الآن يمكنكم الاستماع إلى الكتاب عبر الرابط
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
أيْ إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تَوَاصَلْتَ دَوْمَاً في كل موقفٍ وشأنٍ من شئون حياتك كَبُرَ أم صَغُرَ مع الله خالِق الخَلْق مالِك المُلك كله القادر علي كل شيء من خلال البَسْمَلَة وهي قول "باسم الله الرحمن الرحيم" وذِكْره ودعائه واستحضار ما أمكنك من نوايا الخير في كل الأقوال والأعمال والاستغفار بعدها، فستجد بذلك الرحمات والتيسيرات والتوفيقات والبركات.. والسعادات.. في كل اللحظات.. ".. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)" أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة.. وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. هذا، وعند بعض العلماء فإنَّ معني الرحمن هو الذي يرحم جميع خَلْقه برزقهم ورعايتهم ومعني الرحيم هو الذي يزيد المؤمنين به برحماتٍ خاصَّة تتمثل في حبهم وعوْنهم وتوفيقهم وتيسير أحوالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. كذلك عند علماء آخرين هما بمعني واحدٍ وهو كثرة الرحمة واجتماعهما معاً هو للتأكيد علي عظيم وكمال ودوام رحمته تعالي
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
أيْ إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وَعَدَ سبحانه ووَعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم : 7).. ".. رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)" أيْ احمده لأنه هو مُرَبِّي وخالِق جميع الخَلْق ورازقهم وراعيهم ومُرشدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم – والعالَمين جَمْع عالَم وهو اسمٌ لأصنافِ الأمم من كل مخلوقٍ كعالَم البَشَرَ وعالم النبات والحيوان والطيور والجماد والبحار والكواكب وعالم المخلوقات غير المَرْئِيَّة التي لا يعلمها إلا خالقها سبحانه ونحو هذا – فهو وحده الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يمكن مُطلقا أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وليشكروه وحده إذَن.. إنَّ كل ما يُقَدَّم من شكرٍ للناس فيما بينهم علي ما يُقَدِّمُونه من خيرٍ لبعضهم البعض هو من أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها ليزداد الحب والتّرابُط والتعاون والتشجيع علي نشر مزيدٍ من الخير والسعادة في حياتهم ثم في آخرتهم وعليهم أن يعلموا أنَّ هذا الشكر هو في الحقيقة جزءٌ من شكر الله تعالي وحده وكأنهم شَكَروه هو لأنه هو الذي مَلّكَهم ما يَمْلِكون ووَفّقهم ويَسَّرَ لهم ما يَفعلون من خيرٍ وما هم فقط إلا وُسَطَاء عنه سبحانه لتَبَادُل وتَنَاقُل هذا الخير فيما بينهم
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
أيْ إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا عِشْتَ دائما في إطار رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيءٍ مُتَمَثّلَة في كل رعايةٍ وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فكن حريصاً دَوْمَاً عليها، بفِعْل كل خيرٍ مُجْتَهِدَاً في ألاّ تخرج عنها أبداً بفِعْل أيِّ شرّ، وإنْ فَعَلْتَه فَعُدْ سريعا بالندم والاستغفار ورَدّ كل حقٍّ لأهله والانطلاق مرة أخري في فِعْل الخيرات من علمٍ وعملٍ وكَسْبٍ وكَرَمٍ وبِرٍّ ووُدٍّ وتعاونٍ وغيره.. إنَّ الآية الكريمة هي طَمْأَنَة وتَبْشِير وإسعاد للناس أنَّ ربهم سبحانه يُرَبِّيهم ويَرْعَاهم ويُرْشِدهم علي أساس الرحمة التامَّة فيُسارعون إلي طاعته واتِّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيهم بها بكل حبٍّ وأمنٍ وسعادةٍ وهِمَّةٍ وحِرْصٍ لأنهم يتأكَّدون بها أنه ما يُوَجِّههم إلا إلي كل ما يُصلحهم ويُكملهم ويَرحمهم ويُسعدهم تمام الرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة لأنه تعالي هو ربّ العالمين الرحمن أيْ الكثير العظيم الواسع الرحمة، الرحيم أيْ الكثير الدائم الرحمة، وبالجملة هو الكثير العظيم الدائم الرحمة الذي بَلَغَ الغاية فيها والذي رحمته وَسِعَت كل شيء، العَطُوف على خَلْقه بإيجادهم ورزقهم ورعايتهم وتيسير أمورهم وبإسعادهم بتشريعه الإسلام الذي يُرْشِدهم لكلّ أمنٍ وخيرٍ وسعادةٍ في دنياهم ثم بإسعادهم السعادة التامَّة الخالدة في أخراهم بإدخالهم درجات جناته حسبما يعملون من خيرٍ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر، وهو دوْماً الرقيق الرفيق معهم العَفُوّ عنهم المُشْفِق عليهم المُحِبّ لهم.. إنَّ رحمته سبحانه هي أوْسَع من أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غضبه.. هذا ، وعند بعض العلماء فإنَّ معني الرحمن هو الذي يرحم جميع خَلْقه برزقهم ورعايتهم ومعني الرحيم هو الذي يزيد المؤمنين به برحماتٍ خاصَّة تتمثل في حبهم وعوْنهم وتوفيقهم وتيسير أحوالهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.. كذلك عند علماء آخرين هما بمعني واحدٍ وهو كثرة الرحمة واجتماعهما معاً هو للتأكيد علي عظيم وكمال ودوام رحمته تعالي
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
أيْ إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مُصَدِّقَاً متأكّداً تماما بلا أيِّ شكٍّ بحسابٍ خِتامِيٍّ في الآخرة لِمَا فَعَلْتَ في حياتك الدنيا، تُجَازَيَ عليه بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، عند أعْدِلِ العادِلِين، حيث يَأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم في دنياهم بظلم ظالمين لهم، عند مالك يوم الدين، والمالك هو صاحب الملْكِ كله في كل كَوْنه في الدنيا والآخرة فهو وحده مالِك وحاكِم جميع البَشَر وكل الكوْن وكل الخَلْق مُلْكَاً تامَّاً حُكّامَاً ومَحْكُومين المُتَصَرِّف في كل شئونهم المُدَبِّر لها علي أكمل وجهٍ مُسْعِدٍ لهم المُسْتَغْنِي عنهم القادر تماما عليهم العالِم تماما بهم ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، ويوم الدين هو يوم الحساب والجزاء، يوم القيامة، أيْ اليوم الذي يَنفع فيه الدِّيِن، دين الإسلام، لمَن كان عمل به، فإذا أحسنتَ بالتالي الاستعداد له بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فستَسعد بذلك تمام السعادة في دنياك وأخراك
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
أيْ أنت وحدك يا الله الذي نعبد أيْ نطيع بلا أيّ شريك ، فلا نطيع غير أخلاق الإسلام، ولا نعبد مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا نَتَّبِع نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، فأنت المُسْتَحِقّ وحدك للعبادة حيث لك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ وأنت خالِق جميع الخَلْق ومُرَبِّيهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم.. وأنت وحدك الذي نَستعينه أيْ نَطلب عَوْنه لا نستعين بأيِّ أحدٍ غيرك، علي كل شئون حياتنا، لتُعيننا إمَّا مباشرة وإمَّا بأنْ تُيَسِّرَ لنا مَن يُعيننا مِن خَلْقك وجنودك التي لا يعلمها إلا أنت سبحانك فأنت القادر علي كلّ شيءٍ العالِم به.. إنك أيها المسلم ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل، وإذا اخترتَ بكامل حرية إرادة عقلك ألاّ تَعبد إلا الله تعالي، أيْ تُطيعه وحده، وسيُساعدك علي هذا أنَّ العقل من حيث الأصل مُبِرْمَج مَفْطُور أيْ مَخْلُوق مِن خالقه سبحانه علي ألاّ يَعبد غيره، لكي يكون أمر الطاعة سَهْلاً مُيَسَّرَاً عليه لا يَبذل فيه جهدا كبيرا، فيَسعد الإنسان بالتالي بطاعته لله هذه بكل لحظات دنياه ثم بأخراه الخالدة، وذلك إذا أحسنَ استخدام عقله واستجابَ لنَداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا والتي تَدعوه دوْمَاً لطاعة الله باتِّباع الإسلام لتَتَحَقّق له هذه السعادة التامَّة في الداريْن وتُذَكّره دائما بعدم مُخَالَفَته وإلا تعس فيهما (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الفطرة، برجاء النظر لتفسير الآية (172) من سورة الأعراف).. والعبادة، أو الطاعة، له وحده ولكلّ مَن أَوْصَيَ بطاعته، هي فِعْل وقول كلّ خيرٍ نَصَحَ وذَكَّرَ به وأرْشَدَ إليه، لأنه نافعٌ مُسْعِدٌ للإنسان ولغيره في دنياه وأخراه، وتَرْك كلّ شَرٍّ مَنَعَ منه، لأنه ضارٌّ مُتْعِسٌ له ولمَن حوله فيهما، وفِعْل وقول الخير هذا يَشمل كل شئون الحياة المختلفة مِن علمٍ وعملٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ ورِبْحٍ وفِكْرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ جيدةٍ وإنفاقٍ مِن مالٍ وجهدٍ وصحةٍ وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليست العبادة وليست الأعمال الخيرية مَقْصُورة فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام وفِعْل الشعائر كالصلاة والصوم والعمرة والحج رغم أهمية كل ذلك وعظيم سعاداته في الدنيا والآخرة، وإنما كلّ عاملٍ لله بطاعةٍ، أيِّ طاعةٍ، أيِّ خيرٍ مُسْعِدٍ للذات وللآخرين، في أيِّ مجالٍ ومكانٍ وزمان، يكون عابداً لله تعالي.. وأثناء ذلك الخير الذي تَفعله في كل لحظات حياتك أيها المسلم، وفي مقابله، وبفضلٍ وكرمٍ منه سبحانه، سيُيَسِّر لك كلّ أمرٍ ويفتح أمامك كلَّ بابٍ مُغْلَقٍ ويُحَقّق لك كلّ أو معظم ما تريد ما دام خيراً لك ولغيرك وتكون مِمَّن لو أقسم علي الله لَبَرَّ قَسَمَه بأنْ يُحَقّقه له، وستكون في كل رعايةٍ منه وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فالعبادة هي السَّيْر في الحياة حتي نهاية العمر في طريقٍ مُعَبَّد، أيْ مُمَهَّد مُستقيم سَهْل واضح مُنير مُسْعِد، وهو طريق الله ورسوله (ص) وقرآنه وإسلامه والمؤمنين الصالحين، طريق الحق والعدل والخير والأمن والسعادة.. وغيره من الطرُق، طُرُق الشَّرّ والأشرار، كَئيبة ضَيِّقة مُظلمة مُتَعَرِّجة غير مُسْتَوِيَة صَعْبة مُهْلِكة مُتْعِسة في كل لحظاتها لأنها تُخالف فطرة العقل المسلمة أصلا وبالتالي يكون الإنسان وهو في هذه الطرق السيئة في صراعٍ دائمٍ مع فطرته فيكون قَلِقَاً مُتَوَتِّرَاً مُضطربا تعيسا في دنياه قبل تعاسته الأشدّ والأعظم في أخراه.. ولذا، فاسْعَد أيها المسلم بالاستعانة بخالقك الكريم القادر علي كل شيءٍ بدوام التَّوَاصُل معه وبذِكْره ودعائه واستغفاره وحبه واستحضار ما أمكنك من نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل، لتبقي حياتك الدنيا كلها علي هذه الحالة الطيبة، عابدا دائما، سعيدا دوْماً في نفسك مُسْعِدَاً لغيرك، حالة العبادة السهلة السعيدة لربك الكريم ذي النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ولا تُعَدّ، واسْتَبْشِر بذلك علي الدوام بانتظار أعظم وأتمّ وأخلد السعادة في آخرتك (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن بعض معاني العبادة، برجاء نظر تفسير الآيات (48)، (51) حتي (57)، (116) حتي (122)، (172) حتي (175) وكلها من سورة النساء).. إنَّ العَبْدَ لله لا يعني مُطلقا أنه ذليلٌ كما هو حال العبد لغير الله!! فالعبادة لله تعالي هي قِمَّة الحرية والرِّفْعَة والعِزَّة والكرامة، لأنها تجعل المسلم لو تَمَسَّك وعمل بكل أخلاق إسلامه حُرَّاً لا يتبع أحداً ولا نظاما ولا خُلُقَاً إلا ربه ورسوله وقرآنه وإسلامه، إنه ليس مُقَيَّدَاً بأيِّ خُلُقٍ فاسدٍ أو مُدْمِنَاً عليه يَنْسَاق وراءه كعبدٍ له لا يستطيع البُعْد عنه، إنه يَتَرَفّع عن اتِّباع أيّ فساد، إنه عزيزٌ لا يَطلب من أحدٍ شيئا لأنه يطلب من مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ فيُسَخِّر له مِن خَلْقِه مَن يُعاونوه ويُكْرموه ويُسَهِّلوا عليه كل شئونه، إنه كريم عفيف لا يمدّ يديه لثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوما مَا بل هو دائما مع الحقّ يقوله ويعمل به، إنه مَرْجِعٌ للآخرين يَرْجِعون إليه يَلتمسون عنده الصدق والعدل والخير والسعادة، إنه قائدٌ لا يَنْقَاد بل يَقود الجميع بالقُدْوة والحِكْمَة والموعظة الحسنة وبحُسن اتِّخاذه للأسباب وإكمالها ما أمكن لكلّ خيرٍ بما معه من إسلامٍ يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وجهٍ فيسعدون بكل لحظاتها.. بينما الذي يَعبد غير الله تعالي هو قطعاً علي العكس تماما، إنه عَبْدٌ ذليلٌ مَهِينٌ مُنْكَسِرٌ يَجري وراء كل مَن يعطيه ولو الفُتَات، إنه ضعيفٌ خَسِيسٌ مُتَلَوِّنٌ مُنْحَطّ وَضِيعٌ كَذُوبٌ تابِعٌ، إنه قَلِقٌ مُتَوَتِّرٌ مُضطربٌ، لأنه يعتمد علي بَشَرٍ مثله لا يملكون نفعاً ولا ضَرَّاً إلا إذا شاءه الله ونَسِيَ ربه صاحب القوة المتين، إنه بالقطع مُعَذَّبٌ تَعِيسٌ في دنياه، ثم سيكون في أخراه حتما في عذابٍ وتعاسة أشدّ وأعظم وأتمّ وأخلد.. إنَّ عليك أيها المسلم أنْ تكون مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً في عبادتك لله تعالي أيْ تَفعل ما تَفعل مِن خيرٍ وتَقول ما تقوله منه مِن أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراك الناس فيقولوا عنك كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لك حيث يُوقِعك في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحك حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقلك (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، النظر لتفسير الآية (125)، (126) من سورة النساء ).. هذا، والآية الكريمة قد اسْتَخْدَمَت لفظ "نَعْبد" والذي يُفيد الجَمْع وليس "أعْبُد" ليكون مُناسبا لكوْنه تعالي ربّ العالمين جميعا كما جاء في الآيات السابقة وليس ربّ الذي يقرأ الآية فقط وللتذكرة بأنَّ له حقّ العبادة من كل الخَلْق حتي ولو لم يَعْبُده بعض البَشَر السفهاء وللتنبيه علي أهمية التّجَمّع لفِعْل الخير ومَنْع الشّرِّ والتعاون والاتحاد علي ذلك والتَّحَابّ فيه لِمَا في هذا من تيسيرٍ لفِعْل الخير ونَشْرٍ للمزيد منه بين الجميع فيسعدون تمام السعادة في الداريْن.. كما أنَّ تكرار لفظ "إيَّاك" هو لمزيدٍ من التأكيد القاطِع الحاسِم علي التَّوَجّه لله تعالي وحده وتَخْصِيصِه دون غيره بالعبادة والاستعانة
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
أيْ أَدِمْ هدايتنا وثَبِّتْنا طوال حياتنا علي الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحرافٍ في كلِّ موقفٍ وشأنٍ من شئون حياتنا، علي طريقك الذي هو طريق القرآن والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة التامَّة في الدنيا والآخرة، ووَفّقنا دائما لذلك ويَسِّر لنا كل أسبابه وزِدْنا علي الدوام من التوجيه والإرشاد لكلّ خير، لنسعد تماما في دنيانا وأخرانا.. هذا، واستخدام صيغة الجَمْع لا المفرد هو أيضا كما في الآية السابقة للتنبيه علي أهمية دعاء الصالحين لبعضهم البعض بل ولعموم الناس ليُيَسِّر الله لهم جميعا الاهتداء للطريق المستقيم والتعاون علي تطبيق كل أخلاقِيَّاته والتَّحَابّ أثناء ذلك والثبات عليها ليَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
أيْ اهدنا طريق عبادك الذين أنعمت عليهم بأنْ وَفّقتهم إلى اتِّباع أخلاق الإسلام ويَسَّرْتَ لهم ذلك بعد أنْ اختاروه هم بكامل حرية إرادة عقولهم فسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم فاجعلنا دائما معهم وبينهم، ولا تجعلنا أبداً في طريق ومع الذين استحَقّوا غضبك أيْ عقابك وضَلّوا أيْ ضاعوا وابتعدوا عن طريق الإسلام فتعسوا تمام التعاسة فيهما لأنهم اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم أن يُخالفوا أخلاقه ويفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار بكل أشكالها وصورها ودرجاتها لأنهم قد عَطَّلوا هذه العقول بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، وفي الآية الكريمة مزيدٌ من التوضيح لهذا الصراط المستقيم الذي ذُكِرَ في الآية السابقة ومزيدٌ من التأكيد علي ما فيها من الحرص الشديد علي سؤال الله تعالي التوفيق الدائم للتمسّك وللعمل بكل أخلاق الإسلام وللثبات عليها طوال الحياة وللبُعد التامّ عن طريق الضلال الذي يؤدي لغضبه تعالي في الداريْن مع التأكيد علي أنَّ طريق الإسلام هو وحده لا غيره الطريق المستقيم
الم (1)
أي هذا القرءان العظيم، الذي أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة، مُكَوَّن من هذه الحروف البسيطة، فأتُوا بمثله لو تستطيعون!! فاسْعَد وافخَر واعْتَزّ وتمَسَّك بهذا الكتاب المَعْجِز الذي يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه ويُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه
ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)" أيْ هذا القرآن العظيم لا شَكّ فيه أبداً مِن أيِّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أنه كلام الله تعالي لا البَشَر إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمِثْل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة حيث يُعْلِي مِن شأن كل مَن يعمل بكل ما فيه من أخلاقٍ ويُصلحه ويُكمله ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه.. ".. هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)" أيْ هو هادِي أيْ مُرْشِد، وفيه هُدَي، أي إرْشاد، لتمام الخير والسعادة في الداريْن، للمُتَّقِين، أيْ لا يَسْتَرْشِد ويَنتفع ويَسعد به تمام الاسترشاد والانتفاع والسعادة إلا فقط المتقون – رغم أنه هُدَيً لعموم الناس – حيث هم الذين سيَتَّعِظون بما فيه وسيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون وسيَعملون وسيَلتزمون بكل أخلاقه في كل شئون حياتهم ، والمتقون هم الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله وكالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون غيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا وَثَقْتَ ثِقَة تامَّة وصَدَّقْتَ صِدْقَاً كاملاً بما يُخبرك به الله تعالي، الحقّ العدل الصدق الذي هو بكل شيءٍ عليم، من خلال رسله وكتبه التي أرسلها للبَشَر، من الغيب، وهو كل ما غابَ عن إدْرَاكِك وحَوَاسِّك، سواء أكان من الماضي أم من الحاضر الذي لا تعلمه أم من المستقبل، لأنك بذلك ستُحْسِن الاستفادة مِمَّا مَضَيَ، وستُحْسِن الاستعداد لِمَا هو قادِم بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. وإذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم
هذا، ومعني "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)" أيْ الذين مِن صِفاتهم أنهم يُصَدِّقون تماماً بلا أيِّ شكّ بكلّ ما غابَ عنهم من ماضٍ وحاضرٍ لا يعلمونه ومستقبلٍ آتٍ ممّا أخبرهم به تعالي في كتبه ومن خلال رسله كأنهم يشاهدونه أمامهم كالآخرة والبَعْث للناس فيها بعد موتهم بالأجساد والأرواح للحساب والعقاب والجنة والنار بما في ذلك الله ذاته والذي هو من الغَيْب والذي لا يَرَوْنه ولكنّ أثر وجوده واضح في مُعجزاته في كل خَلْقه والذي لا يُنكره أيّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادل.. ".. وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ.." أيْ ومن صفاتهم أيضا أنهم يُواظِبون علي تأدية الصلوات الخَمْس المَفروضة عليهم في أوقاتها ويُؤَدُّونها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحْسِنونها ويُتْقِنُونها.. "..وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)" أيْ ومن صفاتهم كذلك أنهم يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، ويشمل الإنفاق قطعا إعطاء الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكلّ شيءٍ المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنّ فيه البيان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله مِن كلّ سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من الذين يتمسّكون بخُلُق الاتّحاد وخُلُق الأخوَّة في الله وفي الإسلام بل وفي الإنسانية كلها (برجاء مراجعة الآيات (103) حتي (110) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وإذا تَشَبَّهْتَ بالرسل الكرام في حُسن دعوتهم للآخرين وصبرهم علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة).. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت للحياة الآخرة، ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم، فهذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا، ومعني "وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)"، "أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)" أيْ ومن صفاتهم أيضا أنهم يُصَدِّقون بالقرآن العظيم كله الذي أنْزِلَ إليك يا رسولنا الكريم ويجتهدون في العمل بكل أخلاقه، فلا يؤمنون ببعضه ويعملون به ويُكَذّبون بعضه الآخر فلا يعملون به كما كان يَحدث من بعض السابقين المُسِيئين من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، وهم يؤمنون كذلك بكل الكتب التي أنْزِلَت من قبلك كالتوراة التي أنزلت علي موسي (ص) والإنجيل الذي أنزل علي عيسي (ص) وغيرهما مِمَّا لم يُصبه تحريف أو تخريف، لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد وإيمانهم بها استكمال لإيمانهم بالله وبدونه لا يكتمل لأنه من الإيمان بالغَيْب الذي امتدحهم الله ووصفهم به.. إنَّ من معاني الآية الكريمة أيضا أنَّ الله تعالي قد جَعَلَ لكم أيّها الناس وأيّها المسلمون وبَيَّنَ ووَضَّحَ وسَنَّ تشريعاً من الدين الذي تدينون به أي تلتزمون مِثْل ما كان قد وَصَّيَ به كلّ الرسل الكرام قبل رسولكم الكريم محمد (ص) وأوحاه إليهم ومنهم نوح وإبراهيم وموسي وعيسي، وهو الإسلام، والذي هو يشمل نصائحه ووصاياه وتشريعاته التي تُصْلِح كلّ البَشَر بما يُناسب كل عصر وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم لو عملوا بها كلها، فالله تعالي هذه دائما طريقته وعادته فهو مِن عظيم رحمته وحبه لخَلْقه وحرصه علي إسعادهم لا يَتركهم يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة.. إنه كما أوْحَيَ إليهم كتبه منذ آدم ولم يتركهم، كذلك لم يترككم أيها المسلمون والبشريّة حتي يوم القيامة فأوْحَيَ إليكم من خلال رسوله (ص) هذا القرآن العظيم وحَفِظَه حتي نهاية الدنيا، وكما نَصَرَ سابقا المؤمنين المتمسّكين العامِلين بكل أخلاق إسلامهم علي المُكذبين المُعاندين المُستكبرين المُستهزئين فسيَنصركم حتما، فاطْمَئِنّوا واسْتَبْشِروا واسْعَدوا، لأنّ الذي أوْحَيَ إليكم هذا القرآن والذي يدعوكم لخير وسعادة الإسلام والذي يعدكم بهذا النصر ثم أعلي درجات الجنات هو الله العزيز أيْ الغالِب الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويكرمهم ويرفعهم وينصرهم ويَقهر ويذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويخفضهم ويهزمهم، وهو في كل أموره الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يضع كل أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث.. ثم بناء علي كل ذلك عليكم أن تُحسنوا دعوة الآخرين وتصبروا علي أذاهم (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) لأنهم يعلمون الإسلام من فطرتهم وبما سمعوه عن الأديان السابقة مِمَّن اتَّبَعوها وها هو القرآن قد جاءهم يُصَدِّق ما فيها ويضيف عليها ما يُناسب العصر حتي قيام الساعة لأنّ كلها مصدرها واحد وهو الله الخالق الكريم ومضمونها واحد وهو الإسلام الذي يُوافِق العقل المُنْصِف العادل والفطرة بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) فلماذا إذَن يُكَذّبونكم وأنتم لم تأتوهم بشيءٍ غريب عنهم لم يسمعوا عنه ولم يعرفوه؟!.. ولقد كان من المُفْتَرَض أن يكونوا هم أيضا كذلك فيؤمنوا بالله وبرسوله محمد (ص) وبالقرآن العظيم لأنهم أهل كتابٍ أيْ يعلمون بوجود الله ويعلمون الرسل والكتب السماوية ولا يُشركون مع الله آلهة أخري فيعبدون مثلا حجرا أو صنما أو نجما أو غيره، وحتي ما يقوله البعض عن أنَّ المسيح ابن الله أو حتي هو الله يُمكِن تصحيحه لأصحاب العقول المُنْصفة العادِلَة! وقد عادَ بالفعل كثيرون منهم عن ذلك بالمناقشة بالتي هي أحسن وأسلموا كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا، فلماذا إذَن لا يُؤمن كثير منهم بالرسول محمد (ص) وهو الذي قد نَبَّأَت به كُتُبهم وبالقرآن وبالإسلام ليَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم؟! وعلي ماذا الخِلاف إذَن؟!! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل بعض أثمان الدنيا الرخيصة.. إنهم إنْ يَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم، للحقّ وللخير وللسعادة، سيَسعدوا تمام السعادة في الداريْن، وإن استمرّوا علي ماهم فيه تعِسوا تمام التعاسة فيهما.. إنَّ كلّ ما سَبَقَ ذِكْره هو بعض معاني تَضَمَّنَتْها الآية الكريمة.. كذلك من معانيها أنها تشجيع لأهل الكتاب وهم اليهود والنصاري أن يُسْلِمُوا، فالله تعالي يَمتدح أهل الكتاب الذين لَمَّا يَسمعون بالقرآن يُؤمنون به لأنه يُصَدِّق ويُشَابِه ما أُنْزِلَ مِن قَبْله من التوراة والإنجيل مِمَّا هم مؤمنون به ، فقوله تعالي "والذين يُؤمنون بما أنزل إليك" وهو القرآن يُقْصَد به هم كذلك – إضافة للمسلمين – وهم الذين آمنوا بما أنزل مِن قَبْلك وهو التوراة والإنجيل والذين حين يعلمون بالقرآن يُؤمنون أيضا به.. ".. وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)" أيْ ومن صفاتهم كذلك أنهم بالحياة الآخرة – والتي هي بعد الحياة الأولي وهي الحياة الدنيا – وما فيها من بَعْثٍ للناس بالأجساد والأرواح من قبورهم وحسابٍ وثوابٍ وعقابٍ وجنةٍ ونارٍ، هم مُتأكِّدون بلا أيِّ شَكٍّ تَأكّداً قطعياً، وهذا اليقين بها له أثره العظيم في إسعاد حياتهم الدنيوية وحياة مَن حولهم حيث يَدْفَعهم حتماً لحُسْن الاستعداد لها بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْكِ كلّ شَرٍّ دوْماً من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام فيَسعد الجميع بهذا في دنياهم وأخراهم، بينما مَن لم يُوقِن بها، يَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب مِن وِجْهَة نَظَره، فيَتعس الجميع بذلك فيهما.. "أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)" أيْ هؤلاء المُتَّقون المُحْسِنُون الذين ذُكِرَت بعض أوصافهم في الآيات السابقة يَسيرون علي طريق الهُدَيَ المُنير الواضح الصائب المستقيم الذي سيُوصلهم لتمام الخير والسعادة في دنياهم وأخراهم والذي أرشدهم إليه ربهم الذي يُرَبِّيهم ويرعاهم ودَلّهم عليه ووَفّقهم ويَسَّرَهم له وعاوَنهم علي السير فيه وثبَّتهم عليه، وهو طريق التصديق بربهم والتمسّك بقرآنهم وبكل أخلاق إسلامهم، حيث هم قد اختاروا هذا الطريق أولا بكامل حرية إرادة عقولهم فشاءه وسَهَّلَه سبحانه لهم ومَكَّنهم منه (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. ".. وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)" أيْ وهؤلاء بالقطع هم الناجحون الفائزون الذين يُحَقّقون تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهم حتما الذين يُفلحون ويَنجحون ويَربحون ويَفوزون ويَنتصرون فيهما فلاحا ونجاحا وربحا وفوزا ونصرا عظيما لا يُقارَن بشيء.. هذا، ولفظ "هُم" يُفيد أنهم هم وحدهم ومَن يَتَشَبَّه بهم ويكون مثلهم هم المُفلحون وليس غيرهم.. فعَلَيَ كل مسلم يريد أن يحقّق هذا الفوز العظيم الذي لا يُوصَف في الداريْن أن يَتَّصِف بهذه الصفات الحسنة الطيبة التي سَبَقَ ذِكْرها والتي امتدحها سبحانه وشَجَّعَ علي الاتّصاف بها
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مؤمنا لا كافرا، لأنَّ الكفر في الأصل هو تغطية الحقائق واخفاؤها، وذلك أصل التعاسة والكآبة، لأنه مَن لم يُحسن استخدام عقله وعَانَدَ فطرته التي بداخله والتي هي مسلمة أصلا والتي جعلها خالقه سبحانه دوْمَاً تدعوه لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شَرٍّ ليسعد بذلك في الداريْن (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) وأخْفَيَ أكبر وأوضح الحقائق وهي وجود الله تعالي الخالق وصلاحية شرعه ونظامه الإسلام لإسعاد البشرية كلها في كل زمان ومكان، عاشَ حتماً ولا شكّ تعيساً كئيباً مُضطرباً مُعَذّبَاً في حياته لأنه حَرَمَ نفسه من عوْن ربه وحبه وتوفيقه ونصره وإسعاده ثم له عذاب جهنم في آخرته إنْ لم يَتُب.. وإذا استمرّ صاحب هذا المرض علي هذا الحال دون علاجِ ذاته بإحسان استخدام عقله والعودة لربه ولإسلامه والانتفاع بنصائحه وإنذاراته، سيَصِل به الأمر أن يصبح مرضه مُزْمِنَاً يصعب علاجه حيث قد تَتَعَطّل حَوَاسّه التي تُبَصِّره بالخير وتُبْعِده عن الشرّ بسبب سوء أو عدم استخدامها
هذا، ومعني "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)"، "خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)" أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ إنَّ المُصِرِّين علي كُفرهم من الذين كفروا – أيْ الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره – وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، يَسْتَوِي عندهم أن تُنْذِرهم أو لا تنذرهم أيها المسلم أيْ تُخَوِّفهم وتُحَذّرهم من عذاب الله تعالي في الدنيا والآخرة بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم أو لم تُخَوِّفهم – وكذلك إذا بَشَّرْتهم بإسعاد الله لهم فيهما لو اتَّبَعوا أخلاق الإسلام أو لم تُبَشّرْهم – ويستمرّون علي عدم الإيمان بما يدلّ علي تمام إصرارهم علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ وسَدِّهم الباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم للخير، لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي قلوبهم أيْ عقولهم وعلي أسماعهم فكأنهم لا يعقلون ولا يسمعون شيئا وعلي أبصارهم غِشاوَة أيْ غِشاء وغِطاء فكأنهم لا يَرَوْنَ شيئا، والمقصود أنهم مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم – وحَوَاسَّهم – ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم لم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام فلم يَشَأها الله لهم وتَرَكهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوة نحو الخير حتي يُعِينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد : 11)، فكأنه تعالي هو الذي خَتَمَ علي قلوبهم وأسماعهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرُّوا تماما عليه فتَرَكَهم ولم يُعِنْهم (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. وبالتالي وفي المُقابِل سيكون لهم عذاب عظيم أيْ شديد هائل علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. إنَّ في الآيتين الكريمتين تسلية وطَمْأَنَة للرسول (ص) ولكلّ المسلمين مِن بَعده وتخفيف عنهم وتبشير وإسعاد لهم، أيْ إذا كان حالهم هكذا فابْتَعِدوا إذَن أيها المسلمون عن المُصِرِّين علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ولا تهتمّوا ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم، واستمِرّوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم، مع حُسن التعامُل معهم والصبر علي أذاهم ودعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين، فليس عليكم بالتالي لوْم في ذلك حيث عليكم فقط البلاغ لهم وأنتم لم تُقَصِّروا معهم بل قد أدَّيْتُم قَدْر استطاعتكم كل ما عليكم نحوهم بحُسن دعوتهم بكل قُدْوة وحكمةٍ وموعظة حَسَنة ولفترات طويلة ولكنهم مُصِرُّون علي ما هم فيه (برجاء مراجعة أيضا الآية (40) من سورة الزخرف "أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"، والآية (8) من سورة فاطر ".. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. فلا تَتَحَسَّر أيْ لا تَحزن وتتألّم بشدّة وتُهلك نفسك علي مثل هؤلاء السفهاء أيها المسلم الذي يدعو إلي الله والإسلام، فهم لا يَستحِقّون مثل هذه الحَسَرات، جمع حَسْرَة، فكن مثل رسولك الكريم (ص) حريصا علي الجميع لكن مَتَوَازِنا مُستَمرّا في الدعوة في ذات الوقت لتسعد في الداريْن، مع حُسن تصنيفك للمَدْعوين، حيث منهم القريب الذي لا يحتاج إلا إلي تَذْكِرَة بسيطة، ومنهم البعيد الذي يحتاج إلي جهد أكبر، ومنهم البعيد جدا المُعانِد المُكابِر المُصِرّ علي تعطيل عقله وعدم إحسان استخدامه (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، لأنه لا يُمكن لأيّ داعي إلي الله والإسلام إلا فقط أن يُحسن دعوة مَن يدعوه، لكنه لا يمكنه أبدا أن يُحقّق له الإيمان أي التصديق بالله والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، حتي ولو كان أحبّ الناس وأقربهم إليه، ولذلك فعليه أن يترك تماما أمر استجابتهم لله خالقهم سبحانه، لأنه مَن شاء منهم الاستجابة والهداية من خلال إحسان استخدام عقله والاستجابة لنداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، سيَشاء له ربه حتما هدايته وسيُعاونه عليها وسيُوفقه لها وسيُسَدِّد خُطاه نحوها، ومَن لم يشأ منهم لم يشأ قطعا له الله ذلك، ولم يُيَسِّر له أسبابه، ولن يُكرهه أحدٌ فقد تَبَيَّن تماما الرشد من الضلال، فمَن اهتدي فله السعادة كلها في دنياه وأخراه ومَن لم يَهتد فله التعاسة كلها فيهما.. فلا تكونوا مُهْلِكِين لأنفسكم إذن يا كلّ المسلمين الدعاة إلي الله والإسلام مِن شدّة أسَفكم وحُزنكم علي عدم إسلام مَن لم يُسلم أو عدم استجابة المسلم لكل أخلاق الإسلام، وهذا شيء تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لذلك لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا لم تكن منافقا، لأنَّ المنافق يُظْهِر الخير ويُخْفِي داخل عقله الشَّرّ، فإنْ كان الشرّ الذي يُخفيه هو كُفر بالله أيْ تكذيب بوجوده وبرسله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره فهو كافر يُخَلّد في النار، أمَّا إذا أخْفَيَ ما هو غير ذلك من الشرور والمَفاسد والأضرار فإنه يُحاسَب علي قَدْرها إن لم يَتُبْ منها من غير الخلود في جهنم بل يخرج إلي أقل درجات الجنة.. وهذا النفاق هو من أهم أسباب التعاسة لأنه من أكبر علامات الضعف والخِسَّة والتّلَوُّن وعدم القُدْرة علي المواجَهَة، فيعيش المُنافِق حياته خَسِيسَاً مُنْحَطّاً وَضِيعَاً ذليلا كذوبا تابِعَاً مُتَشَكّكَاً في كل ما حوله مُنْتَظِرَاً أن يَنْكَشِفَ أمره في كل لحظة مُتَوَهِّمَاً أنه يَخدع من معه ولا يَشعر أنهم كاشفوه بعقولهم ومِن تصرّفاته، فبالجملة هو مريض مُعَذّب تعيس لم ينتفع بنِعَم ربه عليه وأهمها العقل والإسلام فازداد أمراضا علي أمراضه بسبب ما حَصَده بيديه من سوء أفعاله وأقواله
هذا، ومعني "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)"، "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)" أيْ هذا بيانٌ وفَضْحٌ لبعض صفات المنافقين السَّيِّئَة الدَّنِيئة ليكتشفها ويَحْذَرها المسلمون عند التعامُل معهم فيَسعدون بالنجاة من شرورهم والتَّغَلّب عليهم والتأثير فيهم لا التَّأَثّر بهم وبأضرارهم.. أيْ ومِن بعض الناس مَن يُظْهِر الخير ويُخْفِي الشرّ، وهم المنافقون، حيث يقول في الظاهر بلسانه صَدَّقنا بوجود الله وأنه المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة وصَدَّقنا كذلك باليوم الآخر وهو يوم القيامة حيث البَعْث بالأجساد والأرواح للناس من قبورهم لحسابهم وحيث الجنة لمَن يفعل خيراً في دنياه والنار لمَن يفعل شرَّاً، بينما هم في داخل عقولهم غير مؤمنين أيْ مُكَذّبين بكل هذا وبغيره كالرسل والكتب التي تُوصيهم باتِّباع الإسلام، وهؤلاء كُفّار، وهم مُخَلّدون في النار يوم القيامة إلي ما شاء الله مثل كل الكفار، بل هم في درجاتٍ أسوأ منهم، لأنَّ الكفار واضحين فيكون الحَذَر منهم وأسلوب التعامُل معهم سَهْل مَيْسُور لكنَّ المنافقين مُتَلَوِّنون يَطعنون ويُؤذون غيرهم من الخَلْف بطُرُقٍ خَفِيَّةٍ ويحتاج الأمر لبعض الجهد لاكتشافهم وللحَذَر منهم عند مُعاملتهم فهم قد أضافوا للكفر غَدْرَاً وخديعة وخِسَّة ونحو ذلك من صفاتٍ دنيئة تجعل عذابهم أشدّ من الكفار، لكنهم في الدنيا يُعامَلون مُعامَلَة المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم لأنهم يُظْهِرون الإسلام ولم يُطْلَب من المسلمين إلا الأخذ بظاهر القول والعمل – مع اتّخاذ ما أمكن من أسباب الحَذَر – لا بالتفتيش داخل العقول لأنه أمرٌ خارجٌ عن مَقْدِرَة البَشَر ولا يعلمه فقط إلا خالقهم سبحانه.. هذا، وهناك نوعٌ من المنافقين يُخفون ما هو ليس كفراً من الشرور والمَفاسد والأضرار، أيْ هم مسلمون يؤمنون بالله واليوم الآخر ولكنهم بعيدين عن ربهم وأخلاق إسلامهم ناسين لآخرتهم، فهم يُخالِف أقوالُهم أفعالَهم وسِرُّهُم علانيتهم فيتكلمون بأخلاق الإسلام ويُخالفونها ويعملون ببعضها في العَلَن بينما في السِّرِّ لا يعملون بها، ويَغْلِب عليهم الكذب وإخلاف الوعود والمواعيد والعهود وخيانة الأمانات والتخاصُم مع الآخرين وسوء الخُلُق معهم أثناء خصامهم ويقولون أقوالهم ويعملون أعمالهم رياءً أيْ ليس مِن أجله تعالي وحده بل من أجل غيره أيْ ليس طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة بل طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراهم الناس فيقولوا عنهم كذا وكذا من المدح أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا سَيِّئَة بداخل عقولهم، وأحيانا أو كثيرا يَمدحون أصحاب المناصِب بكذبٍ بما ليس فيهم لنَيْل شيءٍ منهم، أو يُظهرون الحُبَّ للغير والقيام له بالخدمة مع إخفاء عكسه في النفس، أو ما شابه هذا من أشكال النفاق بإظهار الخير وإخفاء الشرّ، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فهؤلاء يُحَاسَبون ويُعاقَبون في النار يوم القيامة علي قَدْر ما فعلوه مِن شَرٍّ وما أحدثوه من أضرارٍ وتعاساتٍ لأنفسهم ولغيرهم إنْ لم يتوبوا منها من غير الخلود فيها بل يَخرجون بعد قضاء فترة عقوبتهم إلي أقل درجات الجنة.. "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)" أيْ من شِدَّة سَفَهِ هؤلاء المنافقين وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة يَتَوَهَّمون أنهم يُخادعون أي يَغِشّون الله تعالي والمؤمنين بإظهارهم للخير وإخفائهم للشرّ! ولا يشعرون أيْ لا يَعلمون ولا يُدركون، إنْ كانوا كافرين أو كانوا مسلمين لكنْ ناسِين غافلين، أنهم في حقيقة الأمر ما يَغِشّون إلا أنفسهم دون أن يشعروا! لأنَّ النتائج والأضرار السيئة لخِداعهم حتما ستعود عليهم عاجلا أو آجلا في دنياهم ثم أخراهم ولأنَّ مَن يَتَوَهَّم أنه يَخْدَع غيره ويظنه جاهلا عن خداعه وهو ليس كذلك بل هو عالِمٌ به مُتَجَهِّزٌ لإفشاله وعقابه عليه إنما هو قطعا يَخدع نفسه ولأنَّ الله تعالي أولا وأخيرا وحتما يعلم بتمام العلم كل أقوالهم وأفعالهم في السرّ أو في العَلَن بل وما يدور في أذهانهم فهو لا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَةٍ في كل خَلْقه وكلّ كوْنه وسيُحاسبهم ويُعاقبهم عليها كلها إنْ لم يتوبوا منها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليحذروا هم وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات.. إنهم كذلك يَتَوَهَّمون أنهم يَغِشّون المؤمنين بنفاقهم هذا وهم في حقيقة الأمر أيضا ما يَغِشّون إلا أنفسهم دون أن يشعروا لأنه أيضا ضَرَر خِداعهم عائد عليهم حيث هم الذين ظَلّوا علي نفاقهم وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار وعلي خوفهم ورعبهم وقَلَقِهم من أن ينكشف أمرهم ويُحَاسَبوا علي شَرِّهم في كل لحظةٍ من لحظات حياتهم فتَعِسوا بذلك في الداريْن بينما ظَلّ المؤمنون علي سعاداتهم بأخلاق إسلامهم ولم يَتَضَرَّر حتما الله خالقهم سبحانه شيئا ولا المؤمنون – وحتي لو أصابهم بعض ضَرَرٍ منهم فإنه تعالي يُصَبِّرهم عليه ويُنَجِّيهم منه ويُثِيبهم في مقابله خيراً كثيراً في دنياهم وأخراهم – لأنهم بعوْن الله وتوفيقه كاشفوهم مع الوقت بعقولهم وبفِطْنَتِهم وبحَذَرهم، ومِن بعض تصرّفاتهم هم حيث أحيانا أو كثيرا تَفْلِت ألسنتهم ببعض أقوالٍ ويفعلون أفعالاً تُظْهِر وتُؤَكّد ما يدور في عقولهم من شرور ومَفاسد وأضرار، فهم إذَن مَخْدُوعون خاسرون لا خادعون فائزون، في الداريْن!!.. إنَّ خلاصة الآية الكريمة والمقصود منها أنَّ المنافقين لم يُخادِعوا مُطلقا الله لعِلْمه بما يُسِرّون، ولم يخادعوا المؤمنين لأنَّ الله يَدْفَع عنهم ضَرَر خداعهم ويكشفه لهم، وإنما يخدعون أنفسهم لأنَّ ضَرَر المُخَادَعَة يعود عليهم وقتاً ما، ولكنهم لا يشعرون بذلك، لتعطيلهم لعقولهم، الأمر الذي جعلهم كأنهم عديمى الشعور فاقدى الإحساس والإدْراك
ومعني "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)" أيْ في عقول هؤلاء المنافقين الذين سَبَقَ ذِكْر بعض أوصافهم في الآيتين السابقتين (برجاء مراجعتهما لتكتمل المعاني) مرضٌ، هو مرض النفاق، فهم لمَّا تَرَكوا وأهملوا الإسلام، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم أن يكونوا منافقين، فإنَّ الله لا يَمنعهم منه ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص عليه دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .." (الرعد : 11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا النفاق والشرّ، هذا المرض الذي هم فيه، فكأنه تعالي هو الذي يُبعدهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم المُسْعِد لهم في الداريْن ويزيدهم مرضاً لكنَّ الواقع أنهم هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم مرضهم هذا (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. هذا، ومن معاني زيادة الله لمرضهم أيضا أنهم يزدادون ألما وحَسْرة وغيظا وتعاسة كلما رأوا حولهم زيادة نِعَم الله التي لا تُحْصَيَ وانتصاراته وسعاداته علي المسلمين العاملين بأخلاق إسلامهم وكلما استمعوا لشيءٍ من آيات القرآن العظيم حيث يزداد قلقهم واضطرابهم وكآبتهم وتعاستهم لأنه يزيد التَّصارُع مع فطرتهم المسلمة بداخلهم والتي تدعوهم للخير دائما ولاتّباعه ويزيد خوفهم من انكشاف أمرهم حيث ستكون فضيحتهم كبيرة بسبب تَرَاكُم شَرِّهم.. إنهم كلما أصَرّوا علي الشرّ كلما أصبح مَرَضهم مُزْمِنَاً يصعب علاجه، كالذي يسير في طريقٍ خطأ، كلما طالَ سَيْره فيه، كلما ازداد بُعْده عن الطريق الصواب وصَعُب عودته إليه.. "..وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)" أيْ وإضافة إلي زيادة مرضهم، لهم حتما بسبب هذا المرض الذي أَضَرُّوا وأتْعَسُوا به أنفسهم وغيرهم، عذاب مُوجِع مُهين مُتْعِس لا يُوصَف، علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم بالقطع ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم.. ".. بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)" أيْ وكل ذلك بسبب أنهم كانوا دائما يَكْذِبون حيث يَدَّعون أنهم آمنوا بالله وباليوم الآخر وما هم بؤمنين ويفعلون بسبب ذلك الشرور والمَفاسد والأضرار – إذ لا حساب من وِجْهَة نَظَرِهم – والتي منها أنهم يَكْذِبون ويَغِشّون ويَخْدَعون غيرهم حين يتعاملون معهم فيُظهرون الخير ويُخْفون الشرّ بما يُسَبِّب التعاسات بين الناس.. هذا، وفي الآية الكريمة تحذيرٌ شديدٌ لهم لعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولقرآنه ولإسلامه ليسعدوا في دنياهم وأخراهم
ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)"، "أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12)" أيْ ومن صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة أيضا والتي علي كل مسلم أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مثلهم فيهما أنهم إذا نُصِحُوا من المسلمين باتّباع أخلاق الإسلام والامتناع عمَّا يَقومون به من الإفساد في الأرض أينما تَوَاجَدُوا بنشر الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات بكل أشكالها وصورها ودرجاتها – والفساد هو فِعْل ما يَضُرّ ويُتْعِس النفس والغَيْر في الدنيا والآخرة وهو عكس الصلاح الذي هو فِعْل ما ينفعهما ويسعدهما فيهما – قالوا كذباً وزُورَاً ومُرَاوَغَة وخِداعَاً وتَلَوُّنَاً وقَلْبَاً للحقائق وتَبَجُّحَاً واستهزاءً وبعضهم يقول جَهْلَاً وغَلْقَاً لعقله حيث من كثرة فِعْله للشرَ وإدْمَانه له لم يَعُد يُمَيِّز بين الفساد والصلاح، قالوا بل نحن مُصلحون لا مُفْسِدون!! وذلك لأنهم قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12)" أيْ هذا تكذيبٌ تامٌّ من الله تعالي لهم.. أيْ حتماً بكل تأكيدٍ هؤلاء لا مَن يَدْعونهم للخير هم المُفسدون لا المُصلحون ولكنّهم من شِدَّة سَفَهِهم وجهلهم وتعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة لا يشعرون بذلك أيْ لا يَعلمونه ولا يُدركونه ولا يَدْرُون ولا يُقَدِّرُون نتائجه المُضِرَّة المُتْعِسَة لهم في الداريْن فكأنهم عَدِيمِى الشعور فاقِدى الفِكْر والإحساس والإدْراك، وذلك لأنهم مُستمرّون مُصِرّون تمام الإصرار علي ما هم فيه بلا أيِّ استجابةٍ لأيِّ خيرٍ مُغْلِقون للباب أمام أيِّ محاولاتٍ لدعوتهم له لأنهم قد وَصَلوا إلي مَرْحَلة الخَتْم علي عقولهم أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلةٍ دون أيّ استجابةٍ لأيّ خيرٍ قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَة مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا من ذاك!!.. هذا، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال
ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13)" أيْ ومن صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة أيضا أنهم إذا نُصِحُوا من المسلمين أن يؤمنوا كما آمَنَ الناس الذين أحسنوا استخدام عقولهم وهم المسلمون، أيْ أنْ يُصَدِّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره ويعملوا بكل أخلاق الإسلام التي تُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، كان رَدّهم سَفِيهاً يدلّ علي تغييبٍ وإغلاقٍ تامٍّ لعقولهم وعَكْسِهم للحقائق حيث قالوا ساخرين مِمَّن آمنوا مُجادِلِين مُستكبرين رافضين هل نؤمن مثل هؤلاء السفهاء فنُصبح سفهاء مثلهم؟!!.. ".. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13)" أيْ هذا تكذيبٌ وتَسْفِيهٌ وتَقْبِيحٌ تامٌّ من الله تعالي لهم، ولفظ "ألَاَ" يُفيد جذبَ الانتباه ومزيداً من الاهتمام بما سيُقَال.. أيْ حتما بكل تأكيدٍ هؤلاء لا الذين آمنوا هم السفهاء ، جَمْع سَفِيه وهو ضعيف العقل مُعَطّل الذهن سَطْحِيّ الفكر رَدِيء الرأي لا يُحْسِن التَّعَقّل والتّعَمّق والتَّدَبّر والتَّصَرُّف في الأمور.. ".. وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13)" أيْ ولكنَّ السبب في ذلك الخَلَل والسَّفَه الذي هم فيه هو أنهم لا يعلمون شيئا عن عظمته تعالي وكمال صفاته الحُسْنَيَ وقُدْرته وعلمه وعن الحقّ والعدل والخير وعن فوائد أخلاقيّات الإسلام وسعاداتها في دنياهم وأخراهم وعن عقابه للمُخَالِفين الذين يفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار وعن أنَّ السعادة والعِزَّة الحقيقية هي مع الله ورسوله (ص) والإسلام والمسلمين، إنهم لا يُدْركون كل هذا، ولا يعقلونه ولا يتدبّرون فيه، تماما كالجَهَلة الذين ليس عندهم أيّ عِلْم أو فهم، والسبب الأساسي، كما في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) أنهم قد عطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وفي هذا تنبيهٌ لهم ولأمثالهم لعلهم يستفيقون ويعودون للخير ليسعدوا في الداريْن.. هذا، وفي الآية الكريمة السابقة كان الحديث عن فسادهم وهو أمر حِسِّيّ يُناسبه أن تُخْتَم بقوله تعالي "لا يشعرون" بينما في هذه الآية الحديث عن سفههم الذي هو أمر عقليّ علميّ فيُناسبه "لا يعلمون"
ومعني "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)"، "اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)" أيْ ومن صفات المنافقين الدنيئة الخَسِيسَة أيضا والتي علي كل مسلمٍ أن يَتَجَنّبها تماما ليسعد في الداريْن ولا يتعس مثلهم فيهما أنهم إذا قَابَلُوا المؤمنين في مكانٍ مَا قالوا آمَنَّا أيْ صَدَّقنا مثلكم بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملنا بأخلاق الإسلام، وذلك لكي ينتفعوا بما عندهم وبوجودهم بينهم ويعلمون أسرارهم ويفشونها وينشرون الشرّ والفساد والضَّرَرَ فيهم وما شابه هذا مِمَّا يحاولون به أن يَضرّوهم ويُضْعِفوهم، وإذا ذَهَبوا وانفردوا بأصحابهم أمثالهم الذين يُشبهون الشياطين في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار – والشياطين جَمْع شيطان والشيطان في اللغة العربية هو كلّ مُفْسِدٍ مُتَمَرِّدٍ بعيدٍ عن الحقّ وعن رحمة ربه – قالوا مُطَمْئِنِين لهم إنا معكم وعلي طريقتكم وأعمالكم لم نتركها ولسنا مع المسلمين وإنما قلنا ما قلناه وتَصَرّفنا ما تصرَّفناه اسْتِخْفَافاً بهم واستهزاءً وليس صِدْقَاً وحقيقة، فهم يُلاقون غيرهم ظاهرياً بالخير ثم من ظهورهم يطعنونهم ويُؤذونهم بفِعْل الشرّ بهم.. "اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)" أيْ هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما.. أي الله تعالي بقوّته وعظمته القادر علي كل شيءٍ العالم به يَنتقم للمؤمنين ويُنْصِفهم ويَنصرهم بأن يُعاقِب المنافقين المستهزئين في مُقابِل استهزائهم بالمِثْل، في دنياهم وأخراهم، ففي الدنيا يُعاقبهم بأن يَستهزيء بهم بإيقاعهم في أقوالٍ وأفعالٍ تجعلهم في مَوْضِع استهزاءٍ وخِسَّةٍ وانحطاطٍ واحتقارٍ وإهانةٍ وإذلالٍ وانكشافٍ وانفضاحٍ من الآخرين رغم تَوَهّمهم أنهم في أمانٍ من كل ذلك فيكون هذا هو قِمَّة الاستهزاء بهم، ويُعاقِبهم أيضا بأن يَمُدّهم أيْ يزيدهم في طغيانهم أيْ في تَجَاوُزهم الشديد في فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار والظلم والاعتداء علي الله والإسلام والناس بأن يُيَسِّر لهم أسبابه وبأن يُطِيل أوقاتهم فيه فيفعلون الكثير منه فتَتَرَاكَم عقوباتهم ويَظَلّون علي ذلك ويَتركهم دون عونٍ الأمر الذي يجعلهم بالتالي يَعْمَهُون أيْ يكونون دائما في حالة العَمَه ويزدادون فيها أيْ في حالة التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف من انكشاف أمرهم والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ حيث العَمَه هو عَمَيَ العقل والفكر الذي يؤدي حتما إلي كل سوء – بينما العمي هو عمي البصر – وذلك بسبب إصرارهم التامّ علي ما هم فيه (برجاء مراجعة الآية (10) "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ"، للشرح والتفصيل عن كيفية أنَّ المُصِرّ علي مرضه يَزداد مرضا).. ثم في الآخرة يَستهزيء سبحانه حتما بهم بأن يَتَوَهَّموا أنهم يمكنهم النجاة من العقاب ودخول الجنة بإظهار الخير وإخفاء الشرّ كما كانوا يفعلون في دنياهم وينجون أحيانا بذلك فيُفاجَأون بأنَّ كل الأمور مكشوفة واضحة وأنهم مُقْبِلُون علي عذاب النار الذي لا يُوصَف بما يجعل المؤمنين يسخرون من حالهم الساخر البائس هذا حينما يرون انتصار الله لهم بأن جعلهم مَذْلُولِين في عذابهم بعدما كانوا مُستهزئين بهم في دنياهم
ومعني "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)" أيْ هذا بيانٌ لسَفَهِهِم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم، أيْ هؤلاء المنافقون الموصوفون بالصفات السيئة في الآيات السابقة هم الذين بالفِعْل قد باعوا الهُدَيَ وهو كلّ خيرٍ واشتروا بدلاً منه الضلالة أي الضياع! دَفَعوا الهدي وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الضلالة!! باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم!! تركوا السعادة التامَّة في الداريْن وأخذوا تمام التعاسة فيهما!!.. ".. فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ.." أيْ وإذا كان الأمر كذلك فبالتالي حتما ما كسبت تجارتهم وصفقتهم التجارية هذه شيئا بل خسروا فيها تمام الخسارة، خسارة ما بعدها خسارة لا تُوصَف ولا تُقارَن! فحالهم كحالِ تاجرٍ سفيهٍ مَخْبُولٍ يترك بضاعة رائجة رابحة نافعة مُسْعِدَة ويشتري أخري كاسِدَة خاسرة مُضِرَّة مُتْعِسَة ويَدفع فيها أغلي ما عنده من مالٍ بل كلّ رأسماله!!.. ".. وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي ضلالهم أيْ ضياعهم، أيْ وبالتالي أيضا ما كانوا أبدا راشِدين مُصِيبِين للخير والسعادة في فِعْلهم هذا وما كانوا مطلقا مُحَقّقِين للربح في دنياهم وأخراهم ما داموا مستمرّين هكذا علي ما هم فيه
ومعني "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)" أيْ هذا مَثَلٌ أيْ تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. أيْ مَثَل هؤلاء المنافقين في عدم استمرارهم علي أخلاق الإسلام لكي يسعدوا بها في الداريْن حيث يُظْهِرون خيرَ أخلاقِه لفترةٍ وهم فقط أمام الآخرين ثم إذا اختلوا بأمثالهم خالَفوها وعادوا لشَرِّهم كمَثَلِ مَن كان في ظلامٍ شديدٍ فأوقد نارا فلمَّا رَأَيَ ما حوله وانتفعَ وسَعِدَ به فَرَّطَ في هذا الحال سريعا ولم يُحافِظ عليه وأطفأ نور هذه النار وأزالَ نفعها وخيرها مِن ضوءٍ وأمنٍ ودفءٍ وطهيٍ وغيره وعادَ لكآبةِ وأضرار ظلامه السابق!.. هذا، ومعني ".. ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)" أيْ هم لمَّا تَرَكوا وأهملوا الإسلام، واختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم أن يكونوا منافقين، فإنَّ الله لا يَمنعهم من نفاقهم ويشاءه لهم أيْ يَتركهم فيه، في ظلامهم لا يُبصرون أيْ لا يُدْركون ولا يعقلون أيَّ نورٍ أيْ لا يرون أيَّ خيرٍ وسعادةٍ ولا يهتدون إليهما ولا إلي الطريق للخروج مِمَّا هم فيه مِن شرٍّ وتعاسة، يتركهم في ظلماتٍ مُضَاعَفَة، في حالةٍ دائمة من التّرَدُّد والتّحَيُّر والاضطراب والتَّخَوُّف من انكشاف أمرهم والتَّخَبُّط والضياع والانتقال من شَرٍّ إلي شَرّ، يَتركهم دون عوْنٍ لَمَّا يَرَاهُم مُصِرّين تمام الإصرار حريصين تمام الحرص علي النفاق دون أيّ بادِرَةٍ منهم ولو بخطوةٍ واحدةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي يقول "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد : 11)، بل مِن شِدّة غضبه عليهم بسبب شدة إصرارهم يُيَسِّر لهم هذا النفاق والشرّ، هذا المرض الذي هم فيه، هذه الظلمات التي هم فيها، فكأنه تعالي هو الذي يُبعدهم عن فِعْل الخير لأنفسهم ولغيرهم ويُذْهِب نور الإسلام عنهم المُسْعِد لهم في الداريْن ويزيدهم من مرض النفاق لكنَّ الواقع أنهم هم الذين اختاروا بكامل حرية إرادة عقولهم مرضهم هذا (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية لله وللإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. إنَّ البعض منهم قد وَصَلوا إلي مرحلة الطبْع والخَتْم علي العقول، أيْ مِن شِدَّة عِنادهم واستكبارهم وإصرارهم علي فِعْل الشرّ، واعتيادهم علي فِعْله لفتراتٍ طويلة دون أيّ استجابةٍ لأيّ خير، قد وَصَلوا لمرحلةٍ مُزْمِنَةٍ مِن الشرّ بحيث لم يَعُد في عقولهم أيّ مساحةٍ لأيّ خير!! بل بعضهم لم يَعُد حتي يستطيع أن يُفَرِّق بين الخير والشرّ وأين هذا مِن ذاك!! وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم ولم يستجيبوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وذلك بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ثم بعد موتهم، في قبورهم ويوم القيامة، سيَتركهم الله حتماً في ظلماتٍ لا تُوصَف من العذاب والتعاسة أشدّ وأعظم مِمَّا لاقوه من ظلماتِ وتعاساتِ دنياهم.. إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولإسلامهم فحينها يسعدون في الداريْن ولا يتعسون فيهما
ومعني "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)" أيْ هؤلاء حتما هم صُمٌّ أيْ كالذين لا يسمعون لأنهم قد فَقَدوا منافع السمع إذ لا يسمعون الحقّ والصدق والعدل والخير الذي في الإسلام سماع قبولٍ وتَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وعملٍ به ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وهم بُكْمٌ أي كالذين لا ينطقون لأنهم لا يتكلمون بما هو خير، وهم عُمْيٌ أيْ كالذين فقدوا أبصارهم لأنهم لا ينتفعون بها في رؤية الخير حولهم والاعتبار به والتّدَبُّر فيه، وبالتالي وبسبب ذلك التعطيل لحواسِّهم ولعقولهم هم لا يرجعون عمَّا هم فيه من شرٍّ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ ويعودون إلي خيرِ الإسلام المُفيد المُسْعِد.. إلا إذا استفاقوا وأحسنوا استخدام العقول والحواسّ وعادوا لربهم ولإسلامهم فحينها يسعدون في الداريْن ولا يتعسون فيهما
ومعني "أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)"،"يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)" أيْ هذا مَثَلٌ وتَشبيهٌ آخرٌ للمنافقين لمزيدٍ من تقريب حالهم السَّيءِّ للأذهان حيث هم من صفاتهم أنهم دائما في حالةٍ من الخوف والرعب والقَلَق والاضطراب والتّرَدُّد والتَّقَلّب والتّحَيُّر والتّخَبُّط والضياع والتَّخَوُّف والانتقال من خوفٍ إلي خوفٍ انتظاراً لانكشاف أمرهم بسبب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فشَبَّهَهم الله تعالي في الآية قبل السابقة (17) أنهم كمَثَلِ الذي استوقد نارا (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) أو في هذه الآية الكريمة كصَيِّبٍ أيْ كمَثَلِ مَن يَسِير في صَيِّبٍ أيْ مطرٍ شديدٍ مُصَوَّبٍ مِن السماء نحوه في الأرض بصورةٍ مُخِيفَةٍ حيث يُصاحبه ظلمات شديدة من السُّحُب أو من الليل تُرْعِبه لأنه ينتظر في كل لحظةٍ أن يَخرج منها ما يُؤْذِيه ويُهلكه ومَصْحُوب كذلك برَعْدٍ وهو صوت شديد قد يكون معه صواعق كهربائية تنزل من السماء وتَتَّصِل بالأرض تُرْعِب وتَحْرِق مَن تُصيبه وأيضا معه بَرْق وهو ضوء شديد يكون في السماء للحظاتٍ يَتْبَعه غالبا ما يُخيف كالصواعق والعواصف والرياح الشديدة المُدَمِّرَة ونحو ذلك.. ومِن شِدَّة ما هم فيه من خوفٍ من الهلاك يُدْخلون بعض أصابع أيديهم في آذانهم كي لا يسمعوا أصوات الصواعق خائفين من الموت مُتَوَهِّمِين أنَّ ذلك ينفعهم ويحميهم منه، ولكنْ لن يُنْجيهم شيءٌ لأنَّ الله مُحِيط بالكافرين والمنافقين أي يُحيط بعلمه التامّ بكلّ شيءٍ مِن خَلْقه وكوْنه، أيْ يَلفّ به ويُحيطه من كلّ جانب، أي الجميع تحت قُدْرته وأمره وحُكمه وسلطانه ونفوذه، فلا يَفْلِت أحدٌ ولا يَفوته شيءٌ ولا يَخْفَيَ عليه خافية، فلا مَفَرّ إذَن لهؤلاء حينما ينزل بهم عذابه في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه مُناسبا مُتْعِسَاً لهم مُسْعِدَاً للمسلمين، وسيُحاسِبهم وسيُعاقِبهم بما يستحقّون بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليحذروا هم وليعلموا أنهم علي وشك أن ينكشف شرّهم وينفضح أمرهم وليُسارِعوا بإصلاح ذواتهم قبل فوات الأوان وحدوث الفضائح والإهانات والتعاسات.. "يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)" أيْ إنَّ هذا البرق شديدٌ جداً مُخِيفٌ لدرجة أنه يقترب أن يأخذ أبصارهم فيُصَابون بالعَمَيَ فلا يَرَوْنَ شيئا، وهو كلما أضاء لهم الطريق لفترةٍ قصيرةٍ ساروا في هذا الضوء ثم إذا انتهي البَرْق بضَوْئه وعاد الظلام ورعبه قاموا بمعني تَوَقّفوا حائرين لا يَدْرون أين يذهبون وماذا يفعلون، فهم إذَن في حالةٍ دائمةٍ من الخوف والقَلَق والتّخَبُّط والتّشَتُّت والتّذَبْذب، ولو أراد الله لأزاد شدّة هذا البرق وهذا الرعد حتي تذهب أبصارهم وأسماعهم فهم يستحقّون ذلك كعقابٍ لهم علي سوئهم، وفي هذا مزيدٌ من تهديدهم لعلهم يستفيقون، فهو حتما علي كل شيءٍ قدير تمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. هذا، وعند بعض العلماء هاتين الآيتين الكريمتين هما تشبيهٌ لحال المنافقين ومَن يَتَشَبَّه بهم عند التَّعامُل مع القرآن الكريم، فالقرآن هو كالصَّيِّب أيْ المطر الذي يحمل كل خيرٍ وسعادةٍ لمَن ينتفع به بأن يعمل بكل أخلاقه، لكنه فيه في ذات الوقت للذين لا يعملون به ظلمات ورعد وبرق يتمثّل في أنه ينذرهم بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا والآخرة إذا خالَفوه، ولذلك فهم حين يستمعون له يَسُدّون آذانهم بأصابعهم حتي لا يستمعوا لهذه الصواعق التي فيه والتي تُهَدِّدهم بالعذاب والهلاك والموت، ولكنَّ الله مُحيط بهم وبأمثالهم يُعاقبهم وقتما شاء بما يشاء ويُناسب سوءهم فلن يَمنعه شيء من عقابهم.. إنَّ نور القرآن الذي يُرْشِد الناس بأخلاقه للسعادة التامّة في الداريْن هو كالبرق في شدّته وقوّته التي تكاد تخطف أبصار هؤلاء المنافقين من إبهارِ ولَمَعَانِ وإقناعِ أدِلّته حيث لا يتحَمّلون هذه القوة لأنهم لا يستطيعون رَدَّها بباطلهم السَّفِيه الذي يَدَّعُونه كذباً وزُورَاً من عدم وجود الله أو عدم صلاحية الإسلام لإدارة شئون الحياة وإسعادها علي أكمل وجهٍ أو ما شابَهَ هذا من أكاذيب واهية تنهار وتزول أمام الحقّ الذي في القرآن والذي يُوافِق كل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ، وهم كلما أضاء لهم بخُلُقٍ مَا من أخلاقه يُسعدهم في حياتهم وهَمُّوا باتّباع هذا الخُلُق تَوَقّفوا عن اتّباعه وعادوا لما هم فيه من ظلمات الشرور والتعاسات بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ مَا من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولو أراد الله لذهب بحَوَاسِّهم وعقولهم فهو حتما علي كل شيءٍ قدير وهم يستحِقّون مِثْل هذا العقاب ولكنه يتركها لهم رحمة بهم وحتي لا يكون لأحدٍ حجّة وعُذْر أنه لا يمتلك أدوات الوصول لخير الإسلام لعلهم يُحسنون استخدامها ويستفيقون يوماً مَا ويعودون له ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن بعض معاني العبادة، برجاء مراجعة تفسير الآيات (48)، (51) حتي (57)، (116) حتي (122)، (172) حتي (175) وكلها من سورة النساء).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.." (إبراهيم : 7)
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)" أيْ هذا نِدَاءٌ من الله تعالي الخالق الكريم الرحيم الودود للناس جميعا ليستمعوا وليتنبهوا له، أي يا أيها البَشَر، يا بني آدم، أطيعوا ربكم، أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم ، أطيعوه وحده بلا أيِّ شريك، فلا تطيعوا غير أخلاق الإسلام ولا تعبدوا مثلا صنماً أو حَجَرَاً أو نَجْمَاً أو غيره، ولا تَتَّبِعوا نظاما وتشريعا مُخَالِفاً لنظام وشرع الإسلام، لأنَّ ربكم الله هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة حيث له كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، وحيث هو الذي خَلَقَكم أيْ أوْجَدكم مِن عدمٍ أنتم الحالِيِّين والسابقين لكم وخَلَقَ كل شيءٍ من مخلوقات الكوْن المُبْهِرَة المُعْجِزَة، فلا يَدَّعِي أحدٌ أبداً أنه ربّ الناس والخَلْق الآن وعليهم أن يعبدوه لأنه حتما سيكون كاذبا لأنه لو كان كذلك فمَن إذَن الذي خَلَقَ الخَلْقَ السابق قبل أن يُولَد هذا المُدَّعِي الكاذِب؟!! كما أنَّ تذكيرهم بخَلْق مَن قبلهم هو لكي لا يَتَوَهَّمَ أحدٌ أنه خَلَقَه والداه فهم أيضا مَخلوقين ولكي يتدبَّروا في أنَّ الحياة الدنيا تنتهي بالموت كما ماتوا وأنه قادر علي الإحياء بعد الإماتة فيُحسنوا الاستعداد للحياة الآخرة بعدها بالعمل بكل أخلاق الإسلام ولكي يَعْتَبِروا بأحوالهم وتاريخهم فيكونوا مِثْل مَن أحسنَ منهم ليسعدوا مثله في الداريْن ولا يكونوا مُطلقاً مِثْل المُسِيئين حتي لا يتعسوا مثلهم فيهما.. إنكم أيها الناس ستَسعدون في حياتكم كثيرا، إذا اخترتم بكامل حرية إرادة عقولكم ألاّ تَعبدوا إلا الله تعالي، أيْ تُطيعوه وحده، وسيُساعدكم علي هذا أنَّ العقل من حيث الأصل مُبِرْمَج مَفْطُور أيْ مَخْلُوق مِن خالقه سبحانه علي ألاّ يَعبد غيره، لكي يكون أمر الطاعة سَهْلاً مُيَسَّرَاً عليه لا يَبذل فيه جهدا كبيرا، فيَسعد الإنسان بالتالي بطاعته لله هذه بكل لحظات دنياه ثم بأخراه الخالدة، وذلك إذا أحسنَ استخدام عقله واستجابَ لنَداء الفطرة بداخله والتي هي مسلمة أصلا والتي تَدعوه دوْمَاً لطاعة الله باتِّباع الإسلام لتَتَحَقّق له هذه السعادة التامَّة في الداريْن وتُذَكّره دائما بعدم مُخَالَفَته وإلا تعس فيهما (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الفطرة، برجاء النظر لتفسير الآية (172) من سورة الأعراف).. والعبادة، أو الطاعة، له وحده ولكلّ مَن أَوْصَيَ بطاعته، هي فِعْل وقول كلّ خيرٍ نَصَحَ وذَكَّرَ به وأرْشَدَ إليه، لأنه نافعٌ مُسْعِدٌ للإنسان ولغيره في دنياه وأخراه، وتَرْك كلّ شَرٍّ مَنَعَ منه، لأنه ضارٌّ مُتْعِسٌ له ولمَن حوله فيهما، وفِعْل وقول الخير هذا يَشمل كل شئون الحياة المختلفة مِن علمٍ وعملٍ وإنتاجٍ وإنجازٍ وكسبٍ ورِبْحٍ وفِكْرٍ وتخطيطٍ وابتكارٍ وبناءٍ وإدارةٍ وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ جيدةٍ وإنفاقٍ مِن مالٍ وجهدٍ وصحةٍ وغيره علي أبناء وأزواج وأقارب وجيران وعموم الناس والخَلْق، فليست العبادة وليست الأعمال الخيرية مَقْصُورة فقط علي إطعام المساكين وكفالة الأيتام وفِعْل الشعائر كالصلاة والصوم والعمرة والحج رغم أهمية كل ذلك وعظيم سعاداته في الدنيا والآخرة، وإنما كلّ عاملٍ لله بطاعةٍ، أيِّ طاعةٍ، أيِّ خيرٍ مُسْعِدٍ للذات وللآخرين، في أيِّ مجالٍ ومكانٍ وزمان، يكون عابداً لله تعالي.. وأثناء ذلك الخير الذي تَفعله في كل لحظات حياتك أيها المسلم، وفي مقابله، وبفضلٍ وكرمٍ منه سبحانه، سيُيَسِّر لك كلّ أمرٍ ويفتح أمامك كلَّ بابٍ مُغْلَقٍ ويُحَقّق لك كلّ أو معظم ما تريد ما دام خيراً لك ولغيرك وتكون مِمَّن لو أقسم علي الله لَبَرَّ قَسَمَه بأنْ يُحَقّقه له، وستكون في كل رعايةٍ منه وأمنٍ وحبٍّ ورضا ورزقٍ وعوْنٍ وتوفيقٍ وقوّةٍ ونصرٍ وسرورٍ دنيويٍّ ثم كلّ غُفْرانٍ وعطاءٍ أخرويّ.. فالعبادة هي السَّيْر في الحياة حتي نهاية العمر في طريقٍ مُعَبَّد، أيْ مُمَهَّد مُستقيم سَهْل واضح مُنير مُسْعِد، وهو طريق الله ورسوله (ص) وقرآنه وإسلامه والمؤمنين الصالحين، طريق الحق والعدل والخير والأمن والسعادة.. وغيره من الطرُق، طُرُق الشَّرّ والأشرار، كَئيبة ضَيِّقة مُظلمة مُتَعَرِّجة غير مُسْتَوِيَة صَعْبة مُهْلِكة مُتْعِسة في كل لحظاتها لأنها تُخالف فطرة العقل المسلمة أصلا وبالتالي يكون الإنسان وهو في هذه الطرق السيئة في صراعٍ دائمٍ مع فطرته فيكون قَلِقَاً مُتَوَتِّرَاً مُضطربا تعيسا في دنياه قبل تعاسته الأشدّ والأعظم في أخراه.. ولذا، فاسْعَد أيها المسلم بالاستعانة بخالقك الكريم القادر علي كل شيءٍ بدوام التَّوَاصُل معه وبذِكْره ودعائه واستغفاره وحبه واستحضار ما أمكنك من نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل، لتبقي حياتك الدنيا كلها علي هذه الحالة الطيبة، عابدا دائما، سعيدا دوْماً في نفسك مُسْعِدَاً لغيرك، حالة العبادة السهلة السعيدة لربك الكريم ذي النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ولا تُعَدّ، واسْتَبْشِر بذلك علي الدوام بانتظار أعظم وأتمّ وأخلد السعادة في آخرتك (لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن بعض معاني العبادة، برجاء مراجعة تفسير الآيات (48)، (51) حتي (57)، (116) حتي (122)، (172) حتي (175) وكلها من سورة النساء).. إنَّ العَبْدَ لله لا يعني مُطلقا أنه ذليلٌ كما هو حال العبد لغير الله!! فالعبادة لله تعالي هي قِمَّة الحرية والرِّفْعَة والعِزَّة والكرامة، لأنها تجعل المسلم لو تَمَسَّك وعمل بكل أخلاق إسلامه حُرَّاً لا يتبع أحداً ولا نظاما ولا خُلُقَاً إلا ربه ورسوله وقرآنه وإسلامه، إنه ليس مُقَيَّدَاً بأيِّ خُلُقٍ فاسدٍ أو مُدْمِنَاً عليه يَنْسَاق وراءه كعبدٍ له لا يستطيع البُعْد عنه، إنه يَتَرَفّع عن اتِّباع أيّ فساد، إنه عزيزٌ لا يَطلب من أحدٍ شيئا لأنه يطلب من مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ فيُسَخِّر له مِن خَلْقِه مَن يُعاونوه ويُكْرموه ويُسَهِّلوا عليه كل شئونه، إنه كريم عفيف لا يمدّ يديه لثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوما مَا بل هو دائما مع الحقّ يقوله ويعمل به، إنه مَرْجِعٌ للآخرين يَرْجِعون إليه يَلتمسون عنده الصدق والعدل والخير والسعادة، إنه قائدٌ لا يَنْقَاد بل يَقود الجميع بالقُدْوة والحِكْمَة والموعظة الحسنة وبحُسن اتِّخاذه للأسباب وإكمالها ما أمكن لكلّ خيرٍ بما معه من إسلامٍ يُنَظّم لهم كل شئون حياتهم علي أكمل وجهٍ فيسعدون بكل لحظاتها.. بينما الذي يَعبد غير الله تعالي هو قطعاً علي العكس تماما، إنه عَبْدٌ ذليلٌ مَهِينٌ مُنْكَسِرٌ يَجري وراء كل مَن يعطيه ولو الفُتَات، إنه ضعيفٌ خَسِيسٌ مُتَلَوِّنٌ مُنْحَطّ وَضِيعٌ كَذُوبٌ تابِعٌ، إنه قَلِقٌ مُتَوَتِّرٌ مُضطربٌ، لأنه يعتمد علي بَشَرٍ مثله لا يملكون نفعاً ولا ضَرَّاً إلا إذا شاءه الله ونَسِيَ ربه صاحب القوة المتين، إنه بالقطع مُعَذَّبٌ تَعِيسٌ في دنياه، ثم سيكون في أخراه حتما في عذابٍ وتعاسة أشدّ وأعظم وأتمّ وأخلد.. إنَّ عليك أيها المسلم أنْ تكون مُخْلِصَاً مُحْسِنَاً في عبادتك لله تعالي أيْ تَفعل ما تَفعل مِن خيرٍ وتَقول ما تقوله منه مِن أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراك الناس فيقولوا عنك كذا وكذا من المدح المُضِرّ المُتْعِس لك حيث يُوقِعك في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحك حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقلك (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، النظر لتفسير الآية (125)، (126) من سورة النساء).. ".. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)" أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك عابدين لربهم سبحانه لا لغيره
ومعني " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والدلالة علي أنه تعالي وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وللشكر وللتوكّل أيْ الاعتماد عليه إذ هو أيضا – إضافة إلي خَلْقِكم – وحده لا غيره سبحانه بتمام قُدْرته وكمال علمه وفضله وكرمه ورحمته الذي جعل لكم الأرض بِسَاطَاً كالفراش أي مَبْسُوطَة مُمَدَّدَة مُمَهَّدَة كالبِسَاط، وبذلك يمكنكم سهولة الحركة والانتقال والانتفاع بخيراتها التي لا تُحْصَيَ والسعادة بها، فهي صالحة مُؤَهَّلَة للحياة المُمْتِعَة عليها وللاستقرار وللتَّنَقّل فيها ولو كانت غير ذلك لَمَا تَحَقَّق لكم هذا.. ".. وَالسَّمَاءَ بِنَاءً.." أيْ وكذلك جَعَلَ أيْ أوْجَدَ وأنشأ لكم السماء بإحكامٍ وإتقانٍ بلا أيّ خَلَلٍ بكلّ ما فيها من مخلوقاتٍ هائلةٍ عظيمةٍ مُعْجِزَةٍ وجعلها بناءً أيْ سَقْفَاً مُحْكَمَاً لا يسقط عليكم بل يحميكم وفيه كلّ خيرٍ حيث الغلاف الجوي الذي يحفظ طاقات الأرض وهواءها لكم ويحمل الأمطار وحوله ما ينفعكم كالشمس والقمر والنجوم وغيرها.. ".. وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ.." أيْ وأيضا مِن تمام قدْرته وعلمه يُنزل الماء من السُّحُب في السماء فيُحْي كلّ حيّ ويُنبِت ويُخرج كل أنواع الثمار والنباتات ذات الألوان والأطْعُم المختلفة الجميلة الحَسَنَة الطّيِّبَة المُبْهِجَة النافعة والتي تكون سَبَبَاً لرزقكم بكل صور الأرزاق المتنوعة من صحةٍ ومالٍ وغيره مِمَّا لا يُحْصَيَ من أرزاقٍ أيْ عطاءاتٍ مفيدةٍ مُسْعِدَة.. ".. فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا.." أيْ فإذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم فبالتالي لا يَصِحّ ولا يُعْقَل مُطلقاً أنْ تجعلوا لله أنداداً أيْ أمثالاً وشركاء تُساوونهم به سبحانه وتَعبدونهم غيره كأصنامٍ أو كواكب أو غيرها حيث الكلّ مخلوق ضعيف مرزوق مثلكم ليس له صفات الخالِق وكلها لا تملك أيّ شيءٍ تنفع به ذاتها أو تمنع ضَرَرَاً عنها فما بالنا بغيرها فهي حتما لا يمكنها نفع أو إضرار أيّ إنسانٍ إلا بأمر الله لها فهي تحت سلطانه ونفوذه! فهل بعد هذا تَتْرُكون صاحب القوة كلها مالِك المُلْك كله تعالي وتَتَّخِذون ضعيفا مثلكم أو أضعف تطلبون منه رزقا أو صحة أو قوة أو غيره بل وتَتَذَلّلون له وتطيعونه حيث سار وإنْ كان شرَّاً وكأنه ربٌّ لكم؟!!.. ".. وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)" أيْ لا يُمكن أبداً أن يكون هذا منكم وأنتم تعلمون بفطرتكم والتي هي مسلمة أصلا بداخل عقولكم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) وتعلمون بعقولكم إذا أحسنتم استخدامها وكنتم مُنْصِفِين عادِلين ومِن أهل العلم والتَّعَقّل والتّدَبُّر والتّعَمُّق أنَّ الله هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة وأنه لا مثيل ولا شبيه له يستحِقّها، فلا يليق بكم إذَن أن تُسَاوُوا المخلوق بالخالق ومَن لا يَنفع ولا يَضُرّ بمَن يملك النفع والضرّ وأصول الأرزاق كلها وكل شيءٍ في الكوْن.. وفي ذلك حثّ ودَفْع وتشجيع لهم على عبادته وحده بإثارة علمهم وعقلهم وفكرهم ليسعدوا تمام السعادة في الداريْن وعوْن لهم علي البُعْد التامّ عن أيِّ سَفَهٍ بعبادة غيره وإلا تَعِسُوا تماما فيهما
وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23)"، "فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)" أيْ وإن كنتم أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن في شَكٍّ من القرآن العظيم الذي نَزَّلناه على عبدنا رسولنا الكريم محمد (ص) – ولفظ عبدنا يُذَكّر بالعبادة أيْ الطاعة له تعالي وبأنه (ص) مَنْسُوبٌ إليه وأنه الخالق القوي القادر علي كل شيء هو الذي عليه حتما حمايته ونصره ونَشْر دعوته وهي الإسلام وحتي لا يَعْبده أحدٌ حيث هو بَشَرٌ عبدٌ لله إذ قد فَعَلَ ذلك بعض السابقين مع بعض رسلهم – وتَدَّعون أنه ليس من عندنا وأنَّ رسولنا ليس صادقاً وأنه من كلامه ونَسَبَه كذباً إلينا فهَاتُوا أنتم سُوُرَة تُمَاثِل سورة منه، والسورة هي مجموعة من آياته، وهاتوا شهداءكم أيْ نُصَرَاءكم وأعوانكم والحاضرين معكم الشاهدين لكم الذين سيشهدون أنكم أتيتم بمثله لو استطعتم ذلك مِمَّن حَضَرَكم من الفُصَحَاء ومِمَّن تَدَّعون أنهم ينصرونكم وينفعونكم غير الله تعالي مِمَّن تَقْدِرون علي استدعائه وإحضاره لمساعدتكم بما فيهم آلهتكم المَزْعُومَة التي تعبدونها من أصنامٍ وغيرها، إن كنتم صادقين في ادِّعائكم هذا أنه ليس من عند الله وأنكم تَقْدِرُون على الإتْيَان بمِثْله وعلي مُعَارَضَته ومُجادَلَته ومُساواته وأنَّ هذه الآلهة تساعدكم، فإنْ جئتم بسورةٍ من مثله فأنتم إذَن صادقون ورسولنا كاذب!! وفي هذا تَحَدٍّ وتَعْجِيزٍ تامٍّ لهم ولمَن يَتَشَبَّه بهم في كل زمانٍ ومكان.. "فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)" أيْ فإنْ لم تستطيعوا وعجزتم تماما الآن عن أن تأتوا بسورةٍ من مِثْل سُوَرِ هذا القرآن الكريم أو حتي بمِثْلِ آيةٍ منه ولن تستطيعوا في المستقبل حتماً بأيِّ حالٍ من الأحوال وستَعْجَزون أبداً إلي نهاية الحياة الدنيا لأنَّ الأمر فوق طاقة البَشَر إذ القرآن كلام الخالِق ولا يمكن مُطلقا لكل المخلوقات مهما عَظُمَت أن تُقارَن بخالقها ثم هو قد أعْجَزَ البَشَرِيَّة كلها بكل عقولها وأفكارها وفلاسفتها وفُصَحَائها أن يأتوا بمثله لأنه أتَيَ بنُظُمٍ مُتكَامِلَة تُسعد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة فهو يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد كل البَشَر تمام السعادة في الداريْن لو عملوا بكل أخلاقه رغم اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم ورغم كل التطوّرات التي تَطْرَأ علي حياتهم وهذا ما لم ولن يَقْدِر عليه إلا خالقهم الخبير العليم بهم لأنهم صَنْعَته التي صَنَعَها ويعلم تماما كل دَوَاخلها، وقد تَحَدَّاهم سبحانه ليَستثيرهم لفِعْل هذا ومع ذلك لم يستطع أيّ أحدٍ أن يأتي حتي ولو بآيةٍ مثله!! ولن يستطيع حتي يوم القيامة!! مَمَّا يدلّ علي صِدْقه وأنه ليس من كلام البَشَر وإنما هو كلام ووَصَايَا خالِقهم بلا أيّ شكّ لأنه لو كان مِن كلامهم أو من كلام الرسول (ص) لأَتوا بمثله وأفضل لأنه (ص) أمِّيّ لا يَقرأ ولا يَكتب وهناك الكثيرون مِمَّن هم أعلم وأفصح منه!!.. ".. فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)" أيْ فإذا كان الحال هكذا، وقد عجزتم أشدّ العَجْز، رغم تجميعكم لكل قواكم البشرية والعقلية والمالية وغيرها، فقد أثبتم بذلك إذَن أنتم بأنفسكم صِدْقه بأوضح وأقطع دليل! لأنه لو كان كلاماً بَشَرِيَّاً لأتيتم بمِثْله! فبالتالي فاتّقوا أيْ فتَجَنَّبُوا دخول عذاب النار يوم القيامة بأن تَتركوا عِنادكم واستكباركم وتكذيبكم وتُؤمنوا أيْ تُصَدِّقوا به وتعملوا بكل أخلاق الإسلام التي فيه، فهكذا يجب أن يفعل كل عاقلٍ يُحسن استخدام عقله ولا يَخدع نفسه ويريد ضمان سلامته وسعادته في دنياه وأخراه، حيث هي نار لا تُوصَف ولا تُقارَن مُطلقا بأيٍّ من نيران الدنيا إذ وقود اشتعالها الذي يشعلها ويزيدها اشتعالا بشدّة علي الدوام هو من أجساد ودماء وصديد الناس التي فيها المُسْتَحِقّين لعذابها الذين فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات في حياتهم الدنيا ومن الحجارة الصلبة الشديدة السخونة والتي كان البعض يصنعون منها أصناماً يعبدونها.. ".. أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)" أيْ جُهِّزَت بعذاباتها المُتنوِّعَة المُتَزَايِدَة للكافرين ومَن يَتَشَبَّه بهم في سوء أقوالهم وأفعالهم، والكافرون هم الذين كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا كل سوءٍ مُضِرٍّ مُتْعِسٍ حيث لا حساب من وجهة نظرهم
ومعني "وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وإذا كان هذا هو عقاب المُكَذّبين الذي ذُكِرَ في الآيات السابقة فأَخْبِرْ وذَكِّرْ دائما الذين آمنوا وعملوا الصالحات – وهم الذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل – بمَا يَسُرُّهم بما هو في القرآن الكريم ليكون تشجيعا لهم علي مزيدٍ مِن الاستمرار علي إيمانهم بربهم وتمسّكهم بإسلامهم ودعوة غيرهم له ليَسعد الجميع بذلك في الداريْن، وهو أنَّ لهم في أخراهم مِن ربهم عطاءً كبيرا مُتَضَاعِفاً مُتَزَايدَاً – إضافة إلي ما كان لهم من تمام السعادة في دنياهم – جنات أيْ بساتين فيها قصور ذات إقامةٍ دائمةٍ بلا نهاية في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم تجري من تحتها الأنهار أيْ تطلّ علي كل أنواع الأنهار مِن ماءٍ ولبنٍ وعسلٍ وغيره لمزيدٍ من الحُسْن والسرور والتمتّع، وبالجملة هي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. ".. كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا.." أيْ كلما رزقهم الله تعالي أيْ أعطاهم وأطعمهم وهم في هذه الجنات رزقاً من بعض ثمارها قالوا إنَّ هذا الرزق يُشبه ما رَزَقنا سبحانه إيّاه من قبل سابقا، وأتوا به مُتشابها أي وجاءهم خَدَمهم بهذا الرزق بلا أيّ جهد كلما تمنوه متشابها مع الذي جاؤوهم به قبله وقبله وفي كل وقت ولكنهم يفاجأون بأنه يُشبهه فقط في الشكل ولكنه يكون في كل مرة مختلفا تماما عنه في الطعم واللذة، بما يُفيد التجديد الدائم المستمرّ المُتَزَايِد المُفاجِيء المُبْهِر المُبْهِج للنعيم لزيادة متعتهم وسعادتهم وتكريمهم، من فضل ربهم وكرمه عليهم وحبه لهم الذي لا يُحْصَيَ ولا يُوصَف.. ".. وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ.." أيْ وإضافة لِمَا سَبَقَ ذِكْره مِن نعيمٍ لا يُمكن وَصْفه، لهم في الجنة كذلك مُتعة وسعادة الحياة الزوجية بكل ما فيها من مُتَع الحب والعاطفة والألفة والأمن والجنس ونحو هذا بلا أيِّ مشكلاتٍ مثلما كان أحيانا في الدنيا حيث أهل الجنة جمعيهم من الرجال والنساء في حالة طهارةٍ تامّةٍ أيْ نظافة من كل أشكال السوء المَعْنَوِيّ كسوء الخُلُق بكل صوره والحِسِّي كالبول والعرق وغيره، فهم في أجمل وأكمل وأسعد صورة.. هذا، والأزواج جَمْع زوج ذكراً كان أو أنثى فهي كلمة تُطلق على المرأة المتزوجة كما تطلق على الرجل المتزوج ولذا فهذا النعيم هو لهما معا أيْ تكون المرأة مُتعة زوجها ويكون هو متعتها.. ".. وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)" أيْ وهم في هذه الجنات بنعيمها التامّ خالدون أيْ دائمون باقون مُقِيمون في درجةٍ منها علي حسب درجات أعمالهم إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام النعيم حيث هو يَتِمّ باطمئنان المُتَنَعِّم فيه على أنه دائم أمّا إذا كان عنده أيّ احتمالٍ لزواله أو تَغَيُّره فإنه يَقْلَق حين يَتذكّر أنه سيَفقده يوماً مَا
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6)، (7) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
هذا، ومعني "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)" أيْ إنَّ الله تعالي لا يَمنعه الحياء من قول الحقّ، من أن يَذْكُرَ منه شيئاً مَا قَلّ أو كَثُر – والحياء خُلُق كريم وَضَعه الله في فطرة الإنسان وطلب منه من خلال الإسلام تنميته لأنه يجعله يَتَحَرَّج ويَخْجَل من ارتكاب أيِّ شرٍّ فيَمتنع عنه لكنه لا يَمنعه مِن فِعْلِ وقولِ أيِّ خيرٍ لكن بأسلوبٍ وبتوقيتٍ مناسب – أيْ هو سبحانه لا يَترك خاشِيَاً لوْمَ لائِمٍ أنْ يَضرب مَثَلاً مَا ولا يَخجل ولا يَتَحَرَّج من ذلك، أيْ لا يترك ذِكْر أيّ مَثَلٍ كان، بأيِّ شيءٍ كان صَغُر أم كَبُر، سواء اسْتَصْغره واسْتَحْقره الناس لجهلهم بعظمته أو استعظموه، لأنه يدلّ كلَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام قُدْرته وكمال علمه وأنه وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أيْ الطاعة، وكلما كان حجم المخلوق دقيقاً كلما دَلَّ علي دِقّة وعظمة خَلْقه وخالِقه، فهو تعالي ليس كالبَشَر يخجلون أحيانا من بعض أحاديثهم وتصرّفاتهم، فهو الخالق العظيم الذي ليس كمِثْلِه شيء وليس حتماً كمخلوقاته التي خَلَقَها، فهو يُمَثّل بأيِّ مَثَلٍ حتي ولو كان تمثيلاً بشيءٍ صغير، ببعوضة، وهي الحشرة الصغيرة المعروفة والتي تُسَمَّيَ أيضا نَامُوسَة، وما فوقها بمعني وأيضا يُمكن أن يَضْرِب مَثَلاً بما هو أكثر منها صِغَرَاً ودِقّة أو ما هو أعلي منها درجة في خَلْقها من حيث الحجم والإمكانات ونحو هذا.. والمَثَلُ هو تشبيهٌ من التشبيهات التي يَضربها أيْ يَذْكرها ويُبَيِّنها الله تعالي في القرآن الكريم للناس مِن أجل تقريب المعاني لأذهانهم لكي يسهل فهمها وتطبيقها فيتدبَّروا فيها فينتفعوا بالعمل بها فيَسعدوا في دنياهم وأخراهم، لكن لا يَعْقِلها ولا يفهمها إلا العاقِلون المُتَدَبِّرون الذين يُحسنون استخدام عقولهم ويَتدبَّرون ويَتعَمَّقون فيها، وليس الذين يُعَطّلون هذه العقول وكأنهم كالجَهَلَة لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيد!.. إنَّ الآية الكريمة فيها رَدٌّ علي بعض المُكَذّبين الذين لا يَتَقَبَّلون ويَسْتَحْقِرُون ضَرْبَ الأمثال بأشياء حقيرة كالبعوضة، وكالذباب والعنكبوت التي ذُكِرَت في آياتٍ أخري، ويَعترضون علي ذلك ويَستغلونه في تكذيب القرآن العظيم رغم عجزهم التامّ عن خَلْق أيّ مخلوقٍ صغيرٍ أم كبير!! إنه اعتراضٌ سَفِيهٌ لا قيمة ولا تأثير له لأنَّ المَثَلَ هو تعليمٌ من الله للبَشَرَ ورحمة بهم والعاقل يَتقبّله ويشكره وينتفع ويسعد به في الداريْن لا يرفضه فيتعس فيهما.. ".. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ.." أيْ هذا تفصيلٌ لموقف الناس أمام هذه الأمثال المضروبة عندما يتلقونها، فالذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم فيَعْرِفون متأكّدين بلا أيِّ شكّ أنَّ هذا المَثَل وهذا القرآن العظيم كله هو حتما الصدق الثابت الذي لا يتغيّر ولا يتأثّر أبداً بأيِّ باطلٍ بكل تأكيدٍ وهو من كلام ربهم أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم وبالتالي فلا يُمكن إلا أن يكون صدقا صوابا مُوافِقَاً لكل عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ أحسن التفكّر والتعمّق والتدبّر فيه نافعا مُسْعِدَاً بالقطع في الداريْن لمَن يعمل بكل أخلاقه.. ".. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا.." أيْ ولكنَّ الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، مِثْل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم، فيقولون مُسْتَهْزئين مُستكبرين مُكَذّبين مُعانِدين غير مُنْتَفِعين به حينما يستمعون له ما الذي أراده الله مِن ضَرْب هذا المَثَل بهذه الحشرات الحقيرة؟! وذلك بسبب تعطيلهم لعقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا.." أيْ هذا هو رَدُّ الله تعالي علي أمثال هؤلاء، أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم هكذا دائما لا يُوَفّق الله للهداية له وللإسلام وللانتفاع بهذا المَثَل وغيره من الأمثلة ولا يُيَسِّر الأسباب لكثيرٍ مِمَّن يَشاءون الضلالة ولم يَشاؤوا الهداية لله وللإسلام، وسبب عدم التوفيق هذا أنهم هم الذين اختاروا البُعْد عن الله والإسلام بكامل حرية إرادة عقولهم وبالتالي فلم يَشَأ الله لهم الهداية وتَرَكَهم فيما هم فيه بسبب إصرارهم التامّ عليه دون أيّ تَرَاجُع ولو بخطوةٍ نحو الخير حتي يُعينهم علي بقية الخطوات وهو الذي قد نَبَّهَ لهذا بقوله "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.." (الرعد : 11)، فكأنه تعالي هو الذي أضَلّهم لكنّهم هم الذين بدأوا واختاروا هذا الضلال وأصرَّوا تماما عليه فتَرَكهم سبحانه ولم يُعِنْهم.. وما كلّ ذلك إلا بسبب تعطيلهم لعقولهم بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. بينما كثيرٌ من الناس مِمَّن يَشاءون الهداية للإيمان والتمسّك بكل أخلاق الإسلام، أيضا بكامل حرية اختيار إرادة عقولهم، فإنَّ الله يشاء لهم ذلك ويأذن، بأنْ يَوَفّقهم ويُيَسِّر لهم أسبابه، فهم قد اختاروا هذا الطريق أولا، بأن أحْسَنوا استخدام عقولهم، فشاءه وسَهَّلَه سبحانه لهم ومَكَّنهم منه بعد ذلك (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة، ثم الآيات (105)، (268)، (269) من سورة البقرة، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل).. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ هذا المَقْطَع من الآية هو علي لسان الذين كفروا أيضا استكمالاً لاستهزائهم وسَفَههم وتَعَدِّيهم حيث يَدَّعون أنَّ ذِكْر الله تعالي لِمِثْل هذا المَثَل يُحْدِث الْتِبَاسَاً وعدمَ وضوحٍ بين الناس إذ يُضِلّ به كثيراً ويَهدي به كثيرا!!.. ".. وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)" أيْ والله تعالى لا يَظلم أحدًا مُطلقا وهو أعْدَل العادلين فهو لا يُضِلّ بهذا المَثَل وغيره أيْ لا يُوَفّق للانتفاع به إلا فقط الفاسقين أيْ الخارجين عن طاعة الله والإسلام الذين اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. فكونوا إذَن جميعا أيها الناس من المُهْتَدِين الصالحين لا من الضالّين الفاسقين لتسعدوا في الداريْن ولا تتعسوا فيهما
ومعني "الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)" أيْ هذا توضيحٌ لبعض الصفات السَّيِّئة للفاسقين حتي يَتَجَنَّبها كلّ مسلمٍ فلا يَتعس مثلهم في دنياه وأخراه، أيْ هم الذين يَخلفون عهد الله من بعد ميثاقه أيْ توثيقه أيْ تأكيده، أيْ لا يُوفون ولا يَلتزمون بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهم لا عهد ولا وعد ولا أمان ولا أمانة لهم.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. ".. وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ.." أيْ ومن صفاتهم السيئة أيضا أنهم يَنْقَطِعُون عن ولا يَتَوَاصَلُون مع ويَتركون كل ما أوْصَيَ الله به وأرْشَدَ إليه أن يكون موصولاً غير مُنْقَطِعٍ لأنه يُحَقّق السعادة للنفس وللغير في الداريْن، سواء أكان هذا الذي أمر به أن يُوصَل هو بين الإنسان وخالقه تعالي بطاعته واتِّباع دينه الإسلام، أم كان بينه وبين أسرته وأقاربه وجيرانه وأصدقائه وزملائه وعموم الناس والخَلْق والكوْن كله بحُسن معاملتهم بأخلاق الإسلام المُسْعِدَة.. ".. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.." أيْ ومن صفاتهم السيئة كذلك أنهم في كل مكانٍ يَتَوَاجَدون فيه يَفعلون ويَنشرون كلّ أنواع الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات سواء أكانت كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشرّ أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فساداً ونَشْرَاً له أم ما شابه هذا.. ".. أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)" أيْ هؤلاء حتما هم الذين يخسرون في الداريْن خسارة ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم، حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء:7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)" أيْ كيف يا مَن تَكفرون تُكَذّبون بوجود الله خالقكم وليس لكم أيّ دليلٍ مَنْطِقِيّ تستندون إليه؟! ألَاَ تُفكّرون وتَعقلون في الأدِلّة التي بين أيديكم أمام أعينكم ترونها دائما؟! أين العقول المُنْصِفَة العادِلَة؟! إنَّها كلها أدِلّة قاطِعَة حاسِمَة ضِدَّكم وتُسَفّه حالكم!! إنَّ مِن بعض هذه الأدلة – إضافة إلي كل مخلوقات الله المُعْجِزَات المُبْهِرَات في كل كوْنه – أنكم كنتم مَيِّتِين بلا أرواح بداخل أجساد آبائكم ثم أحياكم بأنْ خَلَقَكم وجعل فيكم روحا وأخرجكم من بطون أمهاتكم كما ترون خروج أبنائكم لتحيوا حياتكم الدنيا ثم يُميتكم ويَستعيد أرواحكم بعد انتهاء آجالكم فيها وتدخلون قبوركم ثم سيُحْيِيكم مرة ثانية بأجسادكم وأرواحكم بعد كوْنكم ترابا يوم القيامة حيث الجميع سيرجعون إليه لا إلي غيره ليكون هو الحاكم بينهم بحُكمه العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلوا فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة ويكون للمُسِيء ما يستحقّه من عقابٍ علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم..؟!.. إنَّ هذا الإحْياء بعد الموت والإمَاتَة بعد الإحياء هو من أدلة وجوده سبحانه!.. أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن يُحييكم مرة أخرى وقد قَدَرَ تعالي على الأمور الأولى فهل لا يَقْدِر على الأخيرة؟!.. إنه لا عَجَب إذَن في أن يُحيي الناس ويَجمعهم إلى يوم القيامة لحسابهم ولا سبب يدعو إلى الشكّ في هذا الأمر مُطلقا لكل صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ وهو الذي تشهدون مثله لحظيا! فالقادر تمام القُدْرة علي هذا قادر حتما علي ذلك!!.. فمَن خَلَقهم أول مرة سبحانه قادر وأهْوَن عليه أن يُعيدهم مرة ثانية بالقطع!! فالتجربة الثانية دائما أسهل من الأولي كما يُثبت الواقع ذلك! حيث أصبحت معروفة مُكَرَّرَة وموادّها وخاماتها موجودة بينما الأولي كانت من عَدَم؟!! إنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.. إنَّ كل شيء هو يسير علي الله تعالي الخالق القادر علي كل شيء حيث يقول له كن فيكون، سواء بَدْء الخَلْق أو إعادته وبَعْثه بعد موته!.. إنَّ أحداً لم يَتَجَرَّأ أنْ يَدَّعِيَ أنه يفعل ذلك!! إذَن فهو وحده سبحانه الذي يفعله حيث لم يُعَارِضه أحدٌ فيما يقول!!.. هذا، والسؤال في الآية الكريمة هو للتَّعَجُّب من سوء حالهم وللرفض التامِّ له وللذمِّ الشديد لهم لعلهم يستقيظون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم.. إنَّ كلَّ ما سَبَقَ ذِكْره يدلّ دلالة قاطعة علي وجوده تعالي وتمام قُدْرته وكمال علمه وأنه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أيْ الطاعة.. ولكن مَن يكفر قد كَفَرَ لأنه قد عَطّل عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)" أيْ وأيضا كيف تكفرون بالله يا مَن تكفرون أيها الناس وهو وحده لا غيره الذي خَلَقَ لكم أيْ أوْجَدَ مِن عدمٍ لكم وسَخَّرَ أيْ ذَلّلَ وأعَدَّ وجَهَّزَ لكم كل ما في الكوْن وما في الأرض من مخلوقاتٍ كالماء والهواء والطاقات والنباتات والحيوانات والطيور وغيرها ممّا لا يُمكن حَصره من نِعَمٍ لا تُعَدّ ولا تُحْصَيَ، ثم بعد خَلْق الأرض وأرزاقها اسْتَوَيَ سبحانه أيْ قَصَدَ وتَوَجَّهَ إلي تسوية السماء أي خَلْقها مُسْتَوِيَة بلا أيِّ خَلَلٍ أو اضطرابٍ بمنافعها وأرزاقها أيضا فخَلَقها سبع سماوات بغير أعمدة مَرْئِيَّة بكل ما فيها من مخلوقاتٍ مُعْجِزات مُبْهِرَاتٍ نافعاتٍ مُسْعِدَاتٍ لا يعلمها إلا هو سبحانه بعضها ترونه كالشمس والقمر والنجوم والكثير لا ترونه، وكل ذلك هو من أجل أن تنتفعوا وتسعدوا بها تمام الانتفاع والسعادة.. "وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)" أيْ وهو تعالي فوق كل هذا عِلْمُه مُحِيط بكل شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهل لا يعلم سبحانه شأنَ وسِرَّ خَلْقه الذين خَلَقهم؟!.. حتماً يعلم، وسيُحاسِب البَشَر جميعاً في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شَرَّاً وتعاسة، بما يُناسب أقوالهم وأفعالهم، بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلينتبهوا لذلك إذَن وليفعلوا كلّ خيرٍ ويتركوا أيّ شرٍّ ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. أليس كل ما سَبَقَ ذِكْره هو من الدلالات التي تدلّ كلّ عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي أنه سبحانه هو الخالق الرازق المُرَبِّي المُعين المُرْشِد لكل خيرٍ وسعادة المُستحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة بلا أيّ شريكٍ وأنَّ مَن عَبَدَه وتَوَكّلَ عليه وحده سَعِدَ تمام السعادة في دنياه وأخراه؟! (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل.. ثم مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ نِعْمَ الخليفة في الأرض وأوْصَيْتَ مَن يَخْلُفك بهذا حيث خَلَقَ سبحانه خَلْقَه لينتفعوا وليسعدوا بجميع خيرات ونِعَم أرضه وكوْنه، وكَرَّمَكَ بأن وَثَقَ بِك، وجعلك خليفة أيْ نائبا عنه تُدير شئونها بما أوصاك به من أفضل الوصايا وأكملها لأنها منه العليم الحكيم مُمَثّلة في نظام الإسلام الشامل الذي يُحسن إدارتها ومَن عليها في كل زمانٍ ومكانٍ لتُسْعِد ذاتك وغيرك والكوْن كله.. فكُن أهْلاً لهذا التكريم وأحْسِن القيام بالخلافة بأن تكون سعيداً في نفسك مُسْعِدَاً لمَن حولك بكل خيرٍ مُجْتَنِبَاً كلّ شرٍّ مُتْعِسٍ من إفسادٍ وسفكِ دماءٍ وظلمٍ ونحوه من خلال أن تكون مُتَوَاصِلاً في كل ذلك مع ربك مُستعينا به مُتمسّكا عامِلاً بكل أخلاق إسلامك مُنتظراً لعوْنه وحبه وتوفيقه مُستبشراً بانتظار أعظم ثوابه وإسعاده لك في دنياك وأخراك.. كذلك ستسعد في الداريْن إذا اعتمدتَ الحوار مع غيرك أسلوباً لا تَحِيد عنه حتي ولو كنتَ أنت أفضل منه – اقتداءً بفِعْل ربك مع نوعٍ من خِلْقه وهو الملائكة رغم أنه سبحانه هو خالقهم ولا حاجة له حتما لاستشارتهم أو لنَفْعٍ مَا منهم – لأنَّ فيه منافع وخِبْرات وخَيْرات وسعادات كثيرة بمجهودات وأوقات قليلة.. وإذا وَثَقْتَ تماما أنَّ خالقك الكريم قد وضع في عقلك بذور معرفة كل أسرار الكوْن ومنافعه وعلومه وما عليك إلا أن تُنَمِّيها كلها أو بعضها بالعلوم والبحوث والتجارب والتساؤلات والاستفسارات والحوارات، إنَّ هذه الثقة ستَدْفعك دَفْعَاً قوياً للانطلاق في الحياة بكل قوة فرديا وجماعيا من أجل مزيدٍ من استكشاف خيراتها وكلما انطلقتَ أكثر واسْتَكْشَفْتَ أكثر كلما انتفعتَ وسعدتَ أكثر أنت ومَن حولك وكلما ازدادَ ثوابك ودرجاتك في الآخرة ما دُمْتَ تَسْتَصْحِب نوايا حَسَنَة بعقلك عند فِعْلك أيّ خير
هذا، ومعني "وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بنِعَم ورحمات الله تعالي علي الإنسان والتي لا يُمكن حصرها وبأنه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة مع تكريمه وتشريفه حيث أوْجَده من عدمٍ بتمام قُدْرته وكمال علمه ليَنتفع ويَسعد في هذه الحياة الدنيا وسَخَّرَ له كل ما فيها (برجاء مراجعة الآيتين السابقتين لتكتمل المعاني) وجعله خَلِيفَة عنه في كوْنه.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قال ربك – أيْ مُرَبِّيك وخالقك ورازقك وراعيك ومُرْشِدك من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحك ويُكملك ويُسعدك تمام السعادة في دنياك وأخراك – للملائكة جَمْع مَلَك وهي خَلْق من خَلْقه خَلَقَها علي الطاعة فقط حيث تُنَفّذ أوامره في تسيير شئون كوْنه بما يَنفع ويُسعد الإنسان إذ أعطاها إمكانات هائلة خارقة تُمَكّنها من أداء مهامّها علي أكمل وجه، قال لها إني خالق وجاعل في الأرض خليفة أيْ نائبا عني يَخْلُفني فيها لإدارة شئونها بما أوْصَيته به من نظام الإسلام الذي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد كل مَن يعمل بأخلاقه تمام السعادة في دنياه وأخراه، ويَخْلُف هو وذُرِّيته بعضهم بعضا جِيلاً بعد جِيل في الانتفاع والسعادة بها، فقالت الملائكة يا ربَّنا علّمْنا وأَرْشِدْنا ما الحكمة في خَلْق هؤلاء مع أنَّ بعضهم قد يُفسد فيها ويريق الدماء ظلما وعدوانًا فإنْ كان المُراد عبادتك فنحن في طاعةٍ تامَّةٍ لك نُسَبِّح بحمدك أي نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك عن كل صفةٍ لا تليق بك ونحمدك دائما علي كل نِعَمِك ونُقَدِّسك أيْ نُعَظّمك بكل صفات الكمال الحُسْنَيَ التي تَتَّصِف بها ولا نفعل مثلما سيَفعل هذا المخلوق فلماذا إذَن لا يَقتصر الأمر علينا؟!.. إنها تتساءل ليس أبداً اعتراضَاً علي فِعْل خالِقها أو تَشَكّكَاً في حِكَمِهِ في ذلك بل مُسْتَفْهِمَة مُتَعَمِّقَة في البحث والعلم ومُسْتَعْظِمَة أن يكون مَخلوقاً عاصِيَاً لخالقه العظيم تعالي؟! إنها تسأله عمَّا أعلمها به هو سبحانه عنه – لأنها قطعا لا تعلم الغيْب أي ما غابَ عن علمها وإدراكها من ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبل وقد أخبرها عنه لأنها ستكون لها علاقة به حيث ستَخْدِمه في الكوْن – أنه سيَخْلُقه حُرَّاً مُخَيَّرَاً يُمكنه أن يختار بكامل حرية إرادة عقله بين أن يفعل خيراً أو شرَّاً كفسادٍ وسفكِ دماءٍ ونحو ذلك من شرور ومَفاسِد وأضرار وتعاسات.. ".. قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)" أيْ ردّ عليهم تعالي أني أنا وحدي الذي لي كمال العلم الماضي والحاليّ والمستقبليّ وأعلم مَن يَصْلُح وأين ولأيِّ شيءٍ يَصْلُح، ولم يُحَدِّد سبحانه تفصيل ما لا تعلمه الملائكة ليُفيد التعميم ويَسْبَح خيال السامع في كل علمٍ ويعترف بعَجْزه وقصُوره وعدم كماله وأنَّ الكمال لخالقه وحده، فمِن هذا العلم الذي لا تَعلمه أنها خُلِقَت للسماوات ولتسيير شئون الكوْن بإمكاناتٍ تُؤَهِّل لذلك بينما بني آدم خُلِقُوا للأرض بعقولٍ وإمكاناتٍ تُؤَهِّلهم لحُسن إدارتها (كما سيَظهر في الآية القادمة (31)، برجاء النظر إليها لتكتمل المعاني )، ومنه أيضا أنه إنْ كان هناك مَن قد يُفسد فيها ويسفك الدماء فسيكون كثيرون منهم أنبياء وصِدِّيقين وشهداء وصالحين يُصلحونها ويُسعدونها، ومنه كذلك أنَّ نظام الحياة وخَلْق البَشَر فيها لينتفعوا وليسعدوا بها ووجود الآخرة والحساب والعقاب والجنة والنار بدرجاتهما يَتَطَلّب حتماً وجود العقل وحرية الاختيار بين الخير والشرّ ليَتحقّق تمام العدل عند الحساب والذي لا تعلمه الملائكة (برجاء مراجعة قصة الحياة وسبب الخِلْقَة في الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل).. هذا، والآية الكريمة تُذَكّر المسلم ببعض الأخلاقيَّات الإسلامية المُسْعِدَة في الداريْن والتي منها أن يعتمد الحوار مع غيره أسلوبا أساسيا في حياته لا يبتعد عنه أبدا حتي ولو كان هو أفضل مِمَّن يتحاوَر معه ويكون ذلك مع الجميع علي اختلاف ثقافاتهم وأفكارهم وبيئاتهم، اقتداءً بفِعْل الله تعالي مع نوعٍ من خَلْقه وهي الملائكة رغم أنه سبحانه هو خالقها وليس في حاجة قطعا لاستشارتها في شيء، لأنَّ في الحوار منافع وخِبْرات وخَيْرات وسعادات كثيرة بمجهودات وأوقات قليلة.. ومنها أيضا أن يجتهد في طلب العلم والوصول لأعماق الحقائق – كما فعلت الملائكة – للاستفادة منها والسعادة بها وهو الأمر الذي يُوافِق العقل المخلوق أصلا بهذه الصفة ليَسعد بها في حياته.. ومنها كذلك التأكّد التامّ بلا أيِّ شكّ أنَّ أيّ تَصَرّفٍ لله تعالي في كوْنه هو حتما له حِكَمه ومنافعه وإسعاداته لخَلْقه سواء أدركها العقل أم لم يدركها فقد يدركها مع الوقت والبحث.. ومنها تشجيع المسلمين علي حُسن دعوة الناس لله وللإسلام والصبر عليهم بحوارهم وإقناعهم بكل وسائل الإقناع المُمْكِنَة
ومعني "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)" أيْ هذا توضيحٌ وبيانٌ لحِكْمَةِ ولسبب استحقاق هذا الخليفة – وهو آدم أبو البشر جميعا – للخِلافة في الأرض، وهو السبب الذي لم تكن تعلمه الملائكة فبَدَأ تعالي إعلامها إيّاه، وهو أنه مُكّرَم مُمَيَّز بالعقل والعلم عنها وعن جميع المخلوقات، والآية فيها أيضا مزيدٌ من التذكير بنِعَم ورحمات الله تعالي علي الإنسان والتي لا يُمكن حصرها وبأنه هو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة مع تكريمه وتشريفه حيث بتمام قُدْرته وكمال علمه ولكي يَنتفع ويَسعد في هذه الحياة الدنيا تمام الانتفاع والسعادة بخيراتها المُسَخّرَة له ويَتمكّن من حُسن خلافته في كوْنه عَلّمه أيْ عَرَّفه وألْهَمه الأسماء كلها لكل الأشياء الموجودة في هذا الكوْن وخَوَاصّها واستخداماتها ومنافعها والتي سيَتَعامَل بنو آدم بها فيما بينهم حتي يُحسنوا التعامُل معها والاستفادة بها علي أكمل وأسعد وجه.. ثم بعد تعليمه إيّاها عَرَضها كلها علي الملائكة أيْ أظهرها لها مَعْرُوضة كالمَعْرُوضات التي تُعْرَض في المَعارِض فقال لها إظهاراً لعجزها وتشريفاً لآدم بعقله وعلمه واستعداده لتطوير هذا العلم أخبروني بأسمائها وخواصها ومنافعها إنْ كنتم صادقين فيما تَدَّعُونه مِن أحَقّيتكم بخلافة الأرض منه
ومعني "قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)" أيْ قالت الملائكة مُعْتَرِفَة بتمام عَجْزِها سبحانك أيْ نُنَزّهك أيْ نُبْعِدك يا ربَّنا عن كل صفةٍ لا تَلِيق بك فلك كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، ليس لنا علم إلا ما علَّمتنا إياه، إنك أنت وحدك العليم، أيْ بكلّ شيءٍ، بتمام العلم الذي ليس بَعده أيّ علمٍ آخر، بكل حَرَكات وسَكَنات كلّ خَلْقك، وبكلّ ما يُصْلِح البَشَر ويُكملهم ويُسعدهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم.. الحكيم أيْ في كل أقواله وأفعاله الذي يتصرّف بكل حِكْمَةٍ ودِقّةٍ والذي يَضَع كلّ أمرٍ في موضعه دون أيّ عَبَث
ومعني "قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)" أيْ حينها قال الله تعالي يا آدم أخْبِر الملائكة بأسماء الأشياء التي عَجَزَت عن معرفتها، فلمّا أخبرها ظَهَر فضله وتَمَيُّزه عليها واستحقاقه للخلافة، وهنا قال سبحانه لها مُذَكّراً بكمال عِلْمه وإحاطته بكل شيءٍ لقد أخبرتكم أني أعلم كل ما غاب في السموات والأرض ولا يعلمه غيري، وأعلم كل ما تُظهرونه في العَلَن أنتم وجميع خَلْقِي من أقوالكم وأفعالكم وكل ما تُخفونه منها في السِّرِّ وبداخلكم؟.. إنه تعالي يَعلم دَوَاخِل الأمور في كلّ كوْنه ومخلوقاته فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة، فتَنَبَّهُوا لذلك أيها البَشَر وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن
ومعني "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسَارَعَت كلها بالسجود له استجابة لأمر الله تعالي، وهذا من أعظم التكريم للإنسان ليَسْتَشْعِر مَكَانَته فيكون علي مستوي هذه المَكَانَة فلا يَتَدَنّيَ ويَنْحَطّ ويُهِين كرامته بفِعْل الشَّرّ المُضِرّ المُهِين المُذِلّ المُتْعِس وإنما يَفعل دائما كلّ خيرٍ مُفِيدٍ مُعِزّ مُسْعِدٍ في الداريْن، فقد أسْجَدَ سبحانه له ملائكته كدلالة علي أنَّ الأرض بما فيها مِن مخلوقاتٍ هي مُسَخّرَة له فليُحْسِن إذَن التعامُل معها والانتفاع والسعادة بها، إضافة إلي أنه قد خَلَقه سبحانه علي أفضل صورةٍ ووَضَعَ فيه تعالي جزءَاً من روحه أيْ قدْرته ليكون علي صِلَةٍ تامَّةٍ دائمةٍ معه فيَطْمَئِنّ ويَسْعَد تمام الاطمئنان والسعادة بذلك في دنياه وأخراه.. هذا، وسجود الملائكة يعني الانحناء والتعظيم لأنَّ السجود المعروف لا يكون إلا لله تعالي.. ".. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)" أيْ فيما عدا إبليس، فقد أَبَيَ أيْ رَفَضَ وامْتَنَعَ تَعَاظُمَاً، وتَكَبَّرَ وتَعَالَيَ علي أمر السجود واستهزأَ به فلم يَستجب له فكان بالتالي من الكافرين أيْ العاصِين المُكَذّبين المُعاندين المُتَعَالِين.. ومقصود الآية الكريمة أن يعلم الإنسان أنه سيكون في الحياة استكبار وعِناد واستعلاء علي الحقّ والعدل والخير وظلم وفساد وضَرَر فلا يفعل مِثْل هذا مطلقا وإلا سيكون مصيره مثل مصير الشيطان أيْ مثل مصير كلّ مُتَمَرِّد علي الخير مُفْسِد بعيد عن الحقّ وعن طاعة ربه، أي التعاسة التامّة في الدنيا والآخرة.. هذا، ومعني إبْليس هو كل مَن أبْلَسَ أيْ يَئِسَ من رحمة الله تعالي وأصبح مَيئوسا منه أن يَفعل خيرا.. وإبليس والشيطان هما بمعني واحد وكل منهما هو رمزٌ لكلّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ يَخطر بالعقل (برجاء مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا؟ وعن لماذا سَمَحَ الله تعالي بوجود الشرّ في الحياة أصلا؟!.. ثم برجاء مراجعة الآيات (11) حتي (25) من سورة الأعراف أيضا، للشرح والتفصيل عن قصة الحياة وسبب الخِلْقَة وعلاقة مشيئته سبحانه بمشيئة الإنسان في الهداية له وللإسلام)
ومعني "وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)" أيْ وبعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم زِدْناه علي هذا التكريم والتعظيم تكريماً وفضلاً كبيراً بأن قلنا له يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة، أي اتّخذها مكانا للسكن وللاستقرار وللأمن، والجنة هى كل بستان ذى شجر كثير كثيف يُظلل ما تحته ويَستره، من الجَنِّ وهو سَتْر الشىء فلا يُرَيَ، وفيها كلّ مُفيدٍ مُسْعِدٍ مِمَّا يُؤْكَل ويُشْرَب ويُنْتَفَع به ومساكن طيبة وأنهار، وهذه الجنة لم يحددها الله تعالي فقد تكون جنة الآخرة المُعَدَّة للمُحسنين والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر أو مكانا طيبا كالجنة علي الأرض، وقلنا لهما كُلَاَ منها أكلاً رَغَداً أيْ هنيئاً طيباً وافراً واسعاً حسبما تشاءان من أيِّ مكانٍ ومن أيِّ ثمرٍ تريدان، لكنَّ هناك شجرة مُعَيَّنَة لا تقرباها وابتعدا تماما عنها ولا تأكلا منها فإنْ أكلتما فسَتَكُونَا بذلك من الظالمين أي العاصِين لله المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأن يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. إنَّ مِن حِكَم منعهما أن يعلما ويتذكّرا دائما ولا يَنْسَيَا أنَّ في حياتهما الدنيوية المستقبلية كل ما فيها مِمَّا هو مُفيد مُسعد يكون مباحا لهما ويتمتعون به هما وذريتهما بصورة فيها رَغَد أيْ عيش هنيء طيب وافر واسع لكنَّ هناك أمورا قليلة ممنوعة لا تُبَاح لضَرَرها ولتعاستها علي البَشَر مَن ابتعد عنها ولم يقترب منها ولم يفعلها سَعِدَ في دنياه وأخراه ومَن فَعَلها تَعِسَ فيهما علي قَدْر فِعْله.. فالله تعالى رحمة منه ببني آدم لم يشأ أن يبدأ أبوهم آدم حياته في الأرض على أساسٍ نظريّ لأنَّ هناك فرقا بين الكلام النظريّ والتجربة العملية، فأبقاه لفترةٍ في مكانٍ كالجنة للتدريب العمليّ علي فِعْل الخير المُفيد المُسعد وتَرْك الشرّ المُضِرّ المُتْعِس – وهذا هو أصل دين الإسلام – أيْ ليَتدرّب علي العمل بأخلاق الإسلام ليَسعد بذلك تمام السعادة في حياته الدنيا ثم حياته الآخرة
ومعني "فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)" أيْ فأوقعهما الشيطان في الزّلَلَ أي الخطأ فأزالهما وأبعدهما عنها أيْ عن الجنة – وأيضا عنها تعني عن هذه الشجرة أيْ أوقعهما في الخطأ بسببها – والزلل يعني التّزَحْلُق والانزلاق والانحدار والانحراف والابتعاد عن الخير للشرِّ والسقوط والوقوع فيه، وذلك بسبب أنه ما زَالَ يُوَسْوِس لهما بالشرّ – والوَسْوَسَة هي صوت خَفِيّ يستخدمه المُوَسْوِس حتي لا يسمعه إلا مَن يُوَسْوِس له لأنَّ فيه مخالفة مَا لا يريد لأحدٍ أن يَطّلِعَ عليها حتي لا يُعَاقَب – بأنه لا شيء عليهما إنْ أكَلَاَ من ثمار الشجرة حتي أكَلَاَ بالفِعْل، فكانت النتيجة الحتمية لمُخَالَفتهما لوصية ربهما أن أخرجهما الله مِمَّا كانا فيه من النعيم والتكريم.. ".. وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.." أيْ وقلنا لهما انْزِلوا إلى الأرض أنتما وذرِّيَّاتكما بداخلكما والشيطان لتعيشوا جميعا فيها، وسيكون بعضكم لبعض عدو، أيْ سيكون الشيطان دائما عدوا لكم يا بني آدم وستَقَعُون في العداوة والتعاسة فيما بينكم لو اتّبَعْتُموه، فعليكم إذَن دوْماً أن تكونوا حَذِرِين منه أشدّ الحَذَر وأن تَتَّخِذوه علي الدوام عدوا، أيْ لا تَتَّبِعوا خطواته وتقاوموها ولا تستجيبوا لأيّ شرٍّ مُتعِس بل تتمسّكوا وتعملوا بكل أخلاق إسلامكم التي كلها خير وسعادة، ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يطلق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه، وهو رمزٌ لكل تفكيرٍ شرّيّ يخطر بالعقل، وقد سَمَحَ سبحانه بهذا التفكير الشرّيّ وجعله صفة من صفات عقول البَشَر ليُقارِنوا بين الخير ومنافعه وسعاداته والشرّ وأضراره وتعاساته إذ بالضِدّ تتميّز الأشياء فيَحرصون علي الأول وهو الخير أشدّ الحرص ويَتمسّكون به دوْما لمصلحتهم ولسعادتهم ويَنْبِذون الثاني وهو الشرّ أيْ يلفظونه ويتركونه، وبه أيضا تتحقّق حرية اختيار الإنسان لاتّجاهاته في حياته ويتحقّق العدل في جزاء الآخرة لمَن اختار خيرا فله كل الخير ومَن اختار شرا فليس له إلا الشرّ بما يُناسب أفعاله (برجاء أيضا مراجعة الآيات (27) حتي (30) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا حينما يتّخذ الشيطان دائما عدوا له).. ".. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)" أيْ ولكم في الأرض مكان استقرارٍ وتيسيرٍ للمعيشة وتَمَتّعٍ وانتفاعٍ وإسعادٍ بما فيها لكنه ليس استقرارا دائما خالدا بلا نهايةٍ بل إلي حينٍ أيْ إلي أوقاتٍ معلومةٍ عند الله وإلي أن تأتي آجالكم بالموت، ثم جميعكم سيرجعون إليَّ لا إلي غيري يوم القيامة حيث أبعثكم بأرواحكم وأجسادكم من قبوركم لأكون الحاكم بينكم بحُكمي العادل حيث الحساب الختامِيّ لِمَا فَعَلتم فيكون للمُحسن كل زيادةٍ من إحسانٍ وخير وسعادة في جنات الخلد ويكون للمُسِيء ما يستحقّه من عقابٍ في نار جهنم علي قدْر إساءاته وشروره ومَفاسده وأضراره بكل عدلٍ دون أيّ ذرَّة ظلم، فتَنَبَّهُوا لذلك إذَن وأحْسِنوا القول والفِعْل في سِرِّكم وعلانيتكم من خلال تمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم لكي تتحقّق لكم السعادة التامّة في الداريْن، فالعاقل المُتَذَكّر دائما لأنَّ استقراره فى الأرض وتَمَتّعه بنعيمها وسعادته به سينتهى وقتاً مَا لا يدرى متى هو حيث قد يكون بعد لحظة فإنه لا بُدَّ أن يكون دوْماً مُسْتَعِدَّاً علي هذا الحال الحَسَن
ومعني "فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)" أيْ فبَادَر وأسرع آدم وحواء بطلب العفو لَمَّا عَلِمَا أنهما قد وَقَعَا في الخطأ فاستقبلا بكل سرور وحب وحرص وتعظيم وأخذا وفَهِمَا من ربهما – أيْ مُرَبِّيهما وخالقهما ورازقهما وراعيهما ومُرْشِدهما لكلّ ما يُصلحهما ويُكملهما ويُسعدهما في دنياهما وأخراهما من خلال دينه الإسلام – كلماتٍ تُفيد الاعتراف بالذنب والندم والاستغفار ألْهَمَهما وعَلَّمهما إيَّاها ليقولاها ليتوب عليهما فلمَّا قالاها تاب عليهما أيْ تَقَبَّلَ توبتهما لصِدْقهما فيها وحرصهما عليها.. ".. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)" أيْ لأنه هو وحده تعالي الكثير العظيم التوبة على مَن تاب إليه ورجع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. وهو أيضا الرحيم أيْ الكثير الواسع الرحمة بالعالمين والذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنب ودائما تسبق غضبه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب)
ومعني "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)"، "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)" أيْ قال الله لهم اهبطوا من الجنة جميعا وسيأتيكم أنتم وذرِّيَّاتكم مِن بَعْدِكم مِن خلال رسلي الذين سأرسلهم لكم مِن بينكم هُدَيً أي إرشادٌ هو كُتُبٌ مِنّي فيها وصايا وأخلاقيات وتشريعات هي دين الإسلام التي تَهديكم إلى كل ما فيه الحقّ والعدل والخير والصواب والتي تُصْلِح وتُكْمِل وتُسْعِد كل مَن يعمل بها كلها تمام السعادة في دنياه وأخراه، وهذا القول والإخبار لهم جاء تأكيدا لما في الآية (36) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) من النزول إلي الأرض والعداوة مع الشيطان وبعد أن تَمَّت تجربة علاقة آدم بالخير والشرّ وإدراكه تمام الإدراك سعادات وتعاسات كل منهما في الدنيا والآخرة وكيفية توبته سريعا عند أيِّ خطأ لكن مع التركيز في هذه الآية الكريمة علي أمرٍ إضافيٍّ هامٍّ وهو أنهم لن يُتْرَكُوا يَتيهون في الحياة ويَضيعون ويفسدون فيتعسون فيها تمام التعاسة ثم في الآخرة بل سيكون معهم دائما حتما حتي يوم القيامة مِن عظيم رحمة ربهم وحبه لخَلْقه هُدَيً يُرْشِدهم لكلّ خيرٍ وسعادة وهو دين الإسلام.. ".. فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)" أيْ فمَن سَارَ خَلْفَ هُدَيَ الله وأطاعه كله تماما بلا أيِّ انحرافٍ أو مُخَالَفَةٍ فقطعا مثل هؤلاء بالتالي حتما دائما مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيِّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يُوعَدون بها من ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا.. "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال السعداء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال التعَساء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ وأمَّا الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، وكَذّبوا بآياتنا أي لم يُصَدِّقوا بها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار، هؤلاء المَذكورون المَوْصُوفون بتلك الصفات السيئة ومَن يَتَشَبَّه بهم هم بالقطع أصحاب النار أي الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه، وهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7).. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6) ، (7) من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
هذا ، ومعني "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)" أيْ يا أبناء وأحفاد رسولنا الكريم إسرائيل، وهو يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم عليهم السلام جميعا، وإسرائيل معناها بالعِبْرِيَّة التي هي اللغة اليهودية عبد الله حيث إسْرَاَ تعني عَبْد وإيِل تعني الله، وأبناؤه المقصود بهم اليهود، ويُناديهم سبحانه بهذه الصفة لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة حيث هم ذرِّيَّة رسولٍ كريمٍ فلا يَصِحّ منهم مُخَالَفَة الإسلام بل عليهم أن يكونوا مثله في اتِّباعه والدعوة إليه لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسُوا فيهما، يناديهم أن اذكروا نِعَمِي التي أنعمتها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِي وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، وأهم هذه النِّعَم إرشادكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بالتوراة التي فيها أخلاق الإسلام التي تُناسب عصركم والتي جاءكم بها رسولكم الكريم موسي (ص)، وإنقاذكم من عدوكم فرعون الذي كان هو وجنوده يُذيقونكم أشدّ العذاب والإهانة وإهلاكهم بإغراقهم في البحر، وتَمْكِينكم في الأرض بعد ذلك تُديرونها أنتم وتَنتفعون وتَسعدون بخيراتها.. ".. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي .." أيْ والتزموا بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا فنَفّذوها تامَّة ولا تُخْلِفوها، معي ومع رسلي الكرام إليكم وآخرهم محمد (ص) بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. هذا، وكل عهدٍ أيْ وَعْدٍ مع الناس هو في حقيقته عهد الله، أيْ هو وعدٌ معه تعالي، لأنه هو المُطّلِع الشاهِد المُحَاسِب عليه حيث يُعطِي لمَن وَفّيَ به خيراً كثيراً في الداريْن ويُعَاقِب مَن لم يلتزم به بغير عُذْرٍ مقبولٍ بما يُناسبه فيهما.. ".. أُوفِ بِعَهْدِكُمْ .." أيْ حتى أوفى بوعدي لكم أي أنفذه حيث هو مشروط بتنفيذ عهدكم، وهذا الوعد هو كل الخير لكم والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في الدنيا ثم ما هو أعظم وأتَمّ وأخلد سعادة في الآخرة بجنّاتها التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر .. ".. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)" أيْ وخافوني واخشوني وحدي ولا تخشوا غيري أحداً مِن خَلْقِي في كل أقوالكم وأفعالكم فإنه لا توجد قوة ولا قُدْرة في الكوْن إلا قُوَّتِي ولا يَحدث شيءٌ فيه إلا بإذني فأنا القادر علي كل شيءٍ واحذروا عقابي إنْ لم تُوفوا بعهدي، فإنَّ تلك الخشية تُعينكم علي الطاعة وتُبعدكم عن المعصية- والخشية هي خوفه تعالي مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله- فإنْ خَالَفْتم فستُعَاقَبُون في الدنيا بما يُناسب مُخَالَفَاتكم بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لكم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة ، بسبب أفعالكم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله : "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .." (الإسراء : 7) ، ثم في الآخرة سيكون لكم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ .. هذا، وفي الآية الكريمة تذكيرٌ للمسلم أن يعيش دائما مُتَوَازِنَاً بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه بأنْ يَفعل كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ ما استطاع من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه (برجاء مراجعة حياة المسلم المتمسّك العامِل بكل أخلاق إسلامه المُتَوَازِنة بين الخوف والرجاء في الآية (98) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)" أيْ وصَدِّقوا بما أنزلته وهو القرآن العظيم علي رسولنا الكريم محمد مُصَدِّقا لما معكم وهو التوراة أيْ مُوَافِقَاً ومُؤَيِّدا ومُؤَكِّدا ومُبَيِّنا ومُتَمِّما لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهما واحد وهو الله تعالي وكليهما يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن إن كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل أن تكونوا أنتم أول مَن يُسارع إلي أن يكفر أي يكذب به مِن حيث وجب أن تكونوا أنتم أول مَن يُسارع إلي أن يؤمن به لأنكم أصحاب كتابٍ هو التوراة وأهل علمٍ وأدْرَىَ الناس بأنه من عند الله وأكثرهم تأكّداً بأنَّ الرسول الذى نَزَلَ عليه هذا القرآن هو الصادق الأمين كما تُسَمُّونه فيما بينكم، فتكذيبكم له هو ضِمْنَاً تكذيب لمَا معكم ولن تكونوا مؤمنين إلا إذا آمنتم به وإن لم تؤمنوا فبالتالي ستنالون إثمكم وإثم مَن يتبعكم في هذا التكذيب لأنكم أول مَن كذّب به.. وفي ذلك حثّ وتشجيع لهم على الإيمان فهم أحقّ بذلك وأيضا ذمٌّ وتهديدٌ شديدٌ لنتائج عدم إيمانهم.. هذا، وتوصية الله تعالي بالإيمان بما أَنْزَلَ وهو القرآن العظيم رغم أنه داخل في الوفاء بعهد الله الذي ذُكِرَ في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي تعظيم القرآن والأهمية العُظْمَيَ للإيمان به والعمل بكل أخلاقه لإسعاد الدنيا والآخرة إذ بدونه يتعسان تمام التعاسة.. ".. وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.." أيْ ولا تَتركوا أبداً العمل بآياتي وتَبيعوا أيَّ خُلُقٍ من أخلاق الإسلام لتأخذوا في مُقابِله ثمناً وتعويضاً قليلاً من أثمان الدنيا رخيصٍ دَنِيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمَنْصِبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره تستبدلوه به، فهذا الثمن مهما عَظم فهو مَهِين حيث يَجُرّ علي مَن يأخذه من التعاسات ويَخْسَر به من السعادات الدنيوية والأخروية ما لا يطِيقه ، فإنْ فعلتم ذلك فأنتم حتما سفهاء حيث هي صفقة خاسرة قطعا لأنكم تبيعون أعظم خيرٍ وتشترون بدلا منه شيئا حقيرا، وأيّ عاقلٍ بالقطع يَحْذَر مطلقا أن يفعل مِثْل ذلك.. ".. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)" أيْ وكونوا لي دائما من المُتَّقِين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، ولا تَخْشوا غيري أحداً مِن خَلْقِي في كل أقوالكم وأفعالكم فإنه لا توجد قوة ولا قُدْرة في الكوْن إلا قُوَّتِي ولا يَحدث شيءٌ فيه إلا بإذني فأنا القادر علي كل شيءٍ واحذروا عقابي إنْ خَالَفْتم واشتريتم بآياتي ثمنا قليلا إذ ستُعَاقَبُون في الدنيا بما يُناسب مُخَالَفَاتكم بدرجةٍ مَا مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لكم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة ، بسبب أفعالكم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله : "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .." (الإسراء : 7) ، ثم في الآخرة سيكون لكم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42)" أيْ وبعد أنْ حَذّرَ القرآن الكريم بنى إسرائيل من أن يكفروا بالله ويشتروا بآياته ثمنا قليلا، حَذّرهم أن يعملوا لإضلال غيرهم.. أيْ ولا تَخْلِطوا أبداً الحقّ الذي هو في القرآن والإسلام المُنَزّل من عند الله تعالي بالكذب الذي تَدَّعُونه من تحريفٍ وتزييفٍ للحقائق فتقولون بعض الحقيقة ليست كاملة وتخلطونها بكثير من الأكاذيب كأنْ تَدَّعُوا مثلا كذباً وزُورَاً أنَّ بعض آيات القرآن ليست من عند الله أو أنَّ الرسول محمد (ص) ليس صادقاً في كل ما يقول أو خَالَف بعض ما في التوراة أو ما شابه هذا من تخاريف لا يقبلها العقل المُنْصِف العادل.. وكذلك لا تكتموا الصدق فتُخفونه تماما وليس مجرّد خَلْطه بكذب.. فالتحذير الأول هو عن التغيير والخَلْط، والتحذير الثانى عن الكِتْمان والإخفاء.. ".. وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42)" أيْ وأنتم مُتَعَمِّدُون لفِعْل هذا السوء ليس خطأ ولا نسياناً حيث أنتم تعلمون تمام العلم أنكم كاذبون مُدَّعُون تقومون بتلبيس الحقّ بالباطل أو بكتمانه، وكذلك تعلمون الضَرَر الكبير على الناس بسبب إضلالهم وإبعادهم عن الإسلام وما في ذلك من فقدانهم سعادتهم في الداريْن وتعاستهم فيهما، فأنتم مِن ذوى العلم لستم جُهَلاء، ولا يَصِحّ مِمَّن كان كذلك أن يَفعل مِثْل فعلكم، فإنْ أتَيَ هذا الفِعْل مِن جاهلٍ فإنه يُعَلّم ليُزَالَ جَهْله فلا يَفعله، ولكنْ إنْ أتَيَ من عالمٍ مثلكم فإنَّ انتشاره وضَرَره يكون أشدّ وأوْسَع وبالتالي سيكون عقابكم الدنيويّ والأخرويّ أعظم.. هذا، والآية الكريمة تُحَذّرهم والناس عموما تحذيرا شديدا من خَلْط الصدق بالكذب والخير بالشرّ أو كتمانه رغم وضوحه والعلم به في كل شأنٍ من شئون الحياة المختلفة لأنه من أهم أسباب تعاسة البَشَر حيث تختلط الأمور ولا يُعْلَم أين الصواب من الخطأ والسعادة من التعاسة فتضيع الحقوق وتنتشر المظالم التي تؤدي حتما إلي المُشاحَنات والعداوات.. والتعاسات.. في الدنيا والآخرة
ومعني "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)" أيْ وادْخُلُوا في دين الإسلام ووَاظِبُوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وأدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ أحسنوها وأتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَآتُوا الزَّكَاةَ.." أيْ وأعْطُوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كنتم مِن أصحاب الأموال.. وكونوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا ، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)" أيْ واعبدوا الله تعالي مع العابدين أيْ وأطيعوه مع الطائعين واتّبِعوا كل أخلاق الإسلام مع المُتَّبِعين ويُعين بعضكم بعضاً علي ذلك حيث الركوع يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها ، وأيضا هو الركوع له بتواضُعٍ وخشوع وسكون في الصلاة ولذا فمِن المعاني أيضا أن صَلّوا مع المُصَلّين المسلمين لتنالوا ثواب الصلاة وثواب الجماعة الذي هو أضعاف صلاة المنفرد وحده لِمَا في التّجَمُّع من منافع وسعادات
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً متمسّكا عامِلا بكلّ أخلاق إسلامك ولا تُخالِف أبدا بعملك قولك فتقول خيراً وتعمل شرَّاً
هذا ، ومعني "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)" أيْ هل تَطلبون يا بني إسرائيل ويا جميع المسلمين من عموم الناس حولكم أن يقوموا بعمل الخير وهو العمل بكل أخلاق الإسلام وتَتركون أنفسكم وكأنكم تَنْسونها فلا تَطلبون منها هذا؟! مع أنَّ وسيلة التذكير موجودة دائما معكم حيث أنتم تقرأون الكتاب المُنَزَّل عليكم من عند الله تعالي وهو القرآن العظيم – وكان التوراة بالنسبة لليهود قبل نزول القرآن حيث هذه الآية نزلت فيهم ولكنها تعني كل مسلم لأنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نَزَلَت من أجله – والذي يَطلب منكم ذلك ويُذَكّركم دَوْمَاً به!!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)" أيْ ألا تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك وتَتَجَنَّبونه تماما وتعودون لربكم ولإسلامكم وتفعلون كل خيرٍ وتَتركون كل شرٍّ لتسعدوا في دنياكم وأخراكم ولا تتعسوا فيهما؟! فأين العقول المُنْصِفَة العادلة، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تمنعكم من هذا؟! إنَّ مهمَّة العقل التمييز بين الخير المُفيد المُسْعِد والإقبال عليه والدعوة إليه وبين الشرّ المُضِرّ المُتْعِس والامتناع عنه ومَنْع الغير منه لكنْ إنْ أقْبَلَ علي ما فيه ضَرَر فكأنه قد عَطّل عَمَلَه وألْغَيَ قيمته!!.. وفي هذا مزيدٌ من الإيقاظ للغافلين التائهين الناسِين لعلهم يَستفيقون بذلك ويعودون لربهم ولإسلامهم قبل فوات الأوان ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم.. إنه إذا عمل المسلمون بكل أخلاق إسلامهم ودعوا غيرهم لها بكل قُدْوةٍ وحِكْمَةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة ، ثم الآية (187) من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة) فإنه بذلك تَتَبَادَل السعادة فيهم وتَتَزَايَد، بينما لو تَرَكَ بعضهم بعض هذه الأخلاقيات تَعِسُوا بقَدْر تَرْكِهم لها وخَالَطَت تعاستهم سعادة الآخرين فأنقصتها.. هذا ، وإنْ لم يعمل المسلم بخُلُقٍ ما، فليجتهد في استكماله لِتَتِمّ سعادته، ولا يُسِيء فَهْم هذه الآية الكريمة فيمتنع عن دعوة غيره له حتي يستكمله، فلعله هو مَن سيساعده علي تطبيقه يوماً مَا، فالآية تَعْتِب عليه تَرْكَ ذاته بعيدا عن الخير وإدخال غيره الجنة دونه! فهذا ليس تَصَرّف العقلاء! لكنها لا تعتب عليه بالتأكيد إذا نَشَرَ خيراً وهو لا يفعله، بل له ثوابه، وإن كان سيَقِلّ حتماً تأثيره فيمَن يَدعوه والذي يقتنع أكثر بالقول والعمل معا، وذلك حتي ينتشر الخير وتَعمّ السعادة ويأتي اليوم الذي يعمل فيه جميع البَشَر بجميع الإسلام فتتحقّق جميع السعادات
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هاتين الآيتين الكريمتين
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دَوْمَاً من الصابرين أي الثابتين الصامدين المُستمِرِّين بكل هِمَّة علي تمسكهم بربهم وإسلامهم فيفعلون كل خير ويتركون كل شرّ وإن أصابتهم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا صبروا عليه واستعانوا بربهم ولجأوا إليه ليخرجوا منه مستفيدين استفادات كثيرة في دنياهم وأخراهم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وإذا كنتَ من المقيمين للصلاة أي الذين يقومون بها علي أكمل وجهٍ أيْ يُحسنونها ويُتقنونها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالك الملك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مدار يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وإذا كنتَ من الخاشعين أيْ الذين يَخافون الله ويُراقبونه ويَستشعرون عظمته وهيبته ويَخضعون لوصاياه وإرشاداته التي أوصاهم بها في إسلامه وذلك في كلّ أقوالهم وأفعالهم فهُم مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت للحياة الآخرة، ليوم القيامة، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا، عند أعدَل العادلين، مالك يوم الدين، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم، فهذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا ، ومعني "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)" أيْ واستعينوا في كل أموركم بكل شئون حياتكم بالصبر ، أيْ بالثبات والصمود والاستمرار بكل هِمَّة علي تَمَسّككم بربكم وإسلامكم وعلي طَلَب العوْن منه ثم من الصادقين المُتَخَصِّصِين مِمَّن حولكم، فهذا سيُعينكم ولا شك علي إتقان وتطوير أعمالكم وكَسْبِكم وعِلْمِكم ومعاملاتكم ونحوها وتَحَمُّل أعبائها والاستفادة بخبراتها وتصحيح أخطائها وحُسن الانتفاع بخيراتها والامتناع عن الوقوع في شرورها، إلي غير ذلك من السعادات، وإنْ أصابتكم فتنةٌ مَا أيْ اختبارٌ أو ضَرَرٌ مَا فاصبروا عليه واستعينوا بربكم والجأوا إليه لتَخرجوا منه مُستفيدين استفادات كثيرة في دنياكم وأخراكم (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن).. وكذلك استعينوا بالصلاة لأنه ما أوْصَيَ بها سبحانه إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يَطلب منه ما يشاء علي مَدَار يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. فمَن يفعل ذلك أيْ يستعين بوصية الله تعالي له بالصبر والصلاة، لا بُدّ أن يُعينه ويُيَسِّر له كل أموره ويُسعده تمام السعادة في دنياه وأخراه.. هذا ، وتخصيص التذكرة بالصبر والصلاة من تعاليم الإسلام هو للتنبيه علي أهميتهما وآثارهما المُسْعِدَة.. ".. وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)" أيْ وإنَّ هذه الوَصِيَّة بالاستعانة بالصبر والصلاة، أو وإنَّ الصلاة ، لهِيَ ثقيلة شاقّة علي غير الخاشعين بينما هي سَهْلَة خفيفة مُسْعِدَة تماما علي الخاشعين وهم الذين يَخافون الله تعالي ويُراقبونه ويَستشعرون عظمته وهيبته ويَخضعون لوصاياه وإرشاداته التي أوصاهم بها في إسلامه وذلك في كلّ أقوالهم وأفعالهم فهُم مِن المُتّقين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرٍّ يُبعدهم ولو للحظة عن حبّ ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كلّ خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم
ومعني "الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)" أيْ الذين من صفاتهم أنهم يَتَيَقّنون أيْ يتأكّدون بلا أيِّ شكٍّ أنهم سيُقابلون ربهم – أيْ مُرَبِّيهم وخالقهم ورازقهم وراعيهم ومُرْشِدهم لكلّ ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في دنياهم وأخراهم من خلال دينه الإسلام – في الآخرة يوم الحساب وأنهم عائدون إليه لينالوا ما يَستحِقّونه من جزاءٍ على حسب أعمالهم ولذا فهم يعملون بكل أخلاق إسلامهم.. هذا والمُراد بالظنّ اليقين لأنَّ كلّ مؤمنٍ مُتَيَقّنٌ حتماً بأنَّ مُلاقاة الله في الآخرة حقّ.. كما أنَّ استخدام لفظ " يَظنّون " سببه أنَّ حقيقة الظنّ في الأصل هي أنه عِلْمٌ لم يَتَحَقّق ويوم القيامة لم يقع بالفِعْل بَعْدُ ولم يَخْرُج إلى عالَم الحِسّ ، وفي هذا تمام الدِّقّة .. كما أنَّ سببه أيضا أنهم يَتَوَقّعون لقاء ثواب ربهم ودخولهم جناته عند رجوعهم إليه وهذا التوقّع هو ظَنِّيّ لا يَقِينِيّ لأنَّ خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون إلا خالقهم سبحانه بما يدلّ علي خوفهم وعدم أمنهم علي كيفية نهاية حياتهم وهكذا المسلم دائما حياته كلها مُتَوَازِنَة بين الخوف منه تعالي وهو الرحمن الرحيم وبين الرجاء في عطائه الذي لا يُحْصَيَ في الداريْن وهو الكريم سبحانه ولذلك فهو يحرص كل الحرص علي أن يفعل دائما كلَّ خيرٍ ويَترك كلّ شَرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامه حتي آخر عمره ليَتَحَقّق له ما يَظنّه ويَتَوقَعه حينما يُلاقِي ربه من نَيْل أعلي درجات جناته (برجاء أيضا مراجعة الآية (98) من سورة المائدة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن الخوف والرجاء)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما من الشاكرين لربك علي نِعَمه والتي لا يمكن حصرها، بعقلك باستشعار قيمتها وبلسانك بحمده وبعملك بأن تستخدمها في كل خير دون أيّ شرّ، فستجدها بذلك دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّع كما وعد سبحانه ووعده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُتَّقين أي الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم.. وإذا كنتَ مُوقِنا أي متأكّدا تماما بالبَعْث بعد الموت للحياة الآخرة ، ليوم القيامة ، حيث الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ ، تُجَازَيَ عليه بالخير خيرا وبالشرّ شرّا ، عند أعدَل العادلين ، مالك يوم الدين ، حيث يأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم التي تكون قد فاتتهم بظُلم ظالمين لهم ، فهذا سيَدْفَع حتما كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ علي الدوام من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
هذا ، ومعني "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ يا أبناء وأحفاد رسولنا الكريم إسرائيل، وهو يعقوب ابن اسحق ابن إبراهم عليهم السلام جميعا، وإسرائيل معناها بالعِبْرِيَّة التي هي اللغة اليهودية عبد الله حيث إسْرَاَ تعني عَبْد وإيِل تعني الله، وأبناؤه المقصود بهم اليهود، ويُناديهم سبحانه بهذه الصفة لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة حيث هم ذرِّيَّة رسولٍ كريمٍ فلا يَصِحّ منهم مُخَالَفَة الإسلام بل عليهم أن يكونوا مثله في اتّباعه والدعوة إليه لعلهم بذلك يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم وإلا تَعِسُوا فيهما، يناديهم أن اذكروا نِعَمِي التي أنعمتها عليكم والتي لا تُحْصَيَ بأنْ تكونوا دوْما شاكرين لها، بعقولكم باستشعارها وبألسنتكم بحَمْدِي وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرّ، وبذلك ستَجدونها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتنوُّعٍ كما وَعَد سبحانه ووعْده الصدق "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم:7)، وأهم هذه النِّعَم إرشادكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بالتوراة التي فيها أخلاق الإسلام التي تُناسب عصركم والتي جاءكم بها رسولكم الكريم موسي (ص)، وإنقاذكم من عدوكم فرعون الذي كان هو وجنوده يُذيقونكم أشدّ العذاب والإهانة وإهلاكهم بإغراقهم في البحر، وتَمْكِينكم في الأرض بعد ذلك تُديرونها أنتم وتَنتفعون وتَسعدون بخيراتها.. ".. وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)" أيْ وتَذَكّروا كذلك أني فَضَّلْتكم على كلّ الناس في زمنِ موسي (ص) وبعده في أزمنة صلاحكم واستقامتكم وذلك التفضيل بكثرة الأنبياء منكم ولكم والكتب المنزَّلة عليكم معهم كالتوراة والإنجيل والتي تُرْشِدكم لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم ثم تقومون أنتم بقيادة الآخرين ودعوتهم لهذا الخير فتنالون مَكَانَتَيّ وسعادَتَيّ الدنيا والآخرة فاشكروا ذلك بأن تُسلموا ولا تَبقوا علي يهوديتكم أو نصرانيتكم
ومعني "وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48)" أيْ وخافوا يوماً شديداً واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ لتسعدوا في الداريْن هو يوم الحساب يوم القيامة الذي لا تَقْضِى فيه أيّ نفسٍ عن أيِّ نفسٍ أخرى مهما كانت درجة قرابتها لها شيئاً من الحقوق أيْ لا تنفعها بأيِّ نَفْعٍ ولا تَدْفع عنها أيَّ ضَرَر، فكلّ نفسٍ ستَتَحَمَّل نتيجة عملها في دنياها فهذا هو تمام العدل ، فإنْ عَمِلَت خيراً فلها كل الخير والسعادة وإنْ عملت شرَّاً فلها ما يُناسبه من الشرّ والتعاسة.. ولا يُقْبَل من أيِّ نفسٍ غير مسلمةٍ شفاعة من أيّ شفيعٍ أيْ مُتَوَسِّلٍ يُسْتَجَابُ لتَوَسّله ولوَسَاطته عند الله لكي يعفو عنها وينقذها مِمَّا هي فيه، مِمَّن يَأذن لهم الله في الشفاعة للآخرين لتكريمهم ولمَكانتهم عنده كالنبيين والشهداء والصالحين، والمقصود أنه لا أمل لهذه النفس الغير المسلمة في أيِّ نجاة، وذلك لو فُرِضَ وتَقَدَّم أحدٌ للشفاعة لها حيث لن يتقدّم أحدٌ أصلاً لأنَّ الشفاعة هي بإذنه سبحانه ولا تكون إلا للمسلمين فقط لا لغير المسلمين.. كما لا يُؤْخَذ ولا يُقْبَل منها عدلٌ أيْ فِداء – أو فِدْيَة – أو بَدَل أو تَعْويض يُعادِل أيْ يُساوِي نجاتها من العذاب، وهو ما يُدْفَع مِن أجل افتداء النفس وتخليصها مِن سوءٍ ما ، حتي لو فُرِضَ وجاءت إحداها يومها بمِلْءِ الأرض ذهبا وأضعافه لتَفتدي به من عذاب الله فلن يُقْبَل منها، وفي هذا قَطْعٌ لأيِّ أملٍ لهذه النفس غير المسلمة في النجاة مِمَّا هي فيه.. ".. وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48)" أيْ وحينها لا يُمكن أبداً لأيّ قريبٍ أو صديق أو مُحِبّ أو ناصر أو حَليف أو نحوه مهما كان شأنه أن يفيد وينفع قريبه أو صديقه أو مُحِبّه أو حَليفه بأيِّ شيءٍ من النفع كما كانوا يفعلون في الدنيا، ولا يمكنهم ولا غيرهم نصر بعضهم بعضا بدفع أيّ عذاب عن أنفسهم يستحِقّونه من ربهم، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيد خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كل أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
ومعني "وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أنقذنا آباءكم وأجدادكم الذين أنتم منهم والذين لو كانوا هَلَكُوا لَمَا أتيتم للحياة، أنقذناهم مِمَّا كانوا فيه من البلاء العظيم حيث استعبادهم من فرعون ملك مصر الظالم في ذلك الوقت وأهله وأعوانه من أصحاب النفوذ والسلطان الذين كانوا يَسُومونهم أيْ يُذِيقُونهم أشدّ أنواع العذاب النفسيّ كالذلّة والإهانة ونحوها والجسديّ باستخدامهم عبيداً مُسَخَّرِين في البيوت والمزارع والبناء ونحو ذلك بل كانوا يُذَبّحون أبناءهم لإضعاف قوّتهم فلا يُطالِبون بحقوقهم ويَسْتَحْيُون نساءهم أيْ يُبْقُونهنّ أحياء للخدمة ولِيَكُنَّ جوارِي عندهم..".. وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)" أيْ وفي هذا العذاب اختبار لكم من ربكم وفي إنقاذكم منه عطاء وخير عظيم، يَتَطَلّب شكره تعالى في كل عصوركم وأجيالكم بأنْ تُسْلِمُوا لا أن تَبْقُوا علي يهوديتكم أو نصرانيتكم.. هذا، والبلاء في اللغة العربية يعني المصيبة والاختبار كما يعني النعمة والعطاء أيضا.. لقد ذَكّرهم تعالي بأنَّ شكر النعمة يُبْقيها ويزيدها ويُنَوِّعها، بينما كفرها، أيْ إنكارها، بل والكفر بالمُنْعِم سبحانه أيْ التكذيب بوجوده وعدم اتّباع شرعه الإسلام، لا بُدَّ حتما نتيجته عذاب شديد ، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم، وليشكر ربه علي نِعَمِه وأفضاله التي لا تُحْصَيَ والتي منها النجاة من ظلم الظالمين والانتصار عليهم وإسعاد الخَلْق بإهلاكهم والخلاص منهم والأمان والاستقرار للنفس والأهل والأعراض والأموال وللمجتمع عامة
ومعني "وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين فَلَقْنا وشَقَقْنا بسببكم ولكم البحر عندما ضربه رسولكم الكريم موسي (ص) بعصاه وفَصَلْنا ماءه بعضه عن بعض حتي أصبح فيه طريق جافّ تَسيرون فيه وحينما عَبَرْتم كلكم ونَجَوْتُم وأراد آل فرعون المرور فيه ليلحقوا بكم ويُؤذونكم أَعَدْنا الماء كما كان فأغرقناهم جميعا وأنتم تشاهدون هذا المشهد أمام أعينكم لا بالخبر والسماع مشاهدة ليس فيها أيّ شكٍّ أو غموض ليكون ذلك تثبيتاً لإِيمانكم بوجودنا معكم بعظيم القُدْرة والعلم والرحمة والرعاية ويكون أسعد لكم وأشْفَىَ للمَرَارَة التي كانت بداخلكم من عدوكم وأشدّ إهانة له حينما ترونه يهلك أمامكم وتتأكّدون أنه لن يُؤْذِيَكم بعد ذلك، فاشكروا هذه النّعَم التي أنعمت بها على أسلافكم بأنْ تُسلموا لا أنْ تَبْقوا علي يهوديتكم أو نصرانيتكم
ومعني "وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51)"،" ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أعطينا موسي رسولنا إليكم الوعد أن يأتي لمدة أربعين يوما عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمكم إيّاها لتكون إرشاداً لكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم، ثم مِن بعد ذهابه وأثناء غيابه جعلتم العجل الذي صنعتموه بأيديكم إلاهاً لكم تعبدونه أيْ تطيعونه غير الله تعالي وأنتم ظالمون حتما بفِعْلكم الدنِيء هذا حيث تعبدون عِجْلا !! أين عقولكم هل أصابكم الجنون ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! لقد تَركتم عبادة خالقكم الذي أنجاكم وأنعم عليكم كل هذه النّعَم التي لا تُحْصَيَ ورَزقكم ورَعاكم وأَمَّنَكم وأرْشدكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بدلاً أن تعبدوه وتشكروه !!.. لقد كنتم من الظالمين قطعاً أي العاصِين لله المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأن يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. "ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)" أيْ ثم سامَحْناكم ومَحَوْنا ذنوبكم كأن لم تكن رغم عِظَمها ولم نعاقبكم عليها لتوبتكم منها، مِن بعد ذلك الفِعْل الدنِيء باتّخاذكم العِجْل مَعْبُودَاً غير الله تعالي.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7) .. هذا ، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أعطينا موسي رسولنا إليكم الكتاب أيْ التوراة التي فيها الإسلام الذي يُصلحكم ويُكْمِلكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم وهذا الكتاب هو أيضا من صفاته العظيمة أنه الفرقان أيْ الذي يُعين كل مَن يَتَعَقّله ويَتَدَبَّره ويَتَعَمَّق فيه علي أن يُفَرِّق بكل سهولة ويُسْر بين الخير والشرّ والحقّ والباطل والصواب والخطأ والنافع والضارّ وبذلك يحيا حياته في سعادة تامَّة ويَنتظر مُسْتَبْشِرَاً آخرته التي فيها ما هو أعظم سعادة وأتمّ وأخلد، وهو في ذات الوقت يُنْذِر الجميع أيْ يُحَذّرهم أنَّ مَن يَترك فَهْمَه وتَدَبُّره والعمل بأخلاقه بعضها أو كلها فسَيَتعس في دنياه وأخراه علي قَدْر ما تَرَك.. هذا ، وعند بعض العلماء الكتاب هو التوراة لكنَّ الفرقان ليس وَصْفَاً للكتاب وتأكيداً لعظمته وتفسيراً له وإنما هو المُعجزات التي أيَّدَ الله تعالي بها موسي (ص) وأهمها تَحَوُّل عصاه عند إلقائها إلي ثعبان حقيقيّ وليس وَهْمَاً كما كان يُوهِم سَحَرَة فرعون بمهارتهم عقول مَن يشاهدونهم وفَرْق ماء البحر إلي قِسمين بينهما طريق جافّ لنجاته وبني إسرائيل ففَرَّقَ بالمُعجزات هذه بين الحقّ الذي معه والباطل الذي كان عليه فرعون وقومه وسَحَرَته ونصره عليهم وأغرقهم وأهلكهم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)" أيْ لكي تَسْتَرْشِدُوا بكل أخلاقه فتَصِلُوا إلى كل خيرٍ وسعادةٍ وتَبتعدوا عن كل شرٍّ وتعاسةٍ في الداريْن.. هذا ، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُهْتَدِين شاكرين عابدين أيْ طائعين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الهداية وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كتبه التي أرسلها إليكم وآخرها القرآن العظيم.. لكي تهتدوا.. فكونوا كذلك مُهتدين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قال موسي لقومه مُعاتِبَاً لهم علي فَظَاعَة جريمتهم ومُذَكِّراً بعبادة أيْ طاعة الله وحده ومُرْشِدَاً لكيفية التخلّص من الآثار المُتْعِسَة للمعاصي للعودة للسعادة التامَّة بلا أيِّ شوائب في الدنيا ثم لأعلي درجات الجنة في الآخرة، قال لهم لقد ظلمتم أنفسكم حتماً باتّخاذكم العجل إلاهَاً تعبدونه غيره سبحانه أيْ كنتم بذلك من الظالمين أيْ العاصِين له المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يَظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأنْ يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخَالَفَاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ.." أيْ فارْجِعُوا وعودوا إليه سبحانه إذَن بالتالي بسبب ظلمكم هذا، والتوبة هي الاستغفار باللسان علي ما فَعَلتم مِن شرور والندم بداخل العقل والعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين، إلي بارئكم أيْ خالقكم الذي جعلكم بَرِيئِين من أيِّ خَلَلٍ وعَيْبٍ عند تنفيذ خَلْقِكم، وذلك بأنْ تَقتلوا أنفسكم أيْ تَقتلوا الشرَّ فيها أي تُحْسِنوا استخدام عقولكم بحيث تَقتل أيَّ تفكيرٍ شَرِّيٍّ بداخل هذه العقول أيْ تَمنعه وتُرَوِّضه فتَخْضَع وتَستجيب للخير فقط فلا تفعلوا إلا خيراً مُسْعِدَاً لكم ولغيركم في دنياكم وأخراكم.. هذا، وعند بعض العلماء أنَّ قَتْل أنفسهم كان حقيقياً حيث فَهِمُوا كلام موسي (ص) علي ذلك وفَضَّلوا أنْ يَقتل كلّ واحدٍ مِمَّن عَبَدوا العِجْل نفسه علي أن يُعَذّبوا بعذاب الله يوم القيامة فلمَّا هَمُّوا بذلك وثَبَتَ صِدْق توبتهم أبلغهم موسي بنعمة الله العظيمة حيث تاب عليهم رغم ما فعلوه فلا يَقتلوا أنفسهم.. لكنَّ البعض منهم قد نَفّذَ بالفِعْل.. ".. ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ.." أيْ هذا الإسراع بقَتْل الشرِّ بالعقل والتوبة من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأوّل هو حتماً خير لكم عند بارئكم أيْ خالقكم الذي جعلكم بَريئين من أيِّ عيبٍ لأنه يؤدي قطعا إلي توبته عليكم فتسعدوا بذلك تمام السعادة في الداريْن.. هذا، وإعادة لفظ "بارئكم" هو لمزيدٍ من التأكيد علي تذكرتهم بنِعَمه التي لا تُحْصَيَ عليهم ومنها تسويتهم علي أكمل وجهٍ يمكنهم الانتفاع والسعادة به في حياتهم ليَتَدَبَّروا فيها وليتأكّدوا أنَّ عبادة الباريء سبحانه هي بلا أيِّ شكٍّ خيرٌ لهم فى دنياهم وأخراهم.. ".. فَتَابَ عَلَيْكُمْ.." أيْ فلمَّا فَعَلْتم ذلك تابَ عليكم، وذلك لأنه ".. هُوَ التّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)" أيْ هو وحده تعالي الكثير العظيم التوبة على مَن تابَ إليه أيْ رَجَع إلى طاعته باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. وهو أيضا الرحيم أيْ الكثير الواسع الرحمة بالعالمين والذي رحمته وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنبٍ ودائما تَسْبِق غَضَبَه (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب).. وفي هذا تشجيع لهم وللناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!
ومعني "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قلتم لرسولكم الكريم موسي بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار لن نُصَدِّق لك في أنَّ الله موجود وأننا علينا عبادته أيْ طاعته باتّباع الإسلام الذي في التوراة وأنها كلامه لا كلامك أنت حتي نراه جهرة أيْ عَلانِيَة ظاهراً لنا بلا أيِّ ساتِر وهو الذي يُخبرنا بها ويُعَلّمنا إيّاها، فإنْ لم يَحدث ذلك فلن نُؤمن!! أيْ إنكم لا تُصَدِّقونه رغم المُعجزات التي حَدَثَت أمامكم علي يديه والتي أيَّدْناه بها وآخرها شَقّ البحر وإنجائكم وإهلاك عدوكم والتي تَدلّ أيَّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ علي تمام صِدْقه.. إنكم قد تَجَرَّأْتم علي هيبة الله تعالي والذي مِن المستحيل أنْ تروه في الدنيا رحمة بكم لأنَّ عيونكم غير مُؤَهَّلَة لهذا ولنْ تحتملوا رؤيته – أمَّا في الآخرة فأهل الجنة سيكونون مُؤَهَّلِين لرؤيته والتّمَتّع والسعادة بذلك – كما أنه لكي تَرُوه لابُدَّ له من مكان وهو تعالي لا مكان له بل معكم دوْمَاً في كل مكانٍ بتمام قُدْرته وعلمه ثم هو من الغَيْب الذي به يُخْتَبَر المُكَذّب من المُصَدِّق الذي يُحْسِن استخدام عقله فيَرَي أثره سبحانه في كل مخلوقاته المُعْجِزات في كل كوْنه حوله دون أن يراه مباشرة.. ولذلك وبسبب هذا التَّعَدِّي والتّجَرُّؤ والتكذيب والعِناد والاستعلاء علينا وعلي رسولنا الكريم ".. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55)" أيْ فأصابتكم ونَزَلَت وانْقَضَّت عليكم الصاعقة وهي الشيء الذي يَصْعَق ما تحته فيُهلكه إذا أصابه سواء أكان هذا الشيء نارا مُحْرِقَة أم عاصفة مُدَمِّرَة أم شرارة كهربائية مُمِيتَة أم ما شابه هذا، وأنتم تَرَوْنها بأعينكم أمامكم وتَرَوْن حالكم وعذابكم وهلاككم دون أن تستطيعوا مَنْع ذلك ليكون أشدّ تعذيباً لكم.. "ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)" أيْ ثم أيقظناكم من بعد إغمائكم بسبب هذه الصاعقة ، أو أحييناكم بأجسادكم وأرواحكم بعد موتكم حقيقة بسببها، ليكون ذلك مُعجزة أخري لتأييد رسولنا الكريم موسي لِتُصَدِّقوه.. ".. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)" أيْ لعلكم بعد تَذْكِرَتكم ببعض نِعَمِنا هذه عليكم أن تشكرونا عليها، فإنَّ مَن شَكَرَنا زِدْناه مِن خيرنا وعطائنا.. أيْ لكي تشكروا كل تلك النِعَم والتي لا تُحْصَيَ، تشكروها بعقولكم بأن تستشعروا قيمتها، وبألسنتكم بحمده، وبأعمالكم باستخدامها في كل خيرٍ دون أيّ شرٍّ حتي تجدوها دائما باقية بل وفي ازديادٍ وتَنَوُّعٍ كما وَعَدَ سبحانه ووعْده الصدق ".. لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .." (إبراهيم : 7) .. هذا ، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتمالية مع الأمل في التّحَقّق ليكون دافعا وتشجيعا للبَشَر ليكونوا كلهم كذلك شاكرين عابدين لربهم وحده متمسّكين عامِلِين بكل أخلاق إسلامهم مُسْتَغْفرين من أيِّ شرٍّ أوَّلاً بأَوَّل ليسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهو أمرٌ سهلٌ مَيْسور، لكن لِمَن أراده واتّخذ أسبابه بتمسّكه وعمله بكلّ إسلامه.. لقد يَسَّرَ الله لكم أيها الناس أسباب الشكر وجعلها واضحة بين أيديكم من خلال كل هذه النِعَم وغيرها ليُعينكم عليه.. لكي تشكروا.. فكونوا كذلك شاكرين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.. "وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)" أيْ وجعلنا الغَمَام أيْ السحاب مُظَلِلاً عليكم كالمَظَلّة ليَقيكم من حَرِّ الشمس، وأنزلنا عليكم من السماء ماءً ليُنْبَت المَنَّ وهو يشمل جميع ما مَنَّ الله به على خَلْقه أيْ أعطاهم إيَّاه من أرزاق ولكي يَحْيَي به السلوي الذي تأكلونه وهو طائر يشبه السّمَّان لحمه طيّب لذيذ وصَيْده سَهْل.. ".. كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.." أيْ وقلنا لكم رحمة بكم كلوا واشربوا من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات التي رزقناكم إيَّاها.. ".. وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)" أيْ وما ظلمونا بعدم شكرهم لكلّ هذه النِّعَم التي لا تُحْصَيَ وبعدم اتّباعهم لأخلاق الإسلام ، لأنَّ الخَلْق جميعاً لن يُمكنهم حتما ضرِّى فيَضِرُّونى أو نَفْعى فيَنفعونى إذ لا يُقارَن الخالِق القادِر علي كل شيءٍ العالِم تماما به بمخلوقاته، ولكنهم في الحقيقة قطعا يَظلمون أنفسهم لا يَظلموننا لأنَّ ضَرَرَ الظلم وشقاءه واقعٌ عليهم لا علينا حيث كانوا من الظالمين أيْ العاصِين لنا المُعْتَدِين علي وَصَايَانا بمُخالَفتها الذين يُتْعِسون أنفسهم ومَن حولهم في دنياهم وأخراهم بِفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار
ومعني "وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قلنا لكم بعد إنقاذكم من ظلم فرعون ادخلوا هذه البلدة من بلاد أرضنا حيث تجدون فيها الوطن والاستقرار والراحة والأمن والهناء وتأكلون منها أكلاً رَغَداً أيْ هنيئاً طيباً وافراً واسعاً حسبما تشاؤون من أيِّ مكانٍ ومن أيِّ ثمرٍ تريدون.. ".. وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا.." أيْ وكونوا دوْمَاً عند دخولكم إليها من بابها ومدْخلها وأنتم مقيمون فيها وفي كل أحوالكم وشئون حياتكم سجدا أيْ عابدين لله تعالي أيْ طائعين مُتَّبِعين لكل أخلاق الإسلام حيث السجود يُفيد الخضوع له سبحانه ولتوجيهاته وإرشاداته والاستجابة والاستسلام لها والقيام بطاعتها وتطبيقها كلها في كل شئون الحياة لتتحقّق السعادة بها ، وأيضا هو السجود له بتَوَاضُعٍ وخُشوع وسُكُون في الصلاة أو خارجها تواضُعا له وحبا فيه وطَلَباً لحبه وعوْنه ورزقه وتوفيقه وسعادته في الداريْن، والاكتساب من ذلك تَواضُعا لكلّ خَلْق الله في كوْنه وعدم الاستعلاء عليهم ليَسعد الجميع بهذا التواصُل فيما بينهم وعدم الاستكبار والتقاطُع المُتْعِس لهم فيهما.. ".. وَقُولُوا حِطَّةٌ.." أيْ واسألوه دائما في دعائكم أن يَحُطّ أيْ يَضَعَ ويُسْقِط ويَمْحُو عنكم ذنوبكم كأنْ لم تكن ويَعفو عنها ولا يُعاقِبكم عليها بعد توبتكم منها.. ".. نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)" أيْ فإنْ فَعَلْتم ذلك الذي نُوصِيكم به فإننا حتما بعظيم رحمتنا وكرمنا بكم نغفر لكم ذنوبكم صغرت أم كبرت حتي ولو كانت عظيمة كثيرة- والخطايا جَمْع خطيئة وهي الذنب العظيم- وأيضا سنَزيد المُحسنين منكم مِن كل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم، وسنَزيدهم إحسانا على إحسانهم حيث سنُعِينهم وسنُيَسِّر لهم كل أسباب أن يفعلوا خيراً أكثر وأكثر بإحسانٍ أيْ إتقانٍ أكثر وأكثر فيَزدادون خيرا وسعادة وتَتَضَاعَف أجورهم في الداريْن، فكلّ خيرٍ يفعلونه سيُؤَدِّي بهم إلي فِعْل مزيدٍ من الخير، وبالتالي ستكون حياتهم الدنيوية والأخروية كلها خيراً في خيرٍ وسعادة علي سعادة، فهذا وَعْدٌ علينا لن يُخْلَف مُطْلَقَاً.. والمُحسنون هم الذين يَعملون كلَّ خيرٍ ويَتركون كل شرٍّ ويُؤَدّون كل أقوالهم وأفعالهم بإحسانٍ أيْ بإتقانٍ وإجادةٍ بحيث تكون كلها مُوَافِقَة لكلّ أخلاق الإسلام
ومعني "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)" أيْ ولكنَّ الذين ظلموا من بني إسرائيل، أيْ عَصوا الله واعتدوا علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يَظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأنْ يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار، لم يلتزموا بما قِيلَ لهم في التوراة، فغَيَّروا في قول الله تعالي الذي قاله لهم فيها، غَيَّروا وبَدَّلُوا وحَرَّفوا وخَرَّفوا بلا أيِّ مُبَالَاةٍ أو خوفٍ في قواعد الإسلام وأخلاقِيَّاته ولم يلتزموا ويعملوا بها، وقالوا قولاً وأقوالاً كثيرة غيره من عند أنفسهم مُخَالِفَة له وفَسَّرُوه بغير ما يُرادُ منه لكي يُبَرِّرُوا لأنفسهم فِعْل الشرور مُدَّعِين كذباً وزُوراً أنها من قول الله وأوامره!! وذلك لأنهم ومَن يَتَشَبَّه بهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ قد عَطَّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)" أيْ فكانت النتيجة الحَتْمِيَّة لظلمهم هذا، وبسبب أنهم كانوا يفسقون هكذا أيْ يَخرجون عن طاعة الله وإسلامه ويفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار، أنزلنا عليهم رِجْزَاً من السماء أيْ عذاباً من عندنا بدرجةٍ ما بما يُناسب شرورهم، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم ، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل أبداً مِثْلهم ليسعد في الداريْن وإلا تعس كتعاستهم ونالَ مصيرهم فيهما
ومعني "وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين طَلَبَ ودَعَاَ رسولنا الكريم موسي السَّقْي لقومه أيْ الحصول علي الماء الذي يَسْقِيهم أيْ يَشربونه والذي به يَحْيون فاستجبنا برحمتنا وكرمنا لطَلَبه ودعائه وقلنا له اضرب الحجر بعصاك التي معك لتكون مُعْجِزَة أخري أمامهم ليُصَدِّقوه أنه رسولنا ويَتَّبِعوا ما جاءهم به من الإسلام حيث انْفَجَرَت وتَدَفّقَت من هذا الحجر اثنتا عشرة عَيْنَاً من الماء بعَدَد قبائلهم ومجموعاتهم لأنهم كانوا بهذا العدد فعَرَف كل قوم منهم مَشْرَبهم أيْ مكان شُرْبِهم فاطمأنوا واستقرّوا وشربوا وانتفعوا وسَعِدوا ولم يَحدث التّزَاحُم والتّنازُع بينهم.. ".. كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)" أيْ وقلنا لهم رحمة بهم كُلُوا واشربوا من أرزاق الله التي رزقكم إيَّاها من كل أنواع المَطاعِم والمَشارِب الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات، وإيَّاكم والعَثْو وهو الإفساد ونَشْر الشَّرِّ في الأرض بكل صُوَرِه المادية والنفسية فتَسيرون فيها مُفْسِدين لكلِّ شيءٍ مُسْتَخْدِمِين هذه النِّعَم فيتعس الجميع في دنياهم وأخراهم ولكنْ استخدموها في كل خيرٍ لتسعدوا فيهما.. فاشكروا نِعَمِي التي أنعمت بها على أسلافكم بأنْ تُسْلِمُوا لا أنْ تَبْقوا علي يهوديتكم أو نصرانيتكم
ومعني "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) " أيْ هذا تذكيرٌ ببعض الأخلاق السَّيِّئة التي فَعَلها بنو إسرائيل حتي يتجنَّبها المسلم تماما فيسعد في الداريْن والتي منها عدم الصبر علي الخير أيْ الثبات والاستمرار عليه والتّحَوُّل إلي ما هو أقل خيراً أو حتي إلي الشرّ، ومنها إغلاق الإنسان لعقله وسوء استخدامه له بحيث لا يشكر نِعَم الله تعالي ولا يُحسن استخدامها في الخير المُسْعِد له ولغيره ويستخدمها في الشرِّ المُتْعِس ويحتقرها ويستصغرها رغم أنه لو تَعَمَّق في أيِّ نعمةٍ مهما تَوَهَّمَ صغرها فسيَجد فيها خيرا كثيرا وسعادة عظيمة، بل وأحيانا من شدّة إغلاقه لعقله يَستبدل في مواقف حياته المُتَعَدِّدَة ما هو أعلي بما هو أدْنَيَ أيْ أقلّ وما هو أعزّ بما هو أذلّ وما هو أعظم بما هو أخَسّ وبالجملة ما هو أسعد بما هو أقلّ سعادة أو أتعس!! وما كل ذلك وغيره من سوءِ تَصَرُّفٍ إلا لأنه قد عَطّلَ عقله بالأغشية التي وضعها عليه وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قال بنو إسرائيل لرسولهم الكريم موسي بضِيقٍ وتَمَلْمُلٍ واعتراضٍ وسوءِ خُلُقٍ وسوءِ تقديرٍ للأمور وعدمِ شكرٍ وإنكارٍ لِنِعَم الله التي لا تُحْصَيَ عليهم وعدمِ ثقةٍ في استمراريتها قالوا له لن نستمرّ علي هذه الأطعمة الواحدة الثابتة التي لا تتغيَّر، رغم أنها كما ذُكِرَ سابقا كانت من المَنَّ والسلْوَيَ والمَنَّ يشمل جميع ما مَنَّ الله به على خَلْقه أيْ أعطاهم إيَّاه من أرزاقٍ من كل أنواع الأطعمة والمشروبات الطيِّبات المُفِيدَات المُسْعِدَات والسلوي طيور تشبه السّمَّان لحمها طيّب لذيذ وصَيْدها سَهْل!! إنهم يريدون العودة لحياة العبودية للبَشَر ولغير الله تعالي وحياة الفقر والذلّة والخِسَّة التي كانوا فيها أثناء إذلال فرعون لهم قبل نجاتهم منها حيث كانوا يأكلون أردأ أنواع الأطعمة كالتي يطلبونها في هذه الآية الكريمة ويشتغلون أسوأ أنواع الأشغال مُتَوَهِّمِين أنَّ ذلك أكثر أماناً واستمراراً مِمَّا يَرزقهم الله إيَّاه!! إنهم يطلبون ذلك عِنَادَاً مع ربهم ورسولهم الكريم موسي وعدم استجابة له فيما يدعوهم إليه من الإسلام والحياة الطيبة الراقية معه باتّباع أخلاقه!! لقد قالوا يا موسي اسأل لنا ربك في دعائك أن يُخْرِج لنا من نباتات الأرض من أمثال بَقْلها والبَقْل هو كلّ نباتٍ لا ساق له يتغذي به الإنسان والجَمْع بُقُوُل ويكثر إطلاقه على الحبوب الجافّة لبعض الخضروات كالفاصوليا واللُّوبيا والفول ونحو هذا، والقِثّاء جَمْع قِثّاءَة وهي تشبه الخِيار لكنها أكبر قليلا في الحجم، والفُوُم يُطْلَق علي الثوْم أو القمح، والعدس والبصل معروفان.. ".. قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.." أيْ قال لهم موسي (ص) ناصِحَاً مُسْتَغْرِبَاً مُتَعَجِّبَاً ذَامَّاً لهم ذَمَّاً شديداً رافضاً لإغلاقهم لعقولهم ولسوء اختيارهم وتَصَرُّفهم وسَطْحِيَّة تفكيرهم وخِفّته وطيشه وحماقته، قال هل تتركون ما هو أعلي وأعظم وأعزّ وأنفع وأصلح والذي اختاره الله تعالي لكم ليُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم به وتَقْبَلُون وتُفَضِّلُون بَدَلاً منه ما هو أدني وأخَسّ وأذَلّ وبالجملة هل تُبَادِلُون ما هو أسعد بما هو أقلّ سعادة أو أتعس؟!! أين عقولكم؟!!.. ".. اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ.." أيْ إنْ أردتم ذلك الأدني دون الأكثر خيراً وفَخَامة فانزلوا إذَن إلي مصر من الأمصار أيْ بلدٍ من البلدان غير هذا الذي نحن فيه فستجدون ما تطلبون من البقول وما شابهها من الطعام الرديء فهو متوفر في هذه الأماكن الفقيرة كالقري والأرياف ونحوها بينما الأفخم ليس متوفراً في كل مكان! أو حتي عودوا إلي مصر التي كنتم مُسْتَعْبَدِين أذِلّاء فيها قبل هلاك فرعون إن كنتم تحبون حياة الاستعباد والإذلال والفقر!!.. ".. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ .." أيْ ولذلك، لمُخَالَفَاتهم لربهم ولعدم اتّباعهم لأخلاق إسلامهم ولإغلاقهم لعقولهم ولسوء اختيارهم وتَصَرُّفهم وسَطْحِيَّة تفكيرهم وخِفّته وطيشه وحماقته، ضُرِبَت عليهم أيْ وُضِعَت عليهم وأحاطَت بهم ولازَمَتهم صِفَةُ الذلّة أيْ الحَقَارَة والمَهَانَة والضعف، والمَسْكَنَة أيْ السكون لمَن يُذِلّها والخضوع والاستسلام له والقبول بإذلاله وإهانته لضعف نفوسهم فليس لهم هِمَم عالية، وباءوا أيْ انصرفوا ورجعوا بسبب أقوالهم وأفعالهم الدنيئة هذه مُحَمَّلِين بغضبٍ من الله مُلازِمَاً دائماً لهم فلا يُحِبّهم ولا يُوفّقهم ولا يُيَسِّر لهم أمورهم فكانوا في درجةٍ مَا مِن درجات العذاب في دنياهم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك )، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. ".. ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)" أيْ ذلك الذي يُصيبهم لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله أيْ لا يُصَدِّقون بها ويُكَذّبونها سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِ رسلهم لتأكيد صِدْقهم، ولم يُصَدِّقوا بالبَعْث أيْ إحيائهم بعد موتهم لمُلاقاة ربهم في الحياة الآخرة حيث الحساب والعقاب والجنة والنار ولذا فَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظرهم، ولأنهم لم يكتفوا بذلك بل كانوا أيضا يقتلون النّبِيِّين الذين أرسلهم الله تعالي لِيُنَبِّؤُوهم أيْ يُخْبِروهم بالإسلام الذي يُسعدهم في الداريْن بغير الحقٍّ أيْ ظُلماً وعُدواناً إذ لم يكن لهم قطعا أيّ حَقٍّ أو مُبَرِّر يَستندون إليه في قَتْلهم حيث لم يرتكب أيّ نَبِيٍّ حتما جريمة تستحقّ القتل بما يَدُلّ علي أنهم فعلوا ما فعلوا وهم عالِمون تماما بفظاعة جريمتهم عامِدون لها مُصِرُّون عليها وعلي الاستمرار علي ما هم فيه، وهذا أشدّ أنواع التكذيب والعِناد والاستعلاء علي الله تعالي والإصرار علي الشرّ والفساد والضَرَر والتعاسة حيث يَقتلون رسله الذين يُمَثّلونه في الأرض ويَنشرون الحقّ والعدل والخير والسعادة بين خَلْقه!!.. ".. ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)" أيْ ذلك الذي تَجَرَّأُوا علي فِعْله من الكفر بآيات الله وقَتْل النَبِيِّيِن بغير الحقِّ كان بسبب أنهم كانوا قَبْل هذا الفِعْل الشّنِيع قد عَصَوْا ربهم بفِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار وكانوا يعتدون علي حدوده وضوابطه بفِعْلهم الكبائر ويعتدون علي الأنبياء بعدم طاعتهم وبإيذائهم وعلي الناس بظلمهم وأخْذ حقوقهم فهُم لم يُطيعوا كل أخلاق الإسلام واعتادوا علي ذلك وأسْرَفوا وبَالَغُوا وزَادُوا فيه فازدادوا في مَعاصِيهم شيئا فشيئا تدريجيا حتي وَصَلُوا إلي مرحلة الكفر والقتل.. كذلك من معاني لفظ "ذلك" هو مزيد من التأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره والتذكير به واستكماله بإضافة سببيْن آخرين للذي يُصيبهم من الذلّة والمَسْكَنَة والغَضَب من الله وهما أنهم عَصَوْا أيْ لم يُطيعوا أخلاق الإسلام وكانوا يعتدون علي حدود الله وعلي الأنبياء وغيرهم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لكل مسلمٍ من الاعتياد علي فِعْل المَعاصِي الصغيرة لأنها ستَتَدَرَّجَ به غالبا إلي فِعْل المعاصي الكبيرة كما يُثْبِت الواقع ذلك كثيرا فيَصِلَ إلي ما وَصَلُوا إليه من الكفر والقتل وكل سوء، وكل تعاسة في دنياهم وأخراهم
ومعني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)" أيْ هذا دعوةٌ وتشجيعٌ لكلّ أصحاب الأديان الأخري غير الإسلام أن يُسْلِموا حتي يسعدوا تمام السعادة في الدنيا والآخرة.. أيْ بعد أنْ ذَكَرَ تعالي في الآيات السابقة حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.." أيْ المسلمون، الذين آمنوا أيْ صَدَّقوا بالرسول الكريم محمد (ص) وبالقرآن العظيم.. ".. وَالَّذِينَ هَادُوا.." أيْ اليهود الذين أسلموا واتّبعوا الإسلام الذي في التوراة التي جاءهم بها رسولهم موسي (ص) وَحْيَاً من عند الله تعالي والذي كان مناسباً لعصرهم.. ".. وَالنَّصَارَىٰ.." أيْ المسيحيين الذين اتّبعوا المسيح عيسي ابن مريم (ص) وما معه من إسلامٍ مناسبٍ لعصرهم في الإنجيل الذي جاءهم به وَحْيَاً منه سبحانه.. ".. وَالصَّابِئِينَ.." أيْ الذين لا دين لهم أو لم يَصِلْهم دين الإسلام، جمع صَابِيء وهو تارك الدين.. ".. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)" أيْ كلّ هؤلاء الذين علي غير دين الإسلام مِن اليهود والنصاري والصابئين وغيرهم، مَن يُؤمِن منهم بالله، أيْ يُصَدِّق بوجوده وبرسله وآخرهم الرسول الكريم محمد (ص) وبكتبه وآخرها القرآن العظيم – والمسلمون مؤمنون قطعا ومعني مَن آمنَ في حقّهم مقصوده تذكرتهم بالاستمرار علي إيمانهم والعمل بكل أخلاق إسلامهم – ويؤمن باليوم الآخر أيْ بالبَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت وبالحساب والعقاب والجنة والنار، وعَمِلَ صالحاً أيْ وعمل بكل أخلاق إسلامه في كل شئون حياته، فهؤلاء بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)" أيْ وهم أيضا بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51) ، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا .. هذا، والعكس صحيح بالقطع، أيْ مَن بَقِيَ علي اليهودية أو النصرانية أو بلا دينٍ ولم يُسْلِم، أو مَن كان مسلما لكنه يترك العمل بأخلاق إسلامه كلها أو بعضها، فأمثال هؤلاء سيكونون في خوفٍ وحزنٍ وتعاسةٍ في الداريْن علي قَدْر بُعدهم عن ربهم وإسلامهم
ومعني "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم علي بني إسرائيل ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخذنا منكم عَهْدكم ووَعْدكم المُؤَكَّد أن تُوفوا وتَلتَزِموا ولا تُخْلِفوا العهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. ".. وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ.." أيْ واذكروا أيضا واعْتَبِرُوا حين رفعنا فوقكم جبل الطور الذي بسيناء بمصر وكلّم الله عنده موسي (ص) وأوْحَيَ إليه التوراة حيث رفعناه كأنه مَظَلّة بعد أن اقتلعناه من مكانه بتمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا فكان ذلك آية عظيمة لمَن أراد الاعتبار منكم وتأييداً لصِدْق رسولنا لتَتّبِعوه كما أنه في ذات الوقت كان تَرْهِيباً وتَخويفاً لمَن أراد التكذيب والعِناد والاستكبار وعدم الاتّباع لكي يُرَاجِع ذاته ويَتّبعه فلا يهلك بأنْ نُوقِعه عليه.. ".. خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ.." أيْ وقلنا لكم وأوْصَيْناكم أن خُذُوا ما أعطيناكم إيَّاه مِن نِعَمٍ فى كتابكم التوراة مِن أخلاق الإسلام التي تُناسِب عصركم والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم بقوةٍ أيْ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتكم، واذكروا ما فيه من أخلاقيَّات وتشريعات وأنظمة ولا تَنْسوه وتَدَبَّروه واقرأوه وتَعَلّموه وتَدَارَسُوه واعملوا به كله في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)" أيْ لكي تكونوا بذلك من المُتَّقِين أيْ المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدكم ولو للحظة عن حب ربكم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا تَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل تُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدكم ومَن حولكم.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل الناس ليكونوا كلهم كذلك من المُتّقِين العامِلِين بكل وصايا ربهم وتشريعاته في الإسلام.. "ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64)" أيْ ثم إنكم تَوَلّيتم عن طاعتي من بعد ذلك الأَخْذ لميثاقكم والرَّفْع للطور فوقكم أيْ أعْرَضتم أيْ أعطيتم ظهوركم والتَفَتّم وانصرفتم وابتعدتم عن أخلاق الإسلام وتركتموها وأهملتموها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاومتم نشرها وآذيتم مَن يَتّبعها.. ".. فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64)" أيْ فأنتم بالتالي إذَن تَسْتَحِقّون العقاب الدنيويّ والأخرويّ في مُقابِل ذلك كله ولكنْ لولا فضل الله عليكم أيْ عطاؤه وإحسانه الزائد إليكم ورحمته أي رأفته وشفقته بكم بعدم تعجيل العقوبة لكم لعلكم تعودون لربكم ولإسلامكم وبفتح باب التوبة علي أوسع صورةٍ لكم ولكل البَشَر وإرشادكم إليها وتوفيقكم لها وتيسير أسبابها لكم وقبولها منكم لكنتم حتماً من الخاسرين في الداريْن بسبب تَوَلّيِكُم هذا خُسْراناً حقيقياً ليس بعده خسارة أشدّ منه حيث تَخسرون وتَفقدون دنياكم فتتعسون فيها بصورةٍ ما مِن صور التعاسة ببُعْدكم عن الله والإسلام تَتَمَثّل في قَلَقٍ أو تَوَتّر أو ضيقٍ أو اضطراب أو صراع أو اقتتال مع الآخرين وتخسرون حتما أخراكم يوم القيامة حيث العذاب الشديد علي قدْر شروركم ومَفاسدكم وأضراركم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للذين يَعتدون علي أوامر الله تعالي فيُخالِفونها ويَفعلون الشرور والمَفاسد والأضرار أنَّ النتائج ستكون شديدة السوء في الدنيا ثم الآخرة علي قَدْر مُخَالَفَاتهم حيث لهم درجة مَا مِن درجات العذاب في دنياهم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. أيْ وأنتم بكل تأكيدٍ قد علمتم تمام العلم ما حَدَثَ لبعضكم الذين اعتدوا علي وَصَايَانا وأوامرنا فخَالفوها في يوم السبت، بأنْ صَادوا السمك فيه رغم مَنْعِنا للصيد في هذا اليوم تدريباً لكم علي قوة الإرادة لمصلحتكم ولسعادتكم لكي تنطلقوا بهذه الإرادة القوية في الحياة تقتحمونها وتستكشفونها وتنتفعون وتسعدون بخيراتها، وأيضا اختباراً ليَعلم كل منكم نفسه هل يستجيب ويلتزم بما فيه مصلحته وسعادته فيحمد الله ويستمرّ علي ذلك أم يُخَالِف ويعمل ما يَضُرّه ويُتْعِسه وعليه أن يُصْلِح ذاته ليسعد، فقام هذا البعض بالتّحَايُل بأن نَصَبَ الشباك يومها ثم صاده في اليوم التالي وكأنه سبحانه العالِم بكل شيءٍ لا يَراهم ولا يَعلم حِيَلَهم وأفعالهم!!.. ".. فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)" أيْ فلمَّا فَعَلَ هذا البعض منكم ذلك جعلناهم بقولنا للشيء كُنْ فيَكون كما نُريد قِرَدَة خَاسِئين أيْ بَعيدين مَطْرُودين عن رحمتنا وعن كلّ خيرٍ وعِزّةٍ ذليلين مُهانين حَقِيرين مَنْبُوذِين يَنْفر ويَشْمَئِزّ الناس من مُجالستهم ومُخالطتهم والتّعامُل معهم.. إنهم إمَّا صاروا قردة علي الحقيقة بقُدْرته سبحانه ولم يعودوا بَشَرَاً، وإمّا جعل تعالي فيهم بَلاَدَة كبلادة الحيوانات رغم بقائهم علي هيئة البَشَر بسبب أنهم قد عَطّلوا عقولهم التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان.. "فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66)" أيْ فجعلنا هذه العقوبة عِبْرَة للذين عاصروها ولمَن يأتون بعدها عندما يَتذكّرونها تحذيراً لهم حتي لا يفعلوا فِعْلهم فيُصيبهم ما أصابهم ويتعسوا مثل تعاستهم في دنياهم وأخراهم، والنكال هو العذاب الشديد للعاصِي المُخالِف مُخَالَفَة شديدة والذي يكون عِبْرَة لغيره حتي لا يَخطر بفِكْر أيِّ أحدٍ أن يَفعل مثله ويَتَشَبَّهَ به.. ".. وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66)" أيْ وكذلك جعلناها تَذْكِرَة للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه العِبَر، أمّا غيرهم فلا يَنتفعون بها، أيْ لا يَسْتَرْشِد ويَنتفع ويَسعد بها تمام الاسترشاد والانتفاع والسعادة إلا فقط المتقون – رغم أنها لعموم الناس – حيث هم الذين سيَتَّعِظون بما فيها وسيَستمعون سَماع تَعَقّل وتَدَبُّر وسيَعقلون وسيَتَدَبّرون وسيَعملون وسيَلتزمون بها في كل شئون حياتهم، والمتقون هم الذين يَتجنَّبون كل شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، وذلك لأنهم هم الذين قد أحْسَنُوا استخدام عقولهم فأَسْلَموا واستجابوا لنداء الفطرة بداخل هذه العقول وتمسّكوا وعملوا بكل أخلاق الإسلام (برجاء النظر لمعني الفطرة في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل عن الفطرة)، أمّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ولا يستجيبون لنداء الفطرة بداخلها، كالكافرين أي الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله و كالمشركين أي الذين يُشركون معه في العبادة أيْ الطاعة آلهة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو كوكبٍ أو نحوه وكالظالمين الذين يظلمون غيرهم بكل أنواع الظلم وكالفاسدين الذين يفعلون الشرور والمَفاسِد والأضرار، فكل هؤلاء ومَن يَتَشَبَّه بهم بالقطع لا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنها، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم
ومعني "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)" أيْ هذا تذكيرٌ ببعض الأخلاق السَّيِّئة التي فَعَلها بنو إسرائيل حتي يتجنَّبها المسلم تماما فيسعد في الداريْن والتي منها عدم اتّباع أوامر الله تعالي ووَصَاياه في الإسلام أو المُمَاطَلَة والمُرَاوَغَة والتَّرَدُّد في الاستجابة لها واختلاق الحجج والأعذار للتهرّب من اتّباعها ووَضْع العَرَاقِيل عند تنفيذها لبيان مَشَقّتها وعُسْرها وغُموضها رغم أنها كلها سهلة مُيَسَّرَة واضحة تُيَسِّر كل شئون الحياة لأنها تُوافِق العقل المُنْصِف العادل وتوافق الفطرة التي هي مسلمة أصلا بداخله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من الأعراف، للشرح والتفصيل) ولأنها كلها تُصْلِح وتُكْمِل وتُسْعِد تمام السعادة كل مَن يعمل بها كلها في دنياه وأخراه لأنها مِن الخالق الذي يعلم خَلْقه وكيفية إصلاحهم وتيسير حياتهم وإسعادهم سواء علم الإنسان الحِكْمة من تشريعها أم لم يعلمها فقد يعلمها مستقبلا فيَدْفعه هذا للتمسّك بها والحرص علي العمل بها وعدم اتّباع ما يُخالفها وإلا تَعِس وتَعَسَّرَت حياته تماما فيهما.. إنَّ كل هذه الأفعال وما شابهها مِمَّن لا يَتّبعون أخلاق الإسلام هو لاستكبارهم عليها وتكذيبهم واستهزائهم بها وعنادهم وجدالهم ضدّها لعدم ثقتهم في أنها تُصلح البشرية وتُكملها وتُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)" أيْ واذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قال موسي (ص) لقومه بني إسرائيل إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، وسبب هذا الطلب منهم أنه قد قُتِلَ فيهم قَتِيل لم يَعرفوا قاتله فيكون ذَبْح بقرةٍ مَا مفتاحاً لمعرفة القاتل لتكون مُعجزة إضافية لموسي (ص) لمزيد من عوْنهم علي تصديقه واتّباع الإسلام الذي في التوراة حيث سيَأخذون جزءاً منها بعد ذبحها ويَضربون به المَقتول فيَحيا بقُدْرة الله تعالي ويَدُلّ علي مَن قتله، ولكنهم اسْتَغْرَبُوا وتَعَجَّبُوا أن تكون هناك صِلَة بين قتل القتيل وذَبْح بقرةٍ مَا فقالوا أَتسخر مِنَّا يا موسى؟! كأنهم يرون أنَّ المسألة صعبة على الله تعالى لا يُمكن أن تُحَلّ بمجرّد ذبح بقرة!! بما يُفيد عدم ثقتهم في أنَّ أوامر الله ووصاياه وتشريعاته في الإسلام تحلّ مشكلاتهم وتُيَسِّر حياتهم وتُسعدهم في الداريْن وبما يدلّ علي استكبارهم عليها وعِنادهم لها بل وتكذيب بعضهم بها، فرَدَّ عليهم قائلاً ألْجَأ إلى الله وأعْتَصِم وأَحْتَمِي وأَتَحَصَّن به حتي لا أكون من الجاهلين الذين يقولون أو يفعلون ما لا ينبغي قوله أو فعله فيَستهزئون بأوامره وبخَلْقه فالعاقل لا يفعل ذلك.. هذا، وقد أمرهم تعالى بذبح بقرة وليس أيّ حيوان آخر لأنها من جنس ما عَبَدوه وهو العِجْل ليُنَبِّههم إلي حَقارَة شأن هذا الحيوان الذى عظّموه وعَبدوه وأحَبّوه والذى يُضْرَب به المَثَل فى البَلاَدة وليُبَيِّن لهم أنه حتما لا يصلح أن يكون معبوداً من دونه وإنما هو للحرث والسَّقْى والعمل والذبح والأكل!!.. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)" أيْ إنهم بَدَلاً أن يُسارعوا إلي تنفيذ أمر الله بالاستجابة بذبح أيّ بقرةٍ حيث لم يُحَدِّد لهم سبحانه شروطاً مُعَيَّنة لها تسهيلاً عليهم لسرعة حلّ مشكلتهم أخذوا من عدم ثقتهم في فائدة الأمر بالذبح وتَرَدّدهم في تنفيذه يُماطِلون ويَستفسرون عن بعض تفاصيل لعلهم يَجِدون مَخْرَجَاً وسبباً وحجَّة لعدم فِعْله أو التّحَايُل عليه!! فأوْقَعُوا أنفسهم في الشِّدَّة والعُسْر بطَلَبِ الكثير من المُواصَفات والتي قد تُصَعِّب عليهم إيجادها لِذَبْحها، فلا يَفعل المسلم أبداً مِثْلهم بل يأخذ أيْسَر وأسْرَع الطرق لتنفيذ أوامر الله ولا يُعَقّدها ولا يَتَشَدَّد فيها والتي هي كلها قد يَسَّرَ سبحانه فِعْلها لأنها في مصلحته وسعادته، فقالوا لموسي (ص) ادع لنا ربك- وكأنه ليس ربهم أيضا! دلالة علي تكذيبهم واستكبارهم ومُرَاوَغَتهم- ادعوه واسأله في دعائك أن يُوَضِّح لنا ما هي أوْصَاف هذه البقرة.. ".. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ.." أيْ قال لهم إنه أخبرني أنها لا كبيرة في السِّنِّ ولا صغيرة بل هي وَسَط بين الكِبَر والصِّغَر.. ".. فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)" أيْ هذا تجديدٌ وتأكيدٌ للأمر، أيْ إذا كان الأمر واضحا كذلك، فنَفّذوا ما أمركم الله به وسارعوا إلي الاستجابة لتَتَحَقّق مصالحكم فلا عُذْر لكم فالأمور واضحة واتركوا التشديد والتَّمَادِي في العِناد والجِدَال والمُرَاوَغَة ومحاولات التَّهَرُّب من التنفيذ.. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)" أيْ ولكنهم استمرّوا في عِنادهم وجِدالهم ومُرَاوَغَتهم وبَحَثوا عن سؤالٍ آخر فقالوا اطلب لنا من ربك أنْ يُوَضِّح لنا لونها مُتَحَجِّجِين أنَّ ذلك يُسَهِّل عليهم الحصول عليها.. "..قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)" أيْ قال لهم موسي (ص) إنه أخبرني أنها لونها أصفر شديد صافي الصُّفْرَة تُسْعِد المشاهدين لها من جمال لونها ومنظرها وحُسنها.. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)" أيْ لم يَكْفِهم معرفة وَصْف البقرة من حيث سِنّها ولونها لذبح بقرةٍ بهذين الوصفين ولكنهم استمرّوا في جدالهم لكن هذه المرة ظهرت منهم بوادر اعتذارٍ عن كثرة أسألتهم وتأخّرهم في الاستجابة ومحاولة تَبْرير ذلك حيث قالوا اطلب من ربك أن يُبَيِّن لنا ويزيدنا إيضاحاً لحال البقرة التى أمرنا بذبحها حيث إنَّ البقر الموصوف بالوصفين السابقين كثير فاشتبه علينا أيها نذبح، كما أنهم ظَهَرَ منهم استثناء لموقفهم فلن يستمرّوا علي عدم استجابتهم حيث قالوا وإنّا إنْ شاء الله بعد هذا البيان منك لمُهتدون إليها ومُنَفّذون لِمَا تُكَلّفنا به، وفي قولهم هذا ووَعْدهم بالطاعة بدايات استيقاظٍ وعودة لربهم ولإسلامهم ونَدَم علي عدم سرعة الاستجابة لتنفيذ الأمر.. "قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)" أيْ قال لهم موسي (ص) إنه أخبرني أنها بقرة ليست مُذَلّلَة بالعمل فى إثارة الأرض أيْ حَرْثها وتَقْلِيبها ولا فى سَقْى الزرع بتعليقها في الساقية التي تستخرج الماء للزراعة، وذلك لصِغَر سِنّها، وهى سليمة من كل عَيْب، ليس فيها شِيَة أيْ عَلاَمَة من لونٍ آخر يُخَالِف لونها الذى هو الأصفر الفاقع.. ".. قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)" أيْ فلمَّا وَجَدوا أنَّ كلّ أوصافها قد اكتملت قالوا له الآن أتَيْتَ بحقيقة وَصْف البقرة وأحضرتَ البيان الواضح الكامل لمُواصفاتها ولم يَعُد هناك إشكال في الحصول عليها فبَحثوا عنها ووجدوها فذبحوها، وقد كادوا ما يفعلون أيْ قد قارَبُوا ألاّ يَفعلوا ذلك لكثرة أسئلتهم وجدالهم وعِنادهم وتَرَدّدهم وتَشَدّدهم ولكنهم فعلوا في النهاية ولو كانوا استجابوا من أول الأمر لكان أيْسر لهم وأسْعد.. إنَّ الله تعالي قد جعل الإسلام مُيَسَّرَاً وطَلَبَ من الناس اتّباع أخلاقه حتي يُيَسِّرُوا ولا يُعَسِّرُوا في كل شئون حياتهم في كل أقوالهم وأفعالهم مع ذواتهم وغيرهم، لأنَّ في التّيْسِير سهولة ويُسْرَاً وسَلاَسَة وإنجازاً ورِبْحَاً وتشجيعاً ورضاً وأملاً وتفاؤلاً وطموحاً وصفاءً وحباً وصدقاً وتعاوناً وانطلاقاً واستمراراً في كل خير، بينما في التّعْسِير والمُرَاوَغَة والعِناد والإصرار علي الباطل والكِبْر صعوبة وإعاقة وحَوَاجَز وفشل وخسارة ويأس وإحباط وسخط وتشاؤم وكُرْه وخِداع ومُرَاوَغَة.. وبالجملة فإنَّ التيسير سعادة للجميع والتعسير تعاسة لهم، في الداريْن.. "وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين قتلتم نفساً من بينكم يا بني إسرائيل فَادَّارَأْتُم فيها أيْ فتَدَافَعْتُم وتنازعتم في شأنها كل منكم يَدْرَأ أي يَدْفَع عن نفسه تهمة قتلها.. هذا، وقد وُصِفُوا بأنهم جميعا قد قَتَلوا مع أنَّ القاتل بعضهم للتنبيه علي أنَّ الأمة جميعها في تَوَادِّها وتَرَاحُمها وتعاونها وتكافلها كالشخص الواحد وكلها مسئولة عن حماية كل فرد فيها وأنَّ جريمة القتل كبيرة من الكبائر لا تُفْعَل أبداً لأنها لو انتشرت لَفَقَدَ الناس أمَانهم ولتَعِسَ الجميع في الداريْن.. ".. وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72)" أيْ والله تعالى حتماً مُظْهِرٌ ومُعْلِنٌ ما كنتم تُخْفون من الحقيقة في أمر القتيل الذى قتلتموه وتنازعتم فيمَن قتله وذلك ليَتَبَيَّن القاتل الحقيقى بلا ظلم لأيِّ أحدٍ غيره.. "فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)" أيْ فقلنا لكم على لسان رسولنا الكريم موسى اضربوا القتيل ببعض هذه البقرة التي ذبحتموها، بأيِّ جزءٍ منها، فلمَّا ضربتموه بها أحياه الله تعالي القادر علي كل شيءٍ وذَكَرَ اسم قاتله ومات بعدها، ليكون ذلك مُعجزة إضافية لموسي لتُصَدِّقوا أنه رسولنا ولتَتَّبِعوا الإسلام الذي جاءكم به في التوراة لتسعدوا في الداريْن.. ".. كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ.." أيْ كما أحيا هذا القتيل يُحيي الله الموتي يوم القيامة من قبورهم بعد كوْنهم ترابا بأجسادهم وأرواحهم ليُحاسبهم علي الخير خيراً وسعادة وعلي الشرّ شرَّاً وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم فليُحْسِن إذَن كل عاقلٍ الاستعداد بفِعْل كلّ خيرٍ وتَرْك كل شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام.. ".. وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)" أيْ وبهذا يُريكم دلالاته ومُعجزاته الدالّة القاطعة الحاسمة علي تمام قُدْرته وكمال علمه، والتي منها إحياء الموتي، إضافة إلي آياته في كل مخلوقاته المُعْجِزَات المُبْهِرَات في كل كوْنه، لعلكم تعقلون أيْ لعلكم أيها الناس تُحسنون استخدام عقولكم وتَتَدَبَّرون فيها.. هذا، ولفظ "لعلّ" يُفيد الاحتماليّة مع الأمل في التحَقّق ليكون ذلك دافعا وتشجيعا لكل البَشَر ليكونوا كلهم كذلك مُتَدَبِّرين لآياته تعالي مُحْسِنِين الاستعداد لآخرتهم حيث يوم بَعْث الموتي لحسابهم
ومعني "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)" أيْ ثم تَصَلّبَت واشْتَدَّت عقولكم ومشاعركم وأفكاركم بداخلها ولم تكن مَرِنَة رَقِيقَة لَيِّنَة مِن بعد ذلك كله الذي رأيتموه وترونه أمام أعينكم من الآيات والنِّعَم فهي تُشبه الحجارة في صلابتها وشِدَّتها بل هي أشدّ لأنَّ حتي الحجارة منها ما هو أكثر رِقّة ولِينَاً وخيراً ونفعاً حيث يتفجّر من بعضها أنهار المياه الكبيرة المُفيدة النافعة ومنها ما يتشقّق فيَخرج ماء العيون والينابيع ومنها ما يَسقط من أعالي الجبال من خوف الله تعالى وتعظيمه استجابة لأمره بالسقوط لحِكْمَةٍ نافعةٍ ما يريدها، أمّا عقولكم أنتم أيها المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن فإنها لا تتأثّر ولا تَلِين ولا تَستجيب لأوامر الله ووصاياه وتشريعاته وأخلاقِيَّاته والتي ما هي كلها إلا لتُصْلِحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم، ولكم العقاب والعذاب على قَدْر ذلك إنْ لم تعودوا إليه وإلي إسلامكم، فالله تعالي ليس بغافلٍ عن أعمالكم وأقوالكم أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته لأنه معكم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه أينما كانوا، وهو سيُحاسبكم ويُعاقبكم عليها بما يُناسب في الداريْن بدرجةٍ ما من درجات العذاب، في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاككم واستئصالكم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لكم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لكم ، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ .. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائما داعِيَاً إلي الله تعالي ورسوله (ص) والإسلام فيمَن حولك، في كل مكانٍ مُمْكِن، في أهلك وأقاربك وجيرانك وأصحابك وزملاء عملك وأهل شارِعك ومنطقة سكنك وكل مَن تَتَعامَل معهم، لتنشر كل خيرٍ بينهم، ليسعدوا في دنياهم وأخراهم مثلما سَعِدتَ أنت، ولتعود سعادتهم عليك بمزيدٍ من حُسن المعاملات، فتزدادون جميعا سعاداتٍ إلي سعادات، تَتّسِع وتنتشر تدريجيا بين العالمين.. كذلك ستَسعد إذا كنتَ داعِيَاً واعِيَاً، تُحْسِن تجهيز مَن تدعوهم بقُدْوتك الحَسَنة لهم في كل معاملاتك معهم، وتُحسن تَصنيفهم وتَحديد قُدْراتهم ومُوَاصَفاتهم ومَدَاخِل عقولهم ونحو ذلك، فتبدأ بالأسهل والأقرب للخير، ثم الأبْعَد فالأبعد.. وإذا حافظتَ علي أخلاق الإسلام وتمسَّكْتَ وعَملتَ بها كلها وطَبَّقْتها في كل شئون حياتك دون أيِّ زيادةٍ أو نقصانٍ أو حَذْفٍ أو تبديلٍ أو تحريفٍ أو تشويهٍ أو غيره من أجل تحصيل ثمنٍ مَا مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. وإذا كنتَ مِمَّن لا يَستهينون بعذاب الله تعالي وجحيمه الدنيويّ والأخرويّ ولا يَستصغرونه أو يَسخرون منه أو يَنْسونه حيث سيَدْفعهم هذا إلي استسهال فِعْل الشرّ والكذب عليه وعلي ورسوله (ص) واتّباع الباطل ونحو ذلك من الشرور صَغُرَت أم كَبُرَت مُتَوَهِّمِين سهولة العَوَاقِب، فيتعسون في دنياهم وأخراهم علي قَدْر أقوالهم وأفعالهم، بينما فاعِلِي الخير دائما الذين يُحسنون تقدير الأمور وعواقبها يَسعدون دوما فيهما
هذا، ومعني "أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)" أيْ هل تَطْمَعُون أيْ تَأْملون وتَحْرِصون حِرْصَاً شديداً وتَرْغَبُون رَغْبَة كبيرة أيها المسلمون أنْ يؤمنوا لكم أيْ يُصَدِّقوكم ويَتّبِعوا أخلاق الإسلام مثلكم فريقٌ من الناس غاية في السوء سواء أكانوا من اليهود أم النصاري أم الكافرين الذين لا يُصَدِّقون بوجود الله أصلا أم المشركين الذي يُشركون معه في العبادة أي الطاعة غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نَجْمٍ أو نحوه أم الظالمين الفاسدين أم مَن يَتَشَبَّه بهم حيث كان هؤلاء البعض يَسمعون كلام الله في كُتُبه التي فيها الإسلام والتي أرسلها لهم عن طريق رسله لتُسعدهم في الداريْن إذا عملوا بأخلاقها كلها ثم يُحَرِّفونه أيْ يُغَيِّرونه ويَتَلاَعَبون في ألفاظه ومعانيه وتفسيره وتطبيقه مِن بعد ما عَقَلوه أيْ فَهِموه وعَلِموه تماما فهم لم يُحَرِّفوه لأنهم جُهَلاء أو ناسِين مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يُحَرِّفونه عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم وهم يعلمون تمام العلم أنه كلام الله تعالي وأنه الحقّ وأنَّ كتبه المُنَزَّلَة لا يجوز تغيير أيّ حرفٍ منها وأنه حافظها بحِفْظه وبالمؤمنين المتمسّكين العامِلين بها وأنهم مُحَرِّفون مُجْرِمُون كاذِبون مُزَوِّرُون وأنهم مُعَذّبون علي هذا في دنياهم وأخراهم؟!.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنَّ عليكم أيها المسلمون أنْ تكونوا دعاة لله وللإسلام وَاعِين، بأنْ تُحسنوا تَصْنِيف وتحديد قُدْرات مَن تَدْعُونهم ومُواصَفاتهم ومَداخِل عقولهم ونحو ذلك، وأن تُحسنوا تجهيزهم بأن تكونوا دوْماً لهم قُدْوَة حَسَنة في كل معاملاتكم معهم، وأن تعلموا أنَّ هناك من المَدْعُوين أصحاب الشرور المُزْمِنَة التي ستحتاج منكم لجهد كبير ووقت طويل، ولكم ثوابكم العظيم علي قَدْر جهودكم وما تبذلونه من فكرٍ ووقتٍ ومالٍ وغيره، فلا تتوقعون سرعة استجابة كافرٍ مثلا يُحَرِّف كلام الله ورسوله ويُخْفِي الحقائق ويُعانِد في اتّباعها، أو جاهل أمِّيّ لم يستخدم عقله طويلا حتي ضَمر وكان كل ما يعلمه ظنوناً وأوهاماً، أو عاصٍ بمَعَاصٍ كبيرة، أو ما شابه هؤلاء، فابدأوا بالأسهل ثم الأصعب، فهذا في الغالب هو ما يُحقّق أفضل النتائج، والله تعالي يعلم السرّ وما هو أخْفَيَ منه بداخل كل مَدْعو، وعليكم الأسباب وليس عليكم النتائج، فمَن أراد الخير والهُدَيَ منهم سيَسعي إليه بفطرة عقله (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) والتي هي مُبَرْمَجَة أصلاً من خالقها علي الإسلام لو أحسن استخدامها بحُسن استخدام عقله لها ليَسعد، ومَن لم يُرِدْه فسيَظل تعيساً حتي يريده بكامل حرية اختيار إرادة عقله (برجاء مراجعة علاقة مشيئة الله تعالي بمشيئة الإنسان في الهداية للإسلام في الآية (253) من سورة البقرة ، ثم الآيات (46) حتي (50) من سورة المائدة ، ثم الآيات (105) ، (268) ، (269) من سورة البقرة ، ثم الآيات (70) حتي (74) من سورة آل عمران ، للشرح والتفصيل).. إنَّ هذا شيءٌ تُشْكَرُون عليه وهو شدّة الحرص والحب للآخرين ليسعدوا مثلكم في الداريْن، لكن لا يَصِل الأمر بكم لأنْ تحزنوا حزناً شديداً علي عدم إسلامهم لأنه سيُعيقكم عن الاستمرار في دعوتكم لجميع الناس، ثم أنتم لكم أجركم العظيم علي أيّ حال سواء استجابوا أم لا، فلا تَحزنوا ولا تتأثروا ولا تهتمّوا، فلكم في الدنيا تمام السعادة ثم في الآخرة ما هو أتمّ سعادة وأعظم وأخلد، فانْطَلِقوا إذن في حياتكم سعداء بربكم وبإسلامكم، وانطلقوا في دعوتكم لهما، وسيَستجيب الكثيرون وسيَسعدون في الداريْن، بينما المُعاندون للاستجابة هم الخاسرون حيث تمام التعاسة فيهما.. إنَّ المشكلة ليست في الآيات المُقْنِعَة لهم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم من أجل أثمان الدنيا الرخيصة.. إنه ليس مهمَّة الرسل ومهمتكم أيها المسلمون من بعدهم إلا البلاغ المُبِين، أي التبليغ والتوصيل والتذكير المُبَيِّن للإسلام الذي أوحاه إليه ربه، أي التبليغ الواضح الذي يُبَيِّن أين الصواب من الخطأ وأين الخير من الشرّ وأين السعادة من التعاسة، فإنْ فعَلَ ذلك وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعده هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ مَا نحو مَدْعُويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يُناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوماً مَا ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوان، كما أنه تسلية وطَمْأَنَة وتَبشير وإسعاد لكل المسلمين
ومعني "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)" أيْ وكيف تَطمعون في إيمان مِثْل هؤلاء البعض الذين سَبَقَ ذِكْرهم وهم أيضا منافقون يُظهرون الخير ويُخفون الشرَّ كما أنهم يَكتمون الحقائق التي عندهم في التوراة وتُفيد بمَجِيء رسولٍ بعد موسي وعيسي وهو محمد (ص) وعليهم أن يَتّبِعوه ويُسْلِموا؟! فهم إذا قابَلوا الذين آمنوا في مكانٍ مَا قالوا آمَنَّا أيْ صَدَّقنا مثلكم بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملنا بأخلاق الإسلام، وذلك لكي ينتفعوا بما عندهم وبوجودهم بينهم ويعلمون أسرارهم ويفشونها وينشرون الشرّ والفساد والضَّرَرَ فيهم وما شابه هذا مِمَّا يحاولون به أن يَضرّوهم ويُضْعِفوهم، وإذا ذَهَبوا وانْفَرَدوا ببعضهم البعض قالوا فيما بينهم مُحَذّرِين هل تُحَدِّثون المؤمنين بالذي فَتَحَ الله به عليكم أيْ أخبركم به وعَرَّفَه وبَيَّنَه وقَضَاهُ لكم في التوراة مِمَّا يشهد بأنَّ ما هم عليه هو الحقّ لكي يُحَاجّوكم به أيْ يُخاصِموكم ويجادلوكم وتكون لهم الحجَّة أي الدليل به عليكم عند الله يوم القيامة؟! إنهم بهذا سيَغلبونكم في الدنيا عند ربكم أيْ عند ذِكْر الله والإسلام ثم في الآخرة عنده ولن تكون لكم أيّ حجّة تَتَحَجَّجُون بها أو عُذْر تَعتذرون به في عدم إسلامكم مثلهم لأنهم سيقولون لكم كنتم عالِمين من خلال التوراة بنُبُوَّة نبينا محمد (ص) فلا عُذْر لكم إذَن في أنكم لم تُسلموا بما يدلّ علي أنكم كذّبتم وعانَدْتم واستكبرتم عن علمٍ وعَمْدٍ وسوءِ قَصْدٍ وليس عن جهلٍ قد يكون لكم عذراً حيث قد عَطّلتم عقولكم وأخْفَيْتم الحقائق من أجل تحصيل أثمان الدنيا الرخيصة.. وذلك لأنه كانت تَنْزِلِق ألْسِنَة بعضهم أحيانا أمام المؤمنين بمِثْل هذا الموجود في التوراة معهم أثناء نفاقهم وإظهارهم لإيمانهم حتي يَثِقوا بهم ويُصَدِّقوهم أنهم قد آمنوا بالفِعْل.. ".. أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)" أيْ ألاَ تَتفكَّرون وتَتَدَبَّرون في ذلك وتَتَجَنَّبونه تماما، أفلا تُحسنون استخدام عقولكم، أليس لديكم عقول تمنعكم من هذا التَّحَدُّث مع المؤمنين بما يُقيم الحجَّة لهم عليكم؟!
ومعني "أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)" أيْ هل لا يعلم أمثال هؤلاء أنَّ الله تعالي معهم ومع كلّ خَلْقه بعلمه وبقُدْرته أينما كانوا فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة في كلّ كوْنه ويعلم كل ما يُسِرّون وما يُعلنون كبيره وصغيره وما يَفعلون من جرائم وسيُحاسبهم ويُعاقبهم عليها كلها إنْ لم يتوبوا منها بما يُناسبها بدرجةٍ ما من درجات العذاب في الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ؟!.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. والاستفهام والسؤال في الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من حالهم السَّيِّء هذا ولمحاولة إيقاظهم ليعودوا لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن
ومعني "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)" أيْ وكيف تَطمعون في إيمان مِثْل هؤلاء البعض الذين سَبَقَ ذِكْرهم وهم منهم أيضا جَهَلَة يَجهلون القراءة والكتابة لا يَعرفون عن كتبهم التي أنزلناها إليهم مع رسلنا وفيها الإسلام كالتوراة وغيرها إلا أماني أيْ أمْنِيات يَتَمَنّونها في أنفسهم فاسدة وَهْمِيَّة ليست حقيقية وأكاذيب تَتّفِق مع أمانيهم لفَّقها لهم علماؤهم وأساتذتهم ودعاتهم وألقوا في فكرهم أنها حقائق من الكتاب الذي أرسلناه لهم مثل أنَّ الجنة لا يدخلها إلاّ هم وأنَّ النار لا تَمَسّهم إلا أياماً معدودة وأنهم أبناء الله وأحباؤه وما شابه ذلك من تخاريف وأوهام وظنون، ولقد صَدَّقَ هؤلاء الأمِّيّون هذه التخاريف لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)" أيْ وما هم إلا قوم يَتَوَهَّمون بل ويَكذبون وأقْصَيَ أمرهم الظنّ من غير علم.. أيْ هذا مزيدٌ من وَصْفهم بالجهل لأنَّ أمنياتهم هذه من باب الأوهام التى لا تستند إلى دليلٍ أو من باب الظنِّ الذى لم يَصِل إلي درجة القطع واليقين والظنّ ليس له أيّ قيمةٍ حتما بجانب الحقّ الثابت المُؤَكَّد الواضِح
ومعني "فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)" أيْ إذا كان الأمر كذلك كما ذُكِرَ لكم في الآيات السابقة فهلاك وعقاب وعذاب شديد بالتالي إذَن حتماً – والوَيْل كلمة جامعة لكلّ عقابٍ وعذابٍ وخوفٍ وحزن وحَسْرةٍ وألم– لكل الذين يكتبون بأيديهم الكتابات والتفسيرات المُحَرَّفَة المُشَوَّهَة الفاسدة لكُتُبِ الله تعالي بَدَلاً مِمَّا اشتملت عليه من حقائق ثم يقولون كذباً وزُورَاً للجَهَلَة المُعَطّلين عقولهم الذين يَستمعون إليهم ويَتّبعونهم بغير تَعَقّل وتَعَمّق وتَدَبُّر هذا من عند الله وهو تفسيرٌ ومَقْصِدٌ ومُرادٌ لكلامه سبحانه، ليأخذوا فى مُقابِل ذلك ثمناً ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فعذاب عظيم لهم بسبب ما قاموا به من أيِّ تحريفٍ أو تبديلٍ أو زيادةٍ أو نقصانٍ لكلام الله تعالي وتفسيراته وأهدافه، وعذاب عظيم لهم من أجل ما اكتسبوه بغير حقّ من الدنيا الرخيصة الزائلة.. هذا، وتكرار لفظ "وَيْل" هو لمزيدٍ من الترهيب والتهديد والتغليظ لسوء فِعْلهم والتأكيد علي شدّة عذابهم واستحقاقهم له.. هذا، والوَيْل يكون في الداريْن إنْ لم يتوبوا بما يُناسبهم بدرجةٍ ما من درجات العذاب في دار الدنيا أولا بقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة بكلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك) ثم في الدار الآخرة سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وتعاسة وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
ومعني "وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)" أيْ ومن أكاذيبهم وافتراءاتهم وتخريفاتهم وأمنياتهم التي قالوها ويقولونها اسْتِخْفافاً بعذاب الله أنه لن تلمسنا النار في الآخرة مهما فعلنا من شرور ومَفاسد وأضرار إلا أياما قليلة يُمكن عَدَّها ويُمكننا تَحَمّلها وتجاوزها والنجاة منها بعدها!!.. قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم رَدَّاً علي سفاهاتهم هذه بما يُسْكِت ألسنتهم هل أخذتم من الله عهداً بذلك حتى يكون الوفاء به مُتَحَقّقاً لأنَّ الله لن يُخْلِف عهده حتما؟! أم تقولون على الله الكذب جَهْلاً وجَرَاءَة عليه؟! إنه ليس هناك أيّ عهدٍ قطعاً وإلا فأظهروه ليَظْهَرَ صِدْقكم! فأنتم إذَن بالقطع كاذبون.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)" أيْ ليس الأمر كما تَدَّعُون كذباً وزُورَاً من أكاذيب وافتراءات وتخريفات وأمنيات أنه لن تلمسكم النار في الآخرة مهما فعلتم من شرور ومَفاسد وأضرار إلاّ أياما قليلة يُمكن عَدَّها ويُمكنكم تَحَمّلها وتجاوزها والنجاة منها بعدها بل الحقّ الذي يشملكم ويشمل الجميع أنه مَن كَسَبَ سَيِّئَة وهي الصغير من الذنوب أيْ عمل شرَّاً مَا وأحاطَت به خطيئته أيْ لَفّته خطاياه من كل جانبٍ واسْتَوْلَت عليه والخطيئة هي الذنب العظيم ومات علي ذلك من غير أن يتوب إلى الله تعالى منها فهؤلاء أصحاب النار بالقطع أيْ الذين يمتلكون فيها مُسْتَقَرَّاً لعذابٍ شديدٍ لا يُوصَف علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم المُصَاحِبُون المُلازِمُون لها كمُلازَمَة الصاحب لصاحبه ، وإنْ وَصَلَت بهم خطيئاتهم إلي الكفر أيْ التكذيب بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره أو إلي الشِّرْك وهو أن يشركوا في عبادة أيْ طاعة الله معه غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه فهم فيها خالدون أيْ سيَبْقون فيها مُستمرّين إلي ما شاء الله لا يُمْنَع عنهم عذابها لحظة فهم في إقامة دائمة أَبَدِيَّة بلا أيّ نهايةٍ ولا أيّ نقصانٍ أو تغييرٍ أو تَحَوُّلٍ عنها أو تَرْكٍ لها بما يُفيد تمام العذاب المُتَزَايِد المُتَنَوِّع الذي ليس معه أيّ أملٍ في النجاة منه أو حتي تخفيفه.. وذلك قطعا بعد نار وعذاب الدنيا الذي كانوا فيه بسبب بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم والذي تَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كل ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)" أيْ وبعد أنْ ذَكَرَ تعالي حال التعَسَاء في دنياهم وأخراهم يَذْكُر حال السُّعَداء فيهما ليكون ذلك أشدّ تأثيرا في العقول لأنه بالضِّدِّ تَتَمَيَّز الأشياء فيَدْفع هذا كلّ صاحب عقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ لأنْ يُحْسِن الاختيار باتِّباع كل أخلاق الإسلام ليسعد تمام السعادة في الداريْن.. أيْ والذين صَدَّقوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبحسابه وعقابه وجنته وناره، وعملوا الصالحات أي عملوا بكل أخلاق إسلامهم فكانت كل أقوالهم وأعمالهم ما استطاعوا في كلّ خيرٍ من غير أيّ شرٍّ ولو فُرِضَ وفعلوه تابوا منه سريعا وأوَّلاً بأوَّل، هؤلاء هم حتما المُسْتَحِقّون لأن يكونوا أصحاب الجنة أي مُلّاكُها بكل ما فيها مِن نعيمٍ لا يُمكن تَخَيّله المُصاحِبين المُلازِمين لها والذين يُقيمون فيها خالدين أي لا يُخرجون منها أبدا بلا نهاية ولا تغيير ولا تناقص بل في تزايُدٍ وتَنَوّع وإبْهارٍ في درجاتها علي حسب أعمالهم كجزاءٍ وأجرٍ وعطاءٍ وفي مُقابِل ما كانوا يعملونه من أعمالٍ حَسَنةٍ في حياتهم الدنيا.. إضافة قطعا إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (86)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دوْما مِن المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما.. وإذا كنت مؤمنا لا كافرا (برجاء مراجعة الآية (6) ، (7) من سورة البقرة ، للشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ عابدا أي طائعاً لله تعالي وحده ولا تشرك معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة).. وإذا أحسنتَ قَدْر استطاعتك إلي والديك وإلي كلّ كبيرٍ بكل أنواع الإحسان القوليّ والعمليّ وإلي أقاربك وجيرانك واليتامي والمساكين والمحتاجين بل وللناس جميعا مهما كانت أفكارهم أو ثقافاتهم أو أعراقهم أو دياناتهم.. وإذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيَّات والمعاملات.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحَرِّمون سَفْك أيّ قطرة دم إلاّ بسبب، ومِمَّن يَحترمون أمن الخَلْق فلا يُخرجونهم من ديارهم وأوطانهم ظلماً وعدواناً، ومِمَّن يُوفون بإقراراتهم وشهاداتهم، ومِمَّن لا يُظاهرون أيْ يُعاونون أيَّ آثمٍ مُعْتَدٍ، ومِمَّن يُحسنون إلي أيِّ أسير.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء ، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخذنا عَهْداً ووَعْداً مُؤَكَّداً من بني إسرائيل أيْ اليهود من خلال ما أوْصيناهم به في التوراة –وهذا العهد هو أيضا مع جميع الخَلْق منذ آدم حتي يوم القيامة في كل كتب الله تعالي وآخرها القرآن العظيم– أن لا يعبدوا أيْ لا يُطيعوا إلا الله وحده ولا يشركوا معه شيئا آخر، فهو الإله المعبود الواحد أي الذي ليس معه شريك، الأحد أي الذي لا يَتكَافيَء معه شيء (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة)، وأن يُحسنوا إلى الوالدين وإلي كلّ كبيرٍ بكل أنواع الإحسان القوليّ والعمليّ وإلي الأقارب والأنساب والجيران والأصدقاء والزملاء واليتامي الذين مات آباؤهم وهم صغار السِّنّ والمساكين أيْ المُحتاجين لكلّ أشكال العوْن، وأن يقولوا للناس عموما بلا تمييزٍ بينهم أحسن وأطيب الكلام الحقّ العدل المُفيد المُسْعِد في الداريْن بأحسن أسلوبٍ وتوقيتٍ، وأن يقيموا الصلاة أيْ يُواظِبوا علي تأدية الصلوات المفروضة عليهم وأن يُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطاعوا أيْ يُحسنوها ويُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن، وأن يُؤْتُوا أي يُعطوا الزكاة المفروضة عليهم لمُسْتَحِقِّيها إنْ كانوا مِن أصحاب الأموال.. ".. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)" أيْ ثم إنكم مُعْظمكم –إلا القليل منكم ثَبَتَ علي إسلامه ووَفّيَ بعهده مع ربه– تَوَلّيتم عن طاعة الله مِن بعد ذلك الأَخْذ لميثاقكم أيْ أعْرَضتم أيْ أعطيتم ظهوركم والتَفَتّم وانصرفتم وابتعدتم عن أخلاق الإسلام وتركتموها وأهملتموها بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاومتم نشرها وآذيتم مَن يَتّبعها.. ".. وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد علي إعراضهم أيْ وأنتم مُسْتَمِرّون في إعراضكم مُصِرُّون تمام الإصرار عليه.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي يسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما كتعاساتهم
ومعني "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84)" أيْ وأيضا اذْكُر وذَكّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخذنا عَهْدكم ووَعْدكم المُؤَكَّد أن لا تسفكوا دماءكم أيْ لا يَجْرَح أو يقتل بعضكم بعضا ولا يُخْرِج بعضكم بعضا من مساكنكم وأوطناكم، ظلماً وعدواناً، ثم أقررتم أيْ اعترفتم بذلك العهد أنه في الكتاب الذي أنزلناه إليكم وأنتم تشهدون على صِدْقِه وصِحَّتِه تماما وعلي أنكم ستَلتَزِمون وسَتُوَفّون به، فكان من الواجب عليكم بالتالي إذَن أن تُوَفّوا به لا أنْ تُخَالِفوه!.. هذا، والتعبير عن قتلِ بعض النفوس وإخراجِ البعض بأنه لأنفسهم جميعا هو تنبيهٌ على أنْ يكون المؤمنون أمة واحدة مُتَعَاوِنَة بحيث تكون إصابة عضوٍ منها كأنه لجميعها وذلك لكي تَقْوَيَ وتَرْقَيَ وتَسْعَد في الداريْن وإلا تَعِسَت فيهما.. فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي يسعد في دنياه وأخراه ولا يتعس فيهما كتعاساتهم
ومعني "ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)" أيْ ثم أنتم يا هؤلاء مِن بعد ذلك الأَخْذ لميثاقكم ومِن بعد أن أقررتم وشهدتم علي هذا الميثاق تَنْقضون عهدكم، يَقتل بعضكم بعضاً ويُخرج بعضكم بعضاً من مساكنهم وأوطانهم وينهبون ثرواتهم وتَتَظاهرون أيْ وتتعاونون مع غيركم علي هؤلاء الذين تقتلونهم وتخرجونهم بكل إثمٍ وعدوانٍ أيْ بكل شرٍّ ومعصيةٍ واعتداءٍ وظلمٍ أيْ ظلماً وعدواناً وليس لكم أيّ حقّ في ذلك.. ".. وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.." أيْ هذا بيانٌ لتَنَاقض أمثال هؤلاء وتفريقهم بين تشريعات الله تعالي حيث يعملون ببعضها ويتركون البعض الآخر حسبما يريدون من أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ وإنْ وَجَدْتم الذين تُقاتلونهم وتُحاولون قتلهم والذين أخرجتموهم من ديارهم وهم من بينكم أسرى عند أعداءٍ لكم فإنكم تجتهدون فى إنقاذهم من الأسْرِ بالفداء أيْ بدفع الفِدْيَة وهي ما يُدْفَع من مالٍ أو غيره في مُقابِل إطلاق سراحهم، والحال أنَّ قتالهم وقَتْلهم وإخراجهم هو أصلاً مُحَرَّمٌ عليكم في حُكْم الله تماما مثل تَرْكِهم أسرى فى أيدى أعدائكم فلماذا إذَن لم تَتّبعوا حُكْمه سبحانه بالامتناع من الأصل عن قتالهم وإخراجهم ونهب أموالهم كما تحرصون علي اتّباع حكمه فى مُفادَاتهم؟!.. ".. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.." أيْ إذا كان هذا حالكم فهل تُصَدِّقون بالتالي ببعض ما جاء في الكتاب من تشريعات وأخلاقيات الإسلام وتعملون به وتُكَذّبون بالبعض الآخر وتتركونه؟! ما أسوأ وأقبح ما تفعلون! والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن وإلا تَعِس فيهما علي قَدْر بُعْدِه عنهما وتَرْكه لهما.. ".. فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ .." أيْ فليس بالتالي لمَن يفعل ذلك، أيْ يؤمن ببعض الإسلام ويكفر ببعضه الآخر فيَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات، منكم أو من غيركم، ليس لهم جزاء ومُقابِل إلاّ خِزْي في الحياة الدنيا أيْ عذاب دنيويّ يصيبهم من الله تعالي يَجعلهم يستشعرون الخِزْي أيْ الذلّة والانحطاط والعار والفضيحة، كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. وأيضا يوم القيامة يُرْجَعُون إلي عذابٍ آخر إضافة إلي ما كانوا فيه في دنياهم ولكنه حتما أعظم وأتمّ العذاب الذي لا يُوصَف حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم ، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)" أيْ وليس الله تعالي حتماً بغافلٍ عن أعمالكم وأقوالكم أنتم يا أمثال هؤلاء ويا كل المسلمين ويا كل الناس أيْ لا يَنشغل عنها ولا يَنساها ولا تَفُوته لأنه معكم ومع كل خَلْقه بقُدْرته وعلمه أينما كانوا، وهو سيُحاسبكم عليها في دنياكم وأخراكم بالخير خيراً وسعادة وبالشَّرِّ شرَّاً وتعاسة بما يُناسب بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم
ومعني "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (86)" أيْ هذا بيانٌ لسَفَهِهِم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم، أيْ هؤلاء المَوْصُوفون بالصفات السيئة في الآيات السابقة هم الذين بالفِعْل قد باعوا الآخرة واشتروا بدلاً منها الحياة الدنيا! دَفَعوا الآخرة بجناتها الخالدة التي لا تُوصَف حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر ثمناً لسلعةٍ رخيصةٍ دنيئةٍ زائلةٍ يوماً مَا بالموت أو بنهايتها لا تُقارَن بها مهما كانت هي الدنيا!! باعوا الهُدَيَ وهو كلّ خيرٍ واشتروا بدلاً منه الضلالة أي الضياع! دَفَعوا الهدي وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الضلالة!! باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم !! تركوا السعادة التامَّة في الداريْن لو كانوا عملوا بكل أخلاق إسلامهم وأخذوا التعاسة فيهما بالقَدْر الذي يُناسِب عدم عملهم بالإسلام كله أو بعضه!!.. ".. فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ.." أيْ فبالتالي إذَن وبسبب بَيْعِهم هذا للهُدَيَ وشرائهم للضلالة وفِعْلهم للشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات لا يُخَفّف الله تعالى عنهم العذاب المُناسب الذي سيُصِيبهم في دنياهم وأخراهم لأنَّ أسبابه موجودة ولم يتوبوا ويتخلّصوا منها ويعودوا لربهم ولإسلامهم ليَنجو منه وليَسعدوا في الداريْن.. ".. وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (86)" أيْ وحينها لا يُمكن أبداً لأيّ قريبٍ أو صديق أو مُحِبّ أو ناصر أو حَليف أو نحوه مهما كان شأنه أن يفيد وينفع قريبه أو صديقه أو مُحِبّه أو حَليفه بأيِّ شيءٍ من النفع، ولا يمكنهم ولا غيرهم نصر بعضهم بعضا بدفع أيّ عذاب عن أنفسهم يستحِقّونه من ربهم، لأنّ أحدا من الخَلْق لا يملك من الأمر شيئا فالأمور كلها بيد خالقها سبحانه مالِك المُلك كله والمُتصرّف فيه وصاحب السلطان عليه، وكل إنسان سيتحمّل تماما نتيجة كل أقواله وأفعاله ما هو خير منها وما هو شرّ، فهذا هو تمام العدل، فليُحسن العاقل إذَن الاستعداد لمِثْل ذلك اليوم بفِعْل كل خير وترك كل شرّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) ۞ وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)" أيْ هذا مزيدٌ من التذكير بالنِّعَم التي لا تُحْصَيَ علي بني إسرائيل أي اليهود ومن التفصيل لها لتُضِيفَ إليهم عوْناً أكثر علي الشكر كلما تَذَكّروها، وأهم هذه النِّعَم إرشادهم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بالتوراة التي فيها أخلاق الإسلام التي كانت تُناسب عصرهم والتي جاءهم بها رسولهم الكريم موسي (ص)، ولكنهم لم يُحسنوا التمسّك والعمل بها.. وهذا أيضا تَسْلِيَة وطَمْأَنَة وتَبْشِير للرسول الكريم محمد (ص) وللمسلمين من بعده وتخفيف عنهم ممّا يُلاقونه من المُكذبين المُعاندين المُستكبرين حولهم وعوْن لهم للصبر علي أذاهم والاستمرار في التمسّك والعمل بإسلامهم ودعوة غيرهم له، حيث يُخبرهم ربهم أنّ التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء ليس أمرا جديدا أو لهم وحدهم! فلقد أعطينا موسي الكتاب – وهو التوراة – سابقا كما أعطيناكم أنتم القرآن الآن ، فاختَلَف الناس في أمره كما يختلفون في القرآن، فمنهم مَن صَدَّقَ به وعمل بكل أخلاقه فسَعِدَ تمام السعادة في الداريْن ومنهم مَن كذّبَه وعانَدَه واستكبر عليه وعاداه فتَعِسَ تماما فيهما.. ".. وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ.." أيْ ولكي يستمرّ صَلاَح الناس وكمالهم وسعادتهم تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، أتْبَعْنَاه مِن خَلْفِه أيْ أرسلنا مِن بَعْدِه، رسولاً بعد رسول.. ".. وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ.." أيْ وأعطينا رسولنا الكريم عيسي ابن مريم (ص) الذي هو قَبْل الرسول الكريم محمد (ص) خاتم النّبِيِّين البَيِّنَات وهي الواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عند الله وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها وذلك حتي يَثِقوا فيه ويَتّبِعوا الإسلام الذي يُوصِيهم به وهذه البَيِّنَات تشمل المُعْجِزات التي جَرَت علي يديه والتي منها مثلا إحياء الموتي وإشفاء المرضي وخَلْقه من الطين كهيئة الطير فيَنفخ فيها فتكون طيراً وكل ذلك وغيره هو بأمر الله تعالي وقدْرته، كما أنَّ البَيِّنَات تشمل أيضا الإنجيل بما فيه من إسلامٍ كان يُناسب عَصْره ليكون مُبَيِّنَاً وهادِيَاً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن.. ".. وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.." أيْ وقَوَّيْناه ونَصَرْناه بالروح المُقَدَّس أيْ المُطَهَّر من كل شَرّ والمقصود به جبريل عليه السلام الذي كان يُجْرِي علي يدِ عيسي (ص) مُعْجِزاته بأمر الله أو يُقْصَد به الإسم الأعظم لله تعالي الذي كان يَذْكُره عيسي عند إحياء الموتي وفِعْل المُعجزات.. ".. أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)" أيْ هل كلما جاءكم يا يهود رسول بوَحْيٍ من عندنا فيه شرعنا الإسلام والذي هو بما لا تُحِبّه عقولكم من شرور ومَفاسد وأضرار اسْتَعْلَيْتم عن اتّباعه والإيمان أيْ التصديق به واتّباع أخلاق الإسلام التي يُوصِيكم بها لتَسعدوا في دنياكم وأخراكم فأدَّيَ بكم هذا الاستعلاء علي الرسل أنْ كذّبتم فريقاً منهم وقتلتم فريقاً آخر ولم تكتفوا فقط بتكذيبهم؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن
ومعني "وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ (88)" أيْ هذا بيانٌ لبعض ما يقوله المُكَذّبون المُعانِدون المُستكبرون المُستهزؤن في كل زمانٍ ومكانٍ للمسلمين الذين يدعونهم لله وللإسلام بما يَدلّ علي تمام إصرارهم علي تكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم وكمحاولةٍ منهم لن تنجح قطعا لتَيْئيسهم من دعوتهم حيث يقولون لهم قلوبنا غُلْف أيْ عقولنا مُغَلّفَة بأغْلِفَة تَمنع فَهْم ما تقولون!! فأنتم علي دينٍ وحالٍ غير حالنا، فليس هناك إذَن أيّ أملٍ في أن نسمع أو نعقل منكم أيّ شيءٍ أو نستجيب لكم ولا التقاء بيننا وكلٌّ منّا في طريق غير الآخر!.. ".. بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ.." أيْ ليس الأمر كما يَدَّعون كذباً أنَّ عقولهم غُلْف بحيث لا يَصِل إليها الإسلام بل هى مُتَمَكّنَة تماما من قبوله من خلال الفطرة التي جعلها الله تعالي مُسْلِمَة أصلا بداخل هذه العقول (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) ولكنهم كفروا أيْ كذّبوا بوجود ربهم وبرسله وبكتبه وبآخرته وبجنته وناره وحسابه وعقابه واسْتَعْلَوْا علي إسلامه واستهزأوا به ولم يعملوا بأخلاقه وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار واختاروا ذلك بكامل حرية إرادة عقولهم حيث لم يُحسنوا استخدامها لأنهم قد عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلَعَنَهم الله بسبب هذا أيْ طَرَدَهم وأبْعَدَهم من رحماته وإسعاداته في دنياهم وأخراهم.. ".. فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ (88)" أيْ فبالتالي، فبسبب كفرهم هذا والذي أدَّيَ إلي لعنة الله عليهم وغضبه منهم وعدم توفيقه لهم بتيسير أسباب الهداية إليهم حيث لا يُيَسِّرها إلاّ لمَن يريدها هو بكامل حرية إرادة عقله، ففي قليلٍ من الأحيان يُؤمنون أمثال هؤلاء وعدداً قليلاً منهم يؤمنون وهم الذين يَستيقظون ويُحسنون استخدام عقولهم ويستجيبون لنداء الفطرة بداخلها
ومعني "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان والتأكيد علي أنَّ بعض أمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين من اليهود والنصاري ومَن يَعبد أيْ يُطيع غير الله تعالي كصنمٍ أو نجمٍ أو نحوه ومَن يَتَشَبّه بهم يكفرون بالقرآن العظيم ولا يَتّبعون الإسلام ليس عن جهلٍ أو نسيانٍ مثلا أو نحو ذلك مِمَّا قد يجعل لهم عُذْرَاً ولكنهم يُكَذّبون عن علمٍ وعِنادٍ وتَعَمّدٍ فهم يعلمون تمام العلم أنه كلام الله تعالي وأنه الحقّ وأنَّ الرسول الكريم محمد (ص) الذي أوُحِيَ إليه به هو الصادق الأمين وأنهم مُعَذّبون علي هذا في دنياهم وأخراهم، وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. أيْ وحين جاء إلى اليهود والنصاري كتابٌ مُوُحَي من عند الله هو القرآن العظيم جاءهم به الرسول الكريم محمد (ص) وهو مُصَدِّقٌ تماماً لِمَا معهم من التوراة والإنجيل والتي فيها وَصْفه وأنه سيُبْعَث بعد موسي وعيسي ومعه الإسلام وعليهم أن يؤمنوا أيْ يُصَدِّقوا به ويُسْلِموا، فهو مُوَافِق ومُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لهما وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولهما بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَهما بعضهما أو كلّهما، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامهم إذَن إنْ كانوا عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به وأن يُسْلِموا ولا يَستمرّوا علي يهوديتهم أو نصرانيتهم.. ".. وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا .." أيْ وأيضا ما يُؤَكّد أنَّ تكذيبهم هو عن علمٍ وعِنادٍ وتَعَمّدٍ وليس عن جهلٍ أو نسيانٍ أنهم كانوا قبل أن يُبْعَثَ الرسول الكريم محمد (ص) يَستفتحون أيْ يَسْتَنْصِرُون به على أعدائهم الذين كفروا بالتوراة والإنجيل في زمنهم حيث يَدْعون الله بحقِّ هذا الرسول الذي سَيُبْعَث أن ينصرهم عليهم فينصرهم كما أنهم أيضا كانوا هم الذين يَفتحون عليهم أيْ يُخبرونهم ويُعَرِّفونهم أنه قد اقترب زمن إرساله من الله تعالي وأنَّ عليهم الإيمان به واتّباع الإسلام الذي معه.. ".. فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ .." أيْ ورغم كل ذلك فعندما جاءهم ما عرفوا معرفة تامّة مُؤَكّدة مَوْثُوقة صادقة وهو الرسول الكريم محمد (ص) والقرآن العظيم والإسلام كفروا أيْ كذّبوا به ولم يَتّبعوه!!.. ".. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)" أيْ فاستحقّوا بالتالي بكفرهم هذا لعنة الله التي تُصيب الكافرين دائما، واللعنة هي الطرد والإبعاد من رحماته وإسعاداته في الدنيا والآخرة
ومعني "بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90)" أيْ هذا بيانٌ لسَفَهِهِم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم.. أيْ ما أسوأ ما اشتروه لأنفسهم وأخذوه ورضوه عِوَضَاً!.. إنهم قد باعوا الإيمان الذي هو كل خيرٍ وسعادةٍ لأنفسهم في دنياهم وأخراهم واشتروا لها بدلاً منه أحقر شيءٍ وهو أن يكفروا بما أنزل الله أيْ بالقرآن العظيم وما في ذلك الكفر مِن كلِّ شرٍّ وتعاسةٍ لها فيهما!!.. إنهم قد دَفَعوا الإيمان وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي الكفر!!.. إنهم قد باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم!!.. إنهم قد تركوا السعادة التامَّة في الداريْن لو كانوا عملوا بكل أخلاق إسلامهم وأخذوا التعاسة فيهما بالقَدْر الذي يُناسِب عدم عملهم بالإسلام كله أو بعضه!!.. ".. بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.." أيْ ودَفَعَهم إلي هذا، البَغْي – أيْ الظلم والفساد ويشمل التكذيب عن عِنادٍ وعلمٍ وتَعَمُّدٍ لا عن جهلٍ أو نسيانٍ ويشمل كذلك الكراهية الشديدة للغير والاعتداء عليه والحسد له أيْ محاولة إزالة نِعَم الله عنده بكل الوسائل والإجراءات المُمْكِنَة – لأنْ يُنَزّل الله أيْ لإنْزَال الله من فضله ونعمته وتكريمه وتشريفه القرآن العظيم على رسوله الكريم محمد (ص) الذي شاء أن يُنَزّله عليه من كل خَلْقه لعظيم أخلاقه ولم يُنَزّله علي أحدٍ من بينهم، فرفضوا تماما أن يكون لله مُطْلَق الحرية والاختيار في أنْ يُنَزّل من فضله على مَن يشاء مِن عباده أيْ علي مَن يختاره مِن الناس للرسالة التي سيحملها لهم وهي الإسلام فالرسل في ادّعائهم لا بُدّ أن يكونوا منهم فقط فليس له سبحانه أن يختار رسولا من غيرهم يُطاع ويُتّبَع وتكون له المَكَانَة والقيادة وهم ليسوا كذلك فلذلك لم يَتّبعوه!!.. ".. فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ .." أيْ فانصرفوا ورجعوا بسبب أقوالهم وأفعالهم الدنيئة هذه مُحَمَّلِين بغضبٍ من الله مُلازِمَاً دائماً لهم فلا يُحِبّهم ولا يُوفّقهم ولا يُيَسِّر لهم أمورهم وهو غضب علي غضب أيْ مُتَتَابِع مُتَزَايِد مُتَضَاعِف كثير شديد مُؤَكّد – والغضب منه سبحانه ليس كغضبنا فله المَثَل الأعلي ولكنه يُقَرِّب المعني لأذهاننا لنفهمه – أيْ اسْتَحَقّوا شِدَّة كراهيته لأفعالهم وانتقامه منهم بعقابهم إضافة لِلَعْنَتِه لهم أيْ طَرْدهم من رحمته ورعايته وأمنه ورضاه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده ، وهذا الغضب يكون علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، في دنياهم أولا يَتَمَثّل في قَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم.. ".. وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد لِمَا سَبَقَ ذِكْره مع تخصيص أنَّ عذاب الكافرين حتما يكون مُهيناً حيث سيكون لهم في دنياهم كلّ عذاب يُهينهم ويحطّ مِن شأنهم ليكون مُقابِلا لاستهزائهم بالله ورسله وقرآنه وإسلامه، في التوقيت وبالأسلوب الذي يراه سبحانه مُناسبا مُعَذبا مُهينا لهم، ثم قطعا سيكون لهم في أخراهم من العذاب ما هو أشدّ إهانة وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ
ومعني "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)" أيْ وإذا قال المسلمون لأمثال هؤلاء المُكَذّبين المُعَانِدين المُستكبرين المُستهزئين صَدِّقوا بما أنزل الله وهو القرآن العظيم، قالوا مُرَاوِغِين مُتَعَالِين مُكَذّبين نحن نُصَدِّق فقط بما أنزل الله على رسلنا الذين هم مِنّا لا من غيرنا كالتوراة التي أنزلت علي موسي (ص) والإنجيل الذي أنزل علي عيسي (ص) وغيرهما ونحن نكتفي بذلك ولسنا في حاجة لإيمانٍ بشيء آخر، ويُكَذّبون بما بعد ذلك وهو القرآن الذي أنزل علي الرسول الكريم محمد (ص) والذي هو الحقّ أيْ الصدق مُصَدِّقا لما معهم من الكتب أيْ مُوَافِقَاً ومُؤَيِّدا ومُؤَكِّدا ومُبَيِّنا ومُتَمِّما لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن إنْ كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل أن تكونوا أنتم أول مَن يُسارع إلي أن يكفر أي يكذب به مِن حيث وجب أن تكونوا أنتم أول مَن يُسارع إلي أن يؤمن به لأنكم أصحاب كتابٍ وأهل علمٍ وأدْرَىَ الناس بأنه من عند الله وأكثرهم تأكّداً بأنَّ الرسول الذى نَزَلَ عليه هذا القرآن هو الصادق الأمين كما تُسَمُّونه فيما بينكم، فتكذيبكم له هو ضِمْنَاً تكذيب لِمَا معكم ولو كنتم تؤمنون بكتبكم حقًا لآمنتم به وهو الذي صدَّقها ولكنكم كاذبون مُرَاوِغون!!.. ".. قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)" أيْ قل لهم واسألهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بعده لتُخْرِس ألسنتهم ولتَكْشِف كذبهم وزَوَغَانهم لو كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم كما تَدَّعون كذباً وزُورَاً فلم قتلتم أنبياء الله من قبل زمن محمد (ص) الذين كانوا يَدْعونكم للإسلام مثل زكريا ويحي وغيرهما عليهم السلام جميعا؟! إنَّ قتلكم لهم هو دليل قاطع علي عدم إيمانكم بما دَعوكم إليه! وهل القتل من الإيمان وقد أمِرْتُم به في كتبكم؟! إنكم لا تؤمنون بشيءٍ لا بما عندكم ولا بما جاءكم من قرآنٍ كريم!
ومعني "وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) " أيْ هذا بيانٌ لجرائم وفظائع أخري ارتكبها أمثال هؤلاء الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة تدلّ دلالة قاطعة على أنهم لم يؤمنوا بما أنزل عليهم كما يَدّعون كذبا وزُورَاً، ومن هذه الجرائم البشعة عبادتهم العجل.. أيْ ولقد جاءكم أيها اليهود رسولنا الكريم موسي بالبينات أي بالواضِحات مِن كلّ الدلالات التي تُثبت صِدْقه وأنه من عند الله وأنه سبحانه هو وحده المُسْتَحِقّ للعبادة أي الطاعة وأنَّ دينه الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها وذلك حتي تَثِقوا فيه وتَتّبِعوا الإسلام الذي يُوصِيكم به وهذه البَيِّنَات تشمل المُعْجِزات التي جَرَت علي يديه والتي منها مثلا انقلاب العصا ثعباناً وشَقّ البحر عند ضربه بها لإنجائكم وإهلاك عدوكم، كما أنَّ البَيِّنَات تشمل أيضا التوراة بما فيها من إسلامٍ كان يُناسب عَصْره ليكون مُبَيِّنَاً وهادِيَاً للناس لكل خيرٍ وسعادةٍ لهم في الداريْن.. ".. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) " أيْ ثم مِن بعد ذهابه وأثناء غيابه عند جبل الطور بسيناء بمصر لإنزال التوراة عليه وتعليمها له ليُعَلّمكم إيّاها لتكون إرشاداً لكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في دنياكم وأخراكم ومِن بعد حالكم الذي شاهدتم فيه تلك المُعجزات التى تَبَيَّنَ بها صِدْقه فيما يُبَلّغكم عن الله جعلتم العجل الذي صنعتموه بأيديكم إلاهاً لكم تعبدونه أيْ تطيعونه غير الله تعالي وأنتم ظالمون حتما بفِعْلكم الدنِيء هذا حيث تعبدون عِجْلا !! أين عقولكم هل أصابكم الجنون ؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة ؟! لقد تَركتم عبادة خالقكم الذي أنجاكم وأنعم عليكم كل هذه النّعَم التي لا تُحْصَيَ ورَزقكم ورَعاكم وأَمَّنَكم وأرْشدكم لكل خيرٍ وسعادةٍ في الداريْن بدلاً أن تعبدوه وتشكروه !!.. لقد كنتم من الظالمين قطعاً أي العاصِين لله المُعْتَدِين علي وَصَايَاه بمُخالَفتها الذين يظلمون أنفسهم ومَن حولهم بأن يتعسوها ويتعسوهم في دنياهم وأخراهم بمُخالفاتهم لربهم وفِعْلهم الشرور والمَفاسد والأضرار
ومعني "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (93) " أيْ هذا مزيدُ بيانٍ لجرائم وفظائع أخري ارتكبها أمثال هؤلاء الذين ذُكِرُوا في الآيات السابقة تدلّ دلالة قاطعة على أنهم لم يؤمنوا بما أنزل عليهم كما يَدّعون كذبا وزُورَاً.. أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كل عاقل لكي تَتَّعِظوا، اذكروا حين أخذنا منكم يا بني إسرائيل أي يا يهود عَهْدكم ووَعْدكم المُؤَكَّد أن تُوفوا وتَلتَزِموا ولا تُخْلِفوا العهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام في كل شئون حياتكم، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. ".. وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ.." أيْ واذكروا أيضا واعْتَبِرُوا حين رفعنا فوقكم جبل الطور الذي بسيناء بمصر وكلّم الله عنده موسي (ص) وأوْحَيَ إليه التوراة حيث رفعناه كأنه مَظَلّة بعد أن اقتلعناه من مكانه بتمام قُدْرتنا وكمال عِلْمنا فكان ذلك آية عظيمة لمَن أراد الاعتبار منكم وتأييداً لصِدْق رسولنا لتَتّبِعوه كما أنه في ذات الوقت كان تَرْهِيباً وتَخويفاً لمَن أراد التكذيب والعِناد والاستكبار وعدم الاتّباع لكي يُرَاجِع ذاته ويَتّبعه فلا يهلك بأنْ نُوقِعه عليه.. ".. خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا.." أيْ وقلنا لكم وأوْصَيْناكم أن خُذُوا ما أعطيناكم إيَّاه مِن نِعَمٍ فى كتابكم التوراة مِن أخلاق الإسلام التي تُناسِب عصركم والتي تُصلحكم وتُكملكم وتُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم بقوةٍ أيّ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وتَأَكّد تامٍّ أنها لسعادتكم، واسمعوا ما فيه من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم.. ".. قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ.." أيْ لكنَّ هؤلاء الذين يَدَّعُون كذباً وزُورَاً الإيمان أي التصديق بما أنْزِلَ عليهم قالوا مُتَمَرِّدين مُعانِدين مُستكبرين مُسِيئين الأدب مع رسولهم الكريم سمعنا ما تقوله لنا وعصينا أيْ وخالفناه أيْ لم يَفوا بعهدهم فخالفوا أخلاق الإسلام وفعلوا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات وكذلك تَشَرَّبَت تماما في عقولهم عبادة العجل أيْ طاعته وخَالَطتها وتَغَلْغَلَت فيها وما كل ذلك إلا بسبب كفرهم وتَمَادِيهم واستمرارهم فيه وإصرارهم عليه لأنَّ الكفر أيْ التكذيب هو بسبب تعطيل العقل وإذا مَا تَعَطّلَ فَعَلَ كلَّ شرّ وهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ.." أيْ قل لأمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّهَ بهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بعده ذَامَّاً لهم وكاشفاً لكذبهم لعلهم بهذا الذّمِّ يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن بَدَلاً أن يتعسوا فيهما، قل لهم ما أسوأ وما أقبح ما يأمركم به نوع إيمانكم هذا الذي يأمركم بالكفر وعبادة العجل والقتل وفِعل الشرور والمَفاسد والأضرار!!.. ".. إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (93)" أيْ لو كنتم مؤمنين أصلاً أيْ مُصَدِّقِين بما أنزل الله عليكم كما تَدَّعون كذباً وزُورَاً! إنكم لو كنتم مؤمنين لَمَا فَعلتم كل هذا حتما!! إنَّ فعلكم له هو دليل قاطع علي عدم إيمانكم! وهل كل هذا من الإيمان وقد أمِرْتُم به في كتبكم؟! إنكم لا تؤمنون بشيءٍ لا بما عندكم ولا بما جاءكم من قرآنٍ كريم!
ومعني "قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)" أيْ هذا تكذيبٌ لِمَا يَدَّعِيه بعض اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّهَ بهم أنه لن يَدخل الجنة أحدٌ غيرهم!.. أيْ قل لأمثال هؤلاء يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بعده بما يُسْكِت ألسنتهم ويَكشف كذبهم ويَتَحَدَّاهم لو كانت لكم وحدكم الجنة التي عند الله تعالي في الآخرة يوم القيامة خاصَّة سَالِمَة صَافِيَة لكم من بقية الناس لا يشارككم فيها أحد منهم فتَمَنّوا الموت إذَن الذي هو الطريق إليها إنْ كنتم صادقين في دعواكم هذه، فإنْ لم تَتَمَنّوه فأنتم بالتالي حتماً كاذبون، والمقصود بتَمَنِّي الموت الرغبة فيه بداخل مشاعر العقل وإظهار ذلك بالقول بالحديث للغير وإظهاره بالعمل بمُلاقاته وعدم الارتعاش عند حدوثه أو الهروب منه عند رَدّ المعتدين مثلما يحدث مع الصالحين من المسلمين وشهدائهم الذين يُقْبِلون عليه لأنَّ مَن تأكَّدَ بلا أيِّ شكّ أنه من أهل الجنة اشتاق لها وأحَبَّ واستعجل الوصول إليها سريعاً مُجْتَازَاً أيَّ عائقٍ يَعوقه أو يُؤَخّر وصوله.. "وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)" أيْ ويستحيل أبداً أنْ يَتَمَنَّيَ الموت مُطلقاً أمثال هؤلاء ومَن يَتَشَبَّهَ بهم بسبب خوفهم الشديد من عقابهم إذا ماتوا ولقوا ربهم بسبب ما فعلوه ويُصِرّون علي فِعْله في حياتهم الدنيا من شرور ومَفاسد وأضرار وتعاسات والتي يعلمها الله كلها حتما لأنه تعالي عليم أيْ يعلم بتمام العلم الذي ليس بعده أيّ علمٍ أكثر منه بكل شيءٍ في كوْنه وبكل الظالمين وهم كلّ مَن ظَلَمَ نفسه ومَن حوله فأتعسها وأتعسهم في الداريْن، بأيّ نوع من أنواع الظلم، سواء أكان كفرا أي تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا، يعلم كل ما يعملونه ويقولونه سواء في سِرِّهم أو علانيتهم ولا يَخْفَيَ عليه أيّ شيءٍ منه وسيُحاسبهم ويُعَاقِبهم حتما بما يُناسبهم في دنياهم وأخراهم بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم لعله يُوقِظ بعضهم فيعود لربه ولإسلامه ليسعد في دنياه وأخراه.. هذا، ورغم تَحَدِّي القرآن لهم لم يَنطق أو يُظهر أيّ أحدٍ منهم تَمَنّي الموت حتي ولو مجرّد كلامٍ كما يُثبت الواقع ذلك ولو فَعَلَ هذا أحدهم لكان من حقّه ادِّعاء عدم صدق القرآن العظيم ولكنها تمام قُدْرة الله تعالي وكمال علمه الذي يُخرس ألسنتهم وصِدْق كلامه الذي حَسَمَ أنهم لن يتمنوه أبداً حتي تنتهي الحياة الدنيا.. "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)" أيْ وهم ليسوا فقط لن يَتمنّوا الموت بل إنك أيضا أيها المسلم وأيها المُشَاهِد لحالهم المُتَابِع لهم تجدهم وتراهم وتعلمهم أشدّ الناس حِرْصَاً علي الحياة، ولفظ حياة بدون تعريفٍ بألفٍ ولامٍ يدلّ علي حرصهم التامّ علي أيِّ حياةٍ مهما كان حالها سواء أكانت حياة ذليلة أم عزيزة مُسْتَعْبَدَة أم حُرَّة دنيئة أم راقية بأخلاقٍ أم بغير أخلاقٍ في خيرٍ أم في شرّ بما يدلّ علي شِدّة وتمام الحرص.. ".. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.." أيْ وحرصهم أكثر حتي مِن حِرْص الذين أشركوا وهم الذين يشركون مع الله في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو نجماً أو نحوه الذين لا يُصَدِّقون بوجود بَعْثٍ بالأجساد والأرواح بعد الموت ووجود جنة فيها نعيم خالد ومَن يَتَشَبَّه بهم ولذلك فالدنيا بالنسبة لهم هي كلّ شيءٍ ولا شيء بعدها فيَحرصون عليها أشدّ الحِرْص وبأيِّ ثمنٍ وبكلّ وسيلة.. وفي هذا ذمٌّ شديدٌ لهم لأنَّ الذين أشركوا لا يؤمنون بآخرة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يُسْتَبْعَد لأنها جنتهم لكن إذا زاد عليهم فى الحرص مَن له كتاب وهو مُعْتَرِف بالآخرة كان مُسْتَحِقّاً إذَن لأشدّ الذمّ.. ".. يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ.." أيْ ومِن مَظاهر شِدَّة حرصهم علي الحياة أنْ يُحِبّ الواحد منهم أنْ يُطَالَ عمره ويعيش ألف سنة أو أكثر رغم أنَّ ذلك يَستحيل حدوثه وليس من عادة الناس أنْ يُحِبّوا الوصول حتي إلي عُشْر هذه السنين لأنها تُؤَدِّى بهم إلى شيخوخة مُؤْذِيَة لا تَطيب معها حياتهم.. ".. وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ.." أيْ هذا بيانٌ لعدم نَجَاتهم حتماً من العقاب وقَطْعٌ لأيِّ أملٍ لهم في ذلك مهما عَمَّرُوا لأنَّ الموت لن يتركهم قطعاً حينما يأتي في موعده المُحَدَّد لكلٍّ منهم.. أىْ وما أحد منهم بمُبْعِدِه من العذاب المُعَدّ له تَعْمِيرُه في دنياه مهما طال ولا بمُنْقِذه منه.. ".. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)" أيْ والله يَراهم ومُطّلِع على أعمالهم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيهم عليها بما يستحِقّون في الدنيا قبل الآخرة بكل شرٍّ وتعاسةٍ علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بكلّ عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تحذيرٌ شديدٌ لهم ولأيّ أحدٍ يفعل مِثْلهم حتي لا يكون مصيره مصيرهم.. وفي الآية الكريمة توجيهٌ ضِمْنِيّ لكل مسلم لأنْ يُحْسِن طَلَبَ الدنيا والآخرة معا (برجاء مراجعة الآية (145) من سورة آل عمران، ثم الآية (14)، (15) منها، ثم الآية (212) من سورة البقرة، ثم الآية (87)، (88) من سورة المائدة، للشرح والتفصيل)
ومعني "قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) " أيْ هذا رَدٌّ علي بعض المُراوِغين المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين من اليهود وغيرهم الذين يَدَّعون أنهم لا يؤمنون أيْ لا يُصَدِّقون بالقرآن العظيم الذي أنْزِل علي الرسول الكريم محمد (ص) لأنَّ الذي نَزَلَ به وَحْيَاً عليه من عند الله تعالي هو المَلَك جبريل عليه السلام وهو عدو لهم لأنه ينزل بالعذاب ولو كان نَزَلَ به المَلَك ميكال الذي ينزل بالمطر والرحمات والخيرات والسعادات لكانوا آمنوا به!!.. أي قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعده لأمثال هؤلاء بما يُخْرِس ألسنتهم ويَكشف كذبهم ومُرَاوَغَتهم أنه مَن كان مُعادِيَاً لمَلَكٍ من ملائكتنا وهو جبريل فليس هناك أيّ سببٍ لذلك وإنما الأمر منكم هو للمُرَاوَغَة وللعِناد بذِكْر أسبابٍ سفيهةٍ لا يَقبلها أيّ عاقلٍ لأنه نَزّله تعالي علي عقلك يا رسولنا الكريم بإذنه أيْ بأمره وبإرادته وبعلمه وليس من عنده ومن تلقاء نفسه قطعا حتي تكرهوه وتغتاظوا منه هكذا وهو ذاته الذي أنزلناه علي كل الرسل السابقين كموسي وعيسي اللذين تؤمنون أنتم بهما، ولأنه ما نَزَلَ به من قرآنٍ هو مُصَدِّق لما بين يديه أيْ لِمَا نَزَلَ به سابقا من كتبٍ سماويةٍ من عندنا كالتوراة والإنجيل وغيرهما مِمَّا تؤمنون أنتم به أيْ مُوَافِق ومُؤَيِّد ومُؤَكِّد ومُبَيِّن ومُتَمِّم لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريكٍ وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامكم إذَن إن كنتم عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به، ولأنه أيضا ما نَزَلَ به من قرآنٍ ليس ضلالاً ولا فساداً ولا تعاسة بل هو هديً وبُشْرَي أيْ إرشاد وتبشير للناس جميعا إذا عملوا بكل أخلاقه لِيَحْيوا كلّ لحظات حياتهم مُطمئنين مُستبشرين سعداء مُنتظرين بكلّ أملٍ وتفاؤلٍ لكلّ خيرٍ وسعادةٍ في دنياهم وأخراهم والعاقل لا يرفض الخير حتي ولو كان الذي جاءه به لا يُحِبّه فمن المفترض إذَن أن تشكروه وتُحِبّوه لا أن تكرهوه!.. ولكنَّ الذي ينتفع به هم المؤمنون فقط أيْ المُصَدِّقون بوجود الله وبكتبه وبآخرته وبحسابه وعقابه وجنته وناره لأنهم هم أصحاب العقول المُنْصِفَة العادلة التي أحسنوا استخدامها واستجابوا لنداء الفطرة بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، أمَّا غيرهم مِمَّن يُعَطّلون عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، فلا يَنتفعون ولا يهتدون ولا يسعدون حتما به بل يتعسون تمام التعاسة في دنياهم وأخراهم علي قَدْر بُعْدهم عنه، إلا إذا استفاقوا وعادوا لربهم ولقرآنهم ولإسلامهم.. "مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) " أيْ وقل لهم كذلك مَن كان مُعادِيَاً لله أو مُعادياً لمَلَكٍ مِن ملائكته أو مُعادياً لرسولٍ من رسله أو مُعادياً لجبريل وميكال – وقد خَصَّهما سبحانه بالذكر رغم أنهما من عموم الملائكة لأنَّ اليهود قد ذَكَروهما بالإسم وللتنبيه علي مكانتهما وأنَّ الكفر بهما كفر بالملائكة كلها – فإنَّ الله عدو للكافرين أيْ فإنه يكون بذلك العَدَاء بأيٍّ مِمَّن سَبَقَ ذِكْرهم قد كفر بالله وعاداه لأنَّ الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه وآخرته وحدة لا تَتَجَزّأ فمَن كفر بواحدٍ منهم فهو كافر بالجميع والله عدو له ولكلّ الكافرين بسبب كفرهم أيْ مُعاديهم ومُعاقبهم مُعاقَبَة العدو للعدو فلا يُحِبّهم ولا يُوفّقهم ولا يُيَسِّر لهم أمورهم ويكونون في درجةٍ مَا مِن درجات العذاب في دنياهم أولا كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس ، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك )، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. هذا، ومعنى عداوة الإنسان لله تعالي كفره به أيْ تكذيبه بوجوده ومُخَالَفته لأخلاق الإسلام التي أوْصاه به، ومعنى عداوته لملائكته تكذيبه بوجودها ووصفها بما يُخَالِف أنها مَخْلوقة مَعْصُومَة من الشرّ وتَفعل كل خيرٍ يأمرها به خالقها سبحانه في كل كوْنه لنفع ولخدمة ولسعادة خَلْقه، ومعنى عداوته لرسله تكذيبه بهم ومُخَالَفته لوصاياهم وإيذائهم بالقول والفِعْل ومَنْع انتشار دعوة الإسلام التي جاءوا بها
ومعني "وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)" أيْ ولقد أوحينا إليك يا رسولنا الكريم آيات بينات أيْ دلالاتٍ واضِحات قاطِعات دامِغات تُثبت صِدْقك وأنك مُرْسَل من عندنا وأننا وحدنا المُسْتَحِقّين للعبادة أي الطاعة وأنَّ ديننا الإسلام هو وحده الذي يُصْلِح كلّ البشرية ويُكملها ويُسعدها تمام السعادة في دنياها وأخراها، سواء أكانت هذه الآيات مُعجزات تُؤَيِّدك ليَثِقوا بك ويَتّبعوك أم آيات في الكوْن حولهم تُرْشِدهم إليها ليَتَدَبّروها للاستدلال علي وجود ربهم أم آيات في القرآن العظيم تُتْلَيَ وتُقْرَأ عليهم فيها أخلاقيّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وَجْه.. ".. وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)" أيْ ولكنْ لا يُكَذّب بهذه الآيات البينات التي يُؤمن أيْ يُصَدِّق بها كلّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادلٍ إلا الفاسقون أيْ الخارجون عن طاعة الله والإسلام الذين اختاروا فِعْل الشرور والمَفاسد والأضرار بكامل حرية إرادة عقولهم وأصَرُّوا واستمرُّوا عليها دون أيّ عودةٍ للخير، سواء أكان هذا الفِسْق كفراً أيْ تكذيبا بوجود الله أم شِرْكَاً أي عبادة لغيره كصنمٍ أو حجر أو نار أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للكفر أم ما شابه هذا.. هذا، والكفر في الأصل هو تغطية الحقائق وإخفاؤها، لأنهم يُدركون تماما داخل عقولهم مِن فطرتهم بداخلها والتي هي مسلمة أصلا (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل) أنَّ القرآن حقّ، والله ورسوله (ص) وإسلامه حقّ، أي صِدْق، أي يُصْلِح ويُكْمِل ويُسْعِد البشرية كلها حتي يوم القيامة، ولكنه التكذيب والعِناد والاستكبار والمُرَاوَغَة والإخفاء للحقّ مِن أجل تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
ومعني "أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)" أيْ هل كفروا بآياتنا البَيِّنات وكلّما وَعَدُوا وَعْدَاً تَرَكَه ونَقَضَه ولم يُنَفّذه وأخْلَفه فريقٌ منهم سواء أكان هذا الوعد عهودا أم مواثيق أم معاهدات أم مواعيد أم ما شابه هذا؟! وسواء أكان مع الله تعالي ومع رسله الكرام إليهم وآخرهم محمد (ص) بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام أم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. هذا، ولفظ "كلّما" يُفيد تِكْرارهم واعتيادهم علي ذلك الإخلاف.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)" أيْ لأنَّ معظمهم لا يُصَدِّقون ما جاء في القرآن العظيم الذي يُوجِب عليهم الوفاء بالعهود ولو كانوا يؤمنون به ما أخْلفوها.. ولفظ "أكثرهم" يُفيد أنَّ بعضهم يؤمنون به فيسعدون في دنياهم وأخراهم.. وفي الآية الكريمة إرشادٌ لكل مسلم أن يكون من المُوفِين بالعهود والمواثيق والمعاهدات والوعود والمواعيد وما شابه هذا، مع الله تعالي ورسوله الكريم (ص) بالوفاء معهما بالتمسّك بكل أخلاق الإسلام، ثم مع جميع الخَلْق علي اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وعلومهم وبيئاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويظلّ مستمرّا علي ذلك دون أيّ تبديلٍ حتي الموت أو الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير، لأنه بانتشار هذه الأنواع من الوفاء ينتشر الأمن بين الناس فيَسعد الجميع في دنياهم وأخراهم، بينما بانتشار الخيانة يفقدون أمانهم ويَتنازعون ويَتعسون فيهما
ومعني "وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)" أيْ هذا مزيدٌ من البيان لتكذيبهم وعِنادهم واستكبارهم واستهزائهم ومُرَاوَغتهم.. أيْ وهم حين جاءهم رسول مُرْسَل من عند الله وهو الرسول الكريم محمد (ص) بالقرآن العظيم المُصَدِّق أيْ المُوَافِق لِمَا معهم من الكتاب وهو التوراة والإنجيل وغيرهما والمُؤَيِّد والمُؤَكِّد والمُبَيِّن والمُتَمِّم لها وليس مُخَالِفَاً لأيِّ شيءٍ من أصولها بما يدلّ علي تمام صِدْق هذا القرآن وهذا الرسول (ص) إذ لو كان كاذباً لخَالَفَها بعضها أو كلها، وذلك التّوَافُق هو لأنَّ مصدرهم واحد وهو الله تعالي وكلهم يدعو إلي عبادته أيْ طاعته وحده بلا أيّ شريك وإلي اتّباع كل أخلاق الإسلام، فليس أمامهم إذَن إنْ كانوا عاقِلين مُنْصِفِين عادلين إلا الثقة التامّة فيه والإيمان به فلا يَصِحّ ولا يُعْقَل أن يكونوا هم أول مَن يُسارع إلي أن يكفر أي يكذب به مِن حيث وجب أن يكونوا أول مَن يُسارع إلي أن يؤمن به لأنهم أصحاب كتابٍ هو التوراة وأهل علمٍ وأدْرَىَ الناس بأنه من عند الله وأكثرهم تأكّداً بأنَّ الرسول الذى نَزَلَ عليه هذا القرآن هو الصادق الأمين كما يُسَمُّونه فيما بينهم، فتكذيبهم له هو ضِمْنَاً تكذيب لمَا معهم.. لَمَّا جاءهم به نَبَذَ أيْ تَرَكَ وألْقَيَ فريقٌ منهم – وليس كلهم حيث بعضهم لم يَنْبذ بل صَدَّق – كتاب الله وهو القرآن العظيم وراء ظهورهم أيْ خَلْفهم بما يُفيد أنهم تركوه بطريقةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء ومُرَاوَغَة كأنهم يجهلون أنه من عند الله تعالي وكأنَّ حالهم حال الجَهَلَة الذين لا يعلمون شيئا الجاهلين بحقيقته وعظمته، والمقصود أنهم يعلمون تماما صِدْق كلّ ما فيه فهم إذَن قد كفروا عن علمٍ مُؤَكّدٍ لا عن جهل.. هذا، ومن المعاني أيضا أنهم نَبَذوا كذلك التوراة التي معهم مع نَبْذهم للقرآن فخالفوها لَمَّا رأوها تأمرهم باتّباعه وهو المُصَدِّق لها وباتّباع الرسول محمد (ص) الذي جاءهم به، وكأنهم لا علم لهم بشيءٍ من ذلك!!
ومعني " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)" أيْ ولَمَّا نَبَذَ هذا الفريق التوراة والقرآن اتَّبَعوا أيْ ساروا خَلْفَ وصَدَّقوا وطَبَّقوا في شئون حياتهم ما تَتْلُوا أيْ تقول وتَذْكُر الشياطين منهم أيْ فَسَدَتهم وأشدّهم سُوءاً وفِعْلاً للشرور والمفاسد والأضرار – ولفظ الشيطان في اللغة العربية هو لفظ عام يُطْلَق علي كل مُتَمَرِّدٍ علي كل خيرٍ مُفسِدٍ بعيدٍ عن الحقِّ وعن رحمات ربه – علي عهد مُلْكِ سليمان (ص) من خرافاتٍ وأكاذيب وافتراءاتٍ تُبْعِد الناس عن ربهم وإسلامهم والتي منها أنهم قالوا عنه كذباً وزُورَاً أنه ليس رسولا من عند الله تعالي ولم يُؤَيِّده بتسخير الخَلْق له من بَشَرٍ ومخلوقاتٍ غير مرئية تُيَسِّر له إدارة مُلْكه ليُؤْمِن به الناس ويَتّبعوا الإسلام الذي معه ليسعدوا في الداريْن ولكنه ساحر، وليس مُلْكه العظيم هذا ولا المُعجزات التي حَدَثَت علي يديه كتحريك السُّحُب حيثما أراد وفهم لغة الطير والنمل وغيرها وتسخيرها ونحو هذا هو بسبب تأييد الله له وإنما بسبب سِحْره، وذلك لنشر السحر والشعوذة فيَبتعد الناس تدريجيا عن الإسلام بمِثْل هذه الخرافات والتي يَتَوَهَّمون أنها هي التي ستزيد مُلْكهم وسعادتهم وليس أخلاق إسلامهم.. ".. وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا.." أيْ هذه تَبْرِئة من الله تعالي لرسوله الكريم سليمان (ص) حيث قد وَصَلَت الجرْأَة والوَقَاحَة بأمثال هؤلاء أن يدَّعوا عليه أنه كافر!! وذلك لأنه في ادِّعائهم مِن سعَة مُلْكِه وسُلطانه وسَيطرته علي الكوْن كان يؤمن بهذه القُوَيَ الخَفِيَّة التي تتحرّك فيه كالرياح والطاقات ونحوها لا بالله تعالي الذي سخّرَها له فعَبَدَها أيْ أطاعها ولم يعبده سبحانه!! وذلك للتشكيك في كوْنه رسولا وفي الإسلام الذي يَدْعو الناس لاتّباعه حتي ينفروا منه!! فيَرُدّ عليهم سبحانه بما يُخْرِس ألسنتهم ويَكشف كذبهم أنه لم يكفر حتما ولا يمكن لأيِّ رسولٍ منه أن يفعل ذلك وإلا كشف الله زيفه حتي لا يُضِلّ غيره ولكنَّ هؤلاء الشياطين أيْ الفَسَدَة الشديدي السوء الذين نَبَذوا التوراة ثم القرآن وكذّبوهما وخالفوهما واجتهدوا بكل وسيلةٍ في إبعاد الناس عنهما ونشروا الشرور والمَفاسد والأضرار والتعاسات والشعْوَذات والخُرافات هم بالقطع الذين كفروا أيْ كذّبوا بالله ورسله وكتبه وخالَفوهم.. ".. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.." أيْ وكفروا أيضا حيث كانوا يُعَلّمون الناس السِّحْر والشّعْوَذَة بقصد إضلالهم وإبعادهم عن عبادة الله تعالى إلى عبادة غيره من المخلوقات إذ يُوهِمُونهم بأنَّ منها قوَي خَفِيَّة عظيمة تنفعهم وتَضرّهم وعليهم طاعتها حتي لا تُؤذيهم وينتفعون بمنافعها!! والسحر ما هو إلا أوْهام وتَخَيّلات ليست حقيقية يقوم بها الساحر تُؤَثّر علي عقل مَن يراه فيَتَوَهَّم بوجودها.. ".. وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ.." أيْ كانوا يُعَلّمون الناس السِّحْر من عندهم ومن آثار وبقايا السحر الذي أُنْزِلَ بأرض بابل بالعراق – والتي كانت مشهورة بالسحر في ذلك الزمان – على المَلَكَيْن هاروت وماروت، مع أنَّ هذين الملكين ما كانا يُعَلّمان أيّ أحدٍ السحر إلاّ أنْ يُنَبِّهاه ويُحَذّراه ويَنْصَحاه ويقولا له إنما نحن فِتْنة أيْ إنَّ ما نُعَلّمه فتنة أيْ اختبار يُخْتَبَر به الناس فهو يُؤَدِّى إلى انتشار الفتنة بينهم أي الضرَر والكفر وإنما عَلّمناك إيَّاه لكي تعرفه تماما فتَحْذره وتَتَجَنّب العمل به وتُضَادّ وتَمْنَع عَمَلَ مَن يقوم به فيَنقرض وينتهي هذا العلم الضارّ ويزداد وينتشر في المُقابِل الخير، فلا تكفر أيْ فلا تأخذ ولا تعمل أنت به لأنه يؤدّي بك إلي الكفر فتَعبد غير الله تعالي كما يَفعل كثير مِن السَّحَرَة ومَن يُصَدِّقونهم ويَتّبِعونهم.. هذا، وهاروت وماروت هما رجلان صالحان أُنْزِلَ عليهما السحر أيْ ألْهَمَها الله تعالي إيَّاه بأنْ أعانهما وسَهَّلَ لهما تَعَلّمه والاطّلاع على أسراره التي كانت تفعلها السحرة فتَعَلّمَاه ثم عَلّمَاه للناس ليَحذروا مَفاسده وعبادة غير الله سبحانه وليَعلموا أنَّ السَّحَرَة الذين أبعدوهم عن عبادته لعبادة غيره ككواكب أو رياح أو نحوها قد خدعوهم وأضلّوهم وبذلك يعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن ولا يتعسوا فيهما، وقد سُمِّيَا مَلَكَيْن مع أنهما مِن البَشَر لشدّة صلاحهما فهما كالملائكة يفعلون الخير لا الشرّ.. وعند بعض العلماء هما مَلَكَان علي الحقيقة في صورة بَشَر أنزلهما الله تعالي وأنزل عليهما كيفية السحر ليفضحا السحرة وما يقومون به، والنتيجة واحدة في الحالتين.. ".. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ.." أيْ ولكنَّ بعض الناس لم يستجيبوا لهذه النصيحة فأخذوا يتعلمون من المَلَكَيْن ما يُحْدِثون به الكراهية بين الإنسان وزوجه أيْ بين الزوجين حتى يَتَفَرَّقا وهما اللّذَيْن جَمَعَت بينهما أوقات المودة والرحمة فتنهدم الأسرة التي هي أساس المجتمع فيضعف وينهار تلقائيا وتدريجيا ويتعس الجميع في الدنيا والآخرة، بما يدلّ علي سوء وضَرَر مِثْل هذا النوع من العلم، وما ذُكِرَ هو أحد أمثلة مَا يُحْدِثه من شرور ومَفاسد وأضرار فهو لا يَفِرّق بين المرء وزوجه فقط بل ومَن حوله بل يَصِل للتفريق حتي بينه وبين ربه وإسلامه!!.. وفي هذا الجزء من الآية الكريمة إرشاد للمسلمين لأنْ يتعلموا العلوم المُفيدة المُسْعِدَة في دنياهم ثم أخراهم لا الضارَّة المُتْعِسَة فيهما إلا إذا كان تعلمها بنوايا حسنة هي إنقاذ البشرية من أضرارها بعلوم مُضَادَّة نافعة فلهم حتما أجرهم العظيم في الداريْن.. ".. وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.." أيْ وليس هؤلاء السَّحرة بإمكانهم أن يكونوا ضَارِّين أيْ مُلْحِقِين الضرَر والسوء بسِحْرهم بأيِّ أحدٍ أو نافِعين له به إلا بإذن الله، أيْ لا يُمكن أبداً أن يَتِمَّ ذلك إلا بعد إرادة وإذْن ومشيئة الله لأنه هو الخالق والمالِك لكلّ شيءٍ وكل الخَلْق والمُلْك تحت سلطانه ونفوذه وتَصرّفه وحُكْمه فلا يمكن مُطلقا أن يَحدث في مُلْكِه أيّ شيءٍ بغير إرادته وإذنه وعلمه، ومشيئة الخَلْق لا أثَرَ لها إلا إذا كانت مُوَافِقَة لمشيئته سبحانه والتى لا يعلمها أحدٌ غيره والتي هي لمصلحتهم ولسعادتهم، ولا أحد يقْدِر علي فِعْل شيءٍ مَا إلا بأن يشاء الله له فِعْله فيُعطيه القُدْرة عليه، فالخَلْق إذَن كلهم مُحتاجون له دوْمَاً ولعوْنه فليتوكّلوا عليه وحده سبحانه.. ".. وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ.." أيْ وهؤلاء الذين يتعلمون السِّحْر وأمثال هذه العلوم الضارَّة يتعلمون الشرَّ الذي يَضُرّهم ويُتعسهم وغيرهم في دنياهم وأخراهم ولا يَنفعهم حتما ويُسعدهم ومَن حولهم فيهما.. هل لا يعقلون ذلك؟! أين العقول المُنْصِفَة العادلة؟!.. ".. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.." أيْ وأمثال هؤلاء يعلمون تمام العلم بلا أيِّ نسبةِ جهلٍ بأنَّ مَن اشتري مثل هذا العلم الضارّ المُتْعِس في الداريْن وباعَ في مُقَابِله العلم النافع المُسْعِد فيهما وهو العلم بكتاب الله وما فيه من أخلاقٍ حَسَنة ولم يعمل بها والتي تُفيده وتُسعده وكل الخَلْق في كل شئون حياتهم وعلومها المتنوعة ثم في آخرتهم فهو حتما ليس له في الآخرة أيّ خلاق أيْ نصيب في الجنة ونعيمها الذي لا يُوصَف.. إضافة قطعا إلي ما له من جحيمِ وعذابِ الدنيا بسبب بُعْدِه عن ربه وإسلامه والذي يَتَمَثّلَ في درجةٍ ما من درجات العذاب علي قَدْر بُعْدِه عنهما كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة.. ".. وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ.." أيْ هذا بيانٌ لسَفَهِهِم وخَبَلِهم وتعطيلهم لعقولهم.. أيْ وما أسوأ ما اشتروه لأنفسهم وأخذوه ورضوه عِوَضَاً!.. إنهم قد باعوا العلم النافع الذي هو كل خيرٍ وسعادةٍ لأنفسهم في دنياهم وأخراهم واشتروا لها بدلاً منه أحقر شيءٍ وهو العلم الضارّ المُتْعِس لهم ولغيرهم فيهما!!.. إنهم قد دَفَعوا العلم النافع وهو أغلي ما في الحياة الدنيا ثمناً لأحقر سلعةٍ فيها وهي العلم الضارّ!!.. إنهم قد باعوا الخير وتركوه وفرَّطوا فيه واشتروا الشرّ وأخذوه وتمسّكوا وعملوا به واختاروه بكامل حرية إرادة عقولهم!!.. إنهم قد تركوا السعادة التامَّة في الداريْن لو كانوا عملوا بكل أخلاق إسلامهم وأخذوا التعاسة فيهما بالقَدْر الذي يُناسِب عدم عملهم بالإسلام كله أو بعضه!!.. ".. لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)" أيْ لو كانوا يعقلون أيْ إنْ كانوا من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكانوا من أصحاب العلم والفهم فيَتعمَّقون ويَتدبَّرون فيما يَسمعون فيَنتفعون ويَسعدون به
ومعني "وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)" أيْ ولو أنَّ أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم وغيرهم مِمَّن لم يؤمنوا آمنوا أيْ صَدَّقوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملوا بأخلاق إسلامهم، واتّقَوْا أيْ كانوا من المُتَّقِين أي المُتَجَنِّبِين لكلّ شرّ يُبعدهم ولو للحظة عن حب ربهم وعوْنه وتوفيقه ورضاه ورعايته وأمنه ونصره وقوَّته ورزقه وسعادته في الدنيا ثم أعلي درجات جنته في الآخرة ولا يَصِلُون أبدا لمرحلة إغضابه بل يُسارعون لفِعْل كل خيرٍ يُسعدهم ومَن حولهم، لأَثَابَهم الله تعالي حتماً علي ذلك ثواباً من عنده أيْ أجراً وعطاءً وسروراً عظيماً في دنياهم وأخراهم هو خير قطعاً مِمَّا اختاروه لأنفسهم من السَّيْر في طريق الشرور والمَفاسد والأضرار والتي تنتهي بهم بالقطع لتمام التعاسة فيهما، هو الخير كله الذي ليس بعده خير أكثر منه.. وفي هذا تشجيع لهم وللناس جميعا علي التوبة واتّباع الإسلام لِتَتِمَّ سعادتهم في الداريْن.. إنه لَوْلاَ فَتْح الله تعالي التواب الرحيم باب التوبة علي أوْسَعِ صورةٍ هكذا لَيَئِسَ الناس ولاَزْدَادوا شرَّاً وبالتالي تعاسةً ما دام ليس لهم أمل في العودة للخير!.. ".. لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)" أيْ لو كانوا يعقلون أيْ إنْ كانوا من الذين يُحسنون استخدام عقولهم وكانوا من أصحاب العلم والفهم فيَتعمَّقون ويَتدبَّرون فيما يَسمعون فيَنتفعون ويَسعدون به.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أحسنتَ اختيار ألفاظك عند أيِّ حديثٍ لك وكنتَ دقيقاً فيها وجعلتها دائما لا تحتمل إلا حُسْنَاً لا قُبْحَاً، فهذا سيُسَهِّل عليك حُسن التّعامُل مع الآخرين بلا غموضٍ أو سوءِ فهمٍ فتَسعدون ولا تتعسون في دنياكم وأخراكم
هذا، ومعني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)" أيْ يا أيها الذين صَدَّقوا بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وتَمَسَّكوا وعملوا بكل أخلاق إسلامهم – ويُناديهم سبحانه بصفة الإيمان لإلهاب مشاعرهم ليكونوا أسرع استجابة – انْتَبِهُوا واحْذَروا تماما عند حديثكم مع غيركم فلا تقولوا ألفاظاً تحتمل الحُسْن والقُبْح فهذا مِمَّا يُثير الشرور والمَفاسد والأضرار بينكم فتَتعسون في الداريْن، ومن أمثلة هذه الألفاظ أن تقولوا لغيركم راعِنَا بمعني أن تَرْعانا بكل خيرٍ والذي يحتمل لمَن يريد الإساءة معني آخر وهو راعِنَ أيْ يا أَرْعَنَ أيْ يا أَحْمَقَ وأهْوَجَ وسفيه وجاهل أو أصبحتَ راعِنَاً (ويُحْذَف التنوين عند الوقف عليها فتُقال راعِنَ) من الرّعُونة وهي الحُمْق والتَّهَوُّر والسَّفَه والجهل، ولكن قولوا ألفاظاً واضحة مُحَدَّدَة كلها خير لا تحتمل أيّ شرّ، كأنْ تقولوا مثلا بدل راعِنَا انظرنا أي انظر إلينا بعين الخير وتَعَهَّدنا به.. ".. وَاسْمَعُوا.." أيْ واستمعوا جيداً لِمَا في القرآن العظيم من أخلاقيَّاتٍ وتشريعاتٍ وأنظمةٍ سماعَ تَعَقّلٍ وتَدَبّرٍ واستجابةٍ وطاعةٍ وتطبيقٍ لها كلها في كل أقوالكم وأعمالكم في كل شئون حياتكم لتَصْلُحوا وتَكْمُلوا وتَسْعَدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم.. ".. وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)" أيْ وللذين لا يُصَدِّقون بوجود الله وبرسله وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره، وبتشريعاته وبأهميتها ولا يعملون بها بل يُخالِفونها ويَتَعَدّونها ويفعلون السوء لهم حتما عذاب مؤلم مُوجِع في دنياهم بدرجةٍ من الدرجات بما يُناسب فِعْلهم كقلقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة وقد يَصِل إلي إهلاكهم واستئصالهم التامّ من الحياة كما حَدَثَ ويَحدث مع أقوامٍ كثيرين سابقين وحالِيِّين (برجاء مراجعة الآية (11) من سورة يونس، للشرح والتفصيل عن متي يكون العذاب بالإهلاك)، ثم في أخراهم سيكون لهم ما هو أشدّ عذابا وأتمّ وأعظم حيث جهنم المُعَدَّة المُجَهَّزَة لهم، وما أسوأ هذا المَصِير والمَرْجِع والمُنْتَهَيَ.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ لأمثالهم ، فلْيَعْتَبِر إذَن مَن أراد الاعتبار ولا يَفعل مثلهم حتي لا يَنال مصيرهم
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)" أيْ هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية الكافرين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. أي لا يحب الذين كفروا أيْ كذّبوا بوجود الله وكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعانَدُوا واستكبروا واستهزأوا وفَعَلوا الشرور والمَفاسد والأضرار حيث لا حساب من وجهة نظرهم، سواء أكانوا من أهل الكتاب أيْ قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص) أم كانوا من المشركين وهم الذين يُشركون مع الله تعالي في عبادته أيْ طاعته غيره فيَعبدون صَنَمَاً أو حجراً أو كوكباً أو نحوه أم مَن تَشَبَّهَ بهم، لا يُحِبّ كلّ هؤلاء أنْ يُنَزَّل عليكم يا مسلمين أيّ خيرٍ من ربكم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعيكم ومُرْشِدكم لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم في دنياكم وأخراكم – سواء أكان تشريعات في القرآن العظيم تُسعدكم في الداريْن وهي محفوظة تماما بحفظه لها سبحانه حتي يوم القيامة أم أرزاقاً مُفِيدة مُسْعِدَة بكل أنواعها المُتَعَدِّدَة أم نصراً وعِزّةً وقوةً وأخُوَّةً وتَرَابُطاً وتَعاوناً وأمْنَاً وتمكيناً في الأرض بحيث تُحْسِنون إدارتها والانتفاع بخيراتها أم نحو ذلك.. هذا، ومِن أسباب كراهيتهم للمسلمين وعداوتهم لهم أنه بانتشار الإسلام لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم.. ".. وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ.." أيْ هذا ردٌّ مِن الله تعالي عليهم بما يكشف سَفَههم حيث يعترضون علي تقديراته في كوْنه وهو وحده لا غيره صاحب التّصَرُّف المُطْلَق فى الإعطاء والمَنْع فكان من الواجب على أمثال هؤلاء الذين لا يَوَدّون أنْ يُنَزَّل أىّ خيرٍ على المسلمين والناس جميعا أنْ يريحوا أنفسهم من هذا التعب النفسيّ والجسديّ وأن يَنتهوا عن ذلك السَّفَه لأنه سبحانه يَختصّ برحمته أيْ يَخصّ بصفةٍ خاصَّةٍ وعلي وجه الخصوص دون الآخرين ويُعطِي ويُفْرِد ويُقْصِر خيره بكل أنواعه علي مَن يشاء مِن خَلْقه وليس لأيِّ أحدٍ مهما كان أىّ تأثيرٍ فى ذلك، فهُمْ وغيرهم لا يَقدرون علي مَنْع أيّ شيءٍ أراد إعطاءه لخَلْقه ولهم ولغيرهم ولا علي إعطاء أيّ شيءٍ أراد مَنْعه، وكل خيرٍ وعطاءٍ بيده يَمْلكه ويَتصرَّف فيه هو وحده فهو صاحب العطاء العظيم الهائل الكامل الذي لا يُقارَن ولا يُوصَف إذ يملك كل النِّعَم التي لا تُحْصَيَ ومنها القرآن والإسلام وحفظهما ونشرهما فيُعْطِي نِعَمه مَن يشاؤها مِن خَلْقه ويُحسن اتِّخاذ أسباب الوصول إليها فيَشاء الله له ذلك فيُيَسِّرها له ويُوَفّقه لها.. ".. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)" أيْ وهذا الذي تَفَضَّلَ به عليهم هو لأنه تعالي وحده وليس أيّ أحدٍ غيره صاحب الفضل العظيم أي العطاء الزائد الهائل الكامل الذي لا يُقارَن فلا يُسْتَبْعَد أبداً منه ذلك.. إنه حتما ذو الفضل العظيم بما وَسَّعَ علي خلقه من أرزاقهم التي لا تُحْصَيَ في دنياهم وبما أعطي المُحْسِنين في أخراهم من نعيمٍ تامٍّ لا يُوصَف.. ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51) ، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وفي الآية الكريمة طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن المُوقِنِين أيْ المتأكّدين تماما بلا أيِّ شكّ أنَّ شَرْع الله أيْ الإسلام هو الأَخْيَر والأفضل والأكمل والأسعد لك وللبشرية كلها في الداريْن، لأنه من عند الله الخالق العدل الكامل المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الحكيم العليم الذي هو علي كل شيءٍ قدير والذي يَعلم ما يُصْلِح خَلْقه ويُكْمِلهم ويُسعدهم فهُمْ خَلْقه وصَنْعَته والصانع سبحانه هو الأقْدَر علي إرشاد صنعته بكلّ دليلِ خيرٍ مُسْعِدٍ، فهو تعالي حينما ينزل توصياته وتشريعاته لخَلْقه منذ آدم وحتي نزول آخرها في القرآن العظيم والذي أَتَمَّها وأكملها به، فإنه يُطَوِّر ويُبَدِّل فيها بما يُناسِب تَطَوُّر البَشَر بما يُسْعد كل لحظات حياتهم في كلّ عصر
هذا، ومعني "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)" أيْ لا نُلْغِي ونُبَدِّل أيَّ آيةٍ أو نُزيلها من العقول والأذهان فتَنْساها إلاّ أتَيْنَا وأحضرنا آية أو آيات أخري هي أنفع للناس منها في دنياهم وأخراهم أو نأتي بمِثْلها في النفع فلا تقلّ عنها، ولكلّ آيةٍ حِكْمتها حسبما نراه مُناسبا لمصالحهم ولزمانهم لكي يَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في الداريْن.. والآية الكريمة هي رَدٌّ من الله تعالي علي بعض المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين الذين يُبَرِّرُون كذباً وزُورَاً عدم اتّباعهم الإسلام بأنه يَعترف بالشرائع السماوية السابقة كاليهودية والنصرانية ثم يُغَيِّرها وبالتالي فشَرْع الله يُناقِض بعضه بعضا!! فيَرُدّ عليهم سبحانه بأنه يُبَدِّل فيها بما يُناسِب تَطَوُّر البَشَر بما يُسْعِد كامل حياتهم في كل زَمَنٍ حتي اكتملت تماماً بالقرآن العظيم.. هذا، ومن معاني لفظ "آية" أيْ مُعْجِزَة، فالمُكَذّبون قد طَلَبوا من الرسول الكريم محمد (ص) آيات أيْ مُعْجِزَات تدلّ علي صِدْقه كمعجزات موسي وعيسي وغيره من الرسل الكرام الذين سبقوه، فرَدَّ الله تعالى عليهم بقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها أيْ ما نُغَيِّر من معجزةٍ مَا لرسولٍ مَا أو نُنْسِ الناس أثرها – أو ننسها بمعني أيضا نُؤَجِّلها – إلا أتينا بخيرٍ أيْ أنفع وأشدّ تأثيراً منها لهم أو مثلها في نفعها والدلالة علي صِدْقه حسبما يحقّق أفضل النتائج والمصالح والسعادات معهم، وفي ذلك إشارة إلى أننا أتينا بمعجزة القرآن العظيم التي نَسَخَت ما قبلها من معجزات لِعِظَمِها والتي هي حتماً خير وأدْوَم منها لأنَّ هذه المُعجزات رغم أنها مُبْهِرَات مثل شقّ البحر لموسي بعد ضربه بعصاه وإحياء الموتي لعيسي وغيرها إلا أنها حوادث تنتهي بانتهاء وقتها ولا تُؤَثّر إلا فيمَنْ حضروها وشاهدوها أمّا معجزة القرآن فإنها باقية خالدة تَتَحَدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. ".. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)" أيْ هل لم تَعلم وتَتَأكّد أيها المسلم، والاستفهام والسؤال للتقرير، أيْ لكي يُقِرّ هو بذلك، أيْ قد عَلِمتَ وتَأكّدتَ، أنَّ الله لا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، فهو تعالي يَنْسَخ ويُنْسِي ما يشاء من آياتٍ ويأتي بما يشاء منها حسبما يَراه مِن مصلحةٍ وسعادةٍ لخَلْقه، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلك والرحمة والفضل فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة وللشكر وللتوكّل عليه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51) ، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد ، للشرح والتفصيل).. وإذا اتّخذتَ الله تعالي دائما وَلِيَّاً ونصيراً، أيْ وَلِيّا لأمرك وناصراً ومُعِينَاً لك في كل شئون حياتك، فهنيئا لك نِعْمَ الاختيار هذا، فسيُوَفّر لك حتما الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)" أيْ هذا مزيدٌ من التأكيد والتدليل علي أنَّ الله تعالي علي كلّ شيءٍ قدير.. أيْ هل لم تَعلم وتَتَأكّد أيها المسلم، والاستفهام والسؤال للتقرير، أيْ لكي يُقِرّ هو بذلك، أيْ قد عَلِمتَ وتَأكّدتَ، أنَّ الله تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فهو له كلّ المُلْك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقَبْض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، ومَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة والمُلْك والرحمة والفضل فهو يستحقّ وحده العبادة أي الطاعة ولا يُنْكَر عليه حتماً أن يَنْسَخ ويُنْسِي ما يشاء من آياتٍ ويأتي بما يشاء منها حسبما يَراه مِن مصلحةٍ وسعادةٍ لخَلْقه كما ذُكِرَ في الآية السابقة.. ".. وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)" أيْ وأيضا ليس لكم أيها الناس غير الله تعالي الخالق الرازق المُعِين الرحيم الودود أيّ وَلِيّ وأيّ ناصر يَتَوَلَّيَ أموركم فيُعِينكم ويَنصركم ويَمنع الضرَرَ عنكم في كل شئون حياتكم.. ومَن كان الله وَلِيّه ونَصيره فسيُوَفّر له حتماً في دنياه وأخراه الرعاية كلها، والأمن كله، والعوْن كله، والتوفيق والسداد كله، والرزق كله، والتيسير كله، والسَّلاسَة كلها، والقوة كلها، والنصر كله، والسعادة كلها.. وفي المُقابِل مَن ابتعد عن ربه وإسلامه وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار واسْتَبْعَدَ أنه تعالي يَنْسَخ ويُنْسِي ما يشاء من آياتٍ ويأتي بما يشاء منها حسبما يَراه مِن مصلحةٍ وسعادةٍ لخَلْقه فأمثال هؤلاء عند نزول ما يُناسبهم مِن عذابٍ دنيويّ أو أخرويّ لا يَجدون أيَّ وَلِيٍّ أيْ مَن يَتَوَلّيَ أمرهم فيُدافِع عنهم ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرهم بأنْ ينقذهم أو يُخَفّف عنهم شيئا منه
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون البحث والسؤال من أجل التعلّم والاسترشاد لكلّ خيرٍ ونفعٍ وسعادةٍ لك ولمَن حولك في دنياكم وأخراكم لا من أجل الاستهزاء والاستعلاء والعِناد والاعتراض ونحو ذلك مِمَّا سيُؤَدِّي تدريجيا غالبا للابتعاد عن طُرُق الخير واستبدالها بطرق الشرّ كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا والتي ستؤدي حتما في النهاية لكل تعاسةٍ في الدنيا والآخرة
هذا، ومعني "أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ من بعض الأخلاق السَّيِّئة التي فَعَلها اليهود حتي يتجنَّبها المسلم تماما فيَسعد في الداريْن.. أيْ هل تريدون أيها المسلمون وأيها الناس جميعا أنْ تَطلبوا من رسولكم الكريم محمد (ص) خاتم الرسل طَلَبَاتٍ بهدف وقصد التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة كما طُلِبَ مِثْل ذلك من موسي (ص) سابقا حيث طَلَبَ اليهود منه مثلا أن يريهم الله جَهْرَة أمام أعينهم حتي يُؤمنوا؟!!.. والسؤال هو للرفض التامِّ لذلك وللذمِّ الشديد لفاعِله وللتحذير لمَن يريد فِعْله حتي لا يَفعله.. ".. وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)" أيْ واعلموا تماما وتَذَكّروا دائما أنَّ مَن يَسْتَبْدِل الكفر بالإيمان أيْ يَترك الإيمان وهو التصديق بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره والعمل بأخلاق الإسلام ويَخْتَرْ الكفر وهو عكس ذلك بَدَلاً منه فهو حتماً بكل تأكيدٍ قد فَقَدَ وأخطأ وابْتَعَدَ عن سواء السبيل أيْ وسط الطريق ووسط الطريق هو دوْماً المُمَهَّد بينما جوانبه ليست كذلك والمقصود الانحراف عن الطريق السَّوِيِّ المستقيم، الطريق المُعْتَدِل الصحيح الصواب بلا أيِّ انحراف، طريق الله والإسلام، طريق الحقّ والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والخروج عنه إلي الطريق المُضطرب المُعْوَجّ المُنْحَرِف الخاطئ، طريق الشرّ والتعاسة فيهما
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ حَذِرَاً أشدّ الحَذَر مِمَّن يَكرهونك ويَكرهون أيّ خيرٍ لك، فعَامِلهم بأخلاق الإسلام لكن مع الحذر، وإلا أبعدوك عنها تدريجيا إن استجبتَ لشرورهم بكامل حرية إرادة عقلك، فتَتعس بالتالي في دنياك وأخراك
هذا، ومعني "وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)" أيْ هذا تحذيرٌ للمسلمين من كراهية بعض غير المسلمين لهم حتي لا يَثِقُوا بهم ثقة كاملة وعليهم أن يُعاملوهم بأخلاق الإسلام لكنْ مع شدّة الحَذَر من مَكَائدهم وإلا أبعدوهم عنها تدريجيا إن استجابوا لشرورهم بكامل حرية إرادة عقولهم فيتعسون بالتالي في الداريْن علي قَدْر بُعْدِهم عن ربهم وإسلامهم.. أيْ أحَبَّ وتَمَنَّيَ كثيرٌ من أهل الكتاب وهم الذين قد نَزَلَ عليهم كتاب من الله تعالي يَسْبِق القرآن الكريم كاليهود الذين أنْزِلَ عليهم التوراة من خلال رسولهم موسي (ص) وكالنصاري الذين أنزل عليهم الإنجيل من خلال عيسي (ص)، ومَن تَشَبَّهَ بهم، أن يرجعوكم بعد إيمانكم كفاراً أيْ بعد تصديقكم بوجود الله وبكتبه ورسله وآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وعملكم بأخلاق الإسلام إلي عكس ذلك وهو الكفر.. ولفظ "كثير" يُفيد أنَّ بعضهم لا يَوَدّون ذلك بل يُؤمنون فيسعدون في دنياهم وأخراهم.. ".. حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم.." أيْ وذلك ليس له أيّ مُبَرِّرٍ إلا كوْنه حَسَدَاً من تِلْقاء عقولهم ومشاعرهم النفسية بداخلها إذ هم لم يُؤْمَرُوا بذلك حتماً فى كتبهم بل هي تَمنعهم من هذا الخُلُق القَبِيح.. والحسد هو تَمَنِّي بالعقل زوال نعمةٍ مَا عن المحسود وإتْبَاعِ هذا التَّمَنِّي بأقوالٍ وأفعالٍ تُحَقِّق هذا الزوال لهذه النعمة، فهم يَتَمَنّون زوالَ نِعْمة الإسلام عن المسلمين ولا يُحبّون أن يروهم يعيشون في خيرات وسعادات الإسلام بَدَلَ شرور وتعاسات الكفر، لأنه بانتشاره لا يُمكنهم أن يَستعبدوا مَن يُسْلِم ويَستغفلوه ويَسْتَغِلّوا جهوده وثرواته ولذلك فهم يكرهونه ويُعَادُونه ويُقاومون انتشاره بكل الوسائل المُمْكِنَة لديهم.. ".. مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ.." أيْ بعدما ظَهَرَ واتَّضَحَ لهم تماما الحقّ أيْ الصدق التامّ للقرآن العظيم وللرسول الكريم محمد (ص) والذي لا يُنْكِره أيّ عاقلٍ مُنْصِفٍ عادل، وبالتالي ففِعْلهم ليس عن جهلٍ قد يعتذرون به وإنما عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وعِنادٍ وإصرارٍ علي ما هم فيه وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ.." أيْ فسَامِحُوا فلا تُعاقِبوا فتُقَابِلوا الإساءة بمِثْلها بل بالحَسَنَة وكأنَّ الإساءةَ قد مُحِيَتْ، واصفحوا أيْ واجتهدوا في أن تَنْسوا الأمر تدريجيا والغوه من أذهانكم، والمقصود ألاّ تهتمّوا ولا تتأثّروا بأقوالهم وأفعالهم، واستمِرّوا في التمسّك والعمل بكل أخلاق إسلامكم، مع حُسن التعامُل معهم والصبر علي أذاهم ودعوتهم بما يُناسبهم بين الحين والحين فلعلهم يعودون لربهم وللإسلام ليسعدوا في الداريْن، واصبروا علي ذلك إلي أن يأتي الله بأمره أيْ بنَصْره ونَشْره للإسلام والتمكين له ولكم في الأرض فتُديرونها بأخلاقه فتَنتفعون وجميع الناس بخيراتها وسعاداتها، وبعقابه لهم بما يُناسب شرورهم، وأمره هذا بالنصر وبالعقاب الدنيويّ والأخرويّ سيَأتي حتما فهو تعالي لا يُخْلِف وعده مُطلقاً وذلك بسبب ".. إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)" أيْ هذا تأكيدٌ لحَتْمِيَّة مَجِيء أمر الله بلا أيِّ شكّ لأنه تعالي علي كل شيءٍ قدير بتمام القُدْرة والعلم فبمجرد أن يقول لشيءٍ كن فيكون كما يريد لا يمنعه مانِع ولا يصعب عليه شيء.. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أقمتَ الصلاة، أيْ أَتَيْتَ بها علي أقْوَمِ وَجْه، أيْ أحسنتها وأتقنتها، لأنه سبحانه ما أَوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء القادر علي كل شيءٍ يَطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من الخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. وإذا كنتَ من المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ من المُسْتَبْشِرين دوْماً بانتظار خير ربك جزاء ما تُقَدِّم من الخير فهو بصير دائما بك ولا يضيع أبدا أجر مَن أحسن عملا في الداريْن، فكلّ خيرٍ تُقَدِّمه هو لنفسك أولا وأخيرا، فهذا الاستبشار والتفاؤل يجعلك سعيدا علي الدوام نشيطا بكلّ هِمَّة وقوة نحو أيّ خيرٍ فتكون كل لحظات حياتك خيراً في خير وسعادة علي سعادة
هذا، ومعني "وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)" أيْ وتمسّكوا واعملوا دوْماً بكل أخلاق إسلامكم والتي منها أن تُوَاظِبوا علي تأدية الصلوات الخَمْس المفروضة وتُؤَدّوها دائما علي أكمل وَجْهٍ ما استطعتم أيْ تُحسنوها وتُتقنوها لأنه سبحانه ما أوْصَيَ بها إلا لتكون صِلَة بين المخلوق وخالقه مالِك المُلك أقوي الأقوياء يطلب منه ما يشاء علي مَدَارِ يومه من كل خيرٍ وسعادة له ولمَن حوله في الداريْن.. ".. وَآتُوا الزَّكَاةَ.." أيْ وأعْطُوا الزكاة المفروضة لمُسْتَحِقِّيها إنْ كنتم مِن أصحاب الأموال، وكونوا دوْماً مِن المُنْفِقين الذين يُنفقون مِمَّا رزقهم الله بتَوَسُّطٍ واعتدالٍ علي ذاتهم ومَن حولهم وعموم الناس بل وعموم الخَلْق مِن كل أنواع الإنفاق سواء أكان مالا أم جهدا أم صحة أم وقتا أم فكرا أم غيره ممّا أنعم خالقهم به عليهم من النِعَم في أيّ وجهٍ من وجوه الخير حسبما يستطيعون استصحابه من نوايا خيرٍ في عقولهم بما يُسعد كل لحظات حياتهم هم ومَن حولهم وبما يجعل لهم أعظم الأجر في آخرتهم.. هذا، والزكاة من التزكية التي هي الترقية والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيات والمعاملات.. ".. وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ.." أيْ هذا تشجيعٌ علي فِعْل كل خيرٍ مُمْكِنٍ عموماً بعد كل الخير الذي سَبَقَ ذِكْره، أيْ وما تفعلوا في دنياكم من أيِّ خيرٍ في أيِّ وجهٍ من وجوهه بإخلاصٍ وإحسانٍ فأنتم تُقَدِّموه في حقيقة الأمر لأنفسكم حيث ستَجدون أجره وثوابه أضعافاً مُضَاعَفَة حتما عند الله تعالي بصورةٍ قطعا أكثر خيراً وأعظم أجراً وعطاءً مِمَّا فعلتموه وقَدَّمتموه في الدنيا ولا يُقارَن به، ستجدونه في الآخرة عنده مُجَهَّز لكم في أمانِه ورعايته وحبِّه في أعلي درجات جناته حيث الخلود في نعيمٍ مِمَّا لا عينٌ رَأَت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ علي عقل بَشَر.. وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف هو إضافة إلي جنة الدنيا التي ستَجدونها وسيُكرمكم بها حيث تكون حياتكم كأنكم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيركم إلا مَن كان مثلكم وذلك بسبب فِعْلكم للخير نتيجة لإيمانكم به وتمسّككم وعملكم بكل أخلاق إسلامكم، فهذا هو وعده سبحانه الذي لا يُخْلَف مُطلقا كما قال "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل : 97) (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني)، فرِزْقه سبحانه بلا حسابٍ ودون طَلَبٍ وعلي الدوام ومِن كلّ الأنواع ويَفيض ويَزيد وسواء يُحتاج إليه أم لا.. ".. إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)" أيْ إنَّ الله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ يَراكم ومُطّلِع على كل أعمالكم ويعلمها بتمام العلم والرؤية ولا يَخْفَيَ عليه شيء في كلّ كوْنه ومِن كلّ خَلْقه فهو يعلم السِّرَّ وما هو أخْفَيَ منه وسيُجازيكم عليها بما تستحِقّون في الدنيا والآخرة
وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من الذين لا يعيشون في الأماني والأحلام والأوهام بل يَحْيَوْن الواقع كما هو فيُحسنون تقديره والتخطيط لتغييره وتطويره دائما بكل خيرٍ نحو الأصلح والأسعد.. وإذا كنتَ موضع ثقةٍ مِمَّن حولك لا تَدَّعِي ادِّعاءً بغير برهانٍ ودليل، فهذا يزيدهم حُسْنَاً عند التَّعامُل معك فتَربح وتَسعد في دنياك وأخراك.. وإذا أسلمتَ وأحسنتَ، أيْ سَلّمْتَ نفسك لرعاية ربك وأمنه وعوْنه وتوفيقه وسداده باتّباعك لنظامه الذي أرْشَدك إليه وأوْصاك به وهو الإسلام الذي يُنَظّم لك كل شئون حياتك علي أكمل وجهٍ ويُسعدها ثم آخرتك تمام السعادة، ومن الإسلام والسعادة، الإحسان، أيْ تُحْسِن كلّ قولٍ تقوله وكلّ عملٍ تعمله، فلك بذلك أجرك العظيم في الدنيا حيث ثقة الآخرين بك وإقبالهم عليك وإحسانهم إليك في المُقابِل بقولهم وعملهم فتَرْبَح وتَكسب وتَأْمَن بلا خوفٍ ولا حزن، ثم في الآخرة لك حتماً ما هو أعظم من ذلك وأتَمّ وأخْلَد.. وإذا تَجَنَّبْتَ مُطلقاً تكفير الآخرين أو التّعالِي عليهم بتصنيفهم بغير علمٍ أنَّ هذا من أهل الجنة وذاك من أهل النار فإنَّ في ذلك مُنَازَعَة لله تعالي المُتَفَرِّد وحده بمعرفة أسرار خَلْقه وتَصرّفاتهم والذي سيَحكم فيهم بعلمه وعدله يوم القيامة فيُجازي أهل الخير خيراً وسعادة وأهل الشرّ شرَّاً وتعاسة، فإنَّ ذلك قد يشغلك عن واجبك نحوهم مِن حُسن معاملتهم ودعوتهم بالقدوة والحكمة والموعظة الحَسَنة ليهتدوا لخير الإسلام ليسعدوا مثلما سعدت أنت، فتتعس بهذا التصرّف وهذا التقصير حيث سيستمرّون في شرّهم وغالبا ما يُصيبك منه شيء عند تعاملهم معك كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا
هذا، ومعني "وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)" أيْ هذا تكذيبٌ لِمَا يَدَّعِيه بعض اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّهَ بهم أنه لن يَدخل الجنة أحدٌ غيرهم!.. أيْ وإضافة إلي سُوئِهم الذي سَبَقَ ذِكْره فإنهم أيضا يقولون أنه لن يدخل الجنة أحدٌ إلاّ مَن كان علي دينهم أيْ يهودياً أو نصرانيا!.. ".. تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ.." أيْ هذه أوْهَامُهم، فهي ليست إلا أمْنِيات يَتَمَنّونها في أنفسهم فاسِدَة وَهْمِيَّة ليست حقيقية وأكاذيب تَتّفِق مع أمانيهم لفَّقها لهم علماؤهم وأساتذتهم ودعاتهم وألقوا في فِكْرهم أنها حقائق من الكتاب الذي أرسلناه لهم، ولقد صَدَّقَ أمثال هؤلاء هذه التخاريف لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوماً مَا كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)" أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم مِن بَعْدِه أحضروا دليلكم على صِحَّة ما تدَّعون إن كنتم صادقين في دعواكم هذه، فإنْ لم تأتوا به فأنتم بالتالي حتماً كاذبون
ومعني "بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)" أيْ بَلَيَ، والتي تُفيد نَفْيَ نَفْيِهِم، أيْ ليس الأمر كما يَدَّعِي أمثال هؤلاء كذباً وزُورَاً أنَّ الجنة لا يُدخلها إلا مَن كان يهودياً أو نصرانياً أو أنها تَخْتَصّ بطائفةٍ دون غيرها بل يدخلها كل مَن أسلم وجهه لله وهو مُحسن، في أيّ زمنٍ، أيْ كل مَن سَلَّمَ نفسه بالكامل بوَجهه أيْ بكُلّه أيْ بعَقله وفِكْره وقوله وفِعْله لرعاية ربه وأمنه وعوْنه وتوفيقه وسَدَاده باتّباعه لنظامه الذي أرْشَده إليه وأوْصاه به وهو الإسلام الذي يُنَظّم له كل شئون حياته علي أكمل وجهٍ ويُسعدها ثم آخرته تمام السعادة.. ومن معاني أن يُسْلِم لله كذلك أيْ يُخْلِص له سبحانه فلا يقول قولاً ولا يَفعل فِعْلاً طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنه كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس له حيث يُوقِعه في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحه حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقله، بل من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة.. ويكون مع إسلام وجهه لله وإخلاصه له مُحْسِنَاً، أيْ يُحْسِن كلّ قولٍ يقوله وكلّ عملٍ يعمله (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. فهذا وأمثاله بسبب ذلك حتماً لهم أجرهم عند ربهم أيْ لهم جزاؤهم وثوابهم وعطاؤهم المُجَهَّز لهم في آخرتهم عند ربهم أيْ عند أمانِ ورعايةِ وحبِّ ربهم وهو جنات إقامةٍ دائمةٍ خالدةٍ بلا أيّ نهايةٍ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي عقل بَشَر، وكل هذا العطاء الذي لا يُوصَف في الآخرة هو إضافة إلي جنة الدنيا التي أكرمهم الله بها حيث كانت حياتهم كأنهم في جنة كلها أمن وخير وسعادة لا يستشعرها غيرهم مِمَّن لا يخافون مقام ربهم وذلك بسبب إيمانهم به وتوكّلهم عليه وشكرهم له وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم.. ".. وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)" أيْ وهم أيضا بسبب ذلك حتماً دائماً مُطْمَئِنّون سعداء مُسْتَبْشِرون بفِعْلهم للخير وبما ينتظرونه من فضل ربهم في دنياهم وأخراهم، لا يخافون إلا هو سبحانه فلا يُرْهبهم أيّ شيءٍ ولا أيّ شرٍّ يَنزل بهم فهم مُقْدِمُون مُنْطَلِقون في الحياة بكلّ قوةٍ وعَزْمٍ رابحون علي الدوام، ولا يَحزنون أو يَندمون علي أيّ شيءٍ قد يَفوتهم أو مِن أيّ ضَرَرٍ قد يُصيبهم فهم يَصبرون عليه ويُحسنون التعامُل معه والخروج منه مستفيدين استفادات كثيرة (برجاء مراجعة الآية (143) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل عن الصبر وفوائده وسعاداته في الداريْن)، لأنهم متوكّلون دائما علي ربهم مُتواصِلون معه (برجاء مراجعة معني التوكّل في الآية (51)، (52) من سورة التوبة، للشرح والتفصيل).. وعند موتهم ودخولهم قبورهم وبَعْثهم يوم القيامة تَتَلَقّاهم الملائكة في كل هذه الأحوال بكلّ تَبْشِيرٍ وطَمْأَنَةٍ وتأمينٍ أنهم مُقْبِلون علي تمام الرحمات والخيرات والسعادات من ربهم الرحيم الودود الكريم ذي الفضل العظيم فعليهم ألاّ يخافوا ولا يحزنوا أبدا بل يستبشروا بالجنة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر والتي كانوا يعدهم بها ربهم في دنياهم من خلال رسله وكتبه وهو الذي لا يُخْلِف وعْده مُطلقا.. هذا، والعكس صحيح بالقطع، أيْ مَن بَقِيَ علي اليهودية أو النصرانية أو بلا دينٍ ولم يُسْلِم، أو مَن كان مسلما لكنه يترك العمل بأخلاق إسلامه كلها أو بعضها، فأمثال هؤلاء سيكونون في خوفٍ وحزنٍ وتعاسةٍ في الداريْن علي قَدْر بُعدهم عن ربهم وإسلامهم
ومعني "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)" أيْ هذه شهادة حقّ وإثبات من داخل اليهود والنصاري ومَن لا دين له ومَن يَتَشَبَّه بهم أنهم ليسوا علي الحقّ، كما أنها تُفيد تَنَاقضهم وتَفَرّقهم ومُعاداتهم وكراهيتهم لبعضهم البعض (برجاء مراجعة أيضا الآية (14) من سورة الحشر ".. بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14)"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. أيْ وإضافة لأقوالهم السابقة قالت اليهود ليست النصاري علي شيءٍ من الدين الحقّ، أيْ ليسوا علي الصدق والعدل والصواب والخير والسعادة، بل هم علي الضلال أيْ الضياع أيْ علي الكذب والظلم والخطأ والشرّ والتعاسة، وقالت النصاري في اليهود مِثْل ذلك.. ".. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ.." أي وهم كلٌّ منهم يَقرؤون التوراة والإنجيل وفيهما أنَّ عليهم التصديق بالرسل جميعا وخاتمهم الرسول الكريم محمد (ص) وأنْ يُسْلِموا ليَسعدوا في دنياهم وأخراهم، ولذلك فكفرهم ليس عن جهلٍ ولكن عن علمٍ وتَعَمُّدٍ وتكذيبٍ وعنادٍ واستكبارٍ واستهزاءٍ وسوءِ أهدافٍ ونوايا لكي لا يَتّبعوه ولا يَتّبعه غيرهم، وكذلك فإنَّ تكفيرهم لبعضهم البعض هو صادق حتما لأنه من داخلهم فهم أعلم الناس بأنفسهم.. وما كل ذلك إلا لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. ".. كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.." أيْ كما أنَّ أهل الكتاب من اليهود والنصاري قد قال كلٌّ منهم فيمَن خَالَفه إنه ليس على شىءٍ من الدين الحقّ، فكذلك قال الذين لا يعلمون أيّ إلهٍ أو شَرْعٍ منه يُنَظّم حياتهم كالذين لا دين لهم وكالذين يَعبدون أيْ يُطِيعون صَنَمَاً أو نجماً أو غيره وكمَن يَتَشَبَّه بهم من أمثال هؤلاء الذين يُعَطّلون عقولهم، قالوا مِثْل هذا عليهم وعلي المسلمين، ولقد كان من المُفْتَرَض أن يتميَّز عنهم أهل الكتاب الذين كانت لهم صِلَة بالله وكتبه ورسله ولكن تساوَىَ الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون، وفي هذا مزيدٌ من الذمِّ الضِّمْنِيّ لهم فكأنهم كالجَهَلة، فقد تَشَابَهَت عقول هؤلاء وأولئك في الضلال والجهل، فلعلهم بهذا يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما، فلا يَتَشَبَّه بهم إذَن أيّ أحدٍ حتي لا يَتعس مِثْلهم في دنياه وأخراه.. ".. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)" أيْ هذا مزيدٌ من التهديد والتحذير الشديد لأمثال هؤلاء لمزيدٍ من إيقاظهم.. أي فالله تعالي وحده الخالِق العالِم بكلّ أقوالهم وأفعالهم الظاهرة والخَفِيَّة والعادِل الذي لا يظلم مُطلقا هو الذي سيَحكم أيْ سيَقْضِي وسيَفْصِل بينهم جميعا في يوم القيامة يوم الحساب وليس أيّ أحدٍ آخر في كلّ أنواع المُنازعات والاختلافات التي اختلفوا فيها أثناء حياتهم فيُبَيِّن لهم أين الحقّ من الباطل والصواب من الخطأ ومَن كان علي الخير وتمسَّكَ به ومَن كان علي الشرّ وعمل به ولم يستجب للخير، ويُعطِي كلاّ ما يستَحِقّه من الجنة أو النار بكلّ عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم.. فأحسِنوا الاستعداد لذلك بالتمسّك بكلّ أخلاق إسلامكم
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِن عُمَّار المساجد الذين يبنونها ويشاركون في بنائها ويُصَلّون ويَذْكُرون ربهم فيها ويَتَعَلّمون العلم ويُعَلّمونه بها ويَخدمون عموم الناس من خلالها ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة في الدنيا والآخرة، فالمساجد هي بيوت الله تعالي في أرضه وهي المَجْمَع والمَرْجِع والمَلْجَأ والمَلاذ للمسلمين فهي من أسباب وحدتهم وتَقارُبهم وتَلاقيهم وتعاونهم وأمنهم وراحتهم وسعادتهم، فإيَّاك إيّاك أن تكون من أشدّ الظالمين الذين يُخَرِّبونها ويَمنعون خيرها وإلا خَزِيتَ وتَعِسْتَ وحُرِمْتَ فوائدها فيهما
هذا، ومعني "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)" أيْ لا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة مِن الذي مَنَعَ مساجد الله عن ذِكْره فيها وإقامة الصلاة وتلاوة القرآن وتَعَلّم العلم وتعليمه وخدمة عموم الناس من خلالها ونحو ذلك من صور الخير المُسْعِدَة للجميع في دنياهم وأخراهم.. ".. وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا.." أيْ وتَحَرَّك مُجتهداً مُسْرِعَاً بكلّ هِمَّةٍ وقوةٍ وعزمٍ ونشاطٍ في تخريبها بهدمها أو إغلاقها أو مَنْع المسلمين والناس من دخولها وتعميرها والانتفاع بخيراتها وسعاداتها.. ".. أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ.." أيْ أمثال هؤلاء لا يجب أبداً السماح لهم أن يدخلوها إلا خائفين من عقاب المسلمين لهم بسبب إساءاتهم.. وفي هذا تهديدٌ شديدٌ لهم لعلهم يستقيظون وينتهون عمَّا يفعلون، ودعوة ضِمْنِيَّة للمسلمين لأنْ يكونوا أقوياء ليَحْموا إسلامهم بالتمسّك والعمل بأخلاقه ويَحْموا مساجدهم وخيراتهم ويُؤَدِّبوا كلَّ ظالمٍ مُعْتَدٍ عليهم بما يُناسب، مع احترام المساجد ودخولها في حالة خوفٍ وخشيةٍ من الله تعالي –والخشية تعني خوفه مع الحب الشديد له والتقدير الكبير لهيبته وعظمته والأمل الواسع في رحمته وفضله– إضافة للسكون والأدب، حتي يتحقّق الانتفاع بكل ذلك.. ".. لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)" أيْ لهم حتماً عذابٌ دنيويّ وأخرويّ بما يُناسب شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فلهم في الدنيا خزي أيْ ذِلّة وانحطاط وعار وفضيحة، يَتَمَثّل في درجةٍ مَا من درجات العذاب كقَلَقٍ أو توتّرٍ أو ضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراع أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة كلّ ما فيه ألم وكآبة وتعاسة، ثم سيكون لهم في الآخرة عذاب هائل شديد مُؤْلِم مُوجِع لا يعلم مقدار شِدَّته وفظاعته إلا هو سبحانه
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا تأكّدتَ تماما واستشعرت دائما أنَّ الله تعالي معك بتمام علمه وقُدْرته ورحمته في أيِّ مكانٍ وفي كلِّ وقتٍ تَطلب منه دوْمَاً كلَّ خيرٍ وعوْن وتوفيق وسداد وحب ورضا ورعاية وأمن ورزق وقوة ونصر وسعادة لك ولمَن حولك في الداريْن فهو أقوي الأقوياء مالك الملك له كل ما في السماوات والأرض من مخلوقات وخيرات طائعة له خَلَقها لنفعك ولسعادتك.. وهو أيضا يعلم كل ما تُسِرّ وما تُعلن كبيره وصغيره من أعمالك وأقوالك بتمام العلم والرؤية، وبالتالي سيُجازي حتما بكل علمٍ وبكل عدلٍ ودون أيّ ذرّة ظلمٍ أهل الخير بكل خيرٍ وسعادة في دنياهم وأخراهم وأهل الشرّ بما يستحقّونه فيهما مِن كل شرٍّ وتعاسة علي قَدْر شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم، فأحْسِن إذَن كلّ كلامك وتَصَرّفاتك علي الدوام لتَسعد في دنياك وأخراك.. وإذا كنتَ من المُتَدَبِّرين في كلّ خَلْق الله تعالي، فهذا سيزيدك حتما يَقينا أي تأكّدا بلا أيّ شكّ بوجود خالقك الكريم وقُرْبا منه وطَلَبَاً لرعايته ورضاه وأمنه وحبه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن (برجاء مراجعة الآيات (2)، (3)، (4) من سورة الرعد، للشرح والتفصيل)
هذا، ومعني "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)" أيْ ولله تعالي جِهَتَىّ الشروق والغروب للشمس أيْ له كلّ جِهات الأرض وكل الكوْن أيْ مالِكه ومُدَبِّر كل شئونه، فأيّ جهة تَوَجَّهتم إليها فهناك وَجْه الله أيْ وجوده وذاته تعالي أي ثوابه وعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وحبه ورعايته وأمنه وتوفيقه وسداده وقوَّته ورزقه وسعادته في الداريْن.. كذلك من معاني وجه الله أيْ جِهَة الله أيْ أينما كنتم من شرق وغرب فهناك جهة الله التي أمَرَنا باستقبالها وهي جهة الكعبة أيْ أنَّ أرض الله واسعة أيها المسلمون فلا يمنعكم تخريب مَن خَرَّبَ مسجداً مِن مساجد الله كما ذُكِرَ في الآية السابقة (برجاء مراجعتها لتكتمل المعاني) أنْ تُوَلّوُا أيْ تُوَجِّهُوا وجوهكم نحو قِبْلة الله أينما كنتم من أرضه وتُؤَدّوا صلاتكم ولكم أجوركم العظيمة علي أدائها مِن أيِّ مكان.. ".. إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)" أيْ إنَّ الله بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ عظيم كامل الصفات والمُلْك يَسَع ويَشْمَل كلّ خَلْقه بعِلْمه وحِكْمته وسلطانه ونفوذه وفضله وكرمه وعطائه بنِعَمِه ورحماته التي لا تُحْصَيَ وتَوْسِعته لأرزاقهم وعدم تضييقه عليهم في تشريعاته لهم في الإسلام فكلها مُيَسَّرَة تماما تُنَظّم حياتهم وتُسعدها علي أكمل وجه.. عليم بكلّ شيءٍ عنهم وعن أحوالهم في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أيْ كثير العلم أي يعلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه كلّ شيءٍ يُظهرونه أو يُخفونه فلا تَخْفَيَ عليه خَافِيَة في الكوْن كله.. فانتبهوا لذلك وافعلوا كلّ خيرٍ واتركوا أيّ شرٍّ لتسعدوا تمام السعادة في دنياكم وأخراكم
ومعني "وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116)" أيْ وإضافة لأقوالهم السَّيِّئة السابقة، قال بعض المُعَطّلين لعقولهم المُخَرِّفِين المُتَطَاوِلين علي خالقهم سبحانه المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين كذباً وزُورَاً أنَّ لله زوجة وقد أنجب منها أولادا!! وكأنَّ الخالق يحتاج لذلك كما يحتاج خَلْقه!! فقد ادَّعَيَ بعض النصاري أنَّ المسيح ابن الله وأنه أنجبه من أمِّه مريم! وادَّعَيَ بعض اليهود أنَّ عُزَيْرَاً وهو أحد علمائهم هو ابنه سبحانه! وادَّعَيَ غيرهم أنَّ الملائكة بنات الله!! تعالي عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيرا.. ".. سُبْحَانَهُ.." أي فسَبِّحوه تعالي أيها الناس، سَبِّحوه بكلّ أسمائه وصفاته، أيْ نَزّهوه، أيْ ابْعدوه عن كل صفةٍ لا تَليق به، فله كل صفات الكمال الحُسْنَيَ، واعبدوه فهو المُسْتَحِقّ وحده للعبادة أي الطاعة من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام، فهو الأعلي أيْ المُتَرَفّع تماما عن كل ما لا يَليق وعن كل خَلْقه فكلهم تحته في مُلْكِه وتحت تصرّفه وسلطانه ونفوذه وأمره وحُكْمِه وهو الأعظم من كلّ عظيمٍ الذي يستحقّ كلّ تعظيمٍ وتقدير وتقديس لأنَّ له كل صفات العَظَمَة والأكبر مِن أيّ كبير وكلّ شيءٍ في كوْنه مُنْقَاد له مُحتاج إليه.. ".. بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116)" أيْ ليس الأمر كما يَفترون ولكن له سبحانه مُلْك السماوات والأرض فهو تعالي وحده الذي له كل ما فيهما وهو مالِكه كله والمُتَصَرِّف فيه في الدنيا والآخرة والقادِر عليه والعالِم به ليس معه أيّ شريك، وما يَمتلكه الخَلْق فهو مِمَّا يُمَلِّكه هو لهم وقد يأخذه منهم في أيّ وقتٍ شاء، فهو له كلّ المُلْك من حيث الخَلْق والإحياء للمخلوقات والإماتة لها وقبض الأرواح منها والرعاية والرزق والإرشاد لكل خير وسعادة، ولا يَمنعه أيّ مانع مِمّا يريد فهو قادر بتمام القُدْرة علي كلّ شيءٍ وإذا أراد شيئا فبمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد، وكل الخَلْق قانتون له أيْ مُطِيعون مُنْقَادُون مُسْتَسْلِمون تماما لإرادته وتدبيراته، فمَن كان هذا وَصْفه مِن القُدْرة والعلم والحِكْمَة فهو عقلاً ومَنْطِقَاً أرْفَع وأعظم قطعاً من أن يكون في حاجةٍ لمَن يُعينه من زوجةٍ أو ولدٍ أو شريكٍ أو غيره علي إدارة شئون الكوْن والخَلْق!!
ومعني "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117)" أيْ وكذلك من الأدِلّة المَنْطِقِيَّة والعقلية علي أنه تعالي أرْفَع وأعظم قطعاً من أن يكون في حاجةٍ لمَن يُعينه من زوجةٍ أو ولدٍ أو شريكٍ أو غيره علي إدارة شئون الكوْن والخَلْق أنه هو وحده لا غيره بديع السماوات والأرض أيْ مُبْدِعهما وكل ما فيهما من مخلوقاتٍ مُعْجِزاتٍ مُبْهِراتٍ أيْ مُوجِدهما من عدمٍ ومُخْتَرِعهما على غير مثالٍ سابقٍ بلا تقليدٍ لشيء ومُتْقِنهما ومُحْسِنهما بأكمل إتقانٍ وإحسان، وأيضا إذا أراد إحداثَ أمرٍ من الأمور فإنه من تمام قُدْرته وكمال علمه بمجرّد أن يقول له كن فيكون كما يريد فوراً بلا أيّ تأخيرٍ أو امتناع
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ من أهل العلم الذين يُحسنون استخدام عقولهم فيُوقنون أيْ يتأكّدون بلا أيِّ شكّ بوجود ربهم خالقهم وأنَّ شرعه الإسلام النظام الكامل لكل شئون الحياة هو مصدر سعادتهم التامّة في دنياهم وأخراهم.. وإيَّاك إيّاك أن تكون كالجَهَلَة أو المُتَعَالِين الذين يُعَطّلون عقولهم أو يُسيئون استخدامها فيُخفون الحقائق ويُزَوِّرونها فيَطلبون مثلا ما هو مستحيل فوق قُدْرَة البَشَر كتَكْلِيم الله لهم أو نزول آية خارقة للعقل كنزول الملائكة تُصافحهم أو ما شابه ذلك من صور الجهل والإعراض مِمَّا قد يفعله البعض ومِمَّا يُتْعِس في الداريْن
هذا، ومعني "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)" أيْ وإضافة لأقوالهم السَّيِّئة السابقة، قال الجَهَلة الذين لا يعلمون أيّ علمٍ نافعٍ مُفيدٍ الذين قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها بسبب الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، من المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين، قالوا لرسولنا الكريم محمد (ص)، وللمسلمين من بعده، بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء ومُرَاوَغَة، لو يُكَلّمنا الله مباشرة ليُخبرنا أنك رسوله، أو تأتينا منه مُعْجِزَة حِسِّيَّة نراها بأعيننا تدلّ علي صدقك كالتي أيَّدَ بها رسله السابقين كعَصَيَ موسي مثلا أو إحياء الموتي لعيسي، لكُنَّا آمَنَّا!! وفي هذا تكذيبٌ ضِمْنِيّ وعدم اعتراف بمعجزة القرآن العظيم واستهانة بشأنها رغم أنَّ المُعجزات الحِسِّيَّة هي حوادث تنتهي بانتهاء وقتها ولا تُؤَثّر إلا فيمَنْ حضروها وشاهدوها أمّا معجزة القرآن فإنها باقية خالدة تَتَحدَّىَ الأجيال إلى نهاية الحياة إذ أعْجَزَ البشرية كلها حيث لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثل ما أتَيَ به من نُظمٍ مُتَكَامِلَة تُسْعِد الجميع في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة.. ".. كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ.." أيْ أيضا قال المُكَذّبون السابقون قبلهم لرسلهم الكرام مثل هذا القول بسبب تَشَابُه عقول هؤلاء وأولئك في التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة.. فلا يَتَشَبَّه بهم إذَن أيّ أحدٍ حتي لا يَتعس مِثْلهم في دنياه وأخراه.. وفي هذا تسلية للمسلمين ببيان أنَّ تكذيب بعض مَن حولهم لهم ليس أمراً جديداً مُسْتَغْرَبَاً مُسْتَبْعَدَاً بل هو مُتَوَقّع يَحْدُث في كلّ عصر، فلْيَصبروا وليعملوا بأخلاق إسلامهم وليُحسنوا دعوة الغير له وليعلموا أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة.. ".. قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)" أيْ قد وَضَّحْنا الدلائل والبراهين والأمثال والمَوَاعِظ والدروس في كوْننا وقرآننا والتي تدلّ علي كمال قُدْرتنا وعِلْمنا وحِكمتنا ورحمتنا، والتي تُعين الناس لو أحسنوا استخدام عقولهم وتَدَبَّروا فيها وعملوا بكل أخلاقه لصَلحوا وكَملوا وسَعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، وهي كافية لهم تماما فلا يحتاجون معها إلى آياتٍ أخري.. ".. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)" أيْ هي نافعة للمُوقنين فقط أيْ المتأكّدين بلا أيّ شكّ بوجود ربهم وبآخرته وحسابه وعقابه وجنته وناره وبأنَّ قرآنه العظيم من عنده وبصدق رسوله الكريم (ص) الذي جاء به وبصلاحيته الكاملة بما فيه من أخلاق الإسلام لإسعاد جميع الناس في كل شئون حياتهم في كل لحظاتها بكل مُتَغَيِّراتها حتي يوم القيامة وذلك إذا عملوا بها كلها، هؤلاء هم فقط الذين يَنتفعون ويَسعدون بالقرآن بينما لا أثرَ له في عقول غيرهم لأنهم عَطّلوها بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما من أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أيْ البعيد عن أيّ باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أيْ التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ حَذِرَاً تماما عند التعامُل مع غير المسلمين لأنَّ بعضهم هم مِن الكارهين لك ولإسلامك الذين يتمنّون لو تركته خُلُقَاً بعد خُلُقٍ تدريجياً حتي تكون مثلهم فحينها يرضون عنك بينهم
هذا، ومعني "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)" أيْ نحن بَعثناك لجميع الناس – ومِن بَعدك كلّ المسلمين – ومعك الحقّ كله، أي الصدْق التامّ، وهو القرآن العظيم الذي فيه الإسلام الحنيف أي البعيد عن أيّ باطل، لكي تكون مُبَشِّرا لهم أيْ مُخْبِرَاً بالأخبار السارَّة وهي تمام الخير والسعادة في الدنيا والآخرة لمَن يتمسّك ويعمل بكل ما فيه من أخلاق، ومُنْذِرَاً أيْ مُحَذّرَاً مِن تمام الشرّ والتعاسة فيهما علي قَدْر ما يُتْرَك منه.. ".. وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)" أيْ ولستَ مسئولاً بعد تبشيرك وإنذارك لهم عن أهل النار المكذبين المعاندين المستكبرين المستهزئين الذين لا يستجيبون لك ولا يتبعون الإسلام.. فدَاوِم ودَاوِمُوا أيها المسلمون علي دعوة الجميع إلي الله والإسلام ليَصْلُحوا ويَكْمُلوا ويَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم، فهذه هي مهمتكم، فما كلٌّ منكم إلا مُذَكّر أيْ واعِظ ما أمكن لكل الناس حوله يُذَكِّرهم حتي لا يَنسوا أين الصواب من الخطأ والخير من الشرّ والسعادة من التعاسة في كل شئون حياتهم، فأنتَم لستَم بمُتَسَلِّطين عليهم مُتَحَكِّمين فيهم تُجْبِرونهم وتُكرهونهم على اتِّباع الإسلام، وإنما عليكم فقط التذكير والتبليغ والوعظ ونحن علينا الحساب، وليس عليكم أكثر من ذلك، فليس عليكم هدايتهم لله وللإسلام وإنما الأمر يعود لاختيارهم بكامل حرية إرادة عقولهم، فإن اختاروا الهداية سَعِدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم وإن لم يختاروها تعسوا فيهما (برجاء أيضا مراجعة الآية (45) من سورة ق ".. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) .. فإنْ فعَلَتَ ذلك يا رسولنا الكريم وفعَلَ المسلمون الدعاة مِن بعدك هذا – وكل مسلم هو داعي إلي الله والإسلام بما يستطيع – فقد أدّوا ما عليهم من حُسن دعوة غيرهم بكل قدوة وحكمة وموعظة حسنة (برجاء مراجعة الآية (272) من سورة البقرة، ثم الآية (187) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن الدعوة وأساليبها ووسائلها وموانعها وفوائدها وسعاداتها في الدنيا والآخرة)، وليتحمَّل المُكذّبون إذَن نتيجة تكذيبهم، لا يتحمّلها عنهم رسلهم الكرام ولا المسلمون الدعاة مِن بعدهم، وليطمئنّوا ولا يشعروا بتقصيرٍ ما نحو مدعويهم، ولا يتأثروا بهم، بل يستمرّوا في دعوة غيرهم، بل ودعوتهم هم أيضا لكن بما يناسبهم من أسلوبٍ وتوقيتٍ لعلهم يستفيقون يوما ما ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وليس عليهم أكثر من ذلك، فليس هناك إكراه علي الهداية أو ضغط منهم عليهم بصورةٍ ما، كما أنهم ليسوا هم الذين سيُحاسبونهم بل الله تعالي الذي يعلم المُستجيب مِن المُخَالِف.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُخَالِفين لكي يستفيقوا قبل فوات الأوَان
ومعني " وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)" أيْ هذا تحذيرٌ شديدٌ للمسلمين ليَنْتَبِهوا عند التعامُل مع غير المسلمين ودعوتهم لله وللإسلام كاليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم أنَّ منهم الذين يُصِرُّون تمام الإصرار علي التكذيب والعِناد والاستكبار والاستهزاء والمُرَاوَغَة لدرجة أنهم ليسوا فقط لن يَرْضُوا عنك أيها المسلم بألاّ يُسْلِموا بل لن يَرْضوا ويَرْتَاحوا أبداً إلي نهاية حياتهم حتي تَتْرُكَ إسلامك ويجتهدون في محاولات إبعادك عنه بكل وسيلةٍ مُمْكِنَةٍ وأنْ تَسِيرَ معهم فيما يُخالِف الإسلام من شرور ومَفاسد وأضرار وأنْ تَتّبِع مِلّتهم أيْ دينهم وطريقتهم وسلوكِيَّاتهم رغم مُخَالَفَاتهم هم لأصولها والتي هي الإسلام بما وضعوه فيها من تَحْريفاتٍ وتَخْريفاتٍ واتّبعوها لأنهم قد عَطّلوا عقولهم بالأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي تحصيل ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. فإنْ فَعَلْتَ ذلك رضوا عنك أي قَبِلُوك بينهم وقد ينفعونك بنَفْعٍ مَا حيث قد أصبحتَ واحداً منهم!.. إنَّ المشكلة إذَن ليست في الأدِلّة المُقْنِعَة لهم علي صِدْق القرآن العظيم ووجودها أو قوّتها أو ضعفها وإنما في عقولهم وفي عِنادهم واستكبارهم وتكذيبهم مِن أجل أثمان الدنيا الرخيصة.. ".. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم إنَّ إرشاد الله في دينه الإسلام هو حتماً بكل تأكيدٍ بلا أيِّ شكّ الإرشاد الحقيقي الذي ليس بعده أيّ إرشاد أكمل وأعظم وأفضل وأصْوَب وأصْلَح منه حيث يُرْشِد لكل ما يُصلح ويُكمل ويُسعد تمام السعادة في الدنيا والآخرة وكلَّ مَن يَعمل بأخلاقه كلها سيُحَقّق قطعاً ذلك، وليس ما يَدَّعِيه أمثال هؤلاء المُكَذّبين من تعاليم مَكْذُوبَة مُحَرَّفَة مُخَالِفَة لهُدَيَ الله تعالي يَسترشدون بها هي الهُدَيَ بالقطع بل هي الهَوَيَ المُؤَكّد أيْ الشرّ والفساد والضرَر والتعاسة!!.. ".. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)" أيْ وإذا سِرْتَ خَلْفَ وأَطَعْتَ يا أيها المسلم شرورهم ومَفاسدهم وأضرارهم بعد الذي وَصَلَك من العلم وهو الإسلام بما فيه من أخلاقِيَّات وتشريعات وأنظمة فإنَّ النتيجة الحَتْمِيَّة لذلك بكلّ تأكيدٍ أنه لن يكون لك من جِهَة الله أيّ وَلِيّ يَلِيِ أمورك أيْ يُديرها لك علي أكمل وأسعد وجهٍ في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآية (255) من سورة البقرة ، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن سعادة المسلم الذي يَتّخِذ الله وَلِيَّاً )، وإنْ اتَّخَذْتَ غيره وليّا فلَكَ تمام التعاسة فيهما (برجاء أيضا مراجعة الآية (257) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، ولن يكون لك أيّ نصيرٍ ينصرك ويعزّك ويرفعك إذا ابتعدتَ عنه ولَجَأْتَ لغيره، ستنهزم في الدنيا، وإذا نَزَلَ بك عقابٌ مَا فيها ثم في الآخرة لن تجد لك من الله أيْ مِن عذابه أيَّ وَلِيّ يُدافع عنك ولا أيَّ نصيرٍ يَنصرك بأنْ ينقذك أو يُخَفّف عنك شيئا منه (برجاء مراجعة الآيات (12)، (13)، (116) من سورة آل عمران، للشرح والتفصيل عن أنَّ أهل الحقّ والخير لابُدَّ حتما سينصرهم الله في كل شئون حياتهم، ثم الآيات (121) حتي (127)، ثم الآيات (151)، (152)، (160) من سورة آل عمران أيضا، للشرح والتفصيل عن أنَّ النصر مِن عند الله تعالي وحده)، فمَن يريد إذَن ولاية الله المُسْعِدَة ونصره المُسْعِد، في دنياه وأخراه، فليتّخذ أسباب ذلك بأن يؤمن بربه ويتمسّك ويعمل بكل أخلاق إسلامه لا بأيِّ أنظمة أخري تُخَالِفه
ومعني "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)" أيْ ليس كلّ اليهود والنصاري علي هذا السوء الذي سَبَقَ ذِكْره، فالتعميم ظُلْم، حيث منهم الذين أعطيناهم الكتاب قبل القرآن وهو التوراة لليهود والإنجيل للنصاري فكانوا يتلونه حقّ تلاوته أيْ يَتّبعونه حقّ اتّباعه حيث التلاوة هي مِن تَلَيَ الشيء أيْ جاء بعده واتّبَعه فهم يعملون بكل أخلاقه في كل شئون حياتهم بالإضافة قطعا إلي تلاوته بمعني قراءته حقّ القراءة أيْ بتَدَبّرٍ وتَعَقّلٍ واهتمامٍ ومُوَاظَبَةٍ لتنفيذ كلّ ما فيه.. كذلك من معاني الآية الكريمة أنَّ الذين آتيناهم الكتاب هم المسلمون حيث أعطيناهم القرآن العظيم.. ".. أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.." أيْ أمثال هؤلاء من اليهود والنصاري هم الذين يؤمنون بكتابهم بحقّ أيْ بصِدْقٍ وأمّا المُحَرّفون له فهم قطعا لا يؤمنون به، وهؤلاء كذلك يؤمنون تَبعَاً لذلك بالقرآن العظيم إذا وَصَلَ إليهم وعلموا به بلا أيّ تَرَدُّدٍ بمجرد تَدَبُّره لأنه يُصَدِّق ما في كتبهم، وهذا مَدْحٌ لهم وتشجيع لغيرهم من أمثالهم أن يُسْلِموا هم أيضا ليسعدوا في الداريْن.. وهو أيضا مدح للمسلمين وتأكيد وشهادة علي إيمانهم، أيْ الذي يعملون بكل أخلاق قرآنهم أولئك بالتأكيد هم الذين يؤمنون به بحقّ أيْ بعملٍ لا يؤمنون مجرّد تصديقٍ لكن بغير عملٍ الذين حتماً سيَنالون ما وَعَدَهم به ربهم من السعادة التامّة في الدنيا والآخرة.. ".. وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)" أيْ ومَن يَكفر بكتابٍ مُنَزَّل من عند الله تعالي فلا يُصَدِّق بأنه من عنده أو يُحَرِّف فيه أو يَكْتُم شيئا منه أو يستهزيء به أو يَستكبر عليه أو ما شابه هذا من صور الكفر فأولئك بالقطع هم الخاسرون في دنياهم وأخراهم أيْ أشدّ الخاسرين بخسارةٍ ما بعدها خسارة ولم يخسرها أحدٌ مثلهم حيث في الدنيا سيكون لهم درجة ما مِن درجات العذاب كقلقٍ أو توتّرٍ أوضيقٍ أو اضطرابٍ أو صراعٍ أو اقتتالٍ مع الآخرين وبالجملة سيكون لهم كل ألمٍ وكآبة وتعاسة، بسبب أفعالهم السَّيِّئَة إذ مَن يَزرع سوءاً لابُدَّ أن يحصد سوءاً كما نَبَّه لذلك تعالي بقوله "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.." (الإسراء : 7)، ثم في الآخرة سيكون لهم حتما ما هو أشدّ عذابا وألما وتعاسة وأعظم وأتمّ وأخلد
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (123)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
برجاء مراجعة تفسير الآيتين (47)، (48) من هذه السورة الكريمة.. هذا، واستخدام ذات الألفاظ هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيهما والتنبيه لهما والتذكير بهما وتثبيتهما وعدم نسيانهما
وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا أتْمَمْتَ اتّباع أخلاق الإسلام كلها بتمامها وكمالها حيث ستَتِمّ لك السعادة الكاملة في الداريْن لأنَّ التفريط في أيٍّ منها سيُصيبك حتماً بتعاسةٍ وكآبةٍ علي قَدْر تفريطك والشرّ الذي فعلته.. وستُصبح إماماً يُؤْتَمَّ ويُقْتَدَيَ بك، وأستاذاً ومعلماً وقائداً وهادياً، ونحو ذلك من الصفات التي تسعدك وتجعلك رابحا دائما في دنياك ثم رابحا أعظم الربح في أخراك لتوجيهك الآخرين لخيريِّ دنياهم وأخراهم مِمَّن سيَقتدون بك ويفعلون فِعْلَك.. فهذا هو عهد الله أيْ وعده لنا.. أمّا إنْ ظلمتَ نفسك بتَرْكِك أخلاق الإسلام كلها أو بعضها، أو ظلمتَ غيرك بإيذائهم قولاً أو عملاً، فلك التعاسة علي قُدْر ظُلْمك، فهذا أيضا هو عدل الله وعهده ووعده
هذا، ومعني "وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)" أيْ اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين اخْتَبَرَ الله ربُّكُم – أيْ مُرَبِّيكم وخالقكم ورازقكم وراعِيكم ومُرْشِدكم من خلال دينه الإسلام لكلّ ما يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم – إبراهيمَ الرسولَ الكريمَ بكلماتٍ أيْ بتشريعاتٍ وأخلاقِيَّاتٍ في الإسلام فأتَمَّهُنَّ أيْ فقام بأدائهِنَّ كلّهنَّ علي أتَمِّ وأكمل وجهٍ بكلّ هِمَّةٍ وجدِّيَّةٍ وعَزْمٍ واجتهادٍ وحِرْصٍ واستمرارٍ وتَوَازُنٍ وحبٍّ وطاعةٍ وصِدْقٍ وإحسانٍ وإتقانٍ وسرعةٍ في التنفيذ بلا أيِّ تقصيرٍ أو تفريطٍ أو تَبَاطؤ.. ".. قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.." أيْ فلمّا أتَمَّهُنَّ بنجاحٍ كانت مكافأة الله تعالى له ونِعَمه عليه أعظم في مُقابِل ذلك حيث قال له سأجعلك للناس جميعا إماماً يُؤْتَمّ ويُقْتَدَيَ بك في كل أقوالك وأفعالك أيْ أستاذاً ومعلماً وقائداً وهادياً ونحو هذا من الصفات التي تُسعدك وتَجعلك رابِحَاً دائماً في دنياك ثم رابحا أعظم الربح في أخراك لتوجيهك الآخرين لخيريِّ دنياهم وأخراهم مِمَّن سيَقتدون بك ويَفعلون فِعْلَك.. ".. قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي.." أيْ قال إبراهيم لَمَّا رأيَ نِعَم الله تعالي العظيمة عليه سائلاً إيّاه مزيداً منها مِن كرمه وفضله ورحمته بما يُفيد حرصه الشديد علي صلاح أسرته وأقاربه ومَن حوله، قال ومِن أبنائي وأحفادي ونَسْلِي اجعل أيضا يا ربّ أئمة صالحين ليَنتشر الخير وليَزداد خيرنا في دنيانا وأخرانا.. ".. قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)" أيْ قال الله تعالي له لا يَصِل وَعْدِي بالإمامة إلي الظالمين وهم الذين ظلموا أنفسهم ومَن حولهم فأتعسوها وأتعسوهم في الداريْن بكثيرٍ من أنواع الظلم سواء أكان كفرا أيْ تكذيبا بوجود الله أم شركا أي عبادة لغيره كصنم أو حجر أو نجم أو نحوه أم نفاقا أي إظهارا للخير وإخفاءً للشر أم اعتداءً وعدم عدلٍ أم فسادا ونشرا للشرّ أم ما شابه هذا.. هذا، وقد استجاب تعالي لدعائه من حبه له فجعل الرسل مِن نَسْله واستثنى الظالمين منهم لأنهم لا يستحِقّون هذه المَكَانَة العالية والتي لا تكون إلا في أهل الصدق والعدل والخير والرحمة.. هذا، والآية الكريمة تُبَشِّر كلَّ صالحٍ غير ظالمٍ بأنه من المُمكن أن يكون إماماً لمَن حوله بدرجةٍ من الدرجات وينال خيريّ وسعادتيّ الدنيا والآخرة إذا تَشَبَّه بالرسول الكريم إبراهيم وبخاتم الرسل محمد (ص) وتمسَّكَ وعمل مثله بكل أخلاق إسلامه
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ مِمَّن يَتَّخِذون بيت الله الحرام في أرضه رمزاً يكون مَجْمَعَاً ومَرْجِعَاً ومَلْجَأ للناس جميعا.. ومِمَّن يتّخذون الرسل قُدْوة يفعلون مثلهم ويسيرون علي خُطاهم وهُداهم.. فهذا هو أصل وحدة الناس وتَقَارُبهم وتلاقِيهم وتعاونهم.. وهذا هو أصل أمنهم وراحتهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم
هذا، ومعني "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين جعلنا البيت الحرام، الكعبة المشرفة، مثابة للناس أيْ مَرْجِعَاً يرجعون إليه ويَتَرَدَّدون عليه بين الحين والحين من كلّ مكانٍ في عمرةٍ أو حجّ، وجعلناه أمْنَاً لهم أيْ مكاناً آمِنَاً مِن أيِّ اعتداءٍ يأمَن فيه كلّ مَن دخله علي نفسه وماله وأهله بينما خارجه قد يُعْتَدَيَ عليه، فهم يجتمعون فيه ويَأوون ويَلْجَأون إليه يَتَحاوَرون بينهم في مناخٍ رَبَّانّيٍ أخويٍّ وُدِّيٍّ آمِنٍ فيما يُقَوِّيهم ويُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الدنيا والآخرة.. وفي هذا تذكرة لهم بهذه النّعَم العظيمة ليشكروه عليها بأن يُحسنوا استخدامها في كل خيرٍ وسعادة لهم في الداريْن وليزدادوا تعظيما لهذا المكان المقدس الذي هو رمز لوحدتهم وقوّتهم وعِزَّته.. ".. وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.." أيْ وقلنا لهم اجعلوا من البيت الحرام قِبْلَة تَتَّجِهون إليه في صلاتكم حيث كله هو المكان الذي قام فيه إبراهيم وصَلّيَ ودَعَا، وتَذَكّروا دائما مقامه أيْ تَصَرّفه وحاله فيه – وكذلك أحوال رسولنا الكريم محمد (ص) – وكيفية تطبيقاته العملية لأخلاق الإسلام واتّخِذوا منه مُصَلّيَ أيْ قِبْلة تَتّجِهون إليه بأنظاركم وعقولكم تتعلمون منه كل خيرٍ أيْ اتّخِذوه قُدْوة أيْ تَشَبَّهوا به في طاعته لربه وأخلاقه في كل شئون حياتكم لتسعدوا في الداريْن.. ".. وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)" أيْ وأوحينا إلي إبراهيم وابنه اسماعيل ووَصّيْناهما أن يقوما بتنظيف وصيانة بيتي من كل ما لا يليق به من أقذارٍ سواء أكانت معنوية كالشرور والمَفاسد والأضرار أم حِسِّيَّة كالقاذورات ونحوها ليكون مُهَيَّئاً علي أكمل وجهٍ لكل مَن أراد أن يطوف به ويعتكف فيه أيْ يُقيم لذِكْرٍ أو دعاءٍ أو علمٍ أو نفعٍ مَا وللرّكّع السجود أيْ للمُصَلّين فيه.. هذا، وقد أضاف سبحانه البيت إليه لمزيدٍ من تكريمه وتشريفه وتعظيمه وحبه والاهتمام به من المسلمين لكوْنه بيت الله خالقهم ورازقهم وراعيهم الكريم الرحيم.. وهكذا يجب أن يكون التعامُل مع كل مساجد الله تعالي في الأرض في كل مكانٍ وزمان
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآية الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كنتَ دائم الدعاء لربك دائم السؤال منه دائم التواصُل معه بالذكر والاستغفار وتَدَبُّر خَلْقه دائم استشعار قُرْبِه منك تطلب منه ما تشاء من رعايةٍ وأمنٍ وحب وعوْن وتوفيق وسداد ورزق فهو خالق كل شيء ومالكه والقادر عليه.. إنك إنْ فعلتَ ذلك فقد أحسنتَ وسَعِدْتَ حيث تَشَبَّهْتَ برسلنا الكرام كما دعا الرسول الكريم إبراهيم (ص) في هذه الآية الكريمة بدعواتٍ طيبةٍ مُسْعِدَةٍ سيكون خيراً لك وسعادة إنْ دعوتَ مثلها وطلبتها من ربك إضافة لما تطلبه منه مِمَّا شئتَ لكلّ شئون حياتك.. فاطلب منه سبحانه الأمن والطمأنينة والاستقرار والسلام لك ولمَن حولك وللناس وللخَلْق جميعا وللكوْن كله، ليسعد الجميع بذلك
هذا، ومعني "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين دعا إبراهيم قائلاً ربِّ اجعل هذا المكان الذي نُقيم فيه حول بيتك المُحَرَّم بلداً آمِنَاً يأمَن كل مَن فيه ومَن يدخله علي نفسه وماله وأهله من الخوف والاعتداء والظلم وغيره من الشرور والمَفاسد والأضرار.. ".. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.." أيْ كما أسألك يا ربّ أن ترزق أهله أي تُعطيهم من كل أنواع الأرزاق المختلفة والثمرات والخيرات التي يحتاجونها وتَنفعهم وتُسعدهم واخْتَصّ يا ربّ بهذا الرزق الوفير المُفيد المُسْعِد مَن آمَنَ منهم أيْ صَدَّقَ بالله واليوم الآخر فأحْسَنَ في دنياه بأنْ عَمِلَ بأخلاق إسلامه.. ".. قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)" أيْ قال الله تعالي ومَن كفر منهم – أي كَذّب بوجودي وبرسلي وكتبي وآخرتي وحسابي وعقابي وجنتي وناري وفَعَلَ الشرور والمَفاسد والأضرار لأنه لا حساب من وجهة نظره – فسأرزقه أيضا في الدنيا فهو مِن خَلْقِي ولا أحرمه رزقي لكفره بل له الحقّ في الحياة، فله متاعٌ قليل فيها حيث يتركه بموته وانتهاء أجله وهي مهما طالَت بمتعها المختلفة فهي لا تُذْكَر بالنسبة لخلود الآخرة ومتاعها الذي لا يُتَخَيَّل ولا يُقارَن ولا نهاية له.. وحتي ما هو فيه مِن متاع مُتنوِّع من أموال ومناصب وغيرها فهو لا بركة فيه أي لا يستمتع به استمتاعا كاملا بسبب خوفٍ أو صراع أو غيره، وقد يفقده بعضه أو كله فوريا أو تدريجيا بمرضٍ أو سرقة أو موت أو غيره، فهو إذن قليل دنيء زائل يوما ما، بل مِن كثرة شروره هو غالبا أو دائما في قلقٍ وتوتّر واضطراب وكآبة وصراع مع الآخرين بل وأحيانا في اقتتال معهم، وبالجملة هو في تعاسة دنيوية تامّة، وحتي ما يُحقّقه من بعض سعادة فهي وَهْمِيَّة لا حقيقية ظاهرية لا داخلية سطحية لا مُتَعَمّقة مُتقطّعة لا دائمة ثم كثيرا ما يتبعها الأضرار والكآبات والتعاسات المتنوِّعة الجزئية أو الكلية بسبب شروره إضافة إلي ضيقه عند تَذَكّره الموت والذي لا يدْري ما سوف يَحدث له بعده، وكل ذلك يُثبته الواقع العمليّ كثيرا.. "ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)" أيْ ثم في آخرته سأضطره أي سأجْبره وسأسُوقه بغير إرادته وهو ذليل مُنْقَاد مُسْتَسْلِم إلي عذاب النار الخالد الذي لا يُوصَف ولا يُمكن تَخَيّله، وما أسوأ هذا المَرْجِع والمستقبل والمصير الذي يصير إليه وهو النار يُعاقَب فيها علي قَدْر شروره ومَفاسده وأضراره، إضافة حتما إلي بعض عذابٍ دنيويٍّ بصورةٍ من الصور بما يناسب أفعاله كالقلق أو التوتّر أو الضيق أو الاضطراب أو الصراع أو حتي الاقتتال مع الآخرين وبالجملة ما فيه ألم وكآبة وتعاسة
ومعني "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)" أيْ وكذلك اذْكُر وذَكِّر مَن حولك يا كلّ عاقلٍ لكي تَتَّعِظوا وتُحسنوا التعامُل مع حياتكم الدنيا، اذكر حين كان يُقيم إبراهيم وابنه إسماعيل الأُسُس من البيت الحرام بمكة وهما يدعواننا ربنا اقْبَل وارْضَ مِنّا أعمالنا الصالحة وأعطنا أعظم الخير والسعادة عليها في دنيانا وأخرانا فأنت السميع الذي يسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه، فأنت تسمع وتعلم حالنا وصِدْقنا وحبّنا وحِرْصنا علي تنفيذ أوامرك ووصاياك التي تُسعد الجميع فأَعِنَّا وأْجُرْنَا
ومعني "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)" أيْ وكذلك اجعلنا ووَفّقنا ويَسِّر لنا يا ربنا أن نكون مُسْتَسْلِمَيْن لوَصَاياك وتشريعاتك أيْ مُتَمَسِّكَيْن عامِلَيْن بكل أخلاق الإسلام ثابتيْن دائميْن عليها واجعل أيضا أبناءنا وأحفادنا ونَسْلنا أمّة مُسْتَسْلِمَة لك ليسعد الجميع بذلك في الدنيا حتي نهايتها ثم في الآخرة الخالدة.. هذا، ومن معاني الإسلام لله كذلك الإخلاص له سبحانه فلا يُقال قولاً ولا يُفْعَل فِعْلاً طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراه الناس فيقولوا عنه كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس لفاعله حيث يُوقِعه في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحه حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل العقل، بل من أجله وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة.. هذا، ومع الإخلاص يكون الإحسان أيْ يُحْسِن ويُتْقِن المسلم كلّ قولٍ يقوله وكلّ عملٍ يعمله (برجاء مراجعة الآية (125)، (126) من سورة النساء، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن).. ".. وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا.." أيْ وعَرِّفْنا وعَلّمْنا وبَيِّن لنا عباداتنا أيْ طاعاتنا أيْ تشريعات ديننا الإسلام التي نُطيعك بها والتي منها مَنَاسِك الحجّ.. ".. وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)" أيْ واغفر للعُصاة مِنّا ذنوبهم وتجاوَز عنها وسامِحهم فلا تُعاقِبهم عليها وأَزِلْ عنهم آثارها المُتْعِسَة في الداريْن إنك أنت الكثير العظيم التوبة على مَن تاب إليك ورجع إلى طاعتك باتِّباع أخلاق الإسلام أيْ قام بالاستغفار باللسان علي ما فَعَله مِن شرور وبالندم بداخل العقل وبالعَزْم بداخله علي عدم العودة للشرّ وبِرَدِّ الحقوق لأهلها إنْ كان الشرّ مُتعَلّقا بالآخرين.. وأنت أيضا الرحيم أيْ الكثير الواسِع الرحمة بالعالمين والذي رحمتك وَسِعَت كلّ شيء وهي أوسع مِن أيّ ذنب ودائما تسبق غضبك (برجاء مراجعة الآية (119) من سورة النحل، للشرح والتفصيل عن كيف يَسعد المسلم كثيرا إذا كان دائم التوبة مِن أيّ ذنب)
ومعني "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)" أيْ ونسألك يا ربنا أن تُرْسِل فى هذه الذّرِّية والناس حولهم رسولا أيْ مَبْعُوثَاً يكون منهم يعرفونه فيثقون فيه ويصدقونه يقرأ عليهم ويُبَلّغهم آياتك سواء أكانت آياتٍ في الكوْن حولهم يُوَجِّههم لتَدَبُّرها أم آياتٍ في كتبٍ تُتْلَيَ عليهم فيها أخلاقيَّات وتشريعات تُنَظّم حياتهم علي أكمل وأسعد وجهٍ أم مُعجزاتٍ علي يدِه لتأكيد صِدْقه، ويُعَلّمهم الكتاب الذي تُوحِيه إليه بأنْ يُبَيِّن لهم معانيه وأخلاقياته وكيفية تطبيقها في حياتهم ليسعدوا بها، ويعلمهم كذلك الحكمة وهي الإصابة في الأمور كلها والعلم النافع المصحوب بالعمل علي أرض الواقع وهي تشمل سُنَّته أيْ طريقته في كلّ أقواله وتصرّفاته والتي هي أفضل وأكمل تَرْجَمَة عمليّة في الحياة لهذه الآيات التي في كتابك، لأنها حتماً الحِكَم المُسْعِدَة تمام السعادة لكلّ مَن يعمل بها في دنياه وأخراه.. ".. وَيُزَكِّيهِمْ.." أيْ ويُطَهِّرهم من كل سوءٍ ككفرٍ أو شركٍ أو ظلمٍ أو فسادٍ أو غيره من الشرور بأنْ يُرَبِّيهم علي العمل بكل أخلاق الإسلام فتَرْقَيَ وتَسْمُو مشاعرهم فيسعدون، والتزكية هي التّرْقِيَة والنّمُوّ والسُّمُوّ في الأفكار والأخلاقيّات والمعاملات.. ".. إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)" أي فأنت يا ربنا الغالِب القاهر الذي لا يُغْلَب ولا يُقْهَر ويُعِزّ أهل الخير بعِزَّته ويُكرمهم ويَرفعهم ويَنصرهم ويَقهر ويُذلّ أهل الشرّ ويُهينهم ويَخفِضهم ويَهزمهم، وأنت في كلّ أمورك الحكيم الذي يتصرّف بكل حِكمة ودِقّة والذي يَضع كل أمر في موضعه دون أيّ عَبَث
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
بعض الأخلاقيَّات التي تُستَفاد من هذه الآيات الكريمة
إنك ستَسعد في حياتك كثيرا ، وستَسعد في آخرتك أكثر بعظيم ثواب الله وأعلي درجات جناته إذا كنتَ مُسْتَصْحِبَا دائما نوايا خيرٍ بعقلك في كل قولٍ وعمل.. وإذا كان الله تعالي، ورسوله الكريم (ص)، وقرآنه المُبين أي المُبَيِّن المُوَضِّح لكل شيء المُسْعِد في الداريْن، وإسلامه الحنيف أي البعيد عن أي باطل، هو دائما مَرْجِعك في كل مواقف ولحظات حياتك، لأنَّ فيه البَيَان كله أي التوضيح لقواعد وأصول كل شيء، والشفاء كله من كل سوءٍ بالعقل مع قوة الإرادة العقلية كلها، والهُدَيَ كله، والتذكرة كلها، والمَوَاعِظ كلها، والصدق كله، والحقّ كله، والعدل كله، والخير كله، والحكمة كلها، والمَكَانَة كلها، والأمن كله في الأرض كلها، وبالجملة ستجد السعادة كلها في دنياك وأخراك (برجاء مراجعة الآيات (65) حتي (70) من سورة النساء، لمزيد من الشرح والتفصيل).. وإذا كنتَ مِمَّن يُوصُون غيرهم بالتمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام والتي اختارها خالِق الخَلْق لخَلْقه لتُصلحهم وتُكملهم وتُسعدهم في كل لحظات حياتهم – ثم في آخرتهم – لأنها تنظم لهم كل شئونها علي أكمل وأسعد وجه لأنه سبحانه العالِم بصَنْعَتِه وما يُصلحها.. وإذا كنتَ مِمَّن يَدْعُون غيرهم لذلك بالحكمة والموعظة الحسنة من أزواجهم وذِرِّيَّاتهم وأقربائهم وجيرانهم وأصدقائهم وزملائهم وعموم الناس الأقرب فالأبعد في كل مكانٍ وزمانٍ مُمْكِنٍ مُناسب.. وإذا كنتَ مِمَّن يُحسنون حَمْل الأمانات والأداء لها لأهلها وأهمها وأعلاها حمل أمانة دين الإسلام للعالَمين قَدْر الاستطاعة ليكون رحمة وسعادة لهم ليسعدوا به كما سَعِدتَ أنت ولتَنْتَشِلهم من شَرِّهم والذي قد يُصيبك بعض ضرره وتعاساته إذا هم ظلّوا عليه.. فتَسعد بذلك في الداريْن.. وإذا كنتَ مِمَّن يتذكَّرون دائما الآخرة ويُوقِنون أنه لن يَنفع أحدٌ أحداً حين الحساب الخِتامِيّ لِمَا فعلتَ حيث تُجَازَيَ عليه بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرّاً وتعاسة، فهذا سيَدْفَع كلّ عاقلٍ لفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام علي الدوام
هذا، ومعني "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)" أيْ ولا أحد يَرْغَبُ عنْ أيْ يَكْرَه – أمّا يرغب في أيْ يحبّ – دين إبراهيم وهو الإسلام ويبتعد عنه ويُعطيه ظهره ويَلتفت وينصرف ويتركه ويهمله ويَتّجِه إلي أنظمةٍ أخري مُخَالِفَةٍ له مُضِرَّةٍ مُتْعِسَةٍ ويَفعل الشرور والمَفاسد والأضرار إلا الذي سَفّهَ ذاته أيْ جَعَلَ نفسه سَفِيهاً أيْ ضعيف العقل مُعَطّلاً له لا يُمَيِّز بين النافعِ والضَّارّ مُمْتَهِنَاً لذاته مُضَيِّعَاً مُتْعِسَاً لها بتَرْكِه لأخلاق الإسلام أو نفوره عنها كلها أو بعضها إذ بذلك سيفقد اختيار الله له وتخصيصه إيّاه وأمثاله بالخير والعوْن والتوفيق والسداد والحب والرضا والرعاية والأمن والرزق والقوة والنصر والسعادة في الدنيا ثم بعظيم الثواب وأعلي الجِنان في الآخرة.. ".. وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)" أيْ ولقد اخترنا إبراهيم في الدنيا لمَكَانَةٍ عظيمةٍ وهي أن يكون رسولا أيْ مَبْعُوثَاً مِنّا للناس يُرْشِدهم لكل ما يُصلحهم ويُكملهم ويُسعدهم في الداريْن وأعطيناه أجره فيها من كلَّ خيرٍ وسعادةٍ وما يتمنّاه أيّ إنسان في حياته من الرزق الوفير والمسكن الفسيح المُرِيح والزوجة الصالحة الحسنة والذّرِّيَّة الصالحة البارَّة النافعة والذِكْر الحَسَن فكل مَن يَذْكُره يحبه وبالجملة أعطيناه تمام السعادة فيها، ثم في الآخرة بالقطع سيكون من الصالحين أيْ مِن الذين يُعطيهم الله أعلي درجات الجنات حيث ما لا عين رَأَت ولا أذن سمعت ولا خَطَر علي عقل بَشَر.. وبالتالي فمَن يَرْغَبُ عن مِلّة مَن كان هذا شأنه فإنَّ سَفَهَه لا يُوصَف!.. إنَّ هذا العطاء الوفير المُسْعِد في الداريْن من ربٍّ كريمٍ سيكون حتما نصيب كل مسلم يجتهد في أن يتشبَّه برسله الكرام في إيمانهم بربهم وتمسّكهم وعملهم بكل أخلاق إسلامهم ودعوتهم لغيرهم له وصبرهم علي أذاهم
ومعني "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)" أيْ وإنما اخترناه لذلك لأنه حين قال له ربّه – أي مُرَبِّيه وخالقه ورازقه وراعِيه ومُرْشِده لكلّ ما يُصلحه ويُكمله ويُسعده في دنياه وأخراه من خلال دينه الإسلام – أسْلِم أيْ اسْتَسْلِم لوَصَايَاي وتشريعاتي أيْ تَمَسَّك واعْمَل بكلّ أخلاق الإسلام في كل شئون حياتك واثبت دائما عليها سَارَعَ بالاستجابة بلا أيِّ تَرَدُّد قائلاً استسلمتُ لربّ جميع الخَلْق.. هذا، وكلّ مسلمٍ يُسارِع هكذا لكل خيرٍ فإنه حتما سيَنال من ربه الكريم الرحيم كل خيرٍ وسعادةٍ في الدنيا والآخرة
ومعني "وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132)" أيْ هذا بيانٌ للحِرْص والحبّ الشديد للرسول الكريم إبراهيم (ص) علي توصيل أمانة الإسلام لمَن حوله بَدْءَاً بالأقرب ثم الأبْعَد ودعوتهم إليه بكل قُدْوةٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ ليسعد الجميع في الداريْن.. أيْ لم يَكْتَفِ (ص) بأنه سَارَعَ بأنْ أسْلَمَ لربّ العالمين بل أيضا وَصَّيَ بها أيْ بهذه المِلّة، مِلّة أيْ دين الإسلام، بَنِيه أيْ أبناءه، بأنْ يَتّبِعوها ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، وكذلك حفيده الرسول الكريم يعقوب، إبن اسحق إبن إبراهم، أبو يوسف، وَصَّيَ بها هو أيضا بَنِيه، يا أبنائي لقد اختار الله لكم الدين أيْ النظام، الأعظم والأفضل، الذي يُصلحكم ويُكملكم ويُسعدكم تمام السعادة في دنياكم وأخراكم رحمة بكم وبالعالمين وحبا فيهم وإحسانا إليهم، فلا تُفارقوه طوال حياتكم إلي نظامٍ آخرٍ مُخَالِفٍ له يَضرّكم ويُتعسكم فيها ولا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه.. والتوصية هي طَلَب الإنسان من غيره القيام بأمرٍ هامٍّ يحب أن يُنَفّذه لتحقيق المنافع
ومعني "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)" أيْ هذا رَدٌّ من الله تعالي يُخْرِس ألْسِنَة ويَفضح المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين الذين لا يُسْلِمون مُدَّعِين كذباً وزُورَاً أنهم مُتمسّكون عاملون بمِلّة إبراهيم الذي قد أَوْصَيَ هو ومِن بعده يعقوب باليهودية وبالنصرانية فهم لذلك مُتَّبِعُون لهما!!.. أيْ هل كنتم يا هؤلاء حاضرين حين حَضَر يعقوب الموت حين جَمَعَ أبناءه قائلا لهم ما تعبدون مِن بعدي فعرفتم أنه قد أوْصاهم بهذا الكذب الذي تَدَّعُون؟!.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. لقد كان يُؤَكّد عليهم على عبادة الله تعالي وحده والثبات علي ذلك طوال حياتهم، لقد وَصَّاهم بالإسلام لا بغيره، فقالوا مُطَمْئِنِين له مُثْبِتِين أنهم ثابتون عليه نعبد أيْ نُطِيع إلاهك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل) الذي هو الله تعالي والذي هو إله آبائك قبلك إبراهيم وولده إسماعيل وإسحق والذي هو إله واحد لا شريك له في عبادته ونحن له مسلمون أيْ مُسْتَسْلِمون لوَصَياه أيْ مُتَمَسّكون عامِلون بكل ما يُوصينا به من أخلاق إسلامنا التي أوْصانا بها في كل شئون حياتنا لنسعد بذلك فيها ثم في آخرتنا
ومعني "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)" أيْ ثم لماذا تُجَادِلون أيها المُكَذّبون في شأنهم كل هذا الجدل؟! فتلك أمة قد مَضَت وذَهَبَت وانتهت وهي لها جزاء ما عَمِلَت من خيرٍ أو شرٍّ في حياتها يوم القيامة وأنتم لكم جزاء ما عملتم ولا تُسْأَلون عن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم كذلك لا يُسألون عن أعمالكم فأنتم لا تُؤَاخَذون بسيئاتهم كما أنكم لا تُثابون بحسناتهم وليس لكم أن تَدَّعُوا أنَّ عملهم عملكم، فلن يَنفع أحدٌ أحداً حين يُجَازَيَ علي ما يقول ويفعل في الداريْن بالخير خيراً وسعادة وبالشرّ شرّاً وتعاسة بكل عدلٍ دون أيّ ذرّة ظلم، فلا يَعتمد أحدٌ علي انتسابه لآباء كانوا صالحين أو حتي رسل! فاتركوا بالتالي الجدال وأقبلوا على ما ينفعكم ويسعدكم في دنياكم وأخراكم وهو الإسلام، وليُحْسِن إذَن كلّ عاقلٍ الاستعداد لآخرته بفِعْل كل خيرٍ وتَرْك كلّ شرٍّ من خلال التمسّك والعمل بكل أخلاق الإسلام علي الدوام حتي يسعد في دنياه وأخراه
ومعني "وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)" أيْ هذا رَدٌّ علي بعض أكاذيب اليهود والنصاري والتي يُحاولون بها خِداع الناس وإبعادهم عن اتّباع الإسلام حيث يَدَّعِي كلّ فريقٍ منهم أنَّ دينه هو الدين الأمثل وأنَّ علي الآخرين أنْ يَتّبعوه.. أيْ وقال اليهود للمسلمين ولمَن حولهم كونوا يهوداً وادخلوا في دين اليهودية تهتدوا أيْ تجدوا الهداية أيْ الإرشاد لطريق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وقالت النصارى لهم مِثْل ذلك، فقُل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم ليس الهُدَيَ في أنْ نَتّبع هذين الدينَيْن لأنَّ كليهما قد حَرَّفَه المُكَذّبون وأخرجوه عن أصوله الصحيحة وخَلَطوه بالخُرافات – وحتي إنْ لم يُحَرَّفَا فإنَّ الإسلام الذي فيهما كان مناسبا لعصرهما أمّا الإسلام الذي أتَيَ به خاتم الكتب وهو القرآن العظيم فيناسب كل العصور من وقت نزوله إلي يوم القيامة – بل الهداية أن نتّبِعَ جميعا نحن وأنتم مِلّة أيْ دين إبراهيم الذي كان حنيفا أيْ مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الدين الحقّ وهو الإسلام والذي ما كان أبداً من المشركين بالله تعالى أيْ من الذين يعبدون أيْ يُطيعون معه إلاهاً غيره كصنمٍ أو حَجَرٍ أو نجمٍ أو نحوه
ومعني "قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)" أيْ اعْمَلُوا أيها المسلمون بخُلُقٍ هامٍّ من أخلاق الإسلام وهو خُلُقِ الإنصاف والعدل بحيث أنه عندما يُحاوِركم أمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ويَذكرون لكم ما يُوافِق الإسلام فاقبلوه وما ينحرف عنه فارفضوه، وقولوا لهم وذَكّروهم علي سبيل الدعوة والإرشاد لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن أنكم تؤمنون أيْ تُصَدِّقون بالله وحده خالِق الخَلْق كله وبكل ما أُنْزِلَ إليكم في القرآن العظيم وبكل ما في الكتب السماوية التي أُنْزِلَت قبله مِمَّا لم يُصِبْه تحريف أو تخريف لأنها كلها أصلها واحد وهو الإسلام وكلها مصدرها واحد وهو الخالق الواحد مثل ما أُوحِيَ إلى الرسل الكرام إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهم الأحفاد ليعقوب – جمع سِبْط وهو الحَفِيد، والسِّبْط أيضا بمعني القبيلة حيث انْتَشَرُوا وتَتَابَعُوا في صورة قبائل – والتوراة غير المُحَرَّفة التي آتاها أيْ أعطاها الله موسى (ص) بوَحْيِها إليه والإنجيل غير المُحَرَّف الذي آتاه عيسي (ص)، وما أُعْطِيَ جميع الرسل من ربهم، لا تُفَرِّقون بين أحدٍ منهم فتُكَذّبون ببعضهم وتُصَدِّقون بالبعض الآخر كما يفعلون هم حيث كَذّبوا بالرسول الكريم محمد (ص) والقرآن الذي أُوحِيَ إليه والذي يَشمل كل ما في الكتب السابقة مِن أخلاقيَّاتٍ ويَستكمل ما يُناسب البشرية ويُكملها ويُصلحها ويُسعدها حتي يوم القيامة، وأنكم له مسلمون أيْ مُسْتَسْلِمُون لربكم ولنظام الإسلام والذي هو من عنده، لأنَّ ذلك هو مصدر سعادتكم، ولقد كان من المُفْتَرَض أن يكونوا هم أيضا كذلك فيؤمنوا بالله وبرسوله (ص) وبالقرآن لأنهم أهل كتابٍ أيْ يعلمون بوجود الله ويعلمون الرسل والكتب السماوية ولا يُشركون مع الله آلهة أخري فيَعبدون مثلا حَجَراً أو صَنَمَاً أو نِجْمَاً أو غيره، وحتي ما يقوله البعض عن أنَّ المسيح ابن الله أو حتي هو الله يُمكِن تصحيحه لأصحاب العقول المُنْصفة العادِلَة! وقد عادَ بالفعل كثيرون منهم عن ذلك بالمناقشة بالتي هي أحسن وأسْلَموا كما يُثبت الواقع ذلك كثيرا، فلماذا إذَن لا يُؤمن كثير منهم بالرسول محمد (ص) وهو الذي قد نَبَّأَت به كُتُبهم وبالقرآن وبالإسلام ليَسعدوا تمام السعادة في دنياهم وأخراهم؟! وعلي ماذا الخلاف إذَن؟!! ولكنه تعطيل العقول بسبب الأغشية التي وضعوها عليها وهي الحرص الشديد الدائم علي ثمنٍ ما مِن أثمان الدنيا رخيصٍ دنيءٍ زائلٍ يوما ما كمنصبٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره.. إنهم إنْ يَستفيقوا ويعودوا لربهم ولإسلامهم، للحقّ وللخير وللسعادة، سيَسعدوا تمام السعادة في الداريْن، وإن استمرّوا علي ماهم فيه تعِسوا تمام التعاسة فيهما
ومعني "فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)" أيْ فإن آمَنَ أيْ صَدَّقَ أمثال هؤلاء وغيرهم من المُكَذّبين المُعانِدين المُستكبرين المُستهزئين المُرَاوِغِين بمِثْل ما صَدَّقتم به أيها المسلمون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يُفَرِّقوا بين أحدٍ منهم فقد وَجَدوا الهداية أيْ الإرشاد لطريق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.. ".. وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ.." أيْ وأمّا إنْ أعْرَضوا أيْ أعطوا ظهورهم والتَفَتوا وانصرفوا وابتعدوا عن هذا الإيمان وتركوه وأهملوه بصورةٍ فيها تكذيب وعِناد واستكبار واستهزاء بل وقاوموا نَشْره وآذوا مَن يَتّبعه، فاعلم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم أنهم في شقاقٍ مستمرٍّ أيْ كانوا في شِقٍّ أيْ جانبٍ والله ورسوله في شِقٍّ مُقَابِل أيْ خالَفوهما وعانَدوهما وتكبَّروا عليهما وآذوهما وعادوهما وحاربوهما والإسلام والمسلمين والحقّ والعدل والخير.. كذلك من المعاني أنهم في شقاقٍ أيْ خلافٍ شديدٍ فيما بينهم بما يُضْعِفهم حيث كلٌّ يَدَّعِي أنه هو الذي علي الصواب وغيره علي الخطأ.. ".. فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)" أيْ فإذا كان الأمر كذلك وكانوا هم هكذا فسَيَقِيكَ الله شَرَّهم قطعاً يا رسولنا الكريم، ويا كلّ مسلمٍ ما دُمْتَ متمسّكا عامِلاً بأخلاق إسلامك وينصرك عليهم – إلا ما قد تُخْتَبَر به أحيانا من بعض أذاهم لتَستزيد جَلَدَاً وقوة وصبراً وخبرة ولك أجرك العظيم علي ذلك سواء استجابوا أم لا – لأنه هو السميع العليم أيْ السميع الذي يَسمع بتمام السمع والإدراك كلّ شيءٍ عن أيّ شيءٍ العليم الذي عِلْمُه مُحِيط بكلّ شيءٍ عليم به تمام العلم بعلمٍ ليس بعده علم أكثر منه فلا تَخْفَيَ عليه أيّ خافِيَة مِن خَلْقه وكَوْنه.. فهو السميع لِمَا يقولونه من سوءٍ العليم بما يُدَبِّرونه من مَكائد، والسميع لأقوالكم ودعائكم العليم بأحوالكم واحتياجاتكم (برجاء أيضا مراجعة الآية (36) من سورة الزمر "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.."، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل).. وفي هذا طمْأَنَة للمسلمين أنَّ ربهم الكريم القويّ العزيز حتما ناصرهم ومُكْرمهم ومُعِزّهم علي مَن آذاهم في الدنيا والآخرة، كما أنه تحذيرٌ شديدٌ للمُعتدين علي الله ورسله وإسلامه والمسلمين لعلهم يستيقظون ويعودون لربهم وإسلامهم ليسعدوا في الداريْن وإلا تعسوا فيهما
ومعني "صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)" أيْ الْزَمُوا واتّبِعُوا يا هؤلاء ويا كل الناس صبغة الله أيْ مِلّة الله أيْ دينه وهو الإسلام الذي في فطرتكم التي هي مسلمة أصلا والتي فطركم عليها بداخل عقولكم (برجاء مراجعة معني الفطرة في الآية (172) من سورة الأعراف، للشرح والتفصيل)، وقد سُمِّيَ الدين صبغة لأنَّ آثاره الحسنة الطيّبة المُسْعِدَة تَظهر علي المُتَدَيِّن أيْ المتمسّك العامِل بأخلاق دينه كما تظهر آثار الصبغة أيْ اللون في الثوب المَصبوغ حيث أخلاقه تُصْلِح وتُكْمِل وتُسْعِد سعادة تامّة في الدنيا والآخرة كل مَن يعمل بها كلها، فالدين يختلط بالعقل والمشاعر كالصبغة الثابتة التي لا تزول فهو ليس كالطلاء السطحيّ الذي يسهل إزالته، فالمُصْطَبِغِين بصبغة الله أيْ بالإسلام يحيون ويتحركون به في كل أوقاتهم مُصاحِبَاً ومُلاصِقَاً لهم كأنهم قد صُبِغَت جلودهم وامتزجت عقولهم وأجسادهم به، فيَسعدون بذلك، بدوام مُصاحَبَتهم لخالقهم رازقهم وراعِيهم ومُعِينهم ومُقَوّيهم ومُؤَمِّنهم ومُوَفّقهم وناصرهم ومُسعدهم في الداريْن.. ".. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً.." أيْ ومَن صِبْغته أحسن مِن صِبْغَة الله تعالى؟! والاستفهام للنفي، فإنه لا أحدَ أبداً أحسن من الله صِبْغَة لأنه هو الذى يَصْبِغ الناس بكل خيرٍ ويُطَهِّرهم من أيِّ شرٍّ من خلال صَبْغِهم بالإسلام، ولا صِبْغَة أحسن من صِبْغة الله، فليس هناك أفضل من فطرة الله ودينه حتما، لأنه يُنَظّم كل شئون الحياة صغيرها وكبيرها علي أكمل وأسعد وجه، لأنه من عند الخالق الكريم العليم الحكيم الخبير المُنَزَّه عن الأخطاء والأهواء الذي يَعلم خَلْقه الذين هم صَنْعَته وما يُصْلِحهم ويُكملهم ويُسعدهم، فتسعد بذلك كل لحظات حياتهم سعادة تامّة دون أيّ تعاسة، ثم آخرتهم.. ".. وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)" أيْ فالْزَمُوا إذَن هذه الصِّبْغَة وقولوا للجميع حولكم بالقول وبالعمل بكل قُدْوةٍ وحِكْمةٍ وموعظةٍ حَسَنَةٍ نحن لله وحده لا لغيره مُطِيعون من خلال اتّباع كل أخلاق الإسلام
ومعني "قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)" أيْ قل يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم لأمثال هؤلاء الذين سَبَقَ ذِكْرهم ومَن يَتَشَبَّه بهم هل تُجادلوننا في دين الله، في الإسلام، بغير حقّ بل بكلّ كذبٍ وبغير أيّ حجَّةٍ أو دليلٍ عقليّ أو مَنْطِقِيّ أو غيره؟! كأنْ تُجادلونا مثلا في وجود الله سبحانه أو أنه ليس واحدا بل آلهة مُتَعَدِّدة أو في صِدْق رسله وكتبه وحُدُوث البَعْث بالأجساد والأرواح بعد الموت يوم القيامة والحساب والعقاب والجنة والنار أو عدم صلاحية الإسلام لإصلاح وإكمال وإسعاد البشريّة تمام السعادة في دنياها حتي يوم القيامة أو ما شابه هذا من أنواع الجدال الذي تريدون به التشويش علي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم لتظلّوا تَستعبدوهم وتَخدعوهم وتَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. والاستفهام والسؤال هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ.." أيْ وكيف تجادلوننا والله تعالي هو ربنا وربكم وربّ الخَلْق جميعا وهو واحد سبحانه ولا ربّ غيره كما يَدَّعِي البعض منكم وغيركم أيْ هو خالِقنا ومُرَبِّينا وراعِينا ورازقنا ومُرْشدنا لكلّ خيرٍ وسعادة حيث هو العالِم تمام العلم بنا وبما يُصلحنا ويُكملنا ويُسعدنا في دنيانا وأخرانا من خلال ما وَصَّانا به من الإسلام، فلماذا إذَن لا تُسلمون مثلنا فنكون جميعا مُتَّحِدين في عبادته تعالي أيْ طاعته كما أننا متحدون في أننا جميعا مخلوقاته وجميعا مُنتظرين أرزاقه ومعوناته وإرشاداته؟! (برجاء أيضا مراجعة الآية (64) من سورة آل عمران "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"، لمزيدٍ من الشرح والتفصيل)، فإنْ أسلمتم سَعِدتم في الداريْن مثلنا وإلا تَعِستم فيهما، فالله وحده هو المُستَحِقّ للعبادة بلا أيّ شريك (برجاء مراجعة معاني العبادة في الآية (21) من سورة البقرة، للشرح والتفصيل).. فمِن العقل والمَنْطِق إذَن ألاّ تجادلونا حيث لا مجال للجدال أصلا وأن تكونوا مسلمين مثلنا لا أن نكون نحن غير مسلمين مثلكم!!.. ".. ولَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.." أيْ وكما أننا جميعا نتساوَىَ فى أنَّ الله ربنا وربكم فكذلك نتساوى فى استحقاق الجزاء على الأعمال التى نعملها، وهو تعالي لا يُحابِي أحداً علي حساب أحدٍ فلا قُرْب منه ولا بُعْد إلا بالعمل الصالح لا بالأنساب ولا بغيرها، وكلّ فرد سيتحمَّل نتيجة عمله من خيرٍ أو شرٍّ في الداريْن لا يتحمّله عنه أحدٌ غيره، فانْتَبِهوا واحْذَروا لذلك فهو الشاهد علينا وعليكم وسيُحاسبنا ويُحاسبكم.. ".. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)" أيْ وقولوا لهم وذَكّروهم علي سبيل الدعوة والإرشاد لعلهم يَستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن أنكم مُخْلِصون لله أيْ مسلمون لا تُشركون معه في العبادة غيره كما يفعل بعضهم، وكذلك مُخْلِصون مُحْسِنون في عبادتكم أيْ تَفعلون ما تَفعلون مِن خيرٍ وتَقولون ما تقولون منه مِن أجله تعالي وحده لا من أجل غيره أيْ طَلَبَاً لِحُبِّه ورضاه ورعايته وأمنه وعوْنه وتوفيقه ونصره وقُوَّته ورزقه وإسعاده في الدنيا ثم أعلي درجات جناته في الآخرة، وليس طَلَبَاً لِسُمْعَةٍ أو لِجَاهٍ أو ليَراكم الناس فيقولوا عنكم كذا وكذا من المَدْح المُضِرّ المُتْعِس لكم حيث يُوقِعكم في الغرور والتكَبُّر ولمَن يَمدحكم حيث قد يُوقِعه في الكذب أو النفاق، أو لِمَا شابه هذا من أغراضٍ وأهدافٍ ونوايا بداخل عقولكم (برجاء لمزيدٍ من الشرح والتفصيل عن معاني الإخلاص والإحسان وفوائدهما وسعاداتهما في الداريْن، النظر لتفسير الآية (125)، (126) من سورة النساء).. وفي هذا تشجيعٌ لأمثالهم ولغيرهم على أن يكونوا مثلكم تلتقون جميعا علي الإسلام والإخلاص ليسعد الجميع في دنياه وأخراه.. هذا، وفي الآية الكريمة إرشادٌ لكل مسلم أن يكون مِمَّن يَتحاوَرون ولا يَتجادَلون، فإذا تمسّك وعمل بخُلُق الحوار دائما مع مَن حوله، وهو خُلُق أصيل من أخلاق الإسلام، انتفع بخير مَن يحاوره واستفاد بخبرات كثيرة في أوقات قليلة وأفاده هو بما عنده فيَنتشر الخير وتُتَبادَل المنافع ويَصِل الجميع للحقّ ولِمَا هو أنسب وأنفع في كل موقف، فيسعدون، بينما مَن يترك الحوار إلي الجدال يَتْعَس ويُتْعِس الآخرين في الداريْن لأنه لا يريد الوصول للحقّ والعدل والخير وإنما الانتصار لذاته وإضعاف الآخر وإنْ عَلِمَ أين الصواب أخفاه ولم يتّبِعْه عِناداً واستكبارا
ومعني "أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)" أيْ أىّ الأمريْن السَّيِّئَيْن تفعلون؟! هل تُحَاجُّونَنا في الله – كما في الآية السابقة – أم تقولون وتَدَّعون كذباً وزُورَاً أنَّ الرسل الكرام المذكورين في هذه الآية الكريمة كإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط – جمع سِبْط وهو الحَفِيد، والسِّبْط أيضا بمعني القبيلة حيث انْتَشَرُوا وتَتَابَعُوا في صورة قبائل – كانوا يَهُودِيِّين أو نَصرانِيِّين رغم أنهم كلهم قد بُعِثوا إلي أقوامهم وماتوا قبل نزول التوراة والإنجيل أصلا؟! إذَن فقولكم كاذبٌ سَفِيهٌ حتما!! لقد كانوا جميعا علي دين الإسلام.. واليهودية والنصرانية كانت هي أيضا الإسلام بما يُناسب عَصْرَيْهِما قبل التحريف والتخريف الذي أدخلتموه عليهما.. إنَّ ما تقولونه هو نوعٌ من أنواع الجدال الذي تريدون به التشويش علي الناس ومنع انتشار الإسلام بينهم لتظلّوا تَستعبدوهم وتَخدعوهم وتَنهبوا جهودهم وثرواتهم وخيراتهم لأنّ الإسلام هو الذي يَدْفعهم لأخذ حقوقهم.. ".. قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ.." أيْ قل لهم يا رسولنا الكريم ويا كل مسلم هل أنتم أعلم بدين هؤلاء الذين تَذْكُرونهم أم الله تعالى؟! إنها إجابة واحدة حتما أنه هو سبحانه الأعلم وقد أخبر في القرآن الكريم بأنهم كانوا مسلمين! إذَن فما تَدَّعُونه هو كذب وزور وسَفَه ولا يستند إلي أيِّ عقلٍ سليم أو منطق!.. والاستفهام والسؤال في الآية الكريمة هو للذّمّ ولِلّوْم الشديد وللرفض التامّ وللتّعَجُّب من الحال السَّيِّء لمَن كان كذلك ولإيقاظه ليعود لربه ولأخلاق إسلامه ليَسعد في الداريْن.. ".. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ.." أيْ ولا أحد أشدّ ظلما وأعظم عقوبة مِن الذي أخْفَيَ أيَّ حقيقةٍ ثابتةٍ عنده، هي وَصَلَته وبَلَغَته من الله وعنه ويعلم صِدْقها، في القرآن العظيم أو فيما قبله من الكتب، كما يفعل بعض اليهود والنصاري ومَن يَتَشَبَّه بهم حيث يَكتمون ما هو حقّ ثابت عندهم في كتبهم بل ويُحَرِّفونه مثل أنَّ هؤلاء الرسل كانوا مسلمين ولم يكونوا كما يَدَّعون كذباً وزُورَاً هوداً أو نصارَيَ علي اليهودية أو النصرانية التي حَرَّفوهما.. ".. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)" أيْ وهو تعالي لا يَغْفَل أبداً أيْ لا يَنْشَغِل ولا يَنْسَيَ ولا يَفُوته ولو للحظة أفعال وأقوال البَشَر فهو يعلمها تمام العلم لأنه معهم أينما كانوا بعلمه وبقُدْرته وسيُحاسبهم عليها بما يُناسب في دنياهم وأخراهم بالخير خيراً وسعادة وبالشرِّ شرَّاً وتعاسة بكل عدل دون أيّ ذرّة ظلم.. وفي هذا تهديدٌ وتحذيرٌ شديدٌ للمُكَذّبين وللمُخَالِفِين ومَن يَتَشَبَّه بهم لعلهم يستفيقون ويعودون لربهم ولإسلامهم ليسعدوا في الداريْن قبل فوات الأوان وحُدُوث العذاب.. هذا، والآية الكريمة تُرْشِد كلّ مسلمٍ أن يكون مِمَّن يقولون الحقّ دائما ويشهدون به ولا يكتمونه مطلقاً أو يَدَّعُون شيئاً زُورَاً أو يُخْفون عِلْمَاً نافعاً بغير سببٍ نافعٍ أو يَكتمون حقّاً مَا أو يخلطونه بباطلٍ للتلبيس وإيقاع الضرَر أو ما شابه ذلك من الظلم الذي يُتعس في الدنيا ويستحِقّ عقاب الله في الآخرة
ومعني "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)" (برجاء مراجعة الآية (134) من هذه السورة الكريمة، للشرح والتفصيل).. هذا، واستخدام ذات الألفاظ كما في الآية السابقة هو لمزيدٍ من التأكيد علي المعاني التي فيها والتنبيه لها والتذكير بها وتثبيتها وعدم نسيانها