) حينما كان معهم صغيراً قَبْل رَمْيه في البئر – ولو تَشَبَّهَ بنا مَا سَرَق رغم أنهم هم الأحقّ بأنْ يُطْلَقَ عليهم سارقون لأنهم سَرَقوه من أبيهم ورَموه فيه!.. ".. فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)" أيْ فأخفاها – أيْ المَقَالَة السيئة الظالمة هذه التي قالوها وآثارها المُسِيئة، وكذلك أسَرَّ الإجابة عليها – في نفسه ولم يُظْهِرها لهم مِن حُسْن خُلُقه وكَرَمه رغم أنه هو صاحب السلطان ويُمْكِنه إفراغ غضبه عليهم بمُعاقبتهم إذ يَسْتَحِقّون العقاب ولكنه لم يقابلهم بسوءٍ مِثْله بل كَظَمَ غَيْظه، كعادة الرسل الكرام وكعادة المسلم الذي يريد أن يَتَشَبَّه بهم لينال ما يُقارِب ثوابهم ومَكَانتهم، واكتفي بأنْ قال يُحَدِّث نفسه داخل عقله أنتم شَرٌّ مَكَاناً أيْ أنتم أسْوَأ مَنْزِلَة عند الله – إذا لم تتوبوا – مِمَّنْ قُمْتُم باتّهامهما بالسرقة وهما أبرياء لهما أجرهما في الداريْن لصبرهما علي أذاكم لأنكم أنتم السارقون الخائنون الكاذبون حقيقة حيث سرقتموني سابقاً من أبي ودَبَّرْتم لي ما كان منكم من شرّ.. ".. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)" أيْ والله حتماً أعلم تماماً مِنّا ومنكم ومِن أيٍّ مِن خَلْقه بما تَصِفُون وتَذْكُرون من ادِّعاءاتٍ كذباً وزُورَاً
ومعني "قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)" أيْ قالوا ليوسف مُسْتَعْطِفِين إيَّاه ليُوفوا بعهدهم لأبيهم بإعادة أخيهم الصغير إليه يا أيها العزيز إنَّ له والداً كبيراً في السِّنِّ يُحبه ولا يطيق بُعْدُه وسيَحْزَن عليه كثيراً فخُذْ أحدنا بَدَلَاً منه، وما طلبنا منك هذا الطلَب إلاّ لأننا نراك من المُحسنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام
ومعني "قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)" أيْ لكنَّ يوسف (ص)، من أجل المصلحة والخير وبما أوحاه الله تعالي ودَبَّرَه له ووَفّقه لأسبابه ويَسَّرها إليه، من أجل إبقاء أخيه معه مُعَزَّزَاً مُكَرَّمَاً في مُلْكِه ليَستمتع برِفْقَته وصُحْبَته وليكون ذلك سَبَبَاً في مَجِيء والديْه لهذا الخير والنعيم ليُقيما فيه ويَجتمع شمل الأسرة، ثَبَتَ علي مَوْقِفه مُعْتَذِرَاً حيث قال لهم بكل حَسْمٍ مَعاذ الله أيْ أعوذ بالله أيْ ألْجَأ إليه وأعْتَصِم وأَحْتَمِي وأَتَحَصَّن بقُدْرَته وقوَّته من أنْ نأخذ أحداً إلا الذي وجدنا مِكْيالنا عنده كما حَكَمتم أنتم.. هذا، وهو (ص) لم يَقُل مَن سَرَق حتي لا يَدَّعِي عليه شيئاً كذباً وزُورَاً لأنه لم يسرق بالفِعْل.. ".. إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)" أيْ إننا إذَن بالتالي لو فَعَلْنا ذلك بالتأكيد ظالمون – واللام للتأكيد – أيْ مُسْتَحِقون لعقاب الله تعالي في الداريْن بما يُناسب من عذابٍ لمَن يَظلم غيره، وبالتالي فلن نفعله حتي لا نكون كذلك فنَتْعَس فيهما
ومعني "فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)" أيْ فلمَّا يَئِسُوا يَأْسَاً تامَّاً منه أن يستجيب لطَلَبهم – والسين والتاء للمُبَالَغَة في اليأس – انْفَرَدُوا خالِصين أيْ وَحْدَهم مُتَنَاجِين أيْ مُتَحَدِّثين فيما بينهم، قال كبيرهم في السِّنِّ والعقل والرأي والفِكْر والعلم ألم تعلموا أيْ هل لم تعلموا وتتأكّدوا، والاستفهام والسؤال للتقرير – كما أنه للذمِّ إذا لم يعلموا هذا، فاعلموا – أيْ لكي يُقِرّوا هم بذلك، أيْ قد عَلِمتم وتَأكّدتم، أنَّ أباكم قد أخذ عليكم عَهْداً مُوَثّقَاً صادراً من الله أيْ مُؤَكّدَاً بقَسَمِ الله أيْ أقْسَمْتُم بالله أنكم تأتونه بأخيكم الصغير أيْ تُحْضِرونه له سالِمَاً إلا إذا أحاط بكم سوءٌ مَا مِن كل جانبٍ ولم تستطيعوا مَنْعه، وألم تعلموا كذلك أنكم مِن قَبْل هذا فى الماضى قد فَرَّطتم أيْ قَصَّرْتُم وأهْمَلْتُم فى شأن يوسف حيث عاهدتم أباكم على حِفْظه ثم لم تُوفوا بعهده وخُنْتُم الأمانة وغَدَرْتُم به وضَيَّعْتُموه وألقيتموه فى البئر، فلذلك لن أُفارِق الأرض بمصر حتى يسمح لي أبي بمُفَارَقتها ويَدْعُوني للعودة بعد أن يفهم حقيقة حالنا لأنه قد أخذ علينا العهد بإعادته أو يَحُكم أيْ يَقْضِي ويأذن الله لي بالخروج منها ويُيَسِّر لي أسباب ذلك علي وَجْهٍ لا يُؤَدِّي إلي نقض الميثاق مع أبي وأتمكّن مِن أَخْذ أخي والعودة به إليه، وهو خير الحاكمين أي أَخْيَرهم وأعظمهم علي الإطلاق وبلا مَقارَنة، وهل يُقارَن الخالِق بالمخلوق؟! لأنه يَقْضِي القضاء الحقّ ويَتّبِع الحقّ والحِكْمَة فيما يَحْكُم به ويُقَدِّره فهو خير القاضِين في أيِّ حُكْمٍ يَحكم به في كلّ شأنٍ من شئونه في كل خَلْقه وكَوْنه فهو أعدل وأحكم الحاكمين فليس هناك أيّ أحدٍ أعدل أو أحْكَم في حُكْمِه منه سبحانه وهو خير الفاصلين الذين يَفْصِلُون ويُمَيِّزون بين الحقّ وأهله والباطل وحزبه بلا أيِّ ذرّة ظلمٍ أو عَبَث، ولا يمكن مُطلقاً أن يَحْدُث في حُكْمه مَيْلٌ أو محاباة لأيِّ أحدٍ أو خطأ فهو العالِم بتمام العلم بكل شيءٍ وكل حَدَث بينما غيره من الحاكمين من البَشَر قد يحدث منهم بعض ذلك
ومعني "ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)"، "وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)" أيْ ارجعوا أنتم إلى أبيكم يعقوب، فقولوا له برِفْقٍ وبأسلوبٍ مُناسبٍ يا أبانا إنَّ ابنك الصغير قد سَرَقَ صُواع المَلِك وعُوقِبَ علي ذلك بأن أُخِذَ عَبْدَاً له، وقولوا له أيضا إننا ما شهدنا إلا بما رأينا وعايَنَّا يَقِيناً أيْ ما شهدنا عليه بهذه الشهادة إلا بعد أن تأكّدنا تماماً حيث رأينا الصواع في مَتاعه، وما كنا عالِمين للغيب أي المستقبل أنه سيَسرق حين عاهَدْنَاك على رَدِّه.. "وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)" أيْ وقولوا له كذلك لمزيدٍ من التأكيد والتدليل علي صِدْقكم إنْ كنتَ فى شكّ من قولنا هذا فاسأل أهل القرية التي كنا فيها بمصر والتي حَدَثَت فيها حادثة السرقة بأنْ تُرْسِل إليهم مَن تريد إرساله لسؤالهم فإنهم سيَذْكُرون لك تفاصيلها كما نقولها، واسأل أيضا أنت بنفسك العِير التي أَتَيْنا فيها، والعير هي الإبل التي عليها الأحمال والمقصود سؤال أصحاب قوافل التجارة التى حَضَروا بها فإنَّ مَن صاحَبُوهم فيها يعلمون ما حَدَث لانتشار الخبر، ونحن بكل تأكيد – اللام للتأكيد – صادقون فى كل ما أخبرناك به لم نكذب فكن واثقاً من صِدْقنا، وهذا مزيدٌ من التأكيد علي صِدْقهم لأنَّ ماضيهم معه وما فعلوه سابقاً بيوسف يَبْعَث قطعاً على الشكّ في صِدْق كلامهم
ومعني "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)" أيْ قال أبوهم يعقوب (ص) لَمَّا سَمع حديثهم بعد عودتهم إليه حيث اشْتَدّ حزنه واتّهَمهم أيضا في هذه القضية بناءً علي أنَّ لهم جريمة سابقة مُمَاثِلَة مع يوسف (ص)، ليس الأمر كما تَدَّعُون وإنما الحقيقة أنه قد زَيَّنَتْ وحَسَّنَتْ وسَهَّلَت لكم عقولكم فاخترتم بتفكيركم الشرِّيّ أمراً سَيِّئَاً قبيحاً مُجْرِمَاً ففعلتموه به سيَكشفه الله حتماً قريباً.. ".. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.." أيْ فصَبْري علي هذا الاختبار من الله هو صبرٌ جميلٌ أيْ مُسْتَسْلِمٌ لأمره تعالي ليس فيه أيّ رفضٍ أو ضَجَرٍ أو سخطٍ داخليّ أو شكويَ لأحدٍ مع كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه وحده ودعائه فهو الذي يُسْتعان به دائما في كل الأحوال خاصة عند الشدائد وعلي الصبر علي ما تَصِفون وتَذْكرون لي من ادِّعاءات، وهو صبرٌ إيجابيٌّ ليس سَلْبِيَّاً حيث فيه اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لمقاومة ما حَدَث وتخفيف الأضرار وتحسين الأوضاع وعلاج الأسباب والبحث عنه وعن يوسف قَدْر المُسْتَطَاع.. ".. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا.." أيْ لعلَّ الله أن يحضرهم لي جميعا – يَقْصِد أبناءه الثلاثة، يوسف والأخوين الأكبر الذي بَقي بمصر والأصغر الذي أُخِذَ عَبْدَاً لمَلِكها – فإني أدعوه مُتَرَجِّيَاً إيَّاه برحمته وقُدْرَته وتوفيقه وتَيْسِيره مُتَمَنّيَاً آمَلَاً تَحَقّق ذلك.. هذا، ولفظ "عسي" حينما يأتي في القرآن الكريم فإنه يعني حَتْمِيَّة التَّحَقّق لأنه صَدَرَ من الخالق الكريم العظيم مالِك المُلْك الذي لا يُمكن أن يُعطِي أمَلَاً لأحدٍ بشيءٍ ثم لا يُعطيه إيّاه فهذا ليس من صفات الكُرماء! وإذا كان كثيرٌ مِن كُرَمَاء الدنيا يفعلون ذلك فالأوْليَ بالله الذي له الكرَم كله أن يفعله!! لكنَّ اللفظ في ذات الوقت يُفيد الاحتمالية والأمل في التّحَقّق من البَشَر من أجل التشجيع والدفْع لهم ليكونوا كلهم دوْماً كذلك حريصين علي دوام التواصُل مع ربهم والاستعانة به والتوكّل عليه والشكر له والصبر الجميل لو نَزَلَت بهم شدائد ليسعدوا بذلك في الداريْن.. ".. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)" أيْ لأنه تعالي هو وحده لا غيره الذي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه العليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بحالي وبكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده.. وهو الحكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
ومعني "وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)" أيْ وابْتَعَدَ عنهم وتَرَكَهم وقال يا حزني الشديد علي يوسف – والألفاظ مثل واأَسَفَاه، واحزناه، ونحوهما، هي تعبيرات في اللغة العربية تُقال عند شدَّة الحزن والألم – وابيضت عيناه بسبب الحزن الذي يُؤَثّر حتماً علي أعصابهما وأجهزتهما ودورتهما الدموية، إضافة للتأثير الضارِّ عليهما من كثرة البكاء المُصَاحِب عادة للحزن، والمقصود ذهاب سوادهما حيث يدخل الضوء للرؤية الأمر الذي يعني ضِمْنَاً ضعف إبصارهما، وقد كَظَمَ أيْ كَتَمَ حزنه وألمه أشدَّ الكَظْم فهو كظيم أيْ شديد الكظم أيْ حزين بشِدَّة فهو مُمْتَلِيء حزناً ولكنه كاتِمٌ له أشدَّ الكِتْمان لا يُظْهِره ولا يَتَحَدَّث به لغيره إلا لربه الكريم الرحيم
ومعني "قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)" أيْ قال أبناء يعقوب (ص) له بعد سماعهم منه شِدَّة تَأَسُّفه علي يوسف (ص) بما يزيد حزنه ولا يُخَفّفه وهم السبب فيه والله لا تزال تَتَذَكّر يوسف بهذا الحزن الشديد إلي أن يَصِل بك الحال أن تكون حَرَضَاً أيْ مريضاً مرضاً شديداً مُقْتَرِبَاً من الموت أو تكون من الهالكين أيْ المَيِّتِين بالفِعْل
ومعني "قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)" أيْ قال يعقوب (ص) مُجِيبَاً إيَّاهم إجابة المُتَوَكّل تماماً علي ربه الواثق ثِقَة كاملة في عَوْنه وفَرَجَه وتَيْسِيره ونَصْره، إنما أشكو حاجَتي وأَلَمِي – والبَثّ هو النّشْر، بمعني احتياجٌ وهَمٌّ وألَمٌ وحزنٌ شديدٌ يَصعب كِتْمانه ويُؤَدِّي إلي التّحَدُّث به، والشكوي ذِكْر مَا حَدَث من سوء – إلي الله تعالي وحده، لا إليكم ولا لغيركم ولا لطَلَب شيءٍ منكم وغيركم، لكي يُخَفّف عِنّي وليزيدني ثباتاً وصَبْرَاً، فهو العليم بحالي وهو وحده الكاشف للضرِّ القادر علي كل شيء، فاتركوني وشأني مع ربي خالقي وراعيني ورازقي.. ".. وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)" أيْ لأني أعلم مِن عند الله وليس مِنّي مَمَّا أوْحاه إليَّ وعلّمني إيَّاه ما لا تعلمون أنتم أنَّ يوسف حَيّ وأنَّ الأمور ستَنْفَرِج قريباً وأنه سبحانه سيأتيني بهم جميعا، وأعْرِف وأدْرِك من رحمته وفَرَجه وإحسانه وثوابه للصابرين وعدم رَدّه مطلقاً رجاءَ ودعاءَ مَن يَدْعوه ولا يَترك أبداً مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه ويَرجو خَيْره ما لا تعلمونه
ومعني "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)" أيْ ثم طلب منهم، ليكون صَبْره إيجابيّاً لا سلبيّاً وبعد استعانته بربه وتوكّله عليه – وكذلك يجب أن يكون حال كل مسلم مُتَمَسِّك عامل بكل أخلاق إسلامه عندما يصبر – أن يتّخِذوا الأسباب الجدِّيَّة المُناسِبة المُمْكِنَة للبحث عن يوسف وأخيهم الصغير والذي تُنَبِّيءُ الأحداثُ والصفاتُ التي ذَكَروها عن هذا المَلِك في عدله وحُسْن خُلُقه أنه قد يكون هو مُسْتَحْضِرَاً في ذهنه الرؤيا السابقة التي تُفيد أنه سيكون له شأنٌ عظيمٌ من فضل الله تعالي، قال لهم يا أبنائي اذهبوا إلي مصر ففَتّشُوا وابْحَثوا بحرصٍ واجتهادٍ وصبرٍ وحكمةٍ وتَأَنٍّ وتَلَطّفٍ عن يوسف وأخيه، وإيّاكم ثم إيّاكم أن تقطعوا وتنهوا الأمل والرجاء أبداً في رحمة الله، لأنه لا ييأس من رحمة الله إلا الأناس الكافرون، فإنَّ المسلم يعيش دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ، فهو يحيا دوْمَاً مُسْتَبْشِرَاً مُنْتَظِرَاً لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، بينما الكافر الذي لا يُصَدِّق بوجود خالقٍ مُعِينٍ قادرٍ علي كلِّ شيءٍ إذا أصابه ضَرَرٌ مَا فإنه يكون تعيساً كئيباً مُضطرِبَاً خائفاً مِمَّن حوله ومِن سوء مصيره لأنه بكفره قد حَرَمَ نفسه من رحمة ربه، من عوْنه وحبّه وتوفيقه، ثم هو حتي لو هلك لا يَدْري ما سيَحْدُث له بعد موته، فهو تعيسٌ تمام التعاسة بانتظاره لكل كآبة وتعاسة.. إنَّ الأمل والتفاؤل والاسْتِبْشار ونحو ذلك من أخلاق الإسلام يَدْفع علي الدوام للسعي وللاجتهاد في حُسْن التعامُل مع كل الأمور سواء أكانت سهلة أم صعبة لتحقيق الأهداف والنتائج والسعادات، بينما التشاؤم يَدْفع لعكس ذلك تماما
ومعني "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)" أيْ فذهبوا إلى مصر فلمَّا دخلوا على يوسف قالوا له مُشْتَكِين مُسْتَعْطِفين إيَّاه مُتَأَدِّبين معه يا أيها العزيز جاءنا وحَدَثَ لنا وأصابنا وأصاب أهلنا معنا الفقر والضعف من شدّة الجوع بسبب المَجاعَة التي بالبلاد، وجئنا إليك معنا من بلادنا ببضاعةٍ قليلةٍ رَديئةٍ يَرُدّها ويَنْصِرف عنها كل مَن يراها من التُّجَّار إهمالاً لها واحتقاراً لشأنها – وذلك للتمهيد لِمَا سيَطلبونه منه من خلال اسْتِعْطافه وتَحريك كَرَمه وشَهَامَته حيث كان يوسف يُعْطِي الفقير حاجته دون مُقابِلٍ أمّا غيره فكان يُعطيه غذاءً في مُقابِل بعض مالٍ يُناسبه أو بضاعةٍ مَا حسب استطاعته والبضاعة هي المنتجات التي تُباع وتُشْتَرَيَ وقد كان إخوته يَدفعون بضاعة لا مالاً كمقابلٍ للحصول علي تموينهم الذي يحتاجونه – وبالتالي إذَن وبما أنَّ هذا هو حالنا الذي ذَكَرْناه لك والذي يَدعو إلى الشفقة والرحمة فأتْمِم لنا كَيْلنا من طعامنا وافياً أيْ كاملاً بلا نُقْصانِ شيءٍ منه واقْبَل هذه البضاعة المُزْجَاة رغم رَداءتها وأعْطِنا ما كنت تُعطينا من قَبْل بالثمن الجَيِّد وتَصَدَّق علينا فوق حَقّنا بما أنت أهل له من كرمٍ ورحمةٍ، فإنَّ الله بكرمه وفضله ورحمته يُعطِي ويُثِيب المُتَصَدِّقين المُتَفَضِّلِين على المُحتاجين أعظم العطاء في دنياهم وأخراهم
ومعني "قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)" أيْ فلمَّا سمع يوسف (ص) قولهم رَقّت مشاعره وأخذته الشفقة الأخويَّة الرحيمة التي تعفو عن الإساءة وتَأَثّر بما أصابهم من ضُرٍّ وضيق حال، فبَدَأ يكشف أمره لهم، بوَحْيٍ وإذْنٍ من الله تعالي له، قال مُعاتِبَاً مُذَكِّرَاً بأخطائهم ليُعينهم علي الاستغفار مِمَّا فعلوه والعودة للخير، مِن حُسْن خُلُقه ورحمته ومُقابَلَته الإساءة بالحَسَنة والتماسه العُذْر لمَن أساء إليه وقبوله منه إذا اعتذر حيث بَيَّن لهم أنهم فعلوا ما فعلوه وهم يجهلون نتائجه السيئة ولا يعملون بما يعلمون من إسلامهم، قال هل أدْرَكْتم سوء ما فعلتموه بيوسف من إلقائه في البئر وبأخيه من أذى حيث بعضكم كان يسيء معاملته وقت أن كنتم تَجهلون سوء نتائج هذا الأذَىَ ولا تعملون بأخلاق إسلامكم الأمر الذي أنساكم الرحمة والأخوة؟.. والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، أيْ لقد علمتم وتأكّدتم من هذا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (17) من سورة النساء "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)" أيْ فلمَّا سألهم عَمَّا فعلوه مع يوسف دُهِشُوا واسْتَغْرَبُوا وتَعَجَّبُوا لأنه أمرٌ لا يَعلمه إلا الله تعالي ويوسف وعَلِمُوا حينها أنه هو يوسف وأرادوا التأكّد فسألوه قالوا هل إنك أنت يوسف أم لا؟ والاستفهام للتقرير، أيْ لكي يُقِرّ هو بذلك ويُؤَكّده، قال مُؤَكّدَاً أنا يوسف الذي ظُلِمَ وهذا أخي الذي أوذِيَ وظُلِمَ أيضا، وفي ذِكْر أخيه معه تكريمٌ له ولبيان نعمة الله عليهما بعد صَبْرهما علي أذاهم لهما، قد مَنَّ أيْ تَفَضَّلَ وأنْعَمَ الله بفضله وكرمه ورزقه ووُدّه علينا بأنْ يَسَّرَ علينا عَمَلنا بأخلاق الإسلام وجَمَعنا بعد فراقٍ طويلٍ أنتم سببه وبَدَّل أحوالنا من عُسْرٍ إلى يُسْرٍ ومن ضيقٍ إلى فَرَجٍ وجَعَلنا في أحسن حالٍ وسَلَّمنا من المَهالِك وأكرمنا بالمُلْك والسلطان وكل أنواع النعيم.. ".. إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)" أيْ لأنه مَن يَتّقِ أيْ يَخاف الله ويُراقِبه ويُطيعه ويَجعل بينه وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعد في الداريْن، وذلك في كل أقواله وأعماله في كل شئون حياته، ويكون دوْمَاً مِن المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ويَصْبِر أيْ ويَكُنْ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة المُتَوَقّعَة المُنْتَظَرَة لذلك بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ أنَّ الله لا يُضيع مطلقا أجر المُحْسِنين أيْ المُتْقِنِين المُجِيدِين في كلّ تصرّفاتهم بكل شئون حياتهم المختلفة ومع جميع الناس علي اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم، لا في دنياهم حيث كل الخير والأمن والنصر والسعادة بسبب صِلَتهم بربهم وعملهم بأخلاق إسلامهم، ولا في أخراهم حيث السعادة الأتمّ والأعظم والأخلد، وإنما يكافئهم بسبب إحسانهم بالأجر العظيم
ومعني "قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)" أيْ حينها قالوا مُعْتَذِرين مُعْتَرِفين بخطئهم وبإكرام الله تعالي له برَفْعه لمَكَانته وبعقابه لهم بخَفْضِهم بسبب ظلمهم والله لقد فَضَّلَك الله علينا بالنّبُوَّة والعلم والعقل والحكمة والحِلْم والتقوي والصبر والإحسان وحُسْن الخُلُق والمُلْك والسلطان والنفوذ والنعيم، وما كنا نحن فيما فعلناه بك وبأخينا إلاّ فاعِلين للخطأ بالتأكيد مُذْنِبين آثمين – اللام للتأكيد – ولذلك أعَزَّك الله تعالى وأذّلنا وأغْناك وأفقرنا، وهذا اعترافٌ منهم بجريمتهم وتوبتهم منها ورغبتهم الضِّمْنِيَّة في أن يعفو عنهم
ومعني "قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)" أيْ فقابَلهم يوسف (ص) بأخلاق الرسل الكرام بأنْ عَفَا عنهم رغم سوء فِعْلهم – وكذلك يجب أن يكون كل مسلم مُتَمَسِّكٍ عامِلٍ بكل أخلاق إسلامه مُتَشَبِّهٍ بالرسل يريد أجراً يُقارِبهم في الداريْن – قال لهم عافِيَاً عنهم يا إخواني لا لَوْمَ ولا تَأْنِيبَ ولا تَعْيِير عليكم اليوم، ولا أُعِيد ذِكْر ذنبكم لكم بعد اليوم، فقد عفوتُ عَمَّا صَدَرَ منكم فى حقّى من أخطاءٍ وأدعو الله تعالى أن يغفر لكم ما وقع منكم من ذنوبٍ أيْ يُسامحكم فلا يُعاقبكم عليها ويَمْحوها كأن لم تكن ويَمْحو عنكم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، فهو أرحم الراحمين أيْ لا أحد بالقطع أرْحَم بالخَلْق منه فهو خالِقهم وهم خَلْقه وصَنْعَته ويُحِبّهم وما خَلَقَهم إلاّ ليُسعدهم وأرحم الناس لا تُقَارَن رحمته أبداً مهما كانت برحمته سبحانه فهو أرحم بهم من كل راحِمٍ حتي من أنفسهم علي أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وإخوانهم وعموم الناس عليهم لأنه أكثر وأشدّ وأعظم الراحمين رحمة
ومعني "اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)" أيْ ارْجعوا بقميصي هذا فضَعُوه علي وجه أبي يَرْجِع مُبْصِرَاً كما كان.. وطَلَب يوسف (ص) هذا منهم هو وَحْيٌ له من الله تعالي أن يفعلوه كسببٍ من الأسباب حيث الشافي الحقيقي هو الخالق سبحانه القادر علي كل شيءٍ وليكون الأمر مُعْجِزَة من مُعْجِزاته له وليعقوب (ص) كرسوليْن كريميْن من رسله الكرام.. ثم أحضروا لي جميع أهلكم، أي الوالدين والأقارب من الرجال والنساء والأطفال، ليَجتمع شَمْل الأسرة ويُقيموا جميعا بمصر ويَنْعَموا بالعدل والأمن الذي كان بها وقتها
ومعني "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)" أيْ وعندما بدأت القافلة التي تَحْمِل إخوة يوسف ومعهم قميصه في الانفصال والابتعاد عن مصر مُتّجِهَة إلي الشام حيث المكان الذي يقيم فيه أبوهم يعقوب (ص)، بدأ بفضل الله ورحمته وقُدْرَته يَسْتَشْعِر نَسَمَات وروائح الفَرَج، فقال مُسْتَبْشِرَاً لمَن كان حوله من أهله وأقاربه وغيرهم، بوَحْيٍ منه تعالي، إني أجدُ أيْ أشُمُّ مُؤَكّدَاً – اللام للتأكيد – رائحة يوسف التى تَدُلّ عليه وتدلّ علي قُرْب لقائى به، فهو وجود بحاسَّة الشَّمّ، ولولا أن تُفَنّدُوني أيْ تَتّهِموني بالفَنَد وتَنْسِبوني إليه وهو ضعف العقل واختلاله بسبب الشيخوخة لقُلْت لكم أنّى أشعر أنَّ لقائى بيوسف قد اقترب وقته بالتأكيد.. لقد جعل الله تعالي – وهو القادر علي كل شيءٍ والذي يقول للشيء كن فيكون – يعقوب (ص) يَشُمّ رائحة قميص يوسف من علي مسافة مسيرة أيامٍ من خلال حَمْل الرياح لها كمُعْجِزَةٍ لهما
ومعني "قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)" أيْ قال الحاضرون عنده الذين قال لهم هذا القول والله إنك لا تزال في خَطَئِك القديم – واللام للتأكيد – حيث ما زلت تحب يوسف ولا تنساه رغم طول مدة غيابه وتَتَوَهَّم لقاءه مرة أخري.. لقد قالوا له ذلك لأنهم بالقطع لم يستشعروا ما اسْتَشْعَره وعَلِمَه بوَحْيٍ من الله تعالي له وهو رسوله الكريم (ص)، فبعضهم قالوه غِلْظَة عليه وبعضهم إشفاقاً وبعضهم تَوَهُّمَاً أنه قد اخْتَلَّ عقله بالفِعْل، وكل ذلك لأنَّ يوسف عندهم قد انتهي أمره ومات
ومعني "فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)" أيْ فحين – أنْ للتأكيد – وَصَلَ وحَضَرَ مَن يُبشّر يعقوب (ص) بأنَّ يوسف حيٌّ وبقُرْب لقائه واجتماع شَمْل الأسرة عنده في مُلْكه بمصر، وَضَعَ قميصه على وجهه فعادَ يعقوب مُبْصِراً، كمُعْجِزَةٍ له بقُدْرَة الله تعالي القادر علي كل شيءٍ الذي يقول للشيء كن فيكون، قال حينها فرحا تغمره السعادة بنعم الله عليه لمن أنكر عليه قوله إني لأجد ريح ألم أقل لكم قبل ذلك أيْ أخبرتكم إني أعلم مِن عند الله وليس مِنّي مَمَّا أوْحاه إليَّ وعلّمني إيَّاه ما لا تعلمون أنتم أنَّ يوسف حَيّ وأنَّ الأمور ستَنْفَرِج قريباً وأنه سبحانه سيأتيني بهم جميعا، وأعْرِف وأدْرِك من رحمته وفَرَجه وإحسانه وثوابه للصابرين وعدم رَدّه مطلقاً رجاءَ ودعاءَ مَن يَدْعوه وعدم تَرْكه أبداً مَن يَلجأ إليه ويتوكّل عليه ويَرجو خَيْره ما لا تعلمونه
ومعني "قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)" أيْ هنا أحَسَّ إخوة يوسف بعظيم خطئهم وجريمتهم نحو أبيهم وأخَوَيْهم حيث أساؤوا إليهم وأحْزَنوهم لسنواتٍ طِوال، قالوا يا أبانا – نادوه بلفظ الأبُوَّة ليَسْتَعْطِفوه لِيَسْتَحْضِر مَشاعِرَها ليُسامحهم – اطلب لنا من ربنا مَغْفِرَة ذنوبنا أيْ يُسامحنا فلا يُعاقبنا عليها ويَمْحوها كأن لم تكن ويَمْحو عنا آثارها المُتْعِسَة في الداريْن، لأننا كنا حتماً بالتأكيد فاعِلين للخطأ مُذْنِبين آثمين بسبب ما فعلناه معك ومع أخَوَيْنا، ومن شأن الكريم الشفيق مِثْلك أن يعفو عَمَّن اعترف له بخطئه
ومعني "قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)" أيْ قال لهم يعقوب (ص) مُطَمْئِنَاً إيَّاهم، بأخلاق الرسل الكرام وبعاطفة الآباء الرحماء، ما يُفيد أنه قد سامَحهم، سوف أطلب لكم غُفْران ربي لذنوبكم لأنه حتماً هو الغفور أيْ الكثير المغفرة الذي يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، الرحيم أيْ الكثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. هذا، ولفظ "سوف" يُفيد الاستمرارِيَّة مُسْتَقْبَلَاً طوال حياته، أو أنه (ص) قد أجَّلَ دعاءه لهم لحين يقوم الليل ليكون الدعاء أكثر استجابة رغم استجابته تعالي لكل داعٍ وتائبٍ في أيِّ وكلِّ وقت
ومعني "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99)" أيْ استجاب إخوة يوسف له فأتوا بأهلهم أجمعين حيث رحلوا جميعاً من بلادهم بالشام إلى مصر ومعهم أبوهم يعقوب (ص) فلمَّا وَصَلوا إليها ودَخلوا على يوسف ضَمَّ إليه أبويه وعانقهما عِناقاً حارَّاً وقال للجميع ادخلوا بلاد مصر أيْ اسكنوها واستقرّوا بها بمشيئة الله وإرادته وإذنه وحالكم آمنين أيْ سالِمين مُطْمَئِنّين من الجوع والخوف والظلم والاعتداء وكلّ سوءٍ تحت حُكْمنا العادل، فدخلوا في هذه الحالة السَّارَّة وحَصلَت لهم كل سعادة وزالت عنهم كل تعاسة
ومعني "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)" أيْ ونَقَلَ يوسف أباه وأمّه إلي العُلُوّ وأجْلَسَهُما معه على كرسيِّ الحُكْم ومَجْلِس المُلْك تكريماً لهما وتشريفاً وحِفْظَاً لمكانتهما واعترافاً بفضلهما، وهم أيْ الأبوان والإخوة الأحد عشر قد خَرُّوا له سُجَّدَاً أيْ حَيّوه بما يُحَيَّا به الملوك بانحناءِ الرأس قليلا وليس بالقطع كالسجود بالجبهة لله تعالي والذي لا يكون إلا له سبحانه.. كذلك من المعاني أنهم خَرُّوا لله – وليس ليوسف – سجداً شكراً علي ما حَصَلَ لهم من نِعَم.. ".. وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي.." أيْ وقال يوسف لأبيه يعقوب مُتَحَدِّثَاً مُذَكِّرَاً ببعض نِعَم الله تعالي ليُشْكَرَ عليها يا أبَتِ – ومعني يا أبت أيْ يا أبي وهو نداء يُفيد في اللغة العربية تمام الحب والقُرْب والاحترام والتقدير وأنَّ ما سيُقال بَعْده سيكون كله نفع وخير – هذا السجود هو تفسير رؤياي التي قصصتها عليك مِن قَبْل في صغري حين رأيت في المنام أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين لى قد جعلها ربي أمْرَاً واقِعَاً بفضله وكرمه ورحمته، وقد لَطَفَ بي وأكرمني وتَفَضَّلَ وأنْعَمَ عليَّ حين أخرجني من السجن بعد أن أظهر براءتي مِمَّا اتُّهِمْتُ به، ولم يَذْكُر نِعْمَة إخراجه من البئر حتى لا يَجْرَح شعور إخوته ويُذَكّرهم بما يُحْزِنهم وهم الذين سَبَقَ أن قال لهم لا تثريب أيْ لا لَوْمَ عليكم اليوم ومُسْتَقْبَلَاً يغفر الله لكم وذلك إظهارَاً لتمام عفوه عنهم، فلقد كان مِن حُسْن خُلُقه أثناء حديثه يَذْكُر تفصيل ما هو طيِّب خيْر مُسْعِد مُفيد ويَمُرّ سريعا علي ما ليس بخيرٍ ويتجاوزه حتي تستمرّ سعادتهم أثناء حديثهم دون تعكيرٍ بحزنٍ وتعاسة.. وقد أحسن بي كذلك إذ أحضركم من البادية أيْ الصحراء التي كنتم تُقيمون بها بالشام – والمعروف أنَّ حياة البَدْو أيْ سُكّان البادية تَتَّصِف بخشونة العيش وشِدَّته وفقره ولكنه بالقطع لم يَذكر هذا – ويَسَّر لكم أموركم لنجتمع فى مصر حيث سيكون ارتياحنا وأمننا وخيرنا.. وقد جَمَعَني بكم من بعد أن نَزَغَ أيْ أفْسَدَ الشيطان رابطة الأُخُوَّة والمَحَبَّة بيني وبين إخوتي، وهذا أيضا من كمال خُلُقه وأدبه وكرمه (ص) حيث اعْتَبَرَ كأنَّ الخطأ مُشْتَرَكٌ بينه وبينهم رغم أنه منهم وحدهم فهم المُعْتَدُون وهو المَظلوم المُعْتَدَيَ عليه، كما أنه أسْنَدَ ونَسَبَ النزْغ إلى الشيطان، لأنه هو المُوَسْوِس به والدافع إليه، ولأنَّ فى ذلك مزيداً من السَّتْر على إخوته والتَّأَدُّب معهم، والنزْغ هو أيّ كلامٍ يُراد به الشرّ والإفساد سواء أكان سِرِّيَّاً أم عَلَنِيَّاً، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرّد علي كلّ خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رمز لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل.. ".. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ.." أيْ وما كان لهذا كله أن يَتِمَّ بغير تدبير ربّي فإنَّ ربّى – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – لطيف التدبير والتسخير لِمَا يريد تدبيره وتنفيده من أمور خَلْقه، رفيق بهم فى جميع شئونهم من حيث لا يعلمون.. هذا، ومعني لطيف أنه تعالي وحده لا غيره الذي يَدخل بخِفّة إلي دقائق الأمور ويَعْرفها بعلمه التامّ سبحانه، وهو يُوصِل خيراته وأفضاله وإحساناته التي يشاؤها لأهل الخير – بل ولكلّ خَلْقه – بكلّ لُطفٍ أيْ مِن حيث لا يشعرون دون ثِقَلٍ عليهم وبأسباب مُيَسَّرة كثيرة قد يُدْرِكُون بعضها أو لا يُدركون وقد يكون بعضها ظاهِره شرّ لكنّ باطنه خير كثير فهو يجعل من المِحْنَة مِنْحَة ومن الصعب سَهْلَاً، وهو عزّ وجلّ اللطيف تمام اللطف أي الرقيق الرفيق تمام الرِّقّة والرفق.. ".. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)" أيْ لأنه تعالي هو وحده لا غيره الذي له كلّ صفات الكمال الحُسني ومنها أنه العليم يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا في الداريْن وبمَن يَستحِقّ خيرا ومقداره علي حسب اجتهاده فيُوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه ومَن لا يَستحِقّه، وبمَن يَشكر ويُحْسِن فيزيده ومَن لا يشكر ويُسيء فلا يزيده.. وهو الحكيم في كل تصرّفاته يضع كل أمرٍ في موضعه الصحيح بكل حِكمةٍ ودِقّةٍ دون أيّ عَبَث
ومعني "رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)" أيْ بعدما أنْعَمَ الله علي يوسف (ص) نِعَمه وسعاداته كالنّبُوَّة والعلم والتمكين في الأرض والمُلْك والاجتماع بالأبوَيْن والعائلة قال مُعْتَرِفَاً بنِعَمه تعالي التي لا تُحْصَيَ شاكراً لها لكي تزداد داعياً بالثبات على الإسلام مَصْدَرَ سعادته في الداريْن طوال الحياة حتي المَمَات: يا ربّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – قد أعطيتني بفضلك وكرمك ورحمتك شيئاً عظيماً من المُلْك والسلطان والنفوذ، من بعض مُلْكِك الذي لا يُوصَف، وكذلك قد عَلّمْتَني بتوفيقك وتَيْسيرك وإحسانك شيئاً كثيراً من عِلْمك الذي لا يُحْصَيَ، عَلّمْتَنِي من تأويل الأحاديث أيْ مِن عِلْم ما تَؤُول وتَهْدِف إليه الأحاديث أيْ التعاليم التي أوْحَيتها إليَّ إضافة للتي كانت في الكُتُب السابقة أيْ عَلّمْتَني أدِلّة التوحيد والإسلام المُناسب لِزَمَنِي وكذلك عَلّمْتَني ما ستَؤُول وستَنْتَهي إليه الأحاديث بمعني الرؤَيَ الصالحة التي تَحْدُث للناس في مَنامِهم ويَتَحَدّثون بها والتي كان تأويلها وتفسيرها مُنْتَشِر في زمننا فكان من مُعْجِزاتي منك حُسْن وصِحَّة تفسيرها وكيفية حُدُوثها واقعياً كنوعٍ من الغيب الذي تُوحِيه وتُعَلّمه لي كدليلٍ علي صِدْقِ أني رسولٌ من عندك، وبالجملة عَلّمْتَني الأحاديث والتي هي جَمْع حَدِيث وهو كل ما يُتَحَدَّث به من كلامٍ وخَبَرٍ بين بني آدم بمعني إدراك أسباب هذه الأحاديث والمقصود منها ونتائجها المُتَوَقّعَة بما يُفيد نِعْمة تعليمي تمام الحِكْمة دائما أيْ حُسْن التّفَكّر والتّصَرُّف وإصابة الصواب والخير والسعادة في كل شئون الحياة، يا فاطر أيْ يا خالِق السماوات والأرض وما فيهما من خَلْقٍ مُبْهِرٍ مُعْجِزٍ، أنت وَلِيِّي في الدنيا والآخرة أيْ يا مَن هو وحده وليس لي غيره وَلِيّ أمري الذي يُديره لي في كل شئوني علي أكمل وجهٍ فيُحِبّني ويَرْعاني وينصرني ويُعينني ويُؤَيِّدني ويُوَفقني ويُؤَمِّنني ويُسعدني في دنياي ثم يُدْخِلني في أخراي أعلي درجات جناته بنعيمها الذي لا يُوصَف – وهذا من آداب الدعاء أنْ يبدأ المسلم بحمد الله تعالي علي نِعَمه ويتَذكّر أنه هو القادر علي كل شيءٍ الذي يُجيب دعاء مَن يدعوه ويَتّخِذه وَلِيَّاً ويَطْلب عَوْنه، ثم يدعو بما شاء – تَوَفّني مسلماً أيْ أدعوك يا ربّ أنْ تَقْبِض روحي إليك عند موتي مسلماً أيْ على دين الإسلام والمقصود أبْقِنِي بعوْنك وبرحمتك مسلماً طول حياتي وأَدِمْ عليّ هذا الدين مَصْدَر سعادتي في الداريْن وساعدني أن أثبت عليه حتى تَتَوَفّاني وأنا مسلم لا غير ذلك، وألحقني بالصالحين أي وضُمّنِي واجْمَعني في الآخرة مع جُمْلَة وعِدَاد الصالحين الذين صَلُحَت أحوالهم فسعدوا في الدنيا بسبب إيمانهم بربهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم أيْ مع النبيين والصديقين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقاً في أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
ومعني "ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)" أيْ ذلك الذي قَصَّه القرآن العظيم عليك من قصص السابقين الذين اصطفاهم الله ومن القصص الحكيم عموما هو من أخبار الغيب الذي نُوحِيه إليك عن طريق المَلَك جبريل والذي لم يكن يعلمه أحد غيرنا وقد أخبرناك به ليكون دليلا على صِدْقك فيما تُبَلّغه عنا وليكون عِبْرة لمَن أراد الاعتبار والعمل به ليسعد في دنياه وأخراه حيث تُخبرهم بتفاصيل أخبار لم تكن تعلمها لأنك أُمِّيّ ولم تحضر زمنها ويعلمها بعضهم من كتبهم السابقة ويتداولونها فيما بينهم ولا يمكنهم تكذيبها.. والغيب هو كلّ ما غابَ عن الناس من ماضٍ وحاضرٍ لا يعلمونه ومستقبلٍ آتٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والبَعْث لهم فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي هو من الغَيْب والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)" أيْ وأيضا مِمَّا يُؤَكّد صِدْقك وأنَّ هذا القصص وهذا القرآن هو وَحْي من عند الله لا مِن عندك أنك تُخْبِر بأخبارٍ لم تَحضر زمنها فأنت ما كنت قطعا عندهم حاضراً معهم حين أجْمَع إخوة يوسف أمرهم أيْ عَزَمُوا واجتمعت آراؤهم علي أن يُلقوه في البئر وهم يَمكرون به أيْ يَكيدون له المَكائِد
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)" أيْ ومع كل هذا الوضوح والمَنْطِقِيَّة للأِدلّة العقلية علي قَطْعِيَّة صِدْق القرآن وأنه من عند الله تعالي والتي يَتَقبَّلها حتماً كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فإنَّ كثيراً من الناس مهما حرصت أي اجتهدتَ بشِدَّة ورَغْبَة علي إيمانهم لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزئون ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم لَأَحْسَنوا التصرّف بالإيمان بربهم والتمسّك بإسلامهم ولَمَا عاشوا حياتهم – ثم آخرتهم – هكذا بعيدين عنهما في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة، لكن ما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم – وهي الصفات التي علي كلِّ مسلمٍ العمل بها – لأنَّ الكثير يُؤمن قطعا.. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الثابتين المُستمِرِّين طوال حياتهم علي خيرهم هذا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، ولا يَحزنوا علي مَن لم يؤمن ولا يَتأثّروا به، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيراً فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه، فإنَّ أمثال هؤلاء الناس الذين لا يُؤمنون يَقِلّون تدرجياً ويَتَلاشُون كلما أحْسَنَ أهل الخير دعوتهم للإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، أمَّا إنْ تَكَاسَلَ المسلمون في دعوة غيرهم أو قَصَّرُوا أو تَرَاجَعُوا أو خافوا أو انشغلوا بما هو أقلّ أهمية عَمَّا هو أهمّ أو ما شابه ذلك فسَيَقِلّ الخير وأهله حتماً وستكون فرصة انتشار الشرّ وأهله أكبر
ومعني "وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)" أيْ ومن علامات صِدْقك أنك لا تسألهم أيْ لا تَطْلب منهم أيّ أجرٍ علي بَلاغِك ودعوتك لهم لله وللقرآن وللإسلام بحيث يَغْرَمُون شيئاً إذا تمسّكوا وعملوا بأخلاقه!! أو أنَّك ستَخْسَر مَكْسَبَاً مَا كنت ستأخذه منهم إذا لم يستجيبوا!!.. إنَّ أجر المسلمين وثوابهم فقط علي الله تعالي الكريم الرحيم حيث سيُعطيهم ما يُسعدهم في دنياهم وما هو أسعد في أخراهم، ما داموا قد أحسنوا دعوة الآخرين سواء استجابوا أم لا، فالأمر لمصلحة ولسعادة مَن يستجيب في الدنيا والآخرة.. فلعلّ معرفتهم بهذا تساعدهم علي الاستجابة لله وللإسلام حيث أحيانا قد يَمنع البعض خوفهم من أن يَغرموا شيئا ماليا أو غيره!.. ".. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)" أيْ ما هذا القرآن العظيم إلاّ تذكير للناس جميعا، وذلك لأنَّ فيه بكل تأكيدٍ كلّ ما يُذَكِّرهم بكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم ليَفعلوه ليَسعدوا بهما وبكلّ شرٍّ وتعاسةٍ ليَتركوه حتي لا يَتعسوا فيهما، كذلك فيه الذكْر لهم أي الصِّيت الطّيِّب أيْ كلّ الشرف والعِزَّة والجَاه والمَكَانَة والسُّمْعَة الطيِّبة ونحو ذلك ممّا ينتفعون ويسعدون به تمام الانتفاع والسعادة وبالجملة فيه كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في الداريْن
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)" أيْ وكم من دلالة ومعجزة، أي وكثير منها، في السماوات والأرض، من مخلوقاتٍ مُعجزاتٍ مُبْهِراتٍ لا يَقْدِر علي خَلْقها إلا الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء ولم يَتَجَرَّأ أيّ أحدٍ أن يدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقها، دَالّة لكلِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، يَمُرّ عليها ويُشاهدها في كل لحظةٍ هؤلاء الناس غير المؤمنين، وهم مُعْرِضُون عنها أيْ مُبْتَعِدون تارِكون مُنْصَرِفون مُهْمِلُون مُتجاهِلون غير مُهْتَمِّين غير مُتَفَكّرين فيها غير مُتّعِظِين بها، فلهذا هم لا يؤمنون، وما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوۤاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)"، "أَفَأَمِنُوۤاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107)" أيْ هذا إرشادٌ لجميع الناس ليُخْلِصُوا العبادة لله تعالي وحده بلا أيِّ شِرْكٍ ليَسعدوا في الداريْن وإلاّ تَعِسُوا فيهما لو عَبَدوا غيره.. أيْ ولا يؤمن أيْ ولا يُصَدِّق كثيرٌ من الناس بوجود الله إلا وواقعهم وحالهم أنهم مُشركون به، أيْ إلاّ وفي إيمانهم شِرْكٌ، أيْ إلاّ ويُشركون في عبادتهم له غيره مِن آلهةٍ يَدَّعُونها هُمْ كأصنامٍ وأحجارٍ ونجومٍ ونيران وغيرها وحتي قد يعبدون بَشَرَاً ضعفاء يَمْرَضُون ويَضْعَفون ويَشِيخُون ويَموتون مِثْلهم، والمقصود أنَّ كثيراً من الناس المشركين الكافرين المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين ومَن يَتَشَبَّه بهم يؤمنون بفطرتهم بالله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) بحيث لو سُئِلُوا مَن الذي خَلَقَهم علي صورتهم المُعْجِزَة هذه ومَن الذي خَلَقَ السموات والأرض وكل ما فيهما من مخلوقات وسخرّها كلها لمنفعة خَلْقه كالشمس والقمر وغيرهما، لم يكن لهم أيّ إجابة إلا أنَّ الخالق هو الله وحده!! لأنه لم يستطع ولم يَجْرُؤ ولا يوجد أيّ أحدٍ ادَّعَيَ أنه هو الذي خَلَقها! فليس لهم إذن إلا هذه الإجابة! فهم مُجْبَرون عليها ومُقِرُّون تماما بها! وهذه هي إجابة المشركين، فهم يعترفون لله بأنه وحده الخالق لكنهم لا يعترفون له بأنه وحده هو المُسْتَحِقّ للعبادة!!.. أمّا الكافرون وهم الذين يكفرون بوجود الله أصلا، والكفر في أصله من الناحية اللغوية هو تغطية الحقائق وإخفاؤها، فإنهم لا يُعلنون ولا يَنطقون بأنَّ الله تعالي هو الخالق ولكنهم إمَّا يَنطقون بمعاني أخري للإله مُلْتَوِيَة مُرَاوِغَة كالطبيعة مثلا والقوّة الخَفِيَّة وما شابه هذا من سَفَهٍ وتخريفٍ وإمَّا يصمتون، ولكنَّ فطرتهم بداخلهم بالقطع تنطق بالحقّ بأنَّ الله هو الذي خَلَق كلّ الخَلْق، وما كل ذلك التكذيب والعِناد والاستكبار إلا من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (9) من سورة الزخرف "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ"، والآية (87) منها "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. هذا، وبعض المسلمين قد يقعون في بعض صور الشرْك والتي حَذّر منها الرسول (ص) – والتي سمَّاها الشرك الأصغر لأنها ذنوبٌ تُغْفَر بالاستغفار فهي ليست قطعا كالشرْك الأكبر بالله الذي لا يُغْفَر إلا بالإيمان – مِثْل الذي يقول قولاً أو يعمل عملاً من الخير رياءً للناس أي ليُريهم ذلك فيَمدحوه أو يمتنعوا عن ذمِّه ولا يريد به رضا الله وعوْنه وإسعاده له في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة، وذلك بسبب بُعدهم عن ربهم وتَرْكهم لإسلامهم بعضه أو كله، ومِثْل بعضهم الذين مع حُدُوث ضَرَرٍ مَا يتذكّرون ربهم ويُسارعون بالعودة له ودعائه بكل تَوَسُّلٍ وتَذَلّل ثم إذا استجاب لهم عادوا لابتعادهم عنه ولتركهم لإسلامهم بدرجةٍ من الدرجات ولفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار! بل وقد يَنْسِبُون فضل إزاحة السوء لغير الله تعالي وينسون أنَّ مَن ساعدهم مِن البَشَر ليس إلا مجرّد سبب مِن الأسباب سَخَّرَه الله لهم ليساعدهم!.. فلْيَحْذِر المسلمون حَذرَاً شديداً من التشبُّه بمِثْل هؤلاء وإلا تَعِسوا مثل تعاساتهم في دنياهم وأخراهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن بالآية (125)، (126) من سورة النساء).. "أَفَأَمِنُوۤاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107)" أي هل أمِنَ واطمَأَنَّ أمثال هؤلاء السابق ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم أنْ لا تَحْضُرهم وتَصِل إليهم عقوبة تَغْشاهم من عذاب الله الذي لا يُوصَف أيْ تُغَطّيهم وتَعُمّهم كالغطاء من كل جانبٍ فلا ينجو منهم أيُّ أحدٍ تَتَمَثّل في درجةٍ مَا من درجات العذاب الدنيويّ بما يُناسب سُوئِهم كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد تَصِل العقوبة إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)؟!.. وهل أَمِنُوا كذلك أنْ لا تَصِلهم الساعة فجأة وهم غير مُستعِدّين لها، لحسابها ولنتائجها، ساعة موتهم ونهاية أجلهم في الدنيا حيث دخول القبر وبدء الحساب المَبْدَئيّ، ثم ساعة نهاية الدنيا كلها وقيام يوم القيامة وبَعْثهم للحساب الختاميّ حيث ينالون كل ما يستحِقّونه من عذابٍ تامٍّ علي شرورهم بما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ؟!.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. إنَّ الإجابة الحَتْمِيَّة علي هذين السؤالين أنَّ أحداً لا يَأْمَن ذلك بكل تأكيد، فلماذا إذَن يُصِرّون علي شِرْكهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم؟!.. لأنهم قطعا قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (108) وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (108)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم للناس جميعا، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم هذه طريقتي واحدة مستقيمة لا اعْوِجَاج فيها وهي أني أدعو الناس جميعا إلي عبادة الله تعالي وحده بلا أيِّ شريكٍ ببصيرةٍ مُسْتَنِيرَة من ربي بذلك أيْ بمعرفةٍ تُمَيِّز بين الحقّ والباطل وبحُجَّةٍ واضحةٍ غير عمياء وبحكمةٍ وعقليةٍ مُدْرِكَةٍ مُبْصِرَةٍ مُتَدَبِّرَةٍ مُتَعَمِّقَةٍ وبعلمٍ وفكرٍ وقُدْوَةٍ وموعظةٍ حسنةٍ ويقينٍ أيّ تأكّدٍ بلا أيِّ شَكّ بصِحَّة مَا أنا عليه، وكذلك أتْبَاعِي من المسلمين الذين يَقْتَدُون بي يفعلون ذلك، يَدْعُون علي بَصِيرَة، ولن نُوقِفَ دعوتنا هذه طوال حياتنا حتي مَمَاتنا حتي ولو كانت هناك عقبات، فهي فَرْضٌ علينا بقَدْر ما يستطيعه كلٌّ مِنّا، ولنا أجرنا من ربنا في الداريْن.. ".. وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (108)" أيْ وأُنَزِّهُ أيْ أُبْعِدُ الله تعالى تنزيهاً كاملاً عن كل صفةٍ لا تَلِيق به فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وعن الشرْك والشركاء، وما أنا أبداً من المشركين به تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه، بل أعبده وحده فهو المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109)" أيْ وما بَعثنا من قبلك سابقاً يا رسولنا الكريم لتبليغ الإسلام للناس ليسعدوا به تمام السعادة في دنياهم وأخراهم إلا رجالاً مِثْلك لا ملائكة، وهؤلاء الرجال نُوحِي إليهم وَحْيَنا بالكتب التي فيها الإسلام الذي يُناسب زمن الناس حولهم، واخترناهم لكمال أخلاقهم ورَجَاحَة عقولهم وشِدَّة حِلْمهم وهم من بين أهل البلاد والقري والمُدن لا من أهل الصحراء الذين يَغْلِب عليهم الشدّة في التّعامُل بسبب بيئتهم.. والمقصود أننا من رحمتنا وفضلنا وكرمنا ورزقنا ووُدّنا علي جميع الناس جعلنا الرسل جميعا رجالاً لا ملائكة ليكونوا منهم بَشَرَاً مثلهم يعرفونهم فيُصَدِّقونهم ويَثقون بهم وبحُسن خُلُقهم ويُطَبِّقون الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم ولو كان الرسل ملائكة لكان من المُمْكِن أنْ يَسْتَثْقِل بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!!.. كذلك المقصود أنَّ الرسول الكريم محمد (ص) ما كان أوّل رسولٍ من الرسل أرسله الله تعالي للناس وإنما سَبَقه كثيرون هم يعرفون من أخبارهم وأقوامهم، كنوح وإبراهيم وموسي وغيرهم، فليس الأمر إذَن ابْتِدَاعَاً أيْ اخْتراعَاً لا مِثال سابِق له! ومادام كذلك فكيف يُكَذّبون ويَرْفضون أنه (ص) هو أيضا رسول مِثْلهم ويُشَكِّكون في دعوته لعبادة الله وحده واتِّباع دينه الإسلام وكلهم قد جاءوا بمِثْل ما جاءهم به؟!.. ".. أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.." أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ هل لم يَتَنَقّلوا – أيْ المُكَذّبون – في كل جوانِب الأرض ما استطاعوا وينظروا ويشاهدوا بأبصارهم ويتدبَّروا بعقولهم في كيف كانت عاقبة أي نهاية ونتيجة سوء عمل السابقين مِن قَبْلهم والذين كانوا يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث هم يرون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاك الله لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟!.. وفي هذا السؤال توسيع لدائرة التدبُّر، فلا يَكتفون بالتدبُّر فقط فيما حولهم لعلهم يكونوا قد اعتادوا عليه فلا يستشعرون قيمته، لكنهم سيستشعرون قيمة الدروس حينما ينطلقون في كل أرض الله وكوْنه.. لقد كان عاقبتهم أيْ آخر أمرهم أيْ نهايتهم ونتيجة أفعالهم وأقوالهم بالغة السوء، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله بدرجةٍ من الدرجات علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك لأنهم كانوا يُكَذّبون ويظلمون بكل أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شِرْكا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، لقد نَزَلَ بهم عذاب الله في دنياهم ثم سَيَحِقّ عليهم حتما في أخراهم، حيث في الدنيا كان لهم صورة ما من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كان لهم كل ألمٍ وكآبةٍ وتعاسةٍ وقد يَصِل الأمر مع تمام إصرارهم علي ما هم فيه إلي عذابهم باستئصالهم تماما من الحياة (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك التامّ)، ثم سيكون لهم حتما في الآخرة ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ.." أيْ وإنَّ دار الآخرة حتماً حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالِد الآمِن في رحمات وخيرات الله تعالي التي لا تُحْصَيَ في نعيم جناته التي لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر هي بالقطع بلا أيّ شكّ أعظم خيرا، وخَيْرِيَّتها لا تُقَارَن بكلّ خيرِ دار الدنيا الزائل يوماً مَا، ولكنها ليست لأيِّ أحدٍ بل هي فقط للذين اتقوا أيْ خافوا الله وراقَبوه وأطاعوه وجعلوا بينهم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ ليسعدوا في الداريْن، وذلك في كل أقوالهم وأعمالهم في كل شئون حياتهم، وكانوا دوْمَاً مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبداً لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)" أيْ هل لا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك أيها الناس؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تمنعكم من هذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم
حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَأكّدتَ بلا أيّ شكّ أنَّ نصر الله دائماً قريب (برجاء مراجعة الآية (214) من سورة البقرة ".. حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وأنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتماً سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتماً سينَهزمون يوماً مَا، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسباً مُسْعِداً لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)" أيْ ولا تَسْتَبْطِيء فتَسْتَعْجِل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلمٍ نصرنا بنشر الإسلام والتمكين للمسلمين في الأرض ينتفعون ويسعدون بخيراتها وهزيمة المُكَذّبين، فإنَّ نَصْرِي حتماً قريبٌ أكيد، وإنَّ الرسل السابقين قَبْلَك والمسلمين أتْباعهم قبلكم كانوا يَتَأَخّر عنهم النصر ويُؤذيهم المُكَذّبون أحياناً أو كثيراً لِحِكَمٍ ولمصالح كثيرة لا يعلمها إلا نحن – كمزيدٍ مثلاً من تربية المسلمين علي الصبر والجَلَد حتي إذا مُكّنَ لهم صَعُبَت فِتْنَتُهم وكإعطاء المُكَذّبين أو حتي ذُرِّيَّاتهم فُرَصَاً لعودتهم لربهم فيكونون أنفع للإسلام وما شابه هذا من حِكَمٍ للتأخير – وما زال الرسل الكرام يَدْعُون إلينا ويُواصِلون دعوتهم ويَتَأخّر نصرهم ويُكَذّبهم المُكَذّبون حتى إذا يَئِسَ بعض الرسل أو بعض أتْباعهم – والسين والتاء تُفيدان المُبَالَغَة أيْ شِدَّة القُرْب من اليأس – أيْ قارَبُوا اليأس وفقدان الأمل من الناس حولهم وتَوَهَّمُوا أنَّ الناس قد كَذّبوهم ولا أمل في إيمانهم – وليس اليأس حتماً من نزول نصر الله عاجِلَاً أو آجِلَاً بتمكينهم ونشر إسلامهم وإهلاك عدوِّهم إذ ليس اليأس أبداً من صفات المسلم فما بال الرسل الكرام وإنما هو من صفة الكافر الذي لا يؤمن بربٍّ قادرٍ ناصرٍ مُعِين – وذلك بسبب ما قد يَمُرّ أحيانا في خواطر عقولهم هم والمسلمون من أنَّ الناس لن يؤمنوا رغم طول فترة دعوتهم وحُسْنها، كأيِّ بَشَرٍ وهم من البَشَر، مع يَقينهم التامّ الذي لا يتزعزع ولا يتأثّر بعوْن الله ونصره، من شِدَّة ما قد يَلْقونه من إيذاءٍ مِمَّن يدعونهم أو من كثرة ابتعادهم عنهم وعن ربهم وإسلامهم، وهي أحوال استثنائية، لسببٍ من الأسباب السابق ذِكْرها أو غيرها، لمصلحةٍ مَا من الله تعالي لخَلْقه، إذ ليس دائما يتأخّر النصر، وإنما في الأغلب الأَعَمّ والأكثر أنْ يَتَحقّق نصر الله ويُحَقّق المسلم أهدافه بتوفيقه سبحانه في كل شئون حياته المختلفة بمجرّد اكتمال إحسان اتّخاذ أسبابه، كما يُثْبِت ذلك الواقع كثيرا، والأقل والنادر هو التأخير، فحينها، حينما تَقْتَرِب طاقة التّحَمُّل البَشَرِيِّ من النفاد، تَتَنَزَّل حتماً وقطعاً رحمات الله تعالي علي مَن يحبهم ويحبونه، علي رسله ودعاته المسلمين، ويأتيهم ويَحضر إليهم نصره المُسْعِد أقرب من القريب وفجأة ودون حُسْبان، حيث قد حانَت لحظة الجوائز والسعادات علي النجاح في الامتحانات من ربٍّ رحيمٍ وَدُودٍ كريمٍ لا يريد بخَلْقه إلا كل مصلحة وخير وسعادة لهم في الدنيا ثم دخول أعلي درجات جناته في الآخرة، فنُنَجِّي حينها مَن نريد وهم الذين يَسْتَحِقّون النجاة والسعادة وهم المؤمنون، ولا يُرَدُّ أيْ ولا يُرْجَع ولا يُمْنَع ولا يُدْفَع عذابنا عند نزوله عن الناس المجرمين أيْ الذين ارتكبوا الجرائم أيْ الشرور بكلّ أنواعها سواء أكانت كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم ظلما واعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا له أم ما شابه هذا، فحين نزول النصر قد يُؤمِن المُكَذّبون أو يُهْلَكُون إنْ بَقوا مُصِرِّين علي تكذيبهم وينتشر الإسلام ويَقْوَيَ ويَنْقَرِض ويَضْعف الكفر ويَسعد المسلمون ويَفرحون بنصر الله العزيز الرحيم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (214) من سورة البقرة "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين يأخذون الدروس من التاريخ السابق وينتفعون بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلتَ مثله بما يُناسبك وازددتَ منه وطوَّرته وسَعِدَتَ به، وما فيه من شرٍّ تجنّبته تماما فلا تَتْعَس به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنك تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة
هذا، ومعني "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)" أيْ لقد كان في أخبار وأحوال وأحداث وروايات الرسل السابقين مع أقوامهم حيث كل خيرٍ وسعادةٍ للمؤمنين وكل شرٍّ وتعاسةٍ للكافرين، عِبْرَة أيْ عِظَة وتَذْكِرَة عظيمة ودروس مُسْتَفَادَة كثيرة بكل تأكيدٍ هي من أفضل وأجْوَد وأجْمَل وأعظم وأحْكَم وأصْدَق وأوْفَيَ وأصَحّ وأنْفَع العِظَات، لأصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادلة، فهؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَهتدون ويَسعدون بها تمام السعادة في الداريْن لأنهم هم الذين يُحْسِنون استخدام عقولهم، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره فهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم.. ".. مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى.." أيْ ما كان أبداً هذا القرآن العظيم حديثاً مَكْذُوبَاً مُخْتَلَقَاً، أيْ ليس مُطْلَقَاً مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل أن يُدَّعَيَ كذباً هذا القرآن مِن غير الله تعالي مِن أيِّ أحدٍ مِن خَلْقِه مهما كان.. أيْ وما كان يتهيَّأ لأحدٍ أن يأتي بهذا القرآن مِن عند غير الله ثم ينسبه إليه سبحانه افتراءً عليه أيْ كذباً شنيعاً عليه لا أصل له لأنه لا يَقْدِر على ذلك أحدٌ مِن الخَلْق وقد حاول بالفِعْل كثيرون من أفصح الفصحاء وعَجزوا وفَشلوا ويَئسوا.. أيْ مِثْل هذا القرآن لا يكون أبداً إلاّ مِن عند الله فهو لا يُشْبِهه ولا يُقارِبه بالمُطْلق أيٌّ مِن كلام البَشَر.. أيْ وما كان يَسْهُل مُطْلَقَاً أن يُفْتَرَيَ هذا القرآن علي الله تعالي.. وذلك لأنه في إعجازه وهدايته وإحكامه لا يُمكن أن يكون من عند غير الله لأنه الكتاب العظيم الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، والذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل أخلاقه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.." أيْ ولكنه كلام الله تعالي الذي أوحاه وأنزله إلى رسوله الكريم محمد (ص) ليكون تصديقَ الذي بين يديه – أيْ مَا نَزَلَ سابقا له قَبْلَه من كتبٍ سماويةٍ من عنده كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب – أيْ مُصَدِّقَاً لها أيْ مُوَافِقاً ومُؤَيِّداً ومُؤَكِّداً ومُبَيِّناً ومُتَمِّماً لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن أيها الذين لا يُسْلِمون إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما جاء فيه حتما ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم.. لقد جعلناه كذلك مُهَيْمِنَاً أيْ حاكِمَاً مُرَاقِبَاً علي أيِّ كتابٍ سابقٍ لكي يُصَحِّحَ أيَّ مفهومٍ خاطيءٍ قد فَهِمه الناس في معانيه، وبالتالي فعَلَيَ كل أهل الكتب السابقة الذين حَضَرُوا القرآن الكريم أنْ يُسْلِمُوا لأنَّ به الإسلام الذي يُناسب البشرية كلها بكل مُتَغَيِّراتها في كل عصورها حتي يوم القيامة وليس الذي كان يُناسب عصراً سابقاً، ومَن بَقِيَ علي كتابه السابق ولم يُسْلِم ويَعْمَل بالقرآن فهو علي جزءٍ من إسلامٍ لا يُناسِب العصر ويُعَدّ كافراً لعدم تصديقه به.. ".. وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ.." أيْ وأنزلناه ليكون كذلك تَبْيِين وتَوْضِيح كلّ شيءٍ من القواعد والأصول التي تُنَظّم للناس كل شئون حياتهم صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها، لأنها من عند خالقهم الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. ".. وَهُدًى وَرَحْمَةً.." أيْ وجعلناه هادِيَاً أيْ مُرْشِداً، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وبالتالي كان رحمة من الله أيْ سعادة تامَّة فيهما تَتَحَقّق لمَن صَدَّقَ به وعمل بكلّ أخلاقه.. ".. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبرُسُلِه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أولوا الألباب أيْ أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ.." أيْ هذه الآيات السَّامِيَة القَيِّمة المُفَصَّلَة الواضِحَة هى آيات الكتاب، أيْ آيات القرآن العظيم الذي بين أيديكم، وما أُنْزِلَ وأُوحِيَ إليك من ربك بحكمته ورحمته يا رسولنا الكريم فى هذا الكتاب لتُبَلّغه للناس هو الحقّ عند كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ يَتَدَبَّر فيه – وبالتالي فالتكذيب به يدلّ علي قُبْحٍ وسَفَهٍ وخَبَلٍ وعِنادٍ وإغلاقٍ للعقل عظيم من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة – أيْ هو الصِّدْق الثابِت الذي لا يَتَغَيَّر حتما بكلّ تأكيدٍ لأنه ليس من عند أحدٍ من البَشَر بل من عند الله تعالي خالق الخَلْق كامل الصفات الحُسْنَيَ العليم بتمام العلم بما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تماما في دنياهم وأخراهم، والذي لا يُخالطه أيّ كذبٍ أو سوءٍ أو ضلالٍ أو شَرٍّ أو ظلم، بل كله صدق وعدل وخير وأمن وسعادة، وكلّ ما يُوَافِقه ويَرْجع إليه مِن نُظُمٍ وقوانين يضعها البَشَر فهو صدق مثله بينما كلّ ما يُخالِفه فهو الكذب التامّ المُتْعِس فيهما، وهؤلاء الذين يُكَذّبون به يعلمون ذلك تمام العلم بداخل عقولهم وبفطرتهم بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)" أيْ ومع كل هذا الوضوح والمَنْطِقِيَّة للأِدلّة العقلية علي قَطْعِيَّة صِدْق القرآن وأنه من عند الله تعالي والتي يَتَقبَّلها حتماً كل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، فإنَّ كثيراً من الناس لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويُعاندون ويَستكبرون ويَستهزئون ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ولو كانوا يُحسنون استخدام عقولهم لَأَحْسَنوا التصرّف بالإيمان بربهم والتمسّك بإسلامهم ولَمَا عاشوا حياتهم – ثم آخرتهم – هكذا بعيدين عنهما في كلّ شرٍّ وفسادٍ وضررٍ وتعاسة، لكن ما كلّ ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولفظ "أكثر" يُفيد تمام الدِّقّة والعدل والإنصاف من القرآن الكريم – وهي الصفات التي علي كلِّ مسلمٍ العمل بها – لأنَّ الكثير يُؤمن قطعا.. وفي هذا تنبيهٌ للمسلمين المتمسّكين العامِلين بكلّ أخلاق إسلامهم وتحريضٌ وتحفيزٌ وتشجيعٌ لهم لكي يكونوا من الثابتين المُستمِرِّين طوال حياتهم علي خيرهم هذا، لكي يكونوا من هذا القليل المُتَمَيِّز، ولا يَحزنوا علي مَن لم يؤمن ولا يَتأثّروا به، وأن يدعوا غيرهم لذلك ليكون هذا القليل كثيراً فيَسعد الجميع تمام السعادة في دنياه وأخراه، فإنَّ أمثال هؤلاء الناس الذين لا يُؤمنون يَقِلّون تدرجياً ويَتَلاشُون كلما أحْسَنَ أهل الخير دعوتهم للإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ ومَوْعِظَةٍ حَسَنَة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، أمَّا إنْ تَكَاسَلَ المسلمون في دعوة غيرهم أو قَصَّرُوا أو تَرَاجَعُوا أو خافوا أو انشغلوا بما هو أقلّ أهمية عَمَّا هو أهمّ أو ما شابه ذلك فسَيَقِلّ الخير وأهله حتماً وستكون فرصة انتشار الشرّ وأهله أكبر
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، وأحسنتَ استخدام عقلك في تَأَمُّل آياته ومُعجزاته في كوْنه، في الإنسان والنبات والحيوان والجماد والطير والبحار والأنهار والأمطار والزروع والثمار والشمس والقمر والكواكب والليل والنهار وغير ذلك مِمَّا لا يُحْصَيَ، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن، وسيَجعلك عابداً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ الله وحده لا غيره، الذي أنزل هذا الكتاب، والذي استحقّ العبادة وحده، خالق الخَلْق كله القادر علي كل شيءٍ، هو الذي أعْلَيَ وعَلّق السماوات بما فيها من عجائب ومخلوقات مُعْجِزَة مُبْهِرَة بدون أعمدة ترونها أنتم أيْ خَلَقَها مُرْتَفِعَة مُعَلّقَة بقُدْرَته وعِلْمه تعالي.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه قد تكون هناك أعمدة لكن لا قُدْرَة لعيون البَشَر علي رؤيتها كقوَيَ جاذبية مثلاً ونحوها وقد لا يكون هناك أعمدة أصلاً بالفِعْل.. ".. ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.." أيْ قد تَمَلّكَ سبحانه المُلْك كله لأنه هو خالقه وله السلطان عليه والتَّحَكُّم فيه وتدبيره بما يُصلحه علي أكمل وجْهٍ دون أيّ مَلِكٍ أو شريكٍ آخر معه.. ".. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.." أيْ ومِن بعض مُعجزاته سبحانه أيضا، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قدْرته تعالي علي كلّ شيءٍ، أنه قد سَخَّرَ أيْ ذَلّلَ وجَهَّزَ وأعَدَّ الشمس والقمر لنفع خَلْقه وجَعَلَهما يسيران بانتظامٍ في فَلَكِهما بكل دِقَّةٍ دون أيّ خَلَلٍ حتي ينتهي أجلهما المُسَمَّيَ أي المُحدَّد لهما حين تنتهي الحياة الدنيا وتقوم الساعة لبدء الحياة الآخرة.. إنَّ تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا هما من رحماته تعالي بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. إنَّه بالشمس والقمر والنجوم تُعْرَف الأوقات والساعات والأزمنة والأعمار والاتّجاهات ونحو ذلك.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. ".. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ.." أيْ هو تعالي بعد أن خَلَقَ الكوْن كله بما فيه من مخلوقات، يُسَيِّرُ كلّ أموره، يُسَيِّرُها بكلّ دِقَّةٍ وإحكامٍ وانتظامٍ دون أيّ خَلَل، لِنَفْع ولسعادة خَلْقه، فأوامره سبحانه تنزل من السماء مع ملائكته ليُنفّذوها في المكان والتوقيت وبالأسلوب الذي يأمرهم به في الأرض وفي أيِّ مكانٍ من كوْنه، ثم يَعْرُج إليه كلٌّ منهم أي يصعد له، أي يعودون بعد التنفيذ ليُتابعهم سبحانه، وهذا يتمّ في لحظة أو لحظات يسيرة علي حسب الأمر من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خيرٍ وسعادةٍ ونحو ذلك، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد.. ".. يُفَصِّلُ الْآيَاتِ.." أيْ يُبَيِّنُ ويُوَضِّحُ ويُفَصِّل تَفصيلاً دقيقاً شامِلاً عميقاً واضحاً مُقْنِعاً حاسِماً قاطِعاً لا يَقبل أيّ جدال، الآيات أيْ الدلالات والمُعجزات في كوْنه والتي تدلّ علي وجوده وكمال قُدْرته وعِلْمه ورحمته وعطائه، وكذلك الآيات في قرآنه العظيم والتي تُبَيِّن للناس قواعد وأصول كل شيءٍ مُسْعِدٍ لهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم من خلال كل أخلاق الإسلام التي فيه.. ".. لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)" أيْ لكي تكونوا بسبب ذلك الذي ذُكِرَ أيها الناس من المُوقنين أي المُتأكّدين تماماً بلا أيّ شكّ بلقاء ربكم في الآخرة حيث الثواب والعقاب والجنة والنار، بسبب كل هذا الوضوح التامِّ للحقّ ولأدِلّته القاطِعَة في القرآن الكريم لأيّ صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، فتُحسنون بالتالي الاستعداد لهذا اللقاء بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فتسعدون بهذا في الداريْن، فإنَّ القادر علي خَلْقكم وخَلْق كل هذه المخلوقات المُعجزات قادرٌ حتماً علي بَعْثكم من قبوركم وإعادة خَلْقكم بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم تراباً لحسابكم الحساب الخِتامِيّ لِمَا فَعَلْتم يوم القيامة، والخِلْقة الثانية بالقطع أهْوَن من الأولي لأنها أصبحت معروفة وخاماتها موجودة وليست من عَدَمٍ كالأولي!! فالواقع يُثبت ذلك! فالله تعالي يُخاطبنا علي قدْر ما تستوعبه وتفهمه عقولنا، لأنَّ كلّ شيءٍ هو في الأصل يَسِيرٌ عليه تعالي الخالق القادر علي كل شيءٍ حيث يقول له كُن فيكون سواء بَدْء الخَلْق من العَدَم أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من الموقنين بلقاء ربهم المُسْتَعِدِّين دائماً بكل إحسانٍ لذلك بعملهم بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام
ومعني "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)" أيْ وأيضا ومن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قدْرته تعالي علي كلّ شيءٍ، أنه هو وحده لا غيره الذي بَسَطَ الأرض طولاً وعرضاً إلى المَدَىَ الذى لا يُدْركه البصر ليَتَيَسَّر لكم الاستقرار عليها والسعي فيها والانتفاع والسعادة بخيراتها – ولا يَتَعارَض مَدَّها وبَسْطها مع كوْنها كُرَوِيَّة لأنَّ مَدَّها وبَسْطها هو على حسب رؤية العين وكُرَوِيَّتها هي علي حسب الحقيقة – وجعل ووَضَعَ فيها رواسي أيْ ما يُبقيها راسِيَة ثابتة، كالجبال التي فوقها وكقُوَيَ الجاذبية التي بداخلها ونحوها، حتي لا تَضطّرب وتهتزّ بمَن عليها بل تظلّ ساكنة لتَتَمَكّنوا مِن السَّكَن بأمانٍ علي سطحها والعيش والتّمَتُّع فيها، وجعل فيها كذلك أنهاراً من مياهٍ عَذْبَةٍ لسَقْيكم ونَفْعكم أنتم ودَوابّكم ونباتاتكم وكل شيءٍ حَيٍّ فيه مَنْفَعة وسعادة لكم، وجعل فيها أيضا بواسطة هذه المياه من كل الثمرات صنْفَيْن اثنين فكان منها مثلاً الأبيض والأسود والحلو والحامض والصلب والرَّخْو والكبير والصغير والذكر والأنثي اللذين يَتِمّ بينهما تلقيح الحبوب لإتمام النّمُوّ والنُّضْح.. ".. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ.." أيْ يجعل الليل يُغَطّي النهار فيَذهب بنوره ويَصِير الكوْن مُظلماً بعد أن كان مُضيئاً، ويجعل النهار يُغَطّي الليل فيَصير الكوْن مضيئا بعد أن كان مظلما، فيأتي كلُّ واحدٍ منهما وراء الآخر سريعاً مُجتهداً في ذلك كالطالِب له الذي يريد الوصول إليه لا يَفصل بينهما شيءٌ بانتظامٍ وتَتَابُعٍ ودَوَامٍ بلا انقطاع.. إنَّ تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا هما من رحماته تعالي بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. هذا، والنجوم المُضيئة بمواقعها في السماء والتي هي أساس علوم الفَلَكِ يُسْتَرْشَد بمواقعها لمعرفة الاتّجاهات في أثناء ظلام ليل البرّ والبحر بما يَهدي الناس ويُرْشدهم ويُوصلهم إذا ساروا في طرقٍ صحراويةٍ أو جَبَلِيَّةٍ أو بحريةٍ إلي حيث يريدون الوصول إليه من أماكن لتحقيق مصالحهم ومنافعهم وسعاداتهم، إضافة إلي أنها زينة للسماء وتخفيف لظلمتها مساءً فلا تكون مُخِيفَة.. إنَّه بالشمس والقمر والنجوم تُعْرَف الأوقات والساعات والأزمنة والأعمار والاتّجاهات ونحو ذلك.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون ويسعدون بها هم فقط الذين يَتَفكّرون أيْ يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعمَّقون في الأمور فيَصِلون حتماً إلي عبادة الله وحده والتمسّك والعمل بكل أخلاق قرآنهم وإسلامهم فيَسعدون بذلك تماما في الداريْن حيث يُحسنون طلب الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. بينما الذين لا يتفكّرون أي الذين يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، لا يَصِلُون لهذا حتما ويعيشون قطعا حياتهم وآخرتهم في تعاسةٍ علي قَدْر بُعْدِهم عن الله والإسلام
ومعني "وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)" أيْ وأيضا ومن بعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قدْرته تعالي علي كلّ شيءٍ، أنه يوجد في الأرض قِطَعٌ يُجاوِر بعضها بعضا، وهى مختلفة التربة مع ذلك، فمنها ما هو طيِّب يُنْبِتُ ما ينفع الناس، ومنها ما هو مالِح لا يُنبت شيئاً، ومنها ما هو طِينِيّ لزراعة زرعٍ مَا وآخر رَمْلِيّ لزرعٍ غيره وثالث صخريّ لاستخراج معادن وثروات، وهكذا، بما يُحَقّق منافع وسعادات الخَلْق جميعاً من بَشَرٍ وغيرهم، فرغم تَجَاوُرها وتقارُبها فهي مختلفة فى أوصافها بما يشهد بلا أيِّ شكّ بقُدْرَة خالقها سبحانه.. ".. وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.." أيْ وفي الأرض الطيِّبَة المُنْبِتَة بساتين من أعنابٍ وزرعٌ مختلفٌ ونخيلٌ صنوانٌ أيْ مُجْتَمِعٌ في مَنْبَتٍ واحدٍ أيْ عِدَّة أشجار في أصلٍ واحدٍ وغير صنوانٍ أيْ غير مُجْتَمِعٍ فيه أيْ كل شجرة بمفردها وكل ذلك في أرضٍ واحدةٍ ويشرب من ماءٍ واحدٍ ولكنّنا نُفَضِّل بعضها علي بعضٍ في الأكل أيْ في الثمر والطعم فهذا حُلْو وهذا مُرّ وهذا حامِض وهذا لذيذ وهذا ليس كذلك وهكذا.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ إنَّ في ذلك الذي ذُكِرَ لكم كله وغيره والذي نُوصِيكم بالنظر المُتَعَمِّق فيه ولاشكّ آيات عظيمات أيْ دلالات ومعجزات تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)" أيْ لكنَّ الذين ينتفعون ويسعدون بها هم فقط الذين يعقلون أيْ أصحاب العقول المُنْصِفَة العادِلَة أيْ الذين يُحسنون استخدامها فيتدبَّرون فيما حولهم من آياتٍ فيَزداد بسببها تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيَسعدون في دنياهم وأخراهم ولا يتعسون فيهما مثل الذين لا يَتَّبعون إسلامهم لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم.. فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام.. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)" أيْ وإنْ تَتَعَجَّب وتَسْتَغْرِب يا رسولنا الكريم – ويا كل مسلم مِن بَعْده – مِن تكذيبهم لك عندما تدعوهم لعبادة الله تعالي وحده واتّباع الإسلام بعدما كنتَ عندهم الصادق الأمين وبعد كل هذه الأدِلّة العقلية المَنْطِقِيَّة القاطِعَة السابق ذِكْرها فعَجَبٌ أيْ حقيقٌ جديرٌ بالعَجَب قولهم مُكَذّبين مُسْتَبْعِدين البَعْث للحساب يوم القيامة أئذا كنا تراباً بعد الموت أئنا لفي خَلْقٍ جديدٍ أي هل نحن نُعادُ في خلقٍ جديدٍ بأجسادنا وأرواحنا كما كنا قبل موتنا؟! والسبب في هذا التَّعَجُّب والاستغراب الشديد من المسلم عندما يسمع قولهم هذا وما يُشبهه من أقوالٍ والتي تدعو إلي أشدِّ التّعَجُّب هو أنَّ القادر على إنشاء الخَلْق على غير مثالٍ سابق كما ذُكِرَ في الآيات السابقة قادرٌ حتماً على إعادتهم مرة ثانية بل أهْوَن عليه! لأنَّ التجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم – وحَوَاسَّهم – ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)" أيْ هذا بيانٌ لسوء مصيرهم وتعاستهم في أخراهم بعد تعاستهم في دنياهم بسبب بُعْدهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ هؤلاء المُكَذّبون لقُدْرَة الله تعالي علي البعث والحساب والعقاب والجنة والنار القائلون أئذا كنا ترابا أئنا لفي خَلْقٍ جديدٍ وما شابه ذلك من أقوالٍ وأفعالٍ سيئة هم الذين كفروا بربهم وهؤلاء هم الذين تُوضَع الأغلال أيْ القيود والسلاسل الحديدية في رقابهم يوم القيامة ويُجَرُّون بها وهم في مُنتهَيَ الذلّة والإهانة والاستسلام إلي حيث يُقْذَفون في عذاب جهنم بكلّ أنواعه المختلفة المُخِيفة وهؤلاء هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهُمْ في إقامةٍ دائمةٍ أَبَدِيَّةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. هذا، ومن معاني الأغلال عند بعض العلماء أنهم مُقَيَّدُون في الدنيا بقيود المَفاسد والشرور من أجل مَنَاصِبها ومُتَعها غير الحلال الضارَّة المُتْعِسَة لا يستطيعون التّحَرُّر منها من كثرة اعتيادهم وحِرْصهم عليها
ومعني "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)" أيْ ويَطلبون هؤلاء المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يَتَشَبَّه بهم منك يا رسولنا الكريم – ومِن المسلمين مِن بَعدك – بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء واستهتار واسْتِبْعاد سرعة إنزال السيئة وهي عقوبة الله بهم التي تَعِدُهم بها إنْ كنتَ صادقاً فإنْ لم تَنْزِل فأنت إذَن كاذب والمسلمون كاذبون وذلك قَبْل وبَدَل أن يطلبوا سرعة الحَسَنَة وهي الهداية لله وللإسلام والتي ستؤدِّي بهم حتماً لكل حياةٍ حَسَنَةٍ سعيدةٍ في الدنيا والآخرة! فهُم بَدَلاً أن يَتعمَّقوا فيما يدعوهم إليه من إسلامٍ فيه كلّ خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن ويُحسنوا استخدام عقولهم ويطلبوا وقتا للتفكير فيه ومزيدا من الأدِلَّة ليقتنعوا به ويَتمنّوا الهداية للخير كما هو يُتَوَقّع أن يحدث مِن صاحب أيِّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إذا بهم يَطلبون العقاب والهلاك لإثبات صِدْقِه!! إنهم يتمنّون حتي العذاب ويُفَضِّلونه علي أن يهتدوا!! بما يدلّ بلا أيّ شكٍّ علي تمام إصرارهم علي حالهم دون أيّ مراجعةٍ لذواتهم وتراجعهم بأيّ خطوةٍ نحو الخير فهم مُستمرّون علي كلّ شرٍّ حتي نهايتهم! وحين ينزل العذاب المُهْلِك بهم فلن يكون لهم أيّ فُرْصَة للعودة ! ألا يعقلون ذلك؟! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو نَزْوَةٍ فاسدةٍ عارِضَةٍ أو غيره (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة.. ثم لاكتمال المعاني برجاء مراجعة الآية (32) من سورة الأنفال "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)").. ".. وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ.." أيْ والحال والواقع أنه قد مَضَت وذَهَبَت وثَبَتَت وتَقَرَّرَت من قبل زمنهم سابقاً المثلات أيْ العقوبات علي أمثالهم حيث عُوقِبُوا وعُذّبُوا وأُهْلِكُوا بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم وقد سَمِعُوا عنهم وتَنَاقلوا أخبارهم ومَرُّوا ببعض آثار إهلاكهم فكيف لا يَتّعِظون بهم ويستعجلون السيئة اسْتِبْعاداً لها واسْتِخْفافاً بها فأين ذهبت عقولهم؟! والمَثُلات جمع مَثُلَة وهى العقوبة الشديدة الفاضحة التى تنزل بأناسٍ فتجعلهم مِثالاً لغيرهم فلا يَفعلون مِثْلهم حتي لا ينالوا مصيرهم.. ".. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ.." أيْ وإنَّ ربك حتماً – إنَّ واللام للتأكيد – يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ويا كل إنسان عاقل، أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك، يَتَّصِف بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه ذو مغفرةٍ أيْ صاحب مغفرةٍ لكلّ ذنوب الناس مع ظلمهم لأنفسهم وغيرهم بكل أنواع الظلم أيْ ذو عَفْوٍ عنها ومَحْوٍ لها كأن لم تكن ومَنْعٍ لأيِّ عقوبة عليها وهي لكلّ مَن تابَ توبة صادقة بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأصحابها إنْ كان الذنب مُتَعَلّقا بهم، فيكونون بهذه المغفرة مِمَّن يعيشون دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلّ شيءٍ وتَتَمَثّل في كلّ رعايةٍ وأمن وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرور دنيويّ ثم كلّ غفران وعطاء أخرويّ في جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها ولن يَخرج منها أبدا ولن يُخرجه أحد، وذلك لأنه حتماً هو الغفور أيْ الكثير المغفرة للتائبين، الرحيم أيْ الكثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيءٍ وهي أوسع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي الغفور الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. هذا، وظلم الناس الذي يُتْعِسهم ويُتْعِس مَن حولهم في الداريْن قد يكون كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. إنه تعالي مِن حِلْمه ورحمته لا يُعَذّب الناس أو يُهلكهم فوراً بمجرّد ما يَكسبونه أي يَفعلونه مِن شرّ، وإلاّ لو فَعَلَ هذا لم يُتْرَك أحدٌ علي وجه الأرض هو وما يملكه من دوابّ وأرزاق! لأنه حتي المتمسّكين بكل أخلاق إسلامهم مُعَرَّضِين كأيّ بَشَرٍ لفِعْل أيّ خطأ! لكنه من رحمته سبحانه وحبه لخَلْقه يُمْهِلهم أي يَتركهم ليُصَحِّحوا ذواتهم ليَسعدوا بحياتهم، وإلاّ فلماذا خَلَقهم أصلا إذا كان سيَقضِي عليهم بمجرّد خطئهم؟! إنَّ الحياة ستَنتهي بهذا حتما! وهل هناك مِن صانعٍ مَا يُدَمِّر صنعته بل هو قطعا يُحبّها ويُحافظ عليها تماما ويَصونها ويَرعاها لأنه هو الذي صَنَعَها فما بالنا بأحسن الصانعين الله تعالي؟! إنه بذلك لن يَعْتَبِر أحدٌ من خطئه! وحتي الكافر وأمثاله كثيرا ما يأتي من ذرِّيَّاتهم مَن يُؤمن ويُصْلِح ويُحْسِن ويَسعد بالحياة ويُسعدها! ولذلك كله ولغيره من الحِكَم فهو تعالي يُمْهِل لكن في ذات الوقت لا يُهْمِل، أي يَترك أهل الشرّ لفترات طويلة مع دوام حُسن نُصحهم ودعوتهم من المسلمين الدعاة حولهم، ويَحلم عليهم أي يصبر كثيرا ويعطيهم الفرصة بعد الأخري لكي يعودوا لربهم ولدينهم ليَسعدوا في الداريْن، لكنْ إنْ أصَرُّوا وعانَدوا واستمرّوا علي شرِّهم ولم يَتقَدَّموا بأيّ خطوة نحو الخير حتي يُعِينهم تعالي علي بقية الخطوات وهو الذي نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم" (الرعد:11)، حينها يَتَدَخَّل سبحانه بإهلاكهم واستئصالهم ليُريح أهل الخير والكوْن كله من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولتعود للجميع سعاداتهم التامّة دون تعكيرٍ بشرور، في التوقيت والموعد المُحَدَّد لعقابهم والذي يكون بكلّ عدلٍ علي قدْر شرورهم سواء أكان بقَلَقٍ وتوَتّر وضيق واضطراب وصراع ونحوه أم باقتتال مع الآخرين أم بعقابٍ تامٍّ يُهلكهم ويَستأصلهم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستصال التامّ من الحياة)، وهذا هو معني ".. وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)" أيْ وإنَّ ربك بالتأكيد شديد العقاب والعذاب في الدنيا والآخرة بما يُناسب للمُصِرِّين علي سُوئهم بلا أيِّ توبة.. إنَّ الجزء الأخير من الآية الكريمة يُذَكّر كل مسلم أنْ يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف من عقابه تعالي وبين الرجاء في مغفرته وعطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)" أيْ ويقول الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، لو أُنْزِلَ علي محمد آية من ربه أيْ دلالة ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْقه تكون مَرْئيَّة مَحسوسة كما حدث مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من أدِلَّة، لكُنَّا آمَنَّا علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. إنه تعالي قادر قطعا علي كل آية ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة لا تُحْصَيَ حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة ، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ مُتَكَامِلٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!!.. إنهم إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتما بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وقتية لا دائمة وأقل منها مهما عظمت! فالآيات عنده سبحانه وليس عند أيّ أحدٍ ولا حتي الرسل، وهو قادر قطعا علي إنزالها في أي وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. إنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ.." أيْ ليس أبداً مهمّتك يا رسولنا الكريم إنزال الآيات وإنما مهمّتك فقط ومهمّة المسلمين من بعدك – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بصورةٍ من الصور علي قَدْر استطاعته – أن يكون كلٌ منهم نذيرا مُبِينا أي مُبَيِّناً أي مُوَضِّحَاً ما أمكن لكل الناس حوله أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون الحياة، ومُنْذِراً أيْ مُحَذّراً الذين لم يستجيبوا للخير بكل تعاسةٍ في دنياهم وأخراهم بما يُناسب شرورهم وأضرارهم ومفاسدهم، وليَتَحَمَّلوا إذن نتيجة سوء أعمالهم لا يتحمَّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمين الدعاة من بعدهم، ما داموا قد أحسنوا دعوتهم بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، فليطمئنّوا إذَن ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مَدْعُوِيهم.. هذا، وكما أنهم مُنْذِرون فهم أيضا مُبَشِّرون بكل خيرٍ وسعادة في الداريْن للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات السابقة يتكلم عن المُكَذبين المُصِرِّين علي تكذيبهم.. ".. وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)" أيْ ولكل أناسٍ مُرْشِد هو رسول يُرْشِدهم إلى الخير بالوسيلة التى يراها الله تعالي مُرْسِله مناسبة لأحوالهم ويُؤَيِّده بمُعْجِزاتٍ من جنس ما هو الغالب عليهم بحيث تُثْبِت صِدْقه وتُؤَثّر فيهم، وأنت يارسولنا الكريم قد أرسلناك للناس جميعا بأعظم وأدْوَم مُعْجِزَةٍ وهي هذا القرآن العظيم الذى هو خير وَسِيلَةٍ لإرشادهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم، وبالتالي فلا تَلْتَفِت إلى ما يُطالِبون به من الآيات أيْ المُعْجِزات الحِسِّيَّة واستمرّ في دعوتك لله للإسلام بما معك من قرآن.. هذا، وللناس من بعد الرسل هُدَاةٌ أيضاً من المسلمين أتْباع هؤلاء الرسل في كل زمانٍ ومكانٍ يدعونهم للخير والسعادة في الداريْن ومعهم القرآن العظيم وما فيه من إسلامٍ يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم كأعظم دليلٍ علي صِدْقهم وصِحَّة ما يدعونهم إليه
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)"، "عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، وبيانٌ أنه تعالى قادرٌ حتماً على إنزال ما اقترحوه من آياتٍ أيْ مُعْجِزاتٍ وإنما لم يُنزلها لعِلْمه بأنَّ اقتراحهم للعِناد لا للاسترشاد.. أيْ الله تعالي الذي أعطى الرسول الكريم محمد (ص) هذه المُعْجِزَة الكبرى الدائمة حتي يوم القيامة وهي القرآن العظيم هو الذي يعلم كلّ شيءٍ في هذا الكوْن ولا يَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فهو يعلم ما تحمل أيّ أنثي من حَمْل، سواء أكانت من بني آدم أم من غيره من المخلوقات، وهو يعلم جنينها ومولودها وما أجَله وما الذي سيَفعله في كل لحظات حياته وما شابه هذا، لأنه سبحانه هو خالِقه ومُوجِده! ولا يمكن أبداً أن يكتمل هذا الحمل ولا أن يُولَد كمولودٍ ولا أن يحيا لنهاية أجله ويموت إلا بعلمه وبأسبابه وبإذنه وإرادته وتيسيره وتوفيقه.. ".. وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ.." أيْ ويعلم كذلك قطعاً ما تَنْقُص الأرحام مِن الذي بداخلها مِن أجِنّةٍ كأنْ يَسقط الجنين مثلاً أو يُولَد قبل تسعة أشهر أو يُنْقَص في أعضائه بسبب مرضٍ ونحوه، وما تزداد مِمَّا بداخلها من حيث مدة الحمل إذ قد تزيد أياما عن الأشهر التسعة المعتادة أو من حيث عدد الأجنة أو أعضاء كل جنين، أو ما شابه هذا من أيِّ نقصان وزيادة.. ".. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)" أيْ وكل شيءٍ خَلَقَه في هذا الكوْن، عنده أيْ في حُكْمه وقضائه وتَدْبيره وعِلْمه تعالي، هو بمقدارٍ بكل تأكيدٍ بلا أيّ شكّ كما يُثبت الواقع ذلك في كل مَخلوقاته المُعْجِزَة المُبْهِرَة لكل صاحبِ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل، أيْ بتقديرٍ وتحديدٍ وضَبْطٍ وحسابٍ دقيق، أيْ موزون اتّزانا ومُحْكَم إحكاما ومحسوب حسابا دون أيّ عَبَث وبكل تمامٍ وكمال.. لقد خَلَق الله وحده لا غيره سبحانه كلّ شيءٍ في هذا الكوْن بتقديرٍ حكيمٍ وبعلمٍ شاملٍ وبقُدْرةٍ تامَّةٍ وبنظامٍ وتصريفٍ فيه كل دِقّةٍ وليس فيه أيّ عَبَث أو خَلَل، مِن أجل نفع الخَلْق وسعادتهم التامَّة في دنياهم وأخراهم.. إنَّ حركة كلّ شيءٍ مُقَدَّرَة بمنتهي الدِّقّة بما يحافظ علي نظام الكوْن وبما يحقّق تمام المَنْفَعَة والسعادة للخَلْق، كما أنَّ كلّ مخلوقٍ قد أعطاه خالِقه من المُواصَفات والإمكانات التي تُمَكِّنه من أداء مهامّ له في هذه الحياة وهداه وأرشده لأدائها، لتكون كلها مُسَخَّرَة للإنسان، والذي أعطاه مواصفاتٍ أهمها العقل ليُحْسِن التعامُل مع هذا الكوْن من خلال التواصُل الدائم مع ربه ودينه الإسلام، كذلك فإنَّ تَحَقّق نتائج الأسباب التي يَتَّخذها الناس وتيسيرها أو مَنْعها تكون بالأسلوب وفي التوقيت المُقَدَّر والذي هو حتما لمصلحتهم ولسعادتهم في دنياهم ثم في أخراهم لأهل الخير منهم حيث خَلَق لهم مِمَّا خَلَق أيضا الجِنَان التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، كذلك حُدُوث عذابٍ مَا بمَن يستحِقّه يكون بالمقدار وفي التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا لعقوبته في الدنيا ثم في الآخرة بما لا يُوصَف من العذاب في النار التي هي أيضا من خَلَقه لكي تكون عقابا عادلا بلا أيّ ذرّة ظلمٍ لأهل الشرّ منهم (للمزيد من الشرح والتفصيل ولاكتمال المعاني برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف).. إنه تعالي يعلم كلّ ما غابَ عن البَشَر وعن حَوَاسِّهم وعن كل ما هو من الماضي أو من المستقبل أو بعد البعث في الآخرة ونحو ذلك من أنواع الغيْبِيَّات وهو شاهِد عالِم يشهد ويعلم تمام العلم كل قولٍ وعملٍ لكل خَلْقٍ سواء أكان ظاهرا أم خَفِيَّاً ويعلمه قبل حدوثه فهو سبحانه يعلم المستقبل وما سيَحدث في هذا الكوْن قبل خَلْقه فكله مُقَدَّر أيْ مُحَدَّد في عِلْمه ومَكْتُوب كيفية ووقت حدوثه في كتابٍ في اللوح المحفوظ.. إنَّ كل تشريعات الله تعالي في الإسلام، وكل تقديراته في كوْنه، مُقَدَّرَة تقديرا بكل تأكيدٍ أيْ مَوزونة اتّزانا ومُحْكَمَة إحكاما ومحسوبة حسابا دون أيّ عَبَث وبكل تمامٍ وكمال، ولابُدّ أن تتحقّق وتَقَع في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا من أجل مصلحة خَلْقه وإسعادهم ولا يستطيع أيّ أحدٍ أن يمنعها أو يُغَيِّرها (برجاء أيضا مراجعة الآية (37) من سورة الأحزاب ".. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا"، لتكتمل المعاني وتَثبت وتتأكّد).. إنَّ كلَّ ما سَبَقَ ذِكْره هو من معاني هذا الجزء من الآية الكريمة.. "عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ هو وحده سبحانه عالمٌ بتمام العلم بكل ما غابَ عن إدراك الخَلْق وحَوَاسِّهم، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا يعلمونه أم من المستقبل، وبالقطع يعلم الشهادة أي ما هو مُشَاهَد مُدْرَك للحَوَاسّ، وهو أمر مَنْطِقِيّ ولكن ذَكَرَه تعالي حتي لا يتَوَهَّمَ أحد أنه يعلم الغيب فقط!.. إنه بالتالي وقطعاً يعلم في دنياكم وعندما يبعثكم في أخراكم أيها الناس كل ما تسِرّونه وتُعلنونه كبيره وصغيره من أعمالكم وأقوالكم بتمام العلم والرؤية، لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه.. ".. الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)" أيْ وهو وحده الذي صِفاته وقُدْرَته وعِلْمه وحِكْمته وسلطانه سبحانه أكبر وأعلي وأعظم وأرْفَع وأسْمَيَ وأقْوَيَ من صِفَة أيِّ أحدٍ أو أيِّ شيءٍ حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وهل يُقارَن الخالِق بالمَخْلوق؟!!
ومعني "سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ يَسْتَوِي في عِلْمه تعالى بكل دقائقكم وتفاصيلكم مَن أخَفْىَ القول منكم أيها الناس لنفسه وحتي ما خَطَر منه بعقله ومَن جَهَرَ أيْ أعلنَ وأظهر به لغيره، ويستوي عنده كذلك مَن كان مُسْتَخْفِيَاً مُسْتَتِرَاً بأقواله وأفعاله في مكانٍ لا يراه أيّ أحدٍ في ظلام الليل، ومن كان سائراً في سرْبٍ أيْ في طريقٍ ظاهرٍ وفي فريقٍ من الناس في وضوح النهار يراه كل أحد، فهو يعلم كل ما تسِرّونه وتُعلنونه كبيره وصغيره من أعمالكم وأقوالكم بتمام العلم والرؤية، لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فليُحْسِن إذَن كلّ عاقِلٍ كلّ كلامه وتَصَرّفاته علي الدوام ليسعد في دنياه وأخراه
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رعاية الله تعالي وحِفْظه لخَلْقه ورحمته بهم وحبّه لهم ولإسعادهم.. أيْ للإنسان مجموعاتٌ مُتَعَاقِبَاتٌ من الملائكة أيْ مُتَتَابِعاتٌ مُتَنَاوِبَاتٌ تَعْقب أيْ تَتْبَع بعضها بعضاً لفترةِ مُنَاوَبَةٍ وعَمَل، من بين يديه أيْ من أمامه ومن خَلْفه أيْ من ورائه والمقصود من كل جانب، يحفظونه أيْ يَحْرُسونه ويَحْمونه بأمر الله من كل سوءٍ علي مَدَار اليوم والليلة، إلا من شيءٍ يأذن الله في أنْ يَحْدث له فيُصيبه، كذلك تَحْفَظ عليه تمام الحِفْظ كل أقواله وأفعاله اليومية اللحْظِيَّة خيرها وشَرّها وتُحْصِيها وتُسَجِّلها له كاملة تامّة بكل أمانةٍ ليُحَاسَب عليها يوم القيامة.. كذلك من المعاني أنَّ له أيْ لله تعالي مُعَقّبات أيْ مجموعات من جنودٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه سواء أكانت ملائكة أم مخلوقات أخري غيرها، تَتَعاقَب أيْ تَتَنَاوَب لتَسْيير شئون الكوْن، بأوامر الله، بما يَحفظ نظامه وبما يحفظ لكلّ أحدٍ من الناس ولكل خَلْقه منافعهم وقوَاهم لتَتَحَقّق لهم تمام الراحة والطمأنينة والسعادة، وهي من بين يَدَي الإنسان ومن خَلْفه وحوله أيْ مُنْتَشِرة في كل مكان.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.." أيْ هذا بيانٌ لقانونٍ من قوانين الله تعالي في الحياة الدنيا لا يَتَغَيَّر أبداً حتي يوم القيامة ليَنْتَبِه له الناس ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما.. أيْ إنَّ الله لا يُغَيِّر حالَ أناسٍ من خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم إلي شرٍّ وتعاسةٍ فيهما، حتي – أيْ يستمرّ حالهم السعيد هذا إلي أنْ – يُغَيِّرُوا هم ما بأنفسهم من طاعةٍ إلى معصيةٍ ومن صلاحٍ إلى فسادٍ أيْ مِن عَمَلٍ بكل أخلاق الإسلام إلي تَرْكٍ لها كلها أو بعضها، وتكون تعاستهم علي قَدْر تَرْكهم إيّاها.. والعكس صحيح حتماً، أيْ وكذلك إذا غَيَّرُوا ما بأنفسهم من سوءٍ وعملوا بأخلاق إسلامهم غَيَّرَ سبحانه حالهم من تعاسةٍ إلي سعادةٍ علي قَدْر عملهم بها، من خلال عوْنهم وتوفيقهم وتَيْسير كل أسباب الخير لهم في كل شئون حياتهم.. ".. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي التحذير السابق.. أيْ وإذا أراد الله أن يُنْزِل بأُنَاسٍ شَرَّاً يَسُوؤهم، لأنهم يستَحِقّونه بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بلا أيِّ توبةٍ منها أو لاختبارهم ليخرجوا مُستفيدين خِبْراتٍ واستفاداتٍ كثيرة أو لِمَا شابَهَ ذلك من حِكَم، فلا رجوع فيه أيْ فلا رَدَّ ولا رَادَّ له أيْ فهو لا يُرَدّ أيْ لا يُرْجَع ولا يُمْنَع ولا يُدْفَع عند نزوله ولا يُمْكِن لأيِّ أحدٍ مهما كان أنْ يُرْجِعَه ويَمْنَعه بل لابُدَّ أن يَحْدُث فلا مَفَرَّ منه بأيِّ حالٍ من الأحوال.. ".. وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)" أيْ وأيضا ليس لهم غير الله تعالي الخالق الرازق المُعِين الرحيم الودود أيّ وَلِيّ وأيّ ناصر يَتَوَلَّيَ أمورهم فيُعِينهم ويَنصرهم ويَمنع الضرَرَ عنهم في كل شئون حياتهم.. إنه مَن كان الله وَلِيّه ونَصيره فسيُوَفّر له حتماً في دنياه وأخراه الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها.. وفي المُقابِل مَن ابتعد عن ربه وإسلامه وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار فأمثال هؤلاء عند نزول ما يُناسبهم مِن عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ لا يَجدون أيَّ وَلِيٍّ أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافِع عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئاً منه
ومعني "هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)"، "وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَرَه سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هو الله وحده لا غيره الذى يُريكم البرق أيها الناس بقُدْرَته – وهو ضوءٌ شديدٌ في السماء لِلَحَظَات – فيُؤَدّي ذلك إلي أن تكونوا في خوفٍ مِمَّا ينتج عنه من صَوَاعِق أو سيول مُدَمِّرَة أو نحوها، وفي طَمَعٍ فى خيره حيث قد يَتْبَعه مطرٌ نافعٌ يُخْرِج خيراتٍ كثيراتٍ من الأرض.. إنه من مظاهر حِكْمة الله تعالى في خَلْقه أنه جعل البَرْقَ علامة إنذارٍ وتبشيرٍ معاً في وقتٍ واحد! والإنذار والتبشير يُفيدان ويُذَكّران كل مسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف من عقابه تعالي وبين الطمع في مغفرته وعطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)" أيْ وهو سبحانه كذلك وحده الذى يُوجِد ويُكَوِّن السحاب المُثْقَل المُحَمَّل بالماء الكثير فيُحَرِّكه من مكانٍ لآخر بما يَنفع الناس ويُسعدهم أو يُعاقبهم به إنْ أساءوا.. "وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)" أيْ ومِن مَظاهر قُدْرَته وكمال عِلْمه كذلك أنه يُسَبِّح الرعد – وهو الصوت الشديد الذي يأتي بعد البرق بقليل – بحمده، وتُسَبِّح الملائكة أيضا بحمده، بسبب خوفه تعالى وإجلالا لمَقامه وذاته وعظمته، أيْ يُنَزّهه سبحانه الرعد وتُنَزّهه الملائكة، أيْ تُبْعِده مخلوقاته عن كل صفةٍ لا تليق به وتحمده دائما علي كل نِعَمِه، بطريقتها الخاصّة التي خَلَقها عليها والتي حَوَاسّ البَشَر ليست مُؤَهَّلَة لإداركها (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (44) من سورة الإسراء "تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً"، لمزيد من الشرح والتفصيل).. إنَّ جميع مَن في السماوات والأرض وما في الكوْن كله يُسَبِّح ويَحْمد الله تعالي خالِقه، ومِن معاني تسبيحه وحَمْده أنه يَنْقاد ويَخْضَع لإرادته، أيْ يُؤَدِّي مهمّته التي خَلَقه من أجلها لنَفْع الإنسان ولسعادته، وكل المخلوقات بما فيها من عجائب خالقها تَدْفع كل عاقلٍ لتسبيحه سبحانه حين يُحْسِن التّدَبُّر فيها وتَدْفعه لأنْ يعبده بالقطع وحده دون غيره ولأنْ يَتَذَكّر أن يحيا حياته راجيا رحمته بفِعْل كل خيرٍ ثم في ذات الوقت يخاف غضبه وعذابه إذا فَعَلَ شَرَّاً ولم يَتُبْ منه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. ".. وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ.." أيْ ومِن مَظاهر قُدْرَته وكمال عِلْمه كذلك أنه يبعث الصواعق المُهْلِكَة – جَمْع صاعِقَة وهي الشيء الذي يَصْعَق ما تحته فيُهلكه إذا أصابه سواء أكان هذا الشيء نارا مُحْرِقَة أم عاصفة مُدَمِّرَة أم شرارة كهربائية مُمِيتَة أم ما شابه هذا – فيُصيب بها مَن يَشاء أيْ يُريد إصابته من خَلْقه فيُهْلِكَه، لإصراره علي شروره ومَفاسده وأضراره بلا أيّ توبة.. ".. وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)" أيْ ومع كل هذه الدلالات والمُعجزات الدالّة بلا أيِّ شكّ علي قُدْرَته وكمال عِلْمه سبحانه هم يجادلون هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ومَن يَتَشَبَّه بهم، في الله، في وجوده، في قُدْرَته، في صلاحية شَرْعه الإسلام لإسعاد البشرية في دنياها إلي يوم القيامة، في البعث والحساب والعقاب والجنة والنار، وما شابه ذلك من أنواع الجدال المختلفة، والجدال هو صورة سَيِّئة من صور الحوار حيث المُجادِل يَصِل لمرحلة أن يعرف بداخل عقله أين الصواب من الخطأ ولكنه يستمرّ في حواره من أجل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا الرخيصة، ويزداد الجدال سوءا إذا كان بغير علم، أي كان المُجَادِل جاهلا لا يتكلم كلاما مَنْطِقِيَّاً يقبله العقل المُنْصِف العادل لأنه لا يملك أيّ علمٍ أو مَنْطِقٍ أو فكر أو فهم، رغم أنَّ الحال والواقع أنَّ كل هذه المعجزات تُفيد أنه سبحانه شديد المِحال أيْ شديد الحَوْل أيْ القوة والقُدْرَة وشديد الحِيلَة أيْ التدبير والكَيْد للحقّ وشديد العقاب علي السوء لمَن أصَرَّ عليه بلا توبة، سبحانه وتعالي عمَّا يقولون ويفعلون عُلُوَّاً كبيرا
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابداً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)" أيْ لله تعالي وحده لا لأيِّ أحدٍ غيره أبداً دعوة الحقّ أيْ الدعوة التي هي الحقّ أيْ الصدق والتي هي كلمة لا إله إلا الله، وغيرها من الدعوات كلها هي الكذب الباطل، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. كذلك من المعاني أنَّ الله هو الحقّ، وبالتالي فدعاؤه هو دعوة الحقّ، فعندما يدعوه مَن يدعوه فهو يدعو الحقّ سبحانه، فهو له الدعاء وحده، بسؤاله والاستعانة به، والتوكّل أي الاعتماد عليه وحده وطلب حبه ورضاه ورعايته وأمنه وعونه وتوفيقه وسداده ونصره وقوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وذلك هو الحق أيضا، حيث لا يُلْجَأ إلا إليه ولا يُجيب غيره دعوة الداعين اللاجئين المُستغيثين، وبالجملة هو تعالي الأحقّ بكل ذلك، لأنه الحقّ ودينه الإسلام هو الحقّ والجنة والنار والحساب والعقاب كلها الحقّ، فكل الآيات الكوْنِيَّة وكل آيات القرآن الكريم تؤكّد ذلك بلا أيِّ شكّ لكل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ يُحْسِن استخدام عقله ويستجيب لفطرته بداخله وهي المسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذا هو حال المؤمنين، يعبدون ربهم وحده ويتمسّكون ويعملون بدينه الإسلام وحده ويدعونه بسؤاله وحده ويدعون له وحده وللإسلام لا لدين غيره فيسعدون بذلك تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ.." أيْ والآلهة التي يَدْعون أيْ يعبدونها غيره سبحانه كأصنامٍ أو أحجار أو كواكب أو غيرها لا تُجيب دعاء مَن يدعوها بأيِّ شيءٍ مِن تحقيق نَفْعٍ أو مَنْع ضَرَرٍ إلا كإجابة الماء لشخصٍ عطشانٍ بَسَطَ كَفّيْهِ إليه من بعيدٍ طالباً منه أن يبلغ أيْ يَصِل فمه وما الماء ببالغ أيْ وَاصِل فم هذا الشخص السفيه لأنَّ الماء لا يحسّ ولا يسمع نداء مَن يناديه ولا يشعر ببَسْط كَفّيْه ولا بعَطَشِه ولا يَقْدِر أن يُجيب طَلَبَه ولو بَقِيَ على ذلك طوال حياته، أو كمَن يَبْسط أيْ يَمدّ كَفّيه ويضعهما ليحمل بهما ماءً وهما مَبْسُوطتان ليَبلغ فمه فيشرب وليس قطعا من شأن الكَف المَبْسُوطة أن تحمل الماء وتوصله للفم.. وهذا يدلّ علي تمام سَفَه وتعاسة مَن يعبد ويدعو غير الله تعالي في دنياه وأخراه حيث إلاهه هذا لن ينفعه بأيِّ نَفْعٍ ولن يَمْنع عنه أيَّ ضَرَرٍ فيهما.. ".. وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره والتأكيد علي خَيْبَة وسَفَه هذا الكافر والعابِد لغير الله تعالي.. أيْ وإذا كان هذا هو حالهم فإنَّ الحال والواقع أنه ليس دعاء الكافرين ولا عبادتهم الأصنام أو غيرها من هذه الآلهة المزعومة إلا حتماً في ضياعٍ وخسرانٍ وبُعْدٍ تامٍّ عن الصواب، لأنَّ هذه الآلهة الباطلة لا تملك لنفسها أصلا تحقيق أيّ نَفْعٍ أو مَنْع أيّ ضَرَرٍ فكيف لغيرها، فهم بالقطع في كل خطأٍ وشَرٍّ وضَرَرٍ، في كل قَلَقٍ وتوتّرٍ وضيقٍ واضطرابٍ وصراع، وبالجملة في كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة في الداريْن
ومعني "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)" أيْ ولإرادة الله تعالي وحده لا لإرادة غيره يَسْتَسْلِم ويَنْقاد ويَخْضَع جميع مَن في الكوْن في مُلْكِه سواء أكان راضياً أم كارها، وكل المخلوقات راضية بأن يكون الله سبحانه الذي هو خالقها ومُرَبِّيها ورازقها ومُعِينها وراعيها ومُرْشدها لكلّ خيرٍ ونفعٍ الغفور الرحيم الودود الكريم المُجيب هو المَلِك عليها يُدير شئونها علي أكمل وجه، إلا فقط وحدهم الكافرون والمشركون ومَن شابههم، يَكرهون ذلك ويَسيرون مُتَخَبِّطِين مُتْعَبِين تُعَسَاء عَكْسه، لأنهم يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ومع ذلك فهم أيضا في كثير من أمورهم مسلمون كَرْهَاً أيْ مُسْتَسْلِمُون مُنْقادون خاضِعون لحُكْمه ولأمره رغم أنوفهم!! في طول الأجل أو قِصَره وفي نوعيتهم وذُرِّيَّاتهم كذكرٍ أو أنثي وفي قانون الأسباب والنتائج حيث قد يتّخذون أحيانا أسبابا ويمنع خالقهم عنهم نتائجها وفي أسباب الرزق من مطرٍ وضوءٍ وهواء وإخراجٍ لزروعٍ وثمارٍ وغيرها وفي حركة الأرض وتناوُب الليل والنهار والشتاء والصيف ونمو خلايا أجسامهم ودَوَابّهم وصحتهم ومرضهم وموت أحبابهم وما شابه هذا من شئون الحياة المختلفة.. لقد رضي المسلمون بربهم وبإسلامهم وتمسّكوا بكل أخلاقه لتأكّدهم التامّ بأنَّ كل هذا هو مصدر سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم وهم قد اختاروا هذا طَوْعَاً أيْ اختيارياً بلا أيِّ إكراهٍ أيْ راضِين بكامل حرية إرادة عقولهم وقد شاء الله لهم هذا الاختيار الحرّ حين خلقهم، وبالتالي فالكارهون لله وللإسلام ولا يتّبعونه من الكافرين والمشركين وأشباههم، هم أيضا بصورةٍ غير مباشرةٍ رغم أنفهم تحت مشيئة الله وإرادته في مُلْكِه والتي شاءت أن يكون الإنسان بعقله حُرَّاً في اختيار ما يريد وشاءت أن تكون فطرته بداخل عقله مسلمة!! (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فإنْ اختار الخير فله كل الخير والسعادة في الداريْن وإنْ اختار الشرّ فله كل الشرّ والتعاسة فيهما (للمزيد من الشرح والتفصيل عن علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام، برجاء مراجعة الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران).. وكذلك هو حال المنافق حيث يُظْهِر أنه أسْلَمَ له سبحانه رغم عدم رغبته في الإسلام وكفره به فهذا مِمَّن أسلمَ كرْهَاً أيْ وهو كارِه لكي يتمكّن من التعامُل مع المسلمين أو العيش بينهم فينتفع بخيراتهم أو يحاول الكَيْد لهم لإضعافهم.. هذا، ومن معاني " طَوْعَاً وكَرْهَاً" أيضا أنَّ فيها تَنْبيهاً ضِمْنِيَّاً من الله تعالي للبَشَر، حتي المسلمين منهم، أنهم سَتَمُرّ عليهم أحيانا مواقف يكرهونها ولا يُحبونها فعليهم أن يُحسنوا التعامُل معها كما عَلّمهم إسلامهم ليَخرجوا مُستفيدين من خبراتها، أمّا غير المسلم فسيكون غالبا في غَفْلة ولا يُحسن التّصَرُّف والاستفادة!.. ".. وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)" أيْ ويَستسلم ويَنْقاد ويَخْضَع له أيضا بالغدو والآصال أيْ بأوائل النهار وأواخره ظلال كل مَن له ظلّ منهم، فتَمِيل وتَتَغَيَّر في الطول والقِصَر بحسب حركة الشمس.. إنَّ كلّ شيءٍ مُنْقَادٌ خاضِعٌ مُسْتَسْلِمٌ له تعالي، سواء أكان بَشَرَاً أم غيره، فيه روح أم لا، كبيراً أم صغيراً، قوياً أم ضعيفاً، حتي ظلال الأشياء.. هذا، وتخصيص الغُدُوّ والآصال بالذكر لأنَّ الظل يكون طويلا واضحا في هذين الوقتين فيُمْكِن التّدَبُّر فيه
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا اتّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا، فسيُوَفّر لك حتما الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. فهو تعالي وحده النافع الضارّ (برجاء مراجعة الآية (76) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن ذلك)
هذا، ومعني "قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، للمشركين الذين يعبدون غير الله تعالي، وللمُكَذّبين المُعانِدين المُسْتَكْبِرين المُستهزئين، ولمَن يَتَشَبَّه بهم، ولمَن حولك من جميع الناس، اسألهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مَن خالِق السماوات والأرض ومالِكهما بكل مَن ومَا فيهما وعليهما وراعِيهما وحافِظهما ومُتَوَلّي ومُدَبِّر كل شئونهما وكل الخَلْق بهما؟.. والسؤال هو للنفي القطعيّ لوجود ربٍّ غيره سبحانه وللذمِّ الشديد لهؤلاء المشركين الذين قد عَطّلوا عقولهم وعبدوا آلهة هي أضعف منهم عقلاً بل لا عقل لها!! وهل يكون العابد أقوي من المعبود هكذا؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!! ولكنه العِناد والتكذيب والاستكبار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلِ اللَّهُ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم سواء أجابوا مُعْتَرِفين مُقِرِّين بما تقوله لهم أم امتنعوا عن الإجابة مُبَادِرَاً مُسَارِعَاً أنت إلي الجواب الذي لا جواب غيره والذي هو جواب واحد صحيح لا يَحتمل جوابا آخر من أيِّ عاقِلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ولا يُنكره إلا كلّ سَفِيهٍ مَخْبُولٍ مُعانِدٍ مُكَذّبٍ مُكَابِر، حيث الواقع يُثْبِت كثيراً أنه يَحْسُن أن يكون السائل أحياناً مُجِيباً علي نفسه إذا عَلِم أن خَصمَه لا يُمكن له مطلقاً أن يُخَالِفه في الجواب الذي يُقيم به الحُجَّة عليه، قل لهم الله تعالي وحده لا غيره حتماً هو ربّ السماوات والأرض والخَلْق جميعا، وليس قطعا آلهتهم المزعومة، وذلك لأنهم لن يَرُدُّوا! لأنهم لن يجدوا رَدَّاً! لأنهم يعلمون تماما أنه لن يَجرؤ أيّ أحدٍ أن يَدَّعِيَ أنه هو الذي خلقهما ومخلوقاتهما، ولو أجابوا بأنه هو الله تعالي فقد أدانوا أنفسهم فلماذا لا يؤمنون به إذن ويعبدونه وحده بلا أيّ شريك؟! إنهم إمّا أن يعترفوا صراحة وينطقوا بأنه الله وحده سبحانه وإمّا أن يصمتوا وهو أيضا سيكون منهم اعترافاً ضِمْنِيَّاً.. ".. قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.." أيْ هذا استفهامٌ وسؤالٌ للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ ثم قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لقد رأيتم الأدِلّة التي لا يُنْكِرها أيُّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنَّ الله تعالي هو وحده الخالق للسماوات والأرض وتأكّدتم من ذلك وعلمتموه تماما بداخل فطرتكم فهل بعد كل ذلك تركتم عبادته واتّخَذْتم أيْ جعلتم غيره أولياء أيْ آلهة أيْ أولياء لأموركم تتوهَّمون أنهم ينفعونكم بأيّ شيءٍ أو يمنعون عنكم أيّ ضَرَرٍ فأنتم تعبدونهم وتطيعونهم سواء أكانوا أصناما أم أحجارا أم كواكب أم بَشَرَاً ضعفاءَ يمرضون ويموتون مثلكم أم ما شابه هذا؟! إنَّ هذه الآلهة لن تمنع قطعا أيّ ضرر عن أيّ أحد يعبدها ولن تحميه وتُطَمْئِنه بأيّ شيءٍ بل هي لا تستطيع حماية أنفسها فكيف بغيرها؟! وبالقطع أيضا لن تنفع بأيّ شيء! إنها لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضَرَّا! ألا ترَوْن أنكم أقويَ منها؟!! وكيف يكون المعبود أضعف من العابِد؟!! وكيف تعبدون مخلوقات مثلكم وتتركون عبادة خالقها؟!! أين العقول المُنْصِفَة العادِلة؟!!.. ".. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ.." أيْ هذا مزيدٌ من الاستفهام والسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ ثم قل لهم أيضا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم هل يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين الأعمي الذي لا يَرَيَ ما حوله والبصير الذي يَرَيَ كلّ شيءٍ بوضوح وبين الظلمات التي لا يُرَيَ فيها شيءٌ والضياء الواضح به كل الأشياء؟! والمقصود الفرق الشاسع الذي لا يُقَارَن بين الكافر والمؤمن وبين الظلمات أيْ الكفر والنور أيْ الإيمان، أيْ بين المُصَدِّق بوجود ربه وبكتبه وخاتمها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره المتمسّك العامل بكلّ أخلاق إسلامه في كلّ أقواله وأعماله، وبين المُكَذّب بكل ذلك، أو الذي يَترك الإسلام بعضه أو كله، فالبصير وهو المؤمن، قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ وعَمل به ونَشَرَه لغيره، بينما الأعمي وهو الكافر فهو قطعاً في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحسن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام للنفي، أيْ حتماً لا يستويان.. ".. أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من الاستفهام والسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ أم هل جعلوا هؤلاء المشركين لله في عبادته شركاء أيْ آلهة أخري يعبدونها غيره وهؤلاء الشركاء قد خَلَقوا مخلوقاتٍ مثل خَلْقه فتَشَابَهَ عليهم الخَلْق من الشركاء مع الخَلْق من الله فتَوَهَّموا استحقاقهم للعبادة فيُلْتَمَس لهم لذلك بعض العُذْر؟! والمقصود أنهم ما اتّخذوا شركاء يَخْلقون مِثْل خَلْق الله تعالي حتى يَتَشابَه عليهم الخَلْق فيقولوا هؤلاء خَلَقوا كما خَلَقَ الله فاسْتَحَقّوا العبادة كما اسْتَحَقّها ولكنهم اتّخذوا شركاء عاجزين تمام العَجْز لا يَقْدِرون على ما يَقْدِر عليه حتي الخَلْق وليس الخالِق بما يُفيد شدَّة سَفَههم وخَبَلِهم وإلغائهم لعقولهم!!.. ".. قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)" أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم حاسِمَاً كل الأمور الله وحده لا غيره هو خالِق كل شيءٍ في هذا الوجود وأوْجَده مِن عَدَمٍ ولم يستطع أيُّ أحدٍ ولم يَجْرُؤ علي أن يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقه وبالتالي فاعبدوه أيْ فأطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة فهو الواحد أيْ الإله المَعْبُود الذي ليس معه أيَّ شريك الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، القَهَّار أي الكثير القَهْر أي الغَلَبَة لكلّ شيءٍ أي الغالِب لكل شيءٍ حيث الجميع تحت سلطانه ونفوذه، آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم بيده، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، فهل يُعْبَد غيره ويُلْجَأ لغيره؟!
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ (19)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما متمسّكاً بالحقّ بعيداً كل البُعْد عن الباطل تارِكَاً كل الترْك له، أي كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّداً بلا أيّ شكّ أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدَّ حتما سينَهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر من عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآية (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)" أيْ هذان مَثَلان ذَكَرَهما الله تعالي للحقّ، وهو القرآن والإسلام، فشَبَّهَه بالماء الصافي وبالمَعْدن النّفِيس النقِيّ الكريم اللّذَيْن يُنْتَفَع بهما عظيم وتمام الانتفاع، وذَكَرَ مَثَليْن للباطل، وهو الذي يخالف القرآن والإسلام، هما رَغْوَة الماء وشَوَائِب المَعْدن اللذيْن لا نَفْع لهما.. إنَّ الآية الكريمة هي مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ مِن بعض مُعجزات الله تعالي ومن تمام قدْرته وعلمه ورحمته وعطائه يُنزل الماء من السُّحُب في السماء فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المُتَنَوِّعَة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. ".. فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا.." أيْ فجَرَت أَوْدِيَة الأرض به بقَدْر صغرها وكبرها وضِيقها واتّساعها، والأوْدِيَة هي جَمْع وادي وهو المَوْضِع المُتّسِع المُمْتَدّ من الأرض الذى يَسيل أيْ يَجْرِي فيه الماء، كالأنهار، ويُطْلَق أيضا علي أرضٍ مُنْخَفِضَةٍ بين مُرْتَفَعَيْن.. ".. فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا.." أيْ فحَمَلَ الماء السائل أيْ الجارِي فى الأودية زَبَدَاً رابياً أيْ عالياً طافِيَاً فوق الماء، والزبد هو الغُثاء وهو ما يحمله الماء أثناء سَيَلاَنه أيْ جَرَيَانه من بعض خبائث كأتربةٍ وشوائب وأعشاب وقاذوراتٍ ورَغْواتٍ وفُقّاعاتٍ ونحوها مِمَّا هو لا قيمة له بل هو مُهْمَل مُسْتَقْذَر.. وهنا يكون قد انتهى المَثَل الأول، حيث شَبَّهَ سبحانه الحقّ وأهله فى الثبات والنفع بالماء الصافى الذى ينزل من السماء فتمتليء به الأوْدِيَة ويبقى محلّ انتفاع الناس به، وشَبَّه الباطل وأهله فى الضعف والنقصان والانقراض والزوال تدريجيا مع الوقت وعدم النفع بزَبَدِ السَّيْل المُنْتَفِخ المُرْتَفِع فوق سطح الماء فإنه مهما عَلاَ وارتفعَ وانْتَفَخَ فإنه سرعان ما يضعف ويزول ويَنْسَلِخ ويَبْتَعِد ويَنْكَشِف عمَّا هو نافع ثابت مستمرّ دائم وهو الماء.. ".. وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ.." أيْ وهذا هو المَثَل الثاني.. أيْ ومِمَّا يُشْعِلُ الناسُ عليه في النار من جواهر ومعادن ونحوها ابتغاءَ أيْ يريدون ويَطلبون حِلْيَة يُتَحَلَّيَ ويُتَزَيَّن بها كذهبٍ وفِضَّةٍ أو طَلَبَاً لمتاعٍ كعملِ أواني وغيرها من منتجاتٍ معدنيةٍ فإنه يعلوها زَبَدٌ منها عند صَهْرها بالنار مثل زَبَد الماء.. لقد شَبَّه سبحانه فى هذا المَثَل الثانى الحقّ وأهله فى البقاء والنفع بالمعادن النافعة الباقية، وشَبَّهَ الباطل وأهله فى الفناء وعدم النفع بالشوائب الخبيثة التي تقذفها النار عند صَهْر المعادن ويهملها الناس ويَسْتَقْذِرونها.. ".. كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.." أيْ هكذا دائماً بمِثْل هذا البيان الواضِح، يَذْكُر ويُبَيِّن الله مَثَل الحقّ ومَثَل الباطل، فأمَّا الزبد وهو الباطل فيذهب جُفاءً أيْ مَقْذُوفَاً مَرْمِيَّاً بعيداً مُتَخَلّصَاً منه بلا قيمةٍ لأنه لا خير فيه ولا نفع منه، وأمَّا ما ينفع الناس، وهو الحقّ، أيْ القرآن والإسلام، فيَبْقَيَ في الأرض مستمرّاً دائماً، ينتفعون ويسعدون بخيره.. فالزبَد والخَبَث حتماً يذهب مع الوقت مُهَانَاً مَهْزُومَاً، بينما الماء والذهب حتماً يبقيَ مُكَرَّمَاً مَنْصُورَاً.. وهكذا الإسلام، باقي ومُستمرّ ومُنْتَشِر ونافع ومُفيد ومُسْعِد للداريْن تمام السعادة لمَن يعمل بكل أخلاقه، بينما غيره من الأنظمة المُخالِفَة له الباطلة هي وَهْمٌ مُنْتَفِخٌ ظاهريَّاً فقط لكنها لا حقيقة لها فهي كالرغاوي والفقّاعات سريعة الزوال والانكشاف وهي ضارَّة كالشوائب والنفايات ونحوها، وهي مُتْعِسَة في الداريْن، وعلي المسلمين سرعة التَّخَلّص منها لضَرَرَها حتي لا تنتشر وذلك بنشر الدعوة للإسلام بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)" أيْ هكذا دائماً بمِثْل هذا البيان الواضِح، يَذْكُر ويُبَيِّن الله الأمثال أيْ التوْضيحات والتشبيهات في القرآن الكريم مِن أجل تقريب المعاني لأذهان الناس لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها في كل شئون حياتهم فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)" أيْ للذين أجابوا ولَبُّوا وأطاعوا وانْقادوا لربهم فيما يدعوهم إليه – وهم المؤمنون من الناس – من خلال رسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وكتبه وآخرها القرآن العظيم، مِن الإيمان به أي التصديق بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره ومِن التمسّك والعمل بكلّ أخلاق دينه الإسلام، لهؤلاء الحُسْنَيَ أيْ الحالة والنتيجة الحَسَنَة أيْ الجنة يوم القيامة بدرجاتها علي حسب درجات أعمالهم بنعيمها الذي لا يُوصَف مع سعادة الدنيا التامّة التي يحياها المؤمن المُتَمَسِّك العامِل بكل أخلاق إسلامه ولا يستشعرها غيره.. ".. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ.." أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين لم يُجيبوه ويُطيعوه ويَنْقادوا له وهم الكافرون من الناس والذين يُخالِفون الإسلام ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ.." أيْ مِن شدّة وفَظَاعَة العذاب وتَنَوِّعه في نار جهنم يوم القيامة لهم – وهم الذين لم يتوبوا ويعودوا لربهم واستمرّوا علي عدم استجابتهم حتي ماتوا – لو فُرِضَ وكانوا يَمتلكون وقتها ضِعف ما في الأرض مِن كلّ أملاكها لقاموا بالتضحية به كله وتقديمه في مُقَابِل أن يَفتدوا ذواتهم أي يُنَجُّوها من هذا العذاب الشديد السَّيِّء المُتَنَوِّع المُسْتَمِرّ، وحتما لن يَتَقبَّل الله ذلك منهم أبداً ولن ينفعهم بأيِّ شيءٍ مُطلقا.. وبالقطع ليس هناك حينها أيّ فداءٍ أو تعويض!!.. لأنَّ نظامه سبحانه في الحياة الدنيا هو أن يكون إنقاذ الإنسان من عذاب الآخرة ودخوله درجات الجنة مُتَوَقّف على إيمانه وعمله بأخلاق إسلامه لا على ما يَمْلكه مهما كَثر.. وفي هذا تمام اليأس من أيّ أملٍ في أيّ نجاةٍ لمزيدٍ مِن الحَسْرة والنَّدَامَة لهم.. وذلك هو العذاب الختاميّ النهائيّ والذي يكون علي قدْر سوئهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، بعدما ذاقوا في دنياهم بسبب أفعالهم درجة ما من درجات عذابٍ تَمَثّلَ في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة كلّ ألمٍ وكآبة وتعاسة.. ".. أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ.." أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابقة لهم الحساب السَّيِّء الذى لا رحمة معه ولا تَسَاهُل فيه ولا غفران لأيِّ ذنبٍ من الذنوب بل حسابٌ تَفْصِيلِيٌّ عَسِيرٌ مُسِيءٌ في شكله ونتائجه وعقوباته عليها كلها.. ".. وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.." أيْ وبعد سوء الحساب مَرْجعهم في الآخرة الذي يَأْوون إليه ويَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو عذاب نار جهنّم الذي لا يُوصَف، إضافة إلي ما كانوا فيه من بعض صور العذاب في دنياهم.. ".. وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)" أيْ وما أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا المِهاد أي الفِراش والمُستقرّ الذي يَفترشونه ويَستقرّون فيه.. هذا، ولفظ "المِهاد" فيه استهزاء بهم وتَحْقِير وإهانة لهم لأنه مِن المُفْتَرَض أن يكون الفراش مكانا للراحة لا للعذاب! فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يَصيرون إليه وهو النار يُعاقَبون فيها.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
ومعني "أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ (19)" أيْ هل مَن يعلم أنَّ مَا أنزل إليك يا رسولنا الكريم مِن وَحْيٍ مِن ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – وهو القرآن العظيم هو الحقّ أيْ الصدْق الذي ليس فيه أيّ شَكّ فيؤمن به أيْ يُصَدِّقه ويعمل بكل أخلاق الإسلام التي فيه فيَصْلُح ويَكْمُل ويَسْعَد تماماً في دنياه وأخراه كمَن هو أعمي عن الحقّ لا يؤمن به فيَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار فيتعس تمام التعاسة فيهما بسبب ذلك؟.. إنه لا يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بين الأعمي الذي لا يَرَيَ ما حوله والبصير الذي يَرَيَ كلّ شيءٍ بوضوح وبين الظلمات التي لا يُرَيَ فيها شيءٌ والضياء الواضح به كل الأشياء؟! والمقصود الفرق الشاسع الذي لا يُقَارَن بين الكافر والمؤمن وبين الظلمات أيْ الكفر والنور أيْ الإيمان، أيْ بين المُصَدِّق بوجود ربه وبكتبه وخاتمها القرآن العظيم وبرسله وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره المتمسّك العامل بكلّ أخلاق إسلامه في كلّ أقواله وأعماله، وبين المُكَذّب بكل ذلك، أو الذي يَترك الإسلام بعضه أو كله، فالبصير وهو المؤمن الذي يعلم أنَّ ما أُنْزِل إلي الرسول (ص) هو الحقّ المُؤَكّد فآمَنَ وعَمِلَ به، قطعا في تمام الخير والسعادة والنور والصواب واليُسْر والأمن في دنياه ثم له حتما في أخراه ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، لأنه قد أحسنَ استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأبْصَرَ كلَّ خيرٍ وحقٍّ وعدلٍ واستمَعَ إليه وتَفَهَّمَه واتَّبَعَه وتمسَّكَ وعَمل به ونَشَرَه لغيره، بينما الأعمي وهو الكافر فهو قطعاً في الدنيا في تمام الشرّ والتعاسة والظلام والخطأ والضياع والعُسْر والقلَق والتوتّر والاضطراب والصراع والاقتتال مع الآخرين ثم سيَنتظره بالقطع في الآخرة ما هو أشدّ تعاسة وأتمّ وأعظم، لأنه لم يستجب لفطرته وعانَدَها ولم يُحسن استخدام عقله ولم يُبْصِر الخير ولم يَستمع له ويَتَّبعه بل عادَاه ومَنَعه، وما كلّ ذلك إلا بسبب الأغشية التي وضعها علي العقل وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. والاستفهام للنفي، أيْ حتماً لا يستويان.. ".. إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ (19)" أيْ إنه لا يتذكّر فلا يَنْسَيَ ولا يَتَدَبَّر هذا ولا يتفكّر فيه ولا يَنتفع ولا يَسعد به إلا فقط أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة، والخطاب لهم لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها.. هذا، ولفظ "يتذكّر" يُفيد أنَّ أمر معرفة الحقّ واتّباع الإسلام هو سَهْلٌ مَيْسُورٌ لأنه موجودٌ مُتَأَصِّلٌ في الفطرة (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولا يحتاج من الإنسان إلا فقط أن يتذكّره بعقله! بقليلٍ من الفكر لا بالكثير! لكنْ بعدلٍ وإنْصاف!
ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ (20) وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديل، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ (20)" أيْ إنّما يَتَذكّر أولوا الألباب الذين مِن صفاتهم الحَسَنَة أنهم يلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا فيُنَفّذونها تامَّة ولا يُخْلِفونها، مع الله ومع رسله الكرام إليهم وآخرهم محمد (ص) بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. ".. وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ (20)" أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره أنهم يُوفون بعهد الله بالتأكيد دائماً ولا يخلفون أبداً الميثاق وهو العهد المُوَثّق بالقَسَم بالله لتقويته وتأكيده كما أنه أَعَمّ من العهد فهو يشمل الوَعْد مع الله تعالي ورسوله (ص) ومع كلّ مَن تَمَّ وَعْده بوَعْدٍ مَا فلا إخلاف مُطلقاً لأيٍّ منها.. هذا، ومن المعاني الأصيلة لكلمة الميثاق أنه هو الوَعْد الذي بين الإنسان والله تعالي حينما شَهِدَ ألاّ إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله واتّبَعَ الإسلام بناء علي ذلك، فإذا استمرّ علي إسلامه طوال حياته حتي موته ولم يكفر فهو بالتالي إذَن لم يَنْقض الميثاق مع الله والذي نَطَقه بلسانه عند النطق بالشهادتين وكذلك لم يَنْقض الميثاق الأَوَّل الأَعْظَم الأَوْكَد المَأخوذ عليه في فطرته منه سبحانه حينما شَهِدَ أنه لا رَبَّ له إلا الله وأنه لا يَتّبِع غير دينه الإسلام كما جاء هذا في قوله تعالي في الآية (172) من سورة الأعراف "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا.." (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)
ومعني "وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21)" أيْ ومِن صِفاتهم الحَسَنَة كذلك أنهم يَتَوَاصَلُون مع ولا يَنْقَطِعون عن ولا يَتركون كل ما أوْصَيَ الله به وأرْشَدَ إليه أن يكون موصولاً غير مُنْقَطِعٍ لأنه يُحَقّق السعادة للنفس وللغير في الداريْن، سواء أكان هذا الذي أمر به أن يُوصَل هو بين الإنسان وخالقه تعالي بطاعته واتِّباع دينه الإسلام، أم كان بينه وبين أسرته وأقاربه وجيرانه وأصدقائه وزملائه وعموم الناس والخَلْق والكوْن كله بحُسن معاملتهم بأخلاق الإسلام المُسْعِدَة.. ".. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.." أيْ ويَخافون ربهم أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، بالغَيْب أيْ في سِرِّهم حيث لا يراهم أحدٌ إلا هو تعالي – فإن الخَشْيَة في تلك الحالة تدلّ على صِدْق الطاعة لله بحيث لا يرجو مدح أحدٍ ولا يَخاف عقاب أحد – وهم كذلك يخافون مقامه سبحانه دون أن يروه بل هم يُصَدِّقون بوجوده وهو غائب عنهم وبكل ما جاءهم منه من تشريعات من خلال كتبه ورسله.. والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله.. ولذلك فمِثْل هؤلاء يحيون حياتهم مُتَوَازِنين بين الخوف من الله والرجاء التامّ في رحمته (برجاء مراجعة الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل) ويَفعلون كلَّ خيرٍ ويَتركون كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامهم (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) ويُخْلِصون ويُحْسِنون في كلّ أقوالهم وأفعالهم ( برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل عن الإخلاص والإحسان)، وبذلك فهُم في تمام السعادة في دنياهم ثم لهم في أخراهم حتما ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد.. ".. وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21)" أيْ ويَخافون الحساب السَّيِّء يوم القيامة وهو الذى لا رحمة معه ولا تَسَاهُل فيه ولا غفران لأيِّ ذنبٍ من الذنوب بل حسابٌ تَفْصِيلِيٌّ عَسِيرٌ مُسِيءٌ في شكله ونتائجه وعقوباته عليها كلها، وذلك إذا أساءوا ولم يُحْسِنوا، فيَدْفعهم ذلك الخوف إلي أن يُحاسِبُوا أنفسهم قبل أن يُحَاسَبُوا فيَفعلوا الخير ويَتركوا الشرّ دائماً ليَتَجَنّبوا عذابَيّ الدنيا والآخرة
ومعني "وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ (22)" أيْ ومِن صِفاتهم الحَسَنَة كذلك أنهم دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإنْ أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ.." أيْ يَطلبون ويُريدون فقط وَجْه ربهم والوَجْه هو تعبيرٌ عن ذاته تعالي ووجوده والمقصود من ابتغاء وجهه أيْ طَلَبَاً لثوابه وعِلْمه وقُدْرته ورحمته ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن.. وفي هذا توجيهٌ وإرشادٌ وتنبيهٌ وتذكيرٌ للمسلمين ألاّ يقولوا قولاً ولا يفعلوا فِعْلاً أبداً إلاّ وهم مُخْلِصُون مُحْسِنون أيْ لا يُريدون سُمْعَة ولا مَدْحَاً ولا غيره (برجاء مراجعة معاني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل) بل يَطلبون فقط ودائما وباستمرارٍ وبرغبةٍ قويةٍ أكيدةٍ رضاً تامَّاً من الله في دنياهم أولا يَتَمَثّل في كل رعاية وأمن وعوْن وتوفيق وسَّداد وحب ورزق وقوّة ونصر وسعادة ثم في أخراهم حيث أعلي درجات الجنات فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ.." أيْ ووَاظَبُوا علي تأدية الصلوات الخمس المفروضة عليهم وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ.." أيْ وأنفقوا أيْ أعْطُوا مِمَّا رزقهم أيْ أعطاهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، ويشمل الإنفاق قطعا إعطاء الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال.. ".. سِرّاً وَعَلاَنِيَةً.." أيْ في الخَفاء والعَلَن حسْبَمَا يَحتاج الأمر في كل الأوقات وعلي كل الأحوال بكل إحسانٍ وإخلاصٍ لله تعالي (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (271) من سورة البقرة "إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ.." أيْ ويَدْفَعون بقوةٍ وبسرعةٍ وبهِمَّةٍ السَّيِّئة التي قد يفعلونها بفِعْل الحَسَنَة بعدها والإكثار منها، كما يقول تعالي في الآية (114) من سورة هود ".. إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.." (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، وكذلك يَدْفعون سَيِّئة مَن أساء إليهم بالإحسان إليه أو بالعفو عنه ويُراعُون ألاّ يُؤَدِّي إحسانهم وعَفْوهم إلي ضَرَرٍ كضياعِ حقوقٍ مَثلاُ أو ازدياد فاعل الشّرِّ في شَرِّه لهروبه من العقوبة أو نحو هذا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (34) من سورة فُصِّلَت "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنهم إذا كانوا يُحْسِنون مُعامَلَة المُسِيء هكذا، فمِن المُؤَكّد أنهم يُحسنون أكثر وأكثر معاملة الآخرين مِمَّن لم يُسيئوا إليهم بل يُحسنون، فيَسعد الجميع في الداريْن بذلك الانتشار للحَسَنَة والانقراض للسَّيِّئة.. ".. أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ (22)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بهذه الصفات الطّيِّبَة الحَسَنة السابق ذِكْرها لهم حتماً عاقبة الدار أيْ نتيجة أعمال هذه الدار الدنيا أي حُسن النتيجة فيها ثم في الدار الآخرة، حيث كل خيرٍ وسعادةٍ فيهما
ومعني "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ (23)"، "سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ (24)" أيْ هذه العُقْبَيَ أيْ العاقِبَة الطيِّبة الحَسَنَة التي ستكون لهم في الآخرة هي جنات عدنٍ أيْ جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ ولا يَطلب مَن بها بديلا عنها مِن كمالها وتمام نعيمها حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر ولن يَخرج منها أبداً ولن يُخرجه أحدٌ ويكونون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم، يُدْخِلهم خالقهم الكريم الودود الغفور الرحيم إيَّاها، ومعهم لتمام سعادتهم واستقرارهم الصالحون الذين صلحت أعمالهم من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، حتي وإنْ لم يَصِلُوا إلي مِثْل درجتهم في فضلهم، تكريماً وإسعاداً لهم من كرمه وإحسانه سبحانه عليهم كما وَعَدَ بقوله "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.." (الطور:21) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، والملائكة تدخل عليهم من كل بابٍ من أبواب منازلهم وقصورهم فيها وتحضر إليهم من كل ناحيةٍ لتَحِيَّتهم بالسلام ولتهنئتهم بدخولها ولخدمتهم بما يُريدون ويَتَمَنّون ولمزيدٍ من تكريمهم وإسعادهم، قائلة لهم ما يزيدهم أمْنَاً وسَلامَاً واسْتِبْشارَاً وسعادة "سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ (24)" أيْ أمانٌ وسرورٌ تامّ دائمٌ لكم بسبب صبركم.. وبهذا يَحدث لهم تمام السلام أي الأمان والاطمئنان والسكون والاستقرار والنعيم السَّالِم أي الخالِص من أيِّ تكدير التامّ الخالد المُسْعِد.. ".. فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ (24)" أيْ فنِعْمَ عاقِبَة الدنيا الجنة.. أيْ فما أعظم وأفضل وأطيب وأجمل عاقِبَة أيْ نتيجة ونهاية الدار التي كنتم فيها وهي دار الدنيا حيث عملتم فيها بالخير الذي أَوْصَلَكم إلي هذا النعيم الخالِد الذي لا يُوصَف بالجنة بالدار الآخرة والذي أنتم فيه الآن، فنِعْمَ العاقبة أيْ النهاية المَحْمُودَة هذه لكم في الجنة في الدار الآخرة
ومعني "وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين يَخلفون عهد الله من بعد ميثاقه أيْ توثيقه أيْ تأكيده، أيْ لا يُوفون ولا يَلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهم لا عهد ولا وعد ولا أمان ولا أمانة لهم.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. ".. وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ.." أيْ ويَنْقَطِعُون عن ولا يَتَوَاصَلُون مع ويَتركون كل ما أوْصَيَ الله به وأرْشَدَ إليه أن يكون موصولاً غير مُنْقَطِعٍ لأنه يُحَقّق السعادة للنفس وللغير في الداريْن، سواء أكان هذا الذي أمر به أن يُوصَل هو بين الإنسان وخالقه تعالي بطاعته واتِّباع دينه الإسلام، أم كان بينه وبين أسرته وأقاربه وجيرانه وأصدقائه وزملائه وعموم الناس والخَلْق والكوْن كله بحُسن معاملتهم بأخلاق الإسلام المُسْعِدَة.. ".. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.." أيْ وفي كل مكانٍ يَتَوَاجَدون فيه يَفعلون ويَنشرون كلّ أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات سواء أكانت كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. ".. أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)" أيْ هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة السابقة لهم اللعنة أيْ الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالي وحبه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا فتَرَاهم في كل قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة تراهم في كل ألم وكآبةٍ وتعاسة ثم يوم القيامة تزداد اللعنة عليهم وينالون عقابهم النهائيّ الكامل المُناسب لشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في نار جهنم ويكون لهم حينها الدار السَّيِّئة التي ليس فيها إلا كلّ ما هو سَيِّء يَحدث من أسوأ دارٍ يُمكن السَّكَن فيها وهي النار بكلّ أنواع عذابها المُؤلِم المُهين الذي لا يُوصَف
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المتوكّلين علي الله حقّ التوكّل – مع إحسان اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة – أي المُعْتَمِدين عليه تمام الاعتماد، أي مِمَّن يجعلونه وكيلا لهم مُدافِعا عنهم، حيث سيُيَسِّر لهم كل أسباب النصر والعِزَّة والأمان والنجاح والتفوُّق والسعادة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)، فأنت بذلك ستَضمن كل خيرٍ وسعادة، ستضمن كل أنواع الرزق، ستحيا في أمانٍ واستقرار دون أيّ قلقٍ أو توتّر أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين علي الأرزاق، فقد تَكَفّل الخالق الرزّاق الوهّاب الكريم للجميع بأرزاقهم.. وإذا كنتَ من الذين يُحسنون طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكلّ أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)" أيْ هل جَهلَ بعض الناس وكانوا كالجَهَلَة والغافلين والتائهين فلم يَبحثوا ويَتفكّروا ويَتَدَبَّروا بعقولهم فيعلموا ويتأكّدوا ويَثِقوا تماما أنه كما أنَّ الله تعالي هو وحده الخالِق للكوْن، فهو أيضا وحده الرزَّاق الذي يُيَسِّر كل أسباب الرزق وأصوله ومُقَوِّماته وموادّه وموارده لخَلْقه، مِن روحٍ في المخلوقات ذوات الأرواح ومن قوةٍ وماء وهواء وطاقة ومعادن وخامات وحركة ونموّ خلايا وفكرٍ وعملٍ ونحو ذلك، ولو مَنَعَ شيئا مِن هذا لاَمْتَنَعَت الأرزاق! إنه يُعِين بكل العَوْن مَن يستعين به، ويُيَسِّر له الأسباب، إمّا مباشرة وإما بتيسير خَلْقٍ مِن خَلْقه يُعينوه علي ما يريد تحقيقه.. فلماذا إذن يُشركون معه في العبادة آلهة غيره كصنمٍ أو حجر أو نجم أو نحوه مما لا ينفعهم بأيّ شيءٍ ولا يمنع عنهم أيّ ضررٍ كما يرون واقعيا أمامهم حيث هم أقوي منها؟! فهل يُعْقَل أن يكون المعبود أضعف من العابِد؟! إنه تعالي يبسط الرزق أي يُوَسِّعه ويكثره لِمَن يشاء، ويَقْدِر أي يُضَيِّق ويُقَلّل لمَن يشاء، فليس الأمر إذن مُرتبط بالكفر والإيمان والحب والكُرْه! بحيث الذي يُوَسَّع عليه يَتَوَهَّم أنه مُقَرَّب مِن الله مَحْبوب لديه، حتي ولو كان مُشركا أو كافرا! كما أنَّ الذي يُضَيَّق عليه لا يَتَوَهَّم أنه بعيد عن ربه مَكْروه منه! فلْيَطمَئِنّ إذن المؤمنون بربهم المتمسّكون بإسلامهم إذا حَدَثَ وقلّت أرزاقهم أحيانا بعض الأوقات.. فالأمر مُتَعَلّق بأنه سبحانه يريد أن يُصلح خَلْقه ويُكملهم ويُسعدهم، فهو يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن مخلوقاته، ويعلم مَن يُصلحه ويُكمله ويُسعده بَسْط الرزق ومَن يَستحِقه بأنْ أحْسَنَ اتّخاذ أسبابه ومَن سيُحْسِن استخدامه فيُسْعِد ذاته ومَن حوله في الداريْن ونحو هذا، ويعلم أيضا قطعا مَن سيُفْسِده وينقصه ويُتعسه بَسْط الرزق وهو لا يَسْتَحِقّه لأنه لم يُحْسِن اتّخاذ أسبابه ولن يُحْسِنَ استخدامه فسيُتْعِس ذاته وغيره فيهما فيُضَيِّق عليه بعض الوقت أو في بعض الأرزاق وليس كلها لكي يَستفيق ويُصْلِح حاله.. ثم هو تعالي إن ضَيَّقَ في رزقٍ ما فإنه يكون لفترةٍ ما، ويكون للاختبار أو كنتيجةٍ لخطأٍ ما في اتّخاذ الأسباب مثلا، ويكون للاستفادة بخبراتٍ مِن ذلك (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ثم هو سبحانه في ذات الوقت يكون مُوسِعا في أرزاقٍ أخري كثيرة، وهكذا.. ".. وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا.." أيْ وفَرِحَ أيْ سَعِدَ الكافرون والمشركون ومَن يَتَشَبَّه بهم مِن المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين بالحياة الدنيا فَرَحَاً شديداً أدَّيَ بهم إلي أن قَبِلُوا بها وقدَّموها وفضَّلوها واعتقدوا واهِمين مُنْخَدِعِين أنها هي مُنْتَهاهم كأنهم مُخَلّدُون فيها وليس بعدها حياة أخري فاطمأنوا بها اطمئنانا واستقراراً جعلهم لا يَرَوْن حياة غيرها بعدها يَعملون لها واختاروا مُتَعَها الزائلة فقط بَدَلَ الآخرة ودون ارتباطٍ بها وهي الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ.. لقد سُرُّوا سُرورَاً كبيراً بأرزاقهم في دنياهم أدَّيَ بهم إلي الكِبْر أيْ التّعالِي علي الناس والتفاخُر عليهم واحتقارهم وعدم الاعتراف بحقوقهم وظلمهم وإيذائهم بالقول والفعل وما شابه هذا من شرور ومَفاسِد وأضرار.. هذا، والله تعالي يحب بكل تأكيد الذين يفرحون ويسعدون تمام السعادة بتواصلهم مع ربهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم الأمر الذي يساعدهم حتماً علي تمام السعادة في الدنيا والآخرة، فالمؤمنون بربهم المتمسّكون العامِلون بكل أخلاق إسلامهم ففرحهم وسرورهم بالدنيا يكون عبارة عن شكر ربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وحُسن استخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ لذواتهم ولِمَن حولهم بحيث يُجَهِّزون لأعلي درجات الجنة حتي يزيدهم سبحانه من كل خيرٍ في الداريْن وهو الذي وَعَدَ بذلك ووَعْده الصدق بقوله ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7) (برجاء أيضا مراجعة الآية (58) من سورة يونس "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)"، ثم مراجعة كيف يُحْسِن المسلم طَلَبَ الدنيا والآخرة معاً في الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنه لا مُقَارَنَة قطعاً بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة الخالد حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. أيْ وفرح أمثال هؤلاء بالحياة الدنيا والحال والواقع أنَّ ما هذه الحياة الدنيا التي فرحوا بها بالنسبة للآخرة إلا متاع قليل يُتَمَتّع به قليلا وسُرعان ما يزول فكيف إذَن يُفَضِّلون القليل على الكثير والفانِي على الباقي فأين عقولهم؟! إنهم سيتركونه حتماً بموتهم وانتهاء آجالهم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما هم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا يستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شرورهم هم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شرورهم إضافة إلي ضيقهم عند تَذَكّرهم الموت والذي لا يدْرون ما سوف يَحدث لهم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)" أيْ ويقول الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نَظَرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، لو أُنْزِلَ علي محمد آية من ربه أيْ دلالة ومُعْجِزَة تدلّ علي صِدْقه تكون مَرْئيَّة مَحْسُوسَة كما حَدَثَ مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من أدِلَّة، لكُنَّا آمَنَّا علي الفور!! إنهم مِن شِدّة إصرارهم علي ما هم فيه تمام الإصرار، كلما جاءتهم آية قاطِعة دامِغة طلبوا غيرها ثم غيرها وهكذا، ويَدَّعون كذبا أنه لو جاءهم بهذه الآية الأخيرة التي يطلبونها فسيؤمنون مباشرة!!.. إنه تعالي قادرٌ قطعا علي كل آية ولكنه لن يُنزلها لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائل الله ومعجزاته كثيرة لا تُحْصَيَ حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه! ثم القرآن ذاته هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة ، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ مُتَكَامِلٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!!.. إنهم إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتما بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وقتية لا دائمة وأقل منها مهما عظمت! فالآيات عنده سبحانه وليس عند أيّ أحدٍ ولا حتي الرسل، وهو قادر قطعا علي إنزالها في أي وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه تعالي الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها.. إنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)" أي قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم إنَّ الله يُضِلّ مَن يشاء أمثالكم الذين لن تنفعهم أيُّ آيةٍ لأنهم هم أصلاً لم يشاءوا الهداية لله وللإسلام، بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، وبالتالي إذَن لا يشاؤها الله لهم أيْ يتركهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أضلهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم.. بينما مَن أناب، أيْ رَجَعَ إليه، بأنْ يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، حتي ولو مع أقلّ آية، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذَن، ويهديه إليه سبحانه، إلي طريقه، إلي الإسلام، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسباب هذه الهداية، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله واستجاب لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)"، "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)" أيْ وهؤلاء الذين أنابوا أيْ الذين يَرجعون إلى الله، هم الذين آمنوا أيْ الذين صَدَّقوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، وهم الذين تَسْكُن وتَهْدَأ عقولهم ومَشاعرهم عند ذِكْر الله تعالى بالقرآن وغيره من كل ذِكْرٍ (برجاء مراجعة الآية (41) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الذِكْر وصوره وفوائده وسعاداته في الدنيا والآخرة)، فإنه بسبب ذكر الله وحده لا غيره تطمئن حتماً العقول والمشاعر تمام الاطمئنان والارتياح والاستقرار حيث ستَجد دائما المَرْجِع الصحيح المُسْعِد في كل مواقف ولحظات حياتها، فستجد البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياها وأخراها.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. إنَّ في الآية الكريمة بياناً لعلامة المؤمنين وحالهم الحَسَن السعيد وتشجيعاً علي الإيمان والثبات والاستمرار عليه والإكثار من الذكر لسعادات ذلك التامّة في الداريْن.. هذا، ولا تَعارُض قطعاً بين قوله تعالى هنا ".. أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب" وبين قوله فى الآية (2) من سورة الأنفال "إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.." (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) لأنَّ وَجَلَهم أيْ خوفهم إنما هو عند ذِكْر عقابه إذا فعلوا شَرَّاً مَا وطمأنينتهم عند ذِكْرهم ثوابه لفِعْلهم خيراً مَا ورحمته ومغفرته لذنوبهم إذا تابوا منها، وكذلك فإنَّ خوفهم يكون من هَيْبته وخشيته سبحانه لعظمته وهذا لا يُنافِى تمام الاطمئنان والحب له والاعتماد عليه والرجاء والانتظار لكل خيرٍ وسعادةٍ منه في الداريْن.. "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)" أيْ هذا بيانٌ لجزاءٍ آخرٍ عظيمٍ لا يُوصَف للمؤمنين إضافة لجزاء الاطمئنان الذي يَخْتَصُّون به دائما.. أيْ وإنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم حتماً طوبَيَ أيْ حالة وحياة طيِّبَة مُريحَة مُطمئنّة سعيدة تمام السعادة، في دنياهم، وحُسْنُ مآبٍ أيْ ومَرْجِع حَسَن في أخراهم وهو جنة الله ورضوانه حيث طوبي اسم من أسماء الجنة إذ سيكون لهم فيها حتما حياة أعظم طِيِبَة وراحة وطمأنينة وسعادة وأتَمّ وأخْلَد فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)" أيْ كما بعثنا رُسُلاً كراماً من قبلك يا رسولنا الكريم محمد إلي أممهم لهدايتهم لله وللإسلام ليسعدوا في الداريْن، كذلك بعثناك في مجموعة من الناس، قد مَضَت وذَهبت وانتهت من قبلها سابقا لها أمم المرسلين السابقين، وذلك لكي تتلوا أيْ تقرأ عليهم وعلي الناس جميعا الذي أوحينا إليك في القرآن العظيم الذي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقه في كل شئون حياتهم، وبالتالي فما كنتَ أنت أوّل رسولٍ من الرسل أرسلناه إلى الناس وإنما سَبَقك كثيرون هم يعرفون من أخبارهم وأقوامهم، كنوح وإبراهيم وموسي وغيرهم، فليس الأمر إذَن ابْتِدَاعَاً أيْ اخْتراعَاً لا مِثال سابِق له! ومادام كذلك فكيف يُكَذّبون ويَرْفضون أنك أنت أيضا رسول مثلهم ويُشَكِّكون في دعوتك لعبادة الله وحده واتِّباع دينه الإسلام وكلهم قد جاءوا بمِثْل ما جِئتهم به؟!.. لقد أنزلَ الله إليك أيها الرسول الكريم هذا القرآن العظيم كما أنزلَ الكتب والصحف علي كل الرسل الكرام من قبلك وفيها نصائحه ووصاياه وتشريعاته التي تُصْلِح كل البشر بما يُناسِب كلّ عصر وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بكل أخلاقها، فالله تعالي هذه دائما طريقته وعادته فهو من عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة، وهو كما أوْحَيَ إليهم كتبه منذ آدم ولم يتركهم، كذلك لم يتركك والبشرية حتي يوم القيامة فأوْحَيَ إليك هذا القرآن الكريم وحَفظه حتي نهاية الدنيا، وكما نَصَر سابقا المؤمنين المتمسّكين العاملين بكل أخلاق إسلامهم علي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين فسيَنصركم حتما أيها المسلمون، فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا واسْعَدوا، لأنّ الذي أوْحَيَ إليكم هذا القرآن والذي يدعوكم لخير وسعادة الإسلام والذي يعدكم بهذا النصر ثم أعلي درجات الجنات هو الله تعالي القادر علي كل شيء.. إنه بناء علي كل ذلك عليكم أن تُحسنوا دعوة الآخرين وتصبروا علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) فهم يعلمون الإسلام من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وهاهو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فلماذا إذن يكذبونك يا رسولنا الكريم ويكذبونكم أيها المسلمون وأنتم لم تأتوهم بشيءٍ غريب عنهم لم يسمعوا عنه ولم يعرفوه؟! ولكنّ سبب ذلك هو تعطيل مَن يُكَذّب لعقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ.." أيْ أرسلناك لِتَتْلُوَ عليهم القرآن ليهتدوا ويسعدوا في الداريْن ولكن حالهم وواقعهم أنهم يُكَذّبون بوجود الرحمن أيْ بالله العظيم الرحمة ويَعبدون غيره ويُنْكِرون نِعَمه التي لا تُحْصَيَ وأعظمها ما أرسله رحمة للناس وهو أنت والقرآن الكريم فلم يُقابِلُوا نِعَمه ورحماته وإحساناته بالشكر وبالقبول بدينه الإسلام بالعمل به بل قابَلُوها بالتكذيب والرفض وبالعمل بما يُخَالِفه، أفلا يَعْتَبِرون بمَن خَلاَ مِن قبلهم من الأمم المُكَذّبة كيف عُذّبوا وأُتْعِسُوا في دنياهم بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم ثم لهم في أخراهم ما هو أشدّ وأتْعَس؟!.. ".. قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم الله الرحمن الذي تكفرون به هو وحده ربي أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي، وهو لا إله إلا هو أيْ لا معبود يستحِقّ العبادة أي الطاعة إلاّ هو وحده بلا أيّ شريكٍ له، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ.." أيْ وهو وحده لا غيره الذى عليه أتوكّل أيْ أعْتَمِد ويَعْتَمِد كلُّ الذين يريدون الاعتماد حيث بكلّ تأكيدٍ سيَكْفِيهم في كلّ لحظات حياتهم ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه حيث سيكون سبحانه خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيءٍ الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم وكافِيهم، أي الحافِظ لهم المُدافع عنهم المُتَكَفّل بهم، إمّا مباشرة وإمّا بتسخيرِ وتيسيرِ مَن يَفعل لهم ذلك مِن خَلْقه، فهل يحتاجون كافيا آخر بعد هذا؟!! فليكونوا إذَن دائما مِن المتوكّلين أي المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة (برجاء مراجعة الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل عن التوكل)، وليَطمئنوا اطمئنانا كاملا وليَستبشروا وليَنتظروا دوْماً كلّ خيرٍ ونصرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم أخراهم.. ".. وَإِلَيْهِ مَتَابِ (28)" أيْ وإليه وحده لا إلي غيره مَتَابي أيْ تَوْبَتي، ومَرْجِعي، فكل مَن يتوب إليه يقبل توبته ويرحمه ويسعده في الداريْن فالمُخْطِيء يتوب إليه من أخطائه عائداً له ولإسلامه أوّلا بأوّل عند أيّ خطأٍ ليُزيل سريعا أيّ تعكيرٍ لسعادته بتعاسة هذا الخطأ، وإليه مَتَابي بمعني أيضا مَرْجِعي أيْ أرْجِع له في كل أمورى أيْ أتّخِذه تعالي ودينه الإسلام وحده دَوْمَاً مَرْجِعَاً لي في كل مواقف ولحظات حياتي لأسعد بذلك، ثم في الآخرة يوم القيامة أرْجِع وأنتم والناس جميعا إليه لا إلي غيره حين يبعثنا بأجسادنا وأرواحنا من قبورنا، وهو أعلم بنا تمام العلم، ليكون هو الحاكم بيننا بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلنا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ القرآن العظيم هو أعظم مُعْجِزَة إذ جاء بقواعد لأنظمةٍ وتشريعاتٍ تُدير كل الناس في كل العصور وكل الأماكن وتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم إلي يوم القيامة ، فهل هناك من نظامٍ دقيقٍ مُتَكَامِلٍ يُلائم كل هذه المُتَغَيِّرات مثله؟!!.. إنَّ المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين إنْ لم يؤمنوا بهذه المعجزة العظيمة فلن يؤمنوا حتما بأيّ معجزة أخري والتي ستكون بالقطع وقتية لا دائمة وأقل منها مهما عظمت حيث هم يريدون مُعْجِزَة تدلّ علي صِدْق الرسول الكريم محمد (ص) تكون مَرْئيَّة مَحْسُوسَة كما حَدَثَ مع الرسل السابقين كعصي موسي مثلا التي تنقلب ثعبانا حقيقيا عند إلقائها أو إحياء الموتي لعيسي وما شابه هذا من أدِلَّة! إنهم مهما جاءهم من مُعْجِزات حِسِّيَّة لا يؤمنون لأنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لأمثال هؤلاء ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ ولو ثَبَتَ أنَّ كتاباً يُقْرَأ فتتحرَّك به الجبال من أماكنها أو تتشقّق به الأرض فتصير قِطَعاً أو يُحْياَ به الموتي فيُمْكِن تكليمهم، كما يَطلب المُكَذّبون من الرسول (ص) مثل هذه الطلبات وأشباهها، لكَانَ هذا القرآن وحده لا غيره هو الذي يُمْكِنه ذلك لكوْنه الغاية في الإعجاز والتذكير والإنذار والقُدْرَة علي التغيير، ولَمَا آمنوا به مع هذا!! (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (111) من سورة الأنعام "وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. إنَّ مهمة القرآن الكريم ليست أبداً تسيير جبالٍ أو شَقّ أرضٍ أو إحياء موتي أو ما شابه هذا من خَوارِق للعادة ومُعْجِزات!! فهذه الأمور كلها بيد الخالق القادر علي كل شيءٍ والذي يقول لأيِّ شيءٍ كن فيكون كما يريد، ولو كان هذا من قوانين الحياة الدنيا كما خَلَقها خالِقها سبحانه أن يكون كتابٌ مَا أيْ مكتوبٌ أو قرآنٌ أيْ مَقْروءٌ قادراً علي فِعْل مِثْل هذه المُعجزات لكان أوْلَيَ بذلك كتاب الله تعالي القرآن العظيم لأنه أعظمُ قرآنٍ يُقْرَأ وأقوي مَا يُمكن أن يُغَيِّر، لكنَّ مهمّة القرآن ليست هذا وإعجازه ليس في ذلك، وإنما فيما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتَكَامِلَة تُحَرِّك الإنسان وتُوَجِّهه وتَضْبطه علي ما هو في فطرته من كل خيرٍ وتُبْعِده عن كل شرٍّ وتعاسةٍ فيَسعد الجميع بذلك في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي قيام الساعة.. إنه بهذا التَّحَرُّك يمكنه أنْ يُحَرِّك الأرض كلها وليس تَسْيير الجبال فقط حيث سيُحَرِّكها نحو الخير والسعادة ويُحْيِي الأموات بها وهم البعيدين عن ربهم وإسلامهم بأنْ يعيدهم للحياة الحقيقية السعيدة تمام السعادة مع الله والإسلام (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (24) من سورة الأنفال ".. اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.."، ثم الآية (21) من سورة الحشر "لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا.." أيْ ليس القرآن ولا غيره ولا أيِّ رسول ولا أيِّ أحدٍ بفاعلٍ شيئاً مِمَّا سَبَقَ بل لله وحده الأمر كله في المُعجزات وغيرها فهو تعالي القادر علي كل شيءٍ والقادر قطعاً علي أن يُنَزّل كلّ آية في أيِّ وقتٍ شاء أو لا يُنزلها حسبما يراه من حِكمته وتدبيره للأمور بما يُصلِح خَلْقه، وليس لأيّ أحدٍ أن يقترح عليه الإتيان بها أو تعديلها أو تبديلها أو منعها، فليس لهم أو لغيرهم من الأمر شيء كما أنه ليس القرآن هو الذي ينزلها، ولكنه لن يُنزلها سبحانه لأنه يعلم أنَّ إصرارهم هو من عقولهم وليس مِن قِلّة الآيات حيث دلائله ومعجزاته كثيرة لا تُحْصَيَ حولهم في كل مخلوقاته في كل كوْنه!.. ".. أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي أنَّ لله الأمر جميعا.. أيْ هل لم ييأس أي ينقطع أمل الذين آمنوا من إيمان بعض الكافرين ويعلموا أن لو يشاء الله لآمن الناس جميعا؟! بمعني ألم يعلموا أنهم لم يهتدوا لأنَّ الله لم يَشَأ هدايتهم لأنهم هم أولا لم يشاؤوا الهداية؟! حيث كان المؤمنون يَتمنّون إيمان الجميع ليسعدوا في الداريْن مِثْلهم.. والمقصود إرشاد المسلمين أنَّ عليهم أنْ يحسنوا دعوة جميع الناس لله وللإسلام بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لكنهم في ذات الوقت عليهم أن يَعلموا ويُدْرِكوا ويتأكّدوا تمام التأكّد مِمَّا هم يعلمونه جيدا من دينهم الإسلام ويستسلموا له أنَّ عليهم الأسباب بحسن الدعوة قَدْر استطاعتهم لكن النتائج تختلف باختلاف الأفراد وبتيسير الله لأسباب الهداية لمَن يُريدها حقّاً بعقله، وذلك حتي يطمئنوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو المَدْعُوين ولا يَحرصوا حِرْصَاً زائداً علي هدايتهم، إذ لو شاء الله لهَدَيَ الناس جميعا، ولكنه شاء حين خَلَقَهم أن تكون لهم حرية الاختيار (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، ثم الآية (56) من سورة القصص "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)" أيْ وسيَظَلّ الذين كفروا ومَن يَتَشَبَّه بهم تنزل بهم قارعة أيْ مصيبة تَقْرَعهم أيْ تَضربهم بشدَّة بسبب ما صَنَعوا أيْ فَعَلوا من شرور ومَفاسد وأضرار، أو تنزل تلك المصيبة قريباً من دارهم، فتُخيفهم بتهديدهم بإصابتهم أو تُصيبهم بصورةٍ غير مباشرة، وتَتَمَثّل هذه القارعة في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، وسيستمرّون علي هذا الحال الدنيويّ السَّيِّء المُخيف التعيس طالما أنهم مُصِرُّون علي كفرهم بلا توبةٍ أيْ عوْدَةٍ لله وللإسلام – إلاَّ أنْ يستفيقوا بهذه القَوارِع التي ما جعلها الله إلا رحمة بهم لكي يعودوا له ولدينه وللخير وللسعادة بعدما اسْتُنْفِدَت معهم كل الوسائل الدعوية الأخري ولفتراتٍ طويلة – حتى أيْ إلي أنْ يأتي وَعْد الله، وهذا الوعد إمّا موتهم علي سُوئهم فيبدأ حسابهم المَبْدَئِيّ في قبورهم قبل الخِتامِيّ الذي لا يُوصَف في آخرتهم، وإمّا عذابهم بعذابٍ مُهْلِكٍ يستأصلهم كوَباءٍ مَرَضِيّ أو زلازل أو عواصف أو براكين أو فيضانات أو نحو ذلك مما يُرَيَ واقعياً في أحيان كثيرة، وإمّا بقيام الساعة ودخلوهم النار حينها، إضافة حتماً إلي تَحَقُّق وَعْد الله الذي يَكرهونه ويُذِلّهم ويُتعسهم بانتشار دعوة الإسلام بحيث يَنْزَوِي ويَنْقَرِض ويَتَلاَشَيَ تدريجيا الكفر والشرك والنفاق والظلم والفساد ونحوه أو حتي بقتالهم إذا اعتدوا وانتصار المسلمين عليهم حينما يُحْسِنون اتّخاذ أسباب النصر.. ".. إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)" أيْ إنَّ كلّ كريمٍ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وعده فما بالنا بأكرم الأكرمين وأعظمهم الخالق الذي لا يُقارَن بخَلْقه! إنه تعالي لا يُمكِن أن يُخْلِف وعْده مُطلقا، ولماذا يُخْلِف؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو البخيل أو نحو هذا، تعالي الله عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا، فهو مالِك كل شيء وقادر تماما عليه.. فليَستَبْشِر إذن الذين آمنوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي إيمانهم لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم، ولْيَسْتَفِق غيرهم وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ولقد سَخِرَ الكفار كثيراً – ومَن يَتَشَبَّه بهم – برسلٍ كرامٍ مِن قبلك سابقين لك يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم يدعو إلي الله والإسلام مِن بعده، فتَرَكْتُ للذين كفروا فتراتٍ طويلة كافية، دون إهمالٍ حتماً، بأنْ أَطَلْتُ في أعمارهم وهَيَّأتُ لهم أسباب نعيمهم في حياتهم الدنيا ولم أُسارِع بعقوبتهم بما يستحِقّونه علي فِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، رحمة بهم وشفقة عليهم، فإنْ عادوا كان هذا الإملاء خيراً ورحمة لهم من ربهم الغفور الحليم الذي يحلم ويصبر عليهم طويلا بلا تعجيلٍ بالعقوبة لهم حيث سيَسعدون في الداريْن، وإنْ لم يستفيقوا فحتماً كل الشرّ والتعاسة لهم فيهما إذ كلّما تأخّروا يوما كلما اكتسبوا إثماً وبقَدْر ما تَطُول حياتهم تَكْثُر ذنوبهم وبالتالي عذابهم عليها.. ".. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)" أيْ ثم عَاقَبْتُهم لأنهم ظلّوا مُصِرِّين تمام الإصرار علي تكذيبهم وعِنادهم بلا أيِّ توبة، فانظر أيّها المسلم العاقِل وشاهِد وتَدَبَّر وتَذَكَّر آثار مساكنهم التي تشهد بهلاكهم وتَعَقّل كيف كان عقابهم الشديد الذي لا يُوصَف بصور العذاب المختلفة كالزلازل والصواعق والفيضانات وغيرها عِبْرة للخَلْق وعِظَة للحالِيِّين أمثالهم لكي يَتَّعِظوا ويستيقظوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم قبل فوات الأوان حيث لم تنفعهم حينها أيٌّ مِن قوّتهم التي كانوا يمتلكونها (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك والاستئصال التامّ من الحياة)، فإذا كان هذا قد حَدَثَ لهؤلاء الأقوياء فما بالُكُم بمَن هم أضعف منهم!! إنهم حتماً لن يَتحمّلوا عذابنا الدنيويّ والأخرويّ وسيهلكون بسببه تماما!! فليَحذروا ذلك إذن وليَستفيقوا.. هذا، والإمهال هو للمصلحة، لمصلحة الطرفين، مصلحة المسلمين أولا حيث يستفيدون خبراتٍ دعوية وجَلَدَاً وصَبْرَاً مُفيداً نافعاً لهم في حياتهم عموما، ويزدادون تمسُّكاً وعَمَلاً بإسلامهم حينما يقارنوا حالهم السعيد بحال غيرهم وما فيه من شقاءٍ وتعاسةٍ وقَلَقٍ وتَوَتُّرٍ واضطرابٍ وصراعٍ واقتتال، ونحو ذلك من الفوائد والسعادات الدنيوية والأخروية، ثم لمصلحة الكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وغيرهم، ورحمة بهم، لتكون لهم فرصة بعد أخري للعودة للخير وللحقّ وللسعادة، هم أو مِن ذُرِّيَّاتهم، وهذا يَحدث في الواقع كثيرا حيث يُسْلِم ويَسعد أبناء أشدّ الناس كفراً وشَرَّاً، وهذا أنْفع وأسْعَد حتماً لهم وللبشرية وللأرض كلها من أن يُعَذّبوا
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)
هذا، ومعني "أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ فهل مَن هو حافِظٌ مُراقِبٌ علي كل نفسٍ مُحْصٍ عليها ما تكسب أيْ تعمل من خيرٍ أو شَرٍّ يقوم علي خَلْقها ورعايتها – وعلي كل مخلوقاته غير البَشَر – وحِفظها ورزقها وتوفيقها وإرشادها لكل خيرٍ مُسْعِدٍ في الداريْن، وهو الله تعالي، كمَن ليس كذلك، وهو ما يُعْبَد غيره؟!.. والاستفهام للنفي، أيْ حتماً لا يستويان، لأنه يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال لأيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أن يُساوي بينهما، بين خالقٍ ومَخْلوق، فبالتالي إذَن هو سبحانه وحده بالقطع الأحقّ بالعبادة لا الآلهة المزعومة كالأصنام وغيرها والتي هي مخلوقة أصلا ولا يمكنها الدفاع عن ذاتها أو نفعها فكيف تنفع غيرها أو تمنع عنه أيَّ ضَرَر؟!.. ".. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ.." أيْ ورغم كل هذه الدلالات المُعْجِزات القاطِعات الدَّامِغات الحاسمات التي تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه، فحال وواقع المشركين – وهم الذين يُشركون مع الله في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره – أنهم قد جعلوا لله شركاء كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه يعبدونها، وفَعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار، والسبب في هذا هو تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ سَمُّوهُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء.. أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم، للمشركين الذين يعبدون غير الله تعالي، اسألهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم سَمُّوا هذه الآلهة التي تعبدونها أيْ اذكروا أسماءها وصفاتها وأوْصافها وقُدْراتها ونحو ذلك، ولن تَجِدوا فيها مُطلقاً مَا يجعلها أهْلَاً للعبادة!! إنها مجرّد أصنام سَمّيتموها أنتم وآباؤكم آلهة؟! وعبدتموها وغيرها من الآلهة غير الله تعالي والتي ما هي إلا عِبَارَة عن مجرّد فقط أسماء وليس فيها أيّ شيءٍ أصلا من صفات الألوهية ككمال القُدْرَة والعلم والرزق وخَلْق الخَلْق ونحو ذلك لكنكم أنتم وآباؤكم الذين سمَّيتموها آلهة من عند أنفسكم دون أن يكون معكم أيّ حجّة أو دليل أو برهان علي صِحَّة وصِدْق أقوالكم وأفعالكم.. سَمُّوهم شركاء إذَن إنْ شِئْتم، فإنَّ هذه التسمية لا وجود لها فى الحقيقة والواقع، ولا تُخْرِجها عن كوْنها لا تملك لأنفسها فضلا عن غيرها نَفْعَاً ولا ضَرَّاً لأنَّ الله تعالى واحد لا شريك له.. وفي هذا تهديدٌ لهم وإشارةٌ إلى عدم الاكتراث بهم وبآلهتهم المزعومة.. ".. أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ.." أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من الذّمّ واللّوْم الشديد والرفض التامّ والتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء.. أيْ وهل تُخْبِرون الله بشركاء لا يعلمهم في الأرض والتي هي أرضه وهو خالِقها ويعلم حتماً كل شيءٍ فيها وفي كل كوْنه حيث هو العالِم بكل شيءٍ؟! والمقصود بَعْدَ تَسْفِيههم نَفْي وجود أيِّ آلهةٍ غيره مُطلقاً لأنه إذا كان سبحانه لا يعلمها وهو الذي يعلم كل شيءٍ عن أيِّ شيءٍ ولا تَخْفَيَ عليه أيّ خافية فهي بالتالي إذَن لا وجود لها، هكذا بكلِّ مَنْطِقِيَّةٍ وعَقْلانِيَّة!.. إنه لو كان هناك كما يَدَّعُون كذباً وزُورَاً آلهة تُعْبَد غيره لكان هو أعلم بذلك حتماً من هؤلاء الكاذبين السفهاء المُغْلِقين لعقولهم!! فهل يعلمون هم ما لا يعلمه؟!! أَهُمْ أعْلَمُ أم الله؟!!.. هذا، وتخصيص الأرض بالذكر لأنَّ المشركين يَدَّعُون أنه سبحانه له شركاء فيها!!.. ".. أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ.." أيْ أم إنكم سَمَّيْتُم هذه المَعْبُودات المَزْعُومَة آلهة شركاء لله في العبادة بظاهرٍ من القول أيْ بالقول الذي ليس له أيّ حقيقةٍ فى الواقع؟! بالقول الباطل الكاذب الذي لا أصل له أبداً!.. ".. بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ.." أيْ والحقيقة الثابتة التي ليس فيها أيّ شكّ هي أنه لا إله إلا الله لكنْ حَسَّنَ بصورةٍ فيها خداع الشيطانُ للكفار قولهم الباطل وكفرهم وشِرْكهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وكَيْدهم ضِدَّ الإسلام والمسلمين، أيْ حَسَّنَ ذلك لهم تفكيرهم الشَّرِّيّ بداخل عقولهم – والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرِّدٍ علي الخير مُفْسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف ستَسعد في حياتك كثيرا إذا اتَّخذتَ الشيطان عدوا لك وكنتَ دائما مُنْتَبِهاً له حَذِراً شديد الحَذَر منه) – وصدَّهم عن السبيل أيْ عن سبيل الله أيْ عن طريق الله، أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وأخَذَهم لطريق الشرّ والتعاسة فيهما.. ".. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)" أيْ ومَن يختار بكامل حرية إرادة عقله الضلال أي الضياع أي الشرّ والفساد فلا يَمنعه الله ويشاء له هذه الضلالة أي يَتركه فيها دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُ مُصِرَّاً تمام الإصرار حريصاً تمام الحرص عليها دون أيّ بادِرَةٍ منه ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد:11)، بل مِن شِدّة غضبه عليه بسبب شدة إصراره يُيَسِّر له هذا الشرّ الذي هو فيه فكأنه هو تعالي الذي يُضِلّه لكنَّ الواقع أنَّ هذا الضالّ هو الذي اختار بكامل حرية إرادة عقله هذا الذي هو فيه، ومن كان كذلك فما له أيّ هادٍ يَهديه، أيْ كيف يَهْتَدِي بعد ذلك ومَن ذا الذي سيكون له هادِيَاً يستطيع هدايته وإرشاده وزَحْزَحته عن ضلاله؟! (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)
ومعني "لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)" أيْ لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم حتماً عذابٌ يناسب سُوئهم وبسببه، في الحياة الدنيا أولا، يَتَمَثّل في كلّ قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة في كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، إذ مَن يَزرع حُسْناً لابُدّ حتما أن يَحصد حُسْناً أيْ يحصد كل خيرٍ وسعادة ومَن يزرع سوءاً لابُدّ حتما أن يحصد سوءاً أيْ يحصد كل شرٍّ وتعاسة، فهذا هو القانون الإلهيّ العادِل للحياة الدنيا وللآخرة والذي نبَّهنا له ربنا تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7).. ".. وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ.." أيْ وإنَّ عذاب الآخرة حيث المُسْتَقَرّ الأخير الخالد في العذاب المُتَنَوِّع المُتَصَاعِد الذي لا يُوصَف هو بالقطع بلا أيِّ شكّ أشقّ أيْ أشدّ وأصْعَب من عذاب الحياة الدنيا الذي كانوا فيه لشِدَّتِه واسْتِمْرارِيَّته والتي لا تُقارَن قطعاً بأيِّ عذابٍ دنيويٍّ مهما بَلَغ، إذ سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)" أيْ وليس لهم من عذاب الله أيّ مانِعٍ يَقِيهم أيْ يَمنعهم ويَحْميهم حين يُعاقبهم به
ومعني "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ صِفَة الجنة التي وَعَدَ اللهُ المُتَّقِين في كتبه من خلال رسله، أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، ووَعْده لا يُخْلَف مُطْلَقَاً، وهي لا يُمكن وَصْفَها لأنَّ فيها ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر، ولكن يُوصَف لكم بعض ما فيها مِمَّا يُشبه أشياء ترونها في دنياكم لتتشوَّقوا ولتعملوا أكثر لنَيْل أعلي درجاتها، صِفَتها أنَّها جنات من بساتين وقصور فخمة تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العذب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة وأنها أكلها دائم أىْ كلّ ما يُؤْكَل فيها من طعامٍ شَهِيٍّ مُمْتِعٍ مُتَنَوِّعٍ لا انقطاع له، وكذلك ظِلّها – وهو الحاصِل من التفاف أشجارها وكثرة أوراقها وثمارها بمناظرها المُبْهِجَة – بنَسَائمه وروائحه الطيِّبَة العَطِرَة المُنْعِشَة المُمْتِعَة، هو دائم لا يزول ولا ينقص كما يَحْدُث مع ظلال الدنيا.. ".. تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)" أيْ هذه الجنة المَذكورة المَوْصُوفَة بهذه الصفات المُبْهِرَة الطيِّبة الحَسَنَة هي حتماً عقبي أيْ عاقبة أيْ نهاية ونتيجة حُسْن عَمَل المُتّقين في دنياهم، وفي المُقابِل نهاية ونتيجة سوء عمل الكافرين بالله في الدنيا هي حتما النار في الآخرة بعذابها الذي لا يُوصَف
وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36)" أيْ والذين أعطيناهم الكتاب قبل القرآن كالتوراة لليهود وهي التي أُوحِيَتْ إلي رسولهم الكريم موسي (ص) والإنجيل للنصاري وهو الذي أُوحِيَ لرسولهم الكريم عيسي (ص)، وآمَنوا بالقرآن وأسْلَموا مع المسلمين، يَسعدون بما أنزل إليك أي أوحيناه لك يا رسولنا الكريم محمد من القرآن العظيم لأنه يُؤَكّد ما في كتبهم ويزيده خيراً ويُطَمْئِنهم أنهم كانوا علي الخير والصواب ويفرحون كذلك لأنهم كانوا علي إسلامٍ يُناسب عصرهم فيُسعدهم ثم جاءهم القرآن بالإسلام التامّ المُسْعِد المُناسِب للمستقبل في كل العصور حتي يوم القيامة.. كذلك من المعاني أن الذين آتاهم الله الكتاب بمعني القرآن أنهم هم المسلمون وهم يفرحون به لأنَّه بذلك يكون معهم مَصْدَر وأصْل كلّ خيرٍ وأمنٍ وسعادةٍ حقيقية في كل شئون حياتهم ثم في آخرتهم.. ".. وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ.." أيْ ومِن الأمم والتَّجَمُّعات في أيِّ زمانٍ ومكانٍ مِمَّن تَحَزّبوا أيْ تَجَمَّعُوا علي الكفر والشرك والنفاق والتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء مُعادِين لله وللرسول وللإسلام وللمسلمين، مَن يُنْكِر بعضه أيْ يُكَذّب ويَرْفض بعض هذا القرآن ولا يُؤمِن أيْ يُصَدِّق به فيْسَلِم، لأنه يمنعهم مِن شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ولم يَذْكُر القرآن هذا البعض الذى ينكرونه إهمالاً لشأنهم ولأنَّ ذِكْره لا يُفيد.. إنهم يُنْكِرون بعضه لا كله لأنَّ فيهم مَن يعترف ببعض الأنبياء وفيهم مَن يعترف بأنَّ الله خالق السماوات والأرض ونحو ذلك، وهناك في كل زمانٍ ومكانٍ مَن يُنْكِر كله!.. ".. قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ.." أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، إنَّ الله مَا أمَرَنِي إلاّ أنْ أعبده أيْ أطيعه وحده ولا أشرك معه شيئاً آخر في عبادته، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء، فلا أطيع ولا تُطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، لأنَّ الله تعالي هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة وهو مُرَبِّيكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم من خلال شرعه الإسلام (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. هذا، ولفظ "أمِرْتُ" يُفيد مزيداً من التأكيد والاهتمام والحرص الشديد والإصرار التامّ علي التنفيذ لأنه أمرٌ لا تَهَاوُنَ فيه وإلا كانت التعاسة التامَّة في الداريْن.. فكلّ مسلم يقول ذلك ما استطاع لكلّ مَن حوله بكلّ قدوةٍ وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. إِلَيْهِ أَدْعُو.." أيْ وإلى عبادته وحده لا غيره وإلي دينه الإسلام لا غيره أدعو كل الناس أنا وكل مسلم معي ومِن بَعْدِي ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36)" أيْ وإليه وحده لا إلي غيره مَآبِي أيْ مَرْجِعي أيْ أرْجِع له في كل أمورى أيْ أتّخِذه تعالي ودينه الإسلام وحده دَوْمَاً مَرْجِعَاً لي في كل مواقف ولحظات حياتي لأسعد بذلك، ثم في الآخرة يوم القيامة أرْجِع وأنتم والناس جميعا إليه لا إلي غيره حين يبعثنا بأجسادنا وأرواحنا من قبورنا، وهو أعلم بنا تمام العلم، ليكون هو الحاكم بيننا بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلنا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة أعظم وأتمّ وأخلد بالقطع ممَّا عاشه من سعادة الدنيا التامّة والتي كان فيها بسبب إيمانه بربّه وتمسّكه بإسلامه، ويكون للمُسيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره وأضراره ومَفاسِده بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم إضافة إلي ما كان فيه من شرٍّ وتعاسةٍ في دنياه بسبب بُعْده عن ربه وإسلامه.. فأحْسِنوا إذَن أيها الناس الاستعداد ليوم لقائه بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)" أيْ وكما أنزلنا إلى الرسل الكرام قبلك نصائح تُصْلِح البَشَر وتُكملهم وتُسعدهم في الداريْن، كذلك أوحينا إليك هذا القرآن ليكون حُكْمَاً، أيْ ليُحْكَمَ به، أيْ لتُدَارَ به سياسات كل شئون الحياة لإسعادها، ثم لإسعاد بالتالي آخرة مَن يَحْكُم به في دنياه.. كذلك من معاني حُكْمَاً أيْ مُحْكَمَاً، أيْ أُحْكِمَت آياته أيْ نُظّمَت تنظيماً مُحْكَمَاً مُتْقَنَاً حَسَنَاً دقيقاً تماماً ليس فيها أيّ خَلَل أو تَنَاقُض في ألفاظها أو معانيها وكلها لها دلالاتها القاطِعَة الحاسِمَة وكلها مُتَنَاسِقَة ومُتَرَابِطَة ومُتَنَاغِمَة وتَحْمِل الحقّ وليس فيها أيّ اختلافٍ ولا يُمكن لأيِّ باطلٍ أو انحرافٍ أو اعوجاجٍ أن يَخترقها وكلها حِكَم مُجْمَلَة راقية هادية لمَن يتبعها لكل خيرٍ وعدلٍ وأمنٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه وقد بُيِّنَت هذه الآيات ووُضِّحَت وجُعِلَت مُفَصَّلَة أي مُحْتَوية علي تفصيلات كثيرة شاملة في الأخلاق والأنظمة والقوانين والتشريعات بحيث تشمل القواعد العامة لكل شئون الحياة المختلفة الاجتماعية والسياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والانتاجية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها بما يُصْلِح حال جميع البَشَر ويُكْمِلهم ويُسْعِدهم في الداريْن لو عَمِلوا بها كلها علي اختلاف بيئاتهم وأزمانهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم، ثم يُتْرَك للمُتَخَصِّصِين في كلّ عصرٍ ومكانٍ وَضْع تفاصيل حياتهم بما يُناسبهم ويُسعدهم وبما لا يَخرج عن هذه القواعد العامة والأصول كما يُفْهَم من قول الرسول (ص) "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (أخرجه مسلم).. وكلّ ذلك لأنه من عند الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ والتي منها أنه حكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ ويَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث بما يُحَقّق مصلحة خَلْقه وسعاداتهم، وخبير بكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم عليم بكلّ شيءٍ عن أحوالهم لأنهم خَلْقه وصَنْعَته وذلك بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه وبكل خبرةٍ ليس بعدها أيّ خبرةٍ أكثر منها، وبالتالي فلا يكون كتابه ولا إحكامه ولا تفصيله إلا المَثَل الأعلى في كل ذلك، فليجتهدوا بالتالي إذَن في العمل بكل أخلاقه ليَصلحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تماما في الداريْن.. ".. عَرَبِيًّا.." أيْ وأنزلناه عربياً أيْ باللغة العربية، لأنها أقوي لغة، إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني، وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر، ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة.. ".. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)" أيْ وإذا سِرْتَ خَلْفَ وأَطَعْتَ يا أيها المسلم شرور ومَفاسد وأضرار المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين الظالمين الفاسدين ومَن يَتَشَبَّه بعد مَا وَصَلَك من العلم وهو الإسلام بما فيه من أخلاقِيَّات وتشريعات وأنظمة فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك بكلّ تأكيدٍ أنه لن يكون لك من جِهَة الله أيّ وَلِيّ يَلِيِ أمورك أيْ يُديرها لك علي أكمل وأسعد وجهٍ في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآية (255) من سورة البقرة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن سعادة المسلم الذي يَتّخِذ الله وَلِيَّاً)، وإنْ اتَّخَذْتَ غيره وليّا فلَكَ تمام التعاسة فيهما (برجاء أيضا مراجعة الآية (257) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، ولن يكون لك أيّ واقي من عذابه أيْ مانِع يَقِيك أيْ يَمنعك ويَحْميك حين يُعاقبك به في دنياك وأخراك
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا وَرَّثْتَ ذُرِّيَّتك من الأبناء والأحفاد والأقارب وغيرهم مِثْل ذلك، فهذا هو الضمان لاستمرار البَشَرِيَّة علي الخير والسعادة فيهما
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)"، "يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)" أيْ هذا تسلية للرسول (ص) وللمسلمين وطَمْأَنَة وتَبْشِيرٌ لهم وعوْنٌ علي الصبر أنه ليس أمرا غريبا أو جديدا تكذيب المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين للرسل الكرام وللمسلمين وللإسلام يَدْعونهم إليه ليسعدوا به في دنياهم وأخراهم ، فلقد أرسلنا رسلا كثيرين من قبلك يا رسولنا الكريم محمد ليكون لكلّ البَشَرَ رسلٌ يدعونهم للإسلام ليسعدوا وذلك لرحمتنا بهم ولحُبِّنا لهم وحرصنا علي سعادتهم، وكان لهم أزواجا وذرَّيَّة مِثْلك، فهم بَشَرٌ لهم كل صفات البَشَر حيث يَتَزَوَّجون ويتناسلون، كنوحٍ وإبراهيم وغيرهم مِمَّن يعرفونهم تمام المعرفة ويتناقلون أخبارهم جيلاً بعد جيل، فلأيِّ شيءٍ إذَن يُسِئُون إليك بسبب ذلك قائلين أنه يتزوج ويَتناسَل وهم يعلمون أنَّ الرسل قبلك كلهم كانوا كذلك؟! ولماذا يَرْفضونك أنت كرسولٍ ويُكَذّبونك ويُريدون مَلَكَاً يكون رسولاً لهم بديلاً عنك؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟!! إنَّ المشكلة ليست في كَوْن الرسول مَلَكَاً أو بَشَرَاً بل المشكلة فيهم هم وفي مُراوَغتهم وتكذيبهم وعنادهم واستكبارهم حتي لا يتّبعوا الإسلام الذي لو اتّبعوه لأسعدهم في الداريْن لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولاً من البَشَر ثم لو جاءهم بَشَرَاً لطَلَبوا مَلَكَاً وهكذا مُرَاوَغَة بعد مراوغةٍ لا تنتهي!!.. إنه من رحمة الله تعالي وفضله وكرمه ورزقه ووُدّه علي الناس جميعا أن يُرْسَل إليهم رُسُلَاً منه أيْ مَبْعُوثين يكونون منهم بَشَرَاً مثلهم يعرفونهم فيُصَدِّقونهم ويَثقون بهم وبحُسن خُلُقهم ويُطَبِّقون الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم ولو كان الرسل ملائكة لكان من المُمْكِن أنْ يَسْتَثْقِل بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!!.. ".. وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.." أيْ هذا ردٌّ على ما طلبوه من الرسول (ص) مِن مُعْجِزاتٍ لإثبات صِدْقه أنه رسولٌ من عند الله تعالي ليؤمنوا به حيث هم مِن سَفههم لا يعتبرون القرآن العظيم مُعْجِزَة!!.. أيْ ولم يكن أبداً وما يَصِحّ وما يَستقيم ويَسْتَحِيل وليس بالمُسْتَطاع مُطْلَقَاً لأحدهم أن يأتي بآية، أيّ آية، أيْ معجزة خارقة للعادة للدلالة علي صِدْقه كعَصَيَ موسي (ص) مثلاً أو وَحْي فيه تشريعات تُنَظّم حياة البَشَر لتسعدهم، إلا بإِذن الله أي بإرادته وأمره إذ هو الوهّاب لِمَا يشاء لِمَن يشاء، لا مِن تِلْقاء نفسه ولا باقتراح قومه، فلماذا إذَن يقترحون عليك مُعجزات خارقات مُحَدَّدَات تأتيهم بها حتي يُصَدِّقوك يا محمد (ص)؟! رغم أنّ القرآن العظيم هو أعظم المعجزات المستمِرَّة لأنه الذي أَعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، ثم المُعجزات الحِسِّيَّة يراها مَن حَضَرَها وينتهي تأثيرها بانتهاء عصرها وتصبح فقط ذِكْرَيَ يُعْتَبَر بها.. إنه تعالي هو العليم الحكيم الذي يعلم المعجزة المناسبة لكلّ عصر والتي تُعين البَشَر وقتها علي التصديق فهم خَلْقه ويعلم تماما ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم، فالمشكلة إذن ليست في الآيات وإنما في عقولهم التي أغلقوها فلم يحسنوا التفكير بها، لأنّ أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ سيَسْتَدِلّ علي وجوده سبحانه مِن خلال مُعجزاته في كلّ مخلوقاته في كوْنه ثم تكون الآيات التي تأتي بعد ذلك تأكيداً لما هو متأكّد منه وموجود في فطرته المسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة).. ".. لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)" أيْ لكلِّ وقتٍ تشريعٌ ونظامٌ وشيءٌ مُعْجِزٌ كَتَبَه أيْ قَدَّرَه الله تعالي لهذا الوقت ومَكْتُوبٌ مُسَجَّلٌ في كتابٍ عنده وفي عِلْمه، يُرْسِله للبَشَر بوَحْيٍ لرسولٍ منهم بما يُناسبهم ويناسب تَطَوُّرهم في هذا الوقت وبما يُناسب بيئتهم وعِلْمهم وبما يُحَقّق لهم ما يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسْعِدهم في دنياهم وأخراهم.. كذلك من المعاني أنَّ لكلِّ أجلٍ أيْ زمنٍ مُحَدَّدٍ لأيِّ أمّةٍ كتابٌ مَكْتُوبٌ فيه وقتها الذي ستَحْياه في هذه الحياة الدنيا ثم تنتهي ويَخْلفها مِن بعدها أمّة أخري ثم أخري وهكذا، وكذلك حال كل فردٍ له أجله المُحَدَّد المَكْتُوب له ثم يأتي مَن بَعْده وهكذا.. وكذلك لكلَّ حَدَثٍ قَدَّره سبحانه وقته المَكتوب الذي سيَحْدُث حتماً فيه فكلّ شيءٍ عنده بمِقْدارٍ بكلّ دِقّةٍ ودون أيّ عَبَثٍ ولمصلحةٍ مَا ولا يَتَقَدَّم أو يَتَأَخَّر عنه لحظة، سواء أكان نزولاً لخيرٍ لِمُحْسِنٍ أو عذاباً لمُسِيءٍ أو كان حُدُوثَاً لمُعْجِزَةٍ أو تأخيرها أو مَنْعها أو ما شابه هذا، فليس استعجال المُكَذّبين للآيات أو للعذاب أو استعجال أحدٍ للخير سيُؤَدِّي لأنْ يُقَدِّم الله ما كَتَبَ أنه يُؤَخَّر مع أنه تعالى فَعَّالٌ لِمَا يُريد قادرٌ علي كل شيء.. "يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ.." أيْ هذا ردٌّ على تشكيك المُكَذّبين في شَرْع الله الإسلام واتّهامهم إيّاه كذباً وزُورَاً وجَهْلَاً وخَبَلَاً بأنه غير ثابتٍ ويُخَالِف بعضه بعضا.. أيْ وبالتالي، وبناء علي ما سَبَقَ ذِكْره في الآية السابقة من أنه لكل أجلٍ كتاب، يُزيل ويُلْغِي الله ما يُريد إزالته وإلغاءه من بعض تشريعاتٍ سابقةٍ ويُثَبِّت البعض الآخر الذي يريد تَثْبيته أيْ يُبْقيه ويَجعله ثابتاً مُسْتَقِرَّاً بلا تغييرٍ أو يُضيف إليه ما يشاء بما يُناسب البَشَر في كل زمنٍ ويُحَقّق لهم مصلحتهم وكمالهم وسعادتهم في الداريْن.. كذلك قد يُلْغِي بعض صُوَر المُعْجِزات في عصرٍ مَا ويأتي بأخري بما يُحَقّق الإيمان أي التصديق به سبحانه، كما كان في عهد موسي (ص) مُعجزته العَصَيَ التي تنقلب ثعبانا حقيقيا ليناسب قومه الذين كانوا يُتقنون السِّحْر، لكنه سبحانه ألغاها في زمن عيسي (ص) فلم تكن معجزته هو الآخر هي العصي وإنما أثْبَتَ وأعْطَيَ الله له معجزاتٍ أخري كإشفاءِ المرضي وإحياء الموتي وغير ذلك مِمَّا يَخْرِق قانون الأسباب والنتائج حيث كان قومه وقتها يُقَدِّسون اتّخاذ الأسباب ويَنْسون ربَّ الأسباب سبحانه والذي هو وحده يُيَسِّرها ويُحَقّق نتائجها أو يَمْنعها.. كذلك من معاني الآية الكريمة غير مَا سَبَقَ ذِكْره أنه تعالي يمحو ما يشاء من الأمم ويُبْقِي ما يشاء، ويمحو ما يشاء من ذنوب خَلْقه ويُبقي ما يشاء برحمته أو بتوبتهم، ويمحو ما يشاء مِن مخلوقاتِ كوْنه ويُبقي ما يشاء، ويمحو ما يشاء من الأرزاق ومن الخير أو الشرّ ومن السعادة أو التعاسة ويبقي ما يشاء، ويمحو مَن يشاء مِن الخَلْق مِمَّن انتهي أجلهم بموتهم ويبقي مَن يشاء، وهكذا.. ".. وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)" أيْ يَمحو الله ما يَشاء ويُثْبِت أيْ يأتي من الشرائع بما شاء ويلغي منها ما يشاء وعنده مع ذلك أم الكتاب أيْ أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي فيه جُمْلَة كل ذلك الذي يَمحوه والذي يُثْبِته وهو الذي في السماء والمَكتوب فيه كلّ علم الله تعالي بما فيه شرع الإسلام الذي أنزله في كتبه وآخرها القرآن العظيم والمُسَجَّل فيه أفعال الناس ولحظات الحياة والكوْن وتقديراتهما وسَيْرهما.. إنه الكتاب الأصلي الذي يخرج وينزل للبَشَر منه كل كتاب والذي فيه كل التقديرات والذي يَستحيل أن يَدْخله أيُّ تبديلٍ أو تغيير، فلا يَتَوَهَّم مُكَذّبٌ مُعَانِدٌ مثلاً أنَّ هناك مجالاً لأيِّ خطأٍ في أيِّ تشريعٍ يُمْحَيَ أو يُثْبَت حيث كله مُسَجَّلٌ مَضْمُونٌ في علم الله سبحانه المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء
تفسير الآيات (40) حتي
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
بعض الاخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُوقِنَاً أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ أنّ أهل الحقّ والخير لابُدّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُبَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآية (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)" أيْ وإمَّا أن نُرِيَك يا رسولنا الكريم ويا كلّ مسلم مِن بَعده بعض الذي نَعِدُهم به هؤلاء المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين من العذاب الدنيويّ بسبب تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وشرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم في أثناء حياتك ليشْفِي ذلك الانتقام منهم بعض ما في صدرك من ضيق ولتسعد بالنصر والتمكين في الأرض، فهذا سيكون خيرا وبها ونِعْمَت، وإنْ لم يتحقّق فسيتحقّق لغيرك من المسلمين بعد أن نَتَوَفّاك، فقُم بتأدية ما عليك ولك أجرك العظيم علي كلّ الأحوال واتْرُك التوقيت والأسلوب له سبحانه فسيأتي به في أفضل وأنْسَب وقتٍ يُحقّق لكم تمام السعادة في الداريْن، ولو فُرِضَ ولم يتمّ عذابهم في الدنيا بصورةٍ مِن الصور كقلقٍ أو توتّر أو ضيق أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة بدرجةٍ ما مِن درجات التعاسة فمِن المؤكَّد أنَّ الجميع سيَرْجِع إلينا حيث العذاب الأكيد لهم ولأمثالهم بما هو أتمّ تعاسة وأعظم، فليس لهم أيّ مَفَرٍّ إذَن! فاستمِرّوا في تمسّككم بإسلامكم وعملكم بكلّ أخلاقه وحُسن دعوتكم لغيركم واصبروا علي أذاهم لتسعدوا بذلك في دنياكم وأخراكم.. إنَّ هذا الجزء من الآية الكريمة فيه إرشاد للمسلم أن يكون هكذا دائما في كلّ شئون حياته متأكّدا بلا أيّ شكّ أنّ نتائج أيّ سببٍ سيتّخذه مِن أجل أيّ خيرٍ لابُدَّ حتما ستتحقّق يوماً مَا، إنْ عاجلا أو آجلا، إمّا فوريا أو بعد فترة قصيرة أو متوسطة أو طويلة، وعلي حسب نوع الخير ومقداره وحالته، وسواء رَأَيَ هذه النتائج السعيدة للخير في أول حياته أو وسطها أو آخرها، أو حتي لم يَرَها مطلقا فيها! فإنها ستتحقّق حتما! فما مِن خيرٍ إلا ويؤدّي إلي خيرٍ بكلّ تأكيد، فهذا هو وعْد الله تعالي الذي لا يُخلف وعْده مُطلقا لأنه قادر علي كل شيء كما يقول "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، وللمسلم أجره وثوابه في الدنيا، حيث سيَسعد بأنه دائما في كل خير، وإنْ لم يتحقّق خيرٌ مَا فسيتحقّق حتما له ولغيره خيرٌ غيره وخيرٌ آخر وخيرات كثيرات من الكريم الرزّاق، ثم له بالقطع أجره العظيم في أخراه علي كلّ ذلك في أعلي درجات الجنات، فالمهم أن يستمرّ دوْماً علي الخير ويحيا مِن خيرٍ إلي خير، أمّا موعد النتائج وكيفية وأساليب تحقيقها فهذا متروك للخالق الحكيم مُدَبِّر أمور الخَلْق والكوْن علي أكمل وجه، حيث سيختار له ولمَن حوله أفضل وأسعد الأوقات التي يُحَقّق لهم فيها نتائج أسباب الخير التي اتّخذوها سابقا، وقد يُحقّقها بالشكل الذي كانوا يريدون أو بأشكال أخري أكثر خيرا وسعادة للجميع.. فاستمرّ أيها المسلم في تمسّكك وعملك بكل أخلاق إسلامك، واستمرّ في عمل كلّ خير، واستمرّ في دعوة غيرك له، وسيتحقّق انتشار الإسلام وانتصاره، وستكون كلمته هي العليا أيْ سيَتّخذه الناس مَرْجعا لهم ليسعدوا، وسيَنهزم وسيَهلك أعداؤه وكلّ مُكذب مُعانِد مُكابِر مُسْتَهْزِيء سواء أكان كافرا أم مشركا أم منافقا أم ظالما أم فاسدا أم غيره، وذلك في التوقيت الذي يراه مالِك المُلك الكريم الغفور الرحيم العزيز الحكيم الخبير صالحا مُسعدا للجميع.. وهذا في الدنيا.. ثم في الآخرة يَرْجِع كلّ الخَلْق إليه سبحانه وهو شاهِد عليم بكلّ ما يفعله كلٌّ مِن أهل الخير وأهل الشرّ، فيُجازي كلاًّ بما يستحقّ مِن خيرٍ وجنان وسعادات أو شرّ ونيران وتعاسات.. ".. فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ.." أيْ سواء أَرَيْنَاك عذابهم أم لم تَرَه فلا تَهْتَمّ لذلك ولا تَنْشَغِل به ولا تَسْتَعجله واتْرُك الأمر لنا لأنه ليس عليك هذا وإنما عليك البلاغ أيْ ليس عليك إلا البلاغ فقط لا غير أيْ ليس عليك يا رسولنا الكريم ولا علي المسلمين إجبار غير المسلمين علي الهداية لله وللإسلام أو المسلمين الذين لا يعملون بكل أخلاق الإسلام علي العمل بها ولا يجب عليك أن تجعلهم مَهْدِيِّين لذلك عامِلين به فهذا ليس باستطاعتك، وإنما عليك فقط البلاغ المُبِين أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ المسلمون هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظة حسنة (برجاء لكي تكتمل المعاني عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة مراجعة تفسير الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُوِيهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ مَا (برجاء مراجعة الآية (256) من سورة البقرة عن أنه لا إكراه في الدين)، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان.. هذا، وعلي الداعي لله وللإسلام مُراعاة أنَّ نتائج دعوته تختلف باختلاف ظروف كل مَدْعُو وأحواله وبيئاته وثقافاته وعلومه وعاداته وتقاليده ونحو ذلك، فليدعوه بما يُناسبه وليصبر عليه حتي يهتدي للخير لينال الجميع أعظم الأجر في الداريْن.. وذلك الذي سَبَقَ ذِكْرُه هو لأنَّ الله هو وحده الذي يَهدي أيْ يُرْشِد مَن يشاء للهداية له وللإسلام، أيْ مَن يشاء من الناس الهداية للطريق المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، سيَشاء الله له حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يهتدِ فله التعاسة كلها فيهما، فهو سبحانه عالم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علم آخر بكل شيء عن خَلْقِه ومَن شاء منهم الهداية واختارها بكامل حرية إرادة اختيار عقله ومَن لم يشأها ولم يخترها، أيضا بكامل حرية إرادة اختيار عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)" أيْ وعلينا وحدنا لا علي غيرنا ونحن العالِمِين بكل شيءٍ عنهم وعن الناس جميعا الحساب لهم على أعمالهم ومجازاتهم عليها بما يُناسب في الداريْن إنْ كانت خيراً بكل خيرٍ وسعادة وإنْ كانت شرَّاً بكل شرٍّ وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، كما أنه طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
ومعني "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وهل لم يُشاهِد هؤلاء المُكَذّبون المُعاندون المُستكبرون المُستهزؤن ويَنظروا ويَتدَبَّروا ويَعلموا، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن، أيْ لقد رَأَوْا وتأكّدوا وظَهَرَ لهم وأدْرَكُوا بالفِعْل أننا نأتِي أيْ نَقْصِد الأرض ننقصها من أطرافها أيْ من نواحيها المختلفة والذي يعني نقصان سكانها بإهلاك بعضهم وهم المُكَذّبين الظالمين منهم، أو نقصان بَرَكَتها بنقصان خيراتها وأموالها، أو نقصان سلطانهم عليها وتمكين مسلمين صالحين فيها خَلَفَاً لهم ليُصْلِحوا ما أفسدوه فيها حينما يُحْسِنون اتّخاذ أسباب ذلك.. ألَاَ يَخافون أن نفعل بهم مِثْل هذا فيتعسوا في الداريْن؟! أليس هذا وما شابهه من قُدْرتنا وعذابنا للمُسِيئين كافياً لهم ليَستفيقوا وليُحْسِنوا استخدام عقولهم ويعودوا لربهم ولدينهم الإسلام ليسعدوا في دنياهم وأخراهم؟!.. ".. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.." أيْ هذا تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْره.. أيْ والله تعالي وحده لا غيره يَحكم في خَلْقِه بما يشاء أن يحكم به فيزيد وينقص ويعطي ويمنع ويعزّ ويُذِلّ وينصر ويهزم، لا مُعَقّب لحكمه أيْ ولا أحد أبداً يُمْكِنه أنْ يَتَعَقّب حُكْمه أيْ يُتابعه ليُعَلّق عليه أو يَنتقده أو يَرُدّه أو يُبْطِله أو يَمنعه أو يستخرج فيه عيوباً وثَغَرٍات كما يَحدث مع أحكام البَشَر، لأنه حُكْم الخالق العليم الحكيم الذي لا يُمكن مُطْلَقاً ويَستحيل أن يكون في حُكْمه أيّ خَلَلٍ أو نَقْصٍ بل تمام العلم والحِكْمة والدِّقّة والحقّ والعدل والخير والسعادة، فإذا حَكَمَ أيْ قَضَيَ وأمَرَ وأرادَ وقَدَّرِ شيئاً، والذي هو بالقطع لتحقيق مصلحةٍ مَا لخَلْقِه، فحتماً لابُدَّ أن يَحْدُثَ في التوقيت وبالأسلوب الذي حَكَم به، لأنَّ الجميع تحت سلطانه ونفوذه لا يمكن أن يخرج عنه وهو القادر علي كل شيءٍ سبحانه.. ".. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وهو تعالي وحده لا غيره لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
ومعني "وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)" أيْ هذا مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وقد دَبَّر المَكائد من أجل إيقاع الشرّ بالإسلام والمسلمين، الذين مِن قَبْلِهم، أيْ المُكَذّبون السابقون للمُكَذّبين حولك الآن يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه، كما يفعلون معك، فلا قيمة لمَكْرهم ولا تأثير له لأنه لله المَكْر جميعا أيْ له وحده لا لغيره المَكْر كله بمعني أنَّ مَكْرهم وأيَّ مَكْرٍ في كوْنه هو كالعَدَم لأنه أصلا تحت سيطرته وعِلْمه ولا يَضُرّ إلا بإذنه لحكمةٍ ولمصلحةٍ مَا فكأنه ليس لأيِّ أحدٍ مهما كان أيّ مَكْرٍ يُذْكَر بجانب مَكْرِه تعالي، وكذلك بمعني أنه له التدبير كله أيْ يُدَبِّر تعالي في مُقابِل مَكْرهم تدبيراً يَستدرجهم لعذابهم وهلاكهم – ولفظ المَكْر إذا نُسِبَ للبَشَر فإنه يعني الخِدَاع لإحداث شَرٍّ مَا وإذا نُسِبَ لله تعالي فإنه يعني التدبير، وللخير فقط بالقطع – والله حتماً خير الماكرين أيْ المُدَبِّرين أىْ أحسنهم وأقواهم مَكْرَاً وأعظمهم تنفيذاً لتدبيره ولعقابه الذي يريده بمَن يَمكر بهم إذ ماذا يُساوِي مَكرهم الذي لا يُذْكَر أمام تدبير خالِق الخَلْق كله مالِك المُلك كله الذي له الجنود كلها والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه؟! إنَّ نتائج تدبيره تعالي ونَصْره لأهل الخير عليهم وهزيمتهم وعَوْدَة سيئات مَكْرهم عليهم ستَظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يُحِسّوا ببدايتها فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومتها أو الفرار منها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ..").. إنَّ مَكْرَهُ تعالي بأهل الشرّ لإبطال مَكَائدهم واسْتِدْرَاجِهم درجة بدرجةٍ نحو هلاكهم بأخَفِّ جنوده سبحانه استهزاءً بهم واحتقاراً لهم، لا يُقَارَن حتما بمَكْرهم الهزيل بالإسلام والمسلمين وأهل الحقّ والخير لأنه ليس هناك مُقَارَنَة قطعا بين قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو عَزّ وجَلّ!!.. ".. يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره والتعليل والتفسير له.. أيْ لله المَكْر جميعا لأنه بكل تأكيدٍ يعلم تمام العلم بكل علمٍ ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بما تعمله وتقوله كل نفسٍ إنسانية سواء في سِرِّها أو علانيتها لا يَخْفَيَ عليه شيء وسيُحاسبها علي ذلك بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرَّاً وتعاسة في الداريْن بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، ومَن يعلم ما تَكْسِب كلّ نفسٍ وأعَدَّ لها جزاءها كان المَكْر كله له حتماً لأنه سيَأتيهم مِن حيث لا يشعرون، حيث هو يعلم ما يدور بعقولهم وما يُخَطّطون له قبل فِعْله وكيفيته ووسائله ونحو ذلك فيُحْبِطه ويَمنعه أو يَسْتَدْرِج الفاعِل من حيث لا يَعلم ولا يَدْري، ويَخْدَعه، ويُيَسِّر له ما يَتَوَهَّم أنَّ فيه مصلحته فيَصْطَدِم بعدها بأنه كان هلاكه!! فهو تعالي القاهر الغالِب الذي لا يُعْجِزه أحدٌ، ولا يعلم جنوده إلا هو سبحانه، وهم لا يَزِنون حتي أقلّ من جناح بعوضة! أفلا يَتّعِظ من كل ذلك أمثال هؤلاء الحالِيِّين، ومَن يُشْبِههم مِمَّن قد يأتون مستقبلا، ويعودون لربهم ودينهم قبل فوات الأوان وهلاكهم مِثْل سابقيهم؟! .. ".. وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وسيعلم الكفار – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – عندما ينزل بهم العذاب لمن تكون عقبي أيْ عاقبة الدار أيْ نتيجة أعمال هذه الدار الدنيا أي حُسن النتيجة فيها ثم في الدار الآخرة، حيث كل خيرٍ وسعادةٍ فيهما، هل هى لهم أم للمؤمنين؟! لا شك أنها حتما للمؤمنين حيث سيُفلحون وسيَنتصرون وسيَسعدون في الداريْن بينما أهل الشرّ حتما سيَفشلون وسيَنهزمون وسيَتعسون فيهما، وسيَظهر ذلك مع الوقت بكلّ تأكيد، حين ينزل الخير المُسْعِد بالمُحسنين في الدنيا وحين يَصِل المُسيئين عذاب الله الذي يذِلّهم ويُهينهم ويَفضحهم فيها والذي سيكون بدرجةٍ من الدرجات وبصورةٍ من الصور كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وبالجملة سيكون كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في الآخرة حين يدخل المُحسنون درجات جناتهم بنعيمها الذي لا يُوصَف وحين يَحِلّ علي المُسيئين العذاب حيث يُقذفون ويُقيمون في عذابٍ دائمٍ مستمرٍّ من جهنم لا مَفَرّ منه فيما هو أشدّ ألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد من عذاب دنياهم، حينها سيَعلمون وسيَعرفون وسيُدركون عمليا وواقعيا ومُؤكَّدا مَن تكون له عاقبة الدار، المؤمنون أم الكافرون، مَن الذي كان علي الحقّ والخير والصلاح ومَن كان علي الظلم والشرّ والفساد
ومعني "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)" أيْ ويقول الذين كفروا – وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم – لك يا رسولنا الكريم محمد إنك لست مُرْسَلَاً أيْ مَبْعُوثاً من عندنا كرسولٍ مِنّا للناس لتبليغهم ديننا الإسلام، تكذيباً منهم لك وللقرآن العظيم وتَبْريرَاً كاذباً لكفرهم وتَشْكيكَاً فيكما لعلهم بهذا التشكيك يَمنعون غيرهم من الإيمان.. ".. قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.." أيْ قل لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم يا رسولنا الكريم، ويا كل مسلم مِن بَعْدِه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم يَكفيني كفاية تامّة – ولا أحتاج أبداً لأيّ شهادة أخري منكم ولا مِن أيّ أحدٍ وقد أظهر ربي من الأدِلّة على صِدْقِي وصِدْق ما جِئت به ما يُغْنِي عن شاهدٍ يَشهد عليها – أنَّ الله تعالي هو الشهيد أي الشاهد الذي يشهد والحاكم الذي يحكم بيني وبينكم، فشهادته حتما هي الحقّ أي الصدق والعدل وحُكمه قطعا كذلك، وسيُعْطِي بالقطع كل أحد ما يستحقّ، وستكون شهادته وسيكون حُكمه بيني وبينكم حتما هو الحُكم العَدْل لأنه يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه كل شيءٍ عن أيّ شيءٍ مِن خَلْقه في السموات والأرض والكوْن كله ولا يَخفَيَ عليه أي خافية مِمَّا تقولونه أو تفعلونه أنتم أهل الشرّ سواء أكان علنيا أم سِرِّيا.. وفي هذا تمام القلق والتوتّر والاضطراب والرُّعْب لأمثالهم ومَن يَتَشَبَّه بهم.. إنْ كان لهم عقل وإحساس!.. ".. وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)" أيْ قل كفي بالله شهيداً بيني وبينكم والذى هو عنده علم الكتاب بمعني اللوح المحفوظ الذي فيه العِلْم كله.. كذلك من المعاني أنه يكفيني شهيداً بيني وبينكم أيضا بعد الله كلّ الذي عنده علم الكتاب بمعني القرآن عارفٌ به مُتَمَسِّكٌ عامِلٌ بأخلاقه وهم المسلمون، وكذلك كلُّ مُنْصِفٍ عادلٍ من اليهود والنصاري مِمَّن أسلم بالفِعْل والذي عنده علم الكتاب بمعني التوراة والإنجيل الذي أُنْزِلَ عليهم والذي يُخْبِرهم ويُبَشّرهم بنزول هذا القرآن وبإرسالي كرسولٍ فشهادتهم بالتالي خير دليلٍ علي صِدْقِي.. فليس من المُهِمِّ إذَن شهادتكم فهي لا تُفيد شيئا!!
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيِّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)" أيْ هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه.. ".. كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ.." أيْ هذا مَدْحٌ للقرآن العظيم وتعريفٌ بحِكْمة نزوله فهو كتاب أنزله الله تعالي بحكمته وبرحمته علي الرسول الكريم محمد (ص) للناس جميعا ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى كثير الخيرات المُتَزايِدَة حيث يعود بكلّ خيرٍ وسعادة علي كلّ مَن يعمل بكلّ ما فيه من أخلاقٍ ستُصلِحه وستُكمله وستُسعده تمام الإصلاح والإكمال والإسعاد في دنياه وأخراه.. ".. لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.." أيْ هذا بيانٌ لحِكْمَة ولهَدَف إنزاله.. أيْ أُنْزِلَ وأوحِيَ إليك يا رسولنا الكريم بحكمتنا ورحمتنا لكي تُخْرِج الناس جميعا – إذا اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم العمل بكل أخلاقه – من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، تأخذهم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة، إلي النور، نور الإيمان، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف، وذلك من خلال حُسْن دعوتهم لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. إنه تعالي بهذا القرآن العظيم بالجملة يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه، أي يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ، ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.." أيْ بفضل ربهم – أي مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك الخروج من الظلمات إلي النور لهم وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، وفي هذا حَثٌّ ودَفْعٌ ضِمْنِيٌّ لهم علي الاستعانة دَوْمَاً به لتحقيق ذلك.. ".. إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)" أيْ لتُخْرِج الناس من ظلمات الكفر والضلال إلي نور الإسلام الذي هو طريق الله العزيز أيْ الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الحميد أيْ المحمود المُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون، وهو أيضا الكثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد.. إنَّ صراط العزيز الحميد هو حتماً وحده لا غيره الطريقٍ المُعْتَدِلٍ الصحيحٍ الصوابٍ المُتَّجِهٍ دائما نحو كل خيرٍ دون أيّ مَيْلٍ نحو أيّ شرّ، إنه طريق القرآن والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. هذا، وذِكْر العزيز الحميد بعد ذِكْر الصراط الموصل إليه يُفيد أنَّ مَن سَارَ في هذا الطريق فإنه سيكون حتماً عزيزاً قوياً بعِزَّة الله وقوَّته وسيكون مَحْموداً مَشْكُوراً حَسَنَ النتيجة سعيداً في كل شئون حياته.. فليُحْسِن كلّ عاقلٍ إذَن الاختيار ويَتّبِع طريق الله والإسلام لا غيره ليسعد تمام السعادة في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)" أيْ لتُخْرِج الناس من الظلمات إلي طريق العزيزِ الحميدِ أيْ إلي طريق اللهِ الذي له وحده كل ما في السماوات وما في الأرض وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، من حيث الخَلْق والإحياء والإماتة والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئاً فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو يستحقّ وحده العبادة أيْ الطاعة (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، ولا يُنْكَر عليه حتما بَعْث الناس بعد موتهم وجَمْعهم للحساب والجزاء، وهو أيضا الذي عنده وحده لا عند غيره العلم التامّ بوقت قيام يوم القيامة حيث بداية أحداث الحياة الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار.. ".. وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)" أيْ وهَلَاكٌ – والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم – سيَحْدُث للكافرين وهم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِن أيْ بسببِ عذابٍ شديدٍ مُؤْلِمٍ سيُصيبهم وسيَنْزِل بهم حتماً بسبب كفرهم وعدم استجابتهم للخروج من الظلمات إلي النور، وسيكون هذا العذاب بدرجةٍ مَا بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ
ومعني "الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)" أيْ هذا بيانٌ لبعض الصفات السيِّئة المُهْلِكَة المُتْعِسَة في الداريْن للكافرين ولمَن يَتَشَبَّه بهم والتي علي المسلمين أن يتجنّبوها تماما ليسعدوا فيهما ولا يتعسوا مثلهم.. أيْ من صفات هؤلاء الكافرين والمُتَشَبِّهين بهم القبيحة أنهم هم الذين يُحِبُّون – والسين والتاء للمُبَالَغَة في الحب وللتأكيد عليه – أيْ يُفَضِّلون ويُقَدِّمون ويَختارون ويُريدون فقط مُتَع الحياة الدنيا الزائلة دون ارتباطٍ بالآخرة الخالدة النعيم الذي لا يُقَارَن ولا يُوصَف والتي هي حتماً أعظم خيراً وأبقي أيْ أَدْوَم وأخلد ولا تنتهي ولا تَفْنَيَ فهم لا يريدونها ولا يعملون لها لأنهم يكذبون وجودها أصلا.. إنهم لم يُحسنوا طَلَب الدنيا والآخرة معا كما يريد ربهم الكريم الرحيم والإسلام من الناس (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل عن كيفية حُسن طَلَب الداريْن) بل قد استمتعتوا بمُتَع الحياة الدنيا علي أيِّ صورةٍ سواء أكانت ضارّة أم نافعة شرَّاً أم خيراً واختاروا معاصيها أيْ شرورها ومفاسدها وأضرارها وفَضَّلوها علي طاعاتها أيْ خيرها ونفعها وصلاحها والتي تُقَرَّبهم للآخرة، لأنهم يُكَذّبونها.. ".. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.." أيْ ولم يكتفوا بأنهم يَسْتَحِبُّون الحياة الدنيا علي الآخرة بل وأيضا يَمنعون أنفسهم وغيرهم من الناس عن طريق الله واتّباعه والسَّيْر فيه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أي عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، يمنعونهم قَدْر استطاعتهم بكل الوسائل المُمْكِنَة سواء أكانت تَرْغِيبَاً بإغراءاتٍ دنيويةٍ مُتَعَدِّدَةٍ أم تَرْهِيبَاً بتهديدٍ أو تعذيبٍ أو مُلاَحَقَةٍ أو سجنٍ أو نَفْيٍ أو حتي قتل أو نحو هذا!!.. ".. وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا.." أيْ وكذلك يُريدون لها اعْوِجَاجَاً، أي يُريدون جَعْل سبيل الله، أيْ شريعته، وهي الإسلام، مُعْوَجَّة مُنْحَرِفَة عن الحقّ والخير بمحاولاتٍ يائسةٍ بتحريفها وتكذيب ما فيها، حتي لا يتبعها أحد، ولن يحدث ذلك أبداً لأنه تعالي وَعَدَ ووَعْده لا يُخْلَف مُطلقا "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9)، وكذلك يُريدون للحياة الدنيا كلها الاعوجاج والانحراف والفساد، وأيضا لن يستطيعوا، حينما يتمسَّك ويعمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم.. ".. أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)" أيْ هؤلاء المَذْكُورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيِّئة السابقة حتماً في ضياعٍ كبيرٍ شديدٍ بسبب سوء أفعالهم حيث هم بعيدون كلّ البُعْد عن الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله، لأنهم لم يَعْبُدوا أيْ لم يُطِيعوا الله تعالي ربهم أي مُرَبِّيهم وخالِقهم ورازِقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام.. إنهم أيضا في ضلالٍ بعيدٍ لأنهم يفعلون كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنهم يَتَوَهَّمون أنْ لا حساب! وبالتالي ستجدهم دائما وحتما في دنياهم في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراهم سيكون لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا اتّخَذْتَ الرسل الكرام وإمامهم رسولنا الكريم محمد (ص) قُدْوَة لك فتَشَبَّهْتَ بهم في حُسْن خُلُقِهم حيث عملوا بكل أخلاق إسلامهم لتسعد مثلهم في دنياك وأخراك، وفي حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)
هذا، ومعني "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)" أيْ وما بَعَثْنا أيَّ رسولٍ قَبْلك يا رسولنا الكريم محمد إلاّ مُتَكَلّمَاً بِلُغَةِ قومه الذين بعثناه فيهم لكي يُوَضِّح لهم الإسلام الذي يُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فيَسْهُل بذلك عليهم فَهْمه وتَعَلّمه والعمل به في كل شئون حياتهم، ثم يَنْقلوه هم ويُتَرْجِمُوه إلى غيرهم.. إنَّ في هذا الجزء من الآية الكريمة بياناً لعظيم رحمة الله تعالي وحُبِّه لخَلْقه وحِرْصه علي إسعادهم حيث لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة وإنما يُرْسِل إليهم رسله الكرام ومعهم كتبه التي فيها الإسلام الذي يُناسب زَمَنهم والذي يُصْلِحهم ويُكْمِلهم ويُسْعِدهم تمام السعادة في الداريْن وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) ومعه آخر كتبه القرآن العظيم الذي تَكَفّل سبحانه بحِفْظه حتي نهاية الدنيا لأنه سيَستمرّ معهم لنهايتها إذ لا رُسُل ولا كُتُب بَعْده فهو الكامِل المُناسِب لكل الأزمنة ولجميع الناس حتي قيام الساعة والذي هو بلُغَةٍ واحدةٍ لكي تَتَّحِدَ المفاهيم للجميع وهي اللغة العربية والتي هي أقوي لغة إذ كل كلمة فيها تحمل عِدَّة معاني وبالتالي يَسهل توصيل وتوضيح النصائح للبَشَر ثم يقوم العرب بترجمة معانيه لكل اللغات الأخري للناس جميعا كأمانةٍ في أعناقهم من ربهم يُسْأَلون عنها يوم القيامة.. هذا، ولم ينزل سبحانه القرآن الكريم بعِدَّة لغات، وقد تَعَدَّدَت وازدادت لغات البَشَر وتعبيراتهم، حيث قد يُؤَدِّي ذلك إلي اختلال المعاني والمفاهيم والاختلاف والتّصارُع حولها، بينما بِلُغَةٍ واحدةٍ يكون المَرْجِعُ واحداً.. ".. فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.." أيْ فبالتالي وبعد بيان الرسول لقومه فلا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام ولا يُيَسِّر الأسباب لمَن يَشاء الضلالة ولم يَشأ الهداية لله وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنه هو الذي اختار البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقله وبالتالي فلم يَشَأ الله له الهداية وتَرَكَه فيما هو فيه بسبب إصراره التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينه علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّه لكنّه هو الذي بدأ واختار هذا الضلال وأصرَّ تماما عليه فتَرَكه سبحانه ولم يُعِنْه.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيله لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما مَن يَشاء الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقله، فإنَّ الله يشاء له ذلك ويأذن، بأنْ يَوَفّقه ويُيَسِّر له أسبابه، فهو قد اختار هذا الطريق أولا، بأن أحْسَن استخدام عقله، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه له ومَكَّنه منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)" أيْ فالإرْسال والتّبْيِيِن والإضلال والهُدَي وكلّ شأنٍ يكون علي أكمل وأَدَقِّ وَجْهٍ لأنه هو العزيز أيْ الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، الحكيم في كلّ أموره أيْ الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يَضع كل أمر في موضعه دون أيّ عَبَث
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا تمسّكتَ وعملتَ بكل أخلاق إسلامك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة هي تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين الدعاة من بعده – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سيَنصرهم الله في كل شئون دنياهم صغرت أم كبرت ما داموا أحسنوا اتّخاذ كلّ الأسباب المُمْكِنَة والمُتَاحَة والمُسْتَطَاعَة لذلك، وأنَّ أهل الباطل والشرّ لابُدّ حتما سيَنهزمون يوما ما، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مناسبا مُسْعِدا لأهل الخير ومَن حولهم (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل)، فالنصر مِن عند الله تعالي وحده (برجاء مراجعة الآيات (121) حتي (127) من سورة آل عمران، ثم الآيات (151)، (152)، (160) منها أيضا، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذه الآيات الكريمة فيها استكمال وتأكيد لبعض المعاني والدروس التي تُستَفاد من قصص الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وعاد وثمود وشعيب وغيرهم عليهم جميعا الصلاة والسلام وذلك لتكتمل الفوائد (برجاء مراجعة قصصهم في سورة الأعراف وهود وإبراهيم والمؤمنون والعنكبوت وغيرها، من أجل اكتمال المعاني)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)" أيْ وكما أرسلناك يا رسولنا الكريم محمد للدعوة لله وللإسلام، بعثنا قبلك رسولنا الكريم موسى (ص) للناس حوله بدلالاتنا الواضِحات القاطِعات الدامِغات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقه أم آيات في الكوْن حولهم أرشدهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في التوراة تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. وفي هذا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول (ص) وللمسلمين من بعده أنَّ النصر والعِزَّة والمَكَانَة في الأرض لهم حتما لا لأعدائهم، في دنياهم، ثم أخراهم، كما حَدَثَ مع موسي (ص).. ".. أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.." أيْ أرْسَلْناه وأوْصَيْناه كما أوْصَيْناك وكل الرسل أنْ أخرج قومك والناس من الظلام سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أيْ عبادة لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، خُذْهُم من كل هذا السوء وضَياعه وتَخَبّطاته – كالتي تَحْدُث للسَّائِر في الظلام – وتعاساته في الدنيا والآخرة، إلي النور، نور الإيمان، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ خالِدٍ لا يُوصَف، وذلك من خلال حُسْن دعوتهم لله وللإسلام بكل قُدْوَةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. إنه تعالي بما أوْحاه إليه من التوراة وما فيها من إسلامٍ يُناسب زَمَن الناس حينها يُخْرِجهم مِن التعاسات الناتِجَات عن الشرور والمَفاسد والأضرار بكلّ أنواعها إلي السعادات التامّات في الداريْن الناتجات عن الخير بكلّ أنواعه، أي يُيَسِّر لهم ويُوَفّقهم لكل خيرٍ ويَمنعهم مِن أيّ شرّ، ويَجعلهم يسْتَمِرّون علي ذلك ما داموا مُسْتَمِرِّين هم علي دوام تمسّكهم وعملهم بأخلاق إسلامهم.. ".. وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ.." أيْ وكذلك أوْصَيْناه أنْ ذَكّرْهم أيْ عِظْهم بأيام الله أيْ بما كان في أيام الله مِن نِعَمِه التي لا تُحْصَيَ في أيامهم علي المؤمنين المُحْسِنين ليشكروا ليزيدهم منها ومِن عذابه الذي لا يُوصَف في الداريْن للكافرين المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُسِيئين السابقين ليَحذروه بأنْ يُؤمِنوا ويُحْسِنوا ليسعدوا فيهما.. ".. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)" أيْ إنَّ في ذلك الإخراج من الظلمات إلي النور وذلك التذكير بأيام الله حتماً بالتأكيد لَدلالات واضِحات قاطِعات حاسِمات وعِظات ودروس – واللام للتأكيد – لمَن أراد الاتّعاظ ليسعد في الداريْن حيث تدلّ كل عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي وجود الله تعالي الخالق الكريم الرحيم القويّ المتين القادر علي كل شيء الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة وعلي أنه المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده وشَكَره سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. لكن لا ينتفع بهذه الآيات إلا كلّ صَبَّار شكور والمقصود كل مؤمنٍ عاقلٍ أحسنَ استخدام عقله لأنه هو الذي يتدبَّر فيها فتزيده حتما يقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقه وتزيده حبا له وقُرْبا منه وطَلَبَا لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوّته ورزقه ونصره وسعادته في الدنيا والآخرة، ولأنّه من أهم صفاته أنه صَبَّار شَكور أيْ كثير الصبر كثير الشكر، أيْ هو دوْما من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خيرٍ ويتركون كلّ شرّ وإن أصابتهم فتنة ما أي اختبارٌ أو ضَرَرٌ ما صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، وهو دَوْمَاً كثير الشكر أيْ من الشاكرين دائما لربهم علي نِعَمه والتي لا يُمكن حصرها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وعد سبحانه ووعده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. بينما المُكَذبون المُعَانِدون المُستَكْبِرون المُصِرُّون علي ما هم فيه من سوءٍ لا ينتفعون بها لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة والتي هي مسلمة أصلا والتي بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها، ولعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ويُسْلِموا.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قال موسي لقومه الذين أوْصَيْناه بإخراجهم من الظلمات إلى النور علي سبيل النصح والإرشاد تذكّروا دائماً نِعَم الله التي أنعمها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، حين أنقذكم مِمَّا كنتم فيه من البلاء العظيم حيث استعبادكم من فرعون ملك مصر الظالم وأهله وأعوانه من أصحاب النفوذ والسلطان الذين كانوا يَسُومونكم أيْ يُذِيقُونكم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والإهانة ونحوها والجسديّ باستخدامكم عبيداً مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك بل وكانوا يُذَبّحون أبناءكم لإضعاف قوّتكم فلا تُطالِبون بحقوقكم ويَسْتَحْيُون نساءكم أيْ يُبْقُونهنّ أحياء للخدمة ولِيَكُنَّ جوارِي عندهم.. ".. وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)" أيْ وفي هذا العذاب اختبار لكم من ربكم وفي إنقاذكم منه عطاء وخير عظيم، يَتَطَلّب شكره تعالى بأنْ تتمسّكوا بعبادته وحده وتعملوا بأخلاق الإسلام ليزيدكم خيراً وسعادة، لا أن تعبدوا غيره كأصنامٍ وغيرها!.. هذا، والبلاء في اللغة العربية يعني المصيبة والاختبار كما يعني النعمة والعطاء أيضا.. لقد ذَكّرهم بأنَّ شكر النعمة يُبْقيها ويزيدها ويُنَوِّعها، بينما كفرها، أيْ إنكارها، بل والكفر بالمُنْعِم سبحانه أيْ التكذيب بوجوده وعدم اتّباع شرعه الإسلام، لا بُدَّ حتما نتيجته عذاب شديد، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لمَن يكفر، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليشكر ربه علي نِعَمِه وأفضاله التي لا تُحْصَيَ والتي منها النجاة من ظلم الظالمين والانتصار عليهم وإسعاد الخَلْق بإهلاكهم والخلاص منهم والأمان والاستقرار للنفس والأهل والأعراض والأموال وللمجتمع عامة
ومعني "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)" أيْ هذا من قول موسي (ص) أو من قول الله تعالي.. أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين تَأَذّنَ أيْ أعْلَمَ ربكم أنه إذا شكرتم نِعَمَه التي لا تُحْصَيَ، بعقولكم باستشعار قيمتها وبألسنتكم بحَمْدِه وبأعمالكم بأن تستخدموها في كلّ خيرٍ دون أيّ شرّ، سيزيدكم نِعَمَاً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ حيث ستجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع، فذلك وَعْده الذي لا يُخْلَف مُطلقاً.. ".. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)" أيْ وإذا تَنَكّرْتُم لنِعَمِي فلم تعترفوا بها أو اسْتَصْغَرْتُموها أو نَسَبْتُموها لغيري أو نحو ذلك من أنواع الكُفْران والإنكار أو إذا وَصَلْتم لدرجة أن تكفروا بي أيْ لا تُصَدِّقوا بوجودي وبكتبي ورسلي وآخرتي وحسابي وعقابي وجنتي وناري فتفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظركم، فإنَّ نتيجة ذلك الحَتْمِيَّة المُؤَكّدَة درجة مَا من درجات العذاب الشديد الذي يُناسب سُوءكم، فسأُعَاقِبكم بسَحْب نِعَمِي منكم ومنعها عنكم بسبب سوء تعامُلكم معها فتَشْقون وتَتْعَسون، وسأُعَذّبكم في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم في الآخرة بما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم
ومعني "وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)" أيْ هذا بيانٌ أنَّ نَفْع الإيمان حيث كلّ خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن وضَرَر الكفر حيث كلّ شرٍّ وتعاسةٍ فيهما لا يعود إلا علي فاعل ذلك وليس بالقطع علي الله تعالي الذي لا ينفعه بأيِّ شيءٍ إسلامُ مسلمٍ ولا يَضُرّه كُفْرُ كافرٍ وعصيانُ عاصي.. أيْ وقال موسي لهم مُحَذّرَاً تحذيراً شديداً إنْ تَتَنَكّروا لنِعَمِ الله تعالي فلم تعترفوا بها أو اسْتَصْغَرْتُموها أو نَسَبْتُموها لغيره أو نحو ذلك من أنواع الكُفْران والإنكار أو إذا وَصَلْتم لدرجة أن تكفروا به أيْ لا تُصَدِّقوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدْتُم واستكبرتم واستهزأتم وفَعَلْتم الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظركم، أنتم ومَن في الأرض كلهم جميعا، فلن تَضُرُّوا الله حتماً بأيِّ شيءٍ وإنما ضَرَر وشقاء ذلك في الداريْن يعود علي مَن يفعل هذا، لأنَّ الله هو وحده بالتأكيد كامل الغِنَيَ – واللام للتأكيد – لا يحتاج لأيّ شيءٍ بل له كل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهو الذي يُغْنِي كلّ خَلْقه، ولن يتأثّر مُلكه بأيّ شيءٍ حتي ولو كفرَ الناس جميعا! فهو يُشَجِّعهم على الإيمان لا لحاجته سبحانه لذلك حتما ولكنْ لاحتياجهم الشديد هم له ليسعدوا به تمام السعادة في الداريْن وإلا لو كفروا لتعسوا تماما فيهما حيث الجميع يحتاجون احتياجا تامّا لربهم الرزّاق الوهّاب الكريم الرحيم في كل أوقاتهم وكل شئونهم ولولا رعاياته ورحماته وأرزاقه لأصابهم كلّ سوءٍ ولَتَعِسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. وهو تعالي حميد أيْ محمود مُسْتَحِقّ للحمد دوْما مِن كل خَلْقه علي كل نِعَمه ورحماته وتيسيراته وتشريعاته حتي ولو لم يحمده أحدٌ من البَشَر وسواء حَمَدَه الحامدون أم كفره الكافرون منهم، وهو أيضا كثير الحمد والشكر للمُحسنين فيزيدهم في مُقابِل إحسانهم القليل إحسانا وخيرا كثيرا، فتكون أمور دنياهم كلها محمودة مشكورة حَسَنَة النتائج سعيدة النهايات، ثم يكون لهم في أخراهم ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد
ومعني "أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)" أيْ هذا من بعض قول موسي (ص) لهم أو من قول الله تعالي لعموم الناس، وهو إرشادٌ لهم وللمسلمين ولكلّ عاقلٍ في كل زمانٍ ومكانٍ أن يأخذوا الدروس من التاريخ السابق وينتفعوا بما فيه، فما فيه من خيرٍ فعلوا مثله بما يُناسبهم وازدادوا منه وطوَّروه وسَعِدوا به، وما فيه من شرٍّ تجنّبوه تماما حتي لا يتْعَسوا به مثل تعاسة السابقين، فالتاريخ يحمل عِبَراً ودروسا وعظات وخبرات هائلة يمكنهم تحصيلها والاستفادة منها في أوقاتٍ قليلة وبجهودٍ بسيطة.. أيْ هل لم يَصِل إليكم، والاستفهام للإقرار أيْ لكي يُقِرُّوا هم بذلك، وللتحذير ليَنتبهوا لعلهم يَتّعِظون فيَستفيقون ويؤمنون حتي لا يكون مَصيرهم مِثْلهم، أيْ لقد وَصَلَ إليكم بالفِعْل خَبَرَ الذين من قبلكم السابقين لكم وسَمعتم عنهم واشتهرَت أخبارهم وتَنَاقَلتموها فيما بينكم ومَرَرتم علي بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرة مِمَّن كذّبوا وعانَدوا واسْتَكْبَروا واستهزؤا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار أمثال أمّة نوح (ص) التي كانت نهايتها الإغراق بالطوفان، وأيضا قوم عاد الذين كذّبوا رسولهم هوداً (ص) فأُهْلِكُوا بالرياح الشديدة، وثمود وهم قوم صالح (ص) حيث بتكذيبهم إيَّاه أخذتهم الرَّجْفَة أيْ أصابتهم بعذابها بسرعة وبشدّة أيْ أهلكتهم وأعدمتهم والرَّجْفَة هي الزلزلة والصَّيْحَة الشديدة المُدَمِّرة، والذين مِن بَعْدِهم أي الأقوام الذين جاءوا خَلْفَهم كقوم إبراهيم وقوم لوط وغيرهم والذين عُذّبُوا كذلك بسبب سُوئهم، مِمَّن لا يعلم ذواتهم وأحوالهم وأعدادهم وأماكنهم إلا الله لكثرتهم واختفاء أخبارهم وآثارهم.. ".. جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.." أيْ وليس لهم أيّ حجَّة! فلقد أحْضَرَت لهم رسلهم الكرام وأوْصَلَت إليهم بالفِعْل كل البَيِّنات أيْ كل الدلالات المُبَيِّنات الواضحات سواء أكانت مُعجزات تُؤَيِّد صِدْقهم أم آيات في الكوْن حولهم أرشدوهم لِتَدَبُّرها للاستدلال علي وجود ربهم في كل مخلوقاته المُعْجِزَة والتي لم يستطع أيّ أحدٍ أن يَتَجَرَّأَ ويقول أنه هو الذي خَلَقَها أم آيات في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجه، وقاموا بدعوتهم بكل قدوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة بكل الوسائل المُمْكِنَة وصبروا عليهم وعلي إيذائهم طويلا وكثيرا (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. ".. فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ.." أيْ هذا تعبيرٌ عربيٌّ يُفيد الرفض والتكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء، أيْ فلمَّا جاءتهم رسلهم بالبينات أَرْجَعُوا أيديهم في أفواههم – جَمْع فُوُه أو فَاه وهو الفَم – فعَضُّوها بأسنانهم بسبب غَيْظهم وغَضَبهم وكُرْههم مِن طَلَبهم منهم تَرْك عبادة آلهتهم وتَسْفيهها وتَرْك الشرور والمَفاسد والأضرار التي يفعلونها واتّباع أخلاق الإسلام وهذا مَظْهَر لأعلى درجات الغَيْظ يفعله البعض عند شِدَّة غَيْظه، أو وَضَعوا أيديهم علي أفواههم بما يَدلّ علي أنهم لن يَنْطِقوا أبداً بكلمة لا إله إلا الله ويُسْلِموا أو لن يقولوا إلا ما يقولونه دَوْمَاً لرسلهم أنهم كافرون، أو وضعوها علي أفواههم لكي يُخْفُوا ضحكهم واستهزائهم، أو أشاروا بأيديهم في أفواه الرسل – وليس أفواه أنفسهم هم – بمعني اصْمُتوا فلن نسمع منكم شيئاً ولن نستجيب لكم أيّ استجابة.. ".. وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)" أيْ ومع هذا الرَّدّ لأيديهم في أفواههم قالوا لرسلهم بكل تَبَجُّحٍ وغَضَبٍ وتأكيدٍ مُتَحَدِّين مُكَذّبين لهم مُعْلِنِين شِدَّة إصرارهم علي كفرهم وسُوئهم نحن كذّبنا بما بُعْثِتُم به من عبادة الله وحده ومن إسلامٍ ومن مُعجزاتٍ تُؤَيِّدكم فلم نُصَدِّق كل ذلك ولن نَتّبعه حيث نحن في شكّ أيْ عدم تَأَكُّد مُريبٍ مُستمرٍّ مِن هذا الذي تدعونا إليه – واللام للتأكيد – أي شكّ مُؤَدِّي إلي الرِّيبة أي إلي الشكّ، أيْ شكّ يؤدّي إلي مزيدٍ من الشكّ، أيْ شكّ كثير أكيد، شكّ في وجود الله وفي صدق كتبه ورسله وصلاحية إسلامه لإصلاح وإكمال وإسعاد البشرية كلها بكلّ مُتغيّراتها في دنياها وأخراها، وشكّ في وجود آخرة وبَعْث بالأجساد والأرواح للبَشَر مرة أخري بعد موتهم، وشكّ في وجود حسابٍ وعقاب وجنة ونار.. إنَّ كلّ ذلك الشكّ وعدم التأكّد الذي هم فيه ما هو إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم يَقصدون أنهم ليسوا متأكّدين من صِحَّة وصِدْق ما يدعونهم إليه كأنهم يقولون لهم: لا، إننا لن نستجيب لكم وإننا قد وجدنا آباءنا على عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة غير الله وإننا على آثارهم سائرون!
ومعني "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)" أيْ هذا استفهام وسؤال للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. أيْ قالت رسل هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين لهم هل يُتَصَوَّر ويُعْقَل ويُحْتَمَل أن يكون في وجود الله ووجوب عبادته وحده أيّ شكّ أيْ تَرَدُّدٍ وعدم تَأَكُّد وهو وحده خالِق السماوات والأرض وما فيهما من خَلْقٍ مُبْهِرٍ مُعْجِزٍ وهو خالقكم وخالق كل شيء في هذا الوجود وأوْجَده مِن عَدَمٍ علي غير مِثالٍ سابقٍ ولم يستطع أيُّ أحدٍ ولم يَجْرُؤ علي أن يَدَّعِيَ أنه هو الذي خَلَقه وبالتالي فاعبدوه أيْ فأطيعوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريكٍ وللإخلاص وللإحسان فيها (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني الإخلاص والإحسان في الآية (125)، (126) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وهذا هو الذي يَقْبله كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ ويُوافِق الفطرة بداخل هذا العقل والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.." أيْ وهو مِن عظيم رحمته وكرمه سبحانه الغفور الحليم الذي رحمته وَسِعَت كلّ شيءٍ ودائما تَسْبِق غضبه يدعوكم هو بذاته العَلِيَّة – وفي هذا إشعار لهم أنه سبحانه يُكْرِم الناس ويُعْلِي من شأنهم ويحبّهم فيُرْشِدهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن، وكذلك ليستشعروا الخوف والرهبة إنْ خالَفوا – من خلال رسله والمسلمين الدعاة من بعدهم لتؤمنوا ولتعملوا بشرعه الإسلام لكي يغفر لكم من ذنوبكم، أيْ فإنْ استجبتم لِمَا ندعوكم إليه من خيرٍ فإنَّ الله تعالي حتما يَعفو لكم عن ذنوبكم ويَغفرها أيْ يَسترها عليكم ويَمحوها كأن لم تكن ولا يُحاسبكم عليها، أيْ إنْ أطعتم فيما دَلَلْناكم عليه وأرشدناكم إليه فالنتيجة الحَتْمِيَّة المُسْعِدَة هي تمام السعادة في الدنيا والآخرة حيث في دنياكم تعيشون أسعد حياة بسبب إيمانكم بربكم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم بأن تكونوا في نور الإيمان، نور القرآن، نور الإسلام، حيث كلّ صوابٍ منه تعالي ورعايةٍ وأمنٍ وحب ورضا ورزق وعوْن وتوفيق وقوة ونصر وسعادة، وكل ذلك سيكون في إطار رحمته التي وَسِعَت كلّ شيءٍ مُتَمَثّلة في كلّ خير وسرورٍ دنيويٍّ ثمّ كلّ غفران وعطاءٍ أخرويّ حيث سيَغفر لكم ذنوبكم بتوبتكم إليه بالاستغفار باللسان وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين لأنه تعالي غفور أيْ كثير المغفرة يعفو عن الذنوب ولا يُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أي كثير الرحمة حيث رحمته وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب).. هذا، ولفظ "مِن" يُفيد حُسن التأدُّب في التعامُل مع الله تعالي حيث تَرْك مغفرة الذنوب له وهو أرحم الراحمين حسبما يراه برحمته التي وَسَعَت كلّ شيءٍ وتَسْبِق دائما غضبه فقد يَغفرها كلها أو يُحاسِب علي بعضها لأنه كان يَحتاج إلي توبةٍ ولم يُتَب منها ولم تُرَدّ الحقوق لأصحابها وما شابه ذلك.. ".. وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى.." أيْ ولكي يُطِيل آجالكم في دنياكم إلي أجلٍ مُسَمَّي – بسبب إيمانكم – أيْ إلي موعدٍ مُحَدَّدٍ مُعَيَّنٍ هو وقت موتكم بأنْ يُبَارِكَ لكم في أعماركم فيها بأن يجعلها كلها في خيرٍ وأمن وسعادة بأنْ يُيَسِّرَ لكم فِعْل أعمال خيرٍ مُسْعِدَةٍ كثيرةٍ في أوقات قليلة.. فبهذا تكون آجالهم كأنها قد طالَت حيث لا يزيد الله أحداً وقتاً عن الأجل الذي حَدَّده له في دنياه (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (3) من سورة هود "وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. كذلك من المعاني أنه يَتْرُككم إلى وقتٍ معلومٍ عنده تنتهى بانتهائه أعماركم دون أن يُعَجِّل لكم عذابا يستأصلكم رحمة بكم وأمَلَاً في توبتكم (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك).. ".. قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا.." أيْ قال المُكَذّبون لرسلهم، مُكَذّبين مُعانِدين مُستكبرين مُستهزئين مُصِرِّين علي ما هم فيه، ما أنتم إلا بَشَر مثلنا ولستم ملائكة أو لكم فضل علينا بل نحن أفضل منكم من حيث المال والمَكَانَة ونحو ذلك! ولم يُنزِل الله أيَّ تشريعٍ لتوصلوه لنا ولو أراد إرسال تعاليمه وإرشاداته ووصاياه لَكَانَ أرسلها مع ملائكته! فأنتم إذَن كاذبون! وبالتالي فنحن في المُقابِل مُكَذّبون بما أرْسِلتم به إلينا!!.. إنهم يُراوِغون ويَدَّعون كذباً مَكشوفاً أنهم يريدون أن يكون الرسول مَلَكَاً وليس بَشَرَاً مثلهم مِن بينهم وسيُؤمنون به مباشرة إذا كان كذلك! رغم أنَّ أمرهم هو الذي يستحِقّ التَّعَجُّب والاسْتِغْراب! لأنّ إرسال رسول من بين البَشَر لهم هو من رحمة الله تعالي بالبَشَرِيَّة ليكون مِن بينهم ويعرفونه فيَثقون به وبحُسن خُلُقه ويُطَبِّق الإسلام أمامهم عمليا فيَسهل عليهم هم أيضا تطبيقه ليسعدوا به تمام السعادة في حياتهم ثم آخرتهم بينما لو كان مَلَكَاً لاسْتَثْقَلَ بعضهم الأمر علي اعتبار أنَّ المَلَك له قدْرات تُمَكنه من تطبيقه أمّا البَشَر فلا يُمكنهم التطبيق!.. إنهم لو كان جاءهم رسول من الملائكة لَطَلَبوا رسولا من البَشَر!! لأنّ الأمر ليس في إرسال رسولٍ مِن البَشَر أو الملائكة وإنما في مُرَاوَغتهم وتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم! في عقولهم التي عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا.." أيْ وأنتم بما جِئْتُم به وتَدْعُوننا إليه من عبادة الله وحده واتّباع أخلاق دين الإسلام تريدون أن تمنعونا عن دين آبائنا، عن ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام والكواكب وغيرها من الآلهة أيْ المَعْبُودات، والرسل الكرام بالفعل يريدون ذلك ولكن لتمام مصلحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم وليس لشيءٍ آخر، وهؤلاء المُكَذّبون يريدون بذلك إيقاظ العَصَبِيَّة بداخلهم فهي التي ستُحرّكهم ضِدَّ رسلهم لأنهم متأكّدون تماما من صِدْقهم ومن صِدْق ما جاءوهم به من كتبٍ من الله تعالي فيها الإسلام الذي يُناسِب زَمَنهم وأنّ أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لابُدَّ أنه سيَتّبعه وسيستجيب لنداء الفطرة بداخل عقله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة) فيُريدون المُسَارَعَة بتحريك عَصَبِيَّتهم والتذكرة بها لغيرهم والتي ستَعميهم عن الحقّ قبل أن يَتَّبع بعضهم الإسلام فيَخسروا مصالحهم كالأموال والمناصب وغيرها من أثمان الدنيا الرخيصة والتي هي الأغشية التي تُغَطّي عقولهم فلا يُحسنون استخدامها، وهم يُثيرون هذه العَصَبِيَّة لأنهم يُدركون تماما أنهم ليس لديهم أيّ دليلٍ أو مَنْطِقٍ علي صِحَّة ما هم فيه من عبادة غير الله تعالي.. ".. فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)" أيْ فإنْ كنتم صادقين فيما تَدَّعُونه فأحضروا لنا دليلاً واضحاً قوياً يشهد لكم علي صِدْقكم ويُعطيكم سُلطاناً ونُفُوذَاً مُؤَثّراً علينا.. وهم حتماً كاذبون في هذا ومُرَاوِغُون لكي لا يُسْلِموا ويَستمرّوا علي سُوئهم لأنَّ كلَّ رسولٍ كان يأتي مُؤَيَّدَاً من الله تعالي بمُعجزاتٍ تُناسب زمنه ليُصَدِّقوه كما أخْبَرَ بذلك كثيراً القرآن الكريم
ومعني "قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)" أيْ هذا بيانٌ لكيفية مُقابَلَة الرسل الكرام لسَفَه السفهاء بكلّ حِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ليَقتدي بهم كل مسلم ليكون كذلك لينال مثلهم خيْرَيّ الدنيا والآخرة.. أيْ قالت لهم رسلهم ما نحن إلا بَشَرٌ مثلكم تماما بالفِعْل حقاً وصِدْقاً كما تقولون وما لا تستطيعونه أنتم لا نستطيعه نحن فنحن نوافقكم كل المُوَافَقة علي ذلك ولكنَّ هذا التّمَاثُل بيننا وبينكم فى البَشَرِيَّة لا يمنع مُطلقاً مِن أنْ يَتَفَضَّل الله على مَن يشاء التّفَضُّل عليه مِن عباده بما يريده مِن نِعَمه التي لا تُحْصَيَ مِن توفيقٍ وتيسيرٍ وحكمةٍ وعلمٍ وهدايةٍ وأرزاقٍ متنوّعةٍ ومنها أن يجعله رسولاً منه للناس ليُعَلّمهم الإسلام الذين يسعدون به في الداريْن.. فالمقصود تصحيح مفهومهم بتوضيح أنَّ البَشَرِيَّة لا تمنع أن يكون البعض رُسُلَاً يختارهم الله مناسِبِين لذلك لاكتمال أخلاقهم.. ".. وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.." أيْ هذا ردٌّ علي قول المُكَذّبين سابقاً للرسل فأتونا بسلطان مبين.. أيْ وقال الرسل للمُكَذّبين لا يكون مُتَصَوَّرَاً ولا يُعْقَل ولا يَصِحّ ولا يَلِيق ويَسْتَحِيل لنا نحن الرسل أن نُحْضِرَ لكم أيَّ سلطانٍ أيْ دليلٍ علي صِدْقنا أو مُعجزة تطلبونها أنتم غير الذي جئناكم به من خالقكم مناسبا لكم إلا بإذن الله أيْ إلا بفضله ورحمته وتوفيقه وتيسيره وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده، فإنَّ هذا ليس بأيدينا وليس لنا من الأمر شيء فهو الذي إنْ شاء جاءكم به وإنْ شاء لم يفعل، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه بحكمته وعلمه وقُدْرته صالحاً مُسْعِدَاً لخَلْقه.. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)" أيْ وبالتالي، ولذلك، على الله وحده لا على غيره، فَلْيَعتمد إذَن المؤمنون الذين نحن أوّلهم أيْ المُصَدِّقون بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره العاملون بأخلاق إسلامه تمام الاعتماد وهو حتما سيكفيهم كفاية تامّة ولن يحتاجوا قطعا غير ذلك أو أفضل منه أنَّ الله تعالي خالقهم القويّ المتين القادر علي كل شيء الودود المُحِبّ لهم الرحيم بهم هو وكيلهم، أيْ الحافظ لهم المُدافِع عنهم، فهل يحتاجون وكيلا آخر بعد ذلك؟!! فليكونوا دائما من المتوكّلين أيْ المُعتمدين عليه سبحانه مع إحسان اتِّخاذ الأسباب المُمْكِنَة المُتَاحَة المُبَاحَة لا الحرام، وليطمئنوا اطمئنانا كاملا وليستبشروا ولينتظروا دائما كل خير ونصر وسعادة في دنياهم ثم أخراهم.. وعلي غير المؤمنين المَحْرومين من سعادة وأمن هذا التوكّل التُّعَسَاء البُؤَسَاء أن يُسارعوا بالإيمان ليسعدوا هم أيضا في الداريْن
ومعني "وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)" أيْ وكيف لا نتوكّل علي الله وأيّ شيءٍ يَمنعنا من التوكّل عليه والحال والواقع أنه قد فَعَلَ معنا ما يُوجِب ويُؤَكّد التوكّل عليه حيث قد هدانا أيْ أرْشَدنا سُبُلَنا أيْ طُرُقنا أيْ أرشدنا إلي الطرق التي تُؤَدِّي بنا إلي طريقه، طريق الإسلام، طريق الحقّ والعدل والاستقامة، طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وليس طريق الظلم والشرّ والتعاسة فيهما، وذلك من خلال ما أرسله لنا ولكم وللناس جميعا من دين الإسلام ومن خلال ما أعطاهم من عقولٍ تُؤمِن به وتَتّبع دينه إذا أحْسَنَت التفكير وكانت مُنْصِفَة عادِلَة ومن خلال ما وضعها فيها من فطرةٍ هي مؤمنة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. ".. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد لهم علي توكّلهم علي ربهم وتمسّكهم بإسلامهم، مع إضافة تَيْئيسهم من تأثّرهم بإيذائهم، لثقتهم التامّة بربهم أنه يَكفيهم ويُثيبهم.. أيْ وبالتأكيد سنَصْبِر بعوْن الله وتوكلنا عليه – واللام للتأكيد – علي ما آذيتمونا بكل صور الإيذاء المختلفة القولِيَّة والفِعْلِيَّة مِن تكذيبٍ واستخفافٍ واستهزاءٍ وإعراضٍ ومنعٍ لنشر دعوة الإسلام وجدالٍ وعِنادٍ واستكبارٍ ومُرَاوَغَة وتجريح وتشنيع ومحاولاتِ اعتداءٍ وقتلٍ وما شابه هذا، وسيكون صبرنا صبراً جميلاً أيْ صبراً فيه استسلام لأمره تعالي ليس فيه أيّ رفضٍ أو ضَجَرٍ أو سخطٍ داخليّ أو شكويَ لأحدٍ مع كل الرضا والتوكّل والاعتماد عليه وحده ودعائه فهو الذي يُسْتعان به دائما في كل الأحوال خاصة عند الشدائد وطَلَب الصبر علي الأذي، وهو صبرٌ إيجابيٌّ ليس سَلْبِيَّاً حيث فيه اتّخاذ كل الأسباب المُمْكِنَة لمقاومة ما حَدَث وتخفيف الأضرار وتحسين الأوضاع وعلاج الأسباب والبحث عنه قَدْر المُسْتَطَاع، وهو صبرٌ فى حاضرنا ومستقبلنا (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (111) من سورة آل عمران "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى..")، وبالجملة سنكون حتماً بإذن الله من الصابرين أيْ الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسّكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)" أيْ هذا مزيدٌ ومزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره، واستخدام ذات الألفاظ كما في آخر الآية السابقة (برجاء مراجعة تفسيرها) هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها، مع استخدام لفظ "المتوكلون" وهو يعني المؤمنين ويشملهم قطعاً ولكن استخدامه يُفيد أنه مَن كان مُتَوَكّلاً في أمره على غيره سبحانه فليتوكّل عليه وحده فإنه حتماً لا يكون التوكّل إلا عليه، كما أنَّ اللفظ هو لإبراز صفة هامة من صفاتهم وهي التوكّل ليتمسّكوا ويعملوا بها دائما ويستمروا عليها ولا يتركوها أبداً ليسعدوا في الداريْن
ومعني "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)" أيْ وقال الذين كفروا أي كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، لرسلهم الكرام رَدَّاً علي نصائحهم ووصاياهم لهم، بكل تَكَبُّرٍ وغرورٍ وعِنادٍ وإعلانٍ لتكذيبهم وإصرارٍ علي سُوئهم وبكل غِلْظةٍ وغضبٍ وتهديدٍ وتأكيدٍ، سنُخرجكم ونَطردكم بالتأكيد – واللام والنون للتوكيد – يا أيها الرسل والمؤمنين معكم من بلدنا أو تَرْجعوا إلي ديننا الذي نحن عليه فتكفروا بربكم وتتركوا دينكم الإسلام وحينها لا نفعل ذلك ونترككم بيننا، فاختاروا بين هذين الأمرين.. إنهم لم يكن لديهم أيّ جوابٍ عقليّ مَنْطِقيّ علي الكلام العقليّ المَنطقيّ الذي قاله لهم رسلهم الكرام، وبدلا أن يُحسنوا استخدام عقولهم ويستجيبوا له ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، إذا بهم يُجيبون عليهم جواب المُفْلِس حينما يَخسر معركة فكريّة ويكون صاحب قوة فإنه ينتقل سريعا إلي استخدام قوّته كمحاولةٍ أخيرةٍ للقضاء علي مَن يُحاوره ومنعه مِمَّا يدعو إليه!.. ".. فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ فهُنَا حين وَصَلَ الإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار أقْصَاه أَوْحَيَ الله إلي الرسل سأُهْلِك بالتأكيد أيْ سأُبِيد وأُفْنِي وأُزيل وأُدَمِّر وأتْلِف الظالمين، بسبب إصرارهم علي ظلمهم، بطرق الإهلاك والعذاب المُتَعَدِّدَة، كالزلازل والصواعق والبراكين والسيول والأوبئة والحروب والصراعات فيما بينهم ونحو ذلك، في التوقيت وبالأسلوب الذي نراه مُناسباً مُسْعِدَاً للمؤمنين الصالحين.. هذا، واللام للقَسَم والنون للتوكيد في لفظ "لنُهلكنّ" حيث يُقْسِم تعالي بذاته العَلِيَّة وهو لا يحتاج حتماً لقَسَمٍ لتأكيد تنفيذ ما يريد بقول كُنْ فيكون ولكن لمزيدٍ من الطمأنة للمؤمنين والإرهاب للكافرين.. والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
ومعني "وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)" أيْ ونُقْسِم كذلك أننا بالتأكيد سنُسْكِنكم يا رسلنا ويا مسلمين أرضهم وغيرها مِن بعد إهلاكهم، بفضلنا وتوفيقنا ورحمتنا ورزقنا وحكمتنا وعِلْمنا، أي سنُمَكّنكم منها تَنتفعون وتَسعدون بخيراتها وتُديرونها بنظام الإسلام ليسعد الجميع بذلك في الداريْن.. فاسْتَبْشِروا دائما خيراً أيها المسلمون بنصر الله لكم في كلّ شئون حياتكم ما دُمْتم دوْما مُتمسّكين عامِلين بكل أخلاق إسلامكم.. ".. ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي.." أيْ وذلك الإهلاك المُتْعِس للظالمين والتّمْكِين المُسْعِد للمؤمنين الصالحين في الأرض سيَحْدُث حتماً مُؤَكّدَاً لمَن أحسنَ التَّعامُل مع مَقامي العالِي العظيم فأحسنَ اللجوء إليَّ والتوكّل أيْ الاعتماد عليّ والتمسّك والعمل بوصاياي كلها في شرعي وأحبَّني وطَلَب رعايتي ورضاي وحبي وأمني وتوفيقي ورزقي وقُوَّتي ونصري وإسعادي في دنياه واتَّخذني وَلِيَّا لأموره أديرها له علي أكمل وجهٍ مع إحسان اتِّخاذه لأسباب ما يريد في حياته، وهو مع كل ذلك يخاف مقامي أيْ رقابتي عليه فيفعل كلّ خيرٍ ويترك كل شرّ، كما يخاف المقام بين يديَّ يوم القيامة فيُحسن الاستعداد لذلك بالتمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه ليدخل أعلي درجات جناتي.. ".. وَخَافَ وَعِيدِ (14)" أيْ وخاف وعيدى – والوعيد يعني الوَعْد لكنْ بالشرِّ والتعاسة لا بالخير والسعادة – أيْ تهديدي أيْ وَعْدِي بعقابي وبعذابي في الداريْن لمَن عصانِى بما يُناسب سُوئه، والذي ذَكَرْتُه علي ألْسِنَة رُسُلي وفي كُتُبي وآخرها القرآن العظيم، فأَدَّيَ به ذلك إلي طاعتي باتّباع شَرْعي الإسلام لا غيره (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (55) من سورة النور "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)" أيْ وطَلَبَ ودَعَا وسَأَلَ الرسلُ الكرام والمسلمون معهم ومِن بعدهم الله تعالي الفتح، بمعني الحُكْم بينهم وبين المُكَذّبين بحُكْمه العادل، وبمعني النصر، أيْ دعوه أنْ يُجازِي أهل الخير بكلّ خيرٍ وسعادة وأهل الشرّ بما يَسْتَحِقّونه من كل شرٍّ وتعاسة وينصرهم عليهم ويهزمهم ويُمَكّن للمسلمين في الأرض يُديرونها بنظام الإسلام فيسعدوا بذلك في الداريْن، فاستجاب لدعائهم في التوقيت وبالأسلوب الذي رَآهُ مُناسباً مُحَقّقاً لهم أفضل وأسعد النتائج، فرَبِحُوا، حيث أَعَزّ الإسلام وأعَزّهم وأعْلاهم ونَصَرهم وأسعدهم في دنياهم وأخراهم، وخابَ أيْ خَسِرَ فيهما أعظم خسارة حيث الهزيمة والتعاسة التامّة كل جَبَّارٍ أيْ مُتَكَبِّر شديد التّكَبُّر أيْ مُتَعَالي مُتَطَاوِل علي الله تعالي وعلي دينه الإسلام وعلي الناس يَحتقرهم ويذلّهم ولا يُعطيهم حقوقهم ويريد إجْبار غيره وإرْغامه علي ما يريده هو بكلّ ظلمٍ وعدوان وإيذاء وحتي تهديدٍ بقتل.. عَنِيدٍ أيْ كثير شديد العِناد أيْ مبالغٍ في مُعارَضَة ومُدَافَعَة ومُخَالَفَة الحقّ مُصِرٍّ علي عدم اتّباعه مُتَمَادِي في ذلك مع علمه التامّ بداخل عقله بأنه حقّ.. هذا، وكل جبَّارٍ عَنيدٍ يشمل الكافرين أمثال الذين سَبَقَ ذِكْرهم وكذلك غيرهم مِمَّن تَجَبَّر وعانَدَ مهما كان دينه إذ لابُدَّ أن يَخيب مِثْلهم مُؤَكّدَاً.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ المُكَذّبون المُعانِدون هم أيضا طلبوا الفتح بمعني طَلَبُوا حُكْم الله فيهم الذي يَعِدُهم به رسلهم والمسلمون إذا كذّبوا ولم يُسْلِموا، أيْ طلبوا عذابه، فهم يستعجلونه لأنهم لا يُصَدِّقونه ويَستهزؤن به! وإنْ لم يأتهم فالرسل والمسلمون إذَن كاذبون وبالتالي فهم لن يؤمنوا! وهذا مثلما قالوا في الآية (32) من سورة الأنفال "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)"، والآية (29) من سورة العنكبوت ".. قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)" (برجاء مراجعة تفسيرهما لتكتمل المعاني)، وقد خابوا وخَسِروا في الداريْن حيث سيأتيهم عذابه سبحانه حتماً يوماً مَا علي قَدْر سُوئهم
ومعني "مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)"، "يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)" أيْ تَنتظره أمامه وراء حياته التعيسة بعد هلاكه هذا الجَبَّار العنيد وأمثاله نار جهنم يوم القيامة بعذابها الذي لا يُوصَف يُلْقَيَ فيها مُعَذّبَاً ويُؤْمَر قَهْرَاً كصورةٍ من صُوَر بعض عذابه أنْ يشرب من ماءٍ ليس كالماء المعروف ليَرْوي به عَطَشه لكنه من ماءٍ هو صديد وهو السائل الكَرِيه الرائحة والمَنْظر لاختلاطه بالدماء والأنسجة التي تخرج من جروح وتَقَرُّحات أجساد المُعَذّبين بالنار.. "يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)" أيْ يَبْتَلِع هذا الماء الصديد جرْعَة ودَفْعَة بعد أخري بعُسْرٍ وبعذابٍ شديد – ولا يشربه بمَصٍّ كما يشرب العطشان المُسْتَمْتِع بما يشربه والذي يَرْوِي عَطَشَه – ولا يَكاد أيْ لا يَقْتَرِب مِن أنْ يُسيغه لأنه لا يمكن اسْتِسَاغَته أيْ سهولة بَلْعِه وقبوله واسْتِطْعامه بل يَقذفه لحَلْقِه من شِدَّة سُوئه ثم هو لا يَسْرِي بيُسْرٍ بل يَتَحَشَّر فيه لأنه نَتِن الرائحة قَذِر الطعم يُقَطّع أمعاءه من عظيم قَذَارته ومَرَارَته وحَرارَته.. ".. وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)" أيْ هذا بيانٌ لصورةٍ أخري من صُوَر عذابه الذي لا يُحْتَمَل.. أيْ ويَصِلُه أسباب الموت من كل جِهَةٍ ومن كل مَوْضِعٍ في جسمه من خلال ما يُعَذّب به، ولكنه لا يموت فيستريح من عذابه، ومن وراء كل هذا العذاب، ومن وراء هذا الجَبَّار العنيد أيْ يَنتظره، عذابٌ غليظٌ أيْ فظيعٌ ثقيلٌ شديدٌ مُخيفٌ مُهْلِكٌ مُذِلٌّ مُهِينٌ لا يُمكن تَخَيّله ولا تَجَنّبه والهروب منه ولا يُقارَن في ألمه وتعاسته بما هو فيه من ألمٍ وتعاسة.. إنه لن يموت حتي يستريح من عذابه بالموت بل يَبْقَيَ هكذا في عذابٍ دائمٍ مُستمِرٍّ مُتَنَوِّعٍ في كل لحظةٍ إلي ما شاء الله علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره بلا أيِّ أملٍ في أيِّ خيرٍ بل هو في يأسٍ وشقاءٍ تامّ
ومعني "مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ حالُ وشَبَهُ أعمال الذين كفروا بربهم أيْ الذين كذّبوا بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، ومَن يَتَشَبَّه بهم، مِن حيث أنهم في الآخرة لن يجدوا لأعمالهم أيّ أثَرٍ وكأنهم لم يعملوا شيئاً في حياتهم وليس لهم أيّ ثواب بل سيجدون كل شرّ يُناسب مَا يَسْتَحِقّونه لأنَّ أعمالهم معظمها كانت في شَرٍّ لأنهم لم يؤمنوا بآخرةٍ أو حسابٍ أصلاً، وحتي ما فعلوه من خيرٍ فهو غالباً أو دائماً مُرْتَبِط بشَرٍّ مَا كأنْ يفعلوه رياءً للناس أيْ لكي يَروا منهم ذلك فيَمدحوهم أو يمتنعوا عن ذمِّهم ولا يريدون به رضا الله وعوْنه وإسعاده لهم في الدنيا ولا ثوابه في الآخرة لأنهم يكفرون أيْ يُكَذّبون به وبها من الأصل، ولو كانوا فعلوا خيراً مَا صافِيَاً بصِدْقٍ فقد أعطاهم الله في دنياهم بعدله خيراً يُناسبه ويزيد عليه فلا شيءَ لهم إذَن في أخراهم فقد أخذوا حقّهم، فحال أعمالهم لذلك بالتالي كحالِ رمادٍ – وهو غُبار يَتَبَقّيَ بعد احتراقِ شيءٍ مَا – اشتدت لتفريقه الريح، في يوم عاصفٍ أيْ شديد الرياح والعواصف التي تَعْصِف بكل شيءٍ أيْ تُهْلكه، فأزاحته فلم تترك له أثراً.. ".. لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ.." أيْ فبالتالي أمثال هؤلاء لا يستطيعون تحصيل شيءٍ مِن نِفْعٍ مِمَّا عملوا يَتَمَثّل في خَيْرَيِّ وسعادَتَيِّ الدنيا والآخرة وذلك لأنه بسبب كفرهم مَنَعَ الله تعالي نفعها عنهم في الداريْن.. هذا، وهو سبحانه من رحمته وهو الذي لا يظلم مثقال ذرَّة إذا فَعَلوا خيراً حقيقياً يُعطيهم مقابله في دنياهم مالا وصحة ومَكَانَة وغيره، لكنهم بالقطع لا يستطيعون الانتفاع بأيِّ شيءٍ من ثوابٍ في الآخرة لأنهم لم يُصَدِّقوا بها ولم يريدوها ويعملوا لها أصلا.. ".. ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)" أيْ ذلك الكفر والعمل لغير الله تعالي وذلك الحال السَّيِّء التعيس للكفار وذلك الذهاب لأعمالهم وعدم انتفاعهم بشيءٍ منها بسبب كفرهم هو حتماً الضياع الكبير الشديد حيث هم بعيدون كلّ البُعْد عن الحقّ والصدق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة والذي هو طريق الله، لأنهم لم يَعْبُدوا أيْ لم يُطِيعوا الله تعالي ربهم أي مُرَبِّيهم وخالِقهم ورازِقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام.. وهو كذلك حتماً الضلال البعيد لأنهم يفعلون كل الشرور والمَفاسد والأضرار لأنهم يَتَوَهَّمون أنْ لا حساب! وبالتالي ستجدهم دائماً وحتماً في دنياهم في صورةٍ مَا من صور العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين، وبالجملة في كلّ ألمٍ وكآبةٍ وتعاسة، ثم في أخراهم سيكون لهم قطعاً ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم وأخلد.. وما كلّ ذلك إلاّ لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابداً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مُوقِنا أيْ متأكّدا تماما بلا أيّ شكّ بالبعث بعد الموت ليوم القيامة حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فعلتَ، وإذا كنت مِمَّن يتذكّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن ينفع أحدٌ أحدا، وإذا كنت مُتذكّرا للموت بين الحين والحين وبتَوَسُّط واعتدال، فإنَّ هذا حتما سيَدْفع كل عاقلٍ لأن يُحْسِن الاستعداد لذلك بفِعْل كلّ خيرٍ وترْك كلّ شرّ علي الدوام (برجاء مراجعة الآية (7)، (8) من سورة يونس، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وذلك من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، للشرح والتفصيل)، وسيَدْفعه أيضا لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل).. إنه وَعْد الله الحقّ الذي لا يُخْلِف وَعْده مُطْلَقَا.. هذا، ومِمَّا يُعِينك علي اليقين بالبعث تَدَبُّر النوم حيث يَتَوَفّي الله الأنفس ثم اليقظة حيث يُعيد لها أرواحها وتدبُّر إحياء الأرض بعد موتها أيْ إنبات النبات منها بعد أن كانت مَلْسَاء لا حياة فيها، وكذلك تَدَبُّر بَدْء خَلْق الأَجِنَّة وتطوّرها، فمَن خَلَقها أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يعيدها مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عدم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبعثه بعد موته!
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)"، "وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم أنَّ الله تعالي وحده لا غيره خَلَقَ السماوات والأرض أيْ أوْجَدهما من عدمٍ علي غير مثالٍ سابِقٍ – بكلّ ما فيهما مِن مخلوقاتٍ مُعْجِزَةٍ مُبْهِرَةٍ – بالحقّ، أي بكلّ حِكْمَة ودِقَّة ودون أيّ عَبَثٍ وعلي أكمل وجهٍ يَحِقّ أن تُخْلَق عليه بما يُناسب عظمته وقدرته سبحانه، ومِن أجل الحقّ أي لكي يُعْرَف تعالي وتُعْرَف خيراته ويَنتفع ويَسعد بها خَلْقه، ولكي تسير بالحقّ أي بالعدل أي بالإسلام لأنَّ خالقها هو الحقّ، تعالي عمَّا يُشركون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)"، "وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)" أيْ ومَنْ قَدَرَ على هذا كان حتماً قادراً تمام القُدْرَة علي إذهابكم وإنهائكم من الحياة الدنيا في أيّ وقتٍ أيها الناس إنْ لم تعبدوه أو عَصَيْتُموه، بقوّته سبحانه التي تَرَوْنها وتعرفونها كموتٍ أو مرضٍ أو خَسْفٍ أو غَرَقٍ أو غيره، والإتيان بعدكم بخَلْقٍ جديدٍ آخرين من ذرِّيَّاتكم وذرِّيَّات غيركم كما خلقكم أنتم، فيعبدوه وحده ولا يشركون معه آلهة أخري ويؤمنون به ويتمسّكون بإسلامهم، وهذا أمرٌ سهْلٌ مَيْسُورٌ علي الخالق سبحانه وليس بعزيز أي صعبٍ أو بعيد مُتَعَذّر مُمْتَنِع التّحقّق.. فانْتَبِهوا لهذا واعبدوه وحده وتوكّلوا عليه وحده وتمسّكوا بكل أخلاق إسلامكم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. إنه تعالي قطعا قادرٌ علي إهلاك المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين لإراحة أهل الخير من شرورهم وأضرارهم ومَفاسدهم، ولكنه من رحمته يتركهم الفرصة بعد الأخري لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولدينهم حيث تمام الخير والسعادة في الداريْن (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالاستئصال التامّ من الحياة).. وفي هذا طَمْأَنَة لأهل الخير أنّ ربهم معهم يُعينهم وينصرهم ويهلك أعداءهم.. إنه تعالي بالقطع قادرٌ كلّ القدْرة علي استبدال كلّ شرٍّ في هذه الحياة بكلّ خير، واستبدال الكافرين بالمؤمنين والعاصِين بالطائعين، وهو يعطينا بعض أدِلّة علي ذلك، فكم من كافرٍ ظالم فاسد هَلَكَ وحَلّ خَلْفه من ذرّية بني آدم مؤمن عادل صالح، ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل الأرض كلها صلاحا إلا بيَدِ خليفته الإنسان.. إنه تعالي خَلَقَ نظام الحياة هكذا، خَلَقَ الخَلْقَ وجعلهم أحرارا لهم عقول يختارون بها بين الخير والشرّ بكامل حريتهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! وذلك في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)" أيْ وظَهَرَ الخَلْقُ من قبورهم، مؤمنون وكافرون، لله، كلهم جميعا، يوم القيامة، ليُحاسبهم، حيث بَعَثَهم بأجسادهم وأرواحهم بعد كوْنهم ترابا، فيَتَخاصَم أهل النار فيها ويَسُبّ ويَلعن بعضهم بعضا ويُلقِي التّهْمَة عليه لأنّ كلّاً منهم قد ضَلَّ غيره بصورةٍ من الصور وكان مُتَسَبِّبا في جزءٍ مِمَّا هم فيه مِن العذاب المُؤلم المُهين، فيقول حينها الضعفاء التابعين للمُستكبرين المُتعالِين القادة والزعماء والكُبَراء الذين اتَّبَعوهم طَمَعَاً فيهم أو خوفا منهم وهم في تمام الرعب والألم والحَسْرَة والندَم والذلّة والاستعطاف مُتَوَهِّمين أنهم لهم مَكَانَة مَا كما كانوا في الدنيا لقد كنا تابعين لكم في كلّ ما تأمرونا به من عبادة غير الله ومِن فسادٍ وشرٍّ ومُسَخَّرين لخدمتكم فبسبب ذلك هل تخدمونا الآن بأن تَمنعوا عنّا أيَّ شيءٍ من عذاب الله الذي لا يُوصَف في النار!!.. ".. قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ.." أيْ قال الذين استكبروا بضيقٍ مع حَسْرَةٍ وألمٍ ونَدَمٍ للضعفاء الذين اتَّبَعوهم، حين اتّهَموهم بأنهم هم السبب فيما هم فيه من عذابٍ شديد يوم القيامة، لو كُنّا اخترنا بحُسْن استخدام عقولنا الهداية لله وللإسلام حين هَدَانا الله أيْ أرْشَدَنا لذلك عندما بَعَثَ لنا في الحياة الدنيا رسله وكتبه فيها دينه الإسلام لنعبده أيْ نطيعه وحده ونعمل بأخلاقه لكُنّا سعدنا في دنيانا ونَجَوْنا من العذاب الآن في أخرانا ولكننا رفضنا واخترنا الضلالة أيْ الضياع أيْ الشرّ والفساد أيْ عبادة غيره تعالي واتّباع غير دينه بكامل حرية اختيار عقولنا وفَعَلنا الشرور والمَفاسد والأضرار لأننا أغلقنا هذه العقول بالأغشية التي وضعناها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلو كُنّا اهتدينا لَكُنّا هديناكم حيث الهداية تُوجِب علينا ذلك أيْ لكُنّا أرشدناكم للهُدَيَ أيْ لله وللإسلام ولكُنّا نَجَوْنا جميعا، ولكنكم أنتم أيضا قد قَبِلتم هذه الضلالة بكامل حرية اختيار إرادة عقولكم بمجرّد أن دعوناكم إليها، فأنتم الذين اخترتم الشرّ والفساد ولم يُكرهكم أحدٌ عليه، من أجل الحصول علي أثمان الدنيا الرخيصة، فأنتم تَستحِقّون إذَن العذاب كذلك مِثْلنا، ولو كنا نستطيع النفع لنفعنا أنفسنا فلن يُغني اليوم أحدٌ عن أحدٍ شيئاً فلقد فات الأوان حيث هو يوم حسابٍ لا عمل وقد وَجَبَ وثَبَتَ العذاب علي الكافرين والعاصين (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (4) من سورة إبراهيم "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"، ثم الآية (5) من سورة الصف ".. فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ..").. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ المعني لو هدانا أيْ لو كان أرْشَدَنا الله اليوم لكيفية مَنْع أيِّ شيءٍ من العذاب عن أنفسنا ولِنَيْل النعيم لَكَاَن من المُمْكِن أنْ نُرْشدكم أنتم أيضا لكيفية الخَلاَص مِمَّا أنتم فيه، لكنْ لا أمل أبداً لنا ولكم في ذلك.. ".. سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)" أيْ وكذلك نحن وأنتم الآن يستوي علينا الحالان، إنْ جَزِعنا أيْ لم نَصْبِر علي ما نحن فيه من عذابٍ واضطربنا واشتدّ خوفنا وألَمُنا وحزننا أم صبرنا عليه وهو أمرٌ مُستحيلٌ في النار فليس لنا في الحالَيْن أيّ مَلْجَأٍ أو مَهْرَبٍ أو مَفرٍّ منه، بمعني أنه لا الجَزَع سيَجعل ملائكة العذاب المُكَلّفَة بعذابنا من الله تعالي ترحمنا شفقة علينا! ولا الصبر عليه سيجعلها تُخَفّفه أو تُوقِفه عنّا كجائزةٍ لصبرنا كما يُجازِي الله الصابرين من المؤمنين علي صَبْرهم! والمقصود إعلان تمام يأسهم وقَطْعهم لأيِّ أملٍ لهم في الخروج منها فهُمْ في عذابٍ دائمٍ مُهينٍ مُتَصَاعِدٍ خالِدٍ واقعٍ حَتْمَاً مهما فَعَلوا
ومعني "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)" أيْ وقال الشيطان حينما انْتَهَيَ وتَمَّ ونَفَذَ الأمْرُ والحُكْم من الله تعالي بَعْد حساب خَلْقِه بإدخال المُحْسِنين الجنة وتَنْعيمهم وإدخال المُسيئين النار وتعذيبهم، والشيطان في لغة العرب هو كل مُتَمَرّد علي كلّ خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمات ربه، وهو رَمْزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، ويُجَسِّده الله سبحانه يوم القيامة في شَكْلٍ مَا ليَراه أهل النار ليذمّهم ويزيدهم تأنيباً وألَمَاً وحَسْرَة كنوعٍ من التعذيب النفسيّ لهم إضافة للتعذيب الجسديّ الذي هم فيه، وفي هذا تحذير للناس ألاّ يَتّبِعوا الشيطان في حياتهم الدنيا وإلاّ تَعِسُوا فيها وفي آخرتهم كما هو حال المُسيئين الذي يذمّهم ويَتَبَرَّأ الشيطان منهم الآن يومها (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام)، يقول حينها إنَّ الله وَعَدَكم وَعْدَ الحقّ أيْ الوَعْد الصدْق أيْ أعطاكم في دنياكم بفضله وكرمه وطَمْأَنته لكم من خلال رسله الذين أرسلهم إليكم وإلي الناس وكتبه التي فيها الإسلام وَعْدَاً وعَهْدَاً والتزاماً صادِقَاً لا يُمكن حتماً أن يُخْلَف مُطلقاً لأنه القادر علي كل شيء في مُقابِل إيمانكم به وعملكم بدينه وهو أنْ يُحَقّق لكم كلّ خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا ثم في الآخرة والتي هي حقّ والبَعْث لها بالأجساد والأرواح من القبور حقّ والحساب فيها حقّ والجنة ونعيمها حقّ والنار وعذابها حقّ، فأوْفَيَ بوَعْده لمَن آمَن، لكنْ أنتم لم تؤمنوا ولم تُطيعوا ولو آمنتم وأطعتم لنِلْتُم هذا الوَعْد الصادق.. وأمّا أنا فوَعَدْتكم الوَعْد الكَذِب أنَّ ما جاءتكم به الرسل والكتب كذب فلا بَعْث ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ووعدتكم الخير والسعادة علي كفركم ومعاصيكم وأنه إذا كانت هناك آخرة فأصنامكم وآلهتكم التي كنتم تعبدونها ستَشفع لكم وأنَّ عذاب النار أيام معدودات يُمكن احتماله، فأخلفتكم وَعْودي هذه كلها فلن أوُفِيَ بها ولن ألتزم بتنفيذها فقد كنتُ كاذباً معكم فيها وظَهَرَ اليوم كذبي فيما وَعَدْتُكم به ولن يحصل لكم أيّ شيءٍ مِمَّا مَنّيْتُكم به من أماني فقد كانت كلها كاذبة (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (120) من سورة النساء "يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.." أيْ ولم يكن لي عليكم أيّ سلطانٍ أيْ نفوذٍ أو قوةٍ أو إجبارٍ أو دليلٍ علي ما أدعوكم إليه مِن شرّ، لكنْ فقط بمجرّد أنْ دعوتكم بوَسْوَسَتِي للشرّ استجبتم لي سريعاً باختياركم! فأنتم اتَّبَعتموني بكامل حرية اختيار إرادة عقولكم، من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان، والحِكمة في سبب الخِلْقَة، والحكمة في جَعْل الإيمان اختياريّاً لا إجباريّاً حيث كان سهلا قطعا علي الخالق أن يَجعل جميع مَن في الأرض مؤمنين! والحِكمة في خَلْق الشيطان والسماح بوجود الشرّ في الحياة، وذلك في الآيات (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن تجربة وقصة الحياة وسببها.. ثم برجاء مراجعة الآية (99) من سورة يونس "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، ثم الآية (118) من سورة هود "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل.. ثم برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآيتين (99)، (100) من سورة النحل "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ"، لبيان أنَّ اتّباع الشيطان يكون باختيار مَن يَتّبعه بلا أيِّ إكراه).. ".. فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ.." أيْ هذا مزيدٌ من ذَمِّهم وزيادتهم تأنيباً وألَمَاً وحَسْرَة كنوعٍ من التعذيب النفسيّ لهم إضافة للتعذيب الجسديّ الذي هم فيه.. أيْ وبالتالي فلا تُؤَنّبُوني وتُؤاخِذُوني وتُعاتِبُوني اليوم علي وَسْوَسَتِي ووُعودي الكاذبة وأنّبُوا وآخِذُوا وعاتِبُوا أنفسكم علي استجابتكم لها بلا تَعَقّل ومُخَالَفتكم لربكم، فالذنب ذنبكم وأنتم من اسْتَحْضَرْتم العقاب لذواتكم ولست أنا فأنتم إذَن تَسْتَحِقّونه.. ".. مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.." أيْ ما أنا بمُزيل صُراخكم أيْ صِياحكم بأنْ أنْقِذكم وأغِيثكم مِمَّا أنتم فيه من عذابٍ أليم وما أنتم أيضا بمُنْقِذين ومُغِيثين لي أيْ لن ينفع أحدٌ أحداً اليوم حيث كلّ مُسِيءٍ له من العذاب الحَتْمِيّ ما يُناسِب إساءاته.. ".. إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ.." أيْ هذا مزيدٌ من البَرَاءَة منهم لمزيدٍ من زيادة ألَمِهم وحَسْرتهم، والبَرَاءَة تعني التّبَرُّؤ والتَّبَاعُد والتَّخَلّص والتَّخَلّي وقَطْع الصِّلَة والرَّفْض وعدم الرضا وعدم الاعتراف.. أيْ إني تَبَرَّأتُ مِن جَعْلِكم لي شريكاً مع الله في عبادته أيْ طاعته مِن قبل هذا اليوم أيْ يوم القيامة أيْ في الدنيا، فلم أكن أبداً شريكا لله ولا تجب طاعتي حيث أنتم قد أطعتمونى كما يُطيع العبد ربه، أطعمتموني بلا أيِّ تَعَقّلٍ فيما وَسْوَسْتُ به إليكم من شرور ومَفاسد وأضرار، فإنْ كان إشراككم لى مع الله في العبادة هو الذى جعلكم تَتَوَهَّمون أني مُصْرِخكم الآن فإنى مُتَبَرِّيءٌ من هذا الشِّرْك ولم يَبْقَ بينى وبينكم أيّ علاقة.. ".. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)" أيْ هذا مزيدٌ من تَخْويفهم وتَيْئيسهم.. وهو استكمالٌ لكلام الشيطان أو من كلام الله تعالي.. أيْ إنَّ الظالمين – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – لهم حتماً في انتظارهم يوم القيامة عذابٌ مُؤْلِم أيْ مُوجِع شديد مُهِين لا يُوصَف بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، وذلك بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه بالتأكيد بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأَدْخَلَ الله الخالق الكريم الودود الغفور الرحيم يوم القيامة الذين آمنوا وعملوا الصالحات أيْ الذين صَدَّقوا بوجوده وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، جناتٍ من بساتين وقصور فخمة في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري أسفل منها كلّ الأنهار المُبْهِجَة من الماء العَذْب واللبن وكل المشروبات اللذيذة المُسْعِدَة يَعيشون في نعيمها الذي لا يُوصَف مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر خالدين بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي يكرمهم الله بها حيث تكون حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.." أيْ بفضل ربهم – أي مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعِيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك وبإرادته وعلمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. ".. تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)" أيْ عندما يُلاقوا الله تعالي يوم القيامة يُحَيِّيهم تحِيَّةً كلها سلام وأمن مِن كلّ سوءٍ وتَحْمِل كلّ خيرٍ ورضا وحب وسعادة، وهم أيضا يُحَيِّ بعضهم بعضا وتُحَيِّيهم الملائكة بالسلامة والطمأنينة والراحة والحب، وبهذا يَحدث لهم تمام السلام أي الأمان والاطمئنان والسكون والاستقرار والنعيم السَّالِم أي الخالِص من أيِّ تكدير التامّ الخالد المُسْعِد.. إنهم لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما وهي نعمة نفسية هائلة إذ عدم سماع اللغو وهو الكلام الذي لا يُفيد ومن باب أولي السَّاقِط البَذِيء وعدم سماع التأثيم أيْ كل ما يُوقِع في الإثم أيّ الشرّ والفساد والضَرَر، ولا يكون الذى يسمعونه إلاّ فقط قول "سلاما سلاما" أيْ الكلام الطيِّب السَّالِم من أيِّ لغوٍ أو إثمٍ المُشْتَمِل على الأمان المتكرِّر والتحية الدائمة والحب الدائم والسرور المستمرّ، كل ذلك يؤدي بلا أيّ شكّ إلي تمام راحة البال والأمن والسعادة
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائماً مُتمسّكاً بالكلمة الطيّبة.. إنها كلمة لا إله إلا الله.. إنها كلمة محمد رسول الله.. إنها كل كلمات القرآن العظيم.. إنها كل أخلاقيَّات الإسلام.. وبالجملة هي كل كلمة حقّ وعدلٍ وخيرٍ وحُسْنٍ وجمالٍ وطِيِبَة.. إنك لو فَعَلْتَ ذلك، فستجد السعادة التامّة كلها في دنياك ثم أتَمّ منها وأعظم وأخلد في أخراك
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)"، "تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)"، "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم وتأكّدتم كيف ضَرَبَ الله مَثَلَاً أيْ ذَكَرَ وبَيَّنَ الله شَبَهَاً لكلمة طيبة أيْ كلمة الإسلام أيْ كلمة التوحيد أيْ كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله أيْ كل كلمات القرآن الكريم أي كل وَصَايا الإسلام وما يَتْبَعَها من كلّ كلمةِ خيرٍ وحقّ وعدلٍ وحُسْنٍ وجمالٍ وطِيِبَةٍ وكل عملٍ صالحٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ للجميع، بشجرةٍ طيّبة أي صفاتها دائما في كل أحوالها طيّبة حَسَنَة جميلة مُفيدَة مُسْعِدَة فهي أصلها مُتَمَكّن في الأرض أيْ راسخة ثابتة البنيان وفَرْعها أيْ أعلاها وما يَمْتَدّ منها من أغصان وفروع وأوراق وثمار مُرْتَفِع نحو السماء، بما يُفيد استقرارها وثباتها وعدم تَغَيُّرها وخَيْرِيَّتها وقيمتها وجمالها وعدم تَأثّرها بأيِّ شرٍّ وعظيم آثارها وفوائدها الطيّبة الرَّاقِيَة المُرتفعة الدائمة المُسْعِدَة للنفس وللغير وللكوْن كله في الدنيا والآخرة.. وفي هذا إرشادٌ ضِمْنِيٌّ للناس جميعا أنْ يتمسّكوا ويعملوا بهذه الكلمة الطيّبة ويَثْبتوا عليها ليسعدوا تمام السعادة فيهما، فكل مؤمنٍ عامِلٍ متمسّكٍ بها ثابتٍ عليها لا يَتَزَحْزَح عنها لغيرها في كل شئون وأحوال حياته ومع كل مُتَغَيِّراتها هو مِثْل هذه الشجرة الطيّبة وكل عمله الخَيْرِيّ سيُرْفَع بسببها إلي الله تعالي في السماء فيكون من ثمارها أن يُعطيه ما يُناسبه من خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن.. هذا، واستخدام لفظ "كيف" هو للدلالة على أنَّ حالة ضَرْب هذا المَثَل ذات كيفية عجيبة عظيمة من البلاغة والتأثير والتطبيق في أرض الواقع.. "تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)" أيْ ومن صفات هذه الشجرة الطيّبة المُبَارَكَة كذلك أنها تُعْطِي ثَمَرَها كل لحظة، بمعني أنَّ خَيْرها بكل أشكاله دائمٌ مستَمِرّ، وكذلك كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله أصلها ثابتٌ في قَلْبِ وعقل المؤمن علماً واعتقاداً وفَرْعها من الأعمال الصالحة والأخلاق الحَسَنَة المُسْعِدَة للنفس وللغير وللكوْن كله والتي يُحْدِثُها هذا الإيمان في كل لحظةٍ يُرْفَع إلى الله ويَنال أجره منه بفضله وكرمه ورحمته في كل لحظةٍ أيضا في المُقابِل مِن كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياه وأخراه.. ".. بِإِذْنِ رَبِّهَا.." أيْ بفَضْل ربها – أي مُرَبِّيها وخالقها ورازقها وراعِيها – ورحمته وتوفيقه وتيسيره لأسباب ذلك الإعطاء للثمار وبإرادته وعِلْمه وأمره وتوجيهه وإرشاده لأنه سبحانه هو المالِك لكلِّ شىءٍ ولا يَقع فى مُلْكِه إلاّ ما يُريده.. وفي هذا حَثٌّ ودَفْعٌ ضِمْنِيٌّ للمؤمنين علي الاستعانة دَوْمَاً به تعالي لتحقيق ذلك الفِعْل للخير ونَشْره وتحصيل ثماره التي لا تُحْصَيَ لتسعد بذلك دنياهم وأخراهم.. ".. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ.." أيْ ويَذْكُر ويُبَيِّن الله التوْضيحات والتشبيهات في القرآن الكريم للناس عن أحوالهم في كل شئون حياتهم بما يُرْشِدهم طوالها لتمام الخير والسعادة في الداريْن، وذلك مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يَسْهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. ".. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)" أيْ لكي يكونوا بذلك من المُتَذَكّرين أيْ لعلهم يتذكّرون ذلك، أيْ لكي يتذكّروه، لكي يتذكّروا ولا ينسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وما عليهم فقط إلاّ أن يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذَن سَهْل مَيْسُور لمَن يريده بصدق، وعليهم أن يحذروا بشدّة أن يكونوا كالذين نسوا الإسلام أو تركوه أو حاربوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تعسوا تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التحقق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كذلك مُتَذكّرين مُتَبَصِّرين دائما لما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن.. "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وشَبَهُ كلمةٍ خبيثةٍ أيْ شِرِّيرَةٍ كَريهةٍ سيّئةٍ مُفْسِدَةٍ مُضِرَّةٍ مُتْعِسَة، وهي كلمة الكفر بالله تعالي وبرسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وبكتبه وآخرها القرآن العظيم وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره، وهي كذلك الشرْك بالله بإشراك غيره معه في العبادة كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نَجْمٍ أو غيره، وهي النفاق بإظهار الخير وإخفاء الشرّ، وبالجملة هي كل كلمةٍ أو فِعْلَةٍ تُؤَدِّي إلي شرٍّ أو فسادٍ أو ضَرَرٍ أو ظلمٍ أو قُبْحٍ أو سوءٍ أو ما شابه هذا مِمَّا يُؤَدِّي إلي تعاستَيّ الدنيا والآخرة، شَبَهُ هذه الكلمة الخبيثة كشجرةٍ خبيثةٍ أيْ كريهةٍ سَيّئةٍ قبيحةٍ رديئةٍ فاسدةٍ ضارَّةٍ في كلّ شيء، في شكلها ورائحتها وثمارها وظلالها ونُمُوِّها ونحو ذلك حيث لا يأتي منها أيُّ خيرٍ ونَفْعٍ بل كل شرٍّ وضَرَرٍ وأذَيً وتعاسة، وهذ الشجرة الخبيثة اجْتُثّت من فوق الأرض أيْ اقْتُلِعَتْ واسْتُؤْصِلَتْ جُثّتها أيْ جِسْمها وذاتها بالكُلّيَّة من أعلى الأرض فلم تستمرّ لأنها ليس لها أيّ استقرارٍ أيْ ثَباتٍ فيها لأنَّ جذورها قريبة من سطحها ما لها أصل ثابت بها ولا فرع صاعِد في السماء.. وهذا تَشبيهٌ لحال الكفر والكافر والشرْك والمُشْرِك والعصيان والمعصية وكل سُوءٍ ومُسِيء، أيْ وكذلك الكفر والكافر والعاصِي وكل شرّ لا ثبات له ولا خير فيه ولا يُرْفَع إلي الله تعالي منه شيء ليُثيب عليه بل له كل عقابٍ يُناسبه في الداريْن، فهو مَقْطُوعٌ لا يَتَمَدَّد ولا يَستمرّ ولا استقرار له وذلك إذا تَمَسّكَ وعَمِلَ المسلمون بكل أخلاق الإسلام ونَشَروه بالقدوة والحكمة والموعظة الحسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، حينها تَنْزَوِي وتَنْقَرِض بل وتَتَلاشَيَ تدريجيا الكلمة الخبيثة وتُجْتَثّ أيْ تُقْتَلع وتُمْحَيَ ولا يكون لها أيّ مُسْتَقَرّ في أيِّ مكان، كالشجرة الهزيلة التي ليس لها أيّ جذور في الأرض فيَسْهُل اقتلاعها من أصلها، بينما يَبْقَيَ الخير وسعاداته ويَنْتَشِر ويَتَزَايَد، ويُساعِد في ذلك ويُسَهِّله أنَّ الشرّ لا تقبله الفطرة المسلمة أصلا بل تَلْفظه ولا يقبله العقل المُنْصِف العادل بل يُقاوِمه ويَتَخَلّص منه ويُنْهِيه أوّلاً بأوَّل لِتَتِمّ سعادته في الداريْن
ومعني "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)" أيْ هذا بيانٌ لعظيم رعاية الله تعالي وحِفْظه للمؤمنين ورحمته بهم وحبّه لهم ولإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. أيْ يَجعل الله الذين آمنوا – أيْ الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم، ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليزيد قوة إرادتهم ليستمرّوا علي خَيْرهم الذي هم فيه – ثابتين علي القول الثابت أيْ لا يَتَزَحْزَحُون عنه أيّ تَزَحْزُحٍ بأيِّ مُزَحْزِحٍ مهما كان سواء أكان تَرْغيباً في فِعْل شرٍّ مَا أو تَرْهيبَاً بضَرَرٍ مَا لتَرْك خيرٍ مَا، في الحياة الدنيا أيْ طوال حياتهم حتي موتهم، لأنه المَصْدَر الوحيد لصلاحهم وكمالهم وإسعادهم في الداريْن، والقول الثابت هو الكلمة الطيبة السابق ذِكْرها أيْ كلمة الإسلام أيْ كلمة التوحيد أيْ كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله أيْ كل كلمات القرآن الكريم أيْ كل وَصَايا الإسلام وما يَتْبَعَها من كلّ كلمةِ خيرٍ وحقّ وعدلٍ وحُسْنٍ وجمالٍ وطِيِبَةٍ وكل عملٍ صالحٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ للجميع في الدنيا والآخرة، وهذا التثبيت هو من خلال أنْ يُعينهم ويُوَفّقهم سبحانه للقول الثابت دائماً ويَحفظهم ويُنجيهم مِن كلّ مَا يُبْعدهم عنه ويُيَسِّر لهم كل أسباب ذلك العَوْن والحِفْظ، بسبب أنهم هم الذين أولا اختاروا الإيمان واتّباع الإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم فعَاوَنَهم في مُقابِل ذلك، وحتي لو أصابهم أحياناً اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا أعانهم وأخرجهم منه مُنْتَفِعين مُستفيدين استفاداتٍ كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. ".. وَفِي الْآَخِرَةِ.." أيْ وبعد موتهم يُثَبِّتهم بفضله وكرمه ورحمته وعوْنه في قبورهم عند سؤال الملائكة لهم عن مَن ربهم ورسولهم ودينهم عند بداية دخولهم إليها، حيث القبر هو أول مَنْزِلٍ من مَنازِل الآخرة وأحوالها، فيُثَبِّتهم بالقول الثابت فيُجيبون بالجواب الصحيح المُؤَدِّي بهم لجنات الخلود أن ربنا الله ورسولنا محمد (ص) وديننا الإسلام، فيستشعرون بأنَّ قبورهم رَوْضَة من رياض الجنة وتكون أرواحهم سائحة في نعيم الجنات علي حسب درجات أعمالهم، ثم عند قيام يوم القيامة وبدء الحساب يكونون ثابتين بتثبيت الله لهم فيكونون آمنين مطمئنّين يَمُرّ عليهم حسابهم يَسيراً سريعاً كله تبشير وسعادة، ثم ينعمون بمُسْتَقَرِّهم الأخير في نعيم أعلي درجات الجنات مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ.." أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ ويُبْعِدُ الله الظالمين عن القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا يُوَفّقُهم له ولا يُعينهم عليه ولا يُيَسِّر لهم أسبابه – والظالمون هم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – وسبب عدم التوفيق والتيسير والعَوْن هذا أنهم هم الذين أولا قد اختاروا هذا الظلم بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلم يَشَأ الله لهم الهداية وتَرَكَهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .." (الرعد:11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّهم أيْ أبْعَدَهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الظلم وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)" أيْ ويَفعل الله ما يُريد فِعْله مِن التثبيت والإضلال، ومِن كلّ شيء، لا يَمنعه عنه أيُّ أحدٍ أو شيءٍ مانِعٍ مهما كان ولا يَسْتَعْصِي عليه فعلٌ من الأفعال يريده علي حسب عِلْمه وحِكْمته في مُلكه بأىِّ وجهٍ من الوجوه، فهو مُلْكه، وهو خالِقُ كل شيءٍ وقادرٌ تماماً عليه، والجميع هم خَلْقه، وكلهم تحت تَصَرّفه، وهو يَفعل ما يشاء، فكلّ فِعْلٍ له حِكْمته ودِقّته بلا أيِّ عَبَث، بما يُصلح خَلْقه ويُسعدهم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (41) من سورة الرعد ".. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يُبَدِّلون نِعَم ربهم عليهم والتي لا تُحْصَيَ، بل يحفظونها، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فسيجدونها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم : 7).. وأفضل النّعَم وأعلاها وأولها والتي يَتَفَرَّع عنها كل النعم هي نعمة الإسلام الذي يُنَظّم كل شئون الحياة علي أكمل وجهٍ فيُسْعِد كل لحظاتها لأنه من عند الخالق الكريم الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء العالِم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)"، "جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)" أيْ هل لم تُشاهِد يا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهل لم يَصِل إلي عِلْمك، وألم تُشاهدوا وتَتدبّروا وتَعلموا أيها الناس ولم يَصِل إلي علمكم، والاستفهام للتقرير أيْ لكي يُقِرّوا ويَعترفوا بذلك، كما أنه للتَّعَجُّب مِمَّا يَحْدُث، أيْ لقد رأيتم بكل تأكيدٍ الذين غَيَّرُوا نعمة الله والتي هي الإيمان به وعبادته وحده بلا أيِّ شريكٍ واتّباع كل أخلاق دينه الإسلام والتي هي أعظم النِّعَم وأعلاها وأوّلها والتي يَتَفَرَّع عنها كل النعم حيث كل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن لأنَّ الإسلام يُنَظّم كل شئون الحياة علي أكمل وجهٍ فيُسْعِد كل لحظاتها لأنه من عند الخالق الكريم الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء العالِم بخَلْقه صَنْعَته وما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، غَيَّرُوها ووَضَعوا مكانها كفراً بالله أيْ تكذيباً بوجوده وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعِنادَاً واسْتِكْبَارَاً واستهزاءً وفِعْلَاً للشرور والمَفاسد والأضرار ولكل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم.. إنّهم قد باعوا الإيمان واشتروا بدلاً منه الكفر، أيْ دَفَعوا الإيمان وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الكفر، أي باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم، أيْ تركوا السعادة التامَّة في الداريْن وأخذوا تمام التعاسة والخسارة التي لا تُوصَف فيهما، وما كل ذلك السَّفَه والخَبَل الذي هم فيه إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه من يُغَيِّر نِعَم الله تعالي التي لا تُحْصَيَ عليه وعلي كل خَلْقِه وكوْنه من بعد ما وَصَلَته واتّضَحَت له وعَرَفها، أيْ يُبَدِّلها عن علمٍ وقَصْدٍ لا عن جهلٍ أو خطأ، وأولها وأعظمها وأعلاها وأهمها نعمة الإسلام فيُفَرِّط فيها بأن يستبدلها بأخلاقٍ مُخَالِفَة له بدلاً أن يعمل بها ليسعد في الداريْن، ونعمة العقل فيَستبدل حُسن التفكير بسُوئِه، ونِعَم الصحة والقوة والوقت والفكر والمال والعلاقات الجيدة ونحو ذلك فيُغَيِّرها فبَدَلاً أن يستخدمها في كل خيرٍ ليحصل علي كل خيرٍ إذا به يستبدل ذلك بأن يستخدمها فيما هو شرّ فيحصل علي كل شرّ! وهذا نوعٌ آخر من الكفر غير الكفر بالله تعالي أيْ عدم التصديق بوجوده والعمل بإسلامه وهو كفر النعمة أيْ سوء استخدامها وإنكار أنها من المُنْعِم وهو الخالق الكريم ونِسْبتها لغيره وعدم شكره عليها بحُسن استخدامها.. إنه مَن يَفعل ذلك يستحقّ حتما العقاب لأنَّ الله عقابه شديد لمَن يُخالِفون أخلاق الإسلام ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا منها، فسيُعَاقبهم عليها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)" أيْ وأنْزَلُوا أتْباعهم وشركاءهم وكل مَن اقْتَدَيَ وتَشَبَّه بهم في الكفر والعِصْيان، دار الهلاك والخُسران حيث قد خَسِروا وهَلَكوا في دار الدنيا ثم دار الآخرة فهم في كل شرٍّ وعذابٍ وتعاسةٍ بسبب كفرهم وعصيانهم، وهذا الإحلال لأقوامهم في دار البوار هو من خلال إضلالهم إيّاهم واستجابة هؤلاء الأقوام الذين اتّبعوهم لهذا الكفر والعصيان بكامل حرية إرادة عقولهم، واستمرارهم وإصرارهم هم وأقوامهم علي ذلك بلا توبةٍ حتي موتهم.. "جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)" أيْ دار البوار هذه – بعد دار البوار في الدنيا – هي جهنم، في الآخرة، يَصْلَوْنها أيْ يَحترِقون بنارها وتَشْوِي بلَهِيبها جلودهم ولحومهم وأحشاءهم بعذابها المُؤْلِم المُوجِع المُهِين، ومَا أسوأ وأشَرّ وأخْبَث وأتْعَس هذا القرار أيْ المَقَرّ أيْ هذا المكان المُسْتَقِرِّين المُقِيمِين فيه وهو جهنم
ومعني "وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)" أيْ وجعل هؤلاء السابق ذِكْرهم الذين بَدَّلوا نِعْمَة الله كفراً ومَن يَتَشَبَّه بهم، لله أنداداً أيْ أمثالاً وشركاء يُساوونهم به سبحانه ويَعبدونهم غيره كأصنامٍ أو كواكب أو غيرها رغم أنَّ الكلّ مخلوق ضعيف مرزوق مثلهم ليس له صفات الخالِق وكلها لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه! فهل بعد هذا يَتْركون صاحب القوة كلها مالِك المُلْك كله تعالي ويَتَّخِذون ضعيفا مثلهم أو أضعف يَطلبون منه رزقا أو صحة أو قوة أو غيره بل ويَتَذَلّلون له ويُطيعونه حيث سار وإنْ كان شرَّاً وكأنه ربٌّ لهم؟!!.. لقد جعلوا لله أنداداً ودَعَوْا إلى عبادتها لكي يُضِلّوا عن سبيله أيْ يُبْعِدوا أنفسهم والناس عن طريقه أيْ عن طريق الحقّ والعدل والاستقامة أيْ عن طريق الإسلام طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين ومَن يَتَشَبَّه، اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً لعلهم يَتَدَبَّرون ويَعْقِلون فيَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، تمتعوا في الدنيا، متاعاً هو قليلٌ حتماً، حيث تتركونه بموتكم وانتهاء آجالكم فيها وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما أنتم فيه مِن متاعٍ مُتنوِّعٍ من أموالٍ ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أيْ لا تستمتعون به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد تفقدونه بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوماً مَا، بل مِن كثرة شروركم أنتم غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة أنتم في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما تُحقّقونه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروركم إضافة إلي ضيقكم عند تَذَكّركم الموت والذي لا تَدْرُون ما سوف يَحدث لكم بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. هذا في الدنيا.. أمَّا في الآخرة ".. فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)" أيْ فإنَّ مَرْجعكم حتماً بالتأكيد الذي تَأْوُون إليه وتَسْتَقِرّون فيه بلا نهايةٍ إلي ما شاء الله هو النار بعذابها الذي لا يُوصَف، إنْ مُتّمْ علي ذلك بلا توبة، إضافة إلي ما كنتم فيه من بعض صور العذاب في دنياكم، فما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي تَصيرون إليه وهو النار تُعاقَبون فيها.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ لأمثال هؤلاء لعلهم يَستفيقون ويَعودون لربهم ولإسلامهم ليَسعدوا في الداريْن
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)" أيْ اذكر يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لعبادي، أيْ لمَن يَعبدونني أيْ يُطيعونني، الذين آمنوا أيْ الذين صَدَّقوا بوجودي وبكُتُبِي ورسلي وآخرتي وحسابي وعقابي وجنّتي وناري وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة، كما أنه يَنْسِبهم إليه أنهم عباده تكريماً لهم ورَفْعَاً مِن شأنهم وحُبَّا فيهم وتشجيعا لهم للاستمرار علي خيرهم حيث صِفَة العبد لله تعني تمام الحرية والعِزَّة والانتفاع والسعادة بكرم سَيّده وهو خالقه الكريم تعالي بينما العبد للبَشَر أو لغيره يعني تمام الذِلّة له ويَستفيد سيّده مِن جهده وخَيْره – اذْكُر لهم وذَكِّرهم، بقولك وعملك، بكل قُدْوَةٍ وحكمة وموعظة حسنة، وبكل وضوحٍ وحَسْمٍ وبلا أيّ تَرَدُّد، وبما يُناسبهم من أقوالٍ وأفعالٍ وفي توقيتٍ وبأسلوبٍ مناسب، قل لهم مُذَكّرَاً أن يقيموا الصلاة أيْ يأتوا بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ يُحسنوها ويُتقنوها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وأنْ يُعطوا من أموالهم ومن أيِّ خيرٍ قَلَّ أو كَثُر في جميع الأوقات والأحوال سِرَّاً أو عَلَنَاً حسبما تكون المصلحة في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ لله تعالي (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (271) من سورة البقرة "إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، وبالجملة يكونوا من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. ".. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)" أيْ هذا مزيدٌ من التشجيع علي فِعْل كل خير.. أيْ سارِعوا بإقامة الصلاة وبالإنفاق وبفِعْل الأعمال الصالحة قبل أن يَحْضِرَ يوم – وهو يوم القيامة – حيث لا بَيْع وتجارة فيه فيكون رِبْح تُقَدِّمون عن طريقه ما تَفْتَدُون به أنفسكم من العذاب لمَن يَستَحِقّه، وحيث لا صَدَاقَات مِن أصدقاء يُمْكنهم إنقاذكم – والخلال هي جَمْع خلّة أيْ صَدَاقة يَتَخَلّلها الحب – لأنه حينها لا يُمكن أبداً لأيّ قريبٍ أو صديق أو مُحِبّ أو ناصر أو حَليف أو نحوه مهما كان شأنه أن يُفيد ويَنفع قريبه أو صديقه أو مُحِبّه أو حَليفه بأيِّ شيءٍ من النفع كما كانوا يفعلون في الدنيا، ولا يُمكنهم ولا غيرهم نصر بعضهم بعضا بدَفْع أيّ عذاب عن أنفسهم يستحِقّونه من ربهم، لأنّ أحداً من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيَدِ خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكلّ إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كل أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)" أيْ هذا بيانٌ لبعض مُعْجِزَاته ودلالاته التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرشد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة بلا أيّ شريك وأنَّ مَن عَبَدَه وتوكّل عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. أيْ الله تعالي الذي عليكم أن تعبدوه وحده أيْ تطيعوه هو الذي وحده لا غيره خَلَقَ أيْ أوْجَدَ من عدمٍ علي غير مثالٍ سابقٍ كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ ونِعَمٍ وخَيْرات، وكلها مُسَخَّرَة لنفع ولسعادة الإنسان.. ".. وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ.." أيْ وأيضا مِن تمام قدْرته وعِلْمه ورحمته ورزقه يُنزل الماء من السُّحُب في السماء فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. ".. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)" أيْ وكذلك مِن تمام قدْرته وعِلْمه ورحمته ورزقه ذَلّل ويَسَّرَ لكم السفن لتَتَحَرَّك وتَسِير وتَجْرِي في البحر بإذنه من خلال خواصِّه الفيزيائية التي خَلَقها في مياهه وخواصّ الهواء الذي يُحرّكها ونحو هذا وبواسطة توفيقه وتيسيره لعقولكم والتي هو خالقها لصناعة هذه الفلك بكل أنواعها، وذلك لتُحقّقوا بها احتياجاتكم التي تَنفعكم وتُسعدكم كنقل البضائع والسفر والسياحة وما شابه هذا، وذَلّلَ ويَسَّرَ لكم أيضا الأنهار بمياهها العذبة لا المالحة كالبحار لتشربوا منها ماءً عَذْبَاً لازِمَاً لحياتكم أنتم ودَوابّكم وزروعكم ولتَسِير فيها كذلك بعض سُفُنكم، وكل هذا هو من أجل تحقيق منافعكم وسعاداتكم
ومعني "وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)" أيْ ومِن بعض مُعجزاته سبحانه أيضا، ومن الآيات والنِعَم كذلك والتي عليكم أن تتذكّروها وتشكروها، ومن تمام قدْرته تعالي علي كلّ شيءٍ، أنه قد سَخَّرَ لكم أيْ ذَلّلَ وجَهَّزَ وأعَدَّ الشمس والقمر دائِبَيْن أيْ جادَّيْنِ مُسْتَمِرَّيْن علي ما اعْتَادَا عليه بلا تَوَقّفٍ أو مَلَلٍ أبداً، وذلك لنَفْع خَلْقه، وجَعَلَهما يسيران بانتظامٍ في فَلَكِهما بكل دِقَّةٍ دون أيّ خَلَلٍ حتي ينتهي أجلهما المُسَمَّيَ أي المُحدَّد لهما حين تنتهي الحياة الدنيا وتقوم الساعة لبدء الحياة الآخرة.. إنَّ تَغَيُّر الليل والنهار بدَوَرَان الشمس والقمر وجَعْلهما يُوَالِي بعضهما بعضا هما من رحماته تعالي بخَلْقه وحبّه لهم وإرادة إسعادهم بحياتهم، وهي من الآيات العظيمة التي تستحقّ التدبّر من حيث دِقّة وانضباط حركتها والتي اعتاد الناس مشاهدتها فلا يستشعرون قيمتها مع الوقت.. لقد جعل سبحانه النهار ليكون للحركة والعمل والانتاج والربح والسعادة بكل هذا وغيره من أفضال الله وخيراته وأرزاقه التي لا تُحْصَيَ، وجعل الليل ليكون للاستجمام والعلاقات الاجتماعية الطيبة والراحة والنوم ونحو هذا استعدادا لنهار جديد قادم سعيد مُرْبِح في الداريْن بإذن الله، وهكذا.. إنَّه بالشمس والقمر والنجوم تُعْرَف الأوقات والساعات والأزمنة والأعمار والاتّجاهات ونحو ذلك، إضافة بالقطع لنعمة ضبط حرارة الأرض بالشمس بما يُناسب.. فاشكروا كلّ هذا أيها الناس بأنْ تستشعروه بعقولكم وتحمدوا ربكم بألسنتكم وتشكروه بأعمالكم بأن تُحسنوا استخدامه في كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم ولمَن حولكم في دنياكم وأخراكم دون أيّ شرّ مُضِرّ مُتْعِس فيهما
ومعني "وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)" أيْ وأعطاكم من كل ما طلبتموه من كل خيرٍ مُفيدٍ مُسْعِدٍ لكم تحتاجونه لجميع أحوال وشئون حياتكم ومن كل ما شأنكم أن تطلبوه لاحتياجكم إليه لمنافعكم ولسعاداتكم وإنْ لم تَطلبوه بالفِعْل حيث قد أعَدَّ وجَهَّزَ لكم الكوْن كامل النِّعَم والخيرات والاحتياجات قبل خَلْقكم، وهو تجهيزٌ شاملٌ لِمَا يُطْلَب حالياً أو مستقبلاً حتي يوم القيامة.. ثم هو سبحانه كذلك برحمته وكرمه وفضله يُعْطِي كل مَن سأله، وحتي من لم يسأله سواء أكان مسلما أم كافرا، ما يحتاجه، بالقَدْر الذي يَنفعه ويسعده وعلي قَدْر ما قَدَّمَ من جهود وأسباب، ثم الأكثر من ذلك يُعطينا الرزَّاق الرحمن الودود خيراتٍ لم نسألها أصلا!! فلم يسأله أحدٌ مثلاً خزائن من خيرات الأرض نافعة مسعدة كذهب وفضة وماس ومعادن وما شابه هذا مِمَّا نعلمه أو لا نعلمه إلا في المستقبل!!.. ".. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا.." أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ما سَبَقَ ذِكْره.. أيْ وإنْ تُحاولوا عَدَّ نِعَم الله عليكم نِعْمَة بنعمة وما تحتويه كل نِعْمَةٍ واحدةٍ مِن نِعَمٍ مُتَعَدِّدَة وتحديد عددها لا يمكنكم أبداً بأيِّ حالٍ من الأحوال أن تُحْصوها أيْ تَحْسِبُوها وتَعدّوها وتضبطوها حِسَابَاً وعَدَّاً وضَبْطَاً وتحديداً دقيقاً مُحْكَمَاً بكلّ تفاصيلها بتمام الدِّقّة، وذلك لكثرتها وتَنَوُّعها ولأنها لا نهاية لها ولأنَّ كثيراً منها يَخْفَيَ عليكم (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (20) من سورة لقمان "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. ".. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)" أيْ إنَّ الإنسان إذا عَبَدَ غير الله تعالي (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، أو كَفَرَ بوجوده وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب مِن وِجْهَة نظره، أو كَفَرَ نِعَمَه التي لا تُحْصَيَ أيْ أساءَ استخدامها وأنْكَرَ أنها من المُنْعِم وهو الخالق الكريم ونَسَبَهَا لغيره ولم يَشكره عليها بحُسْن الاستخدام لها في كل خيرٍ مُسْعِدٍ له ولغيره في الدنيا والآخرة لا في أيِّ شَرّ، فإنه في هذه الأحوال وما شابهها حتماً بالتأكيد – واللام للتأكيد – ظلومٌ كفارٌ أيْ كثير الظلم لنفسه ولمَن حوله حيث أتعسها وأتعسهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، وكفارٌ أيْ كثير الكفر لِنِعَم الله وعدم الاعتراف بها وشكرها وقد يَكفر أيْ يُكَذّب بوجوده أصلاً ويُعانِد ويَستكبر ويَستهزيء ويُبالِغ في ذلك ويُصِرّ عليه ويَتَمَادَيَ فيه.. وما كل ذلك إلا لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ فهو خالق كل شيءٍ ومالِكه أقوي الأقوياء لا يُعْجِزه شيء، فسيَستجيب لك ولكل مَن يدعوه حتما إمّا عاجِلاً أو آجِلاً في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه ويعلمه سبحانه أحسن وأصلح وأسعد وقتٍ وأسلوبٍ لك ولمَن حولك، وسيستجيب بالصورة التي طَلَبْتها تماما أو بصورةٍ أفضل أو بمَنْع ضَرَرٍ عنك أو بكل ذلك، بطريقة مباشرة أو بأنْ يُيَسِّر لك مَن يُحَقّق لك ما تريد، فليس هناك دعوة خاسرة! بل كلها مَكَاسِب.. هذا، ويُرَاعَيَ أنه لا بُدَّ مِن إحسان اتّخاذ الأسباب مع الدعاء، فلا رزق مثلا بلا سَعْيٍ حلال له مهما كان شكل أو نوع الدعاء! وهكذا مع كل صور ومُتطلّبات الحياة، وأهم هذه الأسباب هو الاستجابة له سبحانه بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام في كل الأقوال والأفعال في كل الشئون، كما يُرَاعَيَ أنَّ مَن يدعو بما هو مُحَرَّم فلن يُسْتَجَاب له قطعا وهو آثمٌ كالدعاء مثلا بقطع الأرحام والأرزاق وخراب البيوت وما شابه هذا، إلا إذا كان يدعو علي ظالم معلوم الظلم فدعوة المظلوم لا بُدَّ ينصرها العدل الكريم سبحانه حتي ولو كانت من غير مسلمٍ إقامة للعدل في الأرض لِيَأْمَن الخَلْق.. إنك إنْ فَعَلْتَ ما سَبَقَ ذِكْره فقد أحسنتَ وسعدتَ إذ تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام، حيث في هذه الآيات الكريمة دَعَا سيدنا إبراهيم (ص) بدعواتٍ طيّباتٍ مُسْعِداتٍ سيكون خيراً لكل مسلمٍ وسعادة إنْ دَعَا بمثلها وطلبها من ربه إضافة لما يَطلبه منه مِمَّا شاء لكل شئون حياته
هذا، ومعني "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين دعا إبراهيم قائلاً يا ربّ – أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي – اجعل هذا المكان الذي نُقيم فيه حول بيتك المُحَرَّم بلداً آمِنَاً يأمَن كل مَن فيه ومَن يدخله علي نفسه وماله وأهله من الخوف والاعتداء والظلم وغيره من الشرور والمَفاسد والأضرار.. وفي هذا تذكيرٌ وإرشادٌ لكل مسلم أن يدعو الله تعالي بالأمن والطمأنينة والاستقرار والسلام له ولمَن حوله وللناس وللخَلْق جميعا وللكَوْن كله، ليسعد الجميع بذلك.. ".. وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)" أيْ وأدعوك وأسألك يا ربّ أن أبْعِدْني وأبنائي أنْ نعبد الأصنام أو غيرها من مَعْبُوداتٍ وأنْ نعبدك أيْ نُطيعك وحدك ولا نُشرك معك شيئا آخر، فأنت الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتَكَافَيء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وفي هذا تذكيرٌ وإرشادٌ لكل مسلم أن يدعو الله تعالي دائما لنفسه بالتثبيت علي عبادته ولأسرته وأبنائه وذرِّيَّاته بل وللبَشَرِيَّة كلها بالهداية له سبحانه ولاتّباع كل أخلاق الإسلام ليسعدوا تماما في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسوا حتماً فيهما لو عَبَدوا غيره واتّبعوا غير دينه
ومعني "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)" أيْ يا ربّ أدعوك بما دعوتك به حيث إنَّ هذه الأصنام قد أضَلّت كثيراً من الناس بسبب عبادتهم لها بكامل حرية إرادة عقولهم، أيْ أضاعتهم بإبعادهم عن طريقك، طريق الحقّ والعدل والاستقامة، طريق الإسلام، طريق تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وبأَخْذِهم في طريق الشرّ والفساد والتعاسة فيهما.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)" أيْ فمَن اقْتَدَيَ بي من الناس وسارَ خَلْفِي في عبادتك وحدك بلا أيِّ شريك وفي اتّباع دينك الإسلام وعمل بكل أخلاقه في كل شئون حياته فإنه من أمّتي المسلمين الذين يَصلحون ويَكملون ويَسعدون تماما بإسلامهم في دنياهم وأخراهم – واعْتَبَرَ (ص) كلّ مَن اتّبعه هو جزء منه وكنفسه للمُبَالَغة في بيان أنَّ المسلمين عليهم أن يكونوا كالجسد الواحد في تَوَادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم وتعاونهم – ومَن لم يُطِعْني وخَالَفني أيْ خالَف أخلاق الإسلام، بعضها أو كلها، من غير أن يَكفر بك أو يُشْرِك معك في عبادتك شيئاً آخر كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو غيره، فاغْفِر له وسَهِّل له أسباب التوبة، ومَن كفر وأشرك فسَهِّل له هو أيضا أسباب الهداية للإيمان بك ولاتّباع دينك، فإنك غفور أيْ كثير المغفرة تعفو عن الذنوب ولا تُعاقِب عليها لكل مَن تاب توبة صادقة وَرَدّ لأصحاب الحقّ حقوقهم إنْ كان الذنب مُتعلقا بهم، رحيم أيْ كثير الرحمة حيث رحمتك وسعت كل شيء وهي أوسع من أيّ ذنب ودائما تَسبق غضبك (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
ومعني "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)" أيْ يا ربنا – أيْ يا مُرَبِّينا وخالِقنا ورازقنا وراعِينا ومُرْشِدنا من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا تمام السعادة في دنيانا وأخرانا – إنى أسْكَنْتُ، أيْ جَعَلْتُ مكاناً للسكن، بعضاً من ذريتى وهو ابنى إسماعيل وأمه هاجر ومَن سَيُولَد له، حيث بقية ذرِّيَّته كإسحق هم بأرض الشام، بوادي ليس به زرع، وهو وادي مكة المكرمة، والوادي هو المكان المُنْخَفِض بين مرتفعات، بجوار بيتك المُحَرَّم أىْ الذى حَرَّمْتَ التّعَرُّض له بسوءٍ توقيراً وتعظيماً وفضَّلته علي غيره من الأماكن وجعلته مَثَابَة للناس وأمْنَاً أيْ مَرْجِعَاً يرجعون إليه ويَتَرَدَّدون عليه بين الحين والحين من كلّ مكانٍ في عمرةٍ أو حجّ، وأمْنَاً لهم أيْ مكاناً آمِنَاً مِن أيِّ اعتداءٍ يأمَن فيه كلّ مَن دخله علي نفسه وماله وأهله بينما خارجه قد يُعْتَدَيَ عليه، فهم يجتمعون فيه ويَأوون ويَلْجَأون إليه يَتَحاوَرون بينهم في مناخٍ رَبَّانّيٍ أخويٍّ وُدِّيٍّ آمِنٍ فيما يُقَوِّيهم ويُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الدنيا والآخرة.. ".. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ.." أيْ يا ربنا إنني قد فَعَلْتُ ذلك بأمرك لكي يُقيموا الصلاة فيه ويَذْكُرونك ويَتَعَلّمون العلم ويُعَلّمونه به ويَخدمونه وزُوَّارَه وعموم الناس حوله من خلاله بكل أنواع الخدمات ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة.. ".. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ.." أيْ يا ربنا إنى أسْكَنْتُ بعض ذرِّيَّتى فى جوار بيتك فأسألك أن تجعل قلوباً وعقولاً من بعض الناس، وهم المؤمنون لأنهم هم الذين يَزورون بيتك لا غيرهم، تَمِيلُ وتَشتاقُ وتَحِنّ وتُسْرِع إليهم وإلي بلدهم مكة بكل حبٍّ وتَشَوُّقٍ، ليَشهدوا منافع لهم فينتفعوا ويسعدوا بالصلاة والذكر والحجّ والعمرة وبتبادل الخبرات والتجارات والعلوم وكل ما فيه صلاحهم وكمالهم وسعاداتهم في الداريْن.. ".. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ.." أيْ وأعْطِهم وبَلَدَهم من رزقك الواسع الذي هو بغير حسابٍ وبكرمك وفضلك ورحمتك وبَرَكَتك من كل أنواع الثمار والخيْرات والاحتياجات والقُوَيَ التي تُغنيهم وتُسعدهم.. وقد اسْتُجِيبت الدعوة حيث هذا المكان المُعَظّم بمكة المُكَرَّمَة والذي لا يَنبت فيه زرع تَهْوي إليه قلوب وعقول جميع المسلمين وبه كلّ شيءٍ من أيِّ خيرٍ يُراد.. ".. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)" أيْ لعلهم بعد تَذَكّرهم بعض نِعَمِك هذه عليهم أن يشكروك عليها، فإنَّ مَن شَكَرَك زِدْته مِن خيرك وعطائك.. أيْ لكي يشكروا كل نِعَمك والتي لا تُحْصَيَ، يشكروها بعقولهم بأن يستشعروا قيمتها، وبألسنتهم بحمدك، وبأعمالهم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي يجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَتَ سبحانك ووعْدك الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7).. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله للناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديهم من خلال كل نِعَمِه ليُعينهم عليه.. لكي يشكروا.. فليكونوا كذلك شاكرين ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)" أيْ يا ربنا إنك تعلم كل ما نَكْتُم وما نُظْهِر من أقوالنا وأعمالنا وأفكارنا وخواطرنا واحتياجاتنا في سِرِّنا وعلانيتنا لا يَخْفَيَ عليك منها أيّ شيءٍ لأنه يستوي في علمك كل ما هو مَخْفِيّ وما هو مُعْلَن، فأنت أعلم بكل ما نحتاجه مِمَّا يُصْلِحنا ويُكْمِلنا ويُسْعِدنا سواء دعوناك به كله أو تركنا الدعاء ببعضه لأننا لا نعلمه وأنت تعلمه فأنت أرحم بنا مِنّا فأعْطِنا ويَسِّر لنا يا ربنا بعلمك ورحمتك وكرمك وفضلك كل الاحتياجات الصالحة الخَيْرِيَّة لنا سواء طلبناها أم لا فعِلْمك بحالنا يُغْنِي عن سؤالنا.. هذا، وتكرار نداء يا ربنا هو للمُبَالَغة في إظهار الحبّ والتّوَاصُل والاحتياج وانتظار الإجابة في التوقيت وبالأسلوب المُناسِب المُفيد المُسْعِد.. ".. وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)" أيْ هذا قد يكون استكمالاً لدعاء وكلام إبراهيم (ص) وقد يكون من كلام الله تعالي، وهو مزيدٌ من التأكيد علي علمه سبحانه التامّ بكل ما يُخْفَيَ وما يُعْلَن.. أيْ لا يَخْفَىَ علي الله أيّ شيءٍ من الأشياء سواء أكان هذا الشيء فى الأرض أم فى السماء أم فى غيرهما، فهو بكل تأكيدٍ حتماً عِلْمه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، لأنه هو الخالق، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم
ومعني "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)" أيْ هذا تذكيرٌ وتعليمٌ من الله تعالي للبَشَر لكي يكونوا دائما من الشاكرين لربهم علي نِعَمه التي لا تُحْصَيَ، بعقولهم باستشعار قيمتها وبألسنتهم بحمده وبأعمالهم بأن يستخدموها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك سيجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم:7)، فلقد خَلَقهم سبحانه من عدمٍ وأعطاهم عقولا وقوة وصحة وسَخَّرَ لهم السموات والأرض بكلّ ما فيها لينتفعوا وليسعدوا بها وبَيَّنَ لهم في الإسلام أين النور والخير والسعادة وأين الظلام والشرّ والتعاسة ليتمسّكوا بكل أخلاقه ليسعدوا بها تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. ".. الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ.." أيْ الذي أعطاني ومَنَحَنِي ورَزَقني مع الكِبَر الذى لا يَحْدُث معه فى الغالِب قُدْرَة علي الإنجاب – وفي هذا بيانٌ لعظيم نِعَم الله ورزقه لخَلْقه من حيث لا يَحْتَسِبون – إسماعيل واسحق بعد دعائي له أن يَهِبَ لي من الصالحين.. وإسماعيل هو الابن الأكبر له وقد رزقه الله به من زوجته هاجر وكان سِنّه يُقارِب المائة، وإسحاق هو أصغر من إسماعيل وقد رَزَقه الله به من زوجته ساره وكان سِنّه حينها مائة واثنتى عشرة سنة تقريبا.. ".. إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)" أيْ وقد استجاب لدعائي لأنَّ ربي أيْ مُرَبِّيني وخالقي ورازقي وراعِيني ومُرْشِدي من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحني ويُكملني ويُسعدني تمام السعادة في دنياي وأخراي حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ – واللام تُفيد التأكيد – سميع الدعاء لمَن يدعوه الذي يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، فهو قريب الإجابة لمَن يدعوه، فلا يأس مُطلقا ما دام معه بعلمه وبقُدْرته فهو القادر علي كل شيء، فإنْ أجاب له سؤاله فبفضله ورحمته وإنْ لم يُجِبْه فلِحِكْمَةٍ ولمَصلحةٍ له ولغيره يعلمها سبحانه ولا يعلمها الداعي (برجاء مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.."، للشرح والتفصيل عن كيفية إجابة الدعاء وحُسْن اتّخاذ الأسباب معه)
ومعني "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)" أيْ يا ربّ اجعلني ووَفّقني ويَسِّر لي أن أكون مُقيمَ الصلاة أيْ مُوَاظِبَاً مُدَاوِمَاً علي تأدية الصلوات المَفروضة في أوقاتها وأقوم بتأديتها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعت أيْ أُحْسِنها وأتْقِنها لأنك سبحانك ما أوْصَيْتَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وبينك أنت خالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء ليطلب منك ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وهو دعاء يعني ضِمْنَاً اجعلني دَوْمَاً من المُقيمين أيْ الثابتين على الإسلام العامِلين به في كل الأحوال حيث الصلاة هي رَمْزٌ له.. واجعل كذلك أبنائي وأحفادي ونَسْلي مُقِيمين لها.. ".. رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)" أيْ ويا ربنا اسْتَجِب دعائي فيما أدعوك به كله، وتقبَّل عبادتي أيْ طاعتي، لأنَّ من معاني الدعاء أنه هو العبادة كما قال الرسول (ص) ( برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل)، أيْ أعطني عليها من عطائك الذي لا يُحْصَيَ كل خيرٍ وسعادةٍ في دنياي وأخراي.. (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (186) من سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)
ومعني "رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)" أيْ كما أدعوك يا ربنا أن اغْفِر لي ما قد يكون حَدَثَ مِنّي مِن سُوءٍ مِمَّا لا يَسْلَم منه البَشَر واغفر لوالديَّ – وهذا قبل أن يعرف موت أبيه على الشرْك فلمّا عرف تَوَقّف عن الدعاء له وتَبَرَّأ منه وأمّا أمّه فيَرَيَ بعض العلماء أنها كانت مؤمنة ويَرَيَ بعضهم أنها ماتت قبل رسالته فلا مانع من الاستغفار لها – واغفر للمؤمنين جميعاً يوم يقوم الناس للحساب والجزاء بما يستحِقّونه من ثوابٍ أو عقابٍ يوم القيامة.. إنَّ في الآية الكريمة إرشاداً ودعوة لكل المؤمنين بربهم المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم ليَتَشَبَّهوا جميعا برسلهم الكرام وبالمؤمنين الأوائل في الحب وسلامة الصدور والتعاون والكرم والعدل فيما بينهم ودعاء بعضهم لبعض بالخير حتي يوم القيامة ونحو هذا من الأخلاقيات الإسلامية الحَسَنَة التي تسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. إنهم مِن حبّهم لكلّ مَن يحب الله ورسوله وإسلامه ومِن صفاتهم الحسنة يَدْعون ربهم بالمغفرة وبكل خيرٍ لأنفسهم، ولوالديهم، ولكل مَن دَخَلَ بيوتهم ودينهم ودولهم ومساجدهم وأماكن تواجدهم وهو مؤمن مُحِبّ مُتَعَاوِن، ولإخوانهم المؤمنين ولأخواتهم المؤمنات، الحَالِيِّين والمُسْتَقْبَلِيِّين، وأيضا السابقين لهم في العصور السابقة اعترافا بفضلهم لأنهم تمسّكوا بالإسلام وعملوا به وحافظوا عليه ودافعوا عنه بكل ما يملكونه وبما يحتاجه ونشروه ودعوا إليه بكل قُدْوةٍ وحكمة وموعظة حسنة وحملوه للناس جميعا جيلاً بعد جيلٍ حتي وَصَلَ إليهم، ويدعونه تعالي كذلك بأن يكونوا دائما سَلِيمِي الصدر نحو كل مؤمنٍ وكل البَشَر فيما عدا المُعتدين لا يحملون لأحدٍ غِلَّاً أيْ عداوةً وحقداً وكُرْهَاً أو غيره بل كل خير، فيحيا الجميع بهذه الأخلاقيَّات في كل أمنٍ وسلام وخير وسعادة في الداريْن، فكل الأمة الإسلامية من أولها لآخرها مُتَرَابِطَة قوية عزيزة مُتَطَوِّرَة سعيدة يجمعها رابط الإيمان والحب متجاوزا أيَّ حدودٍ مكانية أو زمانية أو بيئية أو عرقية أو قبلية أو عائلية أو غيرها إلي قيام الساعة ويَحسب فيها السابقون حساب اللاحقين ويسير هؤلاء علي الآثار الحسنة لسابقيهم صفا واحدا على مدار العصور واختلاف الأماكن تحت راية الله ورسله ودينه الإسلام.. إنهم يسألونه تعالي كل ذلك وهم متأكّدون من إجابته لدعائهم لأنه الأحقّ بذلك حتما والقادر عليه لأنه رؤوف رحيم بجميع خَلْقه أيْ كثير الرأفة والرحمة، فهو أرحم بهم من أنفسهم ومن الوالدة بولدها وهو سبحانه كثير الرحمة الذي رحمته وَسِعَت كل شيء والتي هي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة من أيّ ذنب)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنت متمسّكاً عامِلاً بكل أخلاق إسلامك وما كنتَ من الظالمين أيْ الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فيتعسوها ويتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا
هذا، ومعني "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ ولا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً أيها المسلم أنَّ الله مُنْشَغِلٌ سَاهٍ عن الذي يعمل الظالمون غيرُ عالِمٍ به غيرُ مُنْتَبِهٍ له تَارِكٍ مُهْمِلٍ إيَّاهم بلا عقابٍ علي ظلمهم بما يُناسبه ببعض العذاب في دنياهم ثم بأَتَمِّه وأكْمَلِه وأشَدِّه في أخراهم، والظالمون هم الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم فيتعسوها ويتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. ".. إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)" أيْ كَلّا لن يَتْرُك الله عقابهم قطعاً في الداريْن وهو عالمٌ حتماً بتمام العلم بظلمهم إذ هو العليم الخبير وهو القادر علي كل شيء فليس تأخير العقاب إذَن لغفلةٍ أو نسيانٍ أو إهمالٍ منه سبحانه ولكن يُؤَخّرُ عقابهم ليومٍ عذابه شديد بعضه في الدنيا وتمامه في الآخرة حيث تَشْخَص فيه الأبصار أيْ تَثْبُت وتَظلّ العيون مفتوحة دون أن تُغْمِض الجفون بما يدلّ علي شدّة الرعب وانتظار كل شرٍّ من فظاعة العذاب الذي تراه.. إنه تعالي يُمْهِلهم أيْ يَتركهم لفترةٍ لمُرَاجَعَة ذواتهم ولا يُهْمِلهم بالقطع، لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن، رحمة بهم وشَفَقَة عليهم.. إنَّ بعض الظالمين من شدة إغلاقه لعقله بسبب الأغشية التي وضعها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره يظنّ مُتَوَهِّمَاً ومُنْخَدِعَاً أنَّ تأخير العقاب عنه لا يعني له إلاّ أنَّ الله غير موجودٍ أو هو عاجز عن عقابه علي شروره!! تعالي الله عن ذلك السَّفَه والتخريف عُلُوَّاً كبيراً.. وبعضهم يَتَوَهَّم أنه بما أنَّ الله قد أطالَ عمره وهيأ له أسباب نعيمه في حياته الدنيا ولم يُسارِع بعقوبته بما يستحِقه علي فِعْله للشرور والمَفاسد والأضرار، فهو إذَن يُحبّه ويُكْرِمه لأنه مُسْتَحِقّ لذلك!!.. إنَّ هذا الإمهال هو للمصلحة، لمصلحة الطرفين، مصلحة المسلمين أولا حيث يستفيدون خبراتٍ دعوية وجَلَدَاً وصَبْرَاً مُفيداً نافعاً لهم في حياتهم عموما، ويزدادون تمسُّكاً وعَمَلاً بإسلامهم حينما يقارنوا حالهم السعيد بحال غيرهم وما فيه من شقاءٍ وتعاسةٍ وقَلَقٍ وتَوَتُّرٍ واضطرابٍ وصراعٍ واقتتال، ونحو ذلك من الفوائد والسعادات الدنيوية والأخروية، ثم لمصلحة الكافرين والمشركين والمنافقين والظالمين والفاسدين وغيرهم، ورحمة بهم، لتكون لهم فرصة بعد أخري للعودة للخير وللحقّ وللسعادة، هم أو مِن ذُرِّيَّاتهم، وهذا يَحدث في الواقع كثيرا حيث يُسْلِم ويَسعد أبناء أشدّ الناس كفراً وشَرَّاً، وهذا أنْفع وأسْعَد حتماً لهم وللبشرية وللأرض كلها من أن يُعَذّبوا
ومعني "مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)" أيْ هذا بيانٌ للحال التّعِيس المُخِيف لهؤلاء الظالمين فى هذا اليوم الشديد الذي تَشْخَص فيه الأبصار يوم القيامة حيث يخرجون من قبورهم مُهْطِعين أيْ مُسْرِعين من شِدَّة خوفهم مَادِّين أعناقهم مُوَجِّهين أنظارهم لا يَلتفتون لشيءٍ آخر نحو الداعي الذي يدعوهم للحساب وللعقاب مُلَبِّين نداءه وطَلَبه في مُنْتَهَيَ الانكسار والذلّة والذعْر والالتزام دون أن يُخالِف منهم أحدٌ أو يَتَخَلّف أو يتأخّر.. ".. مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ.." أيْ ويكونون كذلك رافِعِي مُثَبِّتِي رؤوسهم يَنظرون فقط إلي مَا أمامهم لا يحاولون الالتفات للنظر لأيِّ شيءٍ يَمِيناً أو يَسارَاً من شدّة الخوف والانزعاج والاسْتِكَانَة.. وأيضا من معاني مُقْنِعِي رؤؤسهم عكس ما سَبَق أيْ مُطَأْطِئِين إيَّاها إذْلاَلاً وخوفاً.. والمَعْنَيان يَصِلاَن لنتيجةٍ واحدةٍ وهي تمام الذلّ والرُّعْب.. ".. لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ.." أيْ لا يَرْجِع إليهم بَصَرُهم أيْ لا يَعود إلى مُعْتَادِه والمقصود أنهم لا يستطيعون تحويله بل يبقون ناظرين لا تَطْرف أيْ لا تغْمِض أطراف أعينهم أيْ جُفونهم من هَوْل ما يشاهدونه ومن شدَّة التركيز والخوف انتظاراً لِمَا سَيَحْدُث من عذابٍ لا يُوصَف.. ".. وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)" أيْ وقلوبهم أيْ عقولهم ومَشاعرهم كالهواء أيْ كالخَلاء أيْ الفَضاء أيْ خالية من أيِّ فِكْرٍ وأمنٍ لشِدَّة الحَيْرَة والدهْشَة والاضطراب إلا التفكير في خوف العذاب وهمومه وآلامه، وهي كذلك كالهواء الذي يتحرّك في كلّ اتّجاهٍ بما يعني شدَّة حركة قلوبهم بسبب عظيم فَزَعِهم
ومعني "وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)" أيْ وحَذّر الناس جميعا يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم من يوم يَحْضر العذابُ إلي الذين ظلموا منهم وهو يوم القيامة – وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – فيقولون حينها بكلّ حَسْرَةٍ ونَدَمٍ في وقتٍ لن ينفع فيه أيّ نَدَمٍ يا ربنا أَعِدْنا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى وأخّرْ أعمارنا وحسابنا إلى وقتٍ قريبٍ حتى نستطيع فيه أن نستجيب لدعوتك التى تأمرنا بعبادتك وحدك وأن نَتّبِع الرسل فيما يُوصُوننا به في دينك الإسلام ونَتَدارَك ما قَصَّرْنا فيه من أعمالِ خيرٍ ونبتعد عن كل شرّ.. وهو طَلَبٌ لن يُستجابَ له بكلّ تأكيد، لأنه قد انتهي وقت العمل وجاء وقت الحساب عليه، وقد حُذّرُوا كثيرا بكل أنواع التحذير قبل ذلك في حياتهم الدنيا فلم يستجيبوا، بل كذّبوا واستكبروا وعانَدوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار من أجل تحصيل ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنه تعالي يعلم كذبهم ولو عادوا للدنيا لَعَادُوا لشَرِّهم كما أكَّدَ ذلك بقوله ".. وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الأنعام:28).. هذا، وإنذار الناس يكون بنُصْحِهم بكل قُدْوَةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنةٍ بإحسان الاستعداد لهذا اليوم المهيب بالإيمان بالله والعمل بكل أخلاق الإسلام (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، والإنذار يكون عامَّاً للجميع، للمؤمن كما يكون للكافر، إلا أن المؤمن يستجيب للنصح فينجو من العذاب ويسعد تماما في الداريْن، بينما الكافر لا يستجيب فيُعَذّب ويتعس فيهما.. هذا، وكما أنه (ص) – وكذلك كل مسلم – مُنْذِر فهو أيضا حتما مُبَشّر بكل خيرٍ وسعادة في الدنيا والآخرة للمتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم، ولكن اقتصر الحديث في الآية الكريمة علي الإنذار دون التبشير لأنه يُناسب الحال حيث سياق الآيات يتكلم عن الظالمين الذين لم يَتّبِعوا الإسلام.. ".. أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)" أيْ يُقالُ لهم حينها، من الله تعالي أو من الملائكة، على سبيل الذمِّ واللّوْمِ الشديد لهم والتذكير بسُوئهم والرفض القاطِع لطَلَبهم ولإظهار كذبهم حيث قد تَمَّ تأخيرهم بالفِعْل طويلاً في دنياهم ولو أُخّرُوا لأجلٍ قريبٍ آخر وأعيدوا للدنيا لَعَادُوا لشَرِّهم، ولكي يزدادوا حَسْرَة ونَدَمَاً وألَمَا، هل لم تكونوا أيها الظالمون تُقْسِمُون كذباً بالأيْمان المُغَلّظَة من قبل هذا اليوم فى دنياكم أنه ليس لكم أيّ زوالٍ عن الحياة الدنيا وانتقالٍ إلى الحياة الآخرة بل بعد موتكم ستَبْقون فى قبوركم إلى أن تفني أجسادكم وكذّبتم بهذا الذي يَحْدُث الآن ونَسيتموه مِن بعثٍ للناس بأجسادهم وأرواحهم ومِن حسابٍ وثوابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ وفَعَلْتم الشرور والمَفاسد والأضرار أنتم ومَن تُشَكّكونهم في هذا بقَسَمِكم والذي جعلتموه مُبَرِّرَاً لسُوئكم حيث لا حساب من وِجْهَة نَظَرِكم؟!.. فالآن قد ظَهَر كذبكم فذوقوا أنتم ومَن خُدِعَ بكم وصَدَّقكم وفَعَلَ مِثْلَكم العذاب في مُقابِل ذلك
ومعني "وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)" أيْ هذا مزيدٌ من الذمِّ واللّوْمِ الشديد لهم والتذكير بسُوئهم والرفض القاطِع لطَلَبهم ولإظهار كذبهم حيث قد تَمَّ تأخيرهم بالفِعْل طويلاً في دنياهم ولو أُخّرُوا لأجلٍ قريبٍ آخر وأعيدوا للدنيا لَعَادُوا لشَرِّهم إذ قد عاشوا بالفِعْل لفتراتٍ في مساكن الظالمين مِثْلهم قَبْلهم ولم يحاولوا أبداً الاتّعاظ بما حَدَثَ من عقابٍ لهم وألاّ يَفعلوا كفِعْلهم، فيزدادوا بكل هذا الكلام معهم حَسْرَة ونَدَمَاً وألَمَا كنوعٍ من العذاب النفسيّ مع الجسديّ، ويتأكّدوا تماما أنهم مُسْتَحِقّون للعذاب بما يُناسِب إصرارهم ولم يُظْلَموا في ذلك.. أيْ وكذلك مع قَسَمِكم أنكم ما لكم من زوال أقَمْتُم وعِشْتُم في الدنيا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصى من الأمم قبلكم، وظَهَر لكم بمشاهدة آثارهم وبما تَتَداوَلونه مِمَّا اشْتُهِرَ بينكم من أخبارِ عذابهم كيف عاقبناهم بما يُناسبهم من عقوباتٍ لأنهم كانوا يُكَذّبون ويُعانِدون ويَستكبرون ويُرَاوِغون ويَستهزؤن أمثال أقوام الأنبياء هود وصالح وشعيب وغيرهم حيث أنتم ترون بقايا وآثار بيوتهم الخَرِبَة المُدَمَّرَة بعد إهلاكنا لهم بوسائل مختلفة كعواصف وزلازل وغيرها؟!.. وضَرَبْنا لكم الأمثال أيْ وذَكَرْنا لكم ببيانٍ واضِحٍ التوْضيحات والتشبيهات في كتبنا مع رسلنا مِن أجل تقريب المعاني لأذهانكم – ولكل الناس – بما فعلوه وبما فَعَلْناه بهم وأنَّ مَثَلَكم كمَثَلِهم لتَتّعظوا بهذه الأمثال ولكي يَسْهُل فهمها وتطبيقها فتَتدبَّروا فيها فتَنتفعوا بالعمل بها في كل شئون حياتكم فتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. لكنْ رغم كل ذلك لم تَتّعِظوا بهذا وهو الذي من المُفْتَرَض أن يجعل أيَّ عاقلٍ يَعْتَبِر حيث العِبْرَة أمامه يراها كل وقتٍ وليست بعيدة أو غائبة عنه!.. فالآن تسألون التأخير للتوبة حين نـزل بكم ما قد نـزل من العذاب! إنَّ ذلك لن يَحْدُث حتما!!.. لقد صَدَقَ الله وَعْده في عذاب الدنيا لمَن يَسْتَحِقّه وترونه بأعينكم فلماذا لم تأخذوا عِبْرة من ذلك وأنه سبحانه صادقٌ قطعاً حين يَذْكر عذاب الآخرة؟!.. لقد كان مِن العقل والمَنْطِق السليم بعد كل ذلك أنْ تَعْتَبِروا وتَتّعِظوا وتعودوا إلى رُشْدِكم وتُؤمنوا وتعملوا بأخلاق إسلامكم ولكنكم سِرْتُم علي طريقهم ودُمْتُم علي سُوئكم فاليوم أنتم بالتالي مُسْتَحِقّون لنَيْلِ ما يُناسبكم من عذابٍ ولا مجال لقبول أعذار أمثالكم فليس هناك أيّ ظلمٍ لكم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وإضافة إلي ظُلْمِهم السابق ذِكْره قد مَكَرَ أيْ دَبَّر هؤلاء الظالمون تدبيرهم الشَّرِّيِّ الشديد من كل المَكائد من أجل إيقاع الشرّ بالإسلام والمسلمين.. ".. وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ.." أيْ وعند الله عِلْم مَكْرِهم – وكذلك عنده جزاؤه فهو مُعاقِبهم عليه بما يُناسب من عقابٍ في الداريْن – يَعْلمه بتمام العلم ويَمكر ضِدَّه بحيث يعود عليهم فيهزمهم وينصر المسلمين المُحْسِنين لاتّخاذ أسباب النصر بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، فلا قيمة إذَن لمَكْرهم ولا تأثير له لأنه لله المَكْر جميعا أيْ له وحده لا لغيره المَكْر كله بمعني أنَّ مَكْرهم وأيَّ مَكْرٍ في كوْنه هو كالعَدَم لأنه أصلا تحت سيطرته وعِلْمه ولا يَضُرّ إلا بإذنه لحكمةٍ ولمصلحةٍ مَا فكأنه ليس لأيِّ أحدٍ مهما كان أيّ مَكْرٍ يُذْكَر بجانب مَكْرِه تعالي، وكذلك بمعني أنه له التدبير كله أيْ يُدَبِّر تعالي في مُقابِل مَكْرهم تدبيراً يَستدرجهم لعذابهم وهلاكهم – ولفظ المَكْر إذا نُسِبَ للبَشَر فإنه يعني الخِدَاع لإحداث شَرٍّ مَا وإذا نُسِبَ لله تعالي فإنه يعني التدبير، وللخير فقط بالقطع – والله حتماً خير الماكرين أيْ المُدَبِّرين أىْ أحسنهم وأقواهم مَكْرَاً وأعظمهم تنفيذاً لتدبيره ولعقابه الذي يريده بمَن يَمكر بهم إذ ماذا يُساوِي مَكرهم الذي لا يُذْكَر أمام تدبير خالِق الخَلْق كله مالِك المُلك كله الذي له الجنود كلها والتي لا يعلمها إلا هو سبحانه؟! إنَّ نتائج تدبيره تعالي ونَصْره لأهل الخير عليهم وهزيمتهم وعَوْدَة سيئات مَكْرهم عليهم ستَظهر في توقيتٍ وبأسلوبٍ بحيث لا يُحِسّوا ببدايتها فيمكنهم مثلا الاستعداد لمقاومتها أو الفرار منها (برجاء لتكتمل المعاني مراجعة الآية (43) من سورة فاطر ".. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ..").. إنَّ مَكْرَهُ تعالي بأهل الشرّ لإبطال مَكَائدهم واسْتِدْرَاجِهم درجة بدرجةٍ نحو هلاكهم بأخَفِّ جنوده سبحانه استهزاءً بهم واحتقاراً لهم، لا يُقَارَن حتما بمَكْرهم الهزيل بالإسلام والمسلمين وأهل الحقّ والخير لأنه ليس هناك مُقَارَنَة قطعا بين قُدْرة الخالق الجبّار القهّار القادر علي كل شيءٍ بمخلوقه الذي لا يَملك أيَّ شيءٍ إلا مِمَّا مَلّكه هو عَزّ وجَلّ!!.. ".. وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)" أيْ وما كان مَكْرُهم بالتالي إذَن قوياً مُؤَثّرَاً بل هو تافِهٌ كأنه لا شيء مَهْمَا تَوَهَّمُوا هُمْ شِدَّته وإحْكامه بحيث تَنْمَحِي وتَخْتَفِي منه الجبال الراسخات مثل آيات القرآن العظيم وما بها من شريعة الإسلام والتي هي راسخة ثابتة في الأرض وفي عقول المسلمين وحياتهم بحفظ الله تعالي لها وبإيمانهم وبتمسّكهم وعملهم بها ونَشْرهم إيّاها ودفاعهم عنها وتَيْسيره أسباب ذلك منه سبحانه لهم بتوكّلهم عليه، فاطمئنوا واسْتَبْشِروا يا مسلمين فلو كان مَكْرُهم يُزيل الجبال فلن يمكنهم أبداً أن يُزيلوا إيمانكم وقرآنكم وإسلامكم لأنَّ الله أشدّ مَكْرَاً.. كذلك من المعاني: وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإنْ كان مَكْرُهم في تقديرهم وتَخَيُّلهم هُمْ لا غيرهم لتزول منه الجبال وتُؤَثّر في مَنْع انتشار الإسلام.. وأيضا من المعاني وإنْ كان مَكْرُهم بمعني شِرْكُهم بالله وعبادتهم غيره سبحانه وقولهم عليه ما لا يَليق لو فُرِضَ واصْطَدَمَت أقوالهم وأفعالهم السيئة هذه بالجبال لكَسَرَتها وهَدَمَتها وأزالتها من شِدَّة قُبْحِها وسُوئها وتأثيرها الضَّارّ، وهذا المعني هو مِثْل قوله تعالي في سورة مريم في الآيتين (90)، (91) "تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا"، "أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا".. هذا، وهناك قراءة تفتح اللام الأولي فتكون "لَتَزول" بمعني أنَّ مَكْرهم كان شديداً إلي الحَدّ الذي قد يُزيل الجبال رغم ثباتها إنْ كان من الممكن إزالتها لكنه لا يساوي شيئاً بالمُقارَنَة بمَكْر الله القويّ العزيز
ومعني "فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)" أيْ هذا مزيدٌ من الطمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أيْ وما دام الأمر كذلك كما ذُكِرَ في الآيات السابقة عن سوء مصير الظالمين وأنَّ مَكْر الله بهم شديد فلا تظنّ وتَتَوَهَّم مُخْطِئَاً بالتالي إذَن أيها المسلم أنَّ الله يُخْلِف رسله والمسلمين معهم ومِن بَعْدهم حتي يوم القيامة ما وَعَدَهم به من نَصْرهم ونَشْر دينهم الإسلام وهزيمة عدوهم ومِن كل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن وشرٍّ وتعاسةٍ لأعدائهم فيهما، بل ثقوا تماما أيها المسلمون في تَحَقّق ذلك في التوقيت وبالأسلوب الذي نراه مناسباً مُحَقّقَاً لأفضل وأسعد النتائج لكم وأتعسها عليهم.. إنَّ كلّ كريمٍ عظيمٍ لا يُمكن أن يُخْلِف وعده – أيْ لا يُوفي به كله أيْ لا يُنَفّذه وافِيَاً تامَّاً بلا أيِّ نقص – فما بالنا بأكرم الأكرمين وأعظمهم الخالق الذي لا يُقارَن بخَلْقه! إنه تعالي لا يُمكِن أن يُخْلِف وعْده مُطلقا، ولماذا يُخْلِف؟! إنَّ الذي يُخْلِف هو العاجِز أو المُرَاوِغ أو الغادِر أو البخيل أو نحو هذا، تعالي الله عن كل هذه الصفات عُلُوَّا كبيرا، فهو مالِك كل شيء وقادر تماما عليه، فليَستَبْشِر إذن الذين آمنوا وليَطمئنوا وليَسعدوا وليَستمرّوا علي إيمانهم وليَثبتوا وليَصبروا لينالوا وعْد الله الأكيد من تمام الخير في دنياهم وأخراهم، ولْيَسْتَفِق غيرهم وليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان ونزول العذاب فيهما (برجاء لاكتمال المعاني مراجعة الآية (34) من سورة الأنعام "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ").. ".. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)" أيْ لأنَّ الله المُتَّصِف بكلّ صفات الكمال بكل تأكيدٍ عزيزٌ صاحبُ انتقامٍ من الذين ظلموا ومِن كلّ مُكذبٍ مُعانِدٍ مُستكبر مُستهزيء أيْ غالِبٌ لا يُغْلَب يُعِزّ ويَنصر ويُكْرِم أهل الحقّ والخير ويذلّ ويَهزم ويُهين أهل الباطل والشرّ وينتقم منهم أي يُعاقبهم بغضبٍ بمِثْل ما فَعَلوا إذا لم يتوبوا ويعودوا له ولإسلامهم.. فلْيَحذر إذَن مِثْل هؤلاء وليستفيقوا قبل فوات الأوان، وليَطمئنّ أهل الخير ولا يخافوا شيئا وليَستبشروا وليَصبروا وليَنتظروا كلّ الخير والسعادة في دنياهم قبل أخراهم
ومعني "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)" أيْ هذه بعض أهوال يوم القيامة والذي يَمرّ طويلا تعيسا علي أهل الشرّ حيث حسابهم العَسِير والانتهاء بهم إلي عذاب جهنم بينما يمرّ سريعا سعيدا علي أهل الخير لأنه ينتهي بهم إلي الاستقرار في نعيم الجنة الخالد.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا الاستعداد، اذكروا يوم القيامة، يوم تُغَيَّرُ الأرضُ غيرَ الأرضِ الموجودة الآن وكذلك تُغَيَّرُ السمواتُ غيرَ السموات، بحيث تكون علي أشكال أخري غير التي يعرفها الخَلْق، فيَتَغَيَّر هذا العالَم المعروف بعالَمٍ آخر جديدٍ يأتى به الله تعالى على حسب إرادته وحِكْمته، بما يدلّ علي شدَّة الأحداث التي ستَحْدُث في ذلك اليوم.. ".. وَبَرَزُوا لِلَّهِ.." أيْ واذكروا كذلك يوم ظَهَرَ الخَلْقُ وخَرَجُوا من قبورهم حينها، مؤمنون وكافرون، كلهم جميعا، لله، حيث بَعَثَهم سبحانه بأجسادهم وأرواحهم بعد كوْنهم ترابا، لحسابهم علي كل أقوالهم وأعمالهم في دنياهم، بالخير خيراً وسعادة ويَزيد، وبالشرِّ شرَّاً وتعاسة أو يَعفوا.. ".. الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)" أيْ وبَرَزوا لحسابهم من الله الواحد أيْ الذي ليس معه شريك القهار أيْ الكثير القَهْر أيْ الغَلَبَة لكلّ شيء، فالجميع تحت سلطانه، فهو تعالي الغالِب القاهِر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم.. هذا، واختيار هذين الوصفيْن لله تعالي وهو الذي له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ يُناسب شدَّة المَوْقِف علي الكافرين وعلي الذين كانوا يعبدون آلهة غيره سبحانه مُتَوَهِّمين أنها ستُفيدهم عند حسابهم وستَدْفع عنهم شيئاً من عذابهم، إذا كان هناك يوم حساب، حيث كانوا يُكِذّبونه!
ومعني "وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)"، "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)" أيْ وتشاهد أيها المُشَاهِد المجرمين يومها – وهم الذين ارتكبوا في دنياهم الجرائم بأنواعها المختلفة، سواء أكانت كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادةً لغيره كصنمٍ أو حجرٍ أو نجمٍ أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدمَ عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا – مُقَرَّنِين في الأصفاد أي مُقَيَّدِين في السلاسل، مأخوذة من قَرَّنَ بمعني شَدَّدَ، وكل مجموعة عِبَارة عن قُرَنَاء قد اقترنَ بعضهم مع بعضٍ في القيود بحسب تُشابههم في جرائمهم في دنياهم، من قَرَنَ بمعني جَمَع، وهم في موقفٍ فظيعٍ مُخيفٍ مُرْعِبٍ مهينٍ حيث مع تقييد أيديهم هم يُطَأْطِئون رؤوسهم ويُوَجِّهونها للأرض من الذلّ والعار والانكسار والاعتراف بالجريمة وشدّة الهَمّ والحزن، وهم أمام ربهم خالقهم الذي كانوا يُكَذّبون بوجوده وبلقائه أو يعصونه، خائفين مَرْعوبين حَذِرين مُتَرَقّبين أشدّ الخوف والرعب والحذر والترقّب بسبب ما فعلوا من شرور ومَفاسد وأضرار يعلمونها جيدا وبسبب العذاب الذي يستحِقّونه بما يُناسِب أعمالهم والذي هو حتما نازِلٌ بهم بكل تأكيد وليس لهم منه أيّ مَفَرّ ولا نجاة.. "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)" أيْ ومن بعض صور عذابهم أنَّ ثيابهم ليست ثياباً بل عبارة عن مادَّةٍ من قطران يُدْهَن به أجسادهم كأنه ملابس لهم وهو شديد الاشتعال بالنيران نَتِن الرائحة قبيح المَنْظر، من أجل مزيدٍ من زيادة ألمهم وإيذائهم وإهانتهم.. وأيضا تُغَطّي النار وجوههم كالغشاء تَشْويها مع أجسامهم، بما يُفيد إحاطتها بهم بعذابها الذي لا يُوصَف من كل جانبٍ وفي كل مكانٍ مع مزيدٍ من إذلالهم واحتقارهم حيث وجه الإنسان هو رمز تكريمه فإذا أُهِينَ الوجه أهِينَ الإنسان كله
ومعني "لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)" أيْ وبَرَزُوا لله الواحد القهّار لكي يَجزيَ أي يُكافِيءَ ويُعطي ويُحاسب تعالي كلَّ نفسٍ إنسانيةٍ جزاءَ ومُقابِل ما كسبت أيْ عملت في دنياها من خيرٍ أو شرّ، لكي يأخذ كلّ صاحب حقٍّ حقه والذي قد يكون فاته في الدنيا بظلم ظالمين له، ويُعاقب كلّ فاعلِ شَرٍّ علي شَرِّه، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم عند أعدل العادلين سبحانه، فذلك هو تمام العدل، فلا يُمْكِن ولا يُعْقَل أبدا أن يَنتهي نظام الحياة الدقيق هذا هكذا عَبَثِيَّاً بأن يصير الناس إلي التراب بعد موتهم وينتهي الأمر!! (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة والحساب في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، فالذين آمنوا أي صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي تمسّكوا وعملوا بكلّ أخلاق إسلامهم، لهم قطعا مغفرة أيْ مَحْو لذنوبهم التي قد وقعوا فيها وعفو عنها من ربهم الغفور الرحيم الودود، ولهم مع هذا ما هو أعظم وأسعد – إضافة إلي السعادة التامّة التي كانوا فيها في دنياهم بسبب إيمانهم بربهم وتمسّكهم وعملهم بكلّ أخلاق إسلامهم ما استطاعوا – وهو الرزق الكريم أي النفيس الفخم الهائل وهو الجنة بدرجاتها حسب أعمالهم حيث تمام السعادة الخالدة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. بينما غيرهم المُسِيئين بكل أنواع الإساءات الذين فَعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار ولم يتوبوا فحالهم علي العكس تماما حتماً حيث لهم بالتأكيد كلّ شرٍّ وتعاسة بما يُناسب شرورهم في عذابٍ مؤلمٍ مُوجِعٍ مُهينٍ مُتْعِسٍ لا يُوصَف، بعد عذاب الدنيا الذي كانوا فيه وتعاساتها بسبب بُعْدهم عن ربهم ودينهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما مِن درجات القَلَق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو الاقتتال مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)" أيْ إنَّ الله حتماً لا يحتاج إلي عَدِّ الأشياء وحسابها وتجميعها كما هو حال البَشَر! وذلك لأنه تعالي له كلّ صفات الكمال والتي منها أنه سميعٌ يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ وبصيرٌ يَرَاه بكامِل الرؤية وعليمٌ يَعلمه بتمام العلم وبالتالي سيُجازِي حتما بكلّ علمٍ وقدرةٍ وعدلٍ وسرعة، فهو يُسَرِّع بالخير لأهل الخير في الدنيا قبل الخير الأعظم والأكمل في الآخرة، حيث يُحاسِب جميع الخَلْق بسرعةٍ في لحظةٍ إذ هو سبحانه لا يحتاج إلي عَدٍّ أو إعمالِ فِكْرٍ عند حساب الحسنات والسيئات مثلما يفعل خَلْقه، ولا يشغله شأنٌ عن شأنٍ بل جميع الخَلْق بالنسبة لكمال قُدْرَته وعِلْمه كالنفس الواحدة، كما أنه يُجازِي المُسِيء بإساءته في دنياه علي وجه السرعةِ أيضا بقليلٍ أو كثيرٍ – علي قَدْرِ إساءته – مِن قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم بعد موته – وكلّ ما هو آتٍ فهو قريب سريع – في أخراه له ما هو أشدّ من ذلك وأعظم وأتمّ، إنْ لم يَتُبْ
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَاً دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كلّ قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)" أيْ هذا القرآن العظيم هو بلاغٌ أيْ إعلامٌ وبيانٌ وإخبارٌ كافٍ وتوضيحٌ للناس كاملٌ شاملٌ لكل أصول وقواعد تنظيم الحياة وإسعادها تمام السعادة، حيث يُبَيِّن بكل وضوحٍ أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة، وذلك بما فيه من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، وذلك لو تَدَبَّرُوا فيه وعملوا بكل أخلاقه.. ".. وَلِيُنْذَرُوا بِهِ.." أيْ ولكي يُنْصَحُوا ويُحَذّرُوا بما فيه من نصائح وتحذيراتٍ، بكلّ شرٍّ وتعاسة في الدنيا والآخرة لمَن يَترك بعض أخلاقه أو كلها أو يُكذّب به أو يُعانِده أو يَستكبر عليه أو نحو هذا من الشرور، وتكون تعاسته علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره وبما يُناسبها بكل عدلٍ بلا أيّ ذرّة ظلم.. ".. وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ.." أيْ ولكي يَعْرِفوا ويَتأكّدوا ويَطمَئِنّوا تماماً ويتذكّروا دائماً ولا يَنْسوا أبداً، عن طريق تَدَبُّر وتَعَقّل توجيهاته وتَوْصِياته وهِداياته ودلالاته، أنَّ الله تعالى هو إلهٌ واحدٌ أيْ مَعْبُودٌ واحدٌ مُسْتَحِقّ وحده للعبادة بلا أيِّ شريك ولا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. ".. وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)" أيْ ولكي يَتَذَكَّر به أصحاب العقول أيْ لكي يتذكّروا ولا يَنسوا ما هو موجود في فطرتهم والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، وما عليهم فقط إلا أنْ يتذكّروه بحُسن استخدام عقولهم وحُسن التفكير فيه، فالأمر إذن سهل مَيْسُور لمن يريده بصِدْق، وعليهم أن يحذروا بشدّة أن يكونوا كالذين نَسوا الإسلام أو تَرَكوه أو حارَبوه مِمّن أهلكهم الله قبلهم الذين تَعِسوا تمام التعاسة في الدنيا والآخرة.. ولقد خَصَّ تعالي بالتّذَكُّر أولى الألباب لأنه لا يتذكّر فلا يَنْسَيَ ولا يَتَدَبَّر هذا ولا يتفكّر فيه ولا يَنتفع ولا يَسعد به إلا فقط أصحاب العقول الصحيحة السليمة المُنْصِفَة العادِلَة، لأنهم هم الذين يُحسنون استخدام عقولهم لأنَّ غيرهم لا ينتفعون بمثل هذه العِبَر والحِكَم ولا يتدبّرون فيها